aloqili.com
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

aloqili.com

سيرة نبوية - تاريخ القبائل - انساب العقلييين - انساب الهاشمين - انساب المزورين
 
السياسة الدوليةالرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 كتاب : تاريخ الرسل والملوك المؤلف : الطبري

اذهب الى الأسفل 
2 مشترك
انتقل الى الصفحة : الصفحة السابقة  1, 2, 3, 4, 5, 6, 7  الصفحة التالية
كاتب الموضوعرسالة
الشيخ عودة
الشيخ عودة
الشيخ عودة



عدد المساهمات : 1748
تاريخ التسجيل : 28/09/2008
العمر : 73

كتاب : تاريخ الرسل والملوك المؤلف : الطبري - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: كتاب : تاريخ الرسل والملوك المؤلف : الطبري   كتاب : تاريخ الرسل والملوك المؤلف : الطبري - صفحة 2 Emptyالسبت ديسمبر 14, 2013 10:19 am

فخرجوا حتى قدموا مكة، فلما اجمعوا لذلك من الأمر قام عبد المطلب يدعو الله، ثم قربوا عبد الله وعشراً من الإبل - وعبد المطلب في جوف الكعبة عند هبل يدعو الله - فخرج القدح على عبد اللله، فزادوا عشراً، فكانت الإبل عشرين، وقام عبد المطلب في مكانه ذلك يدعو الله، ثم ضربوا فخرج السهم على عبد الله، فزادوا عشراً من الإبل، فكانت ثلاثين، ثم لم يزالوا يضربون بالقداح ويخرج القدح على عبد الله، فكلما خرج عليه زادوا من الإبل عشراً؛ حتى ضربوا عشر مرات، وبلغت الإبل مائة، وعبد المطلب قائم يدعو، ثم ضربوا فخرج القدح على الإبل، فقالت قريش ومن حضر: قد انتهى رضى ربك يا عبد المطلب. فزعموا أن عبد المطلب قال: لا والله حتى أضرب عليه ثلاث مرات. فضربوا على الإبل وعلى عبد الله، وقام عبد المطلب يدعو فخرج القدح على الإبل، ثم عادوا الثانية وعبد المطلب قائم يدعو، ثم عادوا الثالثة فضربوا، فخرج القدح على الإبل فنحرت، ثم تركت لا يصد عنها إنسان ولا سبع.
ثم انصرف عبد المطلب آخذاً بيد ابنه عبد الله، فمر - فيما يزعمون - على امرأة من بنى أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر؛ يقال لها أم قتال بنت نوفل بن أسد بن عبد العزى، وهي أخت ورقة بن نوفل بن أسد، وهي عند الكعبة، فقالت له حين نظرت إليه إلى وجهه: أين تذهب يا عبد الله ؟ قال: مع أبي، قالت: لك عندي مثل الإبل التي نحرت عنك، وقع على الآن، قال: إن معي أبي ولا أستطيع خلافة ولا فراقه.
فخرج به عبد المطلب حتى أتى به وهب بن عبد مناف بن زهرة - ووهب يومئذ سيد بني زهرة سناً وشرفاً - فزوجه آمنة بنت وهب، وهي يومئذ أفضل امرأة في قريش نسباً وموضعاً، وهي لبرة بنت عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار بن قصي، ويرة لأم حبيب بنت أسد ابن عبد العزى بن قصي، وأم حبيب بنت أسد لبرة بنت عوف بن عبيد بن عويج بن عدي بن كعب بن لؤي. فزعموا أنه دخل عليها حين ملكها مكانه فوقع عليها، فحملت بمحمد صلى الله عليه وسلم. ثم خرج من عندها، حتى أتى المرأة التي عرضت عليهما عرضت، فقال لها: مالك لا تعرضين علي اليوم ما كنت عرضت علي بالأمس ؟ فقالت له: فارقك النور الذي كان معك بالأمس، فليس لي بك اليوم حاجة.
وقد كنت تسمع من أخيها ورقة ابن نوفل، وكان قد تنصر واتبع الكتب، حتى أدرك، فكان فيما طلب من ذلك أنه كائن لهذه الأمة نبي من بني إسماعيل.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق؛ عن أبيه إسحاق بن يسار؛ أنه حدث أن عبد الله إنما دخل على امرأة كانت له مع آمنة بنت وهب بن هبد مناف بن زهرة، وقد عمل في طين له، وبه آثار من الطين، فدعاها إلى نفسه، فأبطأت عليه لما رأت به من آثار الطين، فخرج من عندها، فتوضأ وغسل عنه ما كان به من ذلك، وعمد إلى آمنة فدخل عليها فأصابها، فحملت بمحمد صلى الله عليه وسلم، ثم مر بإمرأته تلك، فقال: هل لك ؟ فقالت: لا، مررنت بي وبين عينيك غرة، فدعوتني فأبيت، ودخلت على آمنة فذهبت بها. فزعموا أن امراته تلك كانت تحدث أنه مر بها وبين عينيه مثل غرة الفرس، قالت: فدعوته رجاء أن يكون بي، فأبى علي، ودخل على آمنة بنت وهب فأصابها؛ فحملت برسول الله صلى الله عليه وسلم.
حدثني علي بن حرب الموصلي، قال: حدثنا محمد بن عمارة القرشي، قال : حدثنا الزنجي بن خالد، عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس، قال : لما خرج عبد المطلب بعبد الله ليزوجه، مر به على كاهنة من خثعم، يقال: لها فاطمة بنت مر، متهودة من أهل تبالة، قد قرأت الكتب، فرأت في وجهه نوراً، فقالت له: يافتى، هل لك لك أن تقع على الآن وأعطيك مائة من الإبل ؟ فقال:
أما الحرام فالممات دونه ... والحل لا حل فأستبينه
فكيف بالأمر الذي تبغينه
ثم قال: أنا مع أبي ولا أقدر أن أفارقه، فمضى به، فزوجه آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة، فأقام عنجها ثلاثاً ثم انصرف. فمر بالخثعمية فدعته نفسه إلى ما دعته إليه، فقال لها: هل لك فيما كنت أردت ؟ فقالت: يافتى، إنى والله ما أنا بصاحبة ريبة، ولكنى رأيت في وزجهك نوراً فأردت أن يكون في، وأبى وزالله إلا أن يجعله حيث أراد، فما صنعت بعدى ؟ قال: زوجني أبي آمنة بنت وهب، فأقمت عندها ثلاثاً؛ فأنشأت فاطمة بنت مر تقول:

إني رأيت مخيلةً لمعت ... فتلألأت بحناتم اقطر
فلمأتها نوراً يضيء له ... ما حوله كإضاءة البدر
فرجوتها فخراً أبوء به ... ما كل قادح زنده يوري
لله ما زهريةٌ سلبت ... ثوبيك ما استلبت وما تدري!؟
وقالت أيضاً:
بني هاشمٍ قد غادرت من أخيكم ... أمينة إذ للباه تعتركان
كما غادر المصباح عند خموده ... فتائل قد ميثت له بدهان
ومل كل ما يحوي الفتى من تلاده ... لعزمٍ ولا ما فاته لتوان
فأجمل إذا طالبت أمراً فإنه ... سيكفيكه جدان يعتلجان
سيكفيكه إما يدٌ مقفعلةٌ ... وإما يدٌ مبسوطةٌ ببنان
ولما حوت منه أمينة ما حوت ... حوت منه فخراً ما لذلك ثان
حدثني الحارث بن محمد، قال: حدثنا محمد بن سعد، قال: حدثنا محمد بن عمر قال: حدثنا معمر وغيره، عن الزهري، أن عبد الله بن عبد المطلب كان أجمل رجال قريش، فذكر لآمنة بنت وهب جماله وهيئته، وقيل لها: هل لك أن تزوجيه فتزوجته آمنة بنت وهب، فدخل بها، وعلقت برسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعثه أبوه إلى المدينة في ميرة يحمل لهم تمراً، فمات بالمدينة، فبعث عبد المطلب ابنه الحارث في طلبه حين أبطأ، فوجده قد مات.
قال الواقدي: هذا غلط، والمجتمع عليه عندنا في نكاح عبد الله بن عبد المطلب ما حدثنا به عبد الله بن جعفر الزهري، عن أمر بكر بنت المسور، أن عبد المطلب جاء بابنه عبد الله، فخطب على نفسه وعلى ابنه، فتزوجا في مجلس واحد، فتزوج عبد المطلب هالة بنت أهيب بن عبد مناف بن زهرة، وتزوج عبد الله ابن عبد المطلب آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة.
قال الحارث: قال ابن سعد: قال الواقدي: والثبت عندنا، ليس بين أصحابنا فيه اختلاف، أن عبد الله بن عبد المطلب أقبل من الشأم في عير لقريش، فنزل بالمدينة وهو مريض، فأقام بها حتى توفي، ودفن في دار النابغة - وقيل التابعة - في الدار الصغرى إذا دخلت الدار عن يسارك، ليس بين أصحابنا في هذا اختلاف.
؟
ابن عبد المطلب
وعبد المطلب اسمه شيبة، سمي بذلك؛ لأنه فيما حدثت عن هشام بن محمد، عن أبيه: كان في رأسه شيبة.

وقيل له عبد المطلب: وذلك أن أباه هاشماً كان شخص في تجارة له إلى الشأم، فسلك طريق المدينة إليها، فلما قدم المدينة نزل - فيما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق. وفيما حدثت عن هشام ابن محمد عن أبيه. وفيما حدثني الحارث، عن محمد بن سعد، عن محمد بن عمر، ودخل حديث بعضهم في بعض، وبعضهم يزيد على بعض - على عمرو بن زيد بن لبيد الخزرجي، فرأى ابنته سلمى بنت عمرو - وأما ابن حميد فقال في حديثه عن سلمة، عن ابن إسحاق: سلمى بنت زيد بن عمرو - ابن لبيد بن حرام بن خداش بن جندب بن عدي بن النجار فأعجبته، فخطبها إلى أبيها عمرو، فأنكحه إياها، وشرط عليه ألا تلد ولداً إلا في أهلها، ثم مضى هاشم لوجهته قبل أن يبني بها، ثم انصرف راجعاً من الشأم، فبنى بها في أهلها بيثرب، فحملت منه. ثم ارتحل إلى مكة وحملها معه، فلما أثقلت ردها إلى أهلها، ومضى إلى الشأم فمات بها بغزة، فولدت له سلمى عبد المطلب، فمكث بيثرب سبع سنين أو ثماني سنين. ثم إن رجلاً من بني الحارث بن عبد مناة مر بيثرب، فإذا غلمان ينتضلون، فجعل شيبة إذا خسق قال: أنا ابن هاشم، أنا ابن سيد البطحاء، فقال له الحارثي: من أنت ؟ قال: أنا شيبة بن هاشم بن عبد مناف. فلما أتى الحارثي مكة، قال للمطلب وهو جالس في الحجر: يا أبا الحارث، تعلم أني وجدت غلماناً ينتضلون بيثرب، وفيهم غلام إذا خسق قال: أنا ابن هاشم، أنا ابن سيد البطحاء. فقال المطلب: والله لا أرجع إلى أهلي حتى آتي به، فقال له الحارثي: هذه ناقتي بالفناء فاركبها، فجلس المطلب عليها، فورد يثرب عشاء، حتى أتى بني عدي بن النجار، فإذا غلمان يضربون كرة بين ظهري المجلس، فعرف ابن أخيه فقال للقوم: أهذا ابن هاشم ؟ قالوا: نعم، هذا ابن أخيك، فإن كنت تريد أخذه فالساعة قبل أن تعلم به أمه فإنها إن علمت لم تدعه، وحلنا بينك وبينه. فدعاه فقال: يابن أخي، أنا عمك، وقد أردت الذهاب بك إلى قومك - وأناخ راحلته - فما كذب أن جلس على عجز الناقة، فانطلق به، ولم تعلم به أمه حتى كان الليل، فقامت تدعو بحربها على ابنها، فأخبرت أن عمه ذهب به، وقدم به المطلب ضحوة، والناس في مجالسهم، فجعلوا يقولون: من هذا وراءك ؟ فيقول: عبد لي، حتى أدخله منزله على امرأته خديجة بنت سعيد بن سهم، فقالت: من هذا ؟ قال: عبد لي، ثم خرج المطلب حتى أتى الحزورة، فاشترى حلة فألبسها شيبة، ثم خرج به حين كان العشي إلى مجلس بني عبد مناف، فجعل بعد ذلك يطوف في سكك مكة في تلك الحلة، فيقال: هذا عبد المطلب، لقوله: " هذا عبدي " حين سأله قومه، فقال المطلب:
عرفت شيبة والنجار قد جعلت ... أبناؤها حوله بالنبل تنتضل
وقد حدثني هذا الحديث على بن حرب الموصلي، قال: حدثنيأبو معن عيسى - من ولد كعب بن مالك - عن محمد بن أبي بكر الأنصاري، عن مشايخ ألأنصار، قالوا: تزوج هاشم بن عبد مناف امرأةً من بني عدي بن النجار، ذات شرف، تشرط على من خطبها المقام بدار قومها، فتزوجت بهاشم، فولدت له شيبة الحمد، فربي في أخواله مكرماً، فبينا هو يناضل فتيان الأنصار إذ أصاب خصله، فقال: أنا ابن هاشم. وسمعه رجل مجتاز، فلما قدم مكة، قال لعمه المطلب بن عبد مناف: قد مررت بدار بنى قيلة، فرأيت فتىً من صفته ومن صفته ... يناضل فتيانهم، فاعتزى إلى أخيك، وما ينبغي ترك مثله في الغربة. فرحل المطلب حتى ورد المدينة، فأراده على الرحلة، فقال: ذاك إلى الوالدة، فلم يزل بها حتى أذنت له، وأقبل به قد أردفه، فإذا لقيه اللاقي وقال: من هذا يا يا مطلب ؟ قال: عبد لي، فسمي عبد المطلب. فلما قدم مكة وقفه على ملك أبيه، وسلمه إليه، فعرض له نوفل بن عبد مناف في ركح له، فاغتصبه إياه، فمشى عبد المطلب إلى رجالات قومه، فسألهم النصرة على عمه، فقالوا: لسنا بداخلين بينك وبين عمك، فلما رأى ذلك كتب إلى أخواله يصف لهم حال نوفل، وكتب في كتابه:
أبلغ بنى النجار إن جئتهم ... أني منهم وابنهم والخميس
رأيتهم قوماً إذا جئتهم ... هووا لقائي وأحبوا حسيس
فإن عمي نوفلاً قد أبى ... إلا التي يغضي عليها الخسيس

قال: فخرجأبو أسعد بن عدس النجاري في ثمانين راكباً، حتى أتى الأبطح، وبلغ عبد المطلب، فخرج يتلقاه، فقال: المنزل يا خال ! فقال: أما حتى ألقى نوفلاً فلا. قال: تركته جالساً في الحجر في مشايخ قريش، فأقبل حتى وقف على رأسه، ثم استل سيفه، ثم قال: ورب هذه البنية؛ لتردن على ابن أختنا ركحه أو لأملأن منك السيف، قال: فإنى ورب هذه البنية أرد ركحه. فأشهد عليه من حضر، ثم قال: المنزل يا بن أختى، فأقام عنده ثلاثاً واعتمر، وأنشأ عبد المطلب يقول:
تأبى مازنٌ وبنو عديٍ ... ودينار بن تيم اللات ضيمي
وسادة مالك حتى تناهى ... ونكب بعد نوفل عن حريمي
بهم رد الإله علي ركحي ... وكانوا في التنسب دون قومي
وقال في ذلك سمرة بن عمير،أبو عمرو الكناني:
لعمري لأخوالٌ لشيبة قصرةً ... من أعمامه دنيا أبر وأوصل
أجابوا على بعدٍ دعاء ابن أختهم ... ولم يثنهم إذ جاوز الحق نوفل
جزى الله خيراً عصبةً خزرجيةً ... تواصوا على برٍ، وذو البر أفضل
قال: فلما رأى ذلك نوفل، حالف بنى عبد شمس كلها على بني هاشم. قال محمد بن أبي بكر: فحدثت بهذا الحديث موسى بن عيسى، فقال: يا بن أبي بكر، هذا شيء ترويه الأنصار تقرباً إلينا؛ إذ صير الله الدولة فينا ! عبد المطلب كان أعز في قومه من أن يحتاج إلى أن تركب بنو النجار من المدينة إليه .قالت: أصلح الله الأمير ! قد احتاج إلى نصرهم من كان خيراً من عبد المطلب. قال: وكان متكئاً فجلس مغضباً، وقال: من خير من عبد المطلب ! قلت: محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: صدقت، وعاد إلى مكانه، وقال لبنيه: اكتبوا هذا الحديث من ابن أبي بكر.
وقد حدثت هذا الحديث في أمر عبد المطلب وعمه نوفل بن عبد مناف، عن هشام بن محمد، عن أبيه، قال: حدثنا زياد بن علاقة التغلبي - وكان قد أدرك الجاهليه - قال: كان سبب بدء الحلف الذي كان بين بنى هاشم وخزاعة الذي افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم بسببه مكة، وقال: لتنصب هذه السحابة بنصر بني كعب؛ أن نوفل بن عبد مناف - وكان آخر من بقي من بني عبد مناف - ظلم عبد االمطلب بن هاشم بن عبد مناف على أركاح له - وهي الساحات - وكانت أم عبد المطلب سلمى بنت عمرو النجارية من الخزرج، قال: فتنصف عبد المطلب عمه، فلم ينصفه، فكتب إلى أخواله:
يا طول ليلى لأحزاني وأشغالي ... هل من رسولٍ إلى النجار أخوالي !
ينبي عدياً وديناراً ومازنها ... ومالكاً عصمة الجيران عن حالي
قد كنت فيكم ولا أخشى ظلامة ذي ... ظلمٍ عزيزاً منيعاً ناعم البال
حتى ارتحلت إلى قومي وأزعجني ... عن ذاك مطلبٌ عمي بترحال
وكنت ما كان حياُ ناعماً جذلاً ... أمشي العرضنة سحاباً لأذيالي
فغاب مطلبٌ في قعر مظلمةٍ ... وقام نوفل كي يعدو على مالي
أأن أرى رجلاً غابت عمومته ... وغاب أخواله عنه بلا وال
أنحى عليه ولم يحفظ له رحماً ... ما أمنع المرء بين العم والخال !
فاستنفروا وامنعوا ضيم ابن أختكم ... لا تخذلوه وما أنتم بخذال
ما مثلكم في بني قحطان قاطبةً ... حيٌ لجارٍ وإنعام وإفضال
أنتم ليانٌ لمن لانت عريكته ... سلمٌ لكم وسمام الأبلخ الغالي
قال: فقدم عليه منهم ثمانون راكباً، فأناخوا بفناء الكعبة، فلما رآهم نوفل بن عبد مناف، قال لهم: أنعموا صباحاً ! فقالوا له: لا نعم صباحك أيها الرجل ! أنصف ابن أختنا من ظلامته. قال: أفعل بالحب لكم والكرامة؛ فرد عليه الأركاح وأنصفه.
قال: فانصرفوا عنه إلى بلادهم. قال: فدعا ذلك عبد المطلب إلى الحلف، فدعا عبد المطلب بسر بن عمروٍ وورقاء بن فلان ورجلاً من رجالات خزاعة، فدخلوا الكعبة وكتبوا كتاباً.

وكان إلى عبد المطلب بعد مهلك عمه المطلب بن عبد مناف ما كان إلى من قبله من بني عبد مناف من أمر السقاية والرفادة، وشرف في قومه، وعظم فيهم خطره، فلم يكن يعدل به منهم أحد، وهوالذي كشف عن زمزم، بئر إسماعيل بن إبراهيم، واستخرج ما كان فيها مدفوناً؛ وذلك غزالان من ذهب، كانت جرهم دفنتهما - فيما ذكر - حين أخرجت من مكة، وأسيافٌ قلعية، وأدراع، فجعل الأسياف باباً للكعبة، وضرب في الباب الغزالين صفائح من ذهب، فكان أول ذهب حليته - فيما قيل - الكعبة. وكانت كنية عبد المطلب أبا الحارث، كني بذلك لأن الأكبر من ولده الذكور كان اسمه الحارث، وهو شيبة.
ابن هاشمواسم هاشم عمرو؛ وإنما قيل له هاشم، لأنه أول من هشم الثريد لقومه بمكه وأطعمه، وله يقول مطرود بن كعب الخزاعي - وقال ابن الكلني: إنما قاله ابن الزبعري:
عمرو الذي هشم الثريد لقومه ... ورجال مكة مسنتون عجاف
ذكر أن قومه من قريش، كانت أصابتهم لزبة وقحط، فرحل إلى فلسطين، فاشترى منها الدقيق، فقدم به مكة، فأمر به فخبز له ونحر جزوراً، ثم اتخذ لقومه مرقة ثريد بذلك الخبز.
وذكر أن هاشماً هو أول من سن الرحلتين لقريش: رحلة الشتاء والصيف.
وحدثت عن هشام بن محمد، عن ابيه، قال: كان هاشم، وعبد شمس - وهو أكبر ولد عبد مناف، والمطلب - وكان أصغرهم - أمهم عاتكة بنت مرة السلمية؛ ونوفل - وأمه واقدة - بني عبد مناف، فسادوا بعد أبيهم جميعاً، وكان يقال لهم المجبرون، قال: ولهم يقال:
يأيها الرجل المحول رحله ... ألا نزلت بآل عبد مناف !
فكانوا أول من أخذ لقريش العصم، فانتشروا من الحرم، أخذ لهم هاشم حبلاً من ملوك الشأم الروم وغسان، وأخذ لهم عبد شمس حبلا من النجاشي الأكبر، فاختلفوا بذلك السبب إلى أرض الحبشة، وأخذ لهم نوفل حبلاً من ألأكاسرة، فاختلفوا بذلك السبب إلى العراق وأرض فارس، وأخذ لهم المطلب حبلاً من ملوك حمير، فاختلفوا بذلك السبب إلى اليمن، فجبر الله بهم قريشاً، فسموا المجبرين.
وقيل: إن عبد شمس وهاشماً توأمان، وأن أحدهما ولد قبل صاحبه، وإصبع له ملتصقة بجبهة صاحبه، فنحيت عنها فسال من ذلك دم، فتطير من ذلك، فقيل: تكون بينهما دماء. وولي هاشم بعد أبيه عبد مناف السقاية والرفادة.
حدثني الحارث، قال: حدثنا محمد بن سعد، قال: أخبرنا هشام ابن محمد، قال: حدثني معروف بن الخربوذ المكي، قال: حدثني رجل من آل عدي بن الخيار بن عدي بن نوفل بن عبد مناف عن أبيه، قال: وقال وهب بن عبد قصي في ذلك - يعنى في إطعام هاشم قومه الثريد:
تحمل هاشمٌ ما ضاق عنه ... وأعيا أن يقوم به ابن بيض
أتاهم بالغرائز متأقاتٍ ... من أرض الشأم بالبر النفيض
فأوسع أهل مكة من هشيمٍ ... وشاب الخبز باللحم الغريض
فظل القوم بين مكللاتٍ ... من الشيزى وحائرها يفيض
قال :فحسده أمية بن عبد شمس بن عبد مناف - وكان ذا مال - فتكلف أن يصنع صنيع هاشم، فعجز عنه، فشمت به ناس من قريش فغضب، ونال من هاشم، ودعاه إلى المنافرة، فكره هاشم ذلك لسنه وقدره، ولم تدعه قريش وأحفظوه، قال: فإني أنافرك على خمسين ناقة سود الحدق، تنحرها ببطن مكة، والجلاء عن مكة عشر سنين. فرضي بذلك أمية، وجعلا بينهما الكاهن الخزاعي، فنفر هاشماً عليه، فأخذ هاشم الإبل فنحرها وأطعمها من حضره، وخرج أمية إلى الشام، فأقام بها عشر سنين، فكانت هذه أول عداوة وقعت بين هاشم وأمية.

حدثني الحارث قال: حدثنا محمد بن سعد، قال: أخبرنا هشام ابن محمد، قال: أخبرني رجل من بني كنانة، يقال له ابن أبي صالح، ورجل من أهل الرقة مولى بني أسد، وكان عالماً، قالا: تنافر عبد المطلب ابن هاشم وحرب بن أمية إلى النجاشي الحبشي، فأبى أن ينفر بينهما، فجعل بينهما نفيل بن عبد العزى بن رياح بن عبد الله بن قرط بن رزاح بن عدي ابن كعب، فقال لحرب: يا أبا عمرو، أتنافر رجلاً هو أطول منك قامة، وأعظم منك هامة، وأوسم منك وسامة، وأقل منك لامة، وأكثر منك ولداً، وأجزل منك صفداً، وأطول منك مذوداً !. فنفره عليه. فقال حرب: إن من انتكاث الزمان أن جعلناك حكماً ! فكان أول من مات من ولد عبد مناف ابنه هاشم، مات بغزة من أرض الشأم، ثم مات عبد شمس بمكة فقبر بأجياد، ثم مات نوفل بسلمان من طريق العراق، ثم مات المطلب بردمان من أرض اليمن، وكانت الرفادة والسقاية بعد هاشم إلى أخيه المطلب.
ابن عبد منافواسمه المغيرة - وكان يقال له القمر من جماله وحسنه، وكان قصي يقول - فيما زعموا - : ولد لي أربعة، فسميت اثنين بصنمي، وواحداً بداري، وواحداً بنفسي؛ وهم عبد مناف وعبد العزى ابنا قصي - وعبد العزى والد أسد - وعبد الدار بن قصي، وعبد قصي بن قصي - درج ولده - وبرة بنت قصي؛ أمهم جميعاً حبَّى بنت حليل بن حبشية بن سلول بن كعب بن عمرو بن خزاعة.
وحدثت عن هشام بن محمد، عن أبيه، قال: وكان يقال لعبد مناف القمر، واسمه المغيرة، وكانت أمه حبَّى دفعته إلى مناف - وكان أعظم أصنام مكة - تديناً بذلك، فغلب عليه عبد مناف، وهو كما قيل له:
كانت قريشٌ بيضةً فتفلقت ... فالمح خالصةٌ لعبد مناف
ابن قصيوقصي اسمه زيد؛ وإنما قيل له قصي، لأن أباه كلاب بن مرة كان تزوج أم قصي فاطمة بنت سعد بن سيل - واسم سيل خير - بن حمالة بن عوف بن غنم بن عامر الجادر، بن عمرو بن جعثمة بن يشكر، من أزدشنوءة حلفاء في بني الديل، فولدت لكلاب زهرة وزيداً، فهلك كلاب وزيد صغير، وقد شب زهرة وكبر، فقدم ربيعة بن حرام بن ضنة بن عبد بن كبير ابن عذرة بن سعد بن زيد، أحد قضاعة، فتزوج - فيما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن اسحاق. وحدثت عن هشام بن محمد عن أبيه - فاطمة أم زهرة وقصي - وزهرة رجل قد بلغ، وقصي فطيم أو قريب من ذلك - فاحتملها إلى بلاده من أرض بني عذرة، من أشراف الشأم، فاحتملت معها قصياً لصغره، وتخلف زهرة في قومه، فولدت فاطمة بنت سعد بن سيل لربيعة بن حرام رزاح بن ربيعة، فكان أخاه لأمه، وكان لربيعة بن حرام ثلاثة نفر من امرأة أخرى؛ وهم حنّ بن ربيعة، ومحمود بن ربيعة، وجلهمة بن ربيعة. وشب زيد في حجر ربيعة، فسمي زيد قصياً لبعد داره عن دار قومه، ولم يبرح زهرة مكة، فبينا قصي بن كلاب بأرض قضاعة لا ينتمي - فيما يزعمون - إلا إلى ربيعة بن حرام، إذ كان بينه وبين رجل من قضاعة شيء - وقد بلغ قصي، وكان رجلاً شاباً - فأنبه القضاعي بالغربة وقال له: ألا تلحق بقومك ونسبك فإنك لست منا ! فرجع قصي إلى أمه، وقد وجد في نفسه مما قال القضاعي، فسألها عما قال له ذلك الرجل، فقالت له: أنت والله يا بني أكرم منه نفساً ووالداً، أنت ابن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة القرشي، وقومك بمكة عند البيت الحرام، وفيما حوله. فأجمع قصيٌّ الخروج إلى قومه واللحوق بهم، وكره الغربة بأرض قضاعة، فقالت له أمه: يا بني لا تعجل بالخروج حتى يدخل عليك الشهر الحرام، فتخرج في حاج العرب، فإني أخشى عليك أن يصيبك بعض البأس، فأقام قصي حتى إذا دخل الشهر الحرام، خرج حاج قضاعة، فخرج فيهم حتى قدم مكة، فلما فرغ من الحج أقام بها، وكان رجلاً جليداً نسيباً، فخطب إلى حليل بن حبشية الخزاعي ابنته حبىَّ بنت حليل ،فعرف حليل النسب ورغب فيه، فزوجه - وحليل يومئذ فيما يزعمون - يلي الكعبة وأمر مكة.

فأما ابن إسحاق، فإنه قال في خبره: فأقام قصي معه - يعين مع حليل - وولدت له ولده عبد الدار، وعبد مناف، وعبد العزى، وعبدا بني قصي. فلما انتشر ولده، وكثر ماله، وعظم شرفه هلك حليل بن حبشية، فرأى قصي أنه أولى بالكعبة وأمر مكة من خزاعة وبني بكر، وأن قريشاً فرعة إسماعيل بن إبراهيم، وصريح ولده، فكلم رجالاً من قريش وبني كنانة، ودعاهم إلى إخراج خزاعة وبني بكر من مكة، فلما قبلوا منه ما دعاهم إليه وبايعوه عليه، كتب إلى أخيه من أمه رزاح بن ربيعة بن حرام - وهو ببلاد قومه - يدعوه إلى نصرته، والقيام معه، فقام رزاح بن ربيعة في قضاعة، فدعاهم إلى نصر أخيه والخروج معه إليه، فأجابوه إلى ما دعاهم من ذلك.
وقال هشام في خبره: قدم قصي على أخيه زهرة وقومه، فلم يلبث أن ساد، وكانت خزاعة بمكة أكثر من بني النضر، فاستنجد قصي أخاه رزاحاً، وله ثلاثة إخوة من أبيه، من امرأة أخرى، فأقبل بهم وبمن أجابه من أحياء قضاعة، ومع قصيٍ قومه بنو النضر، فنفوا خزاعة، فتزوج قصي حبىَّ بنت حليل بن حبشية من خزاعة، فولدت له أولاده الأربعة، وكان حليل آخر من ولي البيت، فلما ثقل جعل ولاية البيت إلى ابنته حبىَّ، فقالت: قد علمت أني لا أقدر على فتح الباب وإغلاقه، قال: فإني أجعل الفتح والإغلاق إلى رجل يقوم لك به، فجعله إلى أبي غبشان - وهو سليم بن عمرو بن بوىّ بن ملكان بن أفصى - فاشترى قصي ولاية البيت منه بزق خمر وبعود. فلما رأت ذلك خزاعة كثروا على قصي، فاستنصر أخاه، فقاتل خزاعة، فبلغنا - والله اعلم - أن خزاعة أخذتها العدسة، حتى كادت تفنيهم ،فلما رأت ذلك جلت عن مكة، فمنهم من وهب مسكنه، ومنهم من باع، ومنهم من أسكن، فولي قصي البيت وأمر مكة والحكم بها، وجمع قبائل قريش، فأنزلهم أبطح مكة. وكان بعضهم في الشعاب ورءوس جبال مكة، فقسم منازلهم بينهم، فسمى مجمعاً، وله يقول مطرود - وقيل: إن قائله حذافة ابن غانم:
أبوكم قصىٌ كان يدعى مجمعاً ... به جمع الله القبائل من فهر
وملكه قومه عليهم.
وأما ابن إسحاق، فإنه ذكر أن رزاحاً أجاب قصياً إلى ما دعاه إليه من نصرته، وخرج إلى مكة مع إخوته الثلاثة، ومن تبعه لذلك من قضاعة في حاج العرب، وهم مجمعون لنصر قصي، والقيام معه، قال: وخزاعة تزعم أن حليل بن حبشية أوصى بذلك قصياً، وأمره به حين انتشر له من ابنته من الأولاد ما انتشر، وقال: أنت أولى بالكعبة والقيام عليها، وبأمر مكة من خزاعة، فعند ذلك طلب قصي ما طلب .
فلما اجتمع الناس بمكة وخرجوا إلى الموقف، وفرغوا من الحج ونزلوا منى، وقصي مجمع لما أجمع له، ومن تبعه من قومه من قريش وبني كنانة ومن معه من قضاعة، ولم يبق إلا أن ينفروا للصدر، وكانت صوفة تدفع بالناس من عرفة؛ وتجيزهم إذا نفروا من منى؛ إذا كان يوم النفر أتوا لرمي الجمار - ورجل من صوفة يرمي للناس، لا يرمون حتى يرمي - فكان ذوو الحاجات المعجلون يأتونه، فيقولون له: قم فارم حتى نرمي معك، فيقول: لا والله حتى تميل الشمس، فيظل ذوو الحاجات الذين يحبون التعجيل، يرمونه بالحجارة ويستعجلونه بذلك؛ ويقولن: ويلك قم فارم ! فيأبى عليهم، حتى إذا مالت الشمس قام فرمى ورمى الناس معه. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، هذا الحديث، عن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه عباد.
فإذا فرغوا من رمي الجمار، وأرادوا النفر من منىً، أخذت صوفة بناحيتي العقبة، فحبسوا الناس، وقالوا: أجيزي صوفة، فلم يجز أحد من الناس حتى ينفذوا، فإذا نفرت صوفة ومضت خلي سبيل الناس، فانطلقوا بعدهم، فلما كان ذلك العام، فعلت ذلك صوفة كما كانت تفعل، قد عرفت ذلك لها العرب، وهو دين في أنفسهم في عهد جرهم وخزاعة وولايتهم، أتاهم قصي بن كلاب بمن معه من قومه من قريش وكنانة وقضاعة عند العقبة، فقالوا: نحن أولى بهذا منكم، فناكروه فناكرهم، فقاتلوه فاقتتل الناس قتالاً شديداً، ثم انهزمت صوفة، وغلبهم قصي على ما كان بأيديهم من ذلك، وحال بينهم وبينه.

قال: وانحازت عند ذلك خزاعة وبنو بكر عن قصي بن كلاب، وعرفوا أنه سيمنعهم كما منع صوفة، وأنه سيحول بينهم وبين الكعبة وأمر مكة، فلما انحازوا عنه باداهم وأجمع لحربهم، وثبت معه؛ أخوه رزاح بن ربيعة بمن معه من قومه من قضاعة، وخرجت لهم خزاعة وبنو بكر وتهيئوا لحربهم، والتقوا فاقتتلوا قتالاً شديداً؛ حتى كثرت القتلى من الفريقين جميعاً، وفشت فيهم الجراحة. ثم إنهم تداعوا إلى الصلح، إلى أن يحكموا بينهم رجلاً من العرب فيما اختلفوا فيه، ليقضي بينهم، فحكموا يعمر بن عوف ابن كعب بن ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة، فقضي بينهم بأن قصياً أولى بالكعبة وأمر مكة من خزاعة، وأن كل دم أصابه قصي من خزاعة وبني بكر موضوع يشدخه تحت قدميه، وأن ما أصابت خزاعة وبنو بكر من قريش وبني كنانة وقضاعة ففيه الدية مؤداة، وأن يخلى بين قصي ابن كلاب وبين الكعبة ومكة؛ فسمي يعمر بن عوف يومئذ الشداخ؛ لما شدخ من الدماء ووضع منها. فولي قصي البيت وأمر مكة وجمع قومه من منازلهم إلى مكة، وتملك على قومه وأهل مكة فملكوه، فكان قصيٌّ أول ولد كعب ابن لؤي أصاب ملكاً أطاع له به قومه، فكانت إليه الحجابة والسقاية والرفادة والندوة واللواء، فحاز شرف مكة كله، وقطع مكة أرباعاً بين قومه، فأنزل كل قوم من قريش منازلهم منمكة التي أصبحوا عليها.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: ويزعم الناس أن قريشاً هابت قطع شجر الحرم في منازلهم، فقطعها قصي بيده، وأعانوه، فسمته العرب مجمعاً لما جمع من أمرها، وتيمنت بأمره، فما تنكح امرأة ولا رجل من قريش إلا في دار قصي بن كلاب، وما يتشاورون في أمر ينزل بهم إلا في داره، ولا يعقدون لواء لحرب قوم من غيرهم إلا في داره، يعقدها لهم بعض ولده، وما تدرع جارية إذا بلغت أن تدرع من قريش إلا في داره؛ يشق عليها فيها درعها ثم تدرعه، ثم ينطلق بها إلى أهلها؛ فكان أمره في قومه من قريش في حياته وبعد موته كالدين المتبع، لا يعمل بغيره تيمناً بأمره ومعرفةً بفضله وشرفه، واتخذ قصي لنفسه دار الندوة، وجعل بابها إلى مسجد الكعبة، ففيها كانت قريش تقضي أمورها.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة: حدثني محمد بن إسحاق، عن عبد الملك بن راشد، عن أبيه، قال: سمعت السائب بن خباب صاحب المقصورة يحدث أنه سمع رجلاً يحدث عمر بن الخطاب - وهو خليفة - حديث قصي بن كلاب هذا وما جمع من أمر قومه، وإخراجه خزاعة وبني بكر من مكة، وولايته البيت وأمر مكة؛ فلم يردد ذلك عليه ولم ينكره.

قال: فأقام قصي بمكة على شرفه ومنزلته في قومه لا ينازع في شيء من أمر مكة؛ إلا أنه قد أقر للعرب في شأن حجهم ما كانوا عليه؛ وذلك لأنه كان يراه ديناً في نفسه، لا ينبغي له تغييره، وكانت صوفة على ما كانت عليه، حتى انقرضت صوفة، فصار ذلك من أمرهم إلى آل صفوان بن الحارث ابن شجنة وراثةً، وكانت عدوان على ما كانت عليه، وكانت النسأة من بنى مالك بن كنانة على ما كانوا عليه، ومرة بن عوف على ما كانوا عليه، فلم يزالوا على ذلك حتى قام الإسلام، فهدم الله به ذلك كله. وابتنى قصى داراً بمكة، وهي دار الندوة، وفيها كانت قريش تقضي أمورها، فلما كبر قصي ورق عظمه - وكان عبد الدار بكره هو، كان أكبر ولده، وكان - فيما يزعمون - ضعيفاً، وكان عبد مناف قد شرف في زمان أبيه، وذهب كل مذهب وعبد العزى بن قصي وعبد بن قصي، فقال قصي لعبد الدار فيما يزعمون: أما والله لألحقنك بالقوم، وإن كانوا قد شرفوا عليك؛ لا يدخل رجل منهم الكعبة حتى تكون أنت تفتحها، ولا يعقد لقريش لواء لحربهم إلا أنت بيدك، ولا يشرب رجل بمكة ماء إلا من سقايتك، ولا يأكل أحد من أهل الموسم طعاماً إلا من طعامك، ولا تقطع قريش أمورها إلا في دارك. فأعطاه داره، دار الندوة التى لا تقضي قريش أمراً إلا فيها، وأعطاه الحجابة واللواء والندوة والسقاية والرفادة - وكانت الرفادة خرجا تخرجه قريش في كل موسم من أموالها إلى قصي بن كلاب، فيصنع به طعاماً للحاج يأكله من لم تكن له سعة ولا زاد ممن يحضر الموسم؛ وذلك أن قصياً فرضه على قريش، فقال لهم حين أمرهم به: يا معشر قريش، إنكم جيران الله وأهل بيته الحرام، وإن الحاج ضيف الله وزوار بيته، وهم أحق الضيف بالكرامة، فاجعلوا لهم شراباً وطعاماً أيام هذا الحج، حتى يصدروا عنكم. ففعلوا فكانوا يخرجون لذلك كل عام من أموالهم فيدفعونه إليه، فيصنعه طعاماً للناس أيام منى، فجرى ذلك من أمره على قومه في الجاهلية، حتى قام الإسلام، ثم جرى في الإسلام إلى يومك هذا؛ فهو الطعام الذي يصنعه السلطان كل عام بمنى حتى ينقضي الحج.
حدثنا ابن حميد، قال حدثنا سلمة، قال: حدثني من أمر قصي ابن كلاب وما قال لعبد الدار فيما دفع إليه ابن إسحاق بن يسار، عن أبيه، عن الحسن بن محمد بن علي بن أبي طالب، قال: سمعته يقول ذلك لرجل من بنى عبد الدار، يقال له نبيه بن وهب بن عامر بن عكرمة بن هاشم ابن عبد مناف بن عبد الدار. قال الحسن بن محمد: فجعل إليه قصي ما كان بيده من أمر قومه كله، وكان قصي لا يخالف ولا يرد عليه شيء صنعه.
ثم إن قصياً هلك، فأقام أمره في قومه من بعده بنوه.
ابن كلابوأم كلاب - فيما ذكر - هند بنت سرير بن ثعلبة بن الحارث بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة. وله أخوان من أبيه من غير أمه، وهما تيم ويقظة، أمهما - فيما قال هشام بن الكلبي - أسماء بنت عدي بن حارثة ابن عمرو بن عامر بن بارق.
وأما ابن إسحاق فإنه قال: أمهما هند بنت حارثة البارقية. قال: ويقال: بل يقظة لهند بنت سرير، أم كلاب.
ابن مرةوأم مرة وحشية بنت شيبان بن محارب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة، وأخواه لأبيه وأمه عدي وهصيص. وقيل إن أم هؤلاء الثلاثة مخشية. وقيل: إن أم مرة وهصيص مخشية بنت شيبان بن محارب بن فهر، وأم عدي رقاش بنت ركبة بن نائلة بن كعب بن حرب بن تيم بن سعد بن فهم بن عمرو بن قيس بن عيلان.
ابن كعبوأم كعب ماوية - فيما قال ابن إسحاق وابن الكلبي - وماوية بنت كعب ابن القين بن جسر بن شيع الله بن أسد بن وبرة بن تغلب بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة، وله أخوان من أبيه وأمه: أحدهما يقال له عامر، والآخر سامة، وهم بنو ناجية، ولهم من أبيهم أخ قد انتمى ولده إلى غطفان ولحقوا بهم، كن يقال له: عوف، أمه الباردة بنت عوف بن غنم بن عبد الله بن غطفان.
ذكر أن الباردة لما مات لؤي بنت غالب خرجت بإبنها عوف إلى قومها، فتزوجها سعد بن ذيبان بن بغيض، فتبنى عوفاً، وفيه يقول - فيما ذكر - فزارة بن ذيبان:
عرج على ابن لؤيٍ جملك ... يتركك القوم ولا منزل لك

ولكعب أخوان آخران أيضاً من أبيه من غير أمه، أحدهما خزيمة، وهو عائذة قريش، وعائذة أمه، وهي عائذة بنت الخمس بن قحافة، من خثعم، والآخر سعد. ويقال لهم بنانة، وينانة أمهم؛ فأهل البادية منهم اليوم - فيما ذكر - في بنى أسعد بن همام، في بنى شيبان بن ثعلبة؛ وأهل الحاضرة ينتمون إلى قريش.
ابن لؤيوأم لؤي - فيما قال هشام - عاتكة بنت يخلد بن النضر بن كنانة، وهي أولى العواتك اللائي ولدن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قريش، وله أخوان من أبيه وأمه، يقال لأحدهما: تيم، وهو الذي كان يقال له تيم الأدرم - والدرم نقصان في الذقن؛ قيل أنه كان ناقص اللحى - وقيس، قيل: لم يبق من قيس أخي لؤي أحد، وإن آخر من كان بقى منهم رجل هلك في زمان خالد بن عبد الله القسري، فبقى ميراثه، لا يدري من يستحقه. وقد قيل: إن أم لؤي وإخوته سلمى بنت عمرو بن ربيعة، وهو لحى بن حارثة ابن عمرو مزيقياء بن عامر ماء السماء، من خزاعة.
ابن غالبوأم غالب ليلى بنت الحارث بن تميم بن سعد بن هذيل بن مدركة. وإخوته من أبيه وأمه: الحارث، ومحارب، وأسد، وعوف، وجون؛ وذئب، وكانت محارب والحارث من قريش الظواهر، فدخلت الحارث الأبطح.
ابن فهروفهر - فيما حدثت عن هشام بن محمد أنه قال: هو جماع قريش، قال: وأمه جندلة بنت عامر بن الحارث بن مضاض الجرهمي.
وقال ابن إسحاق - فيما حدثنا ابن حميد - قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: أمه جندلة بنت الحارث بن مضاض بن عمرو الجرهمي.
وكان أبو عبيدة معمر بن المثنى يقول - فيما ذكر عنه - أمه سلمى بنت أد بن طابخة بن إلياس بن مضر.
وقيل: إن أمه جميلة بنت عدوان من بارق، من الأزد.
وكان فهر في زمانه رئيس الناس بمكة - فيما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق - و في حربهم حسان بن عبد كلال بن مثوب ذي حرث الحميري. وكان حسان - فيما أقبل - أقبل من اليمن مع حمير وقبائل من اليمن عظيمة، يريد أن ينقل أحجار الكعبة من مكة إلى اليمن، ليجعل حج الناس عنده ببلاده، فأقبل حتى نزل بنخلة، فأغار على سرح الناس، ومنع الطريق وهاب أن يدخل مكة؛ فلما رأت ذلك قريش وقبائل كنانة وخزيمة وأسد وجزام ومن كان معهم من أفناء مضر، خرجوا إليه، ورئيس الناس يومئذ فهر بن مالك ،فاقتتلوا قتالاً شديداً، فهزمت حمير، وأسر حسان بن عبد كلال ملك حمير، أسره الحارث بن فهر، وقتل في المعركة - فيمن قتل من الناس - ابن ابنه قيس بن غالب بن فهر، وكان حسان عندهم بمكة أسيراً ثلاث سنين، حتى افتدى منهم نفسه، فخرج به ، فمات بين مكة واليمن.
ابن مالكوأمه عكرشة بنت عدوان، وهو الحارث بن عمرو بن قيس بن عيلان، في قول هشام.
وأما ابن إسحاق فإنه قال: أمه عاتكة بنت عدوان بن عمرو بن قيس ابن عيلان.
وقيل: إن عكرشة لقب عاتكة بنت عدوان، واسمها عاتكة.
وقيل إن أمه هند بنت فهم بن عمرو بن قيس بن عيلان. وكان لمالك أخوان، يقال لأحدهما: يخلد، فدخلت يخلد في بنى عمرو بن الحارث ابن مالك بن كنانة، فخرجوا من جماع قريش. والآخر منهما يقال له: الصلت، لم يبق من ذريته أحد.
وقيل: سميت قريش قريشاً بقريش بن بدر بن يخلد بن الحارث بن يخلد بن النضر بن كنانة؛ وبه سميت قريش قريشاً، لأن عير بنى النضر كانت إذا قدمت قالت العرب: قد جاءت عير قريش، قالوا: وكان قريش هذا دليل بنى النضر في أسفارهم، وصاحب ميرتهم، وكان له ابن يسمى بدراً، احتفر بدراً، قالوا: فبه سميت البئر التي تدعى بدراً، بدراً.
وقال ابن الكلبي: إنما قريش جماع نسب، ليس بأب ولا أم ولا حاضن ولا حاضنة.
وقال آخرون: إنما سمي بنو النضر بن كنانة قريشاً؛ لأن النضر بن كنانة خرج يوماً على نادى قومه، فقال بعضهم لبعض: انظروا إلى النضر، كأنه جملٌ قريش.
وقيل: إنما سميت قريش قريشاً بدابة تكون في البحر تأكل دواب البحر، تدعى القرش، فشبه بنو النضر بن كنانة بها؛ لأنها أعظم دواب البحر قوة.
وقيل: إن النضر بن كنانة كان يقرش عن حاجة الناس فيسدها بماله، والتقريش - فيما زعموا - التفتيش: وكانوا بنوه يقرشون أهل الموسم عن الحاجة فيسدونها بما يبلغهم - واستشهدوا لقولهم: إن التقريش هو التفتيش، يقول الشاعر:
أيها الناطق المقرش عنا ... عند عمروٍ فهل لهن انتهاء !

وقيل: إن النضر بن كنانة كان اسمه قريشاً. وقيل: بل لم تزل بنو النضر ابن كنانة يدعون بني النضر حتى جمعهم قصي بن كلاب، فقيل لهم: قريش؛ من اجل أن التجمع هو التقرش، فقالت العرب: تقرش بنو النضر، أي تجمعوا.
وقيل: إنما قيل قريش، من أجل أنها تقرشت عن الغارات.
حدثني الحارث، قال: حدثنا محمد بن سعد، قال: حدثنا محمد بن عمر، قال: حدثني أبو بكر بن عبد الله بن أبي سبرة، عن سعيد بن محمد ابن جبير بن مطعم؛ أن عبد الملك بين مروان سأل محمد بن جبير: متى سميت قريش قريشاً ؟ قال: حين اجتمعت إلى الحرم من تفرقها، فذلك التجمع التقرش. فقال عبد الملك: ما سمعت هذا، ولكن سمعت أن قصياً كان يقال له القرشي، ولم تسم قريش قبله.
حدثني الحارث، قال: حدثنا محمد بن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثني أبو بكر بن عبد الله بن أبي سبرة، عن عبد المجيد بن سهيل بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، قال: لما نزل قصي الحرم وغلب عليه، فعل أفعالاً جميلة، فقيل له: القرشي، فهو أول من سمى به .
حدثني الحارث، قال: حدثنا محمد بن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثني أبو بكر بن أبي سبرة، عن أبي بكر بن عبيد الله بن أبي جهم، قال: النضر بن كنانة كان يسمى القرشي.
حدثني الحارث، قال: حدثنا محمد بن سعد، قال: قال محمد بن عمر: وقصي أحدث وقود النار بالمزدلفة، حيث وقف بها حتى يراها من دفع من عرفة، فلم تزل توقد تلك النار تلك الليلة في الجاهلية.
حدثني الحارث، قال: حدثنا محمد بن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: فأخبرني كثير بن عبد الله المزني، عن نافع، عن ابن عمر، قال: كانت تلك النار توقد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان. قال: محمد بن عمر: وهي توقد إلى اليوم.
ابن النضرواسم النضر قيس، وأمه برة بنت مر بن أد بن طابخة. وإخوته لأبيه وأمه نضير ومالك وملكان وعامر والحارث وعمرو وسعد وعوف وغنم ومخرمة وجرول وغزوان وحدال. وأخوهم من أبيهم عبد مناة، وأمه فكيهة - وقيل فكهة - وهي الذفراء بنت هنى بن بلى بن عمرو بن الحاف بن قضاعة. وأخو عبد مناة لأمه علي بن مسعود بن مازن بن ذئب بن عدي بن عمرو بن مازن الغساني، وكان عبد مناة بن كنانة تزوج هنداً بنت بكر بن وائل، فولدت له ولده، ثم خلف عليها أخوه لأمه علي بن مسعود، فولدت له، فحضن علي بنى أخيه، فنسبوا إليه، فقيل لبنى عبد مناة: بنو علي، وإياهم عنى الشاعر بقوله:
لله در بنى عل ... يٍ أيمٍ منهم وناكح
وكعب بن زهير بقوله:
صدموا علياً يوم بدرٍ صدمةً ... دانت عليٌ بعدها لنزار
ثم وثب مالك بن كنانة على علي بن مسعود، فقتله، فواده أسد بن خزيمة.
ابن كنانةوأم كنانة عوانة بنت سعد بن قيس بن عيلان. وقد قيل: إن أمه هند بنت عمرو بن قيس، وإخوته من أبيه أسد وأاسدة، يقال إنه أبو جذام والهون، وأمهم برة بنت مر بن أد بن طابخة، وهي أم النضر بن كنانة؛ خلف عليها بعد أبيه.
ابن خزيمةوأمه سلمى بنت سليم بن الحاف بن قضاعة، وأخوه لأبيه وأامه هذيل، وأخوهما لأمهما تغلب بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة.
وقد قيل: إن أم خزيمة وهذيل سلمى بنت أسد بن ربيعة.
ابن مدركةواسمه عمرو، وأمه خندف، وهي ليلى بنت حلوان بن عمران بن الحاف ابن قضاعة، وأمها ضرية بنت ربيعة بن نزار. قيل: بها سمى حمى ضرية، وإخوة مدركة لأبيه وأمه عامر - وهو طابخة - وعمير - وهو قمعة - ويقال: إنه أبو خزاعة.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق أنه قال: أم بنى إلياس خندف، وهي امراة من أهل اليمن، فغلبت على نسب نبيها، فقيل: بنو خندف.
قال: وكان اسم مدركة عامراً، واسم طابخة عمراً. قال: وزعموا أنهما كانا في إبل لهما يرعيانها، فاقتنصا صيداً، فقعدا عليه يطبخانة، وعدت عادية على إبلهما، فقال عامر لعمرو: أدترك الإبل أو تطبخ هذا الصيد ؟ فقال عمرو: بل أطبخ الصيد، فلحق عامر الإبل، فجاء بها، فلما راحا على أبيهما، فحدثاه بشأنهما، قال لعامر: أنت مدركة، وقال لعمرو: أنت طابخة.

وحدثت عن هشام بن محمد، قالوا: خرج إلياس في نجعة له، فنفرت إبله من أرنب، فخرج إليها عمرو فأدركها، فسمى مدركة، وأخذها عامر فطبخها فسمى طابخة، وانقمع عمير في الخباء فلم يخرج فسمى قمعة، وخرجت أمهم تمشي فقال لا: إلياس أين تخندفين ؟ فسميت خندف - والخندفة ضرب من المشي - قال: وقال قصي بن كلاب:
أمهتى خندف وإلياس أبى
قال: وقال إلياس لعمرو ابنه:
إنك قد أدركت ما طلبتا
ولعامر:
وأنت قد أنضجت ما طبختا
ولعمير: وانت قد اسأت وانقمعتا
ابن إلياسوأمه الرباب بنت حيدة بن معد، وأخوه لأبيه وأمه الناس، وهو عيلان، وسمى عيلان - فيما ذكر - لأنه كان يعاتب على جوده، فيقال له لتغلبن عليك العيلة يا عيلان، فلزمه هذا الاسم.
وقيل: بل سمى عيلان بفرس كانت له تدعى عيلان.
وقيل: سمى بذلك؛ لأنه ولد في جبل يسمى عيلان.
وقيل: سمى بذلك لأنه حضنه عبدٌ لمضر يدعى عيلان.
ابن مضروأمه سودة بنت عك، وأخوه لأبيه وأامه إياد، ولهما أخوان من أبيهما من غير أمهما، وهما ربيعة وأنمار؛ أمهما جدالة بنت وعلان بن جوشم ابن جلهمة بن عمرو، من جرهم.
وذكر بعضهم أن نزار بن معد لما حضرته الوفاة أوصى بنيه، وقسم ماله بينهم، فقال: يا بنى، هذه القبة - وهي قبة من أدم حمراء - وما أشبهها من مالى لمضر، فسمى مضر الحمراء. وهذا الخباء الأسود وما أشبهه من مالى لربيعة، فخلف خيلادهما، فسمى الفرس. وهو الخادم وما أشبهها من مالى لإياد - وكانت شمطاء - فأخذ البلق والنقد من غنمه. وهذه البدرة والمجلس لأنمار يجلس فيه، فأخذ أنمار ما أصابه. فإن أشكل عليكم في ذلك شيء واختلفتم في القسمة فعليكم بالأفعى الجرهمي. فاختلفوا في القسمة، فتوجهوا إلى الأفعى؛ فبينما هم يسيرون في مسيرهم إذ رأى مضر كلأ قد رعى، فقال: إن البعير الذي رعى هذا الكلأ لأعور، وقال ربيعة: هو أزور، قال: إياد: هو أبتر، وقال أنمار: هو شرود؛ فلم يسيروا إلا قليلاً حتى لقيهم رجل توضع به راحلته، فسألهم عن البعير، فقال مضر: هو أعور ؟ قال: نعم، قال ربيعة: هو أزور ؟ قال: نعم، قال إياد: هو أبتر ؟ قال: نعم، قال أنمار: هو شرود ؟ قال: نعم، قال: هذه صفة بعيري، دلوني عليه، فحلفوا له: ما رأوه، فلزمهم وقال: وكيف أصدقكم وأنتم تصفون بعيري بصفته ! فساروا جميعاً حتى قدموا نجران، فنزلوا بالأفعى الجرهمي، فنادى صاحب البعير: هؤلاء أصحاب بعيري، وصفوا لي صفته ثم قالوا: لم نره. فقال الجرهمي: كيف وصفتموه ولم تروه ؟ فقال مضر: رأيته يرعى جانباً ويدع جانباً فعرفت أنه أعور. وقال ربيعة: رأيت إحدى يديه ثابتة الأثر والآخرى فاسدة الأثر، فعرفت أنه أفسدها بشدة وطئه لازوراره. وقال إياد: عرفت أنه أبتر بإجتماع بعره ، ولو كان ذيالاً لمصع به وقال أنمار: عرفت أنه شرود؛ لأنه يرعى المكان الملتف نبته، ثم يجوزه إلى مكان آخر أرق منه نبتاً وأخبث. فقال الجرهمي: ليسوا بأصحاب بعيرك فاطلبه، ثم سألهم: من هم ؟ فأخبروه، فرحب بهم فقال: أتحتاجون إلي وأنتم كما أرى ! فدعا لهم بطعام فأكلوا وأكل، وشربوا وشرب، فقال مضر: لم أر كاليوم خمراً أجود، لولا أنها نبتت على قبر، وقال ربيعة: لم أر كاليوم لحماً أطيب لولا أنه ربى بلبن كلب، وقال إياد: لم أر كاليوم رجلاً أسرى لولا أنه لغير أبيه الذي يدعى له. وقال أنمار: لم أر كاليوم قط كلاماً أنفع في حاجتنا من كلامنا.
وسمع الجرهمي الكلام فتعجب لقولهم، وأتى أمه فسألها فأخبرته أنها كانت تحت ملك لا يولد له، فكرهت أن يذهب الملك فأمكنت رجلا من نفسها كان نزل بها، فوطئها فحملت به، وسأل القهرمان عن الخمر، فقال فقال: من حبلة غرستها على قبر أبيك، وسأل الراعي عن اللحم، فقال: شاة أرضعتها لبن كلبة، ولم يكن ولد في الغنم شاة غيرها. فقيل لمضر: من أين عرفت الخمر ونباتها على قبر ؟ قال: لأنه أصابني عليها عطش شديد. وقيل لربيعة: بم عرفت ؟ فذكر كلاماً.
فأتاهم الجرهمي، فقال: صفوا لي صفتكم، فقصوا عليه ما أوصاهم به أبوهم، فقضى بالقبة الحمراء والدنانير والإبل - وهي حمر - لمضر، وقضى بالخباء الأسود وبالخيل الدهم لربيعة، وقضى بالخادم - وكانت شمطاء - وبالخيل البلق لإياد، وقضى بالأرض والدراهم لأنمار.
ابن نزار

وقيل إن نزاراً كان يكنى أبا إياد. وقيل: بل كان يكنى أبا ربيعة، أمه معانة بنت جوشم بن جلهمة بن عمرو، وإخوته لأبيه وأمه، قنص، وقناصة، وسنام، ووحيدان، وحيدة، وحيادة، وجنيد، وجنادة، والقحم، وعبيد الرماح، والعرف، وعوف، وشك، وقضاعة؛ وبه كان معد يكنى ، وعدة درجوا.
ابن معدوأم معد - فيما زعم هشام - مهدد بنت اللهم - ويقال: اللهم - ابن جلحب بن جديس. وقيل: ابن طسم. وقيل: ابن الطوسم، من ولد يقشان بن إبراهيم خليل الرحمن.
حدثنا الحارث بن محمد، قال: حدثنا محمد بن سعد، قال : حدثنا هشام بن محمد، قال حدثني محمد بن عبد الرحمن العجلاني: وإخوته من أبيه وأمه الديث - وقيل: إن الديث هو عك. وقيل: إن عكا هو ابن الديث ابن عدنان - وعدن بن عدنان، فزعم بعض أهل الأنساب أنه صاحب عدن؛ وإليه تنسب،، وأن أهلها كانوا ولده فدرجوا، وأبين - وزعم بعضهم أنه صاحب أبين وأنها إليه تنسب، وأن أهلها كانوا ولده فدرجوا - وأد بن عدنان درج، والضحاك، والعي، وأم جميعهم أم معد.
وقال بعض النسابة: كان عك انطلق إلى سمران من أرض اليمن، وترك أخاه معداً، وذلك أن أهل حضور لما قتلوا شعيب بن ذي مهدم الحضورى، بعث الله عليهم بختنصر عذاباً، فخرج أرميا وبرخيا، فحملا معداً، فلما سكنت الحرب رداه إلى مكة، فوجد معد إخوته وعمومته من بنى عدنان قد لحقوا بطوائف اليمن، وتزوجوا فيهم، وتعطفت عليهم اليمن بولادة جرهم إياهم، واستشهدوا في ذل
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://arabelalekat.yoo7.com
الشيخ عودة
الشيخ عودة
الشيخ عودة



عدد المساهمات : 1748
تاريخ التسجيل : 28/09/2008
العمر : 73

كتاب : تاريخ الرسل والملوك المؤلف : الطبري - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسبابه   كتاب : تاريخ الرسل والملوك المؤلف : الطبري - صفحة 2 Emptyالسبت ديسمبر 14, 2013 10:22 am

ذكر رسول الله
صلى الله عليه وسلم وأسبابه

فتوفى عبد المطلب بعد الفيل بثماني سنين؛ كذلك حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد ابن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر: وكان عبد المطلب يوصي برسول الله صلى الله عليه وسلم عمه أبا طالب، وذلك أن أبا طالب، وعبد الله أبا رسول الله صلى الله عليه وسلم كانا لأم، فكان أبو طالب هو الذي يلي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد جده، وكان يكون معه. ثم إن أبا طالب خرج في ركب من قريش إلى الشام تاجراً، فلما تهيأ للرحيل وأجمع السير ضب به رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما يزعمون - فرق له أبو طالب، فقال: والله لأخرجن به معي، ولا يفارقني ولا أفارقه أبداً، أو كما قال. فخرج به معه، فلما نزل الركب بصرى من أرض الشأم، وبها راهب يقال له بحيرى في صومعة له، وكان ذا علم من أهل النصرانية، ولم يزل في تلك الصومعة مذ قط راهب، إليه يصير علمهم عن كتاب - فيما يزعمون - يتوارثونه كابراً عن كابر. فلما نزلوا ذلك العام ببحيرى، صنع لهم طعاماً كثيراً، وذلك أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في صومعته، عليه غمامة تظله من بين القوم، ثم أقبلوا حتى نزلوا في ظل شجرة قريباً منه، فنظر إلى الغمامة حين أظلت الشجرة، وتصهرت أغصان الشجرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى استظل تحتها، فلما رأى ذلك بحيرى، نزل من صومعته، ثم أرسل إليهم فدعاهم جميعاً، فلما رأى بحيرى رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل يلحظه لحظاً شديداً، وينظر إلى أشياء من جسده قد كان يجدها عنده من صفته.
فلما فرغ القوم من الطعام وتفرقوا، سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أشياء في حاله، في يقظته وفي نومه، فجعل رسول الله صلى الله عله وسلم يخبره فيجدها بحيرى موافقةً لما عنده من صفته. ثم نظر إلى ظهره فرأى خاتم النبوة بين كتفيه، ثم قال بحيرى لعمه أبي طالب: ما هذا الغلام منك ؟ قال: ابني، فقال له بحيرى: ما هو بابنك، وما ينبغي لهذا الغلام أن يكون أبوه حياً. قال: فإنه ابن أخي، قال: فما فعل أبوه ؟ قال: مات وأمه حبلى به، قال: صدقت، ارجع به إلى بلدك، واحذر عليه يهود؛ فوالله لئن رأوه وعرفوا منه ما عرفت، ليبغنه شراً. فإنه كائن له شأن عظيم. فأسرع به إلى بلده. فخرج به عمه سريعاً حتى أقدمه مكة.
وقال هشام بن محمد: خرج أبو طالب برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بصرى من أرض الشأم؛ وهو ابن تسع سنين.
حدثني العباس بن محمد؛ قال: حدثنا أبو نوح، قال: حدثنا يونس ابن أبي إسحاق، عن أبي بكر بن أبي موسى، عن أبي موسى، قال: خرج أبو طالب إلى الشأم، وخرج معه رسول الله صلى الله عليه وسلم في أشياخٍ من قريش، فلما أشرفوا على الراهب هبطوا فحلوا رحالهم، فخرج إليهم الراهب - وكانوا قبل ذلك يمرون به فلا يخرج إليهم ولا يلتفت.
قال: فهم يحلون رحالهم، فجعل يتخللهم حتى جاء فأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: هذا سيد العالمين. هذا رسول رب العالمين؛ هذا يبعثه الله رحمةً للعالمين. فقال له أشياخ قريش: ما علمك ؟ قال: إنكم حين أشرفتم من العقبة لم تبق شجرة ولا حجر إلا خر ساجداً؛ ولا يسجدون إلا لنبي، وإني أعرفه بخاتم الننبوة، أسفل من غضروف كتفه مثل التفاحة.
ثم رجع فصنع لهم طعاماً، فلما أتاهم به كان هو في رعية الإبل.
قال: أرسلوا إليه، فأقبل وعليه غمامة، فقال: انظروا إليه؛ عليه غمامة تظله ! فلما دنا من القوم وجدهم قد سبقوه إلى فىء الشجرة، فلما جلس مال لىء الشجرة عليه، فقال: انظروا إلى فىء الشجرة مال عليه، قال: فبينما هو قائم عليهم؛ وهو يناشدهم ألا يذهبوا به إلى الروم؛ فإن الروم إن رأوه عرفوه بالصفة فقتلوه؛ فالتفت فإذا بسبعة نفرٍ قد أقبلوا من الروم، فاستقبلهم، فقال: ما جاء بكم ؟ قالوا: جئنا أن هذا النبي خارج في هذا الشهر؛ فلم يبق طريق إلا بعث إليها ناس، وإنا اخترنا خيرةً، بعثنا إلى طريقك هذا؛ قال لهم: هل خلفتم خلفكم أحداً هو خيرٌ منكم ؟ قالوا: لا، إنما اخترنا خيرة لطريقك هذا، قال: أفرأيتم أمراً أراد الله أن يقضيه، هل يستطيع أحد من الناس رده ! قالوا: لا؛ فتابعوه وأقاموا معه، قال: فأتام، فقال: أنشدكم الله، أيكم وليه ؟ قالوا: أبو طالب، فلم يزل يناشده حتى رده، وبعث معه أبو بكر رضي الله تعالى عنه بلالاً، وزدوه الراهب من الكعك والزيت.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد ابن إسحاق، عن محمد بن عبد الله بن قيس بن مخرمة، عن الحسن بن محمد بن علي بن أبي طالب، عن أبيه محمد بن علي، عن جده على بن أبي طالب، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: ما هممت بشيءٍ مما كان أهل الجاهلية يعملون به غير مرتين، كل ذلك يحول الله بيني وبين ما أريد من ذلك.
ثم ما هممت بسوء حتى أكرمني الله عز وجل برسالته؛ فإني قد قلت ليلةً لغلامٍ من قريش كان يرعة معي بأعلى مكة: لو أبصرت لي غنمي حتى أدخل مكة، فأسمر بها كما يسمر الشباب ! فقال: أفعل؛ فخرجت أريد ذلك؛ حتى جئت أول دارٍ من دور مكة، سمعت عزفاً بالدفوف والمزامير، فقلت: ما هذا ؟ قتالوا: فلان ابن فلان تزوج بفلانة بنت فلان.
فجلست أنظر إليهم، فضرب الله على أذني فنمت فما أيقظني إلا مس الشمس؛ قال: فجئت صاحبي، فقال: ما فعلت ؟ قلت ما صنعت شيئاً، ثم أخبرته الخبر. قال: ثم قلت له ليلةً أخرى مثل ذلك، فقال: أفعل، فخرجت فسمعت حين جئت مكة مثل ما سمعت حين دخلت مكة تلك الليلة؛ فجلست أنظر، فضرب الله على أذني؛ فوالله ما أيقظني إلا مس الشمس؛ فرجعت إلى صاحبي فأخبرته الخبر، ثم ما هممت بعدها بسوء حتى أكرمني الله عز وجل برسالته.
ذكر تزويج النبي خديجةقال هشام بن محمد: نكح رسول الله صلى الله عليه وسلم خديجة؛ وهو ابن خمس وعشرين سنة، وخديجة يومئذ ابنة أربعين سنة.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحق، قال: كانت خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي امرأة تاجرةً، ذات شرف ومال، تستتجر الرجال في مالها، وتضاربهم إياه بشيء تجعله لهم منه، وكانت قريشٌ قوماً تجاراً؛ فلما بلغها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بلغها من صدق حديثه، وعظم أمانته، وكم أخلاقه؛ بعثت إليه، فعرضت عليه أن يخرج في مالها إلى الشأم تاجراً، وتعطيه أفضل ما كانت تعطى غيره من التجار؛ مع غلامٍ لها يقال له ميسرة.
فقبله منها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج في مالها ذلك؛ وخرج معه غلامها ميسرة؛ حتى قدما الشأم، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في ظل شجرة قريباً من صومعة راهب من الرهبان، فأطلع الراهب رأسه إلى ميسرة فقال: من هذا الرجل الذي نزل تحت هذه الشجرة ؟ فقال له ميسرة: هذا رجلٌ من قريش، من أهل الحرم، فقال له الراهب: ما نزل تحت هذه الشجرة قط إلا نبي، ثم باع رسول اله صلى الله عليه وسلم سلعته التي خرج بها، واشترى ما أراد أن يشتري، ثم أقبل قافلاً إلى مكة؛ ومعه ميسرة.
فكان ميسرة - فيما يزعمون - إذا كانت الهاجرة واشتد الحر يرى ملكين يظللانه من الشمس، وهو يسير على بعيرة. فلما قدم مكة على خديجة بمالها، باعت ما جاء به فأضعف، أو قريباً من ذلك. وحدثها ميسرة عن قول الراهب، وعما كان يرى من إظلال الملكين إياه - وكانت خديجة امرأة حازمة لبيبة شريفة؛ مع ما أراد الله بها من كرامته - فلما أخبرها ميسرة بما أخبرها، بعثت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت له - فيما يزعمون - : يا بن عم، إنى قد رغبت فيك لقرابتك وسطتك في قومك، وأمانتك وحسن خلقك وصدق حديثك. ثم عرضت عليه نفسها، وكانت خديجة يومئذ أوسط نساء قريش نسباً، وأعظمهن شرفاً، وأكثرهن مالاً؛ كل قومهما كان حريصاً على ذلك منها لو يقدر عليها.
فلما قالت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر ذلك لأعمامه، فخرج معه حمزة بن عبد المطلب عمه؛ حتى دخل على خويلد بن أسد، فخطبها إليه فتزوجها، فولدت له ولده كلهم إلا إبراهيم: زينب، ورقية، وأم كلثوم، وفاطمة، والقاسم - وبه كان يكنى صلى الله عليه وسلم - والطاهر والطيب. فأما القاسم والطتاهر والطيب؛ فهلكوا في الجاهلية، وأما بناته فكلهن أدركن الإسلام فأسلمن، وهاجرن معه صلى الله عليه وسلم.
حدثني الحارث، قال: حدثنا محمد بن سعد، قال: حدثنا محمد ابن عمر، قال: حدثنا معمر وغيره، عن ابن شهاب الزهري - وقد قال ذلك غيره من أهل البلد: إن خديجة إنما كانت استأجرت رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجلاً أخر من قريش إلى سوق حباشة بتهامة؛ وكان الذي زوجها إياه خويلد، وكان التي مشت في ذلك مولاةٌ مولدة من مولادات مكة.
قال الحارث: قال محمد بن سعد: قال الواقدي: فكطل هذا غلط.

قال والواقدي: ويقولون أيضاً إن خديجة أرسلت إلى النبي صلى الله عليه وسلم تدعوه إلى نفسها - تعني التزويج - وكانت امرأة ذات شرف، وكان كل قريش حريصاً على نكاحها - قد بذلوا الأموال لو طمعوا بذلك، فدعت أباها فسسقته خمراً حتى ثمل، ونحرت بقرة وخلقته بخلوق، وألبسته حلةً حبرةً، ثم أرسلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في عمومته، فدخلوا عليه، فزوجه، فلما صحا قال: ما هذا العقير ؟ وماهذا العبير ؟ وما هذا الحبير ؟ قالت: زوجتنى محمد بن عبد الله، قال: ما فعلت أنى أفعل هذا وقد خطبك أكابر قريش، فلم أفعل ! قال الواقدي: وهذا غلطٌ، والثبت عندنا المحفوظ من حديث محمد ابن عبد الله بن مسلم، عن أبيه، عن محمد بن جبير بن مطعم. ومن حديث ابن أبي الزناد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة. ومن حديث ابن أبي حبيبة، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس؛ أن عمها عمرو بن أسد زوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن أباها مات قبل الفجار.
قال أبو جعفر: وكان منزل خديجة يومئذ المنزل الذي يعرف بها اليوم، فيقال: منزل خديجة، فاشتراه معاوية - فيما ذكر - فجعله مسجداً يصلى فيه الناس، وبناه على الذي هو عليه اليوم لم يغير. وأما الحجر الذي على باب البيت عن يسار من يدخل البيت فإن رسول اله صلى الله عليه وسلم كان يجلس تحته يستتر به من الرمى إذا جاءه من دار أبي لهب، ودار عدي ابن حمراء الثقفي خلف دار ابن علقمة، والحجر ذراعٌ وشبر في ذراع.
ذكر باقي الأخبار عن الكائن من أمر رسول الله
صلى الله عليه وسلم قبل أن ينبأ، وما كان بين مولده ووقت نبوته من
الأحداث في بلده
قال أبو جعفر: قد ذكرنا قبل سبب تزويج النبي صلى الله عليه وسلم خديجة واختلاف المختلفين في ذلك، ووقت نكاحه صلى الله عليه وسلم إياها.
وبعد السنة التي نكحها فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم هدمت قريش الكعبة بعشر سنين ثم بنتها - وذلك في قول إبن إسحاق - في سنة خمسٍ وثلاثن من مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكان سبب هدمهم إياها فيما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، أن الكعبة كانت رضمة فوق القامة، فأرادوا رفعها وتسقيفها؛ وذلك أن نفراً من قريش وغيرهم سقوا كنز الكعبة؛ وإنما كان يكون في بئر في جوف الكعبة.
وكان أمر غزالي الكعبة - فيما حدثت عن هشام بن محمد، عن أبيه - أن الكعبة كانت رفعت حين غرق قوم نوح، فأمر الله إبراهيم خليله عليه السلام وابنه إسماعيل أن يعيدا بنا الكعبة على أسها الأول، فأعادا بناءها، كما أنزل في القرآن: " وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم " ، فلم يكن له ولاةٌ منذ زمن نوح عليه السلام؛ وهو مرفوع .
ثم أمر الله عز وجل إبراهيم أن ينزل ابنه إسماعيل البيت، لما أراد الله من كرامة من أكرمه بنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، فكان إبراهيم خليل الرحمن وابنه إسماعيل يليان البيت بعد عهد نوح، ومكة يومئذ بلاقع؛ ومن حول مكة يومئذ جرهم والعماليق. فنكح إسماعيل عليه السلام امرأة من جرهم؛ فقال في ذلك عمرو بن الحارث بن مضاض:
وصاهرنا من أكرم الناس والداً ... فأبناؤه منا ونحن الأصاهر
فولى البيت بعد إسماعيل، وبعد إسماعيل نبت؛ وأمه الجرهمية؛ ثم مات نبت، ولم يكثر ولد إسماعيل، فغلبت جرهم على ولاية البيت؛ فقال عمرو بن الحارث بن مضاض:
وكنا ولاة البيت من بعد نابتٍ ... نطوف بذاك البيت، والخير ظاهر
فكان أول من مولى من جرهم البيت مضاض؛ ثم وليته بعده بنوه كابراً عن كابر؛ حتى بغت جرهم بمكة، واستحلوا حرمتها، وأكلوا مال الكعبة الذي يهدى لها، وظلموا من دخل مكة، ثم لم يتناهوا حتى جعل الرجل منهم إذ لم يجد مكاناً يزنى فيه يدخل الكعبة فزنى. فزعموا أن أسافا بغى بنائلة في حوف الكعبة، فمسخا حجرين، وكانت مكة في الجاهلية لا ظلم ولا بغى فيها، ولا يستحل حرمتها ملكٌ إلا هلك مكانه فكانت تسمى الناسة، وتسمى بكة، تبك أعناق البغايا إذا بغوا فيها، والجبابرة.

قال: ولما لم تتناه جرهم عن بغيها، وتفرق أولاد عمرو بن عامر من اليمن، فانخرع بنو حارثة بن عمرو، فأوطنوا تهامة - فسميت خزاعة، وهم بنو عمرو بن ربيعة بن حارثة - وأسلم ومالك وملكان بنو أفصى بن حارثة، فبعث الله على جرهم الرعاف والنمل، فأفناهم. فاجتمعت خزاعة ليجلوا من بقى، ورئيسهم عمرو بن ربيعة بن حارثة، وأمه فهيرة بنت عامر بن الحارث ابن مضاض، فاقتتلوا. فلما أحس عامر بن الحارث بالهزيمة، خرج بغزالي الكعبة وحجر الركن يلتمس التوبة، وهو يقول:
لا هم إن جرهماً عبادك ... الناس طرفٌ وهم تلادك
بهم قديماً عمرت بلادك
فلم تقبل توبته، فألقى غزالي الكعبة وحجر الركن في زمزم، ثم دفنها وخرج من بقى من جرهم إلى أرض من أرض جهينة، فجاءهم سيل أتى فذهب بهم، فذلك قول أمية بن أبي الصلت:
وجرهم دمنوا تهامة في الد ... هر فسالت بجمعهم إضم
وولى البيت عمرو بن ربيعة. وقالوا بنو قصي: بل وليه عمرو بن الحارث الغبشاني، وهو يقول:
نحن ولينا البيت من بعد جرهمٍ ... لنعمره من كل باغٍ وملحد
وقال:
وادٍ حرامٌ طيره ووحشه ... نحن ولاته فلا نغشه
وقال عامر بن الحارث:
كأن لم يكن بين الحجوزن إلى الصفا ... أنيسٌ ولم يسمر بمكة سامر
بلى نحن كنا أهلها فأبادنا ... صروف الليالي والجدود العواثر
قال:
يأيها الناس سيروا إن قصركم ... أن تصبحوا ذات يوم لا تسيرونا
كنا أناساً كما كنتم فغيرنا ... دهرٌ، فأنتكم كما كنا تكونونا
حثوا المطى وأرخوا من أزمتها ... قبل الممات وقضوا ما تقوضنا
يقول: اعملوا لآخرتكم، وافرغوا من حوائجكم في الدنيا؛ فوليت خزاعة البيت؛ غير أنه كان في قبائل مضر ثلاث خلال: الإجازة بالحج للناس من عرفة، وكان ذلك إلى الغوث بن مر - وهو صوفة - فكانت إذا كانت الإجازة قالت العرب: أجيزي صوفة. والثانية الإفاضة من جمع غداة النحر إلى منى، فكان ذلك إلى بنى زيد بن عدوان؛ فكان آخر من ولى ذلك منهم أبو سيارة عميلة بن الأعزل بن خالد بن سعد بن الحارث بن وابش ابن زيد، والثالثة النسئ للشهور الحرام، فكان ذلك في القلمس، وهو حذيفة بن فقيم بن عدي من بنى مالك بن كنانة، ثم بنيه حتى صار ذلك إلى آخرهم أبي ثمامة، وهو جنادة بن عوف بن أمية بن قلع بن حذيفة.
وقام عليه السلام، وقد عادت الحرم إلى أصلها، فأحكمها الله وأبطل النسئ؛ فلما كثرت معد تفرقت، فذلك قول مهلهل:
غنيت دارنا في تهامة في الده ... ر وفيها بنو معدٍ حلولا
وأما قريش، فلم يفارقوا مكة، فلما حفر عبد المطلب زمزم، وجد الغزالين، غزالي الكعبة اللذين كانت جرهم دفنتهما فيه، فاستخرجهما؛ وكان من أمره وأمرهما ما قد ذكرت في موضع ذلك فيما مضى من هذا الكتاب قبل.
رجع الحديث إلى حديث ابن إسحاق. قال: وكان الذي وجد عنده الكنز دويكاً مولىً لبنى مليح بن عمرو، من خزاعة. فقطعت قريش يده من بينهم، وكان ممن اتهم في ذلك الحارث بن عامر بن نوفل، وأبو إهاب ابن عزير بن قيس بن سويد التميمي - وكان أخا الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف لأمه - وأبو لهب بن عبد المطلب؛ وهم الذين تزعم قريش أنهم وضعوا كنز الكعبة حين أخذوه عند دويك مولى بنى مليح، فلما اتهمتهم قريش، دلوا على دويك، فقطع، ويقال: هم وضعوه عنده.

وذكروا أن قريشاً حين استيقنوا بأن ذلك كان عند الحارث بن عامر ابن نوفل بن عبد مناف، خرجوا به إلى كاهنةٍ من كهان العرب، فسجعت عليه من كهانتها بألا يدخل مكة عشر سنين، بما استحل من حرمه الكعبة، فزعموا أنهم أخرجوه من مكة، فكان فيمات حولها عشر سنين؛ وكان البحر قد رمى بسفينةٍ إلى جدة لرجل من تجار الروم، فتحطمت، فأخذوا خشبها فأعدوه لسقفها؛ وكان بمكة رجل قبطيٌ نجارٌ، فتهيأ لهم في أنفسهم بعض ما يصلحها، وكانت حية تخرج من بئر الكعبة التي يطرح فيها ما يهدي لها كل يوم، فتشرف على جدار الكعبة، فكانوا يهابونها، وذلك أنه كان لا يدنو منها أحدٌ إلا احزألت وكشت وفتحت فاها؛ فبينا هي يوماً تشرف على جدار الكعبة كما كانت تصنع، بعث الله عليها طائراً، فاختطفها فذهب بها، فقالت قريش: إنا لنرجو أن يكون الله عز وجل قد رضى ما أردنا. عندنا عاملٌ رقيق، وعندنا خشبٌ، وقد كفانا الله أمر الحية. وذلك بعد الفجار بخمس عشرة سنة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم عامئذٍ ابن خمس وثلاثين سنة.
فلما أجمعوا أمرهم في هدمها وبنائها، قامأبو وهب بن عمرو بن عائذ ابن عمران بن مخزوم، فتناول من الكعبة حجراً، فوثب في يده؛ حتى رجع إلى موضعه، فقال: يا معشر قريش، لا تدخلوا في بناينها من كسبكم إلا طيباً، ولا تدخلوا فيها مهر بغيٍ، ولا بيع رباً، ولا مظلمة أحدٍ من الناس.
قال: والناس ينحلون هذا الكلام الوليد بن المغيرة؛ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثنا محمد بن إسحاق، عن عبد الله ابن أبي نجيح المكي، أنه حدث عن عبد الله بن صفوان بن أمية بن خلف، أنه رأى ابناً لجعدة بن هبيرة بن أبي وهب بن عمرو بن عائذ ابن عمران بن مخزوم يطوف بالبيت، فسأل عنه فقيل له: هذا ابنٌ لجعدة ابن هبيرة، فقال عند ذلك عبد الله بن صفوان جد هذا - يعنى أبا وهيب الذي أخذ من الكعبة حجراً حين اجتمعت قريش لهدمها، فوثب من يده حتى رجع إلى موضعه، فقال عند ذلك: يا معشر قريش، لا تدخلوا في بنانها من كسبكم إلا طيباً؛ لا تدخلوا فيها مهر بغى، ولا بيع رباً ولا مظلمة أحدٍ.
وأبو وهب خال أبي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان شريفاً.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثننا محمد بن إسحاق، قال: ثم إن قريشاً تجزأت الكعبة، فكان شق الباب لبنى عبد مناف وزهرة، وكان ما بين الركن الأسود والركن اليماني لبنى مخزوم وتيم وقبائل من قريش، ضموا إليهم، وكان ظهر الكعبة لبنى جمح وبنى سهم، وكان شق الحجر - وهو الحطيم - لبنى عبد الدار بن قصي ولبنى عبد الدار بن قصي ولبني أسد بن عبد العزى بن قصي، وبنى عدي بن كعب.
ثم إن الناس هابوا هدمها وفرقوا منه، فقال الوليد بن المغيرة: أنا أبدؤكم في هدمها، فأخذ المعول ثم قام عليها، وهو يقول: اللهم لم ترع، اللهم لا نريد إلا الخير. ثم هدم من ناحية الركنين، فتربص الناس به تلك الليلة، وقالوا: ننظر؛ فإن إصيب لم نهدم منها شيئاً؛ ورددناها كما كانت؛ وإن لم يصبه شيءٌ فقد رضى الله ما صنعنا هدمنا.
فأصبح الوليد من ليلته غادياً على عمله، فهدم والناس معه؛ حتى انتهى الهدم إلى الأساس، فأفضوا إلى حجارة خضرٍ كأنها أسنة آخذ بعضها ببعض.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثنا محمد بن إسحاق، عن بعض من يروى الحديث، أن رجلاً من قرش ممن كان يهدمها، أدخل عتلة بين حجرين منها، ليقلع بها أحدهما، فلما تحرك الحجر انتقت مكة بأسرها، فانتهوا عند ذلك إلى الأساس.
قال: ثم إن القبائل جمعت الحجارة لبنائها، جعلت كل قبيلة تجمع على حدتها، ثم بنوا حتى إذا بلغ البنيان موضع الركن اختصموا فيه؛ كل قبيلةٍ تريد أن ترفعهخ إلى موضعه دون الأخرى؛ حتى تحاوزوا وتحالفوا وتواعدوا للقتال؛ فقربت بنو عبد الدار جفنة مملوءة دماً؛ ثم تعاقدوا هم وبنو عد بن كعب على الموت، وأدخلوا أيديهم، في ذلك الدم في الجفنة؛ فسموا لعقة الدم بذلك؛ فمكثت قريش أربع ليالٍ - أو خمس ليال - على ذلك.

ثم إنهم اجتمعوا في المسجد، فتشاوروا وتناصفوا؛ فزعم بعض الرواة أن أبا أمية ابن مغيرة كان عامئذ أسن قريش كلها، قال: يا معشر قريش؛ اجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه أول من يدخل من باب هذا المسجد، يقضي بينكم فيه؛ فكان أول من دخل عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأوه قالوا: هذا الأمين، قد رضينا به؛ هذا محمد.
فلما انتهى إليهم وأخبروه الخبر، قال: هلم لي ثوباً، فأتى به. فأخذ الركن، فوضعه فيه بيده ثم قال: لتأخذ كل قبيلة بناحيةٍ من الثوب، ثم ارفعوه جميعاً، ففعلوا حتى إذا بلغوا به موضعه، وضعه بيده، ثم بنى عليه؛ وكانت قريش تسمى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن ينزل عليه الوحي الأمين.
قال أبو جعفر: وكان بناء قريش الكعبة بعد الفجار بخمس عشرة سنة، وكان بين عام الفيل وعام الفجار عشرون سنة.
واختلف السلف في سن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نبئ كم كانت ؟ فقال بعضهم: نبئ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ما بنت قريش الكعبة بخمس سنين؛ وبعدما تمت له من مولده أربعون سنة.
ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن خلف العسقلاني، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا حماد بن سلمة، قال: حدثنل أبو حمزة الضبعي، عن ابن عباس، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم لأربعين سنة.
حدثنا عمرو بن علي وابن المثنى، قالا: حدثنا يحيى بن محمد بن قيس قال: سمعت ربيعة بن أبي عبد الرحمن يذكر عن أنس بن مالك، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث على رأس أربعين.
حدثنا العباس بن الوليد، قال: أخبرني أبي، قال حدثنا الأوزاعي، قال: حدثني ربيعة بن أبي عبد الرحمن، قتال: حدثني أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث على رأس أربعين.
حدثني ابن عبد الرحيم البرقي، قال: حدثنا عمرو بن أبي سلمة، عن الأوزاعي، قال: حدثني ربيعة بن أبي عبد الرحمن، قال: حدثني أنس بن مالك، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى رأس أربعين.
حدثني أبو شرحبيل الحمصي، قال: حدثني أبو اليمان، قال: حدثنا إسماعيل بن عياش، عن يحيى بن سعيد عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن أنس بن مالك، قال: أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن أربعين.
حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا الحجاج بن المنهال، قال: حدثنا حماد، قال: حدثنا عمرو بن دينار، عن عروة بن الزبير، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن أربعين حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا الحجاج، عن حماد، قال: أخبرنا عمرو، عن يحيى بن جعدة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لفاطمة: إنه كان يعرض على القرآن كل عام مرة؛ وإنه قد عرض على العام مرتين، وإنه قد خيل إلى أن أجلى قد حضر؛ وأن أول أهلي لحاقاً بي أنت؛ وإنه لم يبعث نبي إلا بعث الذي بعده بنصفٍ من عمره، وبعث عيسى لأربعين، وبعثت لعشرين.
حدثني عبيد بن محمد الوراق، قال: حدثنا روح بن عبادة، قال: حدثنا هشام، قال: حدثنا عكرمة، عن ابن عباس، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم لأربعين سنة، فمكث بمكة ثلاث عشرة سنة.
حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا أبو أسامة ومحمد بن ميمون الزعفراني، عن هشام بن حسان، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنزل عليه وهو ابن أربعين سنة، فمكث بمكة ثلاث عشرة سنة.
وقال آخرون: بل نبئ حين نبئ وهو ابن ثلاث وأربعين سنة.
ذكر من قال ذلك: حدثنا أحمد بن ثابت الرازي، قال: حدثنا أحمد، قال: حدثنا يحيى بن سعيد، عن هشام، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثلاث وأربعين سنة.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب، قال: أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي وهو ابن ثلاث وأربعين سنة.
حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا عبد الوهاب، قال: حدثنا يحيى ابن سعيد، قال: سمعت سعيداً - يعنى ابن المسيب - يقول: أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي؛ وهو ابن ثلاث وأربعين سنة.
ذكر اليوم الذي نبئ فيه رسول الله
صلى الله عليه وسلم من الشهر الذي نبئ فيه وما جاء في ذلك

قال أبو جعفر: صح الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما حدثنا به ابن المثني، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن غيلان بن جرير، أنه سمع عبد الله بن معبد الزماني، عن أبي قتادة الأنصاري ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن صوم الإثنين ، فقال : ذلك يوم ولدت فيه ، ويوم بعثت - أو أنزل علي فيه .
حدثنا أحمد بن منصور ، قال : حدثنا الحسن بن موسى الأشيب ، قال : حدثنا أبو هلال ، قال : حدثنا غيلان بن جرير المعولي قال : حدثنا عبد الله بن معبد الزماني ، عن أبي قتادة ، عن عمر رحمه الله أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا نبي الله، صوم يوم الإثنين ؟ قال: ذاك يوم ولدت فيه، ويوم أنزلت علي فيه النبوة.
حدثنا إبراهيم بن سعيد، قال: حدثنا موسى بن داود، عن ابن لهيعة، عن خالد بن أبي عمران، عن حنش الصنعاني، عن ابن عباس، قال: ولد النبي صلى الله عليه وسلم يوم اثنين، واستنبئ يوم الإثنين.
قال أبو جعفر: وهذا مما لا خلاف فيه بين أهل العلم.
واختلفوا في أي الأثانين كان ذلك ؟ فقال بعضهم: نزل القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم لثماني عشرة خلت من رمضان.
ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن الحسن بن دينار، عن أيوب، عن أبي قلابة عبد الله بن زيد الجرمي، أنه كان يقول - فيما بلغه وانتهى إليه من العلم: أنزل الفرقان على رسول الله صلى الله عليه وسلم لثماني عشرة ليلةً خلت من رمضان.
وقال آخرون: بل أنزل لأربع وعشرين ليلة خلت منه.
ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: حدثني من لا يتهم، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة ابن دعامة السدوسي، عن أبي الجلد، قال: نزل الفرقان لأربع وعشرين ليلة خلت من رمضان.
وقال آخرون: بل نزل لسبع عشرة خلت من رمضان؛ واستشهدوا لتحقيق ذلك بقول الله عز وجل: " وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان " ، وذلك ملتقى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمشركين ببدر؛ وأن التقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم والمشركين ببدر كان صبحة سبع عشرة من رمضان.
قال أبو جعفر: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبل أن يظهر له جبريل عليه السلام برسالة الله عز وجل إليه - فيما ذكر عنه - يرى ويعاين آثاراُ وأسباباً من آثار من يريد الله إكرامه واختصاصه بفضله؛ فكان من ذلك ما قد ذكرت فيما مضى من خبره عن الملكين اللذين أتياه فشقا بطنه، واستخرجا ما فيه من الغل والدنس؛ وهو عند أمه من الرضاعة حليمة، ومن ذلك أنه كان إذا مر في طريق لا يمر - فيما ذكر - عنه بشجرٍ ولا حجر فيه إلا سلم عليه.
حدثني الحارث بن محمد، قال: حدثنا محمد بن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثنا علي بن محمد بن عبيد الله بن عمر بن الخطاب، عن منصور بن عبد الرحمن، عن أمه، عن برة بنت أبي تجراة، قالت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أراد الله كرامته وابتداءه بالنبوة، كان إذا خرج لحاجته أبعد حتى لا يرى بيتاً، ويفضى إلى الشعاب وبطون الأودية، فلا يمر بحجرٍ ولا شجرةٍ إلا قالت: السلام عليك يا رسول الله، فكان يلتفت عن يمينه وشماله وخلفه فلا يرى أحداً.
قال أبو جعفر: وكانت الأمم تتحدث بمبعثه وتخبر علماء كل أمة منها قومها بذلك؛ وقد حدثني الحارث، قال: حدثنا محمد بن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال : حدثني علي بن عيسى الحكمي ، عن أبيه ، عن عامر بن ربيعة ، قال: سمعت زيد بن عمرو بن نفيل يقول: أنا أنتظر نبياً من ولد إسماعيل، ثم من بنى عبد المطلب ولا أراني أدركه؛ وأنا أومن به وأصدقه، وأشهد أنه نبي، فإن طالت بك مدة فرأيته، فأقرئه منى السلام، وسأخبرك ما نعته حتى لا يخفى عليك ! قلت: هلم، قال: هو رجل ليس بالقصير ولا بالطويل، ولا بكثير الشعر ولا بقليله، وليست تفارق عينيه حمرة، وخاتم النبوة بين كتفيه، واسمه أحمد، وهذا البلد مولده ومبعثه، ثم يخرجه قومه منها، ويكرهون ما جاء به، حتى يهاجر إلى يثرب فيظهر أمره؛ فإياك أن تخدع عنه، فإني طفت البلاد كلها أطلب دين إبراهيم، فكل من أسأل من اليهود والنصارى والمجوس يقولون: هذا الدين وراءك، وينعتونه مثل ما نعته لك؛ ويقولون: لم يبق نبيٌ غيره.

قال عامر: فلما أسلمت أخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم قول زيد ابن عمرو وأقرأته منه السلام، فرد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وترحم عليه، وقال: قد رأيته في الجنة يسحب ذيولاً.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق عمن لا يتهم، عن عبد الله بن كعب مولى عثمان، أنه حدث أن عمر بن الخطاب بينا هو جالس في الناس في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذ أقبل رجلٌ من العرب داخل المسجد، يريد عمر - يعني ابن الخطاب - فلما نظر إليه عمر قال: إن الرجل لعلى شركه بعد، ما فارقه - أو لقد كان كاهناً في الجاهلية - فسلم عليه الرجل، ثم جلس فقال له عمر: هل أسلمت ؟ فقال: نعم، فقال: هل كنت كاهناً في الجاهلية ؟ فقال الرجل: سبحان الله ! لقد استقبلتني بأمر ما أراك قلته لأحد من رعيتك منذ وليت ! فقال عمر: اللهم غفراً؛ قد كنا في الجاهلية على شرٍ من ذلك، نعبد الأصنام، ونعتنق الأوثان حتى أكرمنا الله بالإسلام. فقال: نعم والله يا أمير المؤمنين؛ لقد كنت كاهناً في الجاهلية. قال: فأخبرنا ما أعجب ما جاءك به صاحبك. قال: جاءني قبل الإسلام بشهر - أو سنة - فقال لي: " ألم تر إلى الجن وإبلاسها، وإياسها من دينها، ولحوقها بالقلاص وأحلاسها ! " .
قال: فقال عمر عند ذلك يحدث الناس: والله إني لعند وثنٍ من أوثان الجاهلية في نفرٍ من قريش؛ قد ذبح له رجل من العرب عجلاً فنحن ننظر قسمه ليقسم لنا منه، إذ سمعت من جوف العجل صوتاً ما سمعت صوتاً قطً أنفذ منه؛ وذلك قبل الإسلام بشهر أو شيعه، يقول: يا آل ذريح؛ أمر نجيح، ورجلً يصيح؛ يقول: لا إله إلا الله.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا علي بن مجاهد، عن ابن إٍسحاق، عن الزهري، عن عبد الله بن كعب، مولى عثمان بن عفان، مثله.
حدثنا الحارث، قال: حدثنا محمد بن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر قال: حدثني محمد بن عبد الله، عن الزهري، عن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه، قال: كنا جلوساً عند صنم ببوانة قبل أن يبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بشهر؛ نحرنا جزوراً؛ فإذا صائح يصيح من جوف واحدة: اسمعوا إلي العجب ! ذهب استراق الوحي، ونرمى بالشهب لنبي بمكة اسمه أحمد، مهاجره إلى يثرب. قال: فأمسكنا، وعجبنا، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم.
حدثني أحمد بن سنان القطان الواسطي، قال : حدثنا أبو معاوية قال: حدثنا الأعمش، عن أبي ظبيان، عن ابن عباس، أن رجلاً من بني عامر أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: أرني الخاتم الذي بين كتفيك؛ فإن يك بك طبٌ داويتك، فإني أطب العرب، قال: أتحب أن أريك آية ؟ قال: نعم، ادع ذاك العذق، قال: فنظر إلى عذق في نخلة، فدعاه فجعل ينقز؛ حتى قام بين يديه، قال: قل له فليرجع، فرجع، فقال العامري: يا بني عامر، ما رأيت كاليوم أسحر ! قال أبو جعفر: والأخبار عن الدلالة على نبوته صلى الله عليه وسلم أكثر من أن تحصى، ولذلك كتاب يفرد إن شاء الله.
ونرجع الآن إلى:
ذكر الخبر عما كان من أمر نبي الله
صلى الله عليه وسلم عند ابتداء الله تعالى ذكره إياه بإكرامه بإرسال
جبريل عليه السلام إليه بوحيه
قال أبو جعفر: قد ذكرنا قبل بعض الأخبار الواردة عن أول وقت مجيء جبريل نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم بالوحي من الله، وكم كان سن النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ؛ ونذكر الآن صفة ابتداء جبريل إياه بالمصير إليه، وظهوره له بتنزيل ربه.

فحدثني أحمد بن عثمان المعروف بأبي الجوزاء، قال: حدثنا وهب ابن جرير، قال: حدثنا أبي، قال: سمعت النعمان بن راشد، يحدث عن الزهري، عن عروة، عن عائشة أنها قالت: كان أول ما ابتدىء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة، كانت تجيء مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، فكان بغار بحراء يتحنث فيه الليالي ذوات العدد قبل أن يرجع إلى أهله، ثم يرجع إلى أهله، فيتزود لمثلها؛ حتى فجأه الحق، فأتاه، فقال: يا محمد، أنت رسول الله ! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجثوت لركبتي وأنا قائم، ثم زحفت ترجف بوادري، ثم دخلت على خديجة، فقلت: زملوني، زملوني ! حتى ذهب عني الروع، ثم أتاني فقال: يا محمد، أنت رسول الله. قال: فلقد هممت أن أطرح نفسي من حالقٍ من جبل، فتبدى لي حين هممت بذلك، فقال: يا محمد، أنا جبريل، وأنت رسول الله. ثم قال: اقرأ، قلت: ما أقرأ ؟ قال: فأخذني فغتنى ثلاث مرات، حتى بلغ مني الجهد، ثم قال: " اقرأ باسم ربك الذي خلق " ، فقرأت. فأتيت خديجة. فقلت: لقد أشفقت على نفسي، فأخبرتها خبري، فقالت: أبشر، فوالله لا يخزيك الله أبداً؛ ووالله إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتؤدي الأمانة، وتحمل الكل وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق. ثم انطلقت بي إلى ورقة بن نوفل بن أسد، قالت: اسمع من ابن أخيلك، فسألني فأخبرته خبري، فقال: هذا الناموس الذي أنزل على موسى بن عمران، ليتني فيها جذعٌ ! ليتني أكون حياً حين يخرجك قومك ! قلت: أمخرجي هم ؟ قال: نعم؛ إنه لم يجيء رجلٌ قطُّ بما جئت به إلا عودي، ولئن أدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً.
ثم كان أول ما نزل علي من القرآن بعد " اقرأ " : " ن ، والقلم وما يسطرون، ما أنت بنعمة ربك بمجنونٍ، وإن لك لأجراً غير ممنونٍ، وإنك لعلى خلق عظيمٍ، فستبصر ويبصرون " ، و " يأيها المدثر، قم فأنذر " ، و " والضحى، والليل إذا سجى " .
حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، قال: حدثني عروة، أن عائشة أخبرته. ثم ذكر نحوه؛ غير أنه لم يقل: " ثم كان أول ما أنزل علي من القرآن " . إلى آخره.
حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب، قال: حدثنا عبد الواحد بن زياد، قال: حدثنا سليماني الشيباني، قال: حدثنا عبد الله بن شداد، قال: أتى جبريل محمداً صلى الله عليه وسلم، فقال: يا محمد، اقرأ ؟ فقال: ما أقرأ ؟ قال: فضمه، ثم قال: يا محمد، اقرأ، قال: وما أقرأ ؟ قال: " اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علقٍ " حتى بلغ " علم الإنسان ما لم يعلم " ، قال: فجاء إلى خديجة، فقال: يا خديجة، ما أراني إلا قد عرض لي، قالت: كلا والله ما كان ربك يفعل ذلك بك؛ ما أتيت فاحشةً قط، قال: فأتت خديجة ورقة بن نوفل فأخبرته الخبر، فقال: لئن كنت صادقة، إن زوجك لنبي، وليلقين من أمته شدة، ولئن أدركته لأومنن به.
قال: ثم أبطأ عليه جبريل، فقالت له خديجة: ما أرى ربك إلا قد قلاك، قال: فأنزل الله عز وجل: " والضحى والليل إذا سجى، ما ودعك ربك وما قلى " .
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: حدثني وهب بن كيسان مولى آل الزبير، قال: سمعت عبد الله بن الزبير ، وهو يقول لعبيد بن عمير بن قتادة الليثي: حدثنا يا عبيد كيف كان بدء ما ابتدىء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من النبوة حين جاء جبريل عليه السلام ؟ فقال عبيد - وأنا حاضر يحدث عبد الله بن الزبير ومن عنده من الناس: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاور في حراء من كل سنة شهراً، وكان ذلك مما تحنث به قريش في الجاهلية - والتحنث: التبرر - وقال أبو طالب:
وراقٍ ليرقى في حراءٍ ونازل

فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاور ذلك الشهر من كل سنة، يطعم من جاءه من المساكين؛ فإذا قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم جواره من شهره ذلك، كان أول ما يبدأ به - إذا انصرف من جواره - الكعبة قبل أن يدخل بيته، فيطوف بها سبعاً، أو ما شاء الله من ذلك، ثم يرجع إلى بيته، حتى إذا كان الشهر الذي أراد الله عز وجل فيه ما أراد من كرامته، من السنة التي بعثه فيها؛ وذلك في شهر رمضان، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حراء - كما كان يخرج لجواره - معه أهله؛ حتى إذا كانت الليلة التي أكرمه الله فيها برسالته ورحم العباد بها، جاءه جبريل بأمر الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاءني وأنا نائم بنمطٍ من ديباجٍ، فيه كتاب، فقال: اقرأ، فقلت: ما أقرأ ؟ فغتني، حتى ظننت أنه الموت، ثم أرسلني فقال: اقرأ، فقلت: ماذا أقرأ ؟ وما أقول ذلك إلا افتداء منه أن يعود إلي بمثل ما صنع بي؛ قال: " اقرأ باسم ربك الذي خلق " إلى قوله: " علم الإنسان ما لم يعلم " ، قال: فقرأته، قال: ثم انتهى، ثم انصرف عني وهببت من نومي؛ وكأنما كتب في قلبي كتاباً.
قال: ولم يكن من خلق الله أحدٌ أبغض إلي من شاعر أو مجنون؛ كنت لا أطيق أن أنظر إليهما ،قال: قلت إن الأبعد - يعني نفسه - لشاعر أو مجنون، لا تحدث بها عني قريش أبداً ! لأعمدن إلى حالقٍ من الجبل فلأطرحن نفسي منه فلأقتلنها فلأستريحن.
قال: فخرجت أريد ذلك؛ حتى إذا كنت في وسط من الجبل؛ سمعت صوتاً من السماء يقول: يا محمد أنت رسول الله، وأنا جبريل، قال: فرفعت رأسي إلى السماء، فإذا جبرئيل في صورة رجل صافً قدميه في أفق السماء، يقول: يا محمد أنت رسول الله وأنا جبرئيل. قال: فوقفت أنظر إليه، وشغلني ذلك عما أردت؛ فما أتقدم وما أتأخر؛ وجعلت أصرف وجهي عنه في آفاق السماء فلا أنظر في ناحية منها إلا رأيته كذلك؛ فما زلت واقفاً ما أتقدم أمامي، ولا أرجع ورائي؛ حتى بعثت خديجة رسلها في طلبي؛ حتى بلغوا مكة ورجعوا إليها وأنا واقف في مكاني. ثم انصرف عني وانصرفت راجعاً إلى أهلي؛ حتى أتيت خديجة، فجلست إلى فخذها مضيفاً فقالت: يا أبا القاسم؛ أين كنت ؟ فوالله لقد بعثت رسلي في طلبك، حتى بلغوا مكة ورجعوا إلي. قال: قلت لها: إن الأبعد لشاعر أو مجنون، فقالت: أعيدك بالله من ذلك يا أبا القاسم ! ما كان الله ليصنع ذلك بك مع ما أعلم منك من صدق حديثك، وعظم أمانتك، وحسن خلقك، وصلة رحمك ! وما ذاك يا بن عم ! لعلك رأيت شيئاً ؟ قال: فقلت لها: نعم. ثم حدثتها بالذي رأيت؛ فقالت: أبشر يا بن عم واثبت، فوالذي نفس خديجة بيده إني لأرجو أن تكون نبي هذه الأمة، ثم قامت فجمعت عليها ثيابها، ثم انطلقت إلى ورقة بن نوفل بن أسد - وهو ابن عمها، وكان ورقة قد تنصر وقرأ الكتب، وسمع من أهل التوراة والإنجيل - فأخبرته بما أخبرها به رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رأى وسمع، فقال ورقة: قدوس، قدوس ! والذي نفس ورقة بيده، لئن كنت صدقتي يا خديجة، لقد جاءه الناموس الأكبر - يعني بالناموس جبرئيل عليه السلام الذي كان يأتي موسى - وإنه لنبي هذه الأمة، فقولي له فليثبت. فرجعت خديجة إلى رسول اله صلى الله عليه وسلم، فأخبرته بقول ورقة، فسهل ذلك عليه بعض ما هو فيه من الهم، فلما قضى رسول اله صلى الله عليه وسلم جواره، وانصرف صنع كما كان يصنع، وبدأ بالكعبة فطاف بها. فلقيه ورقة بن نوفل، وهو يطوف بالبيت، فقال: يا بن أخي، أخبرني بما رأيت أو سمعت، فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له ورقة: والذي نفسي بيده، إنك لنبي هذه الأمة، ولقد جاءك الناموس الأكبر الذي جاء إلى موسى، ولتكذبنه ولتؤذينه، ولتخرجنه، ولتقاتلنه؛ ولئن أنا أدركت ذلك لأنصرن الله نصراً يعلمه. ثم أدنى رأسه فقبل يافوخه، ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى منزله.
وقد زاده ذلك من قول ورقة ثباتاً، وخفف عنه بعض ما كان فيه من الهم.

فحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن إسماعيل بن أبي حكيم مولى آل الزبير، أنه حدث عن خديجة أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يثبته فيما أكرمه الله به من نبوته: يا بن عم، أتستطيع أن تخبرني بصاحبك هذا الذي يأتيك إذا جاءك ؟ قال: نعم، قالت: فإذا جاءك فأخبرني به، فجاءه جبرئيل عليه السلام كما كان يأتيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لخديجة: يا خديجة هذا جبرئيل قد جاءني ، فقالت: نعم، فقم يا بن عم، فاجلس على فخذي اليسرى، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس عليها، قالت: هل تراه ؟ قال: نعم، قالت: فتحول فاقعد على فخذي اليمنى، فتحول رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس عليها، فقالت: هل تراه ؟ قال: نعم، قالت: فتحول فاجلس في حجري، فتحول فجلس في حجرها، قالت: هل تراه ؟ قال: نعم، فتحسرت، فألقت خمارها ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالسٌ في حجرها، ثم قالت: هل تراه ؟ قال: لا، فقالت: يا بن عم، اثبت وأبشر؛ فوالله إنه لملكٌ وما هو بشيطان.
فحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: وحدثت بهذا الحديث عبد الله بن الحسن، فقال: قد سمعت أمي فاطمة بنت الحسين تحدث بهذا الحديث عن خديجة، إلا أني قد سمعتها تقول: أدخلت رسول الله صلى الله عليه وسلم بينها وبين درعها، فذهب عند ذلك جبرئيل، فقالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن هذا لملك، وما هو بشيطان.
حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا عثمان بن عمر بن فارس، قال: حدثنا علي بن المبارك، عن يحيى - يعني ابن أبي كثير - قال: سألت أبا سلمة: أي القرآن أنزل أول ؟ فقال : " يأيها المدثر " ، فقلت: يقولون: " اقرأ باسم ربك " ! فقال أبو سلمة: سألت جابر بن عبد الله أيٌ القرآن أنزل أول ؟ فقال: " يأيها المدثر " ، فقلت: " اقرأ باسم ربك الذي خلق " ، فقال: لا أخبرك إلا ما حدثنا النبي صلى الله عليه وسلم، قال: جاورت في حراء، فلما قضيت جواري، هبطت فاستنبطت الوادي، فنوديت، فنظرت عن يميني وعن شمالي، وخلفي وقدامي، فلم أر شيئاً، فنظرت فوق رأسي، فإذا هو جالسٌ على عرشٍ بين السماء والأض، فخشيت منه - قال ابن المثنى: هكذا قال عثمان بن عمر، وإنما هو " فجئثت منه " - فلقيت خديجة، فقلت: دثروني، فدثروني، وصبوا علي ماءً، وأنزل علي: " يأيها المدثر قم فأنذر " .
حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، عن علي بن المبارك، عن يحيى بن أبي كثير، قال: سألت أبا سلمة عن أول ما نزل من القرآن، قال: نزلت: " يأيها المدثر " ، أول، قال: قلت: إنهم يقولون: " اقرأ باسم ربك الذي خلق " ، فقال: سألت جابر بن عبد الله، فقال: لا أحدثك إلا ما حدثنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، قال: جاورت بحراء، فلما قضيت جواري، هبطت فسمعت صوتاً، فنظرت عن يميني فلم أر شيئاً، وعن شمالي فلم أر شيئاً، ونظرت أمامي فلم أر شيئاً، ونظرت خلفي فلم أر شيئاً، فرفعت رأسي، فرأيت شيئاً، فأتيت خديجة، فقلت: دثروني، وصبوا علي ماءً، قال: فدثروني وصبوا علي ماءً بارداً، فنزلت: " يأيها المدثر " .
وحدثت عن هشام بن محمد، قال: أتى جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم أول ما أتاه ليلة السبت، وليلة الأحد، ثم ظهر له برسالة الله عز وجل يوم الاثنين، فعلمه الوضوء، وعلمه الصلاة، وعلمه: " اقرأ باسم ربك الذي خلق " ، وكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين، يوم أوحي إليه أربعون سنة.

حدثني أحمد بن محمد بن حبيب الطوسي، قال: حدثنا أبو داود الطيالسي، قال: أخبرنا جعفر بن عبد الله بن عثمان القرشي، قال: أخبرني عمر بن عروة بن الزبير، قال: سمعت عروة بن الزبير يحدث عن أبي ذر الغفاري قال: قلت: يا رسول الله، كيف علمت أنك نبي أول ما علمت، حتى علمت ذلك واستيقنت ؟ قال: يا أبا ذر، أتاني ملكان وأنا ببعض بطحاء مكة، فوقع أحدهما في الأرض والآخر بين السماء والأرض، فقال أحدهما لصاحبه: أهو هو ؟ قال: هو هو، قال: فزنه برجل، فوزنت برجل فرجحته، ثم قال: زنه بعشرة، فوزنني بعشرة فرجحتهم، ثم قال: زنه بمائة ، فوزنني بمائة فرجحتهم ، ثم قال : زنه بألف، فوزنني بألف فرجحتهم، فجعلوا ينتثرون على من كفة الميزان، قال: فقال: أحدهما للآخر: لو وزنته بأمته رجحها. ثم قال أحدهما لصاحبه: شق بطنه، فشق بطني، ثم قال أحدهما: أخرج قلبه - أو قال: شق قلبه - فشق قلبي، فأخرج منه مغمز الشيطان وعلق الدم، فطرحها، ثم قال أحدهما للآخر: اغسل بطنه غسل الإناء، واغسل قلبه غسل الإناء - أو اغسل قلبه غسل الملاءة - ثم دعا بالسكينة، كأنها وجه هرة بيضاء فأدخلت قلبي، ثم قال أحدهما لصاحبه: خط بطنه، فخطا بطنى، وجعلا الخاتم بين كتفي، فما هو إلا أن وليا عنى فكأنما أعاين الأمر معاينة.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: حدثنا ابن ثور، عن معمر، عن الزهري، قال: فتر الوحي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فترةً، فحزن حزناً شديداً، جعل يغدو إلى رءوس شواهق الجبال ليتردى منها، فكلما أوفى بذروة جبل تبدى له جبرئيل، فيقول: إنك نبي الله؛ فيسكن لذلك جأشه، وترجع إليه نفسه، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يحدث عن لك، قال: فبينما أنا أمشي يوماً، إذ رأيت الملك الذي كان يأتيني بحراء، على كرسي بين السماء والأرض، فجئثت منه رعباً، فرجعت إلى خديجة، فقلت: زملوني، فزملناه - أي دثرناه - فأنزل الله عز وجل: " يأيها المدثر، قم فأنذر، وربك فكبر، وثيابك فطهر " ، قال الزهري: فكان أول شيء أنزل عليه: " اقرأ باسم ربك الذي خلق " حتى بلغ " ما لم يعلم " .
حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، قال: أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن، أن جابر بن عبد الله الأنصاري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحدث عن فترة الوحي: بينا أنا أمشي سمعت صوتاً من السماء، فرفعت رأسي، فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فجئثت منه فرقاً، وجئت فقلت: زملوني، زملوني ! فدثروني، فأنزل الله عز وجل: " يأيها المدثر، قم فأنذر، وربك فكبر " إلى قوله: " والرجز فاهجر " ، قال: ثم تتابع الوحي.
قال أبو جعفر: فلما أمر الله عز وجل نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم أن يقوم بإنذار قومه عقاب الله على ما كانوا عليه مقيمين من كفرهم بربهم وعبادتهم الآلهة والأصنام دون الذي خلقهم ورزقهم؛ وأن يحدث بنعمة ربه عليه بقوله: " وأما بنعمة ربك فحدث " ، وذلك - فيما زعم ابن إسحاق - النبوة.
حدثنا ابن حميد، ق
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://arabelalekat.yoo7.com
الشيخ عودة
الشيخ عودة
الشيخ عودة



عدد المساهمات : 1748
تاريخ التسجيل : 28/09/2008
العمر : 73

كتاب : تاريخ الرسل والملوك المؤلف : الطبري - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: كتاب : تاريخ الرسل والملوك المؤلف : الطبري   كتاب : تاريخ الرسل والملوك المؤلف : الطبري - صفحة 2 Emptyالسبت ديسمبر 14, 2013 10:24 am

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا عيسى بن سوادة بن الجعد، قال: حدثنا محمد بن المنكدر وربيعة بن أبي عبد الرحمن، وأبو حازم المدني، والكلبي، قالوا: على أول من أسلم. قال الكلبي: أسلم وهو ابن تسع سنين.
حدثنا ابن حميد؛ قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: كان أول ذكرٍ آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم، وصلى معه وصدقه بما جاءه من عند الله، علي بن أبي طالب؛ وهو يومئذ ابن عشر سنين، وكان مما أنعم الله به على علي بن أبي طالب عليه السلام، أنه كان في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الإسلام .
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: فحدثني عبد الله بن أبي نجيح، عن مجاهد بن جبر أبي الحجاج، قال: كان من نعمة الله على علي بن أبي طالب، وما صنع الله له وأراده به من الخير، أن قريشا أصابتهم أزمة شديدة، وكان أبو طالب ذا عيالٍ كثير؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس عمه - وكان من أيسر بني هاشم: يا عباس؛ إن أخاك أبا طالب كثير العيال، وقد أصاب الناس ما ترى من هذه الأزمة، فانطلق بنا فلنخفف عنه من عياله؛ آخذ من بنيه رجلا، وتأخذ من بنيه رجلاً، فنكفهما عنه. قال العباس: نعم، فانطلقا حتى أتيا أبا طالب، فقالا: إنا نريد أن نخفف عنك من عيالك حتى ينكشف عن الناس ما هم فيه، فقال لهما أبو طالب: إذا تركتما لي عقيلًا فاصنعا ما شئتما، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا فضمه إليه، وأخذ العباس جعفراً فضمه إليه، فلم يزل علي بن أبي طالب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بعثه الله نبياً، فاتبعه علي فآمن به وصدقه، ولم يزل جعفر عند العباس حتى أسلم واستغنى عنه .
حدثنا بن حميد ،قال: حدثنا سلمة، قال: فحدثني محمد بن إسحاق، قال: وذكر بعض أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا حضرت الصلاة، خرج إلى شعاب مكة، وخرج معه علي بن أبي طالب مستخفياً من عمه أبي طالب وجميع أعمامه وسائر قومه، فيصليان الصلوات فيها؛ فإذا أمسيا رجعاً، فمكثا كذلك ما شاء الله أن يمكثا. ثم إن أبا طالب عثر عليهما يوماً وهما يصليان، فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا بن أخي، ما هذا الدين الذي أراك تدين به ؟ قال: أي عم، هذا دين الله ودين ملائكته ودين رسله، ودين أبينا إبراهيم - أو كما قال - بعثني الله به رسولاً إلى العباد، وأنت يا عم أحق من بذلت له النصيحة، ودعوته إلى الهدى، وأحق من أجابني إليه، وأعانني عليه - أو كما قال. فقال أبو طالب: يا بن أخي؛ إنى لا أستطيع أن أفارق دينى ودين آبائي وما كانوا عليه؛ ولكن والله لا يخلص إليك بشيء تكرهه ما حييت.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: وزعموا أنه قال لعلي بن أبي طالب: أي بنى، ما هذا الدين الذي أنت عليه ؟ قال: يا أبه، آمنت بالله وبرسوله وصدقته بما جاء به، وصليت معه لله. فزعموا أنه قال له: أما إنه لا يدعوك إلا إلى خير، فالزمه.
حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: أخبرنا إبراهيم بن نافع، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: أسلم عليٌ وهو ابن عشر سنين.
قال الحارث: قال ابن سعد: قال الواقدي: واجتمع أصحابنا على أن علياً أسلم بعدما تنبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بسنة، فأقام بمكة اثنى عشرة سنة.
وقال آخرون: أول من أسلم من الرجال أبو بكر رضي الله عنه.
ذكر من قال ذلك: حدثنا سهل بن موسى الرازي، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مغراء، عن مجالد، عن الشعبي، قال: قلت لابن عباس: من أول الناس إسلاماً ؟ فقال: أما سمعت قول حسان بن ثابت:
إذا تذكرت شجواً من أخي ثقةٍ ... فاذكر أخاك أبا بكر بما فعلا
خير البرية أتقاها وأعدلها ... بعد النبي وأوفاها بما حملا
الثاني التالي المحمود مشهده ... وأول الناس منهم صدق الرسلا
وحدثني سعيد بن عنبسة الرازي، قال: حدثنا الهيثم بن عدي، عن مجالد، عن الشعبي، عن ابن عباس نحوه.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يحيى بن واضح، قال: حدثنا الهيثم ابن عدي، عن مجالد، عن الشعبي، عن ابن عباس نحوه.

حدثنا بحر بن نصر الخولاني، قال : " حدثنا عبد الله بن وهب، قال: أخبرني معاوية بن صالح، قال: حدثني أبو يحيى وضمرة بن حبيب وأبو طلحة، عن أبي أمامة الباهلي، قال: حدثني عمرو بن عبسة قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو نازل بعكاظ، قلت: يا رسول الله، من تبعك على هذا الأمر ؟. قال: اتبعني عليه رجلان؛ حرٌ وعبد: أبو بكر وبلال، قال: فأسلمت عند ذلك، قال: فلقد رأيتني إذ ذاك ربع الإسلام.
حدثني ابن عبد الرحيم البرقي، قال: حدثنا عمرو بن أبي سلمة، قال: حدثنا صدقة، عن نصر بن علقمة، عن أخيه، عن ابن عائذ، عن جبير بن نفير، قال: كان أبو ذر وابن عبسة كلاهما يقول: لقد رأيتني ربع الإسلام، ولم يسلم قبلي إلا النبي وأبو بكر وبلال، وكلهما لا يدري متى أسلم الآخر.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم، قال: أول من أسلم أبو بكر.
حدثنا أبو كريب، قال: حدنا وكيع، قال: حدثنا شعبة، عن عمرو بن مرة، قال: قال إبراهيم النخعي: أبو بكر أول من أسلم.
وقال آخرون: أسلم قبل أبي بكر جماعة.
ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا كنانة بن جبلة، عن إبراهيم بن طهمان، عن الحجاج بن الحجاج، عن قتادة، عن سالم بن أبي الجعد، عن محمد بن سعد، قال: قلت لأبي: أكان أبو بكر أولكم إسلاماً ؟ فقال: لا، ولقد أسلم قبله أكثر من خمسين؛ ولكن كان أفضلنا إسلاماً.
وقال آخرون: كان أول من آمن واتبع النبي صلى الله عليه وسلم من الرجال زيد بن حارثة مولاه.
ذكر من قال ذلك : حدثني الحارث، قال: حدثنا محمد بن سعد، قال: قال الواقدي : حدثني ابن أبي ذئب ، قال: سألت الزهري : من أول من أسلم ؟ قال : من النساء خديجة ، ومن الرجال زيد بن حارثة .
حدثني الحارث ، قال : حدثنا محمد بن سعد ، قال : أخبرنا محمد ابن عمر، قال: حدثنا مصعب بن ثابت، عن أبي الأسود، عن سليمان ابن يسار، قال: أول من أسلم زيد بن حارثة.
حدثني الحارث، قال: حدثنا محمد بن سعد، قال: أخبرنا محمد - يعنى ابن عمر - قال: حدثنا ربيعة بن عثمان، عن عمران بن أبي أنس مثله.
وحدثني عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم، قال: حدثنا عبد الملك ابن مسلمة، قال: حدثنا ابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عروة، قال: أول من أسلم زيد بن حارثة.
وأما ابن إسحاق، فإنه قال في ذلك ما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة عنه: ثم أسلم زيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان أول ذكرٍ أسلم، وصلى بعد علي بن أبي طالب، ثم أسلم أبي بكر بن أبي قحافة الصديق، فلما أسلم أظهر إسلامه، ودعا إلى الله عز وجل وإلى رسوله. قال: وكان أبو بكر رجلاً مألفاً لقومه، محبباً سهلاً، وكان أنسب قريش لقريش، وأعلم قريش بها، وبما كان فيها من خير أو شر، وكان رجلاً تاجراً ذا خلق ومعروفٍ، وكان رجال قومه يأتونه ويألفونه لغير واحد من الأمر، لعلمه وتجاربه وحسن مجالسته، فجعل يدعو إلى الإسلام من وثق به من قومه ممن يغشاه ويجلس إليه، فأسلم على يديه - فيما بلغني - عثمان بن عفان، والزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وطلحة بن عبيد الله، فجاء بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين استجابوا له، فأسلموا وصلوا، فكان هؤلاء الثمانية، النفر الذين سبقوا إلى الإسلام، فصلوا وصدقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم وآمنوا بما جاء به من عند الله؛ ثم تتابع الناس في الدخول في الإسلام؛ الرجال منهم والنساء؛ حتى فشا ذكر الإسلام بمكة وتحدث به الناس.
وقال الواقدي في ذلك ما حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، عنه: اجتمع أصحابنا على أن أول أهل القبلة استجاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم خديجة بنت خويلد، ثم اختلف عندنا في ثلاثة نفر: في أبي بكر وعلي، وزيد بن حارثة، أيهم أسلم أول.
قال: وقال الواقدي: أسلم معهم خالد بن سعيد بن العاص خامساً، وأسلم أبو ذر، قالوا: رابعاً أو خامساً، وأسلم عمرو بن عبسة السلمي، فيقال: رابعاً أو خامساً. قال: فإنما اختلف عندنا في هؤلاء النفر أيهم أسلم أول، وفي ذلك روايات كثيرة. قال: فيختلف في الثلاثة المتقدمين، وفي هؤلاء الذين كتبنا بعدهم.

حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثني مصعب بن ثابت، قال: حدثنا أبو الأسود محمد بن عبد الرحمن بن الأسود بن نوفل، قال: كان إسلام الزبير بعد أبي بكر، كان رابعاً أو خامسااً.
وأما ابن إسحاق، فإنه ذكر أن خالد بن سعيد بن العاص وامرأته أمينة بنت خلف بن أسعد بن عامر بن بياضة، من خزاعة، أسلما بعد جماعة كثيرة غير الذين ذكرتهم بأسمائهم؛ أنهم كانوا من السابقين إلى الإسلام.
ثم إن الله عز وجل أمر نبيه محمد صلى الله عليه وسلم بعد مبعثه بثلاث سنين أن يصدع بما جاءه منه، وأن يبادي الناس بأمره، ويدعوا إليه، فقال له: " فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين " وكان قبل ذلك - في السنين الثلاث من مبعثه؛ إلى أن أمر بإظهار الدعاء إلى الله - مستسراً مخفياً أمره صلى الله عليه وسلم، وأنزل عليه: " وأنذر عشيرتك الأقربين، واخفض جناحك لمن تبعك من المؤمنين، فإن عصوك فقل إني برىءٌ مما تعلمون " ، قال: وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلوا ذهبوا إلى الشعاب، فاستخفوا من قومهم؛ فبينا سعد بن أبي وقاص في نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في شعب من شعاب مكة إذ ظهر عليهم نفر من المشركين وهم يصلون، فناكروهم وعابوا عليهم ما يصنعون؛ حتى قاتلوهم، فاقتتلوا، فضرب سعد بن أبي وقاص يومئذ رجلاً من المشركين بلحى جملٍ فشجه، فكان أول دم أهريق في الإسلام.
فحدثنا أبو كريب وأبو السائب، قالا: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم الصفا، فقال: ياصباحاه ! فاجتمعت إليه قريش، فقالوا: مالك ؟ قال: أرأيت إن أخبرتكم أن العدو مصبحكم أو ممسيكم، أما كنتم تصدقونني ! قالوا: بلى؛ قال: فإني نذير لكم بين يدي عذابٍ شديد. فقال أبو لهب: تباً لك ! ألهذا دعوتنا - أو جمعتنا ! فأنزل الله عز وجل: " تبت يدا أبي لهبٍ وتب " إلى آخر السورة.
حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا أبو أسامة، عن الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن سعد بن جبير، عن ابن عباس، قال: لما نزلت هذه الآية: " وأنذر عشيرتك الأقربين " ، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى صعد الصفا، فهتف يا صباحاه ! فقالوا: من هذا الذي يهتف ؟ قالوا: محمد، فقال: يابنى فلان، يا بنى عبد المطلب، يا بنى عبد مناف ! فاجتمعوا إليه، فقال: أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلاً تخرج بسفح هذا الجبل، أكنتم مصدقي ؟ قالوا: ما جربنا عليك كذباً، قال: فإني نذيرٌ لكم بين يدي عذابٍ شديد. فقال أبو لهب: تباً لك ! ما جمعتنا إلا لهذا ! ثم قام، فنزلت هذه السورة: " تبت يدا أبي لهبٍ وتب " إلى آخر السورة.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن عبد الغفار بن القاسم، عن المنهال بن عمرو، عن عبد الله ابن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب، عن عبد الله بن عباس، عن علي بن أبي طالب، قال: لما نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم: " وأنذر عشيرتك الأقربين " ، دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي: يا علي، إن الله أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين، فضقت بذلك ذرعاً، وعرفت أنى متى أباديهم بهذا الأمر أرى منهم ما أكره، فصمت عليه حتى جاءني جبرئيل فقال: يا محمد، إنك إلا تفعل ما تؤمر به يعذبك ربك، فاصنع لنا صاعاً من طعام، واجعل عليه رحل شاة، واملأ لنا عساً من لبن؛ ثم اجمع لي بنى عبد المطلب حتى أكملهم، وأبلغهم ما أمرت به، ففعلت ما أمرني به. ثد دعوتهم له؛ وهم يومئذ أربعون رجلاً، يزيدون رجلاً أو ينقصونه؛ فيهم أعمامه:أبو طالب وحمزة والعباس وأبو لهب؛ فلما اجتمعوا إليه دعاني بالطعام الذي صنعت لهم، فجئت به، فلما وضعته تناول رسول الله صلى الله عليه وسلم حذيةً من اللحم، فشقها بأسنانه، ثم ألقاها في نواحي الصفحة. ثم قال: خذوا بسم الله، فأكل القوم حتى ما لهم بشيء حاجة وما أرى إلا موضع أيديهم، وايم الله الذي نفس علي بيده؛ وإن كان الرجل الواحد منهم ليأكل ما قدمت لجميعهم. ثم قال: اسق القوم، فجئتهم بذلك العس، فشربوا منه حتى رووا منه جميعاً، وايم الله إن كان الرجل الواحد منهم ليشرب مثله، فلما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكلمهم بدره أبو لهب إلى الكلام، فقال: لهدما سحركم صاحبكم ! فتفرق القوم ولم يكلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: الغد يا علي؛ إن هذا الرجل سبقني إلى ما قد سمعت من القول، فتفرق القوم قبل أن أكلمهم، فعد لنا من الطعام بمثل ما صنعت، ثم اجمعهم إلي.
قال: ففعلت، ثم جمعتهم ثم دعاني بالطعام فقربته لهم، ففعل كما فعل بالأمس، فأكلوا حتى مالهم بشيء حاجة. ثم قال: اسقهم، فجئتهم بذلك العس، فشربوا حتى رووا منه جميعاً، ثم تكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا بنى عبد المطلب؛ إنى والله ما أعلم شاباً في العرب جاء قومه بأفضل مما قد جئتكم به؛ إنى قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة، وقد أمرني الله تعالى أن أدعوكم إليه، فأيكم يؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيتي وخلفتي فيكم ؟ قال: فأحجم القوم عنها جميعاً، وقلت: وإنى لأحدثهم سناً، وأرمصهم عيناً، وأعظمهم بطناً، وأحمشهم ساقاً؛ أنا يا نبي الله، أكون وزيرك عليه. فأخذ برقبتي، ثم قال: إن هذا أخي ووصى ووخليفتي فيكم، فاسمعوا له وأطيعوا. قال: فقام القوم يضحكون، ويقولون لأبي طالب: قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع.
حدثني زكرياء بن يحيى الضرير، قال: حدثنا عفان بن مسلم، قال: حدثنا أبو عوانة، عن عثمان بن المغيرة، عن أبي صادق، عن ربيعة بن ناجد، أن رجلاً قال لعلي عليه السلام: يا أمير المؤمنين، بم ورثت ابن عمك دون عمك ؟ فقال علي: هاؤم ! ثلاث مرات؛ حتى اشرأب الناس، ونشروا آذانهم. ثم قال: جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم - أو دعا رسول الله - بنى عبد المطلب منهم رهطه، كلهم يأكل الجذعة ويشرب الفرق، قال: فصنع لهم مداً من طعام، فأكلوا حتى شبعوا وبقى الطعام كما هو؛ كأنه لم يمس. قال: ثم دعا بغمر فشربوا حتى رووا وبقى الشراب كأنه لم يمس ولم يشربوا. قال: ثم قال: يا بنى عبد المطلب، إنى بعثت إليكم بخاصة وإلى الناس بعامة، وقد رأيتم من هذا الأمر ما قد رأيتم، فأيكم يبايعني على أن يكون أخى وصاحبي ووارثي ؟ فلم يقم إليه أحدٌ، فقمت إليه - وكنت أصغر القوم - قال: فقال: اجلس، قال: ثم قال ثلاث مرات، كل ذلك أقوم إليه، فيقول لي: اجلس، حتى كان في الثالثة، فضرب بيده على يدي، قال: فبذلك ورثت ابن عمي دون عمي.
فحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، حدثنا محمد بن إسحاق، عن عمرو بن عبيد، عن الحسن بن أبي الحسن، قال: لما نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم: " وأنذر عشيرتك الأقربين " ، قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأبطح، ثم قال: يا بنى عبد المطلب، يا بنى عبد مناف، يا بنى قصي - قال: ثم فخذ قريشاً قبيلة قبيلة، حتى مر على آخرهم - إنى أدعوكم إلى الله وأنذركم عذابه.

حدثنا الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثنا جارية بن أبي عمران، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصدع بما جاءه من عند الله، وأن يبادي الناس بأمره، وأن يدعوهم إلى الله، فكان يدعو من أول ما نزلت عليه النبوة ثلاث سنين، مستخفياً، إلى أن أمر بالظهور للدعاء.
قال ابن إسحاق - فيما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عنه: فصدع رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمر الله، وبادى قومه بالإسلام، فلما فعل ذلك لم يبعد منه قومه، ولم يردوا عليه بعض الرد - فيما بلغني - حتى ذكر آلهتهم وعابها، فلما فعل ذلك ناكروه وأجمعوا على خلافه وعداوته إلا من عصم الله منهم بالإسلام؛ وهم قليل مستخفون، وحدب عليه أبو طالب عمه ومنعه، وقام دونه، ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمر الله مظهراً لأمره، لا يرده عنه شيء.
فلما رأت قريش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعتبهم من شيء يكرهونه مما أنكروه عليه من فراقهم وعيب آلهتهم، ورأوا أن أبا طالب قد حدب عليه، وقام دونه فلم يسلمه لهم، مشى رجالٌ من أشراف قريش إلى أبي طالب: عتبة ابن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو البختري بن هشام، والأسود بن المطلب، والوليد بن المغيرة، وأبو جهل بن هشام، والعاص بن وائل، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج - أو من مشى إليه منهم - فقالوا: يا أبا طالب، إن ابن أخيك قد سب آلهتنا، وعاب ديننا، وسفه أحلامنا، وضلل آباءنا؛ فإما أن تكفه عنا، وإما أن تخلي بيننا وبينه؛ فإنك على مثل ما نحن عليه من خلافه، فنكفيكه. فقال لهم أبو طالب قولاً رفيقاً، وردهم رداً جميلاً، فانصرفوا عنه، ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما هو عليه؛ يظهر دين الله، ويدعو إليه.
قال: ثم شرى الأمر بينه وبينهم حتى تباعد الرجال، وتضاغنوا، وأكثرت قريش ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بينها، وتذامروا فيه، وحض بعضهم بعضاً عليه. ثم إنهم مشوا إلى أبي طالب مرة أخرى، فقالوا: يا أبا طالب، إن لك سناً وشرفاً ومنزلة فينا، وإنا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه عنا، وإنا والله لا نصبر على هذا من شتم آبائنا؛ وتسفيه أحلامنا، وعيب آلهتنا حتى تكفه عنا أو تنازله وإياك في ذلك؛ حتى يهلك أحد الفريقين - أو كما قالوا. ثم انصرفوا عنه، فعظم على أبي طالب فراق قومه وعداوتهم له؛ ولم يطب نفساً بإسلام رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم ولا خذلانه.
حدثني محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن المفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السدي: أن ناساً من قريش اجتمعوا، فيهم أبو جهل ابن هشام، والعاص بن وائل، والأسود بن المطلب، والأسود بن عبد يغوث؛ في نفرٍ من مشيخة قريش، فقال بعضهم لبعض: انطلقوا بنا إلى أبي طالب فنكلمه فيه فلينصفنا منه، فيأمره فليكف عن شتم آلهتنا، وندعه وإلهه الذي يعبد؛ فإنا نخاف أن يموت هذا الشيخ فيكون منا شيء فتعيرنا العرب؛ يقولون: تركوه، حتى إذا مات عمه تناولوه.
قال: فبعثوا رجلاً منهم يدعى المطلب، فاستأذن لهم على أبي طالب، فقال: هؤلاء مشيخة قومك وسرواتهم، يستأذنون عليك، قال: أدخلهم؛ فلما دخلوا عليه، قالوا: يا أبا طالب ، أنت كبيرنا وسيدنا، فأنصفنا من ابن أخيك، فمره فليكف عن شتم آلهتنا، وندعه وإلهه.
قال: فبعث إليه أبو طالب، فلما دخل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يا بن أخي، هؤلاء مشيخة قومك وسرواتهم، وقد سألوك النصف، أن تكف عن شتم آلهتهم ويدعوك وإلهك. قال: أي عم، أولا أدعوهم إلى ما هو خير لهم منها ؟ قال: وإلام تدعوهم ؟ قال: أدعوهم إلى أن يتكلموا بكلمةٍ تدين لهم العرب ، ويملكون بها العرب ، ويملكون بها العجم . قال : فقال أبو جهل من بين القوم: ما هي وأبيك ؟ لنعطينكها وعشراً أمثالها. قال: تقول: لا إله إلا الله، قال: فنفروا وتفرقوا وقالوا: سلنا غيره هذه ، فقال : لو جئتموني بالشمس حتى تضعوها في يدي ما سألتكم غيرها ! قال: فغضبوا وقاموا من عنده غضابى، وقالوا: والله لنشتمنك وإلهك الذي يأمرك بهذا، " وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم إن هذا لشيءٌ يراد " ، إلى قوله: " إلا اختلاقٌ " .

وأقبل على عمه فقال له عمه: يا بن أخي، ما شططت عليهم، فأٌقبل على عمه فدعاه، فقال: قل كلمة أشهد لك بها يوم القيامة، تقول: لا إله إلا الله، فقال: لو لا أن تعيبكم بها العرب، يقولون: جزع من الموت لأعطيتكها؛ ولكن على ملة الأشياخ، قال: فنزلت هذه الآية: " إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء " .
حدثنا أبو كريب وابن وكيع، قالا: حدثنا أبو أسامة، قال: حدثنا الأعمش، قال: حدثنا عباد، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: لما مرض أبو طالب، دخل عليه رهطٌ من قريش، فيهم أبو جهل، فقال: إن ابن أخيك يشتم آلهتنا، ويفعل ويفعل؛ ويقول ويقول، فلو بعثت إليه فنهيته ! فبعث إليه، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم، فدخل البيت وبينهم وبين أبي طالب قدر مجلس رجل، قال: فخشى أبو جهل إن جلس إلى جنب أبي طالب أن يكون أرق له عليه، فوثب فجلس في ذلك المجلس ولم يجد رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلساً قرب عمه، فجلس عند الباب، فقال له أبو طالب: أي ابن أخي ! ما بال قومك يشكونك، يزعمون أنك تشتم آلهتهم وتقول وتقول ! قال: وأكثروا عليه من القول، وتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا عم، إني أريدهم على كلمة واحدة يقولونها، تدين لهم بها عند العرب، وتؤدي إليهم بها العجم الجزية. ففزعوا لكلمته ولقوله؛ فقال القوم كلمة واحدة: نعم وأبيك عشراً. فما هي. فقال أبو طالب: وأي كلمة هي يا بن أخي ؟ قال: لا إله إلا الله، قال: فقاموا فزعين ينفضون ثيابهم، وهم يقولون: " أجعل الآلهة إلهاً واحداً إن هذا لشيءٌ عجابٌ " . قال: ونزلت من هذا الموضع إلى قوله: " لما يذقوا عذاب " . لفظ الحديث لأبي كريب.
رجع الحديث إلى حديث ابن إسحاق. فحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: فحدثني يعقوب ابن عتبة بن المغيرة بن الأخنس، أنه حدث أن قريشاً حين قالت لأبي طالب هذه المقالة، بعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له: يا بن أخي، إن قومك قد جاءوني فقالوا لي كذا وكذا، فأبق على وعلى نفسك ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق ! فظن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قد بدا لعمه فيه بداء، وأنه خاذله ومسلمه، وأنه قد ضعف عن نصرته والقيام معه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عماه، لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته. ثم استعبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبكى ثم قام، فلما ولى ناداه أبو طالب، فقال: أقبل يا بن أخي، فأقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: اذهب يا بن أخي، فقل ما أحببت فوالله لا أسلمك لشيء أبداً.
قال: ثم إن قريشاً لما عرفت أن أبا طالب أبى خذلان رسول الله صلى الله عليه وسلم وإسلامه وإجماعه لفراقهم في ذلك، وعداوتهم، مشوا إليه بعمارة بن الوليد بن المغيرة، فقالوا له - فيما بلغني: يا أبا طالب، هذا عمارة ابن الوليد أنهد فتى في قريش وأشعره وأجمله، فخذه فلك عقله ونصرته، واتخذه ولداً؛ فهو لك، وأسلم لنا ابن أخيك - هذا الذي قد خالف دينك ودين آبائك، وفرق جماعة قومك وسفه أحلامهم - فنقتله؛ فإنما رجلٌ كرجل؛ فقال: والله لبئس ما تسومونني ! أتعطونني ابنكم أغذوه لكم، وأعطيكم ابني تقتلونه ! هذا والله ما لا يكون أبداً. فقال المطعم ابن عدي بن نوفل بن عبد ماف: والله يا أبا طالب، لقد أنصفك قومك، وجهدوا على التخلص مما تكرهه، فما أراك تريد أن تقبل منهم شيئاً، فقال أبو طالب للمطعم: والله ما أنصفوني، ولكنك قد أجمعت خذلاني ومظاهرة القوم علي، فاصنع ما بدا لك ! أو كما قال أبو طالب.
قال: فحقب الأمر عند ذلك، وحميت الحرب، وتنابذ القوم، وبادى بعضهم بعضاً.

قال: ثم إن قريشاً تذامروا على من في القبائل منهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين أسلموا معه. فوثبت كل قبيلةٍ على من فيها من المسلمين يعذبونهم ويفتنونهم عن دينهم، ومنع الله رسوله منهم بعمه أبي طالب، وقد قام أبو طالب حين رأى قريشاً تصنع ما تصنع في بني هاشم وبني عبد المطلب، فدعاهم إلى ما هو عليه من منع رسول الله صلى الله عليه وسلم، والقيام دونه. فاجتمعوا إليه، وقاموا معه، وأجابوا إلى ما دعاهم إليه من الدفع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا ما كان من أبي لهب؛ فلما رأى أبو طالب من قومه ما سره من جدهم معه؛ وحدبهم عليه، جعل يمدحهم، ويذكر فضل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم؛ ومكانه منهم ليشد لهم رأيهم.
حدثنا علي بن نصر بن علي الجهضمي، وعبد الوارث بن عبد الصمد ابن عبد الوارث - قال علي بن نصر: حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث، وقال عبد الوارث: حدثني أبي - قال: حدثنا أبان العطار، قال: حدثنا هشام بن عروة، عن عروة، أنه كتب إلى عبد الملك بن مروان: أما بعد، فإنه - يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم - لما دعا قومه لما بعثه الله من الهدى والنور الذي أنزل عليه، لم يبعدوا منه أول ما دعاهم، وكادوا يسمعون له؛ حتى ذكر طواغيتهم. وقدم ناس من الطائف من قريش لهم أموال، أنكروا ذلك عليه، واشتدوا عليه، وكرهوا ما قال لهم، وأغروا به من أطاعهم، فانصفق عنه عامة الناس، فتركوه إلا من حفظه الله منهم؛ وهم قليل؛ فمكث بذلك ما قدر الله أن يمكث. ثم ائتمرت رءوسهم بأن يفتنوا من تبعه عن دين الله من أبنائهم وإخوانهم وقبائلهم، فكانت فتنة شديدة الزلزال على من اتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل الإسلام؛ فافتتن من افتتن، وعصم الله منهم من شاء، فلما فعل ذلك بالمسلمين، أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخرجوا إلى أرض الحبشة - وكان بالحبشة ملكٌ صالح يقال له النجاشي، لا يظلم أحدٌ بأرضه، وكان يثني عليه مع ذلك صلاح، وكانت أرض الحبشة متجراً لقريش يتجرون فيها، يجدون فيها رفاغاً من الرزق، وأمناً ومتجراً حسناً - فأمرهم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فذهب إليها عامتهم لما قهروا بمكة، وخاف عليهم الفتن، ومكث هو فلم يبرح، فمكث بذلك سنوات؛ يشتدون على من أسلم منهم.
ثم إنه فشا الإسلام فيها، ودخل فيه رجال من أشرافهم.
قال: أبو جعفر: فاختلف في عدد من خرج إلى أرض الحبشة، وهاجر إليها هذه الهجرة، وهي الهجرة الأولى.
فقال بعضهم: كانوا أحد عشر رجلاً وأربع نسوة.
ذكر من قال ذلك: حدثنا الحارث: قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثنا يونس بن محمد الظفري، عن أبيه، عن رجل من قومه.
قال: وأخبرنا عبيد الله بن العباس الهذلي، عن الحارث بن الفضيل؛ قالا: خرج الذين هاجروا الهجرة الأولى متسللين سراً، وكانوا أحد عشر رجلاً وأربع نسوة، حتى انتهوا إلى الشعيبة، منهم الراكب والماشي، ووفق الله للمسلمين ساعة جاءوا سفنتين للتجار حملوهم فيهما إلى أرض الحبشة بنصف دينار، وكان مخرجهم في رجب في السنة الخامسة، من حين نبىء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخرجت قريش في آثارهم حتى جاءوا البحر؛ حيث ركبوا فلم يدركوا منهم أحداً.
قالوا: وقدمنا أرض الحبشة، فجاورنا بها خير جارٍ؛ أمنا على ديننا، وعبدنا الله، لا نؤذي ولا نسمع شيئاً نكرهه.

حدثني الحارث، قال: حدثنا محمد بن سعد، قال: أخبرنا محمد ابن عمر، قال: حدثني يونس بن محمد، عن أبيه، قال: وحدثني عبد الحميد، عن محمد بن يحيى بن حبان؛ قالا: تسمية القوم الرجال والنساء: عثمان بن عفان معه امرأته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة معه امرأته سهلة بنت سهيل ابن عمرو، والزبير بن العوام بن خويلد بن أسد، ومصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار، وعبد الرحمن بن عوف بن عبد عوف ابن الحارث بن زهرة، وأبو سلمة بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر ابن مخزوم؛ معه امرأته أم سلمة بنت أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر ابن مخزوم، وعثمان بن مظعون الجمحي ، وعامر بن ربيعة العنزي، من عنز بن وائل - ليس من عنزة - حليف بنى عدي بن كعب، معه امرأته ليلى بنت أبي حثمة، وأبو سبرة بن أبي رهم بن عبد العزى العامري، وحاطب بن عمرو بن عبد شمس، وسهيل بن بيضاء، من بنى الحارث بن فهر، وعبد الله بن مسعود حليف بنى زهرة.
قال أبو جعفر: وقال آخرون: كان الذين لحقوا بأرض الحبشة، وهاجروا إليها من المسلمين - سوى أبنائهم الذين خرجوا بهم صغاراً وولدوا بها - اثنين وثمانين رجلا؛ إن كان عمار بن ياسر فيهم؛ وهو يشك فيه ! ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يصيب أصحابه من البلاء، وما هو فيه من العافية بمكانه من الله وعمه أبي طالب، وأنه لا يقدر على أن يمنعهم مما هم فيه من البلاء، قال لهم: لو خرجتم إلى أرض الحبشة ! فإن بها ملكاً لا يظلم أحدٌ عنده، وهي أرض صدق؛ حتى يجعل الله لكم فرجاً مما أنتم فيه ! فخرج عند ذلك المسلمون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أرض الحبشة مخافة الفتنة؛ وفراراً إلى الله عز وجل بدينهم؛ فكانت أول هجرة كانت في الإسلام؛ فكان أول من خرج من المسلمين من بنى أمية بن عبد شمس بن عبد مناف عثمان بن عفان بن أبي العاص ابن أمية؛ ومعه امرأته رقية ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن بنى عبد شمس أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف، ومعه امرأته سهلة بنت سهيل بن عمرو؛ أحد بنى عامر بن لؤي ؛، ومن بنى أسد بن عبد العزى بن قصي الزبير بن العوام.
فعد النفر الذين ذكرهم الواقدي؛ غير أنه قال: من بنى عامر بن لؤي ابن غالب بن فهر أبو سبرة بن أبي رهم بن عبد العزى بن أبي قيس بن عبد ود بن نصر بن مالك بن حسل بن عامر بن لؤي، ويقال: بل أبو حاطب بن عمرو بن عبد شمس بن عبد ود بن نصر بن مالك بن حسل ابن عامر بن لؤي. قال: ويقال: هو أول من قدمها، فجعلهم ابن إسحاق عشرة؛ وقال: كان هؤلاء العشرة أول من خرج من المسلمين إلى أرض الحبشة - فيما بلغنى.
قال: ثم خرج جعفر بن أبي طالب، وتتابع المسلمون حتى اجتمعوا بأرض الحبشة؛ فكانوا بها، منهم من خرج بأهله معه، ومنهم من خرج بنفسه لا أهل معه؛ ثم عد بعد ذلك تمام اثنين وثمانين رجلاً؛ بالعشرة الذين ذكرت بأسمائهم؛ ومن كان منهم معه أهله وولده؛ ومن ولد له بأرض الحبشة، ومن كان منهم لا أهل معه.
قال أبو جعفر: ولما خرج من خرج من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أرض الحبشة مهاجراً إليها، ورسول الله صلى الله عليه وسلم مقيمٌ بمكة، يدعو إلى الله سراً وجهراً، قد منعه الله بعمه أبي طالب وبمن استجاب لنصرته من عشيرته، ورأت قريش أنهم لا سبيل لهم إليه، رموه بالسحر والكهانة والجنون؛ وأنه شاعر، وجعلوا يصدون عنه من خافوا منه أن يسمع قوله فيتبعه؛ فكان أشد ما بلغوا منه حينئذٍ - فيما ذكر - ما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن يحيى بن عروة بن الزبير، عن أبيه عروة، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: قلت له: ما أكثر ما رأيت قريشاًُ أصابت من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما كانت تظهر من عداوته ! قال: قد حضرتهم وقد اجتمع أشرافهم يوماً في الحجر، فذكروا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: ما رأينا مثل ما صبرنا عليه من هذا الرجل قط ! سفه أحلامنا، وشتم آباءنا، وعاب ديننا، وفرق جماعتنا، وسب آلهتنا ! لقد صبرنا منه على أمر عظيم - أو كما قالوا.

فبينا هم كذلك إذ طلع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل يمشي حتى استلم الركن، ثم مر بهم طائفاً بالبيت، فلما مر بهم غمزوه ببعض القول. قال: فعرفت ذلك في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم مضى، فلما مر بهم الثانية غمزوه مثلها؛ فعرفت ذلك في وجهه، ثم مضى، ثم مر بهم الثالثة، فغمزوه بمثلها، فوقف فقال: أتسمعون يا معشر قريش ! أما والذي نفس محمد بيده، لقد جئتكم بالذبح ! قال: فأخذت القوم كلمته؛ حتى ما منهم رجلٌ إلا كأنما على رأسه طائر واقع؛ وحتى إن أشدهم فيه وصاةً قبل ذلك ليرفؤه بأحسن ما يجد من القول؛ حتى إنه ليقول: انصرف يا أبا القاسم راشداً، فوالله ما كنت جهولاً ! قال: فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله وسلم؛ حتى إذا كان الغد، اجتمعوا في الحجر، وأنا معهم، فقال بعضهم لبعض: ذكرتم ما بلغ منكم، وما بلغكم عنه؛ حتى إذا باداكم بما تكرهون تركتموه ! فبينا هم كذلك إذ طلع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوثبوا إليه وثبة رجل واحد، وأحاطوا به يقولون له: أنت الذي تقول كذا وكذا ! لما يبلغهم من عيب آلهتهم ودينهم؛ فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم أنا الذي أقول ذلك؛ قال: فلقد رأيت رجلاً منهم آخذاً بجمع ردائه. قال: وقام أبو بكر الصديق دونه، يقول وهو يبكي: ويلكم ! أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله ! ثم انصرفوا عنه. فإن ذلك أشد ما رأيت قريشاً بلغت منه قط.
حدثنا يونس بن عبد الأعلى، قال: حدثنا بشر بن بكر، قال: حدثنا الأوزاعي، قال: حدثنا يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، قال: قلت لعبد الله بن عمرو: حدثني بأشد شيء رأيت المشركين صنعوا برسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: أقبل عقبة بن أبي معيط ورسول الله صلى الله عليه وسلم عند الكعبة، فلوى ثوبه في عنقه، وخنقه خنقاً شديداً ، فقام أبو بكر من خلفه، فوضع يده على منكبه، فدفعه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال أبو بكر: يا قوم: " أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله " إلى قوله: " إن الله لا يهدي من هو مسرفٌ كذابٌ " " .
قال ابن إسحاق: وحدثني رجل من أسلم كان واعيةً، أن أبا جهل ابن هشام مر برسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو جالس عند الصفا، فآذاه وشتمه، ونال منه بعض ما يكره من العيب لدينه والتضعيف له، فلم يكلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومولاةٌ لعبد الله بن جدعان التيمي في مسكن لها فوق الصفا تسمع ذلك. ثم انصرف عنه، فعمد إلى نادى قريش عند الكعبة، فجلس معهم فلم يلبث حمزة بن عبد المطلب أن أقبل متوشحاً قوسه، راجعاً من قنص له - وكان صاحب قنص يرميه ويخرج له، وكان إذا رجع من قنصه لم يصل إلى أهله حتى يطوف بالكعبة، وكان إذا فعل ذلك لم يمر على ناد من قريش إلا وقف وسلم وتحدث معهم، وكان أعز قريش وأشدها شكيمة - فلما مر بالمولاة وقد قام رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجع إلى بيته، قالت: يا أبا عمارة، لو رأيت ما لقى ابن أخيك محمد آنفاً قبل أن تأتي من أبي الحكم بن هشام ! وجده هاهنا جالساً فسبه وآذاه، وبلغ منه ما يكره، ثم انصرف عنه ولم يكلمه محمد.
قال: فاحتمل حمزة الغضب لما أراد الله به من كرامته، فخرج سريعاً - لا يقف على أحد كما كان يصنع - يريد الطواف بالكعبة، معداً لأبي جهل إذا لقيه أن يقع به، فلما دخل المسجد نظر إليه جالساً في القوم، فأقبل نحوه؛ حتى إذا قام على رأسه، رفع القوس فضربه بها ضبة فشجه بها شجةً منكرة، وقال: أتشتمه وأنا على دينه أقول ما يقول ! فرد ذلك علي إن استطعت ! وقامت رجال بنى مخزوم إلى حمزة لينصروا أبا جهل منه، فقال أبو جهل: دعوا أبا عمارة، فإنى والله لقد سببت ابن أخيه سباً قبيحاً.
وتم حمزة على إسلامه، فلما أسلم حمزة عرفت قريش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عز، وأن حمزة سيمنعه، فكفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض ما كانوا ينالون منه.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: حدثني يحيى بن عروة بن الزبير، عن أبيه، قال: كان أول من جهر بالقرآن بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة عبد الله بن مسعود، قال: اجتمع يوماً أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: والله ما سمعت قريشٌ بهذا القرآن يجهر لها به قط، فمن رجل يسمعهموه ؟ فقال عبد الله ابن مسعود: أنا، قالوا: إنا نخشاهم عليك؛ إنما نريد رجلاً له عشيرة يمنعونه من القوم إن أرادوه، فقال: دعوني، فإن الله سيمنعني، قال: فغدا ابن مسعود حتى أتى المقام في الضحى، وقريش في أنديتها، حتى قام عند المقام ثم قال: " بسم الله الرحمن الرحيم " - رافعاً بها صوته - " الرحمن، علم القرآن، خلق الإنسان، علمه البيان " ، قال: ثم استقبلها يقرأ فيها، قال: وتأملوا وجعلوا يقولون: ما يقول ابن أم عبد ! ثم قالوا: إنه ليتلو بعض ما جاء به محمد. فقاموا إليه، فجعلوا يضربون في وجهه، وجعل يقرأ حتى بلغ منها ما شاء الله أن يبلغ.
ثم انصرف إلى أصحابه، وقد أثروا بوجهه، فقالوا: هذا الذي خشينا عليك ! قال: ما كان أعداء الله أهون علي منهم الآن ! لئن شئتم لأغادينهم غداً بمثلها، قالوا: لا حسبك، فقد أسمعتهم ما يكرهون.
قال أبو جعفر: ولما استقر بالذين هاجروا إلى أرض الحبشة القرار بأرض النجاشي واطمأنوا، تآمرت قريشٌ فيما بينها في الكيد بمن ضوى إليها من المسلمين، فوجهوا عمرو بن العاص، وعبد الله بن أبي ربيعة بن المغيرة المخزومي إلى النجاشي، مع هدايا كثيرة أهدوها إليه وإلى بطارقته، وأمروهما أن يسألا النجاشي تسليم من قبله وبأرضه من المسلمين إليهم. فشخص عمرو وعبد الله إليه في ذلك، فنفذا لما أرسلهما إليه قومهما، فلم يصلا إلى ما أمل قومهما من النجاشي، فرجعا مقبوحين، وأسلم عمر بن الخطاب رحمه الله، فلما أسلم - وكان رجلاً جلداً جليداً منيعاً، وكان قد أسلم قبل ذلك حمزة ابن عبد المطلب، ووجد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في أنفسهم قوةً، وجعل الإسلام يفشو في القبائل، وحمى النجاشي من ضوى إلى بلده منهم - اجتمعت قريش، فائتمرت بينها: أن يكتبوا بينهم كتاباً يتعاقدون فيه؛ على ألا ينحكوا إلى بني هاشم وبني عبد الطلب، ولا ينكحوهم ولا يبيعوهم شيئاً، ولا يبتاعوا منهم، فكتبوا بذلك صحيفة، وتعاهدوا وتواثقوا على ذلك، ثم علقوا الصحيفة في جوف الكعبة، توكيداً بذلك الأمر على أنفسهم، فلما فعلت ذلك قريش، انحازت بنو هاشم وبنو المطلب إلى أبي طالب، فدخلوا معه في شعبه، واجتمعوا إليه، وخرج من بني هاشم أبو لهب عبد العزى بن عبد المطلب إلى قريش، وظاهرهم عليه، فأقاموا على ذلك من أمرهم سنتين أو ثلاثاً؛ حتى جهدوا ألا يصل إلى أحد منهم شيء إلا سراً، مستخفياً به من أراد صلتهم من قريش. وذكر أن أبا جهل لقي حكيم بن حزام بن خويلد بن أسد، معه غلام يحمل قمحاً يريد به عمته خديجة بنت خويلد، وهي عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه في الشعب، فتعلق به، وقال: أتذهب بالطعام إلى بني هاشم ! والله لا تبرح أنت وطعامك حتى أفضحك بمكة ! فجاء أبو البختري بن هشام بن الحارث ابن أسد، فقال: مالك وله ! قال: يحمل الطعام إلى بني هاشم، فقال له أبو البختري: طعامٌ لعمته عنده بعثت إليه فيه، أفتمنعه أن يأتيها بطعامها ! خل سبيل الرجل. فأبى أبو جهل حتى نال أحدهما من صاحبه، فأخذ أبو البختري لحى بعير، فضربه فشجه، ووطئه وطئاً شديداً، وحمزة ابن عبد المطلب قريبٌ يرى ذلك، وهم يكرهون أن يبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فيشمتوا بهم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في كل ذلك، يدعو قومه سراً وجهراً، آناء الليل وآناء النهار، والوحي عليه من الله متتابعٌ بأمره ونهيه، ووعيد من ناصبه العداوة، والحجج لرسول الله صلى الله عليه وسلم على من خالفه.

فذكر أن أشراف قومه اجتمعوا له يوماً - فيما حدثني محمد بن موسى الحرشي، قال: حدثنا أبو خلف عبد الله بن عيسى، قال: حدثنا داود، عن عكرمة، عن ابن عباس؛ أن قريشاً وعدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعطوه مالاً فيكون أغنى رجل بمكة، ويزوجوه ما أراد من النساء، ويطئوا عقبه، فقالوا: هذا لك عندنا يا محمد، وكف عن شتم آلهتنا فلا تذكرها بسوء؛ فإن لم تفعل فإنا نعرض عليك خصلة واحدة فهي لك ولنا فيها صلاح. قال: ما هي ؟ قالوا: تعبد آلهتنا سنةً؛ اللات والعزى، ونعبد إلهك سنة، قال: حتى أنظر ما يأتي من عند ربي ! فجاء الوحي من اللوح المحفوظ: " قل يأيها الكافرون، لا أعبد ما تعبدون " السورة وأنزل الله عز وجل: " قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون " إلى قوله: " بل الله فاعبد و كن من الشاكرين " .
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن علية، عن محمد بن إسحاق، قال: حدثني سعيد بن ميناء، مولى أبي البختري، قال: لقي الوليد بن المغيرة والعاص بن وائل والأسود بن المطلب وأمية بن خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا محمد، هلم فلنعبد ما تعبد، وتعبد ما نعبد، ونشركك في أمرنا كله، فإن كان الذي جئت به خيراً مما في أيدينا، كنا قد شركناك فيه، وأخذنا بحظنا منه؛ وإن كان الذي بأيدينا خيراً مما في يدك، كنت قد شركتنا في أمرنا، وأخذت بحظك منه. فأنزل الله عز وجل: " قل يأيها الكافرون " ؛ حتى انقضت السورة.

فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم حريصاً على صلاح قومه، محباً مقاربتهم بما وجد إليه السبيل، قد ذكر أنه تمنى السبيل إلى مقارنتهم، فكان من أمره في ذلك ما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن يزيد بن زياد المدني، عن محمد بن كعب القرظي، قال: لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم تولى قومه عنه، وشق عليه ما يرى من مباعدتهم ما جاءهم به من الله، تمنى في نفسه أن يأتيه من الله ما يقارب بينه وبين قومه، وكان يسره مع حبه لقومه، وحرصه عليهم أن يلين له بعض ما قد غلظ عليه من أمرهم؛ حتى حدث بذلك نفسه، وتمناه وأحبه، فأنزل الله عز وجل: " والنجم إذا هوى، ما ضل صاحبكم وما غوى، وما ينطق عن الهوى " ، فلما انتهى إلى قوله: " أفرأيتم اللات والعزى، مناة الثالثة الأخرى " ، ألقى الشيطان على لسانه، لما كان يحدث به نفسه، ويتمنى أن يأتي به قومه: " تلك الغرانيق العلا، وإن شفاعتهن لترتجى " ؛ فلما سمعت ذلك قريش فرحوا، وسرهم وأعجبهم ما ذكر به آلهتهم، فأصاخوا له - والمؤمنون مصدقون نبيهم فيما جاءهم به عن ربهم، ولا يتهمونه على خطإ ولا وهم زلل - فلما انتهى إلى السجدة منها وختم السورة سجد فيها، فسجد المسلمون بسجود نبيهم، تصديقاً لما جاء به، واتباعاً لأمره، وسجد من في المسجد من المشركين من قريش وغيرهم، لما سمعوا من ذكر آلهتهم، فلم يبق في المسجد مؤمن ولا كافر إلا سجد، إلا الوليد بن المغيرة، فإنه كان شيخاً كبيراً، فلم يستطع السجود، فأخذ بيده حفنة من البطحاء فسجد عليها، ثم تفرق الناس من المسجد، وخرجت قريش، وقد سرهم ما سمعوا من ذكر آلهتهم، يقولون: قد ذكر محمد آلهتنا بآحسن الذكر، قد زعم فيما يتلو: " أنها الغرانيق العلا، وأن شفاعتهن ترتضى " وبلغت السجدة من بأرض الحبشة من أصحاب رسول الله صلى اللهه عليه وسلم؛ وقيل: أسلمت قريش، فنهض منهم رجال، وتخلف آخرون، وأتى جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا محمد، ماذا صنعت ! لقد تلوت على الناس ما لم آتك به عن الله عز وجل، وقلت ما لم يقل لك ! فحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك حزناً شديداً، وخاف من الله خوفاً كثيراً، فأنزل الله عز وجل - وكان به رحيماً - يعزيه ويخفض عليه الأمر، ويخبره أنه لم يك قبله نبي ولا رسول تمنى كما تمنى، ولا أحب كما أحب إلا والشيطان قد ألقى في أمنيته، كما ألقى على لسانه صلى الله عليه وسلم، فنسخ الله ما ألقى الشيطان وأحكم آياته؛ أي فإنما أنت كبعض الأنبياء والرسل، فأنزل الله عز وجل: " وما أرسلنا من قبلك رسولٍ ولا نبيٍ إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم آياته والله عليمٌ حكيمٌ " ، فأذهب الله عز وجل عن نبيه الحزن، وآمنه من الذي كان يخاف، ونسخ ما ألقى الشيطان على لسانه من ذكر آلهتهم: " أنها الغرانيق العلا وأن شفاعتهن ترتضى " ، بقول الله عز وجل حين ذكر اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى: " ألكم الذكر وله الأنثى، تلك إذاً قسمة ضيزى " أي عوجاء، " إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم " - إلى قوله - " لمن يشاء ويرضى " ، أي فكيف تنفع شفاعة آلهتكم عنده ! فلما جاء من الله ما نسخ ما كان الشيطان ألقى على لسان نبيه، قالت قريش: ندم محمد على ما ذكر من منزلة آلهتكم عند الله، فغير ذلك وجاء بغيره؛ وكان ذانك الحرفان اللذان ألقى الشيطان على لسان رسول الله صلى الله عله وسلم قد وقعا في فم كل مشرك، فازداودا شراً إلى ما كانوا عليه، وشدةً على من أسلم واتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم، وأقبل أولئك النفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم الذين خرجوا من أرض الحبشة لما بلغهم من إسلام أهل مكة، حين سجدوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ حتى إذا دنوا من مكة، بلغهم أن الذي كانوا تحدثوا به من إسلام أهل مكة كان باطلاً، فلم يدخل منهم أحد إلا بجوار، أو مستخفياً، فكان ممن قدم مكة منهم فأقام بها حتى هاجر إلى المدينة، فشهد معه بدراً من بني عبد شمس بن عبد مناف بن قصي، عثمان بن عفان ابن أبي العاص بن أمية، معه امرأته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم، وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس معه امرأته سهلة بنت سهيل، وجماعة أخر معهم، عددهم ثلاثة وثلاثون رجلاً.

حدثني القاسم بن الحسن، قال: حدثنا الحسين بن داود، قال: حدثني حجاج، عن أبي معشر، عن محمد بن كعب القرظي ومحمد بن قيس، قالا: جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم في ناد من أندية قريش، كثير أهله، فتمنى يومئذ ألا يأتيه من الله شيء فينفروا عنه، فأنزل الله عز وجل: " والنجم إذا هوى، ما ضل صاحبكم وما غوى " ، فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا بلغ: " أفرأيتم اللات والعزى، ومناة الثالثة ،الأخرى " ألقى الشيطان عليه كلمتين " تلك الغرانيق العلا، وإن شفاعتهن لترجى " فتكلم بهما، ثم مضى فقرأ السورة كلها، فسجد في آخر السورة، وسجد القوم معه جميعاً، ورفع الوليد بن المغيرة تراباً إلى جبهته، فسجد عليه - وكان شيخاً كبيراً لا يقدر على السجود - فرضوا بما تكلم به، وقالوا: قد عرفنا أن الله يحيى ويميت؛ وهو الذي يخلق ويرزق؛ ولكن آلهتنا هذه تشفع لنا عنده، فإذا جعلت لها نصيباً فنحن معك. قالا: فلما أمسى أتاه جبرئيل عليه السلام، فعرض عليه السورة، فلما بلغ الكلمتين اللتين ألقى الشيطان عليه، قال: ما جئتك بهاتين ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : افتريت على الله، وقلت على الله ما لم يقل، فأوحى الله إليه: " وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره " إلى قوله: " ثم لا تجد لك علينا نصيراً " ؛ فما زال مغموماً مهموماً، حتى نزلت: " وما أرسلنا من قبلك من رسولٍ
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://arabelalekat.yoo7.com
الشيخ عودة
الشيخ عودة
الشيخ عودة



عدد المساهمات : 1748
تاريخ التسجيل : 28/09/2008
العمر : 73

كتاب : تاريخ الرسل والملوك المؤلف : الطبري - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: كتاب : تاريخ الرسل والملوك المؤلف : الطبري   كتاب : تاريخ الرسل والملوك المؤلف : الطبري - صفحة 2 Emptyالسبت ديسمبر 14, 2013 10:25 am

ولما هلك أبو طالب خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف يلتمس من ثقيف النصر والمنعة له من قومه؛ وذكر أنه خرج إليهم وحده؛ فحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثنا ابن إسحاق قال: حدثني يزيد بن زياد، عن محمد بن كعب القرظي، قال: لما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف عمد إلى نفرٍ من ثقيف - هم يومئذ سادة ثقيف وأشرافهم؛ وهم إخوة ثلاثة: عبد ياليل بن عمرو بن عمير، ومسعود ابن عمرو بن عمير، وحبيب بن عمرو بن عمير؛ وعندهم امرأة من قريش من بنى جمح، فجلس إليهم - فدعاهم إلى الله وكلمهم بما جاء لهم من نصرته على الإسلام. والقيام معه على من خالفه من قومه، فقال أحدهم: هو يمرط ثياب الكعبة إن كان الله أرسلك ! وقال الآخر: ما وجد الله أحداً يرسله غيرك ! وقال الثالث: والله لا أكلمك كلمة أبداً؛ لئن كنت رسولاً من الله كما تقول؛ لأنت أعظم خطراً من أن أرد عليك الكلام؛ ولئن كنت تكذب على الله ما ينبغي لي أن أكلمك ! فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من عندهم، وقد يئس من خير ثقيف؛ وقد قال لهم - فيما ذكر لي - : إذ فعلتم ما فعلتم فاكتموا على. وكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبلغ قومه عنه، فيذئرهم ذلك عليه، فلم يفعلوا وأغروا به سفهاءهم وعبيدهم، يسبونه ويصيحون به؛ حتى اجتمع عليه الناس وألجئوه إلى حائط لعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة، وهما فيه، ورجع عنه من سفهاء ثقيف من كان يتبعه، فعمد إلى ظل حبلةٍ من عنب، فجلس فيه، وابنا ربيعة ينظران إليه، ويريان ما لقى من سفهاء ثقيف. وقد لقى رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما ذكر لي - تلك المرأة من بنى جمح، فقال لها: ماذا لقينا من أحمائك ! فلما اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال - فيما ذكر لي: اللهم إليك أشكو صعف قوتي ، وقلة حيلتي ، وهواني على الناس ؛ يا أرحم الراحمين ، أنت رب المستضعفين ، وأنت ربي؛ إلى من تكلني ! إلى بعيد يتجهمني، أو إلى عدو ملكته أمري؛ إن لم يكن بك على غضب فلا أبالي ! ولكن عافيتك هي أوسع لي. أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، من أن ينزل بي غضبك، أو يحل على سخطك، لك العتبى حتى ترضى، لا حول ولا قوة إلا بك.
فلما رأى ابنا ربيعة: عتبة وشيبة ما لقى، تحركت له رحمهما، فدعوا له غلاماً لهما نصرانياً؛ يقال له عدس، فقالا له: خذ قطفاً من هذا العنب وضعه في ذلك الطبق، ثم اذهب به إلى ذلك الرجل، فقل له يأكل منه؛ ففعل عداس، ثم أقبل به حتى وضعه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده، قال: " بسم الله " ، ثم أكل، فنظر عداس إلى وجهه، ثم قال: والله إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلدة، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ومن أهل أي البلاد أنت يا عداس ؟ وما دينك ؟ قال: أنا نصراني، وأنا رجلٌ من أهل نينوى. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمن قرية الرجل الصالح يونس بن متى ؟ قال له: وما يدريك ما يونس بن متى ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذاك أخي، كان نبياً وأنا نبي، فأكب عداس على رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل رأسه ويديه ورجليه، قال: يقول ابنا ربيعة أحدهما لصاحبه: أما غلامك فقد أفسده عليك. فلما جاءهما عداس قالا له: ويلك يا عداس ! مالك تقبل رأس هذا الرجل ويديه وقدميه ! قال: يا سيدي ما في هذه الأرض خيرٌ من هذا الرجل ! لقد أخبرني بأمر لا يعلمه إلا نبيٌ، فقالا: ويحك يا عداس ! لا يصرفنك عن دينك، فإن دينك خيرٌ من دينه.
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف من الطائف راجعاً إلى مكة حين يئس من خبر ثقيف، حتى إذا كان بنخلة، قام من جوف الليل يصلي، فمر به نفرٌ من الجن الذين ذكر الله عز وجل.
قال محمد بن إسحاق: وهم - فيما ذكر لي - سبعة نفر من جن أهل نصيبين اليمن، فاستمعوا له، فلما فرغ من صلاته ولوا إلى قومهم منذرين، قد آمنوا وأجابوا إلى ما سمعوا، فقص الله عز وجل خبرهم عليه: " وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن يستمعون القرآن " - إلى قوله: " ويجركم من عذابٍ أليمٍ " . وقال: " قل أوحى إلي أنه استمع نفرٌ من الجن ... " إلى آخر القصة من خبرهم في هذه السورة.

قال محمد: وتسمية النفر من الجن الذين استمعوا الوحي - فيما بلغني - حسّا، ومسّا، وناصر، واينا الأرد، وأينين، والأحقم.
قال: ثم قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، وقومه أشد ما كانوا عليه من خلافه وفراق دينه، إلا قليلاً مستضعفين ممن آمن به.
وذكر بعضهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما انصرف من الطائف مريداً مكة مر به بعض أهل مكة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل أنت مبلغ عني رسالة أرسلك بها ؟ قال: نعم، قال: ائت الأخنس ابن شريق، فقل له: يقول لك محمد: هل أنت مجيري حتى أبلغ رسالة ربي ؟ قال: فأتاه، فقال له ذلك، فقال الأخنس: إن الحليف لا يجير على الصريح.
قال: فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبره، قال: تعود ؟ قال: نعم، قال: ائت سهيل بن عمرو، فقل له: إن محمداً يقول لك: هل أنت مجيري حتى أبلغ رسالات ربي ؟ فأتاه فقال له ذلك، قال: فقال: إن بني عامر بن لؤي لا تجير على بني كعب. قال: فرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبره، قال: تعود ؟ قال: نعم، قال: ائت المطعم بن عدي، فقل له: إن محمداً يقول لك: هل أنت مجيري حتى أبلغ رسالات ربي ؟ قال: نعم، فليدخل، قال: فرجع الرجل إليه، فأخبره، وأصبح المطعم ابن عدي قد لبس سلاحه هو وبنوه وبنو أخيه، فدخلوا المسجد، فلما رآه أبو جهل، قال: أمجيرٌ أم متابع ؟ قال: بل مجير، قال: فقال: قد أجرنا من أجرت، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة؛ وأقام بها، فدخل يوماً المسجد الحرام والمشركون عند الكعبة، فلما رآه أبو جهل، قال: هذا نبيكم يا بني عبد مناف، قال عتبة بن ربيعة: وما تنكر أن يكون منا نبي أو ملك ! فأخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم - أو سمعه - فأتاهم، فقال: أما أنت يا عتبة بن ربيعة فوالله ما حميت لله ولا لرسوله؛ ولكن حميت لأنفك، وأما أنت ياأبو جهل بن هشام؛ فوالله لا يأتي عليك غير كبير من الدهر حتى تضحك قليلاً وتبكي كثيراً. وأما أنتم يا معشر الملإ من قريش؛ فوالله لا يأتي عليكم غير كبير من الدهر حتى تدخلوا فيما تنكرون، وأنتم كارهون.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه في المواسم - إذا كانت - على قبائل العرب، يدعوهم إلى الله وإلى نصرته، ويخبرهم أنه نبي مرسل، ويسألهم أن يصدقوه ويمنعوه حتى يبين عن الله ما بعثه به. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: حدثني حسين بن عبيد الله بن عبد الله بن عباس، قال: سمعت ربيعة بن عباد يحدث أبي، قال: إني لغلامٌ شابٌ مع أبي بمنىً، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقف على منازل القبائل من العرب، فيقول: يا بني فلان، إني رسول الله إليكم، يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، وأن تخلعوا ما تعبدون من دونه من هذه الأنداد، وأن تؤمنوا بي وتصدقوني وتمنعوني، حتى أبين عن الله ما بعثني به.
قال: وخلفه رجلٌ أحول وضىء، له غديرتان، عليه حلة عدنية، فإذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله، وما دعا إليه، قال الرجل: يا بني فلان، إن هذا إنما يدعوكم إلى أن تسلخوا اللات والعزى من أعناقكم، وحلفاءكم من الجن من بني مالك بن أقيش، إلى ما جاء به من البدعة والضلالة، فلا تطيعوه ولا تسمعوا له.
قال: فقلت لأبي: يا أبت من هذا الرجل الذي يتبعه؛ يرد عليه ما يقول ؟ قال: هذا عمه عبد العزىأبو لهب بن عبد المطلب.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: وحدثني محمد بن إسحاق، قال: حدثنا محمد بن مسلم بن شهاب الزهري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى كنده في منازلهم، وفيهم سيد لهم، يقال له مليح، فدعاهم إلى الله عز وجل، وعرض عليهم نفسه، فأبوا عليه.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: حدثني محمد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن حصين، أنه أتى كلباً في منازلهم إلى بطن منهم يقال لهم بنو عبد الله، فدعاهم إلى الله عز وجل، وعرض عليهم نفسه؛ حتى إنه ليقول لهم: يا بني عبد الله، إن الله قد أحسن اسم أبيكم، فلم يقبلوا منه ما عرض عليهم.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: محمد بن إسحاق: حدثني بعض أصحابنا، عن عبد الله بن كعب بن مالك، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بني حنيفة في منازلهم، فدعاهم إلى الله، وعرض عليهم نفسه، فلم يكن أحدٌ من العرب أقبح رداً عليه منهم.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: قال محمد بن إسحاق: وحدثني محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، أنه أتى بني عامر بن صعصعة، فدعاهم إلى الله، وعرض عليهم نفسه، فقال رجل منهم ،يقال له بيحرة بن فراس: والله لو أني أخذت هذا الفتى من قريش لأكلت به العرب. ثم قال له: أرأيت إن نحن تابعناك على أمرك، ثم أظهرك الله على من خالفك؛ أيكون لنا الأمر من بعدك ؟ قال: الأمر إلى الله يضعه حيث يشاء. قال: فقال له: أفتهدف نحورنا للعرب دونك، فإذا ظهرت كان الأمر لغيرنا ! لا حاجة لنا بأمرك. فأبوا عليه، فلما صدر الناس، رجعت بنو عامر إلى شيخ لهم؛ قد كانت أدركته السن؛ حتى لا يقدر على أن يوافي معهم الموسم، فكانوا إذا رجعوا إليه، حدثوه بما يكون في ذلك الموسم؛ فلما قدموا عليه ذلك العام، سألهم عما كان في موسمهم، فقالوا: جاءنا فتى من قريش، ثم أحد بني عبد المطلب، يزعم أنه نبي، ويدعو إلى أن نمنعه ونقوم معه؛ ونخرج به معنا إلى بلادنا. قال: فوضع الشيخ يده على رأسه، ثم قال: يا بني عامر، هل لها من تلافٍ ! هل لذناباها من مطلب ! والذي نفس فلان بيده ما تقولها إسماعيلي قط ! وإنها لحق، فأين كان رأيكم عنه ! فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك من أمره؛ كلما اجتمع له الناس بالموسم أتاهم يدعو القبائل إلى الله وإلى الإسلام، ويعرض عليهم نفسه وما جاء به من الله من الهدى والرحمة، لا يسمع بقادم يقدم من العرب؛ له اسمٌ وشرفٌ إلا تصدى له فدعاه إلى الله، وعرض عليه ما عنده.
حدثنا ابن حميد :، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثنا محمد بن إسحاق، قال: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة الظفري، عن أشياخ من قومه، قالوا: قدم سويد بن صامت - أخو بني عمرو بن عوف - مكة حاجاً أو معتمراً، قال: وكان سويد إنما يسميه قومه فيهم الكامل، لجلده وشعره، ونسبه وشرفه؛ وهو الذي يقول:
ألا رب من تدعو صديقا ولو ترى ... مقالته بالغيب ساءك ما يفرى
مقالته كالشحم ما كان شاهداً ... وبالغيب مأثور على ثغرة النحر
يسرك باديه وتحت أديمه ... نميمة غشٍ تبترى عقب الظهر
تبين لك العينان ما هو كاتمٌ ... ولا جن بالبغضاء والنظر الشزر
فرشني بخيرٍ طالما قد بريتني ... وخير الموالي من يريش ولا يبرى
مع أشعار له كثيرة يقولها.
قال: فتصدى له رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سمع به. فدعاه إلى الله وإلى الإسلام، قال: فقال له سويدٌ: فلعل الذي معك مثل الذي معي ! فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما الذي معك ؟ قال: مجلة لقمان - يعني حكمة لقمان - فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: اعرضها علي، فعرضها عليه، فقال: إن هذا لكلام حسنٌ، معي أفضل من هذا، قرآن أنزله الله علي، هدى ونورٌ. قال: فتلا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن، ودعاه إلى الإسلام، فلم يبعد منه، وقال: إن هذا لقول حسنٌ.
ثم انصرف عنه، وقدم المدينة، فلم يلبث أن قتلته الخزرج؛ فإن كان قومه ليقولون: قد قتل وهو مسلمٌ، وكان قتله قبل بعاث.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: حدثني الحصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ، أخو بني عبد الأشهل، عن محمود بن لبيد، أخي بني الأشهل، قال: لما قدم أبو الحيسر أنس بن رافع مكة، ومعه فتيةٌ من بني عبد الأشهل، فيهم إياس بن معاذ، يلتمسون الحلف من قريش على قومهم من الخزرج، سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتاهم فجلس إليهم، فقال لهم: هل لكم إلى خيرٍ مما جئتم له ؟ قالوا: وما ذاك ؟ قال: أنا رسول الله، بعثني إلى العباد، أدعوهم إلى الله أن يعبدوا الله، ولا يشركوا به شيئاً، وأنزل علي الكتاب.

ثم ذكر لهم الإسلام، وتلا عليهم القرآن. فقال إياس بن معاذ - وكان غلاماً حدثاً: أي قوم، هذا والله خيرٌ مما جئتم له. قال: فيأخذ أبو الحيسر أنس بن رافع حفنة من البطحاء، فضرب بها وجه إياس ابن معاذ، وقال: دعنا منك، فلعمري لقد جئنا لغير هذا. قال: فصمت إياس، وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم وانصرفوا إلى المدينة. فكانت وقعة بعاث بين الأوس والخزرج.
قال: ثم لم يلبث إياس بن معاذ أن هلك. قال محمود بن لبيد: فأخبرني من حضره من قومي عند موته أنهم لم يزالوا يسمعونه يهلل الله ويكبره، ويحمده ويسبحه؛ حتى مات. فما كانوا يشكون أن قد مات مسلماً، لقد كان استشعر الإسلام في ذلك المجلس حين سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما سمع.
قال: فلما أراد الله عز وجل إظهار دينه وإعزاز نبيه، وإنجاز موعده له، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في الموسم الذي لقي فيه النفر من الأنصار، فعرض نفسه على قبائل العرب؛ كما كان يصنع في كل موسم؛ فبينا هو عند العقبة إذ لقى رهطاً من الخزرج أراد الله بهم خيراٌ.
قال ابن حميد، قال سلمة: قال محمد بن إسحاق فحدثني عاصم ابن عمر بن قتادة، عن أشياخ من قومه، قالوا: لما لقيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال لهم: من أنتم ؟ قالوا: نفرٌ من الخزرج، قال: أمن موالي يهود ؟ قالوا: نعم، قال: أفلا تجلسون حتى أكلمكم ؟ قالوا: بلى، قال: فجلسوا معه، فدعاهم إلىالله عز وجل، وعرض عليهم الإسلام، وتلا عليهم القرآن.
قال: وكان مما صنع الله لهم به في الإسلام، أن يهود كانوا معهم ببلادهم، وكانوا أهل كتاب وعلم، وكانوا أهل شرك، أصحاب أوثان، وكانوا قد عزوهم ببلادهم، فكانوا إذا كان بينهم شيء قالوا لهم: إن نبياً الآن مبعوثٌ قد أظل زمانه، نتبعه ونقتلكم معه قتل عاد وإرم. فلما كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أولئك النفر، ودعاهم إلى الله، قال بعضهم لبعض: تعلمن والله إنه للنبي الذي توعدكم به يهود، فلا يسبقنكم إليه.
فأجابوه فيما دعاهم إليه، بأن صدقوه، وقبلوا منه ما عرض عليهم من الإسلام، وقالوا له: إنا قد تركنا قومنا. ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم؛ وعسى الله أن يجمعهم بك، وسنقدم عليهم فندعوهم إلى أمرك، ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين، فإن يجمعهم الله عليه، فلا رجل أعز منك. ثم انصرفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعين إلى بلادهم وقد آمنوا وصدقوا.
وهم - فيما ذكر لي - ستة نفر من الخزرج: منهم من بني النجار - وهم تيم الله - ثم من بني مالك بن النجار بن ثعلبة بن عمرو بن الخرزج ابن حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر، أسعد بن زرارة بن عدس بن عبيد ابن ثعلبة بن غنم بن مالك بن النجار، وهو أبو أمامة؛ وعوف بن الحارث ابن رفاعة بن سواد بن مالك بن غنم بن مالك بن النجار، وهو ابن عفراء .
ومن بني زريق بن عامر بن عبد حارثة بن مالك بن غضب بن جشم ابن الخزرج بن حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر، رافع بن مالك بن العجلان ابن عمرو بن عامر بن زريق.
ومن بني سلمة بن سعد بن علي بن أسد بن ساردة بن تزيد بن جشم بن الخزرج بن حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر؛ ثم من بني سواد، قطبة بن عامر بن حديدة بن عمرو بن سواد بن غنم بن كعب بن سلمة.
ومن بنى حرام بن كعب بن غنم بن كعب بن سلمة، عقبة ابن عامر بن نابي بن زيد بن حرام.
ومن بنى عبيد بن عدي بن غنم بن كعب بن سلمة، جابر بن عبد الله بن رئاب بن النعمان بن سنان بن عبيد.
قال: فلما قدموا المدينة على قومهم، ذكروا لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودعوهم إلى الإسلام؛ حتى فشا فيهم فلم تبق دارٌ من دور الأنصار إلا وفيها ذكرٌ من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى إذا كان العام المقبل، وافى الموسم من الأنصار اثنا عشر رجلاً، فلقوه بالعقبة، وهي العقبة الأولى، فبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على بيعه النساء؛ وذلك قبل أن يفترض عليهم الحرب؛ منهم من بنى النجار أسعد بن زرارة ابن عدس بن عبيد بن ثعلبة بن غنم بن مالك بن النجار؛ وهوأبو أمامة، وعوف ومعاذ ابنا الحارث بن رفاعة بن سواد بنم مالك بن غنم بن مالك ابن النجار؛ وهما ابنا عفراء.

ومن بنى زريق بن عامر، رافع بن مالك بن العجلان بن عمرو بن عامر ابن زريق، وذكوان بن عبد قيس بن خلدة بن مخلد بن عامر بن زريق.
ومن بنى عوف بن الخزرج، ثم من بنى غنم بن عوف - وهم القواقل - عبادة بن الصامت بن قيس بن أصرم بن فهر بن ثعلبة بن غنم بن عوف ابن الخزرج، وأبو عبد الرحمن؛ وهو يزيد بن ثعلبة بن خزمة بن أصرم ابن عمرو بن عمارة، من بنى غضينة من بلي، حليف لهم.
ومن بنى سالم بن عوف بن عمرو بن عوف بن الخزرج عباس بن عبادة ابن نضلة بن مالك بن العجلان بن زيد بن غنم بن سالم بن عوف.
ومن بنى سلمة، ثم من بنى حرام، عقبة بن عامر بن نابى بن زيد بن حرام بن كعب بن غنم بن كعب بن سلمة.
ومن بنى سواد، قطبة بن عامر بن حديدة بن عمرو بن سواد بن غنم بن كعب بن سلمة.
وشهدها من الأوس بن حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر، ثم من بنى الأشهل:أبو الهيثم بن التيهان؛ اسمه مالك، حليف لهم.
ومن بنى عمرو بن عوف، عويم بن ساعدة بن صلعجة، حليف لهم حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: حدثني يزيد بن أبي حبيب، عن مرثد بن عبد الله اليزني، عن أبي عبد الرحمن بن عسيلة الصنابحي، عن عبادة بن الصامت، قال: كنت فيمن حضر العقبة الأولى؛ وكنا اثنى عشر رجلاً، فبايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على بيعة النساء، وذلك قبل أن تفترض الحرب؛ على ألا نشرك بالله شيئاً، ولا نسرق ولا نزني، ولا نقتل أولادنا، ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيه في معروف؛ فإن وفيتم فلكم الجنة، وإن غشيتم شيئاً من ذلك فأخذتم بحده في الدنيا؛ فهو كفارة له، وإن سترتم عليه إلى يوم القيامة؛ فأمركم إلى الله؛ إن شاء عذبكم، وإن شاء غفر لكم.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق؛ أن ابن شهاب ذكر عن عائذ الله بن عبد الله أبى إدريس الخولاني، عن عبادة بن الصامت، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: فلما انصرف عنه القوم بعث معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي، وأمره أن يقرئهم القرآن، ويعلمهم الإسلام، ويفقههم في الدين؛ فكان يسمى مصعب بالمدينة: المقرئ، وكان منزله على أسعد بن زرارة بن عدس أبي أمامة.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: وحدثني عبيد الله بن المغيرة بن معيقب، وعبد الله بن أبي بكر بن محمد ابن عمرو بن حزم، أن أسعد بن زرارة خرج بمصعب بن عمير؛ يريد به دار بنى عبد الأشهل، ودار بنى ظفر؛ وكان سعد بن معاذ بن النعمان ابن امرئ القيس، ابن خالة أسعد بن زرارة، فدخل به حائطاً من حوائط بنى ظفر، على بئر يقال لها بئر مرق؛ فجلسا في الحائط، واجتمع إليهما رجالٌ ممن أسلم، وسعد بن معاذ وأسيد بن حضير يومئذ سيدا قومهما من بني عبد الأشهل؛ وكلاهما مشرك على دين قومه، فلما سمعا به، قال سعد ابن معاذ لأسيد بن حضير: لا أبا لك ! انطلق إلى هذين الرجلين اللذين قد أتيا دارنا، ليسفها ضعفاءنا، فازجرهما وانههما أن يأتيا دارنا، فإنه لولا أن أسعد بن زرارة منى حيث قد علمت، كفيتك ذلك؛ هو ابن خالتي، ولا أجد عليه مقدما.
فأخذ أسيد بن حضير حربته. ثم أقبل إليهما؛ فلما رآه أسعد بن زارة قال لمصعب: هذا سيد قومه قد جاءك، فاصدق الله فيه. قال مصعب: إن يجلس أكلمه ،قال: فوقف عليهما متشمتاً. فقال: ما جاء بكما إلينا، تسفهان ضعاءنا ! اعتزلانا إن كانت لكما في أنفسكما حاجة. فقال له مصعب: أو تجلس فتسمع، فإن رضيت أمراً قبلته، وإن كرهته كف عنك ما تكره ؟ قال: أنصفت، ثم ركز حربته، وجلس إليهما، فكلمه مصعب بالإسلام، وقرأ عليه القرآن، فقالا فيما يذكر عنهما: والله لعرفنا في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم، في إشراقه وتسهله.
ثم قال: ما أحسن هذا وأجمله ! كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين ؟ قالا له: تغتسل، فتطهر ثوبيك، ثم تشهد شهادة الحق، ثم تصلي ركعتين.

قال: فقام فاغتسل، وطهر ثوبيه، وشهد شهادة الحق، ثم قام فركع ركعتين، ثم قال لهما: إن ورائي رجلاً؛ إن اتبعكما لم يتخلف عنه أحدٌ من قومه؛ وسأرسله إليكما الآن، سعد بن معاذ. ثم أخذ حربته، وانصرف إلى سعد وقومه؛ وهم جلوس في ناديهم؛ فلما نظر إليه سعد بن معاذ مقبلا، قال: أحلف بالله، لقد جاءكم أسيد بن حضير بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم؛ فلما وقف على النادي ، قال له سعد : ما فعلت ؟ قال : كلمت الرجلين، فوالله ما رأيت بهما بأسا، وقد نهيتهما فقالا: نفعل ما أحببت، وقد حدثت أن بني حارثة، قد خرجوا إلى أسعد بن زرارة ليقتلوه؛ وذلك أنهم عرفوا أنه ابن خالتك ليخفروك، قال: فقام سعد مغضباً مبادرا تخوفا للذي ذكر له من بني حارثة. فأخذ الحربة من يده، ثم قال: والله ما أراك أغنيت شيئا؛ ثم خرج إليهما؛ فلما رآهما سعد مطمئنين، عرف أن أسيدا إنما أراد أن يسمع منهما، فوقف عليهما متشتما، ثم قال لأسعد بن زرارة: يا أبا أمامة، لولا ما بيني وبينك من القرابة ما رمت هذا مني. تغشانا في دارنا بما نكره ! وقد قال أسعد لمصعب: أي مصعب ! جاءك والله سيد من وراءه من قومه، إن يتبعك لم يخالف عليك منهم اثنان، فقال له مصعب: أو تقعد فتسمع، فإن رضيت أمرا ورغبت فيه قبلته، وإن كرهته عزلنا عنك ما تكره ؟ قال سعد: أنصفت؛ ثم ركز الحربة، فجلس فعرض عليه الإسلام، وقرأ عليه القرآن. قالا: فعرفنا والله في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم به؛ في إشراقه وتسهله.
ثم قال لهما: كيف تصنعون إذا أنتم أسلمتم ودخلتم في هذا الدين ؟ قالا: تغتسل فتطهر ثوبيك، ثم تشهد شهادة الحق، ثم تصلى ركعتين.
قال: فقام فاغتسل وطهر ثوبيه، وشهد شهادة الحق، وركع ركعتين، ثم أخذ حربته فأقبل عامداً إلى نادي قومه، ومعه أسيد بن حضير؛ فلما رآه قومه مقبلاً، قالوا: نحلف بالله لقد رجع سعد إليكم بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم؛ فلما وقف عليهم، قال: يا بني عبد الأشهل؛ كيف تعلمون أمري فيكم ؟ قالوا: سيدنا وأفضلنا رأيا، وأيمننا نقيبةً، قال: فإن كلام رجالكم ونسائكم علي حرامٌ حتى تؤمنوا بالله ورسوله. قال: فوالله ما أمسى في دار عبد الأشهل رجل ولا امرأة إلا مسلما أو مسلمة.
ورجع أسعد ومصعب إلى منزل أسعد بن زرارة، فأقام عنده يدعو الناس إلى الإسلام حتى لم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيها رجال ونساء مسلمون إلا ما كان من دار بني أمية بن زيد وخطمة ووائل وواقف؛ وتلك أوس الله؛ وهم من أوس بن حارثة؛ وذلك أنه كان فيهم أبو قيس بن الأسلت؛ وهو صيفي، وكان شاعرا لهم، وقائدا يسمعون منه، ويطيعونه، فوقف بهم عن الإسلام؛ فلم يزل على ذلك حتى هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة؛ ومضى بدر و أحد و الخندق.
قال: ثم إن مصعب بن عمير، رجع إلى مكة وخرج من خرج من الأنصار من المسلمين إلى الموسم مع حجاج قومهم من أهل الشرك؛ حتى قدموا مكة؛ فواعدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم العقبة من أوسط أيام التشريق حين أراد الله من كرامته، والنصر لنبيه صلى الله عليه وسلم وإعزاز الإسلام وأهله، وإذلال الشرك وأهله.
فحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: حدثني معبد بن كعب بن مالك بن أبي كعب بن القين، أخو بنى سلمة، أن أخاه عبد الله بن كعب - وكان من أعلم الأنصار - حدثه أن أباه كعب ابن مالك حدثه - وكان كعب ممن شهد العقبة، وبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم بها، قال خرجنا في حجاج قومنا، وقد صلينا وفقهنا، ومعنا البراء بن معرور، سيدنا وكبيرنا. فلما وجهنا لسفرنا، وخرجنا من المدينة، قال البراء لنا: والله يا هؤلاء، إني قد رأيت رأياً، والله ما أدري أتوافقونني عليه أم لا ! قال: فقلنا: وما ذاك ؟ قال: قد رأيت ألا أدع هذه البنية منى بظهر - يعنى الكعبة - وأن أصلي إليها. قال: فقلنا: والله ما بلغنا عن نبينا أنه يصلى إلا إلى الشام، وما نريد أن نخالفه. قال: فقال: إني لمصلٍ إليها، قال: فقلنا له: لكنا لا نفعل، قال: فكنا إذا حضرت الصلاة صلينا إلى الشام، وصلى إلى الكعبة، حتى قدمنا مكة.

قال: وقد عبنما عليه ما صنع، وأبى إلا الإقامة على ذلك؛ فلما قدمنا مكة قال لي: يا بن أخي، انطلق بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى أسأله عما صنعت في سفري هذا، فإنى والله لقد وقع في نفسي منه شيء؛ لما رأيت من خلافكم إياي فيه.
قال: فخرجنا نسأل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم - وكنا لا نعرفه، ولم نره قبل ذلك - فلقينا رجلاً من أهل مكة، فسألناه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: هل تعرفانه ؟ قلنا: لا، قال: فهل تعرفان العباس بن عبد المطلب عمه ؟ قلنا: نعم - قال: وقد كنا نعرف العباس ، كان لا يزال يقدم علينا تاجراً - قال: فإذا دخلتما المسجد فهو الرجل الجالس مع العباس بن عبد المطلب، قال: فدخلنا المسجد؛ فإذا العباس جالس ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس مع العباس؛ فسلمنا؛ ثم جلسنا إليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس: هل تعرف هذين الرجلين يا أبا الفضل ؟ قال: نعم، هذا البراء بن معرور سيد قومه؛ وهذا كعب بن مالك - قال: فوالله ما أنسى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: الشاعر ؟ قال: نعم - قال: فقال له البراء بن معرور: يا نبي الله؛ إنى خرجت في سفري هذا؛ وقد هداني الله للإسلام، فرأيت ألا أجعل منى هذه البنية بظهر، فصليت إليها؛ وقد خالفني أصحابي في ذلك؛ حتى وقع في نفسي من ذلك شيء؛ فماذا ترى يا رسول الله ؟ قال: قد كنت على قبلةٍ لو صبرت عليها ! فرجع البراء إلى قبلة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصلى معنا إلى الشام. قال: وأهله يزعمون أنه صلى إلى الكعبة حتى مات؛ وليس ذلك كما قالوا:؛ نحن أعلم به منهم.
قال: ثم خرجنا إلى الحج، وواعدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم العقبة من أوسط أيام التشريق.
قال: فلما فرغنا من الحج؛ وكانت الليلة التي واعدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لها؛ ومعنا عبد الله بن عمرو بن حرام،أبو جابر، أخبرناه، وكنا نكتم من معنا من المشركين من قومنا أمرنا؛ فكلمناه؛ وقلنا له: يا أبا جابر؛ إنك سيد من سادتنا، وشريفٌ من أشرافنا، وإنا نرغب بك عما أنت فيه أن تكون حطباً للنار غداً. ثم دعوناه إلى الإسلام؛ وأخبرناه بميعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم إيانا العقبة.
قال: فأسلم، وشهد معنا العقبة - وكان نقيباً - فبتنا تلك الليلة مع قومنا في رحالنا حتى إذا مضى ثلث الليل، خرجنا من رحالنا لميعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم، نتسلل مستخفين تسلل القطا؛ حتى اجتمعنا في الشعب عند العقبة؛ ونحن سبعون رجلاً، ومعهم امرأتان من نسائهم: نسيبة بنت كعب أم عمارة إحدى نساء بنى مازن بن النجار، وأسماء بنت عمرو بن عدي، إحدى نساء بنى سلمة؛ وهي أم منيع؛ فاجتمعنا بالشعب ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ حتى جاءنا ومعه عمه العباس بن عبد المطلب وهو يومئذ على دين قومه؛ إلا أنه أحب أن يحضر أمر ابن أخته، ويتوثق له؛ فلما جلس كان أول من تكلم العباس بن عبد المطلب، فقال: يا معشر الخزرج - وكانت العرب إنما يسمون هذا الحي من الأنصار: الخزرج، خزرجها وأوسها - إن محمداً منا حيث علمتم؛ وقد منعناه من قومنا ممن هو على مثل رأينا؛ وهو في عز من قومه ومنعة في بلده؛ وإنه قد أبى إلا الانقطاع إليكم واللحوق بكم؛ فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه؛ ومانعوه ممن خالفه؛ فأنتم وما تحملتم من ذلك؛ وإن كنتم ترون أنكم مسلموه وخاذلوه بعد الخروج إليكم، فمن الآن فدعوه، فإنه في عزٍ ومنعةٍ عن قومه وبلده.
قال: فقلنا له: قد سمعنا ما قلت؛ فتكلم بيا رسول الله؛ وخذ لنفسك وربك ما أحببت.
قال: فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتلا القرآن، ودعا إلى الله، ورغب في الإسلام، ثم قال: أبايعكم على أن تمنعوني مما تنعون منه نساءكم وأبناءكم.
قال: فأخذ البراء بن معرور بيده، ثم قال: والذي بعثك بالحق، لنمنعك مما نمنع منه أزرنا، فبايعنا يا رسول الله، فنحن والله أهل الحرب وأهل الحلقة؛ ورثناها كابراً عن كابر.

قال: فاعترض القول - والبراء يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم - أبو الهيثم بن التيهان، حليف بنى عبد الأشهل، فقال: يا رسول الله؛ إن بيننا وبين الناس حبالاً وإنا قاطعوها - يعني اليهود - فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك، ثم أظهرك الله، أن ترجع إلى قومك، وتدعنا ! قال: فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: بل الدم الدم، والهدم الهدم ! أنتم منى وأنا منكم؛ أحارب من حاربتم واسالم من سالمتم.
وقد قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: أخرجوا إلى منكم اثنى عشر نقيباً؛ يكونون على قومهم بما فيهم. فأخرجوا اثنى عشر نقيباً تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس .
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: قال محمد بن إسحاق: فحدثني عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للنقباء: أنتم على قومكم بما فيهم كفلاء، ككفالة الحواريين لعيسى بن مريم، وأنا كفيل على قومى، قالوا: نعم.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثنا محمد بن إسحاق، قال: وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة، أن القوم لما اجتمعوا لبيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال العباس بن عبادة بن نضلة الأنصاري، ثم أخو بنى سالم بن عوف: يا معشر الخزرج، هل تدرون علام تبايعون هذا الرجل ؟ قالوا: نعم، قال: إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس؛ فإن كنتم ترون أنكم إذا نهكت أموالكم مصيبة؛ وأشرافكم قتلا أسلمتموه؛ فمن الآن فهو والله خزي الدنيا والآخرة إن فعلتم، وإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه، على نهكة الأموال، وقتل الأشراف فخذوه، فهو والله خير الدنيا والآخرة. قالوا: فإنا نأخذه على مصيبة الأموال، وقتل الأشراف؛ فما لنا بذلك يا رسول الله إن نحن وفينا ؟ قال: الجنة، قالوا: ابسط يدك، فبسط يده فبايعوه.
وأما عاصم بن عمر بن قتادة، فقال: والله ما قال العباس ذلك إلا ليشد العقد لرسول الله صلى الله عليه وسلم في أعناقهم. وأما عبد الله بن أبي بكر، فقال: والله ما قال العباس ذلك إلا ليؤخر القوم تلك الليلة رجاء أن يحضرها عبد الله بن أبي سلول، فيكون أقوى لأمر القوم. والله أعلم أي ذلك كان؛ فبنو النجار يزعمون أن أبا أمامة أسعد بن زرارة كان أول من ضرب على يديه، وبنو عبد الأشهل يقولون: بل أبو الهيثم ابن التيهان.
قال ابن حميد، قال: سلمة، قال محمد: وأما معبد بن كعب بن مالك فحدثني - قال أبو جعفر: وحدثني سعيد بن يحيى بن سعيد - قال: حدثني أبي، قال: حدثنا محمد بن إسحاق، عن معبد بن كعب، قال: فحدثني في حديثه عن أخيه عبد الله بن كعب عن أبيه كعب بن مالك، قال: كان أول من ضرب على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم البراء بن معرور؛ ثم تتابع القوم؛ فلما بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صرخ الشيطان من رأس العقبة بأنفذ صوت سمعته قط: يا أهل الجباجب هل لكم في مذمم والصباة معه، قد اجتمعوا على حربكم ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما يقول عدو الله ؟ هذا أزب العقبة، هذا ابن أزيب؛ اسمع عدو الله؛ أما والله لأفرغن لك. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ارفضوا إلى رحالكم. فقال له العباس ابن عبادة بن نضلة: والذي بعثك بالحق لئن شئت لنميلن غدا على أهل منى بأسيافنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لم نؤمر بذلك؛ ولكن ارجعوا إلى رحالكم، قال: فرجعنا إلى مضاجعنا، فنمنا عليها؛ حتى أصبحنا؛ فلما أصبحنا غدت علينا جلة قريش حتى جاءونا في منازلنا، فقالوا: يا معشر الخزرج؛ إنا قد بلغنا أنكم قد جئتم إلى صاحبنا هذا تستخرجونه من بين أظهرنا، وتبايعونه على حربنا؛ وإنه والله ما من حي من العرب أبغض إلينا أن تنشب الحرب بيننا وبينهم منكم؛ قال: فانبعث من هناك من مشركي قومنا يحلفون لهم بالله: ما كان من هذا شيء وما علمناه.
قال: وصدقوا لم يعلموا. قال: وبعضنا ينظر إلى بعض؛ وقام القوم وفيهم الحارث بن هشام بن المغيرة المخزومي، وعليه نعلان جديدان.

قال: فقلت كلمة كأني أريد أن أشرك القوم بها فيما قالوا: يا أبا جابر؛ أما تستطيع أن تتخذ وأنت سيد من ساداتنا مثل نعلي هذا الفتى من قريش ؟ قال: فسمعها الحارث، فخلعهما من رجليه، ثم رمى بهما إلي، وقال: والله لتنتعلنهما. قال: يقول أبو جابر: مه أحفظت والله الفتى ! فاردد عليه نعليه، قال: قلت: والله لا أردهما؛ فأل والله صالح؛ والله لئن صدق الفأل لأسلبنه.
فهذا حديث كعب بن مالك عن العقبة وما حضر منها.
قال أبو جعفر: وقال غير ابن إسحاق: كان مقدم من قدم على النبي صلى الله عليه وسلم للبيعة من الأنصار في ذي الحجة، وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدهم بمكة بقية ذي الحجة من تلك السنة، والمحرم وصفر؛ وخرج مهاجراً إلى المدينة في شهر ربيع الأول؛ وقدمها يوم الاثنين لاثنتى عشرة ليلة خلت منه.
وحدثني علي بن نصر بن علي، وعبد الوارث بن عبد الصمد بن عبد الوارث - قال علي بن نصر: حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث، وقال عبد الوارث: حدثني أبي - قال: حدثنا أبان العطار، قال: حدثنا هشام بن عروة، عن عروة؛ أنه قال: لما رجع من أرض الحبشة من رجع منها ممن كان هاجر إليها قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، جهل أهل الإسلام يزدادون ويكثرون، وإنه أسلم من الأنصار بالمدينة ناسٌ كثير، وفشا بالمدينة الإسلام؛ فطفق أهل المدينة يأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، فلما رأت ذلك قريش تذامرت على أن يفتنوهم، ويشتدوا عليهم، فأخذوهم وحرصوا على أن يفتنوهم، فأصابهم جهد شديد، وكانت الفتنة الآخرة، وكانت فتنتين: فتنة أخرجت من خرج منهم إلى أرض الحبشة، حين أمرهم بها، وأذن لهم في الخروج إليها، وفتنة لما رجعوا ورأوا من يأتيهم من أهل المدينة.
ثم إنه جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة سبعون نقيباً، رءوس الذين أسلموا، فوافوه بالحج فبايعوه بالعقبة، وأعطوه عهودهم؛ على أنا منك وأنت منا، وعلى أنه من جاء من أصحابك أو جئتنا فإنا نمنعك مما نمنع منه أنفسنا. فاشتدت عليهم قريش عند ذلك، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بالخروج إلى المدينة؛ وهي الفتنة الآخرة التي أخرج فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه وخرج، وهي التي أنزل الله عز وجل فيها: " وقاتلوهم حتى لا تكون فتنةٌ ويكون الدين كله لله " .
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: وحدثني عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، أنهم أتوا عبد الله بن أبي بن سلول - يعني قريشاً - فقالوا مثل ما ذكر كعب بن مالك من القول لهم، فقال لهم: إن هذا لأمرٌ جسيم؛ ما كان قومي ليفوتوا علي بمثل هذا وما علمته كان. فانصرفوا عنه، وتفرق الناس من منىً، فتنطس القوم الخبر فوجدوه قد كان، وخرجوا في طلب القوم، فأدركوا سعد بن عبادة بالحاجر، والمنذر بن عمرو أخا بني ساعدة ابن كعب بن الخزرج؛ وكلاهما كان نقيباً؛ فأما المنذر فأعجز القوم، وأنا سعد فأخذوه، وربطوا يديه إلى عنقه بنسع رحله، ثم أقبلوا به حتى أدخلوه مكة، يضربونه ويجبذونه بجمته - وكان ذا شعر كثير - فقال سعد: فوالله إني لفي أيديهم؛ إذ طلع علي نفر من قريش؛ فيهم رجلٌ أبيض وضىءٌ شعشاع حلو من الرجال. قال: قلت: إن يكن عند أحدٍ من القوم خير فعند هذا. فلما دنا ما عندهم مني رفع يديه فلطمني لطمة شديدة.
قال: قلت في نفسي: والله ما عندهم بعد هذا خير. قال: فوالله إني لفي أيديهم يسحبونني ؛ إذ أوى إلي رجل منهم ممن معهم، فقال: ويحك ! أما بينك وبين أحد من قريش جوار ولا عهدٌ ! قال: قلت: بلى والله، لقد كنت أجير لجبير بن مطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف تجاره ، وأمنعهم ممن أراد ظلمهم ببلادي ، وللحارث بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف. قال: ويحك ! فاهتف باسم الرجلين، واذكر ما بينك وبينهما. قال: ففعلت، وخرج ذلك الرجل إليهما، فوجدهما في المسجد عند الكعبة، فقال لهما: إن رجلاً من الخزج الآن يضرب بالأبطح، وإنه ليهتف بكما، ويذكر أن بينه وبينكما جواراً، قالا: ومن هو ؟ قال: سعد بن عبادة، قالا: صدق والله إن كان ليجير تجارنا، ويمنعهم أن يظلموا ببلده. قال: فجاءا فخلصا سعداً من أيديهم وانطلق. وكان الذي لكم سعداً سهيل ابن عمرو، أخو بني عامر بن لؤي.

قال أبو جعفر: فلما قدموا المدينة، أظهروا الإسلام بها، وفي قومهم بقايا من شيوخ لهم على دينهم من أهل الشرك، منهم عمرو بن الجموح ابن زيد بن حرام بن كعب بن غنم بن سلمة، وكان ابنه معاذ بن عمرو قد شهد العقبة، وبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم في فتيان منهم، وبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم من بايع من الأوس والخزرج في العقبة الآخرة؛ وهي بيعة الحرب حين أذن الله عز وجل في القتال بشروط غير الشروط في العقبة الأولى، وأما الأولى فإنما كانت على بيعة النساء؛ على ما ذكرت الخبر به عن عبادة بن الصامت قبل؛ وكانت بيعة العقبة الثانية على حرب الأحمر والأسود على ما قد ذكرت قبل؛ عن عروة بن الزبير.
وقد حدثنا ابن حميد - قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: حدثني عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت، عن أبيه الوليد، عن عبادة بن الصامت - وكان أحد النقباء - قال: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على بيعة الحرب؛ وكان عبادة من الاثنى عشر الذين بايعوا في العقبة الأولى.
قال أبو جعفر: فلما أذن الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم في القتال، ونزل قوله: " وقاتلوهم حتى لا تكون فتنةٌ ويكون الدين كله لله " ، وبايعه الأنصار على ما وصفت من بيعتهم، أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه ممن هو معه بمكة من المسلمين بالهجرة والخروج إلى المدينة، واللحوق بإخوانهم من الأنصار، وقال: إن الله عز وجل قد جعل لكم إخواناً وداراً تأمنون فيها فخرجوا أرسالاً، وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ينتظر أن يأذن له ربه بالخروج من مكة؛ فكان أول من هاجر من المدينة والهجرة إلى المدينة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من قريش، ثم من بني مخزوم، أبو سلمة بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، هاجر إلى المدينة قبل بيعة أصحاب العقبة رسول الله صلى الله عليه وسلم بسنة، وكان قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة من أرض الحبشة، فلما آذته قريش، وبلغه إسلام من أسلم من الأنصار، خرج إلى المدينة مهاجراً.
ثم كان أول من قدم المدينة من المهاجرين بعد أبي سلمة، عامر بن ربيعة، حليف بني عدي بن كعب، معه امرأته ليلى بنت أبي حثمة بن غانم بن عبد الله بن عوف بن عبيد بن عويج بن عدي بن كعب. ثم عبد الله ابن جحش بن رئاب، وأبو أحمد بن جحش - وكان رجلاً ضرير البصر، وكان يطوف مكة أعلاها وأسفلها بغير قائد - ثم تتابع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أرسالا.
وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة بعد أصحابه من المهاجرين؛ ينتظر أن يؤذن له في الهجرة. ولم يتخلف معه بمكة أحد المهاجرين إلا أخذ فحبس أو فتن إلا علي بن أبي طالب وأبو بكر بن أبي قحافة. وكان أبو بكر كثيراً ما يستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة، فيقول له رسول اله صلى الله عليه وسلم: لا تعجل، لعل الله أن يجعل لك صاحباً، فطمع أبو بكر أن يكونه، فلما رأت قريش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد صارت له شيعة وأصحاب من غيرهم، يغير بلدهم، ورأوا خروج أصحابه من المهاجرين إليهم، عرفوا أنهم قد نزلوا داراً، وأصابوا منه منعة، فحذروا خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، وعرفوا أنه قد أجمع أن يلحق بهم لحربهم، فاجتمعوا له في دار الندوة؛ وهي دار قصي بن كلاب، التي كانت قريش لا تقضي أمراً إلا فيها، يتشاورون فيها ما يصنعون في أمر سول الله صلى الله عليه وسلم حين خافوه !

فحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: حدثني عبد الله بن أبي نجيح، عن مجاهد بن جبر أبي الحجاج، عن ابن عباس، قال: وحدثني الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس والحسن بن عمارة، عن الحكم بن عتيبة، عن مقسم، عن ابن عباس قال: لما اجتمعوا لذلك واتعدوا أن يدخلوا دار الندوة، ويتشاوروا فيها في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم غدوا في اليوم الذي تعدوا له؛ وكان ذلك اليوم يسمى الزحمة، فاعترضهم إبليس في هيئة شيخ جليل، عليه بتٌ له، فوقف على باب الدار، فلما رأوه واقفاً على بابها، قالوا: من الشيخ ؟ قال: شيخٌ من أهل نجد، سمع بالذي اتعدتم له فحضر معكم ليسمع ما تقولون، وعسى إلا يعدمكم منه رأي ونصحٌ، قالوا: أجل، فادخل، فدخل معهم، وقد اجتمع فيها أشراف قريش كلهم، من كل قبيلة؛ من بنى عبد شمس شيبة وعتبة ابنا ربيعة وأبو سفيان بن حرب، ومن بنى نوفل ابن عبد مناف طعيمة بن عدي وجبير بن مطعم والحارث بن عامر ابن نوفل. ومن بنى عبد الدار بن قصي النضر بن الحارث بن كلدة. ومن بنى أسد بن عبد العزى أبو البختري بن هشام وزمعة بن الأسود بن المطلب، وحكيم بن حزام. ومن بنى مخزوم أبو جهل بن هشام، ومن بنى سهم نبيه ومنبه ابنا الحجاج. ومن بنى جمح أمية بن خلف؛ ومن كان معهم وغيرهم ممن لا يعد من قريش.
فقال بعضهم لبعض: إن هذا الرجل قد كان أمره ما قد كان وما قد رأيتم؛ وإنا والله ما نأمنه على الوثوب علينا بمن قد اتبعه من غيرنا، فأجمعوا فيه رأياً؛ قال: فتشاورا. ثم قال قائلٌ منهم: احبسوه في الحديد، وأغلقوا عليه باباً، ثم تربصوا به ما أصاب أشابهه من الشعراء الذين قبله: زهيراً، والنابغة ومن مضى منهم ؛ من هذا الموت يصيبه منه ما أصابهم.
قال: فقال الشيخ النجدي: لا والله، ما هذا لكم برأي؛ والله لو حبستموه - كما تقولون - لخرج أمره من وراء الباب الذي أغلقتموه دونه إلى أصحابه؛ فلأوشكوا أن يثبوا عليكم فينتزعوه من أيديكم، ثم يكاثروكم حتى يغلبوكم على أمركم هذا؛ ما هذا لكم برأي فانظروا في غيره.
ثم تشاوروا، فقال قائل منهم: نخرجه من بين أظهرنا فننفيه من بلدنا؛ فإذا خرج عنا فوالله ما نبالي أين ذهب، ولا حيث وقع، إذا غاب عنا وفرغنا منه. فأصلحنا أمرنا، وألفتنا كما كانت.
قال الشيخ النجدي: والله ما هذا لكم برأي؛ ألم تروا حسن حديثه، وحلاوة منطقه، وغلبته على قلوب الرجال بما يأتي به ! والله لو فعلتم ذلك ما أمنت أن يحل على حي من العرب، فيغلب عليهم بذلك من قوله وحديثه حتى يتابعوه عليه، ثم يسير بهم إليكم حتى يطأكم بهم، فيأخذ أمركم من أيديكم ثم يفعل بكم ما أراد فيه رأياً غير هذا ! قال: فقال أبو جهل بن هشام: والله إن لي فيه لرأياً ما أراكم وقعتم عليه بعد ! قالوا: وما هو يا أبا الحكم ؟ قال: أرى أن تأخذوا من كل قبيلة فتىً شاباً جلداً، نسيباً وسيطاً فينا، ثم نعطي كل فتى منهم سيفاً صارماً ثم يعمدون إليه، ثم يضربونه بها ضربة رجل واحد فيقتلونه فنستريح؛ فإنهم إذا فعلوا ذلك تفرق دمه في القبائل كلها؛ فلم يقدر بنو عبد مناف على حرب قومهم جميعاُ، ورضوا منتا بالعقل فعقلناه لهم.
قال: فقال الشيخ النجدي: القول ما قال الرجل، هذا الرأي لا أرى لكم غيره.
فتفرق القوم على ذلك وهم مجمعون له، فأتى جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال : لا تبت هذه الليلة على فراشك الذي كنت تبيت عليه ! قال : فلما كان العتمة من الليل، اجتمعوا على بابه فترصدوه متى ينام ، فيثبون عليه. فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم مكانهم، قال لعلي بن أبي طالب: نم على فراشي، واتشح ببردي الحضرمي الأخضر؛ فنم فإنه لا يخلص إليك شيء تكرهه منهم. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينام في برده ذلك إذا نام.
قال أبو جعفر: زاد بعضهم في هذه القصة في هذا الموضع: وقال له: إن أتاك ابن أبي قحافة، فأخبره أنى توجهت إلى ثور، فمره فليلحق بي، وأرسل إلي بطعام، واستأجر لي دليلاً يدلني على طريق المدينة؛ واشتر لي راحلةً. ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعمى الله أبصار الذين كانوا يرصدونه عنه، وخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: حدثني يزيد بن زياد، عن محمد بن كعب القرظي، قال: اجتمعوا له. وفيهم أبو جهل بن هشام، فقال وهم على بابه: إن محمداً يزعم أنكم إن تابعتموه على أمره كنتم ملوك العرب والعجم، ثم بعثتم بعد موتكم فجعلت لكم جنان كجنان الأردن، وإن لم تفعلوا كان لكم منه ذبح، ثم بعثتم بعد موتكم؛ فجعلت لكم نار تحرقون فيها.
قال: وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ حفنة من تراب، ثم قال: نعم، أنا أقول ذلك، أنت أحدهم. وأخذ الله على أبصارهم عنه فلا يرونه، فجعل ينثر ذلك التراب على رءوسهم؛ وهو يتلو هذه الآيات من يس: " يس، والقرآن الحكيم، إنك لمن المرسلين، على صراط مستقيم " إلى قوله: " وجعلنا من بين أيديهم سداً ومن خلفهم سداً فأغشيناهم فهم لا يبصرون " ، حتى فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من هؤلاء الآيات، فلم يبق منهم رجل إلا وقد وضع على راسه تراباً؛ ثم انصرف إلى حيث أراد أن يذهب.
فأتاهم آت ممن لم يكن معهم، فقال: ما تنتظرون هاهنا ؟ قالوا: محمداً، قال: خيبكم الله ! قد والله خرج عليكم محمد، ثم ما ترك منكم رجلاً إلا وقد وضع على رأسه تراباً، وانطلق لحاجته، أفما ترون ما بكم ؟ قال: فوضع كل رجل منهم يده على رأسه، فإذا عليه تراب، ثم جعلوا يطلعون، فيرون علياً على الفراش متسجياً ببرد رسول
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://arabelalekat.yoo7.com
الشيخ عودة
الشيخ عودة
الشيخ عودة



عدد المساهمات : 1748
تاريخ التسجيل : 28/09/2008
العمر : 73

كتاب : تاريخ الرسل والملوك المؤلف : الطبري - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: كتاب : تاريخ الرسل والملوك المؤلف : الطبري   كتاب : تاريخ الرسل والملوك المؤلف : الطبري - صفحة 2 Emptyالسبت ديسمبر 14, 2013 10:26 am

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: حدثني هذا الحديث علي بن هند بن سعد بن سهل بن حنيف، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بقباء في بني عمرو بن عوف يوم الاثنين، ويوم الثلاثاء، ويوم الأربعاء، ويوم الخميس؛ وأسس مسجدهم، ثم أخرجه الله عز وجل من بين أظهرهم يوم الجمعة؛ وبنو عمرو بن عوف يزعمون أنه مكث فيهم أكثر من ذلك. والله أعلم.
ويقول بعضهم: إن مقامه بقباء كان بضعة عشر يوماً.
قال أبو جعفر: واختلف السلف من أهل العلم في مدة مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة بعد ما استنبىء، فقال بعضهم: كانت مدة مقامه بها إلى أن هاجر إلى المدينة عشر سنين.
ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن المثنى قال: حدثنا يحيى بن محمد بن قيس المدني - يقال له أبو زكير - قال: سمعت ربيعة بن أبي عبد الرحمن يذكر عن أنس بن مالك، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث على رأس أربعين، فأقام بمكة عشراً.
حدثني الحسين بن نصر الآملي، قال: حدثنا عبيد الله بن موسى، عن شيبان، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن؛ قال: أخبرتني عائشة وابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لبث بمكة عشر سنين، ينزل عليه القرآن.
حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا عبد الوهاب، قال: حدثنا يحيى ابن سعيد، قال: سمعت سعيد بن المسيب، يقول: أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن وهو ابن ثلاث وأربعين، فأقام بمكة عشراً.
حدثني أحمد بن ثابت الرازي، قال: حدثنا أحمد، قال: حدثنا يحيى بن سعيد، عن هشام، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: أنز ل على النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثلاث وأربعين سنة، فمكث بمكة عشراً.
حدثني محمد بن إسماعيل، قال: حدثنا عمرو بن عثمان الحمصي، قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا محمد بن مسلم الطائفي، عن عمرو بن دينار، قال: هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأس عشرٍ من مخرجه.
قال أبو جعفر: وقال أخرون: بل أقام بعدما استنبىء بمكة ثلاثة عشرة سنة .
ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا حجاج بن المنهال، قال: حدثنا حماد - يعني ابن سلمة - ، عن أبي جمرة، عن ابن عباس، قال: أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ثلاث عشرة سنة يوحى إليه.
حدثني محمد بن خلف، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا حماد بن سلمة، قال: حدثنا أبو جمرة الضبعي، عن ابن عباس، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم لأربعين سنة، وأقام بمكة ثلاث عشرة سنة.
حدثني محمد بن معمر، قال: حدثنا روح، قال: حدثنا زكرياء ابن إسحاق، قال: حدثنا عمر بن دينار، عن ابن عباس، قال: مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ثلاث عشرة سنة.
حدثني عبيد بن محمد الوراق، قال: حدثنا روح ،قال: حدثنا هشام، قال: حدثنا عكرمة، عن ابن عباس، قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم لأربعين سنة، فمكث بمكة ثلاث عشرة سنة يوحى إليه، ثم أمر بالهجرة.
قال أبو جعفر: وقد وافق قول من قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم لأربعين سنة، وأقام بمكة ثلاث عشرة سنة قول أبي قيس صرمة بن أبي أنس، أخي بني عدي بن النجار، في قصيدته التي يقول فيها، وهو يصف كرامة الله إياهم بما أكرمهم به من الإسلام، ونزول نبي الله صلى الله عليه وسلم ، عليهم:
ثوى في قريشٍ بضع عشرة حجةً ... يذكر لو يلقى صديقاً مواتيا !
ويعرض في أهل المواسم نفسه ... فلم ير من يؤوى، ولم ير داعيا
فلما أتانا أظهر الله دينه ... فأصبح مسروراً بطيبة راضيا
وألفى صديقاً وأطمأنت به النوى ... وكان له عوناً من الله باديا
يقص لنا ما قال نوحٌ لقومه ... وما قال موسى إذ أجاب المناديا
وأصبح لا يخشى من الناس واحدا ... قريباً، ولا يخشى من الناس نائيا
بذلنا له الأموال من جل مالنا ... وأنفسنا عند الوغى والتآسيا
ونعلم أن الله لا شيء غيره ... ونعلم أن الله أفضل هاديا
فأخبر أبو القيس في قصيدته هذه أن مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في قومه قريش، كان بعدما استنبىء وصدع بالوحي من الله بضع عشرة حجة.
وقال بعضهم كان مقامه بمكة خمس عشرة سنة:

ذكر من قال ذلك: حدثني بذلك الحارث، عن ابن سعد، عن محمد بن عمر، عن إبراهيم بن إسماعيل، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس؛ واستشهد بهذا البيت من قول أبي قيس صرمة بن أبي أنس، غير أنه أنشد ذلك:
ثوى في قريشٍ بضع عشرة حجةً ... يذكر لو يلقى صديقاً مواتيا !
قال أبو جعفر: وقد روى عن الشعبي أن إسرافيل قرن برسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يوحى إليه ثلاث سنين.
حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر الواقدي، قال: حدثنا الثوري، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي - قال: وحدثنا إملاءً من لفظه منصورٌ عن الأشعث، عن الشعبي - قال: قرن إسرافيل بنوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث سنين، يسمع حسه، ولا يرى شخصه. ثم كان بعد ذلك جبريل عليه السلام.
قال الواقدي: فذكرت ذلك لمحمد بن صالح بن دينار، فقال: والله يا بن أخي لقد سمعت عبد الله بن أبي بكر بن حزم، وعاصم بن عمر بن قتادة يحدثان في المسجد ورجل عراقي يقول لهما هذا، فأنكراه جميعاً، وقالا: ما سمعنا ولا علمنا إلا أن جبريل هو الذي قرن به، وكان يأتيه بالوحي من يوم نبىء إلى أن توفي صلى الله عليه وسلم.
حدثنا ابن المثنى قال: حدثنا ابن أبي عدي، عن داود، عن عامر، قال: أنزلت عليه النبوة وهو ابن أربعين سنة، فقرن بنبوته إسرافيل ثلاث سنين، فكان يعلمه الكلمة والشيء، ولم ينزل القرآن على لسانه، فلما مضت ثلاث سنين قرن بنبوته جبريل عليه السلام، فنزل القرآن على لسانه عشر سنين بمكة وعشر سنين بالمدينة.
قال أبو جعفر: فلعل الذي قالوا: كان مقامه بمكة بعد الوحي عشراً عدوا مقامه بها من حين أتاه جبريل بالوحي من الله عز وجل، وأظهر الدعاء إلى توحيد الله. وعد الذين قالوا: كان مقامه ثلاث عشرة سنة من أول الوقت الذي استنبىء فيه؛ وكان إسرافيل المقرون به وهي السنون الثلاث التي لم يكن أمر فيها بإظهار الدعوة.
وقد روى عن قتادة غير القولين اللذين ذكرت؛ وذلك ما حدثت عن روح بن عبادة، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: نزل القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثماني سنين بمكة وعشراً بعدما هاجر، وكان الحسن يقول: عشراً بمكة وعشراً بالمدينة.
ذكر الوقت الذي عمل فيه التأريخقال أبو جعفر: ولما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، أمر بالتأريخ فيما قيل. حدثني زكرياء بن يحيى بن أبي زائدة، قال: حدثنا أبو عاصم، عن ابن جريج، عن أبي سلمة، عن ابن شهاب، أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة - وقدمها في شهر ربيع الأول - أمر بالتأريخ.
قال أبو جعفر: فذكر أنهم يؤرخون بالشهر والشهرين من مقدمه إلى أن تمت السنة، وقد قيل أول من أمر بالتأريخ في الإسلام عمر بن الخطاب رحمه الله.
ذكر الأخبار الواردة بذلك: حدثني محمد بن إسماعيل، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا حبان ابن علي العنزي، عن مجالد، عن الشعبي، قال: كتب أبو موسى الأشعري إلى عمر: إنه تأتينا منك كتب ليس لها تأريخ. قال: فجمع عمر الناس للمشورة، فقال بعضهم: أرخ لمبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال بعضهم: لمهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عمر: لا بل نؤرخ لمهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن مهاجره فرق بين الحق والباطل.
حدثني محمد بن إسماعيل، قال: حدثنا قتيبة بن سعيد، قال: حدثنا خالد بن حيان أبو زيد الخراز، عن فرات بن سلمان، عن ميمون بن مهران، قال: رفع إلى عمر صكٌ محله في شعبان، فقال عمر: أي شعبان ؟ الذي هو أت، أو الذي نحن فيه ؟ قال: ثم قال لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: ضعوا للناس شيئاً يعرفونه، فقال: بعضهم: اكتبوا على تأريخ الروم، فقيل: إنهم يكتبون من عهد ذي القرنين؛ فهذا يطول. وقال بعضهم: اكتبوا على تأريخ الفرس؛ فقيل: إن الفرس كلما قام ملك طرح من كان قبله؛ فاجتمع رأيهم على أن ينظزوا: كم أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة ؟ فوجدوه عشر سنين؛ فكتب التأريخ من هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم .

حدثت عن أمية بن خالد وأبي داود الطيالسي، عن قرة بن خالد السدوسي، عن محمد بن سيرين، قال: قام رجل إلى عمر بن الخطاب فقال: أرخوا، فقال عمر: ما أرخوا ؟ قال: شيء تفعله الأعاجم، يكتبون في شهر كذا من سنة كذا، فقال عمر بن الخطاب: حسنٌ، فأرخوا.
فقالوا: من أي السنين نبدأ ؟ قالوا: من مبعثه، وقالوا: من وفاته؛ ثم أجمعوا على الهجرة. ثم قالوا: فأي الشهور نبدأ ؟ فقالوا: رمضان، ثم قالوا المحرم، فهو منصرف الناس من حجهم؛ وهو شهرٌ حرام، فأجمعوا على المحرم.
حدثني محمد بن إسماعيل، قال: حدثني سعيد بن أبي مريم. وحدثني عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم، قال: حدثنا أبي، قالا جميعاً: حدثنا عبد العزيز بن أبي حازم، قال: حدثني أبو حازم، عن سهل ابن سعد، قال: ما أصاب الناس العدد؛ ما عدوا من مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا من وفاته، ولا عدوا إلا من مقدمه المدينة.
حدثني محمد بن إسماعيل، قال: حدثنا سعيد بن أبي مريم، قال: حدثنا يعقوب بن إسحاق، قال: حدثني محمد بن مسلم، عن عمرو بن دينار، عن عبد الله بن عباس، قال: كان التأريخ في السنة التي قدم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وفيها ولد عبد الله بن الزبير .
حدثني عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم، قال: حدثنا يعقوب ابن إسحاق بن أبي عباد؛ قال: حدثنا محمد بن مسلم الطائفي، عن عمرو ابن دينار، عن ابن عباس، قال: كان التأريخ في السنة التي قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها، فذكر مثله.
حدثني محمد بن إسماعيل، قال: حدثنا قتيبة بن سعيد، قال: حدثنا نوح بن قيس الطاحي، عن عثمان بن محصن، أن ابن عباس كان يقول في: " والفجر وليالٍ عشرٍ " ، قال: الفجر هو المحرم، فجر السنة.
حدثني محمد بن إسماعيل، قال: حدثنا أبو نعيم الفضل بن دكين، قال: حدثنا يونس بن أبي إسحاق، عن أبي إسحاق؛ عن الأسود بن يزيد، عن عبيد بن عمير، قال: إن المحرم شهر الله عز وجل، وهو رأس السنة، فيه يكسى البيت، ويؤرخ التأريخ، ويضرب فيه الورق، وفيه يوم كان تاب فيه قوم، فتاب الله عز وجل عليهم .
حدثني أحمد بن ثابت الرازي، قال: حدثنا أحمد، قال: حدثنا روح بن عبادة، قال: حدثنا زكرياء بن إسحاق، عن عمرو بن دينار، أن أول من أرخ الكتب يعلى بن أمية، وهو باليمن، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قدم المدينة في شهر ربيع الأول، وأن الناس أرخوا لأول السنة؛ وإنما أرخ الناس لمقدم النبي صلى الله عليه وسلم .
وقال علي بن مجاهد، عن محمد بن إسحاق، عن الزهري. وعن محمد ابن صالح، عن الشعبي، قالا: أرخ بنو إسماعيل من نار إبراهيم عليه السلام إلى بنيان البيت، حين بناه إبراهيم وإسماعيل، ثم أرخ بنو إسماعيل من بنيان البيت؛ حتى تفرقت، فكان كلما خرج قوم من تهامة أرخوا بمخرجهم، ومن بقي بتهامة من بني إسماعيل يؤرخون من خروج سعد ونهد وجهينة، بني زيد، من تهامة؛ حتى مات كعب بن لؤي، فأرخوا من موت كعب بن لؤي إلى الفيل؛ فكان التأريخ من الفيل، حتى أرخ عمر ابن الخطاب من الهجرة؛ وذلك سنة سبع عشرة أو ثماني عشرة .
حدثني عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم، قال: حدثنا نعيم بن حماد، قال: حدثنا الدراوردي، عن عثمان بن عبيد الله بن أبي رافع، قال: سمعت سعيد بن المسيب، يقول: جمع عمر بن الخطاب الناس، فسألهم، فقال: من أي يوم نكتب ؟ فقال علي عليه السلام: من يوم هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وترك أرض الشرك، ففعله عمر رضي الله عنه .
قال أبو جعفر: وهذا الذي رواه علي بن مجاهد، عمن رواه عنه في تأريخ بني إسماعيل غير بعيد من الحق؛ وذلك أنهم لم يكونوا يؤرخون على أمر معروف يعمل به عامتهم، وإنما كان المؤرخ منهم يؤرخ بزمان قحمة كانت في ناحية من نواحي بلادهم، ولزبةٍ أصابتهم؛ أو بالعامل كان يكون عليهم، أو الأمر الحادث فيهم ينتشر خبره عندهم؛ يدل على ذلك اختلاف شعرائهم في تأريخاتهم؛ ولو كان لهم تأريخ على أمرٍ معروف، وأصلٍ معمول عليه، لم يختلف ذلك منهم .
ومن ذلك قول الربيع بن ضبع الفزاري:
هأنذا آمل الخلود وقد ... أدرك عقلي ومولدي حجرا
أبا امرئ القيس هل سمعت به ... هيهات هيهات طال ذا عمرا !
فأرخ عمره بحجر بن عمرو أبي امرئ القيس .
وقال نابغة بني جعدة:

فمن يك سائلاً عني فإني ... من الشبان أزمان الخنان
فجعل النابغة تأريخه ما أرخ بزمان علة كانت فيهم عامة.
وقال آخر:
وما هي إلا في إزارٍ وعلقةٍ ... مغار ابن همامٍ على حي خثعما
فكل واحد من هؤلاء الذين ذكرت تأريخهم في هذه الأبيات، أرخ على قرب زمان بعضهم من بعض، وقرب وقت ما أرخ به من وقت الآخر؛ بغير المعنى الذي أرخ به الآخر؛ ولو كان لهم تأريخ معروف كما للمسلمين اليوم ولسائر الأمم غيرها، كانوا إن شاء الله لا يتعدونه؛ ولكن الأمر في ذلك كان عندهم إن شاء الله على ما ذكرت؛ فأما قريش من بين العرب؛ فإن آخر ما حصلت من تأريخها قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة على التأريخ بعام الفيل؛ وذلك عام ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان بين عام الفيل والفجار عشرون سنة، وبين الفجار وبناء الكعبة خمس عشرة سنة، وبين بناء الكعبة ومبعث النبي صلى الله عليه وسلم خمس سنين.
قال أبو جعفر: وبعث رسول اله صلى الله عليه وسلم وهو ابن أربعين سنة، وقرن بنبوته - كما قال الشعبي - ثلاث سنين: إسرافيل؛ وذلك قبل أن يؤمر بالدعاء وإظهاره على ما قدمنا الرواية والإخبار به، ثم قرن بنبوته جبريل عليه السلام بعد السنين الثلاث، وأمره بإظهار الدعوة إلى الله، فأظهرها، ودعا إلى الله مقيماً بمكة عشر سنين، ثم هاجر إلى المدينة في شهر ربيع الأول من سنة أربع عشرة من حين استنبئ، وكان خروجه من مكة إليها يوم الاثنين، وقدومه المدينة يوم الاثنين؛ لمضى اثنتي عشرة ليلة من شهر ربيع الأول .
حدثني إبراهيم بن سعيد الجوهري، قال: حدثنا موسى بن داود، عن ابن لهيعة، عن خالد بن أبي عمران، عن حنش الصنعاني، عن ابن عباس، قال: ولد النبي صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين، واستنبئ يوم الاثنين، ورفع الحجر يوم الاثنين، وخرج مهاجراً من مكة إلى المدينة يوم الاثنين، وقدم المدينة يوم الاثنين، وقبض يوم الاثنين.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن الزهري، قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة يوم الاثنين، لاثنتى عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول.
قال أبو جعفر: فإذا كان الأمر في تأريخ المسلمين كالذي وصفت، فإنه وإن كان من الهجرة، فإن ابتداءهم إياه قبل مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة بشهرين وأيام؛ هي اثنا عشر؛ وذلك أن أول السنة المحرم، وكان قدوم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، بعد مضي ما ذكرت من السنة، ولم يؤرخ التأريخ من وقت قدومه؛ بل من أول تلك السنة.
ذكر ما كان من
الأمور المذكورة في أول سنة من الهجرة
قال أبو جعفر: قد مضى ذكرنا وقت مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، وموضعه الذي نزل فيه حين قدمها، وعلى من كان نزوله، وقدر مكثه في الموضع الذي نزله، وخبر إرتحاله عنه. ونذكر الآن ما لم نذكر قبل مما كان من الأمور المذكورة في بقية سنة قدومه؛ وهي السنة الأولى من الهجرة.
فمن ذلك تجميعه صلى الله عليه وسلم بأصحابه الجمعة، في اليوم الذي ارتحل فيه من قباء؛ وذلك أن ارتحاله عنها كان يوم الجمعة عامداً المدينة، فأدركته الصلاة، صلاة الجمعة في بني سالم بن عوف، ببطن واد لهم - قد اتخذ اليوم في ذلك الموضع مسجداً - فيما بلغني - وكانت هذه الجمعة، أول جمعة جمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإسلام، فخطب في هذه الجمعة؛ وهي أول خطبة خطبها بالمدينة فيما قيل.
خطبة رسول الله
صلى الله عليه وسلم في أول جمعة جمعها بالمدينة
حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: حدثني سعيد بن عبد الرحمن الجمحي، أنه بلغه عن خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول جمعة صلاها بالمدينة في بني سالم بن عوف:

" الحمد لله، أحمده وأستعينه، وأستغفره وأستهديه، وأؤمن به ولا أكفره، وأعادي من يكفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله؛ أرسله بالهدى والنور والموعظة، على فترة من الرسل، وقلةٍ من العلم، وضلالةٍ من الناس، وانقطاع من الزمان ودنوٍ من الساعة، وقربٍ من الأجل؛ من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصمها فقد غوى وفرط؛ وضل ضلالاً بعيداً. وأوصيكم بتقوى الله فإنه خير ما أوصى به المسلم المسلم؛ أن يحضه على الآخرة، وأن يأمره بتقوى الله، فاحذروا ما حذركم الله من نفسه، ولا أفضل من ذلك نصيحة، ولا أفضل من ذلك ذكراً؛ وإن تقوى الله لمن عمل به على وجلٍ ومخافة من ربه عون صدق على ما تبغون من أمر الآخرة، ومن يصلح الذي بينه وبين الله من أمره في السر والعلانية، لا ينوي بذلك إلا وجه الله يكن له ذكراً في عاجل أمره، وذخراً فيما بعد الموت، حين يفتقر المرء إلى ما قدم، وما كان من سوى ذلك يود لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً، ويحذركم الله نفسه، والله رءوف بالعباد. والذي صدق قوله، وأنجز وعده، لا خلف لذلك، فإنه يقول عز وجل: " ما يبدل القول لدي وما أنا بظلامٍ للعبيد " . فاتقوا الله في عاجل أمركم وآجله في السر والعلانية، فإنه من يتق الله يكفر عنه سيئاته ، ويعظم له أجراً ، ومن يتق الله فقد فاز فوزاً عظيماً. وإن تقوى الله يوقي مقته، ويوقي عقوبته، ويوقي سخطه، وأن تقوى الله يبيض الوجوه، ويرضي الرب، ويرفع الدرجة.
خذوا بحظكم، ولا تفرطوا في جنب الله؛ قد علمكم الله كتابه، ونهج لكم سبيله، ليعلم الذين صدقوا ويعلم الكاذبين. فأحسنوا كما أحسن الله إليكم، وعادوا أعداءه، وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وسماكم المسلمين، ليهلك من هلك عن بينة، ويحيى من حي عن بينة، ولا قوة إلا بالله. فأكثروا ذكر الله، واعملوا لما بعد اليوم، فإنه من يصلح ما بينه وبين الله يكفه الله ما بينه وبين الناس، ذلك بأن الله يقضي على الناس ولا يقضون عليه، ويملك من الناس ولا يملكون منه؛ الله أكبر، ولا قوة إلا بالله العظيم !.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ركب ناقته، وأرخى لها الزمام، فجعلت لا تمر بدار من دور الأنصار إلا دعاه أهلها إلى النزول عندهم، وقالوا له: هلم يا رسول الله ! إلى العدد والعدة والمنعة؛ فيقول لهم صلى الله عليه وسلم: خلوا زمامها فإنها مأمورة؛ حتى انتهى إلى موضع مسجده اليوم، فبركت على باب مسجده؛ وهو يومئذ مربدٌ لغلامين يتيمين من بني النجار في حجر معاذ بن عفراء؛ يقال لأحدهما سهل وللآخر سهيل، ابنا عمرو بن عباد بن ابن ثعلبة ابن غنم بن مالك بن النجار. فلما بركت لم ينزل عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم وثبت فسارت غير بعيد، ورسول الله صلى الله عليه وسلم واضعٌ لها زمامها لا يثنيها به؛ ثم التفتت خلفها، ثم رجعت إلى مبركها أول مرة، فبركت فيه ووضعت جرانها، ونزل عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاحتمل أبو أيوب رحله، فوضعه في بيته، فدعته الأنصار إلى النزول عليهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: المرء مع رحله. فنزل على أبي أيوب خالد بن زيد بن كليب، في بني غنم بن النجار.
قال أبو جعفر: وسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المربد لمن هو ؟ فأخبره معاذ بن عفراء، وقال: هو ليتيمين لي، سأرضيهما. فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبنى مسجداً، ونزل على أبي أيوب، حتى بنى مسجده ومساكنه. وقيل: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم اشترى موضع مسجده، ثم بناه.
والصحيح عندنا في ذلك، ما حدثنا مجاهد بن موسى، قال: حدثنا يزيد بن هارون، قال: أخبرنا حماد بن سلمة، عن أبي التياح، عن أنس بن مالك، قال: كان موضع مسجد النبي صلى الله عليه وسلم لبني النجار، وكان فيه نخل وحرث وقبورٌ من قبور الجاهلية، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ثامنوني به، فقالوا: لا نبتغيه به ثمناً إلا ما عند الله، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنخل فقطع، وبالحرث فأفسد، وبالقبور فنبشت، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ذلك يصلي في مرابض الغنم، وحيث أدركته الصلاة.
قال أبو جعفر: وتولى بناء مسجده صلى الله عليه وسلم هو بنفسه وأصحابه من المهاجرين والأنصار.

وفي هذه السنة بني مسجد قباء.
وكان أول من توفى بعد مقدمه المدينة من المسلمين - فيما ذكر - صاحب منزله كلثوم بن الهدم، لم يلبث بعد مقدمه إلا يسيراً حتى مات.
ثم توفي بعده أسعد بن زرارة في سنة مقدمه،أبو أمامة. وكانت وفاته قبل أن يفرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من بناء مسجده، بالذبحة والشهقة. فحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: قال محمد إبن إسحاق. حدثني عبد الله بن أبي بكر، عن يحيى بن عبد الله بن عبد الرحمن؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: بئس الميت أبو أمامة ليهود ومنافقي العرب ! يقولون: لو كان محمد نبياً لم يمت صاحبه؛ ولا أملك لنفسي ولا لصاحبي من الله شيئاً.
وقد حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: حدثنا يزيد بن زريع، عن معمر، عن الزهري، عن أنس، أن النبي صلى الله عليه وسلم كوى أسعد ابن زرارة من الشوكة .
قال ابن حميد، قال سلمة، عن إبن إسحاق، قال: حدثني عاصم ابن عمر بن قتادة الأنصاري أنه لما مات أبو أمامة أسعد بن زرارة، اجتمعت بنو النجار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - وكان أبو أمامة نقيبهم - فقالوا: يا رسول الله؛ إن هذا الرجل قد كان منا حيث قد علمت؛ فاجعل منا رجلاً مكانه، يقيم من أمرنا ما كان يقيمه، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنتم أخوالي وأنا منكم؛ وأنا نقيبكم.
قال: وكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخص بها بعضهم دون بعض؛ فكان من فضل بني النجار الذي تعد على قومهم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان نقيبهم.
وفي هذه السنة مات أبو أحيحة بماله بالطائف. ومات الوليد بن المغيرة والعاص بن وائل السهمي فيها بمكة.
وفيها بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعائشة بعد مقدمها المدينة بثمانية أشهر؛ في ذي القعدة في قول بعضهم، وفي قول بعضٍ: بعد مقدمه المدينة بسبعة أشهر، في شوال، وكان تزوجها بمكة قبل الهجرة بثلاث سنين بعد وفاة خديجة وهي ابنة ست سنين، وقد قيل: تزوجها وهي ابنة سبع.
حدثنا عبد الحميد بن بيان السكري، قال: أخبرنا محمد بن يزيد، عن إسماعيل - يعني ابن أبي خالد - عن عبد الرحمن بن أبي الضحاك، عن رجل من قريش، عن عبد الرحمن بن محمد، أن عبد الله بن صفوان وآخر معه أتيا عائشة، فقالت عائشة: يا فلان؛ أسمعت حديث حفصة ؟ قال لها: نعم يا أم المؤمنين، قال لها عبد الله بن صفوان: وما ذاك ؟ قالت: خلالٌ في تسع لم تكن في أحدٍ من النساء إلا ما آتى الله مريم بنت عمران؛ والله ما أقول هذا فخراً على أحد من صواحبي، قال لها: وما هن ؟ قالت: نزل الملك بصورتي، وتزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم لسبع سنين، وأهديت إليه لتسع سنين، وتزوجني بكراً لم يشركه في أحدٌ من الناس، وكان يأتيه الوحي وأنا وهو في لحاف واحد، وكنت من أحب الناس إليه ، ونزل فيَّ آيةٌ من القرآن كادت الأمة أن تهلك، ورأيت جبريل ولم يراه أحد من نسائه غيري، وقبض في بيتي لم يله أحدٌ غير الملك وأنا.
قال أبو جعفر: وتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم - في ما قيل - في شوال، وبنى بها حين بنى بها في شوال.
ذكر الرواية بذلك: حدثنا ابن بشار قال: حدثنا يحيى بن سعيد، قال: حدثنا سفيان، عن إسماعيل بن أمية، عن عبد الله بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم في شوال، وبنى بي في شوال. وكانت عائشة تستحب أن يبنى بالنساء في شوال.
حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن سفيان، عن إسماعيل بن أمية، عن عبد الله بن عروة عن عروة، عن عائشة، قالت: تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم في شوال، وبنى بي في شوال، فأي نساء رسول الله كانت أحظى عنده مني ! وكانت عائشة تستحب أن يدخل بالنساء في شوال.
قال أبو جعفر: وقيل: إن رسوال الله صلى الله عليه وسلم بنى بها في شوال يوم الأربعاء في منزل أبي بكر بالسنح.
وفي هذه السنة بعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى بناته وزوجته سودة بنت زمعة، زيد بن حارثة وأبا رافع، فحملاهن من مكة إلى المدينة.
ولما رجع - فيما ذكر - عبد الله بن أريقط إلى مكة أخبر عبد الله بن أبي بكر بمكان أبيه أبي بكر، فخرج عبد الله بعيال أبيه إليه، وصحبهم طلحة بن عبيد الله، معهم أم رومان، وهي أم عائشة؛ وعبد الله بن أبي بكر حتى قدموا المدينة.

وفي هذه السنة زيد في صلاة الحضر - فيما قيل - ركعتان، وكانت صلاة الحضر والسفر ركعتين؛ وذلك بعد مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة بشهر ،في ربيع الآخر، لمضي اثنتي عشرة ليلة منه، زعم الواقدي أنه لا خلاف بين أهل الحجاز فيه.
وفيها - في قول بعضهم - ولد عبد الله بن الزبير. وفي قول الواقدي: ولد في السنة الثانية من مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة في شوال.
حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: قال محمد بن عمر الواقدي: ولد ابن الزبير بعد الهجرة بعشرين شهراً بالمدينة.
قال أبو جعفر: وكان أول مولودٍ ولد من المهاجرين في دار الهجرة، فكبر - فيما ذكر - أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ولد؛ وذلك أن المسلمين كانوا قد تحدثوا أن اليهود يذكرون أنهم قد سحروهم فلا يولد لهم؛ فكان تكبيرهم ذلك سروراً منهم بتكذيب الله اليهود فيما قالوا من ذلك.
وقيل: إن أسماء بنت أبي بكر، هاجرت إلى المدينة وهي حاملٌ به.
وقيل أيضاً: إن النعمان بن بشير ولد في هذه السنة؛ وإنه أول مولد ولد للأنصار بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إليهم؛ وأنكر ذلك الواقدي أيضاً.
حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا الواقدي، قال: حدثنا محمد بن يحيى بن سهل بن أبي حثمة، عن أبيه، عن جده، قال: كان أول مولود من الأنصار النعمان بن بشير؛ ولد بعد الهجرة بأربعة عشر شهراً، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثماني سنين، أو أكثر قليلاً.
قال: وولد النعمان قبل بدر بثلاثة أشهر أو أربعة .
حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثنا مصعب بن ثابت، عن أبي الأسود، قال: ذكر النعمان بن بشير عند ابن الزبير، فقال: هو أسن مني بستة أشهر.
قال أبو الأسود: ولد ابن الزبير على رأس عشرين شهراً من مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وولد النعمان على رأس أربعة عشر شهراً في ربيع الآخر.
قال أبو جعفر : وقيل: إن المختار بن أبي عبيد الثقفي وزياد ابن سمية فيها ولدا.
قال: وزعم الواقدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عقد في هذه السنة في شهر رمضان على رأس سبعة أشهر من مهاجره، لحمزة بن عبد المطلب لواءً أبيض في ثلاثين رجلاً من المهاجرين ليعترض لعيرات قريش، وأن حمزة لقى أبا جهل بن هشام في ثلاثمائة رجل، فحجز بينهم مجدي بن عمر الجهني فافترقوا، ولم يكن بينهم قتال. وكان الذي يحمل لواء حمزة أبو مرثد.
وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم عقد أيضاً في هذه السنة، على رأس ثمانية أشهر من مهاجره في شوال، لعبيدة بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف لواء أبيض وأمره بالمسير إلى بطن رابغ، وأن لواءه كان مع مسطح بن أثاثة، فبلغ ثنية المرة - وهي بناحية الجحفة - في ستين من المهاجرين، ليس فيهم أنصاري؛ وأنهم التقوا هم والمشركون على ماء يقال له أحياء؛ فكان بينهم الرمي دون المسايفة.
قال: وقد اختلفوا في أمير السرية؛ فقال بعضهم: كان أبو سفيان بن حرب، وقال بعضهم: كان مكرز بن حفص.
قال الواقدي: ورأيت الثبت على أبي سفيان بن حرب، وكان في مائتين من المشركين.
قال: وفيها عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص إلى الخرار لواءً أبيض يحمله المقداد بن عمرو في ذي القعدة. وقال: حدثني أبو بكر بن إسماعيل، عن أبيه، عن عامر بن سعد، عن أبيه، قال: خرجت في عشرين رجلاً على أقدامنا - أو قال: واحد وعشرين رجلاً - فكنا نكمن النهار، ونسير الليل حتى صبحنا الخرار صبح خامسةٍ؛ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد عهد إلي إلا أجاوز الخرار، وكانت العير قد سبقتني قبل ذلك بيوم، وكانوا ستين، وكان من مع سعد كلهم من المهاجرين.
قال أبو جعفر: وقال ابن إسحاق في أمر كل هذه السرايا التي ذكرت عن الواقدي قوله فيها غير ما قاله الواقدي، وأن ذلك كله كان في السنة الثانية من وقت التاريخ.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة بن الفضل، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة في شهر ربيع الأول لاثنتى عشرة ليلة مضت منه، فأقام بها ما بقي من شهر ربيع الأول وشهر ربيع الآخر وجماديين ورجب وشعبان ورمضان وشوالا وذا القعدة وذا الحجة - وولى تلك الحجة المشركون - والمحرم.

وخرج في صفر غازياً على رأس اثنى عشر شهراً من مقدمه المدينة، لثنتى عشرة ليلةٍ مضت من شهر ربيع الأول؛ حتى بلغ ودان؛ يريد قريشاً وبني ضمرة بن بكر بن عبد مناة بن كنانة؛ ويه غزوة الأبواء، فوادعته فيها بنو ضمرة؛ وكان الذي وادعه منهم عليهم سيدهم كان في زمانه ذلك مخشى بن عمرو، رجل منهم.
قال: ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، ولم يلق كيداً، فأقام بها بقية صفر وصدراً من شهر ربيع الأول.
وبعث في مقامه ذلك عبيدة بن الحارث بن المطلب في ثمانين أو ستين راكباً من المهاجرين؛ ليس فيهم من الأنصار أحدٌ، حتى بلغ أحياء ماء بالحجاز بأسفل ثنية المرة، فلقى بها جمعاً عظيماً من قريش؛ فلم يكن بينهم قتال؛ إلا أن سعد بن أبي وقاص قد رمى يومئذ بسهم؛ فكان أول سهم رمي به في الإسلام.
ثم انصرف القوم عن القوم وللمسلمين حاميةٌ، وفر من المشركين إلى المسلمين المقداد بن عمرو البهراني حليف بني زهرة، وعتبة بن غزوان بن جابر حليف بني نوفل بن عبد مناف - وكانا مسلمين؛ ولكنهما خرجا يتوصلان بالكفار إلى المسلمين - وكان على ذلك الجمع عكرمة بن أبي جهل.
قال محمد: فكانت راية عبيدة - فيما بلغني - أول راية عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإسلام لأحد من المسلمين.
وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: وبعض العلماء يزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بعثه حين أقبل من غزوة الأبواء قبل أن يصل إلى المدينة. قال: وبعث حمزة بن عبد المطلب في مقامه ذلك إلى سيف البحر من ناحية العيص في ثلاثين راكباً من المهاجرين؛ وهي من أرض جهينة ليس فيهم من الأنصار أحدٌ، فلقى أبا جهل بن هشام بذلك الساحل في ثلثمائة راكب من أهل مكة فحجز بينهم مجدي بن عمرو الجهني، فكان موادعاً للفريقين جميعاً، فانصرف القوم بعضهم عن بعض، ولم يكن بينهم قتال.
قال: وبعض القوم يقول: كانت راية حمزة أول راية عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحد من الملسمين، وذلك أن بعثه وبعث عبيدة بن الحارث كانا معاً، فشبه ذلك على الناس.
قال: والذي سمعنا من أهل العلم عندنا أن راية عبيدة بن الحارث كانت أول راية عقدت في الإسلام.
قال: ثم غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر ربيع الآخر، يريد قريشاً، حتى إذا بلغ بواط من ناحية رضوى رجع ولم يلق كيداً، فلبث بقية شهر ربيع الآخر وبعض جمادى الأول.
ثم غزا يريد قريشاً، فسلك على نقب بني دينار بن النجار، ثم على فيفاء الخبار، فنزل تحت شجرة ببطحاء ابن أزهر، يقال لها: ذات الساق، فصلى عندها، فثم مسجده. وصنع له عندها طعامٌ فأكل منه وأكل الناس معه، فموضع أثا في البرمة معلوم هنالك. واستقى له ماء به يقال له المشيرب. ثم ارتحل فترك الخلائق بيسار، وسلك شعبة يقال لها شعبة عبد الله - وذلك اسمها اليوم - ثم صب ليسار، حتى هبط يليل، فنزل بمجتمعه ومجتمع الضبوعة؛ واستقى له من بئر بالضبوعة. ثم سلك الفرش؛ فرش ملل، حتى لقى الطريق بصخيرات اليمام. ثم اعتدل به الطريق حتى نزل العشيرة من بطن ينبع، فأقام بها بقية جمادى الأولى وليالي من جمادى الآخرة، ووادع فيها بني مدلج وحلفائهم من بني ضمرة. ثم رجع إلى المدينة، ولم يلق كيداً.
وفي تلك الغزوة قال لعلي بن أبي طالب ما قال.
قال: فلم يقم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم من غزوة العشيرة بالمدينة إلا ليالي قلائل لا تبلغ العشر، حتى أغار كرز بن جابر الفهري على سرح المدينة، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلبه، حتى بلغ وادياً يقال له سفوان من ناحية بدر، وفاته كرز فلم يدركه؛ وهي غزو بدر الأولى؛ ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فأقام بها بقية جمادى الآخرة ورجب وشعبان. وقد كان بعث فيما بين ذلك سعد بن أبي وقاص في ثمانية رهط.
وزعم الواقدي أن في هذه السنة - أعني السنة الأولى من الهجرة - جاء أبو قيس بن الأسلت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم الإسلام، فقال: ما أحسن ما تدعو إليه ! أنظر في أمري ، ثم أعود إليك. فلقيه عبد الله بن أبي، فقال له: كرهت والله حرب الخزرج ! فقال أبو قيس: لا أسلم سنة؛ فمات في ذي القعدة.
ثم كانت السنة الثانية من الهجرة

فغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم - في قول جميع أهل السير - فيها، في ربيع الأول بنفسه غزوة الأبواء - ويقال ودان - وبينهما ستة أميال هي بحذائها؛ واستخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم على المدينة حين خرج إليها سعد بن عبادة بن دليم. وكان صاحب لوائه في هذه الغزاة حمزة بن عبد المطلب، وكان لواؤه - فيما ذكر - أبيض.
وقال الواقدي: كان مقامه بها خمسة عشرة ليلة، ثم قدم المدينة.
قال الواقدي: ثم غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مائتين من أصحابه؛ حتى بلغ بواط في شهر ربيع الأول؛ يعترض لعيرات قريش، وفيها أمية بن خلف ومائة رجلٍ من قريش وألفان وخمسمائة بعير. ثم رحع ولم يلق كيداً.
وكان يحمل لواءه سعد بن أبي وقاص، واستخلف على المدينة سعد ابن معاذ في غزوته هذه.
قال: ثم غزا في ربيع الأول في طلب كرزين بن جابر الفهري في المهاجرين، وكان قد أغار على سرح المدينة، وكان يرعى بالجماء فاستاقه، فطلبه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ بدراً فلم يلحقه؛ وكان يجمل لواءه علي بن أبي طالب عليه السلام. واستخلف على المدينة زيد بن حارثة.
غزوة ذات العشيرةقال: وفيها خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يعترض لعيرات قريش حتى أبدأت إلى الشام في المهاجرين - وهي غزوة ذات العشيرة - حتى بلغ ينبع؛ واستخلف على المدينة أبا سلمة بن عبد الأسد؛ وكان يحمل لواءه حمزة بن عبد المطلب. فحدثنا سليمان بن عمر بن خالد الرقي، قال: حدثنا محمد بن سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن يزيد بن خثيم؛ عن محمد بن كعب القرظي؛ قال: حدثنا أبوك يزيد بن خثيم، عن عمار بن ياسر قال: كنت أنا وعلي رفيقي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة العشيرة، فنزلنا منزلاً فرأينا رجالاً من بني مدلج يعملون في نخل لهم، فقلت: لو انطلقنا ! فنظرنا إليهم كيف يعملون، فانطلقنا فنظرنا إليهم ساعةً، ثم غشينا النعاس، فعمدنا إلى صور من النخل؛ فنمنا تحته في دقعاء من التراب، فما أيقظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أتانا وقد تتربنا في ذلك التراب؛ فحرك علياً برجله، فقال: قم يا أبا تراب؛ ألا أخبرك بأشقى الناس ؟ أحمر ثمود عاقر الناقة، والذي يضربك يا علي على هذا - يعني قرنه - فيخضب هذ منها؛ وأخذ بلحيته.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: حدثني يزيد بن محمد بن خثيم المحاربي، عن محمد بن كعب القرظي، عن محمد بن خثيم - وهو أبو يزيد - عن عمار بن ياسر، قال: كنت أنا وعلي رفيقين، فذكر نحوه.
وقد قيل في ذلك غير هذا القول؛ وذلك ما حدثني به محمد بن عبيد المحاربي، قال: حدثنا عبد العزيز بن أبي حازم، عن أبيه، قال: قيل لسهل بن سعد: إن بعض أمراء المدينة يريد أن يبعث إليك أن تسب علياً عند المنبر، قال: أقول ماذا ؟ قال: تقول : أبا تراب، قال: والله ما سماه بذلك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: قلت: وكيف ذلك يا أبا العباس ؟ قال: دخل علي على فاطمة، ثم خرج من عندها، فاضطجع في فيء المسجد. قال: ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على فاطمة، فقال لها :أين ابن عمك ؟ فقالت: هو ذاك مضطجع في المسجد، قال: فجاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فوجده قد سقط رادؤه عن ظهره، وخلص التراب إلى ظهره، فجعل يمسح التراب عن ظهره، ويقول: اجلس أبا تراب. فوالله ما سماه به إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ووالله ما كان اسمٌ أحب إليه منه !.
قال أبو جعفر: وفي هذه السنة في صفر، لليال بقين منه، تزوج علي بن أبي طالب عليه السلام فاطمة رضي الله عنها؛ حدثت بذلك، عن محمد بن عمر، قال: حدثنا أبو بكر بن عبد الله بن أبي سبرة، عن إسحاق ابن عبد الله بن أبي فروة، عن أبي جعفر.
سرية عبد الله بن حجشقال أبو جعفر الطبري: ولما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من طلب كرز بن جابر الفهري إلى المدينة، وذلك في جمادى الآخرة، بعث في رجب عبد الله بن جحش معه ثمانية رهط من المهاجرين؛ ليس فيهم من الأنصار أحدٌ؛ فيما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: حدثني الزهري ويزيد بن رومان؛ عن عروة بن الزبير، بذلك .
وأما الواقدي فإنه زعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث عبد الله ابن جحش سريةً في اثني رجلاً من المهاجرين.

رجع الحديث إلى حديث ابن إسحاق، عن الزهري ويزيد بن رومان، عن عروة، قال: وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم له كتاباً - يعني لعبد الله بن جحش - وأمره ألا ينظر فيه حتى يسير يومين؛ ثم ينظر فيه فيمضي له أمره به، ولا يستكره أحداً من أصحابه، فلما سار عبد الله ابن حجش يومين، فتح الكتاب، ونظر فيه، فإذا فيه: " وإذا نظرت في كتابي هذا؛ فسر حتى تنزل نخلة بين مكة والطائف؛ فترصد بها قريشاً، وتعلم لنا من أخبارهم " . فلما نظر عبد الله في الكتاب، قال: سمعٌ وطاعةٌ؛ ثم قال لأصحابه: قد أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أمضي إلى نخلة، فأرصد بها قريشاً حتى آتيه منهم بخبر، وقد نهاني أن أستكره أحداً منكم؛ فمن كان منكم يريد الشهادة، ويرغب فيها فلينطلق، ومن كره ذلك فليرجع؛ فأما أنا فماضٍ لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم .
فمضى ومضى معه أصحابه، فلم يتخلف عنه منهم أحد، وسلك على الحجاز؛ حتى إذا كان بمعدن فوق الفرع يقال له بحران، أضل سعد بن وقاص وعتبة بن غزوان بعيراً لهما كانا يتعقبانه، فتخلفا عليه في طلبه. ومضى عبد الله بن جحش وبقية أصحابه حتى نزل بنخلة، فمرت به عيرٌ لقريش تحمل زبيباً وأدماً وتجارة من تجارة قريش فيها، منهم عمرو بن الحضرمي، وعثمان بن عبد الله بن المغيرة وأخوه نوفل بن عبد الله بن المغيرة المخزوميان، والحكم بن كيسان مولى هشام بن المغيرة.
فلما رآهم القوم هابوهم، وقد نزلوا قريباً منهم، فأشرف لهم عكاشة بن محصن - وقد كان حلق رأسه - فلما رأوه أمنوا، وقالوا: عمار لا بأس عليكم منهم. وتشاور القوم فيهم؛ وذلك في آخر يوم من رجب؛ فقال القوم: والله لئن تركتم القوم هذه الليلة ليدخلن الحرم؛ فليمتنعن به منكم؛ ولئن قتلتموهم في الشهر الحرام. فتردد القوم، وهابوا الإقدام عليهم؛ ثم تشجعوا عليهم، وأجمعوا على قتل من قدروا عليه منهم، وأخذ ما معهم، فرمى واقد بن عبد الله التميمي عمرو بن بسهم فقتله، واستأسر عثمان بن عبد الله والحكم بن كيسان، وأفلت نوفل بن عبد الله فأعجزهم، وأقبل عبد الله بن جحش وأصحابه بالعير والأسيرين؛ حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة.
قال: وقد ذكر بعض آل عبد الله بن جحش ،أن عبد الله بن جحش، قال لأصحابه: إن لرسول الله صلى الله عليه وسلم مما غنمتم الخمس - وذلك قبل أن يفرض الله من الغنائم الخمس - فعزل لرسول الله صلى الله عليه وسلم خمس الغنيمة، قسم سائرها بين أصحابه؛ فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ما أمرتكم بقتالٍ في الشهر الحرام. فوقف العير والأسيرين، وأبى أن يأخذ من ذلك شيئاً.
فلما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم سقط في أيدي القوم، وظنوا أنهم قد هلكوا، وعنفهم المسلمون فيما صنعوا. وقال لهم: صنعتم ما لم تؤمروا به، وقاتلتم في الشهر الحرام ولم تؤمروا بقتال ! وقالت قريش: قد استحل محمدٌ وأصحابه الشهر الحرام، فسفكوا فيه الدم وأخذوا فيه الأموال، وأسروا فيه الرجال. فقال من يرد ذلك عليهم من المسلمين ممن كان بمكة: إنما أصابوا ما أصابوا في شعبان. وقالت اليهود: تفاءل بذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم: عمرو بن الحضرمي قتله واقد بن عبد الله " عمرو " عمرت الحرب، و " الحضرمي " حضرت الحرب، وواقد بن عبد الله وقدت الحرب؛ فجعل الله عز وجل ذلك عليهم لا لهم.
فلما أكثر الناس في ذلك أنزل الله عز وجل على رسوله صلى الله عليه وسلم: " يسألونك عن الشهر الحرام قتالٍ فيه .... " الآية.
فلما نزل القرآن بهذا من الأمر وفرج الله عن المسلمين ما كانوا فيه من الشفق، قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم العير والأسيرين.
وبعثت إليه قريش في فداء عثمان بن عبد الحكم بن كيسان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا نفذيكموهما؛ حتى يقدم صاحبانا - يعني سعد ابن أبي وقاص وعتبة بن غزوان - فإنا نخشاكم عليهما؛ فإن تقتلوهما نقتل صاحبيكم. فقدم سعد وعتبة، ففاداهما رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم؛ فأما الحكم بن كيسان فأسلم فحسن إسلامه، وأقام عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قتل في بئر معونة شهيداً.

قال أبو جعفر: وخالف في بعض هذه القصة محمد بن إسحاق والواقدي جميعاً السدي؛ حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد؛ قال: حدثنا أسباط، عن السدي: " يسألونك عن الشهر الحرام قتالٍ فيه قل قتالٌ فيه كبيرٌ وصدٌ عن سبيل الله " ؛ وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سرية وكانوا سبعة نفر؛ عليهم عبد الله بن جحش الأسدي وفيهم عمار بن ياسر، وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة، وسعد بن أبي وقاص، وعتبة بن غزوان السلمي حليف لبني نوفل، وسهيل بن بيضاء، وعامر بن فهيرة، وواقد بن عبد الله اليربوعي؛ حليف لعمر بن الخطاب.
وكتب مع ابن جحش كتاباً وأمره ألا يقرأه حتى ينزل بطن ملل؛ فلما نزل بطن ملل فتح الكتاب؛ فإذا فيه: أن سر حتى تنزل بطن نخلة؛ فقال لأصحابه: من كان يريد الموت فليمض وليوص؛ فإني موصٍ وماضٍ لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. فسار وتخلف عنه سعد بن أبي وقاص وعبتة بن غزوان، أضلا راحلة لهما، فأتيا بحران يطلبانها، وسار ابن جحش إلى بطن نخلة؛ فإذا هو بالحكم بن كيسان، وعبد الله بن المغيرة، والمغيرة بن عثمان، وعمرو بن الحضرمي؛ فاقتتلوا، فأسروا الحكم بن كيسان وعبد الله بن المغيرة ،وانفلت المغيرة، وقتل عمرو بن الحضرمي، قتله واقد بن عبد الله. فكانت أول غنيمة غنهما أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.
فلما رجعوا إلى المدينة بالأسيرين وما أصابوا من الأموال؛ أراد أهل مكة أن يفادوا الأسيرين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: حتى ننظر ما فعل صاحبانا ! فلما رجع سعد وصاحبه فادى بالأسيرين، ففجر عليه المشركون، وقالوا: محمد يزعم أنه يتبع طاعة الله، وهو أول من استحل الشهر الحرام، وقتل صاحبنا في رجب ! فقال المسلمون: إنما قتلناه في جمادى - وقيل في أول ليلة من رجب وآخر ليلة من جمادى - وغمد المسلمون سيوفهم حين دخل رجب؛ فأنزل الله عز وجل يعير أهل مكة: " يسألونك عن الشهر الحرام قتالٍ فيه قل قتالٌ فيه كبيرٌ ... " الآية.
قال أبو جعفر: وقد قيل إن النبي صلى الله عليه وسلم كان انتدب لهذا المسير أبا عبيدة بن الجراح، ثم بدا له فيه، فندب له عبد الله بن جحش.
ذكر الخبر بذلك: حدثنا محمد بن عبد الأعلى؛ حدثنا المعتمر بن سليمان، عن أبيه، أنه حدثه رجل عن أبي السوار، يحدثه عن جندب بن عبد الله، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه بعث رهطاً، فبعث عليهم أبا عبيدة بن الجراح؛ فلما أخذ لينطلق بكى صبابةً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعث رجلاً مكانه يقال له عبد الله جحش، وكتب له كتاباً وأمره ألا يقرأ الكتاب حتى يبلغ كذا وكذا: " ولا تكرهن أحداً من أصحابك على السير معك " . فلما قرأ الكتاب استرجع، ثم قال: سمعاً وطاهة لأمر الله ورسوله ! فخبرهم بالخبر؛ وقرأ عليهم الكتاب، فرجع رجلان ومضى بقيتهم، فلقوا ابن الحضرمي فقتلوه، ولم يدروا ذلك اليوم من رجب أو من جمادى ! فقال المشركون للمسلمين: فعلتم كذا وكذا في الشهرالحرام ! فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم، فحدثوه الحديث، فأنزل الله عز وجل: " يسألونك عن الشهر الحرام قتالٍ فيه " إلى قوله: " والفتنة أكبر من القتل " ، الفتنة هي الشرك.
وقال بعض الذين - أظنه قال - : كانوا في السرية: والله ما قتله إلا واحدٌ؛ فقال: إن خيراً فقد وليت، وإن يكن ذنباً فقد علمت.
ذكر بقية ما كان في السنة الثانية من سني الهجرة ومن ذلك ما كان من صرف الله عز وجل قبلة المسلمين من الشأم إلى الكعبة، وذلك في السنة الثانية من مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة في شعبان.
واختلف السلف من العلماء في الوقت الذي صرفت فيه من هذه السنة؛ فقال بعضهم - وهم الجمهور الأعظم: صرفت في النصف من شعبان على رأس ثمانية عشر شهراً من مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة.
ذكر من قال ذلك:

حدثنا موسى بن هارون الهمداني، قال: حدثنا عمر بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدى - في خبر ذكره - عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مرة الهمداني، عن ابن مسعود - وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: كان ال
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://arabelalekat.yoo7.com
الشيخ عودة
الشيخ عودة
الشيخ عودة



عدد المساهمات : 1748
تاريخ التسجيل : 28/09/2008
العمر : 73

كتاب : تاريخ الرسل والملوك المؤلف : الطبري - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: كتاب : تاريخ الرسل والملوك المؤلف : الطبري   كتاب : تاريخ الرسل والملوك المؤلف : الطبري - صفحة 2 Emptyالسبت ديسمبر 14, 2013 10:27 am

حدثني هارون بن إسحاق، قال: حدثنا مصعب بن المقداد، قال: حدثنا إسرائيل، قال: حدثنا أبو إسحاق، عن حارثة، عن علي عليه السلام، قال: لما قدمنا المدينة أصبنا من ثمارها، فاجتويناها، وأصابنا بها وعكٌ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخبر عن بدر؛ فلما بلغنا أن المشركين قد أقبلوا سار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بدر - وبدر بئر - فسبقنا المشركين إليها، فوجدنا فيها رجلين، منهم رجلٌ من قريش، ومولى لعقبة بن أبي معيط؛ فأما القرشي فانفلت، وأما مولى عقبة فأخذناه، فجعلنا نقول: كم القوم ؟ فيقول: هم والله كثير، شديدٌ بأسهم؛ فجعل المسلمون إذا قال ذلك ضربوه، حتى انتهوا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: كم القوم ؟ فقال: هم والله كثير، شديد بأسهم، فجهد النبي أن يخبره كم هم، فأبى. ثم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأله: كم ينحرون من الجزر ؟ فقال: عشراً كل يوم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: القوم ألف.
ثم إنه أصابنا من الليل طشٌ من المطر، فانطلقنا تحت الشجر والحجف نستظل تحتها من المطر، وبات رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو ربه: اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض. فلما أن طلع الفجر نادى: الصلاة عباد الله ! فجاء الناس من تحت الشجر والحجف، فصلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحرض على القتال، ثم قال: إن جمع قريش عند هذه الضلعة من الجبل. فلما أن دنا القوم منا وصاففناهم، إذ رجلٌ من القوم على جمل أحمر يسير في القوم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا علي، ناد لي حمزة - وكان أقربهم إلى المشركين - : من صاحب الجمل الأحمر ؟ وماذا يقول لهم ؟ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن يكن في القوم من يأمر بالخير، فعسى ان يكون صاحب الجمل الأحمر، فجاء حمزة، فقال: هو عتبة بن ربيعة وهو ينهى عن القتال، ويقول لهم: إني أرى قوماً مستميتين لا تصلون إليهم وفيكم خير؛ يا قوم اعصبوها اليوم برأسي، وقولوا: جبن عتبة بن ربيعة، ولقد علمتم أني لست بأجبنكم.
قال: فسمع أبو جهل فقال: أنت تقول هذا ! والله لو غيرك يقول هذا لعضضته ! لقد ملئت رئتك وجوفك رعباً، فقال عتبة: إياي تعير يا مصفر استه ! ستعلم اليوم أينا أجبن ! قال: فبرز عتبة بن ربيعة وأخوه شبية بن ربيعة، وابنه الوليد، حميةً، فقالوا: من يبارز ؟ فخرج فتيةوٌ من الأنصار ستة، فقال عتبة: لا نريد هؤلاء؛ ولكن يبارزنا من بنى عمنا من بنى عبد المطلب. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا علي قم، يا حمزة قم، يا عبيدة بن الحارث قم، فقتل الله عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة، وجرح عبيدة بن الحارث؛ فقتلنا منهم سبعين، وأسرنا منهم سبعين.
قال: فجاء رجل من الأنصار قصير بالعباس بن عبد المطلب أسيراً، فقال: يا رسول الله؛ والله ما هذا أسرني، ولكن أسرني رجل أجلح من أحسن الناس وجهاً، على فرس أبلق، ما أراه في القوم، فقال الأنصاري: أنا أسرته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد آزرك الله بملكٍ كريم. قال علي: فأسر من بني عبد المطلب العباس وعقيل ونوفل بن الحارث.
حدثني جعفر بن محمد البزوري، قال: حدثنا عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن حارثة، عن علي، قال: لما أن كان يوم بدر، وحضر البأس اتقينا برسول اله، فكان من أشد الناس بأساً وما كان منا أحدٌ أقرب إلى العدو منه.
حدثنا عمرو بن علي، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن شعبة، عن أبي إسحاق، عن حارثة بن مضرب، عن علي، قال: سمعته يقول: ما كان فينا فارسٌ يوم بدر غير مقداد بن الأسود؛ ولقد رأيتنا وما فينا إلا نائمٌ، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائماً إلى شجرة يصلي، ويدعو حتى الصبح.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع بأبي سفيان بن حرب مقبلاً من الشام في عيرٍ لقريش عظيمة، فيها أموال لقريش وتجارة من تجاراتهم؛ وفيها ثلاثون راكباً من قريش - أو أربعون - منهم مخرمة بن نوفل بن أهيب بن عبد مناف بن زهرة، وعمرو بن العاص بن وائل بن هشام ابن سعيد بن سهم.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: فحدثني محمد بن مسلم الزهري وعاصم بن عمر بن قتادة وعبد الله بن أبي بكر ويزيد بن رومان؛ عن عروة وغيرهم من علمائنا، عن عبد الله بن عباس، كل قد حدثني بعض هذا الحديث؛ فاجتمع حديثهم فيما سقت من حديث بدر، قالوا: لما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي سفيان مقبلاً من الشأم، ندب المسلمين إليهم، وقال: هذه عير قريش فيها أموالهم، فاخرجوا إليها، لعل الله أن ينفلكموها، فانتدب الناس فخف بعضهم وثقل بعضهم؛ وذلك أنهم لم يظنوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يلقى حرباً، وكان أبو سفيان حين دنا من الحجاز يتحسس الأخبار، ويسأل من لقى من الركبان تخوفاً على أموال الناس؛ حتى أصاب خبراً، من بعض الركبان؛ أن محمداً قد استنفر أصحابه لك ولعيرك. فحذر عند ذلك، فاستأجر ضمضم بن عمرو الغفاري، فبعثه إلى مكة، وأمره أن يأتي قريشاً يستنفرهم إلى أموالهم، ويخبرهم أن محمداً قد عرض لها في أصحابه، فخرج ضمضم بن عمرو سريعاً إلى مكة.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: قال ابن إسحاق: وحدثني من لا أتهم، عن عكرمة مولى ابن عباس، عن ابن عباس ويزيد ابن رومان، عن عروة، قال: وقد رأت عاتكة بنت عبد المطلب قبل قدوم ضمضم مكة بثلاث ليال رؤيا أفزعتها، فبعثت إلى أخيها العباس بن عبد المطلب فقالت له: يا أخي، والله لقد رأيت الليلة رؤيا لقد أفظعتني، وتخوفت أن يدخل على قومك منها شر ومصيبة، فاكتم علي ما أحدثك به قال لها: وما رأيت ؟ قالت: رأيت راكباً أقبل على بعيرٍ له حتى وقف بالأبطح. ثم صرخ بأعلى صوته: أن انفروا با آل غدر لمصارعكم في ثلاث ! فأرى الناس اجتمعوا إليه، ثم دخل المسجد والناس يتبعونه، فبينا هم حوله مثل به بعيره على ظهر الكعبة، ثم صرخ بأعلى صوته بمثلها: أن انفروا يا آل غدر لمصارعكم في ثلاث ! ثم مثل به بعيره على رأس أبي قبيس، فصرخ بمثلها، ثم أخذ صخرة فأرسلها ، فأقبلت تهوي حتى إذا كانت بأسفل الجبل ارفضت فما بقى بيت من بيوت مكة، ولا دارٌ من دورها إلا دخلت منها فلقة.
قال العباس: والله إن هذه الرؤيا رأيت فاكتميها ولا تذكريها لأحد.
ثم خرج العباس فلقى الوليد بن عتبة بن ربيعة - وكان له صديقاً - فذكرها له واستكتمه إياها، فذكرها الوليد لأبيه عتبة، ففشا الحديث؛ حتى تحدثت به قريش في أنديتها.
قال العباس: فغدوت أطوف بالبيت وأبو جهل بن هشام في رهط من قريش قعودٌ يتحدثون برؤيا عاتكة؛ فلما رآني أبو جهل، قال: يا أبا الفضل؛ إذا فرغت من طوافك فأقبل علينا. قال: فلما فرغت أقبلت إليه حتى جلست معهم، فقال لي أبو جهل: يا بني عبد المطلب، متى حدثت فيكم هذه النبية ! قال: قلت: وما ذاك ؟ قال: الرؤيا التي رأت عاتكة، قال: قلت: وما رأت ؟ قال: يا بني عبد المطلب، أما رضيتم أن تتنبأ رجالكم، حتى تنبأ نساؤكم ! قد زعمت عاتكة في رؤياها أنه قال: انفروا في ثلاث ! فسنتربص بكم هذه الثلاث؛ فإن يكن ما قالت حقاً فسيكون، وإن تمض الثلاث ولم يكن من ذلك شيء؛ نكتب عليكم كتاباً أنكم أكذب أهل بيتٍ في العرب.
قال العباس: فوالله ما كان مني إليه كبير إلا أني جحدت ذلك وأنكرت أن تكون رأت شيئاً. قال: ثم تفرقنا؛ فلما أمسيت لم تبق امرأةٌ من بني المطلب إلا أتتني، فقالت: أقررتم لهذا الفاسق الخبيث أن يقع في رجالكم، ثم قد تناول النساء وأنت تسمع؛ ثم لم يكن عندك غيرة لشيء مما سمعت ! قال: قلت: قد والله فعلت؛ ما كان مني إليه من كبيرٍ ، وايم الله لأتعرضن له؛ فإن عاد لأكفينكموه.
قال: فغدوت في اليوم الثالث من رؤيا عاتكة، وأنا حديد مغضب، أرى أن قد فاتني منه أمرٌ أحب أن أدركه منه.
قال: فدخلت المسجد فرأيته؛ فوالله إني لأمشي نحوه أتعرضه ليعود لبعض ما قال فأقع به - وكان رجلاً خفيفاً حديد الوجه، حديد اللسان، حديد النظر - إذ خرج نحو باب المسجد يشتد. قال: قلت: في نفسي: ما له لعنه الله ! أكل هذا فرقاً من أن أشائمه ! قال: وإذا هو قد سمع ما لم أسمع؛ صوت ضمضم بن عمرو الغفاري، وهو يصرخ ببطن الوادي واقفاً على بعيره، قد جدع بعيره، وحول رحله، وشق قميصه، وهو يقول: يا معشر قريش، اللطيمة اللطيمة ! أموالكم مع أبي سفيان قد عرض لها محمد في أصحابه، لا أرى أن تدركوها، الغوث الغوث !

قال: فشغلني عنه شغله عني ما جاء من الأمر. فتجهز الناس سراعاً، وقالوا: أيظن محمد وأصحابه أن تكون كعير ابن الحضرمي ! كلا والله ليعلمن غير ذلك. فكانوا بين رجلين: إما خارج، وإما باعث مكانه رجلاً، وأوعبت قريش فلم يتخلف من أِشرافها أحدٌ؛ إلا أن أبا لهب بن عبد المطلب تخلف، فبعث مكانه العاص بن هشام بن المغيرة، وكان لاط له بأربعة آلاف درهم كانت له عليه، أفلس بها، فاستأجره بها على أن يجزى عنه بعثه، فخرج عنه وتخلف أبو لهب.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: قال محمد بن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي نجيح، أن أمية بن خلف كان قد أجمع القعود، وكان شيخاً جليلاً ثقيلاً، فأتاه عقبة بن أبي معيط، وهو جالس في المسجد بين ظهري قومه بمجمرة يحملها، فيها نار ومجمر، حتى وضعها بين يديه، ثم قال: يا أبا علي، استجمر، فإنما أنت من النساء، قال: قبحك الله وقبح ما جئت به ! قال: ثم تجهز مع الناس، فلما فرغوا من جهازهم، وأجمعوا السير؛ ذكروا ما بينهم وبين بني بكر بن عبد مناة بن كنانة من الحرب، فقالوا: إنا نخشى أن يأتونا من خلفنا.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: قال محمد بن إسحاق، وحدثني يزيد بن رومان، عن عروة بن الزبير، قال: لما أجمعت قريش المسير، ذكرت الذي بينها وبين بني بكر؛ فكاد ذلك أن يثنيهم، فتبدى لهم إبليس في صورة سراقة بن جعثم المدلجي - وكان من أشراف كنانة - فقال: أنا جارٌ لكم من أن يأتيكم كنانة بشيء تكرهونه، فخرجوا سراعاً.
قال أبو جعفر: وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما بلغني عن غير ابن إسحاق - لثلاث ليال خلون من شهر رمضان في ثلثمائة وبضعة عشر رجلاً من أصحابه؛ فاختلف في مبلغ الزيادة علىالعشرة.
فقال بعضهم، كانوا ثلثمائة وثلاثة عشر رجلاً.
ذكر من قال ذلك: حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا أبو بكر بن عياش، قال: حدثنا أبو إسحاق، عن البراء، قال: كنا نتحدث أن أصحاب بدر يوم بدر كعدة أصحاب طالوت، ثلثمائة رجل وثلاثة عشر رجلاً؛ الذين جاوزوا النهر؛ فسكت.
حدثني محمد بن عبيد المحاربي، قال: حدثنا أبو مالك الجنبي، عن الحجاج، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس، قال: كان المهاجرون يوم بدر سبعة وسبعين رجلاً؛ وكان الأنصار مائتين وستة وثلاثين رجلاً، وكان صاحب راية رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب عليه السلام، وصاحب راية الأنصار سعد بن عبادة.
وقال آخرون: كانوا ثلثمائة رجل وأربعة عشر، من شهد منهم، ومن ضرب بسهمه وأجره؛ حدثنا بذلك ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق.
وقال بعضهم: كانوا ثلثمائة وثمانية عشر.
وقال آخرون: كانوا ثلثمائة وسبعة.
وأما عامة السلف، فإنهم قالوا: كانوا ثلثمائة رجل وبضعة عشر رجلاً.
ذكر من قال ذلك: حدثنا هارون بن إسحاق، قال: حدثنا مصعب بن المقدام، وحدثني أحمد بن إسحاق الأهوازي، قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري، قالا: حدثنا إسرائيل، قال: حدثنا أبو إسحاق، عن البراء، قال: كنا نتحدث أن عدة أصحاب بدر على عدة أصحاب طالوت الذين جاوزوا معه النهر - ولم يجز معه إلا مؤمن - ثلثمائة وبضعة عشر .
حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا أبو عامر، قال: حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن البراء، قال: كنا نتحدث أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يوم بدر ثلثمائة وبضعة عشر رجلاً، على عدة أصحاب طالوت؛ من جاز معه النهر؛ وما جاز معه إلا مؤمنٌ.
حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي؛ عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن البراء، بنحوه.
حدثنا إسماعيل بن إسرائيل الرملي، قال: حدثنا عبد الله بن محمد ابن المغيرة، عن مسعر، عن أبي إسحاق، عن البراء، قال: عدة أهل بدر عدة أصحاب طالوت.
حدثني أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا مسعر، عن أبي إسحاق ،عن البراء، مثله.
حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه يوم بدر: أنتم بعدة أصحاب طالوت يوم لقي جالوت، وكان أصحاب نبي الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر ثلثمائةً وبضعة عشر رجلاً.
حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي، قال: خلص طالوت في ثلثمائة وبضعة عشر رجلاً؛ عدة أصحاب بدر.

حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، قال: كان مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر ثلثمائة وبضعة عشر رجلاً.
رجع الحديث إلى حديث ابن إسحاق. قال: وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه، وجعل على الساقة قيس بن أبي صعصعة أخا بني مازن بن النجار، في ليالٍ مضت من شهر رمضان؛ فسار حتى إذا كان قريباً من الصفراء، بعث بسبس بن عمرو الجهني، حليف بني ساعدة وعدي بن أبي الزغباء الجهني حليف بني النجار إلى بدر، يتحسسان له الأخبار عن أبي سفيان بن حرب وعيره، ثم ارتحل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قدمهما؛ فلما استقبل الصفراء - وهي قرية بين جبلين - سأل عن جبليهما: ما أسماءهما ؟ فقالوا لأحدهما: هذا مسلح؛ وقالوا للآخر: هذا مخرىء، وسأل عن أهلهما، فقالوا: بنو النار وبنو حراق بطنان من بني غفار، فكرههما رسول الله صلى الله عليه وسلم والمرور بينهما، وتفاءل بأسمائهما وأسماء أهاليهما؛ فتركهما والصفراء بيسار، وسلك ذات اليمين على واد يقال له ذفران؛ فخرج منه حتى إذا كان ببعضه نزل.
وأتاه الخبر عن قريش بمسيرهم ليمنعوا عيرهم، فاستشار النبي صلى الله عليه وسلم الناس، وأخبرهم عن قريش، فقام أبو بكر رضي الله عنه، فقال فأحسن، ثم قام عمر بن الخطاب فقال فأحسن، ثم قام المقداد بن عمرو، فقال: يا رسول الله، امض لما أمرك الله، فنحن معك؛ والله لا نقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى: " اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون " ؛ ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون.
فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد - يعني مدينة الحبشة - لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم خيراً، ودعا له بخير.
حدثنا محمد بن عبيد المحاربي، قال: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم أبو يحيى، قال: حدثنا المخارق، عن طارق، عن عبد الله بن مسعود، قال: لقد شهدت من المقداد مشهداً لأن أكون أنا صاحبه أحب إلي مما في الأرض من شيء؛ كان رجلاً فارساً، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا غضب احمارت وجنتاه، فأتاه المقداد على تلك الحال، فقال، أبشر يا رسول الله، فوالله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: " اذهب أن وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون " ، ولكن والذي بعثك بالحق لنكونن من بين يديك ومن خلفك، وعن يمينك وعن شمالك، أو يفتح الله لك.
رجع الحديث إلى حديث ابن إسحاق. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أشيروا علي أيها الناس - وإنما يريد الأنصار؛ وذلك أنهم كانوا عدد الناس؛ وذلك أنهم حين بايعوه بالعقبة، قالوا: يا رسول الله؛ إنا برآء من ذمامك حتى تصل إلى دارنا، فإذا وصلت إلينا فأنت في ذمامنا؛ نمنعك مما نمنع منه أبناءنا ونساءنا؛ فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخوف ألا تكون الأنصار ترى عليها نصرته؛ إلا ممن دهمه بالمدينة من عدوه، وأن ليس عليهم أن يسير بهم إلى عدو من بلادهم - فلما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال له سعد بن معاذ: والله لكأنك تريدنا يا رسول الله ! قال: أجل، قال: فقد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا؛ على السمع والطاعة، فامضي يا رسول الله لما أردت؛ فوالذي بعثك بالحق إن اسعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك؛ ما تخلف منا رجلٌ واحد؛ وما نكره أن تلقى بنا عدونا غداً ! إن لصبرٌ عند الحرب؛ صدقٌ عند اللقاء، لعل الله يريك منا ما تقر به عينك؛ فسر بنا على بركة الله.
فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول سعد، ونشطه ذلك، ثم قال: سيروا على بركة الله، وأبشروا؛ فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين؛ والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم.

ثم ارتحل رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذفران، فسلك على ثنايا يقال لها الأصافر، ثم انحط منها على بلد يقال لها الدبة، وترك الحنان بيمين؛ - وهو كثيب عظيم كالجبل - ثم نزل قريباً من بدر، فركب هو ورجلٌ من أصحابه - كما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثنا محمد بن إسحاق، عن محمد بن يحيى بن حبان - حتى وقف على شيخ من العرب؛ فسأله عن قريش وعن محمد وأصحابه، وما بلغه عنهم، فقال الشيخ: لا أخبركما حتى تخبراني ممن أنتما ! فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا أخبرتنا أخبرناك؛ فقال: وذاك بذاك ! قال: نعم، قال الشيخ: فإنه بلغني أن محمداً وأصحابه خرجوا يوم كذا وكذا، فإن كان صدقني الذي أخبرني فهو اليوم بمكان كذا وكذا - للمكان الذي به رسول الله صلى الله عليه وسلم - وبلغني أن قريشاً خرجوا يوم كذا وكذا؛ فإن كان الذي حدثني صدقني فهم اليوم بمكان كذا وكذا - للمكان الذي به قريش - فلما فرغ من خبره، قال: ممن أنتما ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نحن من ماء، ثم انصرف عنه. قال: يقول الشيخ: ما من ماءٍ، أمن ماء العراق ! ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه؛ فلما أمسى بعث علي بن أبي طالب والزبير بن العوام وسعد بن أبي وقاص، في نفرٍ من أصحابه إلى ماء بدر يلتمسون له الخبر عليه - كما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال، حدثنا محمد بن إسحاق، كما حدثني يزيد بن رومان، عن عرورة بن الزبير - فأصابوا راويةً لقريش فيها أسلم؛ غلام بني الحجاج، وعريض أبو يسار، غلام بني العاص بني سعيد؛ فأتوا بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلي؛ فسألوهما، فقالا: نحن سقاة قريش؛ بعثونا لنسقيهم من الماء، فكره القوم خبرهما، ورجوا أن يكونا لأبي سفيان، فضربوهما، فلما أذلقوهما قالا: نحن لأبي سفيان، فتركوهما، وركع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسجد سجدتين، ثم سلم، فقال: إذا صدقاكم ضربتموهما، وإذا كذباكم تركتموهما ! صدقا والله ! إنهما لقريش؛ أخبراني: أين قريش ؟ قالا: هم وراء هذا الكثيب الذي ترى بالعدوة القصوى - والكثيب: العقنقل - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لهما: كم القوم ؟ قالا: كثيرٌ، قال: ما عدتهم ؟ قالا: لا ندري، قال: كم ينحرون كل يوم ؟ قالا: يوماً تسعاً ويوماً عشراً، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: القوم ما بين التسعمائة والألف.
ثم قال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: فمن فيهم من أشراف قريش ؟ قال: عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو البختري بن هشام، وحكيم بن حزام، ونوفل بن خويلد، والحارث بن عامر بن نوفل، وطعيمة بن عدي بن نوفل، والنضر بن الحارث بن كلدة، وزمعة بن الأسود، وأبو جهل ابن هشام، وأمية بن خلف ونبيه، ومنبه ابنا الحجاج، وسهيل بن عمرو، وعمرو بن عبد ود. فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس، فقال: هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها.
قالوا: وقد كان بسبس بن عمرو وعدي بن أبي الزغباء مضيا حتى نزلا بدراً، فأناخا إلى تل قريب من الماء، ثم أخذا شناً يستقيان فيه - ومجدى بن عمرو الجهنى على الماء - فسمع عدى وبسبس جاريتين من جواري الحاضر؛ وهما تتلازمان على الماء؛ والملزومة تقول لصاحبتها: إنما تأتي العير غداً أو بعد غد، فأعمل لهم ثم أقضيك الذي لك. قال: مجدى: صدقت، ثم خلص بينهما؛ وسمع ذلك عدى وبسبس، فجلسا على بعيرهما، ثم انطلقا حتى أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبراه بما سمعا.
وأقبل أبو سفيان قد تقدم العير حذراً حتى ورد الماء، فقال لمجدى بن عمرو: هل أحسست أحداً ؟ قال: ما رأيت أحداً أنكره؛ إلا أنى رأيت راكبين أناخا إلى هذا التل، ثم استقيا في شن لهما؛ ثم انطلقا. فأتى أبو سفيان مناخهما، فأخذ من أبعار بعيريهما ففته؛ فإذا فيه نوى. فقال: هذه والله علائف يثرب ! فرجع إلى أصحابه سريعاً، فضربة وجه عيره عن الطريق، فساحل بها، وترك بدراً يساراً، ثم انطلق حتى أسرع .

وأقبلت قريش، فلما نزلوا الجحفة رأى جهيم بن الصلت بن مخرمة ابن عبد المطلب بن عبد مناف رؤيا؛ فقال: إنى رأيت فيما يرى النائم، وإني لبين النائم واليقظان، إذ نظرت إلى رجل أقبل على فرسٍ حتى وقف ومعه بعيرٌ له، ثم قال: قتل عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو الحكم بن هشام، وأمية بن خلف، وفلان وفلان؛ فعدد رجالاً ممن قتل يومئذ من أشراف قريش؛ ورأيته ضرب في لبة بعيره، ثم أرسله في العسكر، فما بقى خباء من أخبية العسكر. إلا أصابة نضحٌ من دمه.
قال: فبلغت أبا جهل، فقال: وهذا أيضاً نبيٌ من بني المطلب؛ سيعلم غداً من المقتول إن نحن التقينا ! ولما رأى أبو سفيان أنه قد أحرز عيره، أرسل إلى قريش: إنكم إنما خرجتم لتمنعوا عيركم ورجالكم وأموالكم؛ فقد نجاها الله، فارجعوا. فقال أبو جهل ابن هشام: والله لا نرجع حتى نرد بدراً - وكان بدرٌ موسماً من مواسم العرب، تجتمع لهم بها سوقٌ كل عام - فنقيم عليه ثلاثاً، وننحر الجزر، ونطعم الطعام، ونسقي الخمور، وتعزف علينا القيان، وتسمع بنا العرب؛ فلا يزالون يهابوننا أبداً؛ فامضوا.
فقال الأخنس بن شريق ين عمرو بن وهب الثقفي - وكان حلفياً لبني زهرة وهم بالجحفة: يا بني زهرة؛ قد نجى الله لكم أموالكم، وخلص لكم صاحبكم مخرمة بن نوفل؛ وإنما نفرتم لتمنعوه وماله، فاجعلوا بي جنبها وارجعوا، فإنه لا حاجة بكم في أن تخرجوا في غير ضيعةٍ؛ لا ما يقول هذا - يعني أبا جهل - فرجعوا؛ فلم يشهدها زهريٌ واحدٌ، وكان فيهم مطاعاً. ولم يكن بقي من قريش بطن إلا نفر منهم ناس، إلا بني عدي بن كعب، لم يخرج منهم رجلٌ واحدٌ، إلا فرجعت بنو زهرة مع الأخنس بن شريق، فلم يشهد بدراً من هاتين القبيلتين أحدٌ. ومضى القوم.
قال: وقد كان بين طالب بن أبي طالب - وكان في القوم - وبين بعض قريش محاورة، فقالوا: والله لقد عرفنا يا بني هاشم - وإن خرجتم معنا - أن هواكم مع محمد. فرجع طالب إلى مكة فيمن رجع.
قال أبو جعفر: وأما ابن الكلبي؛ فإنه قال فيما حدثت عنه: شخص طالب بن أبي طالب إلى بدر مع المشركين، أخرج كرهاً. فلم يوجد في الأسرى ولا في القتلى، ولم يرجع إلى أهله، وكان شاعراً؛ وهو الذي يقول:
يارب إنما يغزون طالب ... في مقنبٍ من هذه المقانب
فليكن المسلوب غير السالب ... وليكن المغلوب غير الغالب
رجع الحديث إلى حديث ابن إسحاق. قال: ومضت قريش حتى نزلوا بالعدوة القصوى من الوادي؛ خلف العقنقل، وبطن الوادي وهو يليل، بين بدر وبين العقنقل، الكثيب الذي خلقه قريش ، والقلب ببدر في العدوة الدنيا من بطن يليل إلى المدينة، وبعث الله السماء، وكان الوادي دهساً، فأصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه منها ما لبد لهم الأرض؛ ولم يمنعهم المسير، وأصاب قريشاً منها ما لم يقدروا على أن يرتحلوا معه؛ فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يبادروهم إلى الماء؛ حتى إذا جاء أدنى من بدر نزل به.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: فحدثني محمد بن إسحاق، قال: حدثت عن رجال من بني سلمة ؛أنهم ذكروا أن الحباب ابن المنذر بن الجموح، قال: يا رسول الله، أرأيت هذا المنزل، أمنزلٌ أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخره، أم هو الرأي والحرب والمكيدة ؟ قال: بل هو الرأي والحرب والمكيدة؛ فقال: يا رسول الله، فإن هذا ليس لك بمنزل، فانهض بالناس حتى نأتي أدنى الماء من القوم فننزله، ثم نعور ما سواه من القلب، ثم نبني عليه حوضاً فتملؤه ماء، ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد أشرت بالرأي. فنهض رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من الناس، فسار حتى أتى أدنى ماء من القوم، فنزل عليه، ثم أمر بالقلب فعورت، وبني حوضاً على القليب الذي نزل عليه فملىء ماء، ثم قذفوا فيه الآنية.

حدثنا ابن حميد ،قال: حدثنا سلمة، قال: قال محمد بن إسحاق: فحدثني عبد الله بن أبي بكر، أن سعد بن معاذ قال: يا رسول الله نبني لك عريشاً من جريد فتكون فيه، ونعد عندك ركائبك، ثم نلقى عدونا؛ فإن أعزنا الله وأظهرنا على عدونا كان ذلك مما أحببنا، وإن كانت الأخرى حلست على ركائبك، فلحقت بمن وراءنا من قومنا، فقد خلفت عنك أقوام يا نبي الله، ما نحن بأشد حباً لك منهم؛ ولو ظنوا أنك تلقي حرباً ما تخلفوا عنك. يمنعك الله بهم، يناصحونك ويجاهدون معك. فأثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم خيراً. ودعا له بخير.
ثم بني لرسول الله صلى الله عليه وسلم عريشٌ، فكان فيه؛ وقد ارتحلت قريش حين أصبحت، فأقبلت، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم تصوب من العقنقل - وهو الكثيب الذي منه جاءوا إلى الوادي - قال: اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها تحادك وتكذب رسولك؛ اللهم فنصرك الذي وعدتني؛ اللهم فأحنهم الغداة ! وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - ورأى عتبة بن ربيعة في القوم، على جمل له أحمر: إن يكن عند أحد من القوم خيرٌ؛ فعند صاحب الجمل الأحمر؛ إن يطيعوه يرشدوا. وقد كان خفاف بن إيماء بن رحضة الغفاري - أو أبوه إيماء بن رحضة - بعث إلى قريش حين مروا به ابناً له بجزائر أهداها لهم، وقال: إن أحببتم أن أمدكم بسلاح ورجال فعلنا؛ فأرسلوا إليه مع ابنه: أن وصلتك الرحم ! فقد قضيت الذي عليك؛ فلعمري لئن كنا إنما نقاتل الناس؛ ما بنا ضعفٌ عنهم؛ ولئن كنا نقاتل الله - كما يزعم محمد - فما لأحد بالله من طاقة.
فلما نزل الناس، أقبل نفر من قريش؛ حتى وردوا حوض رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيهم حكيم بن حزام، على فرس له، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعوهم، فما شرب منهم رجل إلا قتل يومئذ؛ إلا ما كان من حكيم بن حزام، فإنه لم يقتل؛ نجا على فرس له يقال له الوجيه، وأسلم بعد ذلك، فحسن إسلامه؛ فكان إذا اجتهد في يمينه قال: لا والذي نجاني يوم بدر ! حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: قال: محمد بن إسحاق: وحدثني إسحاق بن يسار وغيره من أهل العلم، عن أشياخ من الأنصار، قالوا: لما اطمأن القوم، بعثوا عمير بن وهب الجمحي، فقالوا: احزر لنا أصحاب محمد، قال: فاستجال بفرسه حول العسكر، ثم رجع إليهم، فقال: ثلثمائة رجل، يزيدون قليلا أو ينقصون؛ ولكن أمهلوني حتى أنظر؛ أللقوم كمين أم مدد ؟ قال: فضرب في الوادي؛ حتى أبعد فلم ير شيئا، فرجع إليهم، فقال: ما رأيت شيئا، ولكني قد رأيت - يا معشر قريش - الولايا تحمل المنايا، نواضح يثرب تحمل الموت الناقع؛ قوم ليس لهم منعة ولا ملجأ إلا سيوفهم؛ والله ما أرى أن يقتل رجل منهم حتى يقتل رجل منكم؛ فإذا أصابوا منكم أعدادهم فما خير العيش بعد ذلك ! فروا رأيكم.
فلما سمع حكيم بن حزام ذلك، مشى في الناس، فأتى عتتبة بن ربيعة، فقال: يا أبا الوليد؛ إنك كبير قريش الليلة وسيدها، والمطاع فيها؛ هل لك ألا تزال تذكر منها بخير إلى آخر الدهر ! قال: وما ذاك يا حكيم ؟ قال: ترجع بالناس، وتحمل دم حليفك عمرو بن الحضرمي ! قال: قد فعلت، أنت علي بذلك؛ إنما هو حليفي فعلي عقله، وما أصيب من ماله؛ فأت ابن الحنظلية؛ فإني لا أخشى أن يشجر أمر الناس غيره - يعنى أبا جهل بن هشام.
حدثنا الزبير بن بكار، قال: حدثنا عثامة بن عمرو السهمي، قال: حدثني مسور بن عبد المللك اليربوعي، عن أبيه، عن سعيد بن المسيب، قال: بينا نحن عند مروان بن الحكم، إذ دخل حاجبه، فقال: هذا أبو خالد حكيم بن حزام، قال: إئذن له، فلما دخل جكيم بن حزام، قال: مرحباً بك يا أبا خالد ! ادن، فحال له مروان عن صدر المجلس؛ حتى كان بينه وبين الوسادة، ثم استقبله مروان، فقال: حدثنا حديث بدر، قال: خرجنا حتى نزلنا الجحفة رجعت قبيلة من قبائل قريش بأسرها، فلم يشهد أحدٌ من مشركيهم بدلراً.

ثم خرجنا حتى نزلنا العدوة التي ذكرها الله عز وجل، فجئت عتبة بن ربيعة، فقلت: يا أبا الوليد، هل لك أن تذهب بشرف هذا اليوم ما بقيت ؟ قال: أفعل ماذا ؟ قلت: إنكم لا تطلبون من محمد إلا دم ابن الحضرمي؛ وهو حليفك، فتحمل ديته وترجع بالناس. فقال: أنت وذاك، وأنا أتحمل بديته، واذهب إلى ابن الحنظلية - يعنى أبا جهل - فقل له: هل لك أن ترجع اليوم بمن معك عن ابن عمك ؟ فجئته فإذا هو في جماعة من بين يديه ومن ورائه، وإذا ابن الحضرمي واقف على رأسه؛ وهو يقول: قد فسخت عقدي من عبد شمس، وعقدي إلى بني مخزوم. فقلت له: يقول لك عتبة بن ربيعة: هل لك أن ترجع اليوم عن ابن عمك بمن معك ؟ قال: أما وجد رسولاً غيرك ! قلت: لا، ولم أكن لأكون رسولاً لغيره. قال حكيم: فخرجت مبادراً إلى عتبة؛ لئلا يفوتني من الخبر شيء، وعتبة متكئ على إيماء بن رحضة الغفاري؛ وقد أهدى إلى المشركين عشرة جزائر، فطلع أبو جهل والشر في وجهه، فقال لعتبة: انتفخ سحرك ! فقال له عتبة: ستعلم ! فسل أبو جهل سيفه، فضرب به متن فرسه، فقال إيماء بن رحضة: بئس الفأل هذا ! فعند ذلك قامت الحرب.
رجع الحديث إلى حديث ابن إسحاق. ثم قام عتبة بن ربيعة خطيباً، فقال: يا معشر قريش، إنكم والله ما تصنعون بأن تلقوا محمداً وأصحابه شيئاً؛ والله لئن أصبتموه لا يزال رجلٌ ينظر في وجه رجل يكره النظر إليه قتل ابن عمه أو ابن خاله أو رجلاً من عشيرته؛ فارجعوا وخلوا بين محمد وبين سائر العرب؛ فإن أصابوه فذاك الذي أردتم، وإن كان غير ذلك ألفاكم ولم تعرضوا منه ما تريدون قال حكيم: فانطلقت أؤم أبا جهل؛ فوجدته قد نشل درعاً له من جرابها؛ فهو يهيئها. فقلت: يا أبا الحكم؛ إن عتببة قد أرسلني إليك بكذا وكذا - للذي قال - فقال: انتفخ والله سحره حين رأى محمداً وأصحابه؛ كلا والله لا نرجع حتى يحكم الله بيننا وبين محمد وأصحابه، وما بعتبة ما قال؛ ولكنه قد رأى محمداً وأصحابه أكلة جزور؛ وفيهم ابنه فقد تخوفكم عليه ثم بعث إلى عامر بن الحضرمي، فقال له: هذا حليفك، يريد أن يرجع بالناس، وقد رأيت ثأرك بعينك، فقم فانشد خفرتك ومقتل أخيك. فقام عامر بن الحضرمي فاكتشف ثم صرخ: واعمراه ! واعمراه ! فحميت الحرب، وحقب أمر الناس، واستوسقوا على ما هم عليه من الشر وأفسد على الناس الرأي الذي دعاهم إليه عتبة بن ربيعة.
فلما بلغ عتبة بن ربيعة قول أبي جهل: انتفخ سحره، قال: سيعلم المصفر استه من انتفخ سحره، أنا أم هو ! ثم التمس بيضة يدخلها في رأسه فما وجد في الجيش بيضة تسعه من عظم هامته، فلما رأى ذلك اعتجر على رأسه ببرد له.
وقد خرج الأسود بن عبد الأسد المخزومي - وكان رجلاً شرساً سيء الخلق - فقال: أعاهد الله لأشربن من حوضهم ولأهدمنه أو لأموتن دونه. فلما خرج خرج له حمزة بن عبد المطلب، فلما التقيا ضربه حمزة فأطن قدمه بنصف ساقه؛ وهو دون الحوض، فوقع على ظهره تشخب رجله دماً نحو أصحابه، ثم حبا إلى الحوض حتى اقتحم فيه، يريد - زعم - أن يبر يمينه، واتبعه حمزة فضربه حتى قتله في الحوض.

ثم خرج بعده عتبة بن ربيعة بين أخيه شيبة بن ربيعة وابنه الوليد بن عتبة؛ حتى إذا فصل من الصف دعا إلى المبارزة، فخرج إليه فتية من الأنصار ثلاثة نفر منهم: عوف ومعوذ ابنا الحارث - وأمهما عفراء - ورجل آخر يقال له عبد الله بن رواحة، فقال: من أنتم ؟ قالوا: رهط من الأنصار. فقالوا: مالنا بكم حاجة ! ثم نادى مناديهم: يا محمد، أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قم يا حمزة بن عبد المطلب، قم يا عبيدة بن الحارث، قم يا علي بن أبي طالب؛ فلما قاموا ودنوا منهم، قالوا: من أنتم ! قال عبيدة: عبيدة، وقال حمزة: حمزة، وقال علي: علي، قالوا: نعم أكفاءٌ كرام ! فبارز عبيدة بن الحارث - وكان أسن القوم - عتبة بن ربيعة، وبارز حمزة شيبة بن ربيعة، وبارز علي الوليد بن عتبة؛ فأما حمزة فلم يمهل شيبة أن قتله، وأما عليٌ فلم يمهل الوليد أن قتله؛ واختلف عبيدة وعتبة بينهما بضربتين، كلاهما أثبت صاحبه، وكر حمزة وعلي بأسيافهما على عتبة، فذففا عليه فقتلاه، واحتملا صاحبهما عبيدة فجاءا به إلى أصحابه؛ وقد قطعت رجله، فمخها يسيل فلما أتوا بعبيدة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ألست شهيداً يا رسول الله ! قال: بلى، فقال عبيدة لو كان أبو طالب حياً لعلم أني أحق بما قال منه حيث يقول:
ونسلمه حتى نصرع حوله ... ونذهل عن أبنائنا والحلائل
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: قال محمد بن إسحاق: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة؛ أن عتبة بن ربيعة قال للفتية من الأنصار حين انتسبوا: أكفاءٌ كرامٌ، إنما نريد قومنا، ثم تزاحف الناس؛ ودنا بعضهم من بعض، وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه ألا يحملوا حتى يأمرهم؛ وقال: إن أكتنفكم القوم فانضحوهم عنكم بالنبل؛ ورسول الله صلى الله عليه وسلم في العريش معه أبو بكر.
قال أبو جعفر: وكانت وقعة بدر يوم الجمعة صبيحة سبع عشرة من شهر رمضان، كما حدثنا ابن حميد، قال :حدثنا سلمة، قال: قال محمد بن إسحاق؛ كما حدثني أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين. وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: قال محمد بن إسحاق: وحدثني حبان بن واسع بن حبان بن واسع، عن أشياخ من قومه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عدل صفوف أصحابه يوم بدر، وفي يده قدحٌ يعدل به القوم، فمر بسواد بن غزية، حليف بن عدي بن النجار، وهو مستنتل من الصف، فطعن رسول الله صلى الله عليه وسلم في بطنه بالقدح، وقال: استو يا سواد بن غزية؛ قال: يا رسول الله أوجعتني وقد بعثك الله بالحق فأقدني. قال: فكشف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بطنه ثم قال: استقد، قال: فاعتنقه وقبل بطنه، فقال: ما حملك على هذا يا سواد ؟ فقال: يا رسول الله، حضر ما ترى فلم آمن القتل. فأردت أن يكون آخر العهد بك أن يمس جلدي جلدك. فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بخير، وقال له خيراً.
ثم عدل رسول الله صلى الله عليه وسلم الصفوف، ورجع إلى العريش ودخله، ومعه فيه أبو بكر ليس معه فيه غيره، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يناشد ربه ما وعده من النصر، ويقول فيما يقول: اللهم إنك إن تهلك هذه العصابة اليوم - يعني المسلمين - لا تعبد بعد اليوم، وأبو بكر يقول: يا نبي الله، بعض مناشدتك ربك !، فإن الله عز وجل منجزٌ لك ما وعدك.
فحدثني محمد بن عبيد المحاربي، قال: حدثنا عبد الله بن المبارك، عن عكرمة بن عمار، قال: حدثني سماك الحنفي، قا ل: سمعت ابن عباس يقول: حدثني عمر بن الخطاب، قال: لما كان يوم بدر، ونظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين وعدتهم، ونظر إلى أصحابه نيفاً على ثلثمائة، استقبل القبلة، فجعل يدعو، يقول: اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض؛ فلم يزل كذلك حتى سقط رداؤه، فأخذ أبو بكر فوضع ردائه عليه ثم التزمه من ورائه، ثم قال: كفاك يا نبي الله، بأبي وأنت وأمي، مناشدتك ربك؛ فإنه سينجز لك ما وعدك ! فأنزل الله تبارك وتعالى: " إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألفٍ من الملائكة مردفين " .

حدثنا ابن وكيع: قال: حدثنا الثقفي - يعني عبد الوهاب - عن خالد، عن عكرمة، عن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: وهو في قبته يوم بدر: اللهم إني أسألك عهدك ووعدك؛ اللهم إن شئت لم تعبد بعد اليوم ! قال: فأخذ أبو بكر بيده، فقال: حسبك يا نبي الله، فقد ألححت على ربك - وهو في الدرع - فخرج وهو يقول: " سيهزم الجمع ويولون الدبر، بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر " .
رجع الحديث إلى حديث ابن إسحاق. قال: وقد خفق رسول الله صلى الله عليه وسلم خفقةً وهو في العريش؛ ثم انتبه، فقال: يا أبا بكر، أتاك نصر الله، هذا جبريل آخذ بعنان فرسه يقوده، على ثناياه النقع. قال: وقد رمي مهجعٌ مولى عمر بن الخطاب بسهم فقتل، فكان أول قتيل من المسلمين ثم رمي حارثة بن سراقة، أحد بني عدي بن النجار وهو يشرب من الحوض فقتل. ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الناس فحرضهم، ونفل كل امرىء منهم ما أصاب، وقال: والذي نفس محمد بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابراً محتسباً مقبلاً غير مدبر؛ إلا أدخله الله الجنة. فقال عمير بن الحمام، أخو بني سلمة، وفي يده تمرات يأكلهن: بخ بخ، فما بيني وبين أن أدخل الجنة إلا أن يقتلني هؤلاء ! ثم قذف التمرات من يده، وأخذ سيفه، فقاتل القوم حتى قتل وهو يقول:
ركضاً إلى الله بغير زاد ... إلا التقى وعمل المعاد
والصبر في الله على الجهاد ... وكل زادٍ عرضه النفاد
غير التقى والبر والرشاد
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق؛ عن عاصم بن عمر بن قتادة أن عوف بن الحارث - وهو ابن عفراء - قال: يا رسول الله، ما يضحك الرب من عبده ؟ قال: غمسه يده في العدو حاسراً. فنزع درعاً كانت عليه، فقذفها؛ ثم أخذ سيفه فقاتل القوم حتى قتل.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: قال محمد بن إسحاق، وحدثني محمد بن مسلم الزهري، عن عبد الله بن ثعلبة بن صعير العذري، حليف بني زهرة، قال: لما التقى الناس، ودنا بعضهم من بعض، قال أبو جهل: اللهم اقطعنا للرحم، وأتانا بما لا يعرف؛ فأحنه الغداة، فكان هو المستفتح على نفسه.
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ حفنة من الحصباء، فاستقبل بها قريشاً، ثم قال: شاهت الوجوه! ثم نفحهم بها، وقال لأصحابه شدوا، فكانت الهزيمة، فقتل الله من قتل من صناديد قريش، وأسر من أسر منهم. فلما وضع القوم أيديهم يأسرون، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في العريش، وسعد بن معاذ قائم على باب العريش الذي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم متوشحاً السيف، في نفر من الأنصار يحرسون رسول الله صلى الله عليه وسلم، يخافون عليه كرة العدو، ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما ذكر لي - في وجه سعد بن معاذ الكراهية لما يصنع الناس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لكأنك يا سعد تكره ما يصنع الناس ! قال: أجل والله يا رسول الله ! كانت أول وقعة أوقعها الله بالمشركين؛ فكان الإثخان في القتل أعجب إلي من استبقاء الرجال.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثني سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: وحدثني العباس بن عبد الله بن معبد، عن بعض أهله، عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه يومئذ: إني قد عرفت أن رجالاً من بني هاشم وغيرهم قد أخرجوا كرهاً، لا حاجة لهم لقتالنا، فمن لقى منكم أحداً من بني هاشم فلا يقتله، ومن لقى أبا البختري بن هشام بن الحارث بن أسد فلا يقتله، ومن لقى العباس بن عبد المطلب عم رسول الله فلا يقتله؛ فإنه إنما أخرج مستكرهاً.
قال: فقال أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة: أنقتل آبائنا وأبنائنا وإخواننا وعشيرتنا، ونترك العباس ! والله لئن لقيته لألحمنه السيف. فبلغت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل يقول لعمر بن الخطاب: يا أبا حفص، أما تسمع إلى قول أبي حذيفة، يقول: أضرب وجه عم رسول الله بالسيف ! فقال عمر: يا رسول الله، دعني فلأضربن عنقه بالسيف؛ فوالله لقد نافق.
- قال عمر: والله إنه لأول يوم كناني فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي حفص - قال: فكان أبو حذيفة يقول: ما أنا بآمن من تلك الكلمة التي قلت يومئذ، ولا أزل منها خائفاً إلا أن تكفرها عني الشهادة فقتل يوم اليمامة شهيداً .

قال: وإنما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل أبي البختري؛ لأنه كان أكف القوم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة، كان لا يؤذيه ولا يبلغه عنه شيء يكرهه؛ وكان ممن قام في نقض الصحيفة التي كتبت قريش على بني هاشم وبني المطلب، فلقيه المجذر بن ذياد البلوي، حليف الأنصار من بني عدي، فقال المجذر بن ذياد لأبي البختري: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نهى عن قتلك - ومع أبي البختري زميلٌ له خرج معه من مكة، وهو جنادة بن مليحة بنت زهير بن الحارث بن أسد، وجنادة رجل من بني ليث. واسم أبي البختري العاص بن هشام ابن الحارث بن أسد - قال: وزميلي ؟ فقال: المجذر: لا والله ما نحن بتاركي زميلك؛ ما أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بك وحدك، قال: لا والله أذاً ، لأموتن أنا وهو جميعاً؛ لا تحدث عني نساء قريش من أهل مكة أني تركت زميلي حرصاً على الحياة فقال أبو البختري حين نازله المجذر، وأبى إلا القتال، وهو يرتجز:
لن يسلم ابن حرةٍ أكيله ... حتى يموت أو يرى سبيله
فاقتتلا، فقتله المجذر بن ذياد.
قال: ثم أتى المجذر بن ذياد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: والذي بعثك بالحق لقد جهدت عليه أن يستأسر فآتيك به فأبى إلا القتال، فقاتلته فقتلته.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: قال محمد بن إسحاق: حدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، قال. وحدثني أيضاً عبد الله بن أبي بكر، وغيرهما، عن عبد الرحمن بن عوف قال: كان أمية بن خلف لي صديقاً بمكة - وكان اسمي عبد عمرو، فسميت حين أسلمت: عبد الرحمن، ونحن بمكة - قال: فكان يلقاني ونحن بمكة، فيقول يا عبد عمرو، أرغبت عن اسم سماكه أبوك ؟ فأقول: نعم، فيقول: فإني لا أعرف الرحمن؛ فاجعل بيني وبينك شيئاً أدعوك به؛ أما أنت فلا تجيبني بأسمك الأول، وأما أنا فلا أدعوك بما لا أعرف. قال: فكان إذا دعاني: يا عبد عمرو لم أجبه، فقلت: اجعل بيني وبينك يا أبا علي ما شئت، قال: فأنت عبد الإله، فقلت: نعم، فكنت إذا مررت به قال: يا عبد الإله، فأجيبه، فأتحدث معه؛ حتى إذا كان يوم بدر، مررت به وهو واقف مع ابنه على بن علبي بن أمية، آخذاً بيده، ومعي أدراعٌ قد استلبتها، فأنا أحملها. فلما رآني قال: يا عبد عمرو ! فلم أجبه، فقال: يا عبد الإله، قلت: نعم، قال : هل لك في ، فأنا خير لك من الأدراع التي معك ؟ قلت : نعم ، هلم إذاً. قال: فطرحت الأدراع من يدي وأخذت بيده ويد ابنه علي، وهو يقول: ما رأيت كاليوم قط ! أما لكم حاجة في اللبن ! قال: ثم خرجت أمشي بهما.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: حدثني عبد الواحد بن أبي عون، عن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن ابن عوف، عن أبيه، عن عبد الرحمن بن عوف، قال: قال لي أمية بن خلف وأنا بينه وبين ابنه، آخذٌ بأيديهما: يا عبد الإله، من الرجل منكم، المعلم بريشة نعامة في صدره ؟ قال: قلت: ذاك حمزة بن عبد المطلب، قال: ذاك الذي فعل بنا الأفاعيل ! قال عبد الرحمن: فوالله إني لأقودهما إذ رآه بلال معي - وكان هو الذي يعذب بلالاً بمكة على أن يترك الإسلام فيخرجه إلى رمضاء مكة إذا حميت، فيضجعه على ظهره، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره، ثم يقول : لا تزال هكذا حتى تفارق دين محمد ، فيقول بلال : أحدٌ أحدٌ - فقال بلال حين رآه: رأس الكفر أمية ابن خلف، لا نجوت إن نجوت؛ قال: قلت: أي بلال، أسيري ! قال: لا نجوت إن نجوا. قال: قلت: تسمع يابن السوداء ! قال: لا نجوت إن نجوا، ثم صرخ بأعلى صوته: يا أنصار الله، رأس الكفر أمية بن خلف، لا نجوت إن نجا! قال: فأحاطوا بنا، ثم جعلونا في مثل المسكة وأنا أذب عنه؛ قال: فضرب رجلٌ ابنه فوقع. قال: وصاح أمية صيحة ما سمعت بمثلها قط . قال: قلت: انج بنفسك، ولا نجاء؛ فوالله ما أغنى عنك شيئاً. قال: فبروهما بأسيافهم حتى فرغوا منهما.
قال: فكان عبد الرحمن يقول: رحم الله بلالا! ذهبت أدراعي وفجعني بأسيري.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://arabelalekat.yoo7.com
الشيخ عودة
الشيخ عودة
الشيخ عودة



عدد المساهمات : 1748
تاريخ التسجيل : 28/09/2008
العمر : 73

كتاب : تاريخ الرسل والملوك المؤلف : الطبري - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: كتاب : تاريخ الرسل والملوك المؤلف : الطبري   كتاب : تاريخ الرسل والملوك المؤلف : الطبري - صفحة 2 Emptyالسبت ديسمبر 14, 2013 10:28 am

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: وحدثني عبد الله بن أبي بكر، أنه حدث عن ابن عباس، أن ابن عباس، قال: حدثني رجلٌ من بنى غفار، قال: أقبلت أنا وابن عم لي حتى أصعدنا في جبل يشرف بنا على بدر، ونحن مشركان، ننتظر الوقعة على من تكو الدبرة، فننتهب مع من ينتهب. قال: فبينا نحن في الجبل؛ إذ دنت منا سحابة، فسمعنا فيها حمحمة الخيال، فسمعت قائلاً: يقول: أقدم حيزوم. قال: فأما ابن عمي فانكشف قناع فلبه فمات مكانه؛ وأما أنا فكدت أهلك، ثم تماسكت.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: قال محمد بن إسحاق : " وحدثني أبي إسحاق بن يسار، عن رجال من بنى مازن بن النجار، عن أبي داود المازني - وكان شهد بدراً - قال: إنى لأتبع رجلاً من المشركين يوم بدر لأضربه، إذ وقع رأسه قبل أن يصل إليه سيفي، فعرفت أنه قد قتله غيري.
حدثني عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم المصري، قال: حدثنا يحيى بن بكير، قال: حدثنا محمد بن يحيى الإسكندراني عن العلاء بن كثير، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن المسور بن مخرمة، عن أبي أمامة ابن سهبل بن حنيف، قال: قال لي أبي: يا بني، لقد رأيتنا يوم بدر؛ وإن أحدنا ليشير بسيفه إلى المشرك فيقع رأسه عن جسده قبل أن يصل إليه السيف.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: وحدثني الحسن بن عمارة، عن الحكم بن عتبية، عن مقسم مولى عبد الله بن الحارث، عن عبد الله بن عباس، قال: كانت سيماء الملائكة يوم بدر عمائم بيضاً قد أرسلوها في ظهورهم، ويوم حنين عمائم حمراً، ولم تقاتل الملائكة في يوم من الأيام سوى يوم بدر. وكانوا يكونون فيما سواه من الأيام عدداً ومدداً لا يضربون.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة ، قال: قال محمد: وحدثني ثور بن زيد مولى بنى الديل، عن عكرمة مولى ابن عباس، عن ابن عباس قال: وحدثني عبد الله بن أبي بكر، قالا: كان معاذ بن عمرو بن الجموح أخو بنى سلمة يقول: لما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من عدوه، أمر بأبي جهل أن يلتمس بالقتلى، وقال: اللهم لا يعجزنك، قال: فكان أول من لقى أبا جهل معاذ بن عمرو بن الجموح، قال: سمعت القوم وأبو جهل في مثل الحرجة وهم يقولون: أبو الحكم لا يخلص إليه.
فلما سمعتها جعلته من شأني، فصمدت نحوه، فلما أمكنني حملت عليه فضربته ضربة أطنت قدمه بنصف ساقه؛ فوالله ما شبهتها حين طاحت إلا النواة تطيح من تحت مرضخة النوى حين يضرب بها.
قال: وضربني ابنه عكرمة على عاتقي؛ فطرح يدي، فتعلقت بجلدة من جنبي، وأجهضني القتال عنه؛ فلقد قاتلت عامة يومي، وإني لأسحبها خلفى؛ فلما آدتني جعلت عليها رجلي، ثم تمطيت بها، حتى طرحتها.
قال: ثم عاش معاذ بعد ذلك، حتى كان في زمن عثمان بن عفان. قال : ثم مر بأبي جهل - وهو عقير - معوذ بن عفراء، فضربه حتى أثبته؛ فتركه وبه رمق؛ وقاتل معوذ حتى قتل، فمر عبد الله بن مسعود بأبي جهل حين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يلتمس في القتلى، وقد قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما بلغني: انظروا إن خفى عليكم في القتلى إلى أثر جرح بركبته؛ فإنى ازدحمت أنا وهو يوماً على مأدبة لعبد الله ابن جدعان؛ ونحن غلامان؛ وكنت أشف منه بيسير؛ فدفعته، فوقع على ركبتيه، فجحش في إحداهما جحشاً لم يزل أثره فيه بعد. قال عبد الله بن مسعود: فوجدته بآخر رمق، فعرفته، فوضعت رجلي على عنقه. قال: وقد كان ضبث بي مرة بمكة، فآذاني ولكزني. ثم قلت: هل أخزاك الله يا عدو الله ! قال: وبما ذا أخزانمي ! أعمد من رجل قتلتموه ! أخبرني لمن الدبرة ؟ اليوم قال: قلت: لله ورسوله.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق: وزعم رجال من بنى مخزوم أن ابن مسعود، كان يقول: قال لي أبو جهل: لقد ارتقيت يا رويعي الغنم مرتقى صعباً ! ثم احتززت رأسه؛ ثم جئت به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله، هذا رأس عدو الله أبي جهل، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: آلله الذي لا إله غيره ! - وكانت يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال: قلت: نعم؛ والله الذي لا إله غيره، ثم ألقيت رأسه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: فحمد الله.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: وحدثني يزيد بن رومان، عن عروة بن الزبير، عن عائشة، قالت: لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقتلى أن يطرحوا في القليب طرحوا فيه؛ إلا ما كان من أمية بن خلف؛ فإنه انتفخ في درعه حتى ملأها، فذهبوا ليحركوه، فتزايل فأقروه، وألقوا عليه ما غيبة من التراب والحجارة، فلما ألقاهم في القليب ، وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا أهل القليب، هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقاً ! فإنى وجدت ما وعدني ربي حقاً. فقال له أصحابه: يا رسول الله، أتكلم قوماً موتى ! قال: لقد علموا أن ما وعدتهم حق، قالت عائشة: والناس يقولون: لقد سمعوا ما قلت لهم، وإنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد علموا.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق.
قال: وحدثني حميد الطويل، عن أنس بن مالك، قال: سمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول من جوف الليل: يا أهل القليب، يا عتبة بن ربيعة، يا شيبة بن ربيعة، يا أمية بن خلف، يا أبا جهل بن هشام - فعدد من كان معهم في القليب: هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقاً؛ فإنى قد وجدت ماو عدني ربي حقاً ! قال: المسلمون: يا رسول الله؛ أتنادي قوماً قد جيفوا ! فقال: ما أنتم بأسمع لما أقول منهم؛ ولكنهم لا يستطيعون أن يجيبوني.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: قال محمد بن إسحاق: وحدثني بعض أهل العلم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم قال هذه المقالة: يا أهل القليب، بئس عشيرة النبي كنتم لنبيكم ! كذبتموني وصدقني الناس، وأخرجتموني وآواني الناس، وقاتلتموني ونصرني الناس.
ثم قال: هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقاً ؟ للمقالة التي قال: قال: ولما أمر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يلقوا في القليب، أخذ عتبة بن ربيعة فسحب إلى القليب، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما بلغني - في أبي حذيفة بن عتبة؛ فإذا هو كئيب قد تغير، فقال: يا أبا حذيفة؛ لعلك دخلك من شأن أبيك شيء ! - أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - فقال: لا والله يا نبي الله، ما شككت في أبي ولا في مصرعه؛ ولكني كنت أعرف من أبي رأياً وحلماً وفضلاً؛ فكنت أرجو أن يهديه ذلك إلى الإسلام؛ فلما رأيت ما أصابه، وذكرت ما مات عليه من الكفر بعد الذي كنت أرجو له، حزنني ذلك، قال: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم له بخير، وقال له خيراً.
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بما في العسكر مما جمع الناس فجمع؛ فاختلف المسلمون فيه، فقال من جمعه: هو لنا؛ قد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم نفل كل امرئ ما أصاب، فقال الذين كانوا يقاتلون العدو ويطلبونهم: لولا نحن ما أصبتموه، لنحن شغلنا القوم عنكم حتى أصبتم ما أصبتم.
فقال الذين يحرسون رسول الله صلى الله عليه وسلم مخافة أن يخالف إليه العدو: والله ما أنتم بأحق به منا؛ لقد رأينا أن نقتل العدو إذ ولانا الله، ومنحنا أكتافهم؛ ولقد رأينا أن نأخذ المتاع حين لم يكن دونه من يمنعه؛ ولكن خفنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم كرة العدو، فقمنا دونه؛ فما أنتم بأحق به منا.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: وحدثني عبد الرحمن بن الحارث وغيره من أصحابنا، عن سليمان بن موسى الأشدق، عن مكحول، عن أبي أمامة الباهلي، قال: سألت عبادة بن الصامت عن الأنفال، فقال: فينا معشر أصحاب بدر نزلت؛ حين اختلفنا في النفل، وساءت فيه أخلاقنا، فنزعه الله من أيدينا، فجعله إلى رسوله، فقسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المسلمين عن بواء - يقول على السواء - فكان في ذلك تقوى الله، وطاعة رسوله، وصلاح ذات البين.
قال: ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الفتح عبد الله بن رواحة بشيراً إلى أهل العالية بما فتح الله على رسوله صلى الله عليه وسلم وعلى المسلمين، وبعث زيد بن حارثة إلى أهل السافلة.
قال أسامة بن زيد: فأتانا الخبر حين سوينا التراب على رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم التي كانت عند عثمان بن عفان، كان رسوال الله صلى الله عليه وسلم خلفني عليها مع عثمان.

قال: ثم قدم زيد بن حارثة فجئته وهو واقف بالمصلى قد غشيه الناس وهو يقول: قتل عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو جهل بن هشام، وزمعة بن الأسود وأبو البختري بن هشام، وأمية بن خلف ونبيه ومنبه ابنا الحجاج.
قال: قلت: يا أبه أحقٌ هذا ! قال: نعم والله يا بنى. ثم أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم قافلاً إلى المدينة؛ فاحتمل معه النفل الذي أصيب من المشركين، وجعل على النفل عبد الله بن كعب بن زيد ابن عوف بن مبذول بن عمرو بن مازن بن النجار. ثم أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا خرج من مضيق الصفراء، نزل على كثيب بين المضيق وبين النازية - يقال له سير - إلى سرحة به، فقسم هنالك النفل الذي أفاء الله على المسلمين من المشركين على السواء، واستقى له من ماء به يقال له الأرواق.
ثم ارتحل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا جاء بالروحاء، لقيه المسلمون يهنئونه بما فتح الله عليه ومن معه من المسلمين، فقال سلمة بن سلامة بن وقش - كما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: قال محمد بن إسحاق، كما حدثني عاصم بن عمر بن قتادة، ويزيد بن رومان: وما الذي تهنئون به ! فوالله إن لقينا إلا عجائز صلعاً كالبدن المعلقة، فنحرناها. فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: يا بن أخي، أولئك الملأ قال: ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسارى من المشركين وكانوا أربعة وأربعين أسيراً، وكان من القتلى مثل ذلك - وفي الأسارى عقبة بن أبي معيط، والنضر بن الحارث بن كلدة - حتى إذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصفراء، قتل النضر بن الحارث، قتله علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
حدثنا ابن حميد، قتال: حدثنا سلمة قال: قال محمد بن إسحاق: كما حدثني بعض أهل العلم من أهل مكة؛ قال: ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إذا كان بعرق الظبية، قتل عقبة بن أبي معيط، فقال حين أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقتل: فمن للصبية يا محمد ! قال: النار، قال: فقتله عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح الأنصاري، ثم أحد بنى عمرو بن عوف.
قال: كما حدثني أبو عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر، قال: ولما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عرق ظبية حين قتل عقبة لقيه أبو هند مولى فروة بن عمرو البياضي بحميت مملوء حيساً، وكان قد تخلف عن بدر، ثم شهد المشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان حجام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما أبو هند امرؤٌ من الأنصار، فأنكحوه وأنكحوا إليه، ففعلوا.
ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قدم المدينة قبل الأسارى بيوم.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر، عن يحيى بن عبد الله بن عبد الرحمن بن سعد بن زرارة، قال: قدم بالأسارى حين قدم بهم وسودة بنت زمعة زوج النبي صلى الله عليه وسلم عند آل عفراء في مناحتهم على عوف ومعوذ ابنى عفراء - قال: وذلك قبل أن يضرب عليهن الحجاب - قال: تقول سودة: والله إني لعندهم إذ أتينا، فقيل: هؤلاء الأسارى قد أتى بهم، قالت: فرحت إلى بيتي ورسول الله صلى الله عليه وسلم فيه، وإذا أبو يزيد سهيل بن عمرو في ناحية الحجرة، مجموعة يداه إلى عنقه بحبل، قالت: فوالله ما ملكت نفسي حين رأت أبا يزيد كذلك أن قلت: يا أبا يزيد، أعطيتم بأيديكم، ألا متم كراماً ! فوالله ما أنبهني إلا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم من البيت : يا سودة ، أعلى الله وعلى رسوله !قالت: قلت: يار سول الله؛ والذي بعثك بالحق ما ملكت نفسي حين رأيت أبا زيد مجموعةً يداه إلى عنقه بحبل أن قلت ما قلت.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة بن الفضل، عن محمد بن إسحاق، قال: حدثني نبيه بن وهب، أخو بنى عبد الدار، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أقبل بالأسارى فرقهم في أصحابه، وقال: استوصوا بالأسارى خيراً - قال: وكان أبو عزيز بن عمير بن هاشم، أخو مصعب بن عمير لأبيه وأمه في الأسارى - قال: فقال أبو عزيز: مر بي أخي مصعب بن عمير، ورجل من الأنصار يأسرني، فقال: شد يديك به؛ فإن أمه ذات متاع، لعلها أن تفتديه منك.

قال: وكنت في رهط من الأنصار حين أقبلوا بي من بدر؛ فكانوا إذا قدموا غداءهم وعشاءهم خصوني بالخبز، وأكلوا التمر لوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم إياهم بنا، ما تقع في يد رجل منهم كسرة من الخبز إلا نفحني بها. قال: فأستحي، فأردها على أحدهم فيردها على ما يمسها.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: قال محمد بن إسحاق: وكان أول من قدم مكة بمصاب قريش الحيسمان بن عبد الله بن إياس ابن ضبيعة بن مازن بن كعب بن عمرو الخزاعي - قال أبو جعفر: وقال الواقدي: الحيسمان بن حابس الخزاعي - قالوا: ما وراءك ؟ قال: قتل عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة، وأبو الحكم بن هشام، وأمية بن خلف، وزمعة بن الأسود، وأبو البختري بن هشام ونبيه ومنبه ابنا الحجاج.
قال: فلما جعل يعدد أشراف قريش، قال صفوان بن أمية وهو قاعد في الحجر: والله إن يعقل هذا فسلوه عني، قالوا: ما فعل صفوان بن أمية ؟ قال: هو ذاك جالساً في الحجر، وقد والله رأيت أباه وأخاه حين قتلا.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: قال محمد بن إسحاق: حدثني حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس، عن عكرمة مولى ابن عباس، قال: قال أبو رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم: كنت غلاماً للعباس بن عبد المطلب، وكان الإسلام قد دخلنا أهل البيت، وأسلمت أم الفضل وأسلمت، وكان العباس يهاب قومه، ويكره أن يخالفهم، وكان يكتم إسلامه، وكان ذا مال كثير متفرق في قومه، وكان أبو لهب عدو الله قد تخلف عن بدر، وبعث مكانه العاص بن هشام بن المغيرة وكذلك صنعوا، لم يتخلف رجل إلا بعث مكانه رجلاً، فلما جاء الخبر عن مصاب أصحاب بدر من قريش، كبته الله وأخزاه، ووجدنا في أنفسنا قوة وعزاً.
قال: وكنت رجلاً ضعيفاً، وكنت أعمل القداح، أنحتها في حجرة زمزم، فوالله إنى لجالس فيها أنحت القداح، وعندي أم الفضل جالسة، وقد سرنا ما جاءنا من الخبر، إذ أقبل الفاسق أبو لهب يجر رجليه بشر، جتى جلس على طنب الحجرة، فكان ظهره إلى ظهري؛ فبينا هو جالس إذ قال الناس: هذا أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب قد قدم. قال: فقال أبو لهب: هلم إلي يا ابن أخي، فعندك الخبر.
قال: فجلس إليه، والناس قيام عليه، فقال يا بن أخي؛ أخبرني؛ كيف كان أمر الناس ؟ قال: لا شيء؛ والله إن كان إلا أن لقيناهم، فمنحناهم أكتافنا، يقتلوننا ويأسرون كيف شاءوا؛ وايم الله مع ذلك ما لمت الناس؛ لقينا رجالاً بيضاً على خيل بلقٍ بين السماء والأرض؛ ما تليق شيئاً ولا يقوم لها شيء.
قال أبو رافع: فرفعت طنب الحجرة بيدي، ثم قلت: تلك الملائكة. قال: فرفع أبو لهب يده فضرب وجهي ضربة شديدة، قال: فثاورته، فاحتملني، فضرب بي الأرض ثم برك علي يضربني - وكنت رجلاً ضعيفاً - فقامت أم الفضل إلى عمود من عمد الحجرة، فأخذته فضربته به ضربة فشجت في رأسه شجة منكرة، وقالت: تستضعفه أن غاب عنه سيده ! فقام مولياً ذليلاً، فوالله ما عاش إلا سبع ليال حتى رماه الله عز وجل بالعدسة فقتلته، فلقد تركه ابناه ليلتين أو ثلاثاً ما يدفنانه حتى أنتن في بيته - وكانت قريش تتقي العدسة وعدوتها كما يتقى الناس الطاعون - حتى قال لهما رجل من قريش: ويحكما ! ألا تستحيان أن أباكما قد أنتن في بيته لا تغيبانه ! فقالا: إنا نخشى هذه القرحة، قال: فانطلقا فأنا معكما، فما غسلوه إلا قذفاً بالماء عليه من بعيد، ما يمسونه، ثم احتملوه فدفنوه بأعلى مكة إلى جدار، وقذفوا عليه الحجارة حتى واروه.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة بن الفضل، قال: قال محمد بن إسحاق: وحدثني العباس بن عبد الله بن معبد، عن بعض أهله، عن عبد الله ابن عباس، قال: لما أمسى القوم من يوم بدر، والأسارى محبوسون في الوثاق، بات رسول الله صلى الله عليه وسلم ساهراً أول ليلة، فقال له أصحابه: يا رسول الله، مالك لا تنام ! فقال: سمعت تضور العباس في وثاقه، قال: فقاموا إلى العباس فأطلقوه، فنام رسوال الله صلى الله عليه وسلم.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة بن الفضل، عن محمد بن إسحاق، قال: فحدثني الحسن بن عمارة، عن الحكم بن عتبية بن مقسم، عن ابن عباس، قال: كان الذي أسر العباس أبو اليسر كعب بن عمرو أخو بنى سلمة، وكان أبو اليسر رجلاً مجموعاً، وكان العباس رجلاً جسيماً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي اليسر: كيف أسرت العباس يا أبا اليسر ؟ فقال: يا رسول الله؛ لقد أعانني عليه رجلٌ ما رأيته قبل ذلك ولا بعده؛ هيئته كذا وكذا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد أعانك عليه ملك كريم.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة بن الفضل، عن محمد بن إسحاق، قال: وحدثني يحيى بن عباد، عن أبيه عباد، قال: ناحت قريش على قتلاهم، ثم قالوا: لا تفعلوا فيبلغ ذلك محمداً واصحابه، فيشمت بكم، ولا تبعثوا في فداء أسراكم حتى تستأنوا بهم؛ لا يتأرب عليكم محمد وأصحابه في الفداء.
قال: وكان الأسود بن عبد المطلب قد أصيب له ثلاثة من ولده: زمعة بن الأسود؛ وعقيل بن الأسود، والحارث بن الأسود؛ وكان يجب أن يبكي على بنيه؛ فبينا هو كذلك؛ إذ سمع نائحة من الليل، فقال لغلام له وقد ذهب بصره: انظر هلى أحل النحب ؟ هل بكت قريش على قتلاها ؟ لعلى أبكي على أبي حكيمة - يعنى زمعة - فإن جوفي قد احترق ! قال: فلما رجع إليه الغلام، قال: إنما هي امرأة تبكي على بعير لها أضلته. قال: فذلك حين يقول:
أتبكي أن يضل لها بعيرٌ ... ويمنعها من النوم السهود
فلا تبكي على بكرٍ ولكن ... على بدرٍ تقاصرت الجدود
على بدرٍ سراة بنى هصيصٍ ... ومخزومٍ ورهط أبي الوليد
وبكى إن بكيت على عقيلٍ ... وبكى حارثاً أسد الأسود
وبكيهم ولا تسمى جميعاً ... فما لأبي حكيمة من نديد
ألا قد ساد بعدهم رجالٌ ... ولولا يوم بدرٍ لم يسودوا
قال: وكان في الأسارى أبو وداعة بن ضبيرة السهمي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن له ابناً تاجراً كيساً ذا مال؛ وكأنكم به قد جاءكم في فداء أبيه ! قال: فلما قالت قريش: لا تعجلوا في فداء أسرائكم لا يتأرب عليكم محمد وأصحابه، قال المطلب بن أبي وداعة - وهو الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عنى - : صدقتم، لا تعجلوا بفداء أسرائكم.
ثم انسل من الليل، فقدم المدينة، فأخذ أباه بأربعة آلاف درهم، ثم انطلق به، ثم بعثت قريش في فداء الأسارى، فقدم مكرز بن حفص ابن الأخيف في فداء سهيل بن عمرو، وكان الذي أسره مالك بن الدخشم، أخو بنى سالم بن عوف، وكان سهيل بن عمرو أعلم من شفته السفلى.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: قال محمد بن إسحاق: فحدثني محمد بن عمرو بن عطاء بن عياش بن علقمة، أخو بنى عامر بن لؤي، أن عمر بن الخطاب قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله انتزع ثنيتي سهيل بن عمرو. السفليين يدلع لسانه، فلا يقوم عليك خطيباً في موطنٍ أبداً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا أمثل به فيمثل الله بي؛ وإن كنت نبياً.
قال: وقد بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمر في هذا الحديث: إنه عسى أن يقوم مقاماً لا تذمه؛ فلما قاولهم فيه مكرز، وانتهى إلى رضاهم، قالوا: هات الذي لنا. قال: اجعلوا رجلي مكان رجله، وخلوا سبيله حتى يبعث إليكم بفدائه. قال: فخلوا سبيل سهيل، وحبسوا مكرزاً مكانه عندهم.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: قال محمد بن إسحاق، عن الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للعباس بن عبد المطلب حين انتهى به إلى المدينة: يا عباس، افد نفسك وابني أخيك عقيل بن أبي طالب ونوفل بن الحارث، وحليفك عتبة بن عمرو بن جحدم، أخا بنى الحارث بن فهر؛ فإنك ذو مال.

فقال: يا رسول الله، إني كنت مسلماً؛ ولكن القوم استكرهوني، فقال: الله أعلم بإسلامك؛ إن يكن ما تذكر حقاً فالله يجزيك به، فأما ظاهر أمرك فقد كان علينا، فافد نفسك - وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخذ منه عشرين أوقية من ذهب - فقال العباس: يا رسول الله، احسبها لي في فدائي، قال: لا؛ ذاك شيء أعطاناه الله عز وجل منك، قال: فإنه ليس لي مال. قال: فأين المال الذي وضعته بمكة حيث خرجت من عند أم الفضل بنت الحارث، ليس معكما أحد. ثم قلت لها: إن أصبت في سفري هذا فللفضل كذا وكذا، ولعبد الله كذا وكذا، ولقثم كذا وكذا، ولعبيد الله كذا وكذا !. قال: والذي بعثك بالحق ما علم هذا أحد غيري وغيرها؛ وإني لأعلم أنك رسول الله، ففدى العباس نفسه وابنى أخيه وحليفه.
حدثنا ابن حميد؛ قال: حدثنا سلمة بن الفضل، عن محمد، قال: وحدثني عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، قال: كان عمرو بن أبي سفيان بن حرب - وكان لابنه عقبة بن أبي معيط - أسيراً في يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم من أسارى بدر، فقيل لأبي سفيان: افد عمراً، قال: أيجمع على دمي ومالي ! قتلوا حنظلة وأفدي عمراً! دعوه في أيديهم يمسكوه ما بدا لهم. قال: فبينا هو كذلك محبوسٌ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، خرج سعد بن النعمان بن أكال، أخو بنى عمرو بن عوف، ثم أحد بنى معاوية معتمراً، ومعه مرية له؛ وكان شيخاً كبيراً مسلماً في غنم له بالنقيع؛ فخرج من هنالك معتمراً؛ ولا يخشى الذي صنع به؛ لم يظن أنه يحبس بمكة؛ إنما جاء معتمراً؛ وقد عهد قريشاً لا تعترض لأحد حاجاً أو معتمراً إلا بخير؛ فعدا عليه أبو سفيان بن حرب، فحبسه بمكة بابنه عمرو بن أبي سفيان، ثم قال أبو سفيان :
أرهط ابن أكالٍ أجيبوا دعاءه ... تعاقدتم لا تسلموا السيد الكهلا
فإن بني عمرو لئامٌ أذلةٌ ... لئن لم يفكوا عن أسيرهم الكبلا
قال: فمشى بنو عمرو بن عوف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فأخبره خبره، وسألوه أن يعطيهم عمرو بن أبي سفيان فيفكوا شيخهم؛ ففعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعثوا به إلى أبي سفيان، فخلى سبيل سعد.
قال: وكان في الأسارى أبو العاص بن الربيع بن عبد العزى بن عبد شمس ختن رسول الله صلى الله عليه وسلم، زوج ابنته زينب، وكان أبو العاص من رجال مكة المعدودين مالا وأمانة وتجارةً، وكان لهالة بنت خويلد وكانت خديجة خالته، فسألت خديجة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يزوجه؛ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يخالفها؛ وذلك قبل أن ينزل عليه، فزوجه؛ فكانت تعده بمنزلة ولدها؛ فلما أكرم الله عز وجل رسوله بنبوته آمنت به خديجة وبناته، فصدقنه وشهدن أن ما جاء به هو الحق؛ ودن بدينه؛ وثبت أبو العاص على شركه.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد زوج عتبة بن أبي لهب إحدى ابنتيه رقية أو أم كلثوم؛ فلما بادى قريشاً بأمر الله عز وجل وباعدوه، قالوا: إنكم قد فرغتم محمداً من همه؛ فردوا عليه بناته، فاشغلوه بهن، فمشوا إلى أبي العاص بن الربيع، فقالوا: فارق صاحبتك؛ ونحن نزوجك أي امرأة شئت من قريش، قال: لا ها الله إذاً؛ لا أفارق صاحبتي وما أحب أن لي بامرأتي امرأة من قريش؛ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يثنى عليه في صهره خيراً - فيما بلغني.
قال: ثم مشوا إلى الفاسق ابن الفاسق، عتبة بن أبي لهب، فقالوا له: طلق ابنه محمد ونحن نزوجك أي امراة من قريش شئت؛ فقال: إن زوجتموني ابنة أبان بن سعيد بن العاص، أو ابنة سعيد بن العاص فارقتها. فزوجوه ابنة سعيد بن العاص وفارقها، ولم يكن عدو الله دخل بها، فأخرجها الله من يده كرامة لها، وهواناً له؛ فخلف عليها عثمان بن عفان بعده؛ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحل بمكة ولا يحرم مغلوباً على أمره، وكان الإسلام قد فرق بين زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أسلمت وبين أبي العاص بن الربيع؛ إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يقدر على أن يفرق بينهما؛ فأقامت معه على إسلامهم وهو على شركه؛ حتى هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما سارت قريش إلى بدر سار فيهم أبو العاص بن الربيع؛ فأصيب في الأسارى يوم بدر، وكان بالمدينة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: فحدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه عباد، عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، قالت: لما بعث أهل مكة في فداء أسرائهم، بعث زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في فداء أبي العاص ابن الربيع بمال، وبعثت فيه بقلادة لها كانت خديجة أدخلتها بها على أبي العاص حين بنى عليها.
قالت: فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم رق لها رقةً شديدةً، وقال: إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها وتردوا عليها الذي لها فافعلوا ! فقالوا: نعم يا رسول الله، فأطلقوه وردوا عليها الذي لها.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخذ عليه - أو وعد رسول الله صلى الله عليه وسلم - أن يخلى سبيل زينب إليه، أو كان فيما شرط عليه في إطلاقه؛ ولم يظهر ذلك منه ولا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيعلم ما هو ! إلا أنه لما خرج أبو العاص إلى مكة وخلى سبيله، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثه ورجلا من الأنصار مكانه، فقال: كونا ببطن يأجج؛ حتى تمر بكما زينب فتصحباها، حتى تأتياني بها، فخرجا مكانهما؛ وذلك بعد بدر بشهر أو شيعة. فلما قدم أبو العاص مكة أمرها باللحوق بأبيها؛ فخرجت تجهز.
فحدثنا ابن حميد قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: حدثني عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، قال: حدثت عن زينب أنها قالت: بينا أنا أتجهز بمكة للحوق بأبي، لقيتني هند بنت عتبة، فقالت: أي ابنة محمد؛ ألم يبلغني أنك تريدين اللحوق بأبيك ! قالت: فقلت: ما أردت ذلك، قالت: أي ابنة عمي، لا تفعلي؛ إن كانت لك حاجة بمتاع مما يرفق بك في سفرك، أو بمال تبلغين به إلى أبيك، فإن عندي حاجتك فلا تضطني منى؛ فإنه لا يدخل بين النساء ما يدخل بين الرجال. قالت: ووالله ما أراها قالت ذلك إلا لتفعل. قالت: ولكني خفتها، فأنكرت أن اكون أريد ذلك، وتجهزت.
فلما فرغت ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من جهازها قدم لها حموها كنانة بن الربيع أخو زوجها بعيراً فركبته، وأخذ قوسه وكنانته، ثم خرج بها نهاراً يقود بها، وهي في هودج لها. وتحدث بذلك رجال قريش، فخرجوا في طلبها حتى أدركوها بذي طوى، فكان أول من سبق إليها هبار بن الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى ونافع بن عبد القيس، والفهري. فروعها هبار بالرمح وهي في هودجها - وكانت المرأة حاملاً؛ فيما يزعمون - فلما رجعت طرحت ذا بطنها، وبرك حموها، ونثر كنانته ثم قال: والله لا يدنوا مني رجلٌ إلا وضعت فيه سهماً، فتكركر الناس عنه؛ وأتاه أبو سفيان في جلة قريش، فقال: أيها الرجل، كف عنا نبلك حتى نكلمك، فكف. فأقبل أبو سفيان حتى وقف عليه، فقال: إنك لم تصب، خرجت بالمرأة على رءوس الرجال علانية، وقد عرفت مصيبتنا ونكبتنا وما دخل علينا من محمد، فيظن الناس إذا خرج بابنته علانيةً من بين أظهرنا أن ذلك عن ذل أصابنا عن مصيبتنا، ونكبتنا التي كانت، وأن ذلك منا ضعفٌ ووهنٌ؛ لعمري ما لنا حاجة في حبسها عن أبيها، وما لنا في ذلك من ثؤرة؛ ولكن أرجع المرأة، فإذا هدأ الصوت، وتحدث الناس أنا قد رددناها؛ فسلها سراً فألحقها بأبيها. ففعل حتى إذا هدأ الصوت خرج بها ليلا؛ حتى أسلمها إلى زيد بن حارثة وصاحبه، فقدما بها على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال: فأقام أبو العاص بمكة، وأقامت زينب عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، قد فرق بينهما الإسلام، حتى إذا كان قبيل الفتح خرج تاجراً إلى الشأم - وكان رجلا مأمونا بمال له، وأموال رجال من قريش أبضعوها معه - فلما فرغ من تجارته - وأقبل قافلاً؛ لقيته سرية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأصابوا ما معه، وأعجزهم هرباً، فلما قدمت السرية بما أصابوا من ماله، أقبل أبو العاص تحت الليل؛ حتى دخل على زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستجار بها، فأجارته في طلب ماله، فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الصبح - فحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: كما حدثني يزيد بن رومان - فكبر وكبر الناس معه، صرخت زينب من صفة النساء: أيها الناس، إني قد أجرت أبا العاص بن الربيع. فلما سلم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصلاة، أقبل على الناس، فقال: أيها الناس، هل سمعتم ما سمعت ! قالوا: نعم، قال: أما والذي نفس محمد بيده، ما علمت بشيء كان حتى سمعت منه ما سمعتم؛ إنه يجير على المسلمين أدناهم. ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخل على ابنته، فقال: أي بنية أكرمى مثواه ولا يخلص إليك، فإنك لا تحلين له.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: وحدثني عبد الله بن أبي بكر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى السرية الذين أصابوا مال أبي العاص، فقال لهم: إن هذا الرجل منا حيث قد علمتم، وقد أصبتم له مالاً، فإن تحسنوا تردوا عليه الذي له؛ فإنا نحب ذلك؛ وإن أبيتم فهو فئ الله الذي افاءه عليكم؛ فأنتم أحق به. قالوا: يا رسول الله، بل نرده عليه ! قل: فردوا عليه ماله حتى إن الرجل ليأتي بالحبل، ويأتي الرجل بالشنة والإداوة؛ حتى إن أحدهم ليأتي بالشظاظ؛ حتى ردوا عليه ماله بأسره؛ لا يفقد منه شيئاً.
ثم احتمل إلى مكة، فأدى إلى كل ذي مال من قريش ماله ممن كان أبضع معه، ثم قال: يا معشر قريش؛ هل بقى لأحد منكم عندي مال لم يأخذه ؟ قالوا: لا فجزاك الله خيراً؛ فقد وجدناك وفياً كريماً، قال: فإنى أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله؛ والله ما منعني من الإسلام عنده إلا تخوف أن تظنوا أنى إنما أردت أكل أموالكم؛ فلما أداها الله إليكم، وفرغت منها أسلمت. ثم خرج حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: فحدثني داود بن الحصين، عن عكرمة مولى ابن عباس، عن عبد الله بن عباس، قال: رد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بالنكاح الأول، ولم يحدث شيئاً بعد ست سنين.
حدثنا ابن حميد، قال حدثنا سلمة بن الفضل، قال: قال محمد بن إسحاق، حدثني محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة بن الزبير، قال: جلس عمير بن وهب الجمحي مع صفوان بن أمية بعد مصاب أهل بدر من قريش بيسير في الحجر - وكان عمير بن وهب شيطاناً من شياطين قريش، وكان ممن يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ويلقون منه عناء وهم بمكة، وكان ابنه وهب بن عمير في أسارى بدر - فذكر أصحاب القليب ومصابهم، فقال صفوان: والله إن في العيش خير بعدهم، فقال عمير: صدقت والله ! أما والله لولا دين على ليس له عندي قضاء وعيال أخشى عليهم الضيعة بعدي، لركبت إلى محمد حتى أقتله، فإن لي قبلهم علةً؛ ابنى أسير في أيديهم.
فاغتنمها صفوان بن أمية، فقال: على دينك أنا أقضيه عنك، وعيالك مع عيالي أواسيهم ما بقوا، لا يسعنى شيء ويعجز عنهم، قال عمير: فاكتم على شأني وشأنك: قال: أفعل.
قال: ثم إن عميراً أمر بسيفه فشحذ له وسم، ثم انطلق حتى قدم المدينة، فبينا عمر بن الخطاب في نفر من المسلمين في المسجد يتحدثون عن يوم بدر، ويذكرون ما أكرمهم الله عز وجل به، وما أراهم في عدوهم؛ إذ نظر عمر إلى عمير بن وهب حين أناخ بعيره على باب المسجد، متوشحاً السيف، فقال: هذا الكلب عدو الله عمير بن وهب، ما جاء إلا لشر ! وهو الذي حرش بيننا، وحزرنا للقوم يوم بدر. ثم دخل عمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا نبي الله، هذا عدو الله عمير بن وهب قد جاء متوشحاً سيفه، قال: فأدخله علي.

قال: فأقبل عمر حتى أخذ بحمالة سيفة في عنقه، فلببه بها، وقال لرجال ممن كان معه من الأنصار: ادخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجلسوا عنده، واحذروا هذا الخبيث عليه، فإنه غير مأمون. ثم دخل به على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمر آخذ بحمالة سيفه، قال: أرسله يا عمر، ادن يا عمير، فدنا ثم قال: أنعموا صباحاً - وكانت تحية أهل الجاهلية بينهم - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وقد أكرمنا الله بتحية خير من تحيتك بيا عمير؛ بالسلام تحية أهل الجنة، قال: أما والله يا محمد إن كنت لحديث عهد بها. قال: ما جاء بك يا عمير ؟ قال: جئت لهذا الأسير الذي في أيديكم، فأحسنوا فيه. قال: فمال بال السيف في عنقك ! قال: قبحها الله من سيوف ! وهل أغنت شيئاً ! قال: اصدقني بالذي جئت له، قال: ما جئت إلا لذلك، فقال: بلى، قعدت أنت وصفوان بن أمية في الحجر، فذكرتما أصحاب القليب من قريش، ثم قلت: لولا دين علي وعيالي لخرجت حتى أقتل محمداً، فتحمل لك صفوان بدينك وعيالك، على أن تقتلني له. والله عز وجل حائلٌ بينى وبينك. فقال عمير: أشهد أنك رسول الله؛ قد كنا يا رسول الله نكذبك بما كنت تأتينا به من خبر السماء، وما ينزل عليك من الوحي؛ وهذا أمرٌ لم يحضره إلا أنا وضفوان؛ فوالله إني لأعلم ما أتاك به إلا الله؛ فالحمد لله الذي هداني للإسلام، وساقني هذا المساق. ثم تشهد شهادة الحق؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقهوا أخاكم في دينه، وأقرئوه وعلموه القرآن، وأطلقوا له أسيره.
قال: ففعلوا، ثم قال: يا رسول الله: إني كنت جاهداً في إطفاء نور الله، شديد الأذى لمن كان على دين الله؛ وإني أحب أن تأذن لي فأقدم مكة فأدعوهم إلى الله وإلى الإسلام؛ لعل الله أن يهديهم ! وإلا آذيتهم في دينهم كما كنت أؤذي أصحابك في دينهم.
قال: فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلحق بمكة، وكان صفوان حين خرج عمير بن وهب يقول لقريش: أبشروا بوقعةٍ تأتيكم الآن في أيام تنسيكم وقعة بدر، وكان صفوان يسأل عنه الركبان؛ حتى قدم راكبٌ فأخبره بإسلامه، فحلف ألا يكلمه أبداً ولا ينفعه بنفع أبداً. فلما قدم عمير مكة أقام بها يدعو إلى الإسلام، ويؤذى من خالفه أذىً شديداً فأسلم على يديه أناس كثير.
فلما انقضى أمر بدر، أنزل الله عز وجل فيه من القرآن الأنفال بأسرها.
حدثنا أحمد بن منصور، قال: حدثنا عاصم بن علي، قال: حدثنا عكرمة بن عمار، قال: حدثنا أبو زميل، قال: حدثني عبد الله بن عباس؛ حدثني عمر بن الخطاب، قال: لما كان يوم بدر التقوا، فهزم الله المشركين، فقتل منهم سبعون رجلاً، وأسر سبعون رجلاً، فلما كان يومئذ شاور رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر وعلياً وعمر، فقال أبو بكر: يا نبي الله، هؤلاء بنو العم والعشيرة والإخوان، فإنى أرى أن تأخذ منهم الفدية؛ فيكون ما أخذنا منهم قوة، وعسى الله أن يهديهم، فيكونوا لنا عضداً. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما ترى يا بن الخطاب ؟ قال: قلت: لا والله، ما أرى الذي رأى أبو بكر، ولكنى أرى أن تمكنني من فلان فأضرب عنقه، وتمكن حمزة من أخ له فيضرب عنقه، وتمكن علياً من عقيل فيضرب عنقه، حتى يعلم الله أن ليس في قلوبنا هوادة للكفار؛ هؤلاء صناديدهم وقادتهم وأئمتهم.
قال: فهوى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر، ولم يهو ما قلت أنا، فأخذ منهم الفداء، فلما كان الغد قال عمر: غدوت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو قاعدٌ وأبو بكر، وإذا هما يبكيان، قال: قلت: يا رسول الله أخبرني ماذا يبكيك أنت وصاحبك ؟ فإن وجدت بكاءً بكيت، وإن لم أجد تباكيت لبكائكما. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: للذي عرض علي أصحابك من الفداء. لقد عرض على عذابكم أدنى من هذه الشجرة - لشجرة قريبة - وأنزل الله عز وجل: " ما كان لنبيٍ أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض " إلى قوله: " فيما أخذتم عذابٌ عظيمٌ " ؛ ثم أحل لهم الغنائم.

فلما كان من العام القابل في أحد عوقبوا بما صنعوا، قتل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعون، وأسر سبعون، وكسرت رباعيته وهشمت البيضة على رأسه، وسال الدم على وجهه، وفر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وصعدوا الجبل، فأنزل الله عز وجل هذه الآية: " أو لما أصابتكم مصيبةٌ قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا " إلى قوله: إن الله على كل شيء قديرٌ " ، ونزلت هذه الآية الأخرى: " إذ تصعدون ولا تلوون على أحدٍ والرسول يدعوكم في أخراكم " إلى قوله: " من بعد الغم أمنةً " .
حدثني سلم بن جنادة، قال: حدثنا أبو معاوية، قال: حدثنا الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن أبي عبيدة، عن عبد الله، قال: لما كان يوم بدر، وجيء بالأسرى ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما تقولون في هؤلاء الأسرى ؟ فقال أبو بكر: يا رسول الله، قومك وأهلك، واستبقهم واستأنهم؛ لعل الله أن يتوب عليهم.
وقال عمر: يا رسول الله كذبوك وأخرجوك، قدمهم فضرب أعناقهم. وقال عبد الله بن رواحة: يا رسول الله، انظر وادياً كثير الحطب فأدخلهم فيه، ثم أضرمه عليهم ناراً. قال: فقال له العباس: قطعتك رحمك ! قال: فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يجبهم، ثم دخل، فقال ناس: يأخذ بقول أبي بكر، وقال ناس: يأخذ بقول عمر، وقال ناس: يأخذ بقول عبد الله بن رواحة، ثم خرج عليهم رسول الله، فقال: إن الله عز وجل ليلين قلوب رجال فيه حتى تكون ألين من اللبن؛ وإن الله ليشدد قلوب رجال فيه حتى تكون أشد من الحجارة؛ وإن مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم، قال: " فمن تبعني فإنه منى ومن عصاني فإنك غفورٌ رحيمٌ " ، ومثلك يا أبا بكر، مثل عيسى، قال: " إن تعذبهم فهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم " ومثلك يا عمر مثل نوح، قال: " رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً " ، ومثلك كمثل موسى، قال: " ربنا اطمس على أموالهم وأشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم " . ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنتم اليوم عالةٌ فلا يفلتن منهم أحدٌ إ لا بفداء أو ضرب عنق؛ قال عبد الله بن مسعود: إلا سهيل بن بيضاء. فإنى سمعته يذكر الإسلام.
فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما رأيتني في يوم أخوف أن تقع على الحجارة من السماء منى في ذلك اليوم؛ حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إلا سهيل بن بيضاء " قال: فأنزل الله عز وجل: " ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض ... " إلى آخر الآيات الثلاث.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: قال محمد بن إسحاق: لما نزلت - يعني هذه الآية: " ما كان لنبي أن يكون له أسرى " ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو نزل عذابٌ من السماء لم ينج منه إلا سعد بن معاذ، لقوله: يا نبي الله، كان الإثخان في القتل أحب إلى من استبقاء الرجال.
قال أبو جعفر: وكان جميع من شهد بدراً من المهاجرين، ومن ضرب له رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهمه وأجره ثلاثةً وثمانين رجلاً في قول ابن إسحاق.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عنه: وجميع من شهد من الأوس معه ومن ضرب له بسهمه واحدٌ وستون رجلاً. وجميع من شهد معه من الخزرج مائة وسبعون رجلاً في قول ابن إسحاق، وجميع من استشهد من المسلمين يومئذ أربعةً عشر رجلاً، ستة من المهاجرين وثمانية من الأنصار.
وكان المشركون - فيما زعم الواقدي - تسعمائة وخمسين مقاتلاً؛ وكانت خيلهم مائة فرس.
ورد رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ جماعة استصغرهم - فيما زعم الواقدي - فمنهم فيما زعم عبد الله بن عمر، ورافع بن خديج، والبراء ابن عازب، وزيد بن ثابت، وأسيد بن ظهير، وعمير بن أبي وقاص ثم أجاز عميراً بعد أن رده فقتل يومئذ.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بعث قبل أن يخرج من المدينة طلحة بن عبيد الله، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، إلى طريق الشأم يتحسسان الأخبار عن العير، ثم رجعا إلى المدينة، فقدماها يوم وقعة بدر، فاستقبلا رسول الله صلى الله عليه وسلم بتربان؛ وهو منحدرٌ من بدر يريد المدينة.

قال الواقدي: كان خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة في ثلثمائة رجل وخمسة، وكان المهاجرون أربعةً وسبعين رجلاً، وسائرهم من الأنصار، وضرب لثمانية بأجورهم وسهمانهم: ثلاثة من المهاجرين؛ أحدهم عثمان بن عفان كان تخلف على ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ماتت، وطلحة بن عبيد الله وسعيد بن زيد، كان بعثهما يتحسسان الخبر عن العير، وخمسة من الأنصار: أبو لبابة بشير بن عبد المنذر؛ خلفه على المدينة، وعاصم بن عدي بن العجلان؛ خلفه على العالية، والحارث بن حاطب؛ رده من الروحاء إلى بني عمرو بن عوف لشيء بلغه عنهم، والحارث ابن الصمة؛ كسر بالروحاء؛ وهو من بنى مالك بن النجار، وخوات بن جبير، كسر من بني عمرو بن عوف. قال: وكانت الإبل سبعين بعيراً، والخيل فرسين: فرس للمقداد بن عمرو، وفرس لمرثد بن أبي مرثد.
قال أبو جعفر: وروى عن ابن سعد، عن محمد بن عمر، عن محمد بن هلال، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: ورئى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أثر المشركين يوم بدر مصلتاً السيف، يتلو هذه الآية: " سيهزم الجمع ويولون الدبر " .
قال: وفي غزوة بدر انتفل رسول الله صلى الله عليه وسلم سيفه ذا الفقار، وكان لمنبه بن الحجاج.
قال: وفيها غنم جمل أبي جهل؛ وكان مهرياً يغزو عليه ويضرب في لقاحه.
قال أبو جعفر: ثم أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، منصرفة من بدر، وكان قد وادع حين قدم المدينة يهودها؛ على أن لا يعينوا عليه أحداً؛ وأنه إن دهمه بها عدوٌ نصروه. فلما قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم من قتل ببدر من مشركي قريش، أظهروا له الحسد والبغي، وقالوا: لم يلق محمدٌ من يحسن القتال؛ ولو لقينا لاقى عندنا قتالاً لا يشبهه قتال أحد؛ وأظهروا نقض العهد.
غزوة بني قينقاعفحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: كان من أمر بني قينقاع، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمعهم بسوق بني قينقاع، ثم قال يا معشر اليهود، احذروا من الله عز وجل مثل ما نزل بقريش من النقمة، وأسلموا؛ فإنكم قد عرفتم أني نبيٌ مرسل تجدون ذلك في كتابكم؛ وفي عهد الله إليكم. قالوا: يا محمد؛ إنك ترى أنا كقومك ! لا يغرنك أنك لقيت قوماً لا علم لهم بالحرب، فأصبت منهم فرصة؛ إنا والله حاربتنا لتعلمن أنا نحن الناس.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة، أن بني قينقاع كانوا أول يهود نقضوا ما بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحاربوا فيما بين بدر وأحد.
فحدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: حدثنا محمد بن عمر: عن محمد بن عبد الله، عن الزهري، أن غزوة رسول الله صلى الله عليه وسلم بني القينقاع كانت في شوال من السنة الثانية من الهجرة.
قال الزهري عن عروة: نزل جبريل على رسول الله صلى الله عليهما وسلم بهذه الآية: " وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء " ، فلما فرغ جبريل عليه السلام من هذه الآية، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إني أخاف من بني قينقاع، قال عروة: فسار إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الآية.
قال الواقدي: وحدثني محمد بن صالح، عن عاصم بن عمر بن قتادة، قال: حاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس عشرة ليلة لا يطلع منهم أحد. ثم نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكتفوا وهو يريد قتلهم، فكلمة فيهم عبد الله بن أبي.
رجع الحديث إلى حديث ابن إسحاق عن عاصم بن عمر بن قتادة، قال: فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزلوا على حكمه، فقام إليه عبد الله بن أبي بن سلول حين أمكنه الله منهم، فقال: يا محمد، أحسن في موالي - وكانوا حلفاء الخزرج - فأبطأ عليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد، أحسن في موالي، فأعرض النبي صلى الله عليه وسلم.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://arabelalekat.yoo7.com
الشيخ عودة
الشيخ عودة
الشيخ عودة



عدد المساهمات : 1748
تاريخ التسجيل : 28/09/2008
العمر : 73

كتاب : تاريخ الرسل والملوك المؤلف : الطبري - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: كتاب : تاريخ الرسل والملوك المؤلف : الطبري   كتاب : تاريخ الرسل والملوك المؤلف : الطبري - صفحة 2 Emptyالسبت ديسمبر 14, 2013 10:29 am

قال: فأدخل يده في جيب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرسلني، وغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رأوا في وجهه ظلالاً - يعني تلوناً - ثم قال: ويحك أرسلني ! قال: لا والله لا أرسلك حتى تحسن إلى موالي. أربعمائة حاسر وثلثمائة دارع قد منعوني من الأسود والأحمر؛ تحصدهم في غداة واحدة ! وإني والله لا آمن وأخشى الدوائر. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هم لك.

قال أبو جعفر: وقال محمد بن عمر في حديثه عن محمد بن صالح، عن عاصم بن عمر بن قتادة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: خلوهم لعنهم الله ولعنه معهم ! فأرسلوهم. ثم أمر بإجلائهم، وغنم الله عز وجل رسوله والمسلمين ما كان لهم من مال - ولم تكن لهم أرضون؛ إنما كانوا صاغةً - فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم سلاحاً كثيراً وآلة صياغتهم؛ وكان الذي ولى إخراجهم من المدينة بذراريهم عبادة بن الصامت، فمضى بهم حتى بلغ بهم دباب؛ وهو يقول: الشرف الأبعد، الأقصى فالأقصى ! وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم استخلف على المدينة أبا لبابة بن عبد المنذر.
قال أبو جعفر: وفيها كان أول خمس خمسه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإسلام؛ فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم صفيه والخمس وسهمه، وفض أربعة أخماس على أصحابه، فكان أول خمسٍ قبضه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان لواء رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بني قنيقناع لواءً أبيض، مع حمزة بن عبد المطلب، ولم تكن يومئذ رايات. ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وحضرت الأضحى؛ فذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحى وأهل اليسر من أصحابه، يوم العاشر من ذي الحجة، وخرج بالناس إلى المصلى فصلى بهم، فذلك أول صلاة صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس بالمدينة بالمصلى في عيد، وذبح فيه بالمصلى بيده شاتين - وقيل ذبح شاة.
قال الواقدي: حدثني محمد بن الفضل، من ولد رافع بن خديج، عن أبي مبشر، قال: سمعت جابر بن عبد الله، يقول: لما رجعنا من بني قنينقاع ضحينا في ذي الحجة صبيحة عشر، وكان أول أضحى رآه المسلمون، وذبحنا في بني سلمة فعدت في بني سلمة سبع عشرة أضحية.
قال أبو جعفر ، وأما ابن إسحاق فلم يوقت لغزوة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي غزاها بني قنينقاع وقتاً، غير أنه قال: كان ذلك بين غزوة السويق وخروج النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة يريد غزوة قريش؛ حتى بلغ بني سليم وبحران، معدناً بالحجاز من ناحية الفرع.
وأما بعضهم، فإنه قال: كان بين غزوة رسول الله صلى الله عليه وسلم بدراً الأولى وغزوة بني قنينقاع ثلاث غزوات وسرية أسراها. وزعم أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما غزاهم لتسع ليال خلون من صفر من سنة ثلاث من الهجرة، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم غزا بعد ما انصرف من بدر، وكان رجوعه إلى المدينة يوم الأربعاء لثماني ليالٍ بقين من رمضان، وأنه أقام بها بقية رمضان. ثم غزا قرقرة الكدر حين بلغه اجتماع بني سليم وغطفان؛ فخرج من المدينة يوم الجمعة بعد ما ارتفعت الشمس، غرة شوال من السنة الثانية من الهجرة إليها.
وأما ابن حميد، فحدثنا عن سلمة ،عن ابن إسحاق، أنه قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من بدر إلى المدينة، وكان فراغه من بدر في عقب شهر رمضان - أو في أول شوال - لم يقم بالمدينة إلا سبع ليال؛ حتى غزا بنفسه يريد بني سليم، حتى بلغ ماء من مياههم؛ يقال له الكدر، فأقام عليه ثلاث ليال، ثم رجع إلى المدينة ولم يلق كيداً، فأقام بها بقية شوال وذا القعدة، وفدى في إقامته تلك جل الأسارى من قريش.
وأما الواقدي، فزعم أن غزوة النبي صلى الله عليه وسلم الكدر كانت في المحرم من سنة ثلاث من الهجرة، وأن لواءه كان يحمله فيها علي بن أبي طالب؛ وأنه استخلف فيها ابن أم مكتوم المعيصي على المدينة.
وقال بعضهم: لما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من غزوة الكدر إلى المدينة، وقد ساق النعم والرعاء ولم يلق كيداً. وكان قدومه منها - فيما زعم - لعشر خلون من شوال، بعث غالب بن عبد الله الليثي يوم الأحد لعشر ليال مضين من شوال إلى بني سليم وغطفان في سرية، فقتلوا فيهم، وأخذوا النعم، وانصرفوا إلى المدينة بالغنيمة يوم السيت، لأربع عشرة ليلة بقيت من شوال، واستشهد من المسلمين ثلاثة نفر، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقام بالمدينة إلى ذي الحجة، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم غزا يوم الأحد لسبع ليال بقين من ذي الحجة غزوة السويق.
غزوة السويق

قال أبو جعفر: وأما ابن إسحاق، فإنه قال في ذلك ما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة الكدر إلى المدينة، أقام بها بقية شوال من سنة اثنين من الهجرة، وذا القعدة. ثم غزا أبو سفيان بن حرب غزوة السويق في ذي الحجة. قال: وولى تلك الحجة المشركون من تلك السنة.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير ويزيد بن رومان ومن لا أتهم، عن عبيد الله ابن كعب بن مالك - وكان من أعلم الأنصار - قال: كان أبو سفيان بن حرب حين رجع إلى مكة، ورجع فل قريش إلى مكة من بدر، نذر ألا يمس رأسه ماء من جنابة حتى يغزو محمداً. فخرج في مائتي راكب من قريش، ليبر يمينه، فسلك النجدية حتى نزل بصدور قناة إلى جبل يقال له تبت، من المدينة على بريد أو نحوه. ثم خرج من الليل حتى أتى بنى النضير تحت الليل، فأتى حيى بن أخطب، فضرب عليه، بابه فأبى أن يفتح له وخافه، فأبى فانصرف إلى سلام بن مشكم - وكان سيد النضير في زمانه ذلك وصاحب كنزهم - فاستأذن عليه فأذن له فقراه وسقاه، وبطن له خبر الناس، ثم خرج في عقب ليلته، حتى جاء أصحابه، فبعث رجالاً من قريش إلى المدينة، فأتوا ناحية منها يقال لها العريض، فحرقوا في أصوار، من نخل لها؛ ووجدوا رجلاً من الأنصار وحليفاً له في حرث لهما فقتلوهما ثم انصرفوا راجعين؛ ونذر بهم الناس، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلبهم، حتى بلغ قرقرة الكدر، ثم انصرف راجعاً، وقد فاته أبو سفيان وأصحابه، وقد رأوا من مزاود القوم ما قد طرحوه في الحرث؛ يتخففون منه للنجاة. فقال المسلمون حين رجع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنطمع أن تكون لنا غزوة ؟ قال: نعم.
وقد كان أبو سفيان قال وهو يتجهز خارجاً من مكة إلى المدينة أبياتاً من شعر يحرض قريشاً:
كروا على يثربٍ وجمعهم ... فإن ما جمعوا لكم نقل
إن يك يوم القليب كان لهم ... فإن ما بعده لكم دول
آليت لا أقرب النساء ولا ... يمس رأسي وجلدي الغسل
حتى تبيروا قبائل الأوس وال ... خزرج، إن الفؤاد مشتعل
فأجابه كعب بن مالك:
تلهف أم المسبحين على ... جيش ابن حربٍ بالحرة الفشل
إذ يطرحون الرجال من سئم الطير ... ترقى لقنة الجبل
جاءوا بجمعٍ لو قيس مبركه ... كا كان إلا كمفحص الدئل
عارٍ من النصر والثراء ومن ... أبطال أهل البطحاء والأسل
وأما الواقدي فزعم أن غزوة السويق كانت في ذي القعدة من سنة اثنتين من الهجرة. قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في مائتي رجل من أصحابه من المهاجرين والأنصار. ثم ذكر من قصة أبي سفيان نحواً مما ذكره ابن إسحاق، غير أنه قال: فمر - يعنى أبا سفيان - بالعريض، برجل معه أجير له يقال له معبد بن عمرو، فقتلهما وحرق أبياتاً هناك وتبناً، ورأى أن يمينه قد حلت، وجاء الصريخ إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فاستنفر الناس، فخرجوا في أثره فأعجزهم. قال: وكان أبو سفيان وأصحابه يلقون جرب الدقيق ويتخففون، وكان ذلك عامة زادهم؛ فلذلك سميت غزوة السويق.
وقال الواقدي: واستخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم على المدينة أبا لبابة ابن عبد المنذر.
قال أبو جعفر: ومات في هذه السنة - أعنى سنة اثنتين من الهجرة - في ذي الحجة عثمان بن مظعون، فدفنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبقيع وجعل عند رأسه حجراً علامة لقبره.
وقيل: إن الحسن بن علي بن أبي طالب عليه السلام ولد في هذه السنة.
قال أبو جعفر: وأما الواقدي، فإنه زعم أن ابن أبي سبرة حدثه عن إسحاق بن عبد الله عن أبي جعفر، أن علي بن أبي طالب عليه السلام بنى بفاطمة عليها السلام في ذي الحجة، على رأس اثنين وعشرين شهراً.
قال أبو جعفر: فإن كانت هذه الرواية صحيحة فالقول الأول باطل.
وقيل: إن هذه السنة كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم المعاقل فكان معلقاً بسيفه.
ثم دخلت السنة الثالثة من الهجرة
غزوة ذي أمر

فحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة السويق، أقام بالمدينة بقية ذي الحجة والمحرم، أو قريباً منه، ثم غزا نجدا يريد غطفان؛ وهي غزوة ذي أمر، فأقام بنجد صفراً كله أو قريباً من ذلك. ثم رجع إلى المدينة ولم يلق كيداً، فلبث بها شهر ربيع الأول كله إلا قليلاً منه.
ثم غزا يريد قريشاً وبني سليم، حتى بلغ بحران معدناً بالحجاز من ناحية الفرع فأقام بها شهر ربيع الآخر وجمادى الأولى، ثم رجع إلى المدينة ولم يلق كيداً.
خبر كعب بن الأشرفقال أبو جعفر: وفي هذه السنة سرى النبي صلى الله عليه وسلم سرية إلى كعب بن الأشرف؛ فزعم الواقدي أن النبي وجه من وجه إليه في شهر ربيع الأول من هذه السنة.
وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: كان من حديث ابن الأشرف أنه لما أصيب أصحاب بدر؛ وقدم زيد بن حارثة إلى أهل السافلة وعبد الله بن رواحة إلى أهل العالية بشيرين، بعثهما رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى من بالمدينة من المسلمين بفتح الله عز وجل عليه وقتل من قتل من المشركين؛ كما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن المغيث ابن أبي بردة بن أسير الظفري، وعبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، وعاصم بن عمر بن قتادة، وصالح بن أبي أمامة بن سهل، قال: كل قد حدثني بعض حديثه، قال: قال كعب بن الأشرف - وكان رجلاً من طيء، ثم أحد بني نبهان، وكانت أمه من بني النضير؛ فقال حين بلغه الخبر: ويلكم أحقٌ هذا ! أترون أن محمداً قتل هؤلاء الذين يسمى هذان الرجلان - يعني زيد بن حارثة، وعبد الله بن رواحة ؟ وهؤلاء أشراف العرب وملوك الناس. والله لئن كان محمد أصاب هؤلاء القوم لبطن الأرض خير لنا من ظهرها.
فلما تيقن عدو الله الخبر، خرج حتى قدم مكة، فنزل على المطلب بن أبي وداعة بن ضبيرة السهمي، وعنده عاتكة بنت أسيد بن أبي العيص بن أمية بن عبد شمس، فأنزلته وأكرمته؛ وجعل يحرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وينشد الأشعار، ويبكي على أصحاب القليب الذين أصيبوا ببدر من قريش. ثم رجع كعب بن الأشرف إلى المدينة، فشبب بأم الفضل بنت الحارث، فقال:
أراحلٌ أنت لم تحلل بمنقبةٍ ... وتاركٌ أنت أم الفضل بالحرم !
صفراء رداعةٌ لو تعصر انعصرت ... من ذي القوارير والحناء والكتم
يرتج ما بين كعبيها ومرفقها ... إذا تأتت قياماً ثم لم تقم
أشباه أم حكيمٍ إذ تواصلنا ... والحبل منها متينٌ غير منجذم
إحدى بني عامر جن الفؤاد بها ... ولو تشاء شفت كعباً من السقم
فرع النساء وفرع القوم والدها ... أهل التحلة والإيفاء بالذمم
لم أر شمساً بليلٍ قبلها طلعت ... حتى تجلت لنا في ليلة الظلم
ثم شبب بنساء من نساء المسلمين حتى آذاهم؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم كما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن المغيث بن أبي بردة: من لى من ابن الأشرف ! قال: فقال محمد بن مسلمة، أخو بني عبد الأشهل: أنا لك به يا رسول الله، أنا أقتله. قال: فافعل إن قدرت على ذلك، فرجع محمد بن مسلمة، فمكث ثلاثاً لا يأكل ولا يشرب. إلا ما يعلق به نفسه، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعاه فقال له: لم تركت الطعام والشراب ؟ قال: يا رسول الله، قلت قولا لا أدري أفي به أم لا ! قال: إنما عليك الجهد، قال: يا رسول الله، إنه لا بد لنا من أن نقول. قال: قولوا ما بدا لكم، فأنتم في حل من ذلك ! قال: فاجتمع في قتله محمد بن مسلمة وسلكان بن سلامة بن وقش - وهو أبو نائلة أحد بني عبد الأشهل، وكان أخا كعب من الرضاعة - وعباد ابن بشر بن وقش، أحد بني عبد الأشهل، والحارث بن أوس بن معاذ، أحد بني عبد الأشهل، وأبو عبس بن جبر، أخو بني حارثة.

ثم قدموا إلى ابن الأشرف قبل أن يأتوه سلكان بن سلامة أبا نائلة، فجاءه فتحدث معه ساعة، وتناشدا شعراً - وكان أبو نائلة يقول الشعر - ثم قال: ويحك يا بن الأشرف ! إني قد جئتك لحاجة أريد ذكرها لك؛ فاكتم علي، قال: أفعل، قال: كان قدوم هذا الرجل بلاءً علينا عادتنا العرب ورمونا عن قوسٍ واحدة، وقطعت عنا السبل حتى ضاع العيال، وجهدت الأنفس، وأصبحنا قد جهدنا وجهد عيالنا ! فقال كعب: أنا ابن الأشرف، أما والله لقد كنت أخبرتك يا بن سلامة أن الأمر سيصير إلى ما كنت أقول، فقال سلكان: إني قد أردت أن تبيعنا طعاماً ونرهنك ونوثق لك، وتحسن في ذلك. قال: ترهنوني أبناءكم ! فقال: لقد أردت أن تفضحنا ! إن معي أصحاباً لي على مثل رأيي، وقد أردت أن آتيك بهم فتبيعهم، وتحسن في ذلك، ونرهنك من الحلقة ما فيه لك وفاء - وأراد سلكان ألا ينكر السلاح إذا جاءوا بها - فقال: إن في الحلقة لوفاء، قال: فرجع سلكان إلى أصحابه، فأخبرهم خبره، وأمرهم أن يأخذوا السلاح فينطلقوا فيجتمعوا إليه، فاجتمعوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم.
حدثنا ابن حميد قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق قال: فحدثني ثور بن زيد الديلي، عن عكرمة مولى ابن عباس، عن ابن عباس، قال: مشى معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بقيع الغرقد، ثم وجههم وقال: انطلقوا على اسم الله، اللهم أعنهم. ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيته في ليلة مقمرة، فأقبلوا حتى انتهوا إلى حصنه، فهتف به أبو نائلة - وكان حديث عهد بعرس - فوثب في ملحفته؛ فأخذت امرأته بناحيتها، وقالت: إنك امرؤ محاربٌ؛ وإن صاحب الحرب لا ينزل في مثل هذه الساعة. قال: إنه أبو نائلة؛ لو وجدني نائماً لما أيقظني، قالت: والله إني لأعرف في صوته الشر. قال: يقول لها كعب: لو دعى الفتى لطعنة أجاب؛ فنزل فتحدث معهم ساعة، وتحدثوا معه، ثم قالوا له: هل لك يا بن الأشرف، أن نتماشى إلى شعب العجوز فنتحدث به بقية ليلتنا هذه ! قال: إن شئتم ! فخرجوا يتماشون، فمشوا ساعة. ثم إن أبا نائلة شام يده في فود رأسه، ثم شم يده، فقال: ما رأيت كالليلة طيب عطرٍ قط. ثم مشى ساعة ثم عاد لمثلها، حتى اطمأن ثم مشى ساعة، فعاد لمثلها، فأخذ بفودى رأسه، ثم قال: اضربوا عدو الله؛ فاختلف عليه أسيافهم، فلم تغن شيئاً.
قال محمد بن مسلمة: فذكرت مغولاً في سيفي حين رأيت أسيافنا لا تغني شيئاً، فأخذته، وقد صاح عدو الله صيحة لم يبق حولنا حصنٌ إلا أوقدت عليه نار. قال: فوضعته في ثندؤته، ثم تحاملت عليه حتى بلغت عانته، ووقع عدو الله، وقد أصيب الحارث بن أوس بن معاذ بجرح في رأسه أو رجله، أصابه بعض أسيافنا.
قال: فخرجنا حتى سلكنا على بني أمية بن زيد، ثم على بني قريظة، ثم على بعاث حتى أسندنا في حرة العريض، وقد أبطأ علينا صاحبنا الحارث بن أوس ونزفه الدم، فوقفنا له ساعة، ثم أتانا يتبع آثارنا. قال: فاحتملناه فجئنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم آخر الليل وهو قائم يصلي، فسلمنا عليه، فخرج إلينا، فأخبرناه بقتل عدو الله، وتفل على جرح صاحبنا، ورجعنا إلى أهلنا، فأصبحنا وقد خافت يهود بوقعتنا بعدو الله، فليس بها يهودي إلا وهو يخاف على نفسه. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من ظفرتم به من رجال يهود فاقتلوه، فوثب محيصة بن مسعود على ابن سنينة - رجل من تجار يهود كان يلابسهم ويبايعهم فقتله - وكان حويصة بن مسعود إذ ذاك لم يسلم، وكان أسن من محيصة - فلما قتله جعل حويصة يضربه ويقول: أي عدو الله ! قتلته ! أما والله لرب شحم في بطنك من ماله ! قال محيصة: فقلت له: والله لو أمرني بقتلك من أمرني بقتله لضربت عنقك. قال: فوالله إن كان لأول إسلام حويصة، وقال: لو أمرك محمد بقتلى لقتلتني ! قال: نعم والله، لو أمرني بقتلك لضربت عنقك. قال: والله إن ديناً بلغ بك هذا لعجب! فأسلم حويصة.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق. قال: حدثني هذا الحديث مولى لبني حارثة، عن ابنة محيصة، عن أبيها.
قال أبو جعفر: وزعم الواقدي أنهم جاءوا برأس ابن الأشرف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وزعم الواقدي أن في ربيع الأول من هذه السنة تزوج عثمان بن عفان أم كلثوم بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأدخلت عليه في جمادى الآخرة، وأن في ربيع الأول من هذه السنة غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة أنمار - ويقال لها: ذو أمر - وقد ذكرنا قول ابن إسحاق في ذلك قبل.
قال الواقدي: وفيها ولد السائب بن يزيد ابن أخت النمر.
غزوة القردةقال الواقدي: وفي جمادى الآخرة من هذه السنة، كانت غزوة القردة وكان أميرهم - فيما ذكر - زيد بن حارثة، قال: وهي أول سرية خرج فيها زيد بن حارثة أميراً.
قال أبو جعفر: وكان من أمرها ما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: سرية زيد بن حارثة التي بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها حين أصاب عير قريش، فيها أبو سفيان بن حرب، على القردة، ماء من مياه نجد. قال: وكان في حديثها أن قريشاً قد كانت خافت طريقها التي كانت تسلك إلى الشام حين كان من وقعة بدر ما كان، فسلكوا طريق العراق، فخرج منهم تجار فيهم أبو سفيان بن حرب، ومعه فضة كثيرة؛ وهي عظم تجارتهم، واستأجروا رجلاً من بكر بن وائل يقال له فرات بن حيان، يدلهم على ذلك الطريق، وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة، فلقيهم على ذلك الماء، فأصاب تلك العير وما فيها، وأعجزه الرجال، فقدم بها على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال أبو جعفر: وأما الواقدي، فزعم أن سبب هذه الغزوة كان أن قريشاً قالت: قد عور علينا محمد متجرنا وهو على طريقنا. وقال أبو سفيان وصفوان بن أمية: إن أقمنا بمكة أكلنا رءوس أموالنا. قال أبو زمعة بن الأسود: فأنا أدلكم على رجل يسلك بكم النجدية، لو سلكها مغمض العينين لا هتدى. قال صفوان: من هو ؟ فحاجتنا إلى الماء قليل؛ إنما نحن شاتون. قال: فرات بن حيان؛ فدعواه فاستأجراه؛ فخرج بهم في الشتاء، فسلك بهم على ذات عرق، ثم خرج بهم على غمرة، وانتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم خبر العير وفيها مال كثير، وآنية من فضة حملها صفوان بن أمية؛ فخرج زيد بن حارثة، فاعترضها، فظفر بالعير، وافلت أعيان القوم؛ فكان الخمس عشرين ألفاً، فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقسم الأربعة الأخماس على السرية، وأتى بفرات بن حيان العجلي أسيراً، فقيل: إن أسلمت لم يقتلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما دعا به رسول الله صلى الله عليه وسلم أسلم، فأرسله.
مقتل أبي رافع اليهوديقال أبو جعفر: وفي هذه السنة كان مقتل أبي رافع اليهودي - فيما قيل - وكان سبب قتله، أنه كان - فيما ذكر عنه - يظاهر كعب بن الأشرف على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فوجه إليه - فيما ذكر - رسول الله صلى الله عليه وسلم في النصف من جمادى الآخرة من هذه السنة عبد الله بن عتيك، فحدثنا هارون بن إسحاق الهمداني، قال: حدثنا مصعب بن المقدام، قال: حدثني إسرائيل، قال: حدثنا أبو إسحاق، عن البراء، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي رافع اليهودي - وكان بأرض الحجاز - رجالاً من الأنصار، وأمر عليهم عبد الله بن عقبة - أو عبد الله بن عتيك - وكان أبو رافع يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم ويبغي عليه، وكان في حصن له بأرض الحجاز، فلما دنوا منه وقد غربت الشمس، وراح الناس بسرحهم، قال لهم عبد الله بن عقبة - أو عبد الله بن عتيك: اجلسوا مكانكم، فإني أنطلق وأتلطف للبواب، لعلي أدخل ! قال: فأقبل حتى إذا دنا من الباب، تقنع بثوبه؛ كأنه يقضي حاجة، وقد دخل الناس، فهتف به البواب. يا عبد الله، إن كنت تريد أن تدخل فادخل، فإني أريد أن أغلق الباب.

قال: فدخلت فكمنت تحت آري حمار؛ فلما دخل الناس أغلق الباب ثم علق الأقاليد على ود. قال: فقمت إلى الأقاليد فأخذتها، ففتحت الباب، وكان أبو رافع يسمر عنده في علالى؛ فلما ذهب عنه أهل سمره، فصعدت إليه فجعلت كلما فتحت باباً أغلقته علي من داخل. قلت: إن القوم نذروا بي لم يخلصوا إلي حتى أقتله. قال: فانتهيت إليه، فإذا هو في بيت مظلم وسط عياله؛ لا أدري أين هو من البيت ! قلت: أبا رافع ! قال: من هذا ؟ قال: فأهويت نحو الصوت، فأضربه ضربة بالسيف، وأنا دهش فما أغنى شيئاً وصاح؛ فخرجت من البيت ومكثت غير بعيد. ثم دخلت إليه، فقلت: ما هذا الصوت يا أبا رافع ؟ قال: لأمك الويل ! إن رجلاً في البيت ضربني قبل بالسيف، قال: فأضربه فأثخنه ولم أقتله. قال: ثم وضعت ضبيب السيف في بطنه، حتى أخرجته من ظهره، فعرفت أنى قد قتلته، فجعلت أفتح الأبواب باباً فباباً، حتى انتهيت إلى درجة؛ فوضعت رجلي، وأنا أرى أني انتهيت إلى الأرض؛ فوقعت في ليلة مقمرة؛ فانكسرت ساقي، قال: فعصبتها بعمامتي، ثم إني انطلقت حتى جلست عند الباب، فقلت: والله لا أبرح الليلة حتى أعلم: أقتلته أم لا ؟ قال: فلما صاح الديك، قام الناعي عليه على السور، فقال: أنعي أبا رافع رباح أهل الحجاز ! قال: فانطلقت إلى أصحابي، فقلت: النجاء ! قد قتل الله أبا رافع، فانتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فحدثته فقال: ابسط رجلك، فبسطتها فمسحها فكأنما لم أشتكها قط.
قال أبو جعفر: وأما الواقدي؛ فإنه زعم أن هذه السرية التي وجهها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي رافع سلام بن أبي الحقيق إنما وجهها إليه في ذي الحجة من سنة أربع من الهجرة، وأن الذين توجهوا إليه فقتلوه، كانوا أبا قتادة، وعبد الله بن عتيك، ومسعود بن سنان، والأسود بن خزاعي وعبد الله بن أنيس .
وأما ابن إسحاق، فإنه قص من قصة هذه السرية ما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة عنه، كان سلام بن أي الحقيق - وهو أبو رافع - ممن كان حزب الأحزاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت الأوس قبل أحد قتلت كعب بن الأشرف في عداوته رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحريضه عليه، فاستأذنت الخزرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتل سلام بن أبي الحقيق؛ وهو بخيبر، فأذن لهم.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق، عن محمد مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري، عن عبد الله بن كعب بن مالك، قال: كان مما صنع الله به لرسوله أن هذين الحيين من الأنصار: الأوس والخزرج؛ كانا يتصاولان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تصاول الفحلين؛ لاتصنع الأوس شيئاً فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم غناء إلا قالت الخزرج: والله لا يذهبون بهذه فضلاً علينا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإسلام؛ فلا ينتهون حتى يوقعوا مثلها. قال: وإذا فعلت الخزرج شيئاً، قالت الأوس مثل ذلك.
فلما أصابت الأوس كعب بن الأشرف في عداوته لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت الخزرج: لا يذهبون فيها فضلاً علينا أبداً. قال: فتذاكروا: من رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم في العداوة كابن الأشرف ! فذكروا ابن أبي الحقيق وهو بخيبر؛ فاستأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتله، فأذن لهم؛ فخرج إليه من الخزرج ثم من بنى سلمة خمسة نفر: عبد الله بن عتيك، ومسعود بن سنان، وعبد الله بن أنيس، وأبو قتادة الحارث بن ربعي، وخزاعي بن الأسود؛ حليف لهم من أسلم؛ فخرجوا، وأمر عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عتيك، ونهاهم أن يقتلوا وليداً أو امرأة.

فخرجوا حتى قدموا خيبر؛ فأتوا دار ابن أبي الحقيق ليلاً؛ فلم يدعوا بيتاً في الدار إلا أغلقوه من خلفهم على أهله، وكان في علية له إليها عجلة رومية، فأسندوا فيها حتى قاموا على بابه فاستأذنوا، فخرجت إليهم امرأته فقالت: من أنتم ؟ فقالوا: نفرٌ من العرب نلتمس الميرة، قالت: ذاك صاحبكم فادخلوا عليه، فلما دخلنا أغلقنا عليها وعلينا وعليه باب الحجرة، وتخوفنا أن تكون دونه مجاولة تحول بيننا وبينه. قال: فصاحت امرأته، ونوهت بنا، وابتدرناه وهو على فراشه بأسيافنا؛ والله ما يدلنا عليه في سواد الليل إلا بياضه؛ كأنه قبطية ملقاة. قال: ولما صاحت بنا امرأته، جعل الرجل منا يرفع عليها السيف ثم يذكر نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فيكف يده؛ ولولا ذاك فرغنا منها بليلٍ، فلما ضربناه بأسيافنا، تحامل عليه عبد الله بن أنيس بسيفه في بطنه حتى أنفذه وهو يقول: قطني قطني ! قال: ثم خرجنا، وكان عبد الله بن عتيك سيء البصر؛ فوقع من الدرجة فوثئت رجله وثئاً شديداً واحتملناه حتى نأتي به منهراً من عيونهم، فندخل فيه. قال: وأوقدوا النيران، واشتدوا في كل وجه يطلبوننا؛ حتى إذا يئسوا رجعوا إلى صاحبهم فاكتنفوه؛ وهو يقضي بينهم. قال: فقلنا: كيف لنا بأن نعلم أن عدو الله قد مات ! فقال رجل منا: أنا أذهب فأنظر لكم، فانطلق حتى دخل في الناس، قال فوجدته ورجال يهود عنده، وامرأته في يدها المصباح تنظر في وجهه. ثم قالت تحدثهم وتقول: أما والله لقد عرفت صوت ابن عتيك؛ ثم أكذبت، فقلت: أنى ابن عتيك بهذه البلاد ! ثم أقبلت عليه لتنظر في وجهه. ثم قالت: فاظ وإله اليهود !قال: يقول صباحنا؛ فما سمعت من كلمة كانت ألذ إلى نفسي منها، ثم جاءنا فأخبرنا الخبر فاحتملنا صاحبنا، فقدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخبرناه بقتل عدو الله، واختلفنا عنده في قتله؛ وكلنا يدعيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هاتوا أسيافكم، فجئناه بها فنظر إليها، فقال لسيف عبد الله بن أنيس: هذا قتله، أرى فيه أثر الطعام. فقال حسان بن ثابت؛ وهو يذكر قتل كعب بن الأشرف وسلام ابن أبي الحقيق:
لله در عصابةٍ لاقيتهم ... يا بن الحقيق وأنت يابن الأشرف
يسرون بالبيض الخفاف إليكم ... مرحاً كأسدٍ في عرينٍ مغرف
حتى أتوكم في محل بلادكم ... فسقوكم حتفاً ببيض ذفف
مستبصرين لنصر دين نبيهم ... مستضعفين لكل أمرٍ مجحف
حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي وعباس بن عبد العظيم العنبري، قالا: حدثنا جعفر بن عون، قال: حدثنا إبراهيم بن إسماعيل، قال: حدثني إبراهيم بن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، أن أباه حدثه عن أمه ابنة عبد الله بن أنيس، أنها حدثته عن عبد الله بن أنيس، أن الرهط الذين بعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ابن أبي الحقيق ليقتلوه: عبد الله بن عتيك، وعبد الله بن أنيس، وأبو قتادة، وحليف لهم، ورجل من الأنصار؛ وأنهم قدموا خيبر ليلاً.
قال: فعمدنا إلى أبوابهم نغلقها من خارج، ونأخذ المفاتيح، حتى أغلقنا عليهم أبوابهم، ثم أخذنا المفاتيح فألقيناها في فقير، ثم جئنا إلى المشربة التي فيهخ ابن أبي الحقيق، فظهرت عليها أنا وعبد الله بن عتيك وقعد أصحابنا في الحائط، فاستأذن عبد الله بن عتيك؛ فقالت امرأة ابن أبي الحقيق: إن هذا لصوت عبد الله بن عتيك. قال ابن أبي الحقيق: ثكلتك أمك !عبد الله بن عتيك بيثرب؛ أين هو عندك هذه الساعة ! افتحي لي؛ إن الكريم لا يرد عن بابه هذه الساعة .فقامت ففتحت. فدخلت أنا وعبد الله على ابن أبي الحقيق ، فقال عبد الله بن عتيك: دونك، قال: فشهرت عليها السيف، فأذهب لأضربها بالسيف فأذكر نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والولدان، فأكف عنها، فدخل عبد الله بن عتيك على ابن أبي الحقيق. قال: فأنظر إليه في مشربة مظلمة إلى شدة بياضه، فلما رآني ورآى السيف، أخذ الوسادة فاتقاني بها، فأذهب لأضربه فلا أستطيع، فوخزته بالسيف وخزاً.

ثم خرج إلى عبد الله بن أنيس ، فقال: أقتله ؟ قال: نعم، فدخل عبد الله بن أنيس فذفف عليه. قال: ثم خرجت إلى عبد الله بن عتيك؛ فانطلقنا، وصاحت المرأة: وابياتاه وابياتاه ! قال: فسقط عبد الله بن عتيك في الدرجة، فقال: وارجلاه وارجلاه ! فاحتمله عبد الله بن أنيس؛ حتى وضعه إلى الأرض. قال :قلت: انطلق ليس برجلك بأس. قال: فانطلقنا، قال عبد الله بن أنيس: جئنا أصحابنا فانطلقنا، ثم ذكرت قوسي أنى تركتها في الدرجة؛ فرجعت إلى قوسي؛ فإذا أهل خيبر يموج بعضهم في بعض؛ ليس لهم كلام إلا من قتل ابن أبي الحقيق ؟ من قتل ابن أبي الحقيق ؟ قال: فجعلت لا أنظر في وجهي إنسان، ولا ينظر في وجه إنسان إلا قلت: من قتل ابن أبي الحقيق ؟ قال: ثم صعدت الدرجة؛ والناس يظهرون فيها؛ وينزلون؛ فأخذت قوسي من مكانها، ثم ذهبت فأدركت أصحابي، فكنا نكمن النهار ونسير الليل؛ فإذا كمنا بالنهار أقعدنا منا ناطوراً ينظر لنا؛ فإن رأى شيئاً أشار إلينا؛ فانطلقنا حتى إذا كنا بالبيضاء كنت - قال موسى : أنا ناطرهم ، وقال عباس : كنت أنا ناطرهم - فأشرت إليهم فذهبوا جمزاً وخرجت في آثارهم ، حتى إذا اقتربنا من المدينة أدركتهم، قالوا: ما شأنك ؟ هل رأيت شيئاً ؟ قلت: لا، إلا أني قد عرفت أن قد بلغكم الإعياء والوصب، فأحببت أن يحملكم الفزع.
قال أبو جعفر: وفي هذه السنة تزوج النبي صلى الله عليه وسلم حفصة ينت عمر في شعبان؛ وكانت قبله تحت خنيس بن حذافة السهمي في الجاهلية، فتوفي عنها.
وفيها كانت غزوة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحداً؛ وكانت في شوال يوم السبت لسبع ليالٍ خلون منه - فيما قيل - من سنة ثلاث من الهجرة.
غزوة أحدقال أبو جعفر: وكان الذي هاج غزوة أحد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم ومشركي قريش وقعة بدر وقتل من قتل ببدر من أشراف قريش ورءوسائهم؛ فحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: وحدثني محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري، ومحمد بن يحيى بن حبان، وعاصم بن عمر بن قتادة، والحصين ابن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ وغيرهم من علمائنا؛ كلهم قد حدث ببعض هذا الحديث عن يوم أحد، وقد اجتمع حديثهم كلهم فيما سقت من الحديث عن يوم أحد، قالوا: لما أصيبت قريش - أو من قاله منهم - يوم بدر من كفار قريش من أصحاب القليب، فرجع فلهم إلى مكة، ورجع أبو سفيان بن حرب بعيره، مشى عبد الله بن أبي ربيعة، وعكرمة بن أبي جهل، وصفوان بن أمية، في رجال من قريش ممن أصيب آباؤهم وأبناؤهم وإخوانهم ببدر؛ فكلموا أبا سفيان بن حرب ومن كانت له في تلك العير من قريش تجارة، فقالوا: يا معشر قريش، إن محمداً قد وتركم، وقتل خياركم، فأعينونا بهذا المال على حربه؛ لعلنا أن ندرك منه ثأراً بمن أصيب منا، ففعلوا، فاجتمعت قريش لحرب رسول الله صلى الله عليه سلم حين فعل ذلك أبو سفيان وأصحاب العير بأحابيشها ومن أطاعها من قبائل كنانة وأهل تهامة؛ وكل أولئك قد استعووا على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكان أبو عزة عمرو بن عبد الله الجمحي قد من عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر. وكان فقيراً ذا بنات، وكان في الأسارى، فقال: يا رسول الله، إني فقير ذو عيال وحاجة قد عرفتها، فامنن علي صلى الله عليك! فمن عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال صفوان ابن أمية: يا أبا عزة، إنك امرؤٌ شاعرٌ، فاعنا بلسانك، فأخرج معنا. فقال: إن محمداً قد من علي فلا أريد أن أظاهر عليه، فقال: بلى فأعنا بنفسك، فلك الله إن رجعت أن أغنيك، وإن أصبت أن أجعل بناتك مع بناتي يصيبهن ما أصابهن من عسر ويسر. فخرج أبو عزة يسير في تهامة، ويدعو بنى كنانة. وخرج مسافع بن عبد مناف بن وهب بن حذافة بن جمح؛ إلى بني مالك بن كنانة يحرضهم ويدعوهم إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودعا جبير بن مطعم غلاماً له يقال له وحشى، كان حبشياً يقذف بحربة له قذف الحبشة، قلما يخطئ بها. فقال له: اخرج مع الناس، فإن أنت قتلت عم محمد بعمى طعيمة بن عدي فأنت عتيقٌ.

فخرجت قريش بحدها وجدها وأحابيشها، ومن معها من بنى كنانة وأهل تهامة، وخرجوا معهم بالظعن التماس الحفيظة؛ ولئلا يفروا. فخرج أبو سفيان بن حرب - وهو قائد الناس، معه هند بنت عتبة ابن ربيعة - وخرج عكرمة بن أبي جهل بن هشام بن المغيرة بأم حكيم بنت الحارث بن هشام بن المغيرة، وخرج الحارث بن هشام بن المغيرة بفاطمة بنت الوليد بن المغيرة، وخرج صفوان بن أمية بن خلف ببرزة - قال أبو جعفر: وقيل ببرة - بنت مسعود بن عمرو بن عمير الثقفية؛ وهي أم عبد الله ابن صفوان - وخرج عمرو بن العاص بن وائل بريطة بنت منبه بن الحجاج، وهي أم عبد الله بن عمرو بن العاص، وخرج طلحة بن أبي طلحة، وأبو طلحة عبد الله بن عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار بسلافة بنت سعد بن شهيد - وهي أم بني طلحة مسافع والجلاس وكلاب؛ قتلوا يومئذ وأبوهم - وخرجت خناس بنت مالك بن المضرب إحدى نساء بني مالك ابن حسل، مع ابنها أبي عزيز بن عمير وهي أم مصعب بن عمير، وخرجت عمرة بنت علقمة إحدى نساء بنى الحارث بن عبد مناة بن كنانة؛ وكانت هند بن عتبة بن ربيعة كلما مرت بوحشي أو مر بها قالت: إيهٍ أبا دسمة ! اشف واشتف - وكان وحشي يكنى أبا دسمة. فأقبلوا حتى نزلوا بعينين بجبل ببطن السبخة؛ من قناة على شفير الوادي مما يلي المدينة.
فلما سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون قد نزلوا حيث نزلوا قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم للمسلمين: إني قد رأيت بقرأ فأولتها خيراً، ورأيت في ذباب سيفي ثلماً، ورأيت أنى أدخلت يدي في درع حصينة فأولتها المدينة؛ فإن رأيتم أن تقيموا بالمدينة وتدعوهم حيث نزلوا؛ فإن أقاموا أقاموا بشر مقام؛ وإن هم دخلوا علينا قاتلناهم فيها.
ونزلت قريش منزلها من أحد يوم الأربعاء. فأقاموا به ذلك اليوم ويوم الخميس ويوم الجمعة. وراح رسول الله صلى الله عليه وسلم حين صلى الجمعة، فأصبح بالشعب من أحد. فالتقوا يوم السبت للنصف من شوال؛ وكان رأي عبد الله بن أبي ابن سلول مع رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم، يرى رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك: ألا يخرج إليهم؛ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكره الخروج من المدينة، فقال رجال من المسلمين ممن أكرم الله بالشهادة يوم أحد وغيرهم ممن كان فاته بدر وحضوره: يا رسول الله اخرج بنا إلى أعدائنا، لا يرون أنا جبنا عنهم وضعفنا، فقال عبد الله بن أبي بن سلول: يا رسول الله، أقم بالمدينة ولا تخرج إليهم؛ فوالله ما خرجنا إلى عدو لنا قط إلا أصاب منا، ولا دخلها علينا إلا أصبنا منه، فدعهم يا رسول الله؛ فإن أقاموا أقاموا بشر مجلس؛ وإن دخلوا قاتلهم الرجال في وجوههم، ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من فوقهم، وإن رجعوا رجعوا خائبين كما جاءوا.
فلم يزل الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم الذين كان من أمرهم حب لقاء القوم؛ حتى دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلبس لأمته؛ وذلك يوم الجمعة حين فرغ من الصلاة، وقد مات في ذلك اليوم رجل من الأنصار يقال له مالك بن عمرو، أحد بني النجار، فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ثم خرج عليهم وقد ندم الناس، وقالوا: استكرهنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكن ذلك لنا.
قال أبو جعفر: وأما السدي؛ فإنه قال في ذلك غير هذا القول؛ ولكنه قال ما حدثني محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن المفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السدي، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سمع بنزول المشركين من قريش وأتباعها أحداً، قال لأصحابه: أشيروا علي ما أصنع ! فقالوا: يا رسول الله، اخرج بنا إلى هذه الأكلب، فقالت الأنصار: يا رسول الله، ما غلبنا عدوٌ قط أتانا في ديارنا، فكيف وأنت فينا ! فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أبي بن سلول - ولم يدعه قط قبلها - فاستشاره، فقال: يا رسول الله، اخرج بنا إلى هذه الأكلب؛ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبه أن يدخلوا عليه المدينة، فيقاتلوا في الأزقة، فأتاه النعمان بن مالك الأنصاري، فقال: يا رسول الله لا تحرمني الجنة؛ فوالذي بعثك بالحق لأدخلن الجنة، فقال له: بم ؟ قال: بأني أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، وأني لا أفر من الزحف. قال: صدقت، فقتل يومئذ.

ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا بدرعه فلبسها، فلما رأوه قد لبس السلاح ندموا وقالوا: بئس ما صنعنا ! نشير على رسول الله والوحي يأتيه ! فقاموا فاعتذروا إليه، وقالوا: اصنع ما رأيت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا ينبغي لنبي أن يلبس لأمته فيضعها حتى يقاتل. فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أحد في ألف رجل؛ وقد وعدهم الفتح إن صبروا، فلما خرج رجع عبد الله بن أبي بن سلول في ثلاثمائة، فتبعهم أبو جابر السلمي يدعوهم؛ فلما غلبوه وقالوا له: ما نعلم قتالا، ولئن أطعتنا لترجعن معنا؛ قال الله عز وجل: " إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا " ، فهم بنو سلمة وبنو حارثة، هموا بالرجوع حين رجع عبد الله بن أبي، فعصمهم الله عز وجل، وبقي رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبعمائة .
رجع الحديث إلى حديث ابن إسحاق: قال: قالوا: لما خرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: يا رسول الله؛ استكرهناك ولم يكن ذلك لنا، فإن شئت فاقعد صلى الله عليك ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يقاتل؛ فخرج رسول الله في ألف رجل من أصحابه؛ حتى إذا كانوا بالشوط بين أحد والمدينة أنخزل عنه عبد الله بن أبي بن سلول بثلث الناس، فقال: أطاعهم فخرج وعصاني؛ والله ما ندري علام نقتل أنفسنا ها هنا أيها الناس ! فرجع بمن اتبعه من الناس من قومه من أهل النفاق وأهل الريب، واتبعهم عبد الله بن عمرو بن حرام، أخو بني سلمة، يقول: يا قوم أذكركم الله أن تخذلوا نبيكم وقومكم عند ما حضر من عدوهم ! قالوا: لو نعلم أنكم تقاتلون ما أسلمناكم؛ ولكنا لا نرى أن يكون قتال، فلما استعصوا عليه، وأبو إلا الانصراف عنه ، قال: أبعدكم الله أعداء الله ! فسيغني الله عنكم ! قال أبو جعفر: قال محمد بن عمر الواقدي: انخزل عبد الله بن أبي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشيخين بثلثمائة، وبقي رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبعمائة، وكان المشركون ثلاثة آلاف، والخيل مائتي فرس، والظعن خمس عشرة امرأة.
قال: وكان المشركين سبعمائة دارع؛ كان في المسلمين مائة دارع؛ ولم يكم معهم من الخيل إلا فرسان: فرسٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وفرس لأبي بردة بن نيار الحارثي. فأدلج رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشيخين حين طلعت الحمراء - وهما أطمان، كان يهودي ويهودية أعميان يقومان عليهما؛ فيتحدثان فلذلك، سميا الشيخين، وهو في طرف المدينة - قال: وعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم المقاتلة بالشيخين بعد المغرب؛ فأجاز من أجاز، ورد من رد، قال: وكان فيمن رد زيد بن ثابت وابن عمر، وأسيد بن ظهير، والبراء بن عازب، وعرابة بن أوس. قال: وهو الذي قال فيه الشماخ:
رأيت عرابة الأوسي ينمي ... إلى الخيرات منقطع القرين
إذا مارايةٌ رفعت لمجدٍ ... تلقاها عرابة باليمين
قال: ورد أبا سعيد الخدري، وأجاز سمرة بن جندب ورافع بن خديج، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد استصغر رافعاً، فقام على خفين له فيهما رقاع، وتطاول على أطراف أصابعه؛ فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم أجازه.
حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: كانت أم سمرة بن جندب تحت مرى بن سنان بن ثعلبة، عم أبي سعيد الخدري، فكان ربيبه، فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أحد، وعرض أصحابه، فرد من استصغر رد سمرة بن جندب، وأجاز رافع بن خديج، فقال سمرة بن جندب لربيبه مرى بن سنان: يا أبت، أجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم رافع بن خديج، وردني وأنا أصرع رافع بن خديج، فقال: مرى بن سنان: يا رسول الله، رددت ابني، وأجزت رافع بن خديج وابني يصرعه ! فقال النبي صلى الله صلى الله عليه وسلم لرافع وسمرة: تصارعا، فصرع سمرة رافعاً، فأجازه رسول الله صلى الله عليه وسلم فشهدها مع المسلمين.
قال: وكان دليل النبي صلى الله عليه وسلم أبو حثمة الحارثي.

رجع الحديث إلى حديث ابن إسحاق، قال: ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى سلك في حرة بني حارثة، فذب فرس بذنبه، فأصاب كلاب سيف، فاستله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم - وكان يحب الفأل ولا يعتاف - لصاحب السيف: شم سيفك، فإني أرى السيوف ستسل اليوم. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: من رجلٌ يخرج بنا على القوم من كثبٍ، من طريق لا يمر بنا عليهم ؟ فقال أبو حثمة أخو بني حارثة بن الحارث: أنا يا رسول الله، فقدمه فنفذ به في حرة بني حارثة وبين أموالهم حتى سلك به في مال المربع بن قيظي - وكان رجلاً منافقاً ضرير البصر - فلما سمع حس رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من المسلمين، قام يحثي في وجوههم التراب، ويقول: إن كنت رسول الله؛ فإني لا أحل لك أن تدخل حائطي؛ قال: وقد ذكر لي أنه أخذ حفنة من تراب في يده، ثم قال: لو أعلم أني لا أصيب بها غيرك يا محمد لضربت بها وجهك. فابتدره القوم ليقتلوه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تفعلوا؛ فهذا الأعمى البصر، الأعمى القلب. وقد بدر إليه سعد بن زيد أخو بني عبد الأشهل حين نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه، فضربه بالقوس في رأسه فشجه، ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على وجهه، حتى نزل الشعب من أحد في عدوة الوادي إلى الجبل، فجعل ظهره وعسكره إلى أحد، وقال: لا يقاتلن أحدٌ حتى نأمره بالقتال؛ وقد سرحت قريش الظهر والكراع في زروع كانت بالصمغة من قناة المسلمين.
فقال رجل من المسلمين حين نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القتال: أترعى زروع بني قيلة ولما نضارب ! وتعبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم للقتال وهو في سبعمائة رجل، وتعبأت قريش وهم ثلاثة آلاف رجل؛ ومعهم مائتا فرس قد جنبوها، فجعلوا على ميمنة الخيل خالد بن الوليد وعلى ميسرتها عكرمة بن أبي جهل، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم على الرماة عبد الله بن جبير، أخا بني عمرو بن عوف وهو يومئذ معلمٌ بثياب بيض، والرماة خمسون رجلاً، وقال: انضح عنا الخيل بالنبل لا يأتونا من خلفنا إن كانت لنا أو علينا، فاثبت مكانك لا نؤتين من قبلك، وظاهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين درعين.
فحدثنا هارون بن إسحاق: قال حدثنا مصعب بن المقدام، قال: حدثنا إسرائيل. وحدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن إسرائيل، قال: حدثنا أبو إسٍحاق، عن البراء، قال: لما كان يوم أحد، ولقي رسول الله صلى الله عليه وسلم المشركين أجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم رجالاً بإزاء الرماة، وأمر عليهم عبد الله بن جبير. وقال لهم: لا تبرحوا مكانكم إن رأيتمونا ظهرنا عليهم، وإن رأيتموهم ظهروا علينا فلا تعينونا.
فلما لقي القوم هزم المشركين حتى رأيت النساء قد رفعن عن سوقهن، وبدت خلاخيلهن، فجعلوا يقولون ،: الغنيمة الغنيمة ! فقال عبد الله: مهلاً، أما علمتم ما عهد إليكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ! فأبوا، فانطلقوا، فلما أتوهم صرف الله وجوههم؛ فأصيب من المسلمين سبعون.
حدثنا محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي: عن أبيه، عن ابن عباس، قال: أقبل أبو سفيان في ثلاث ليال خلون من شوال، حتى نزل أحداً، وخرج النبي صلى الله عليه وسلم، فأذن في الناس فاجتمعوا، وأمر الزبير على الخيل؛ ومعه يومئذ المقداد بن الأسود الكندي، وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم اللواء رجلاً من قريش يقال له مصعب بن عمير، وخرج حمزة بن عبد المطلب بالحسر ، وبعث حمزة بين يديه، وأقبل خالد بن الوليد على خيل المشركين؛ ومعه عكرمة بن أبي جهل، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الزبير، وقال: استقبل خالد بن الوليد؛ فكن بإزائه حتى أؤذنك، وأمر بخيل أخرى، فكانوا من جانب آخر، فقال: لا تبرحن حتى أوذنكم.

وأقبل أبو سفيان يحمل اللات والعزى، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى الزبير أن يحمل، فحمل على خالد بن الوليد؛ فهزمه الله ومن معه، فقال: " ولقد صدقكم الله وعده " - إلى قوله - " من بعد ما أراكم ما تحبون " ؛ وإن الله عز وجل وعد المؤمنين أن ينصرهم؛ وأنه معهم. وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث ناساً من الناس؛ فكانوا من ورائهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كونوا ها هنا، فردوا وجه من فر منا، وكونوا حراساً لنا من قبل ظهورنا، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هزم القوم هو وأصحابه، قال الذين كانوا جعلوا من ورائهم بعض لبعض، ورأوا النساء مصعدات في الجبل، ورأوا الغنائم: انطلقوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأدركوا الغنيمة قبل أن يسبقونا إليها، وقالت طائفة أخرى: بل نطيع رسول الله صلى الله عليه وسلم فنثبت مكاننا، فلذلك قوله لهم: " منكم من يريد الدنيا " الذين أرادوا الغنيمة، " ومنكم من يريد الآخرة " الذين قالوا: نطيع رسول الله ونثبت مكاننا، فكان ابن مسعود يقول: ما شعرت أن أحداً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كان يريد الدنيا وعرضها، حتى كان يومئذ.
حدثني محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن المفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السدي، قال: لما برز رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين بأحد أمر الرماة، فقاموا بأصل الجبل في وجوه خيل المشركين؛ وقال لهم: لا تبرحوا مكانكم إن رأيتم أننا قد هزمناهم، فإنا لا نزال غالبين ما ثبتم مكانكم. وأمر عليهم عبد الله بن جبير أخا خوات بن جبير.
ثم إن طلحة بن عثمان صاحب لواء المشركين قام: فقال: يا معشر أصحاب محمد، إنكم تزعمون أن الله يعجلنا بسيوفكم إلى النار، ويعجلكم بسيوفنا إلى الجنة؛ فهل منكم أحدٌ يعجله الله بسيفي إلى الجنة، أو يعجلني بسيفه إلى النار ! فقام إليه علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقال: والذي نفسي بيده لا أفارقك حتى أعجلك بسيفي إلى النار، أو تعجلني بسيفك إلى الجنة، فضربه علي فقطع رجله فسقط فانكشفت عورته، فقال: أنشدك الله والرحم يا بن
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://arabelalekat.yoo7.com
الشيخ عودة
الشيخ عودة
الشيخ عودة



عدد المساهمات : 1748
تاريخ التسجيل : 28/09/2008
العمر : 73

كتاب : تاريخ الرسل والملوك المؤلف : الطبري - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: كتاب : تاريخ الرسل والملوك المؤلف : الطبري   كتاب : تاريخ الرسل والملوك المؤلف : الطبري - صفحة 2 Emptyالسبت ديسمبر 14, 2013 10:30 am

قال أبو جعفر: وأما ابن إسحاق، فإنه قال - فيما حدثنا ابن حميد قال: حدثنا سلمة عنه - بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشعب؛ ومعه أولئك النفر من أصحابه إذ علت عالية من قريش الجبل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم إنه لا ينبغي لهم أن يعلونا؛ فقاتل عمر بن الخطاب ورهط معه من المهاجرين حتى أهبطوهم عن الجبل؛ ونهض رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صخرة من الجبل ليعلوها. وقد كان بدن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وظاهر بين درعين، فلما ذهب لينهض لم يستطع؛ فجلس تحته طلحة بن عبيد الله، فنهض حتى استوى عليها.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: قال محمد: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما حدثنا يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، عن عبد الله بن الزبير، ، عن الزبير ، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يومئذ: أوجب طلحة حين صنع برسول الله ما صنع.
قال أبو جعفر: وقد كان الناس انهزموا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى انتهى بعضهم إلى المنقى دون الأعوص، وفر عثمان بن عفان وعقبة بن عثمان وسعد بن عثمان " رجلان من الأنصار " ؛ حتى بلغوا الجلعب " جبلاً بناحية المدينة مما يلي الأعوص " ، فأقاموا به ثلاثاً ثم رجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال لهم: لقد ذهبتم فيها عريضة.
قال أبو جعفر: وقد كان حنظلة بن أبي عامر الغسيل، التقى هو وأبو سفيان بن حرب، فلما استعلاه حنظلة رآه شداد بن الأسود - وكان يقال له: ابن شعوب - قد علا أبا سفيان، فضربه شداد فقتله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن صاحبكم - يعنى حنظلة - لتغسله الملائكة. فسلوا أهله: ما شأنه ؟ فسئلت صاحبته، فقالت: خرج وهو جنب حين سمع الهائعة؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لذلك غسلته الملائكة، فقال شداد ابن الأسود في قتله حنظلة:
لأحمين صاحبي ونفسي ... بطعنةٍ مثل شعاع الشمس
وقال أبو سفيان بن حرب، وهو يذكر صبره ذلك اليوم، ومعاونة ابن شعوب شداد بن الأسود إياه على حنظلة:
ولو شئت نجتني كميتٌ طمرةٌ ... ولم أحمل النعماء لابن شعوب
فما زال مهرى مزجر الكلب منهم ... لدى غدوةٍ حتى دنت لغروب
أقاتلهم وأدعى يال غالبٍ ... وأدفعهم عني بركن صليب
فبكى ولا ترعى مقالة عاذلٍ ... ولا تسأمى من عبرةٍ ونجيب
أباك وإخواناً له قد تتابعوا ... وحق لهم من عبرةٍ بنصيب
وسلى الذي قد كان في النفس أنني ... قتلت من النجار كل نجيب
ومن هاشم قرماً نجيباً ومصعباً ... وكان لدى الهيجاء غير هيوب
ولو أنني لم أشف منهم قرونتي ... لكانت شجي في القلب ذات ندوب
فآبوا وقد أودى الحلائب منهم ... لهم خدبٌ من مغبطٍ وكئيب
أصابهم من لم يكن لدمائهم ... كفياً ولا في خطةٍ بضريب
فأجابه حسان بن ثابت فقال:
ذكرت القروم الصيد من آل هاشمٍ ... ولست لزورٍ قلته بمصيب
أتعجب أن أقصدت حمزة منهم ... نجيباً وقد سميته بنجيب
ألم يقتلوا عمراً وعتبة وابنه ... وشيبة والحجاج وابن حبيب !
غداة دعا العاصي عليا فراعه ... بضربة عضبٍ بله بخضيب
وقال شداد بن الأسود، يذكر يده عند أبي سفيان بن حرب فيما دفع عنه:
ولولا دفاعي يا بن حربٍ ومشهدي ... لألفيت يوم النعف غير مجيبٍ
ولولا مكري المهر بالنعف قرقرت ... ضباعٌ عليه أو ضراء كليب
وقال الحارث بن هشام يجيب أبا سفيان في قوله:
وما زال مهري مزجر الكلب منهم
وظن أنه يعرض به إذ فر يوم بدر:
وإنك لو عاينت ما كان منهم ... لأبت بقلبٍ ما بقيت نخيب
لدى صحن بدرٍ أو لقامت نوائحٌ ... عليك، ولم تحفل مصاب حبيب
جزيتهم يوماً ببدر كمثله ... على سابحٍ ذي ميعة وشبيب

قال أبو جعفر: وقد وقفت هند بنت عتبة - فيما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: حدثني صالح بن كيسان - والنسوة اللاتي معها يمثلن بالقتلى من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، يجدعن الآذان وألأنوف؛ حتى اتخذت هند من آذان الرجال وآنفهم خدماً وقلائد، وأعطت خدمها وقلائدها وقرطتها وحشياً، غلام جبير بن مطعم، وبقرت عن كبد حمزة فلاكتها فلم تستطع أن تسيغها فلفظتها. ثم علت على صخرة مشرفة، فصرخت بأعلى صوتها بما قالت من الشعر حين ظفروا بما أصابوا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: حدثني صالح بن كيسان، أنه حدث أن عمر بن الخطاب قال لحسان: يا بن الفريعة لو سمعت ما تقول هند ورأيت أشرها، قائمة على صخرة ترتجز بنا، وتذكر ما صنعت بحمزة ! فقال له حسان: والله إني لأنظر إلى الحربة تهوي وأنا على رأس فارع - يعني أطمه - فقلت: والله إن هذه لسلاحٌ ما هي بسلاح العرب؛ وكأنها إنما تهوي إلى حمزة؛ ولا أدري. أسمعني بعض قولها أكفيكموها؛ قال: فأنشده عمر بعض ما قالت، فقال حسان يهجو هنداً:
أشرت لكاع وكان عادتها ... لؤماً إذا أشرت مع الكفر
لعن الإله وزوجها معها ... هند الهنود عظيمة البظر
أخرجت مرقصةً إلى أحدٍ ... في القوم مقتبةً على بكر
بكرٍ ثفال لا حراك به ... لا عن معاتبةٍ ولا زجر
وعصاك إستك تتقين بها ... دقى العجاية هند بالفهر
قرحت عجيزتها ومشرجها ... من دأبها نصا على القتر
ظلت تداويها زميلتها ... بالماء تنضحه وبالسدر
أخرجت ثائرةً مبادرةً ... بأبيك وابنك يوم ذي بدر
وبعمك المستوه في ردعٍ ... وأخيك منعفرين في الجفر
ونسيت فاحشةً أتيت بها ... يا هند، ويحك سبة الدهر
فرجعت صاغرةً بلا ترةٍ ... منا ظفرت بها ولا نصر
زعم الولائد أنها ولدت ... ولداً صغيراً كان من عهر
قال أبو جعفر: ثم إن أبا سفيان بن حرب أشرف على القوم - فيما حدثنا هارون بن إسحاق قال: حدثنا مصعب بن المقدام، قال: حدثنا إسرائيل.
وحدثنا ابن وكيع، قال: حدثني أبي، عن إسرائيل، قال: حدثنا أبو إسحاق، عن البراء قال: ثم إن أبا سفيان أشرف علينا، فقال: أفي القوم محمد ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تجيبوه؛ مرتين، ثم قال: أفي القوم ابن أبي قحافة ؟ ثلاثاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تجيبوه، ثم قال: أفي القوم ابن الخطاب ؟ ثلاثاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لاتجيبوه، ثم التفت إلى أصحابه، فقال: أما هؤلاء فقد قتلوا، لو كانوا في الأحياء لأجابوا، فلم يملك عمر بن الخطاب نفسه أن قال: كذبت ياعدو الله، قد أبقى الله لك ما يخزيك ! فقال: اعل هبل ! اعل هبل ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أجيبوه، قالوا: ما نقول ؟ قال: قولوا: الله أعلى وأجل ! قال أبو سفيان: ألا لنا العزى ولا عزى لكم ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أجيبوه، قالوا: ما نقول ؟ قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم ! قال أبو سفيان: يومٌ بيوم بدر، والحرب سجال؛ أما إنكم ستجدون في القوم مثلاً لم آمر بها ولم تسؤني.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال في حديثه: لما أجاب عمر أبا سفيان قال له أبو سفيان: هلم يا عمر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إيته فانظر ما شأنه ؟ فجاءه فقال له أبو سفيان: أنشدك الله يا عمر، أقتلنا محمداً ؟ فقال عمر: اللهم لا؛ وإنه ليسمع كلامك الآن، فقال: أنت أصدق عندي من ابن قميئة وأبر؛ لقول ابن قميئة لهم: إني قتلت محمداً. ثم نادى أبو سفيان، فقال: إنه قد كان في قتلاهم مثلٌ والله ما رضيت ولا سخطت، ولا نهيت ولا أمرت.

وقد كان الحليس بن زبان أخو بنى الحارث بن عبد مناة؛ وهو يومئذ سيد الأحابيش، قد مر بأبي سفيان بن حرب، وهو يضرب في شدق حمزة يزج الرمح؛ وهو يقول ذق عقق ! فقال الحليس: يا بني كنانة، هذا سيد قريش يصنع بأبن عمه كما ترون لحماً ! فقال: اكتمها، فإنها كانت زلة؛ فلما انصرف أبو سفيان ومن معه نادى: إن موعدكم بدر للعام المقبل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل من أصحابه: قل نعم هي بيننا وبينك موعد.
ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب عليه السلام، فقال: اخرج في آثار القوم فانظر ماذا يصنعون، وماذا يريدون ! فإن كانوا قد اجتنبوا الخيل، وامتطوا الإبل؛ فإنهم يريدون مكة؛ وإن ركبوا الخيل، وساقوا الإبل؛ فهم يريدون المدينة؛ فوالذي نفسي بيده؛ لئن أرادوها لأسيرن إليهم فيها ثم لأناجزنهم. قال علي: فخرجت في آثارهم أنظر ماذا يصنعون؛ فلما اجتنبوا الخيل وامتطوا الإبل توجهوا إلى مكة؛ وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أي ذلك كان فأخفه حتى تأتيني. قال عليٌ عليه السلام: فلما رأيتهم قد توجهوا إلى مكة أقبلت أصيح؛ ما أستطيع أن أكتم الذي أمرني به رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بي من الفرح؛ إذ رأيتهم انصرفوا إلى مكة عن المدينة.
وفرغ الناس لقتلاهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم - كما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة المازني أخي بني النجار، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: من رجلٌ ينظر لي ما فعل سعد بن الربيع ؟ - وسعد أخو بني الحارث بن الخزرج - أفي الأحياء هو أم في الأموات ؟ فقال رجل من الأنصار: أنا أنظر لك يا رسول الله ما فعل؛ فنظر فوجده جريحاً في القتلى به رمق، قال: فقلت له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرني أن أنظر له: أفي الأحياء أنت أم في الأموات ؟ قال: فأنا في الأموات، أبلغ رسول الله عني السلام، وقل له: إن سعد بن الربيع يقول لك: جزاك الله خير ما جزى نبي عن أمته؛ وأبلغ عني قومك السلام، وقل لهم: إن سعد بن الربيع يقول لكم: إنه لا عذر لكم عند الله إن خلص إلى نبيكم صلى الله عليه وسلم وفيكم عينٌ تطرف. ثم لم أبرح حتى مات؛ فجئت رسول الله فأخبرته خبره. وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما بلغني - يلتمس حمزة بن عبد المطلب، فوجده ببطن الوادي قد بقر بطنه عن كبده، ومثل به فجدع أنفه وأذناه.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: فحدثني محمد بن جعفر بن الزبير ،أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رأى بحمزة ما رأى، قال: لو لا أن تحزن صفية أو تكون سنة من بعدي لتركته حتى يكون في أجواف السباع وحواصل الطير، ولئن أنا أظهرني الله على قريش في موطن من المواطن لأمثلن بثلاثين رجلاً منهم، فلما رأى المسلمون حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيظه على ما فعل بعمه، قالوا: والله لئن ظهرنا عليهم يوماً من الدهر لنمثلن بهم مثلةً لم يمثلها أحد من العرب بأحد قط ! حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثنا محمد بن إسحاق، قال: أخبرني بريدة بن سفيان بن فروة الأسلمي، عن محمد بن كعب القرظي، عن ابن عباس، قال ابن حميد، قال سلمة: وحدثني محمد بن إسحاق، قال: وحدثني الحسن بن عمارة، عن الحكم بن عتيبة، عن مقسم، عن ابن عباس، قال: إن الله عز وجل أنزل في ذلك من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وقول أصحابه: " وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خيرٌ للصابرين " ، إلى آخر السورة، فعفا رسول الله صلى الله عليه وسلم وصبر ونهى عن المثلة.

قال ابن إسحاق: وأقبلت - فيما بلغني - صفية بنت عبد المطلب لتنظر إلى حمزة - وكان أخاها لأبيها وأمها - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لابنها الزبير بن العوام: القها فارجعها، لا ترى ما بأخيها. فلقيها الزبير فقال لها: يا أمه؛ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن ترجعي، فقالت: ولم، وقد بلغني أنه مثل بأخي وذلك في الله قليل ! فما أرضانا بما كان من ذلك ! لاحتسبن ولأصبرن إن شاء الله. فلما جاء الزبير رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك، قال: خل سبيلها، فأتته فنظرت إليه وصلت عليه؛ واسترجعت واستغفرت له، ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم به فدفن.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: فحدثني محمد بن إسحاق، قال: فزعم بعض آل عبد الله بن جحش - وكان لأميمة بنت عبد المطلب خاله حمزة؛ وكان قد مثل به كما مثل بحمزة؛ إلا أنه لم يبقر عن كبده - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دفنه مع حمزة في قبره، ولم أسمع ذلك إلا عن أهله.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: حدثني عاصم بن قتادة، عن محمود بن لبيد، قال: لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أحد وقع حسيل بن جابر - وهو اليمان أبو حذيفة بن اليمان - وثابت بن وقش بن زعوراء في الآطام مع النساء والصبيان، فقال أحدهما لصاحبه؛ وهما شيخان كبيران: لا أبا لك ! ما تنتظر ؟ فوالله إن بقي لواحد منا من عمره إلا ظمء حمار ؛إنما نحن هامة اليوم أو غد؛ أفلا نأخذ أسيافنا، ثم نلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم ، لعل الله عز وجل يرزقنا شهادة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ! فأخذا أسيافهما، ثم خرجا حتى دخلا في الناس، ولم يعلم بهما؛ فأما ثابت بن وقش فقتله المشركون، وأما حسيل بن جابر، اليمان، فاختلف عليه أسياف المسليمن فقتلوه؛ ولا يعرفونه. فقال حذيفة: أبي ! قالوا: والله إن عرفناه.
وصدقوا، قال حذيفة: يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين ! فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يديه فتصدق حذيفة بديته على المسليمن، فزادته عند رسول الله صلى الله عليه وسلم خيراً.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: قال محمد بن إسحاق: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة، أن رجلاً منهم كان يدعى حاطب بن أمية بن رافع، وكان له ابن يقال له يزيد بن حاطب، أصابته جراحة يوم أحد، فأتى به إلى دار قومه وهو يموت؛ فاجتمع إليه أهل الدار، فجعل المسلمون يقولن من الرجال والنساء: أبشر يا بن حاطب بالجنة، قال: وكان حاطب شيخاً قد عسا في الجاهلية، فنجم يومئذ نفاقه، فقال: بأي شيء، تبشرونه، أبجنة من حرمل ! غررتم والله هذا الغلام من نفسه، وفجعتموني به ! حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة، قال: كان فينا رجلٌ أتى لا يدرى من أين هو، يقال له قزمان، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا ذكر له: إنه لمن أهل النار؛ فلما كان يوم أحد، قاتل قتالاً شديداً، فقتل هو وحده ثمانيةً من المشركين أو تسعة، وكان شهماً شجاعاً ذا بأس، فأثبتته الجراحة، فاحتمل إلى دار بني ظفر، قال: فجعل رجالٌ من المسلمين يقولن: والله لقد أبليت اليوم يا قزمان، فأبشر ! قال: بم أبشر ! والله إن قاتلت إلا على أحساب قومي؛ ولولا ذلك ما قاتلت؛ فلما اشتدت عليه جراحته، أخذ سهماً من كنانته فقطع رواهشه فنزفه الدم فمات؛ فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال: أشهد أنى رسول الله حقاً ! وكان ممن قتل يوم أحد مخيريق اليهودي، وكان أحد بني ثعلبة ابن الفطيون، لما كان ذلك اليوم قال: يا معشر يهود؛ والله لقد علمتم أن نصر محمد عليكم لحقٌ. قالوا: إن اليوم يوم السبت، فقال: لا سبت فأخذ سيفه وعدته. وقال: إن أصبت فمالي لمحمد يصنع فيه ما يشاء. ثم غدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقاتل معه حتى قتل؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما بلغني: مخيريق خير يهود.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: وقد احتمل ناسٌ من المسلمين قتلاهم إلى المدينة، فدفنوهم بها، ثم نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وقال: ادفنوهم حيث صرعوا.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: حدثني أبي إسحاق بن يسار، عن أشياخ من بني سلمة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يومئذ حين أمر بدفن القتلى: انظروا عمرو بين الجموح وعبد الله بن عمرو بن حرام. فإنهما كانا متصافيين في الدنيا، فاجعلوهما في قبر واحد. قال: فلما احتفر معاوية القناة أخرجا وهما يثنيان كأنما دفنا بالأمس.
قال: ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعاً إلى المدينة، فلقيته حمنة بنت جحش - كما ذكر لي - فنعى لها أخوها عبد الله بن جحش، فاسترجعت واستغفرت له؛ ثم نعى لها خالها حمزة بن عبد المطلب، فاسترجعت واستغفرت له، ثم نعى لها زوجها مصعب بن عمير، فصاحت وولولت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :إن زوج المرأة منها لبمكان؛ لما رأى من تثبتها عند أخيها وخالها، وصياحها على زوجها.
قال: ومر رسول الله صلى الله عليه وسلم بدار من دور الأنصار من بني عبد الأشهل وظفر، فسمع البكاء والنوائح على قتلاهم، فذرفت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فبكى ثم قال: لكن حمزة لا بواكي له ! فلما رجع سعد بن معاذ وأسيد بن حضير إلى دار بني عبد الأشهل أمر نساءهم أن يتحزمن ثم يذهبن فيبكين على عم رسول الله صلى الله عليه وسلم .
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: حدثني عبد الواحد بن أبي عون، عن إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص، قال: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بامرأة من بني دينار، وقد أصيب زوجها وأخوها وأبوها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بأحد؛ فلما نعوا لها قالت: فما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالوا: خيراً يا أم فلان؛ هو بحمد الله كما تحبين؛ قالت: أرنيه حتى أنظر إليه، فأشير لها إليه حتى إذا رأته قالت: كل مصيبة بعدك جللٌ ! قال أبو جعفر: فلما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهله ناول سيفه ابنته فاطمة، فقال: اغسلي عن هذا دمه يا بنية، وناولها عليٌ عليه السلام سيفه، وقال: وهذا فاغسلي عنه؛ فوالله لقد صدقني اليوم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لئن كنت صدقت القتال لقد صدق معك سهل بن حنيف، وأبو دجانة سماك بن خرشة. وزعموا أن علي بن أبي طالب حين أعطى فاطمة عليهما السلام سيفه قال:
أقاطم هاك السيف غير ذميم ... فلست برعديدٍ ولا بمليم
لعمري لقد قاتلت في حب أحمدٍ ... وطاعة ربٍ بالعباد رحيم
وسيفي بكفي كالشهاب أهزه ... أجذ به من عاتقٍ وصميم
فما زلت حتى فض ربي جموعهم ... وحتى شفينا نفس كل حليم
وقال أبو دجانة حين أخذ السيف من يد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقاتل به قتالاً شديداً - وكان يقول: رأيت إنساناً يخمش الناس خمشاً شديداً فصمدت له، فلما حملت عليه بالسيف ولولت؛ فإذا امرأة؛ فأكرمت سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أضرب به امرأة - وقال أبو دجانة:
أن الذي عاهدني خليلي ... ونحن بالسفح لدى النخيل
ألا أقوم الدهر في الكيول ... أضرب بسيف الله والرسول
غزوة حمراء الأسدوكان رجوع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة يوم السبت؛ وذلك يوم الوقعة بأحد؛ فحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: حدثني حسين بن عبد الله، عن عكرمة، قال: كان يوم أحد يوم السبت؛ للنصف من شوال؛ فلما كان الغد من يوم أحد - وذلك يوم الأحد لست عشرة ليلة خلت من شوال - أذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس بطلب العدو؛ وأذن مؤذنه: ألا يخرجن معنا أحد إلا من حضر يومنا بالأمس. فكلمه جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام، فقال: يا رسول الله، إن أبي كان خلفني على أخوات لي سبع، وقال لي: يا بني؛ إنه لا ينبغي لي ولا لك أن نترك هؤلاء النسوة لا رجل فيهن، ولست بالذي أوثرك بالجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على نفسي؛ فتخلف على أخواتك. فتخلفت عليهن. فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج معه، وإنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مرهباً للعدو، وليبلغهم أنه خرج في طلبهم؛ ليظنوا به قوة، وأن الذي أصابهم لم يوهنهم عن عدوهم.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: فحدثني عبد الله بن خارجة بن زيد بن ثابت، عن أبي السائب مولى عائشة بنت عثمان، أن رجلاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من بني عبد الأشهل كان شهد أحداً، قال: شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا وأخ لي، فرجعنا جريحين؛ فلما أذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخروج في طلب العدو، قلت لأخي وقال لي: أتفوتنا غزوة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ والله ما لنا من دابة نركبها، وما منا إلا جريح ثقيل؛ فخرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم - وكنت أيسر جرحاً منه - فكنت إذا غلب حملته عقبة ومشى عقبة؛ حتى انتهينا إلى ما انتهى إليه المسلمون، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى انتهى إلى حمراء الأسد؛ وهي من المدينة على ثمانية أميال، فأقام بها ثلاثاً: الاثنين، والثلاثاء ، والأربعاء، ثم رجع إلى المدينة.
وقد مر به - فيما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم - معبدٌ الخزاعي، وكانت خزاعة مسلمهم ومشركهم عيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم بتهامة، صفقتهم معه، لا يخفون عليه شيئاً كان بها - ومعبد يومئذ مشرك - فقال: يا محمد؛ أما والله لقد عز علينا ما أصابك في أصحابك؛ ولوددنا أن الله كان أعفاك فيهم ! ثم خرج من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بحمراء الأسد؛ حتى لقي أبا سفيان بن حرب ومن معه بالروحاء، وقد أجمعوا الرجعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وقالوا: أصبنا حد أصحابه وقادتهم وأشرافهم، ثم رجعنا قبل أن نستأصلهم؛ لنكرن على بقيتهم؛ فلفرغن منهم. فلما رأى أبو سفيان معبداً، قال ما وراءك يا معبد ؟ قال: محمد قد خرج في أصحابه يطلبكم في جمعٍ لم أر مثله قط يتحرمون عليكم تحرماً، قد اجتمع معه من كان تخلف عنه في يومكم، وندموا على ما صنعوا، فيهم من الحنق عليكم شيء لم أر مثله قط. قال: ويلك ما تقول ! قال: والله ما أراك ترتحل حتى ترى نواصي الخيل. قال: فوالله لقد أجمعنا الكرة عليهم لنستأصل بقيتهم، قال: فإني أنهاك عن ذلك، فوالله لقد حملني ما رأيت على أن قلت فيه أبياتاً من شعر، قال: وماذا قلت ؟ قال: قلت:
كادت تهد من الأصوات راحلتي ... إذ سالت الأرض بالجرد الأبابيل
تردى بأسدٍ كرام لا تنابلةٍ ... عند اللقاء ولا خرقٍ معازيل
فظلت عدواً أظن الأرض مائلةً ... لما سموا برئيس غير مخذول
فقلت ويل ابن حربٍ من لقائكم ... إذا تغطمطت البطحاء بالجيل !
إني نذيرٌ لأهل البسل ضاحيةً ... لكل ذي إربةٍ منهم ومعقول
من جيش أحمد لا وخشٍ قنابله ... وليس يوصف ما أنذرت بالقيل
قال: فثنى ذلك أبا سفيان ومن معه. ومر به ركبٌ من عبد القيس، فقال: أين تريدون ؟ قالوا: نريد المدينة، قال: ولم ؟ قالوا: نريد الميرة، قال: فهل أنتم مبلغون عني محمداً رسالة أرسلكم بها إليه، وأحمل لكم إبلكم هذه غداً زبيباً بعكاظ إذا وافيتموها ؟ قالوا: نعم، قال: فإذا جئتموه فأخبروه أنا قد أجمعنا المسير إليه وإلى أصحابه، لنستأصل بقيتهم. فمر الركب برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بحمراء الأسد، فأخبروه بالذي قال أبو سفيان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه: حسبنا الله ونعم الوكيل ! قال أبو جعفر: ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بعد الثالثة؛ فزعم بعض أهل الأخبار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ظفر في وجهه إلى حمراء الأسد بمعاوية بن المغيرة بن أبي العاص، وأبي عزة الجمحي؛ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم خلف على المدينة حين خرج إلى حمراء الأسد ابن أم مكتوم.
وفي هذه السنة - أعني سنة ثلاث من الهجرة - ولد الحسن بن علي بن أبي طالب في النصف من شهر رمضان.
وفيها علقت فاطمة بالحسين صلوات الله عليهما. وقيل: لم يكن بين ولادتها الحسن وحملها بالحسين إلا خمسون ليلة.
وفيها حملت - فيما قيل - جميلة بنت عبد الله بن أبي بعبد الله بن حنظلة بن أبي عامر في شوال.
ذكر الأحداث التي كانت في سنة أربع من الهجرة
غزوة الرجيع

ثم دخلت السنة الرابعة من الهجرة، فكان فيها غزوة الرجيع في صفر. وكان من أمرها ما حدثني به ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة؛ قال: قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أحد رهط من عضل والقارة فقالوا له: يا رسول الله؛ إن فينا إسلاماً وخيراً؛ فابعث معنا نفراً من أصحابك يفقهوننا في الدين، ويقرءوننا القرآن، ويعلموننا شرائع الإسلام.
فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم نفراً ستة من أصحابه: مرثد بن أبي مرثد الغنوي حليف حمزة بن عبد المطلب، وخالد بن البكير حليف بني عدي بن كعب، وعاصم بن ثابت بن أبي الأقلح أخا بني عمرو بن عوف، وخبيب بن عدي أخا بني جحجبي بن كلفة بن عمرو بن عوف، وزيد بن الدثنة أخا بني بياضة بن عامر، وعبد الله بن طارق حليفاً لبنى ظفر من بلى.
وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم على القوم مرثد بن أبي مرثد، فخرجوا مع القوم، حتى إذا كانوا على الرجبع ماء لهذيل بناحية من الحجاز من صدور الهدأة غدروا بهم، فاستصرخوا عليهم هذيلاً، فلم يرع القوم وهم في رحالهم إلا بالرجال في أيديهم السيوف، قد غشوهم.
فأخذوا أسيافهم ليقاتلوا القوم، فقالوا لهم: إنا والله ما نريد قتلكم؛ ولكنا نريد أن نصيب بكم شيئاً من أهل مكة، ولكم عهد الله وميثاقه ألا نقتلكم. فأما مرثد وخالد بن البكير وعاصم بن ثلبت بن أبي الأقلح، فقالوا: والله لا نقبل من مشرك عهداً ولا عقداً أبداً؛ فقاتلوهم حتى قتلوهم جميعاً.
وأما زيد بن الدثنة وخبيب بن عدي وعبد الله بن طارق فلانوا ورقوا ورغبوا في الحياة، فأعطوا بأيديهم، فأسروهم، ثم خرجوا بهم إلى مكة ليبيعوهم بها حتى إذا كانوا بالظهران، انتزع عبد الله بن طارق يده من القران، ثم أخذ سيفه واستأخر عنه القوم، فرموه بالحجارة حتى قتلوه، فقبره بالظهران.
وأما خبيب بن عدي وزيد بن الدثنة، فقدموا بهما مكة، فباعوهما فابتاع خبيبا حجير بن أبي إهاب التميمي حليف بني نوفل لعقبة بن الحارث بن عامر بن نوفل - وكان حجير أخا الحارث بن عامر لأمه - ليقتله بأبيه، وأما زيد بن الدثنة؛ فابتاعه صفوان بن أمية ليقتله بأبيه أمية بن خلف، وقد كانت هذيل حين قتل عاصم بن ثابت قد أرادوا رأسه ليبيعوه من سلافة بنت سعد بن شهيد، وكانت قد نذرت حين أصاب ابنها يوم أحد: لئن قدرت على رأس عاصم لتشربن في قحفة الخمر، فمنعته الدبر. فلما حالت بينهم وبينه، قالوا: دعوه حتى يمسي فتذهب عنه، فنأخذه، فبعث الله الوادي. فاحتمل عاصماً فذهب به، وكان عاصم قد أعطى الله عهداً ألا يمسه مشركٌ ولا يمس مشركاً أبداً، تنجساً منه.
فكان عمر بن الخطاب يقول حين بلغه، أن الدبر منعته: عجبا، لحفظ الله العبد المؤمن ! كان عاصم نذر ألا يمسه مشرك، ولا يمس مشركاً أبداً في حياته، فمنعه الله بعد وفاته كما امتنع منه في حياته.

قال أبو جعفر: وأما غير ابن إسحاق، فإنه قص من خبر هذه السرية غير الذي قصه، والذي قصه غيره من ذلك ما حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا جعفر بن عون العمري، قال: حدثنا إبراهيم بن إسماعيل، عن عمرو - أو عمر - بن أسيد، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث عشرة رهط، وأمر عليهم عاصم بن ثابت، فخرجوا حتى إذا كانوا بالهدأة ذكروا لحي من هذيل، يقال لهم: بنو لحيان، فبعثوا إليهم مائة رجل رامياً؛ فوجدوا مأكلهم حيث أكلوا التمر، فقالوا: هذه نوى يثرب، ثم اتبعوا آثارهم؛ حتى إذا أحس بهم عاصمٌ وأصحابه التجئوا إلى جبل، فأحاط بهم ألآخرون، فاستنزلوهم، وأعطوهم العهد، فقال عاصم: والله لا أنزل على عهد كافر، اللهم أخبر نبيك عنا. ونزل إليهم ابن الدثنة البياضي، وخبيب، ورجل آخر، فأطلق القوم أوتار قسيهم، ثم أوثقوهم، فخرجوا رجلاً من الثلاثة، فقال: هذا والله أول الغدر؛ والله لا أتبعكم. فضربوه فقتلوه، وانطلقوا بخبيب وابن الدثنة إلى مكة، فدفعوا خبيباً إلى بني الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف، وكان خبيب هو الذي قتل الحارث بأحد؛ فبينما خبيب عند بنات الحارث؛ إذ استعار من إحدى بنات الحارث موسى يستحد بها للقتل، فما راع المرأة - ولها صبي يدرج - إلا بخبيب قد أجلس الصبي على فخذه، والموسى في يده؛ فصاحت المرأة؛ فقال خبيب: أتخشين أني أقتله ! إن الغدر ليس من شأننا. قال: فقالت المرأة بعد: ما رأيت أسيراً قط خيراً من خبيب؛ لقد رأيته وما بمكة من ثمرة؛ وإن في يده لقطفاً من عنب يأكله؛ إن كان إلا رزقاً رزقه الله خبيباً .
وبعث حي من قريش إلى عاصم ليؤتوا من لحمه بشيء، وقد كان لعاصم فيهم آثار بأحد؛ فبعث الله عليه دبراً، فحمت لحمه، فلم يستطيعوا أن يأخذوا من لحمه شيئاً، فلما خرجوا بخبيب من الحرم ليقتلوه، قال: ذروني أصل ركعتين، فتركوه فصلى سجدتين: فجرت سنة لمن قتل صبراً أن يصلي ركعتين. ثم قال خبيب: لولا أن يقولوا جزع لزدت، وما أبالي:
على أي شقٍ كان لله مصرعي
ثم قال:
وذلك في ذات الإله وإن يشأ ... يبارك على أوصال شلو ممزع
اللهم أحصهم عدداً، وخذهم بدداً.
ثم خرج به أبو سروعة بن الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف؛ فضربه فقتله.
حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا جعفر بن عون، عن إبراهيم بن إسماعيل ،قال: وأخبرني جعفر بن عمرو بن أمية، عن أبيه، عن جده، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه وحده عيناً إلى قريش، قال: فجئت إلى خشبة خبيبٍ وأنا أتخوف العيون فرقيت فيها، فحللت خبيباً، فوقع إلى الأرض، فانتبذت غير بعيد، ثم التفت فلم أر لخبيب رمة؛ فكأنما الأرض ابتلعته؛ فلم تذكر لخبيب رمة حتى الساعة.
قال أبو جعفر: وأما زيد بن الدثنة، فإن صفوان بن أمية بعث به - فيما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق - مع مولى له يقال له نسطاس إلى التنعيم، وأخرجه من الحرم ليقتله، واجتمع واجتمع إليه رهط من قريش، فيهم أبو سفيان بن حرب، فقال له أبو سفيان حين قدم ليقتل: أنشدك الله يا زيد، أتحب أن محمداً عندنا الآن مكانك نضرب عنقه، وأنك في أهلك ! قال: والله ما أحب أن محمداً الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه وأنا جالس في أهلي. قال: يقول أبو سفيان: ما رأيت في الناس أحداً يحب أحداً كحب أصحاب محمد محمداً. ثم قتله نسطاس.
ذكر الخبر عن عمرو بن أمية الضمري
إذ وجهه رسول الله صلى الله عليه وسلم لقتل أبي سفيان بن حرب

ولما قتل من وجهه النبي صلى الله عليه وسلم إلى عضل والقارة من أهل الرجيع، وبلغ خبرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث عمرو بن أمية الضمري إلى مكة مع رجل من الأنصار، وأمرهما بقتل أبي سفيان بن حرب، فحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة بن الفضل، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن جعفر بن الفضل بن الحسن بن عمرو بن أمية الضمري عن أبيه، عن جده - يعني عمرو بن أمية - قال: قال عمرو بن أمية: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد قتل خبيب وأصحابه، وبعث معي رجلاً من الأنصار، فقال: ائتيا أبا سفيان بن حرب فاقتلاه، قال: فخرجت أنا وصاحبي ومعي بعير لي، وليس مع صاحبي بعير، وبرجله علة. فكنت أحمله على بعيري، حتى جئنا بطن يأجج، فعقلنا بعيرنا في فناء شعب، فأسندنا فيه، فقلت لصاحبي: انطلق بنا إلى دار أبي سفيان، فإني محاول قتله. فانظر، فإن كانت مجاولة أو خشيت شيئاً فالحق ببعيرك فاركبه، والحق بالمدينة فأت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره الخبر، وخل عني، فإني رجل عالم بالبلد جرئ عليه، نجيب الساق. فلما دخلنا مكة ومعي مثل خافية النسر - يعني خنجره - قد أعددته، إن عانقني إنسان قتلته به، فقال لي صاحبي: هل لك أن نبدأ فنطوف بالبيت أسبوعاً، ونصلي ركعتين ؟ فقلت: أنا أعلم بأهل مكة منك، إنهم إذا أظلموا رشوا أفنيتهم، ثم جلسوا بها، وأنا أعرف بها من الفرس الأبلق.
قال: فلم يزل بي حتى أتينا البيت، فطفنا به أسبوعاً، وصلينا ركعتين، ثم خرجنا فمررنا بمجلس من مجالسهم فعرفني رجل منهم، فصرخ بأعلى صوته. هذا عمرو بن أمية ! قال: فتبادرتنا أهل مكة وقالوا: تالله ما جاء بعمرو خير ! والذي يحلف به ما جاءها قط إلا لشر - وكان عمرو رجلاً فاتكاً متشيطناً في الجاهلية - قال: فقاموا في طلبي وطلب صاحبي فقلت له: النجاء! هذا والله الذي كنت أحذر، أما الرجل فليس إليه سبيل، فانج بنفسك، فخرجنا نشتد حتى أصعدنا في الجبل، فدخلنا في غار، فبتنا فيه ليلتنا، وأعجزناهم، فرجعوا وقد استترت دونهم بأحجار حين دخلت الغار، وقلت لصاحبي: أمهلني حتى يسكن الطلب عنا، فإنهم والله ليطلبنا ليلتهم هذه ويومهم هذا حتى يمسوا. قال: فوالله إني لفيه إذ أقبل عثمان بن مالك بن عبيد الله التيمي يتخيل بفرس له، فلم يزل يدنو ويتخيل بفرسه حتى قام علينا بباب الغار. قال: فقلت لصاحبي: هذا والله ابن مالك، والله لئن رآنا ليعلمن بنا أهل مكة. قال: فخرجت إليه فوجأته بالخنجر تحت الثدي، فصاح صيحة أسمع أهل مكة، فأقبلوا إليه، ورجعت إلى مكاني، فدخلت فيه، وقلت لصاحبي: مكانك! واتبع أهل مكة الصوت يشتدون، فوجدوه به رمق، فقالوا: ويلك من ضربك ! قال عمرو بن أمية: ثم مات وما أدركوا ما يستطيع أن يخبرهم بمكاننا، فقالوا: والله لقد علمنا أنه لم يأت لخير، وشغلهم صاحبهم عن طلبنا فاحتملوه، ومكثنا في الغار يومين حتى سكن عنا الطلب. ثم خرجنا إلى التنعيم، فإذا خشبة خبيب، فقال لي صاحبي: هل لك في خبيب تنزله عن خشبته ؟ فقلت أين هو؟ قال: هو ذاك حيث ترى. فقلت: نعم، فأمهلني وتنح عني. قال: وحوله حرس يحرسونه، قال عمرو بن أمية: فقلت للأنصاري: إن خشيت شيئاً فخذ الطريق إلى جملك فاركبه والحق برسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره الخبر، فأشتددت إلى خشبته فاحتللته واحتملته على ظهري فوالله ما مشيت إلا نحو أربعين ذراعاً حتى نذروا بي، فطرحته فما أنسى وجبته حين سقط فاشتدوا في أثري، فأخذت طريق الصفراء فأعيوا فرجعوا، وانطلق صاحبي إلى بعيره فركبه ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره أمرنا وأقبلت أمشي حتى إذا أشرفت على الغليل، غليل ضجنان، دخلت غاراً فيه، ومعي قوسي وأسهمي، فبينا أنا فيه إذ دخل علي رجل من بني الديل بن بكر، أعور طويل يسوق غنماً له، فقال: من الرجل ؟ فقلت: رجل من بني بكر، قال: وأنا من بني بكر، ثم أحد بني الديل. ثم اضطجع معي فيه، فرفع عقيرته يتغنى ويقول:
ولست بمسلمٍ ما دمت حياً ... ولست أدين دين المسلمينا
فقلت: سوف تعلم ! فلم يلبث الأعرابي أن نام وغط، فقمت إليه فقتلته أسوأ قتلة قتلها أحدٌ أحداً؛ قمت إليه فجعلت سية قوسي في عينه الصحيحة، ثم تحاملت عليها حتى أخرجتها من قفاه.

قال: ثم أخرج مثل السبع، وأخذت المحجة كأني نسر، وكان النجاء حتى أخرج على بلد قد وصفه، ثم على ركوبة، ثم على النقيع، فإذا رجلان من أهل مكة بعثتهما قريش يتحسسان من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعرفتهما فقلت: استأسر، فقالا: أنحن نستأسر لك ! فأرمي أحدهما بسهم فأقتله، ثم قلت للآخر: استأسر، فاستأسر، فأوثقته، فقدمت به على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن سليمان بن وردان، عن أبيه، عن عمرو بن أمية، قال: لما قدمت المدينة، مررت بمشيخةٍ من الأنصار، فقالوا: هذا والله عمرو بن أمية، فسمع الصبيان قولهم، فاشتدوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبرونه، وقد شددت إبهام أسيري بوتر قوسي، فنظر النبي صلى الله عليه وسلم إليه فضحك حتى بدت نواجذه، ثم سألني فأخبرته الخبر، فقال لي خيراً ودعا لي بخير.
وفي هذه السنة تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بنت خزيمة أم المساكين من بني هلال في شهر رمضان، ودخل بها فيه، وكان أصدقها اثنتي عشرة أوقية ونشاً، وكانت قبله عند الطفيل بن الحارث، فطلقها.
ذكر خبر بئر معونةقال أبو جعفر: وفي هذه السنة - أعني سنة أربع من الهجرة - كان من أمر السرية التي وجهها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقتلت ببئر معونة. وكان سبب توجيه النبي صلى الله عليه وسلم إياهم لما وجههم له، ما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: وحدثني محمد بن إسحاق، قال: فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة بقية شوال وذا القعدة وذا الحجة والمحرم، وولى تلك الحجة المشركون.
ثم بعث أصحاب بئر معونة في صفر على رأس أربعة أشهر من أحد، وكان من حديثهم ما حدثني أبي: إسحاق بن يسار، عن المغيرة بن عبد الرحمن ابن الحارث بن هشام، وعبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، وغيرهما من أهل العلم، قالوا: قدم أبو براء عامر بن مالك بن جعفر ملاعب الأسنة - وكان سيد بني عامر بن صعصعة - على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة؛ وأهدى إليه هدية، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقبلها، وقال: يا أبا براء، لا أقبل هدية مشرك، فأسلم إن أردت أن أقبل هديتك. ثم عرض عليه الإسلام، وأخبره بما له فيه، وما وعد الله المؤمنين من الثواب، وقرأ عليه القرآن فلم يسلم ولم يبعد، وقال: يا محمد، إن أمرك هذا الذي تدعو إليه حسنٌ جميل، فلو بعثت رجالاً من أصحابك إلى أهل نجد فدعوهم إلى أمرك رجوت أن يستجيبوا لك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني أخشى عليهم أهل نجد ! فقال أبو براء: أنا لهم جارٌ، فابعثهم فليدعوا الناس إلى أمرك. فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم المنذر بن عمرو أخا بني ساعدة المعنق ليموت في أربعين رجلاً من أصحابه من خيار المسلمين، منهم الحارث بن الصمة، وحرام بن ملحان أخو بني عدي بن النجار، وعروة بن أسماء بن الصلت السلمي، ونافع ابن بديل بن ورقاء الخزاعي، وعامر بن فهيرة مولى أبي بكر، في رجال مسمين من خيار المسلمين.
فحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن حميد الطويل، عن أنس بن مالك، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم المنذر بن عمرو في سبعين راكباً، فساروا حتى نزلوا بئر معونة - وهي أرض بين أرض بني عامر وحرة بني سليم، كلا البلدين منها قريب، وهي إلى حرة بني سليم أقرب - فلما نزلوها بعثوا حرام بن ملحان بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عامر بن الطفيل، فلما أتاه لم ينظر في كتابه، حتى عدا على رجل فقتله، ثم استصرخ عليهم بني عامر، فأبوا أن يجيبوه إلى ما دعاهم إليه، فقالوا: لن نخفر أبا براء، قد عقد لهم عقداً وجواراً، فاستصرخ عليهم قبائل من بني سليم: عصية، ورعلاً، وذكوان، فأجابوه إلى ذلك، فخرجوا حتى غشوا القوم، فأحاطوا بهم في رحالهم، فلما رأوهم أخذوا السيوف، ثم قاتلوهم حتى قتلوا عن آخرهم، إلا كعب بن زيد أخا بني دينار بن النجار، فإنهم تركوه وبه رمقٌ، فارتث من بين القتلى، فعاش حتى قتل يوم الخندق.

وكان في سرح القوم عمرو بن أمية الضمري، ورجل من الأنصار أحد بني عمرو بن عوف؛ فلم ينبئهما بمصاب أصحابهما إلا الطير تحوم على العسكر، فقالا: والله إن لهذه الطير لشأناً، فأقبلا لينظرا إليه، فإذا القوم في دمائهم، وإذا الخيل التي أصابتهم واقفة. فقال الأنصاري لعمرو بن أمية: ماذا ترى ؟ قال: أرى أن نلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم فنخبره الخبر، فقال الأنصاري: لكني ما كنت لأرغب بنفسي عن موطن قتل فيه المنذر بن عمرو، وما كنت لتخبرني عنه الرجال. ثم قاتل القوم حتى قتل، وأخذوا عمرو بن أمية أسيراً، فلما أخبرهم أنه من مضر، أطلقه عامر بن الطفيل، وجز ناصيته، وأعتقه عن رقبة زعم أنها كانت على أمه.
فخرج عمرو بن أمية حتى إذا كان بالقرقرة من صدر قناة، أقبل رجلان من بني عامر حتى نزلا معه في ظل هو فيه، وكان مع العامريين عقدٌ من رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوارٌ لم يعلم به عمرو بن أمية، وقد سألهما حين نزلا: ممن أنتما ؟ فقالا: من بني عامر، فأمهلهما حتى إذا ناما عدا عليهما فقتلهما، وهو يرى أنه قد أصاب بهما ثؤرة من بني عامر، بما أصابوا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما قدم عمرو بن أمية على رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبره الخبر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لقد قتلت قتيلين لأدينهما. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا عمل أبي براء، قد كنت لهذا كارهاً متخوفاً. فبلغ ذلك أبا براء فشق عليه إخفار عامر إياه، وما أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بسببه وجواره. وكان فيمن أصيب عامر بن فهيرة.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن هشام بن عروة، عن أبيه، أن عامر بن الطفيل، كان يقول: إن الرجل منهم لما قتل رأيته رفع بين السماء والأرض حتى رأيت السماء من دونه. قالوا: هو عامر بن فهيرة.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن أحد بني جعفر، رجل من بني جبار بن سلمى بن مالك ابن جعفر، قال: كان جبار فيمن حضرها يومئذ مع عامر، ثم أسلم بعد ذلك.
قال: فكان يقول: مما دعاني إلى الإسلام أني طعنت رجلاً منهم يومئذ بالرمح بين كتفيه، فنظرت إلى سنان الرمح حين خرج من صدره، فسمعته يقول حين طعنته: فزت والله ! قال:فقلت في نفسي: ما فاز! أليس قد قتلت الرجل ! حتى سألت بعد ذلك عن قوله، فقالوا: الشهادة، قال: فقلت: فاز لعمر الله ! فقال حسان بن ثابت يحرض بني أبي البراء على عامر بن الطفيل:
بني أم البنين ألم يرعكم ... وأنتم من ذوائب أهل نجد
تهكم عامرٍ بأبي براء ... ليخفره، وما خطأ كعمد
ألا أبلغ ربيعة ذا المساعي ... فما أحدثت في الحدثان بعدي
أبوك أبو الحروب أبو براءٍ ... وخالك ماجدٌ حكم بن سعد
وقال كعب بن مالك في ذلك أيضاً:
لقد طارت شعاعاً كل وجهٍ ... خفارة ما أجارأبو براء
فمثل مسهبٍ وبني أبيه ... بجنب الرده من كنفي سواء
بني أم البنين أما سمعتم ... دعاء المستغيث مع المساء !
وتنويه الصريخ بلى ولكن ... عرفتم أنه صدق اللقاء
فما صفرت عياب بني كلابٍ ... ولا القرطاء من ذم الوفاء
أعامر عامر السوءات قدماً ... فلا بالعقل فزت ولا السناء
أأخفرت النبي وكنت قدماً ... إلى السوءات تجري بالعراء !
فلست كجار جار أبي داودٍ ... ولا الأسدي جار أبي العلاء
ولكن عاركم داءٌ قديمٌ ... وداء الغدر فأعلم شر داء
فلما بلغ ربيعة بن عامر أبي البراء قول حسان وقول كعب، حمل على عامر بن الطفيل فطعنه، فشطب الرمح عن مقتله، فخر عن فرسه. فقال: هذا عمل أبي براء ! إن مت فدمي لعمي ولا يتبعن به؛ وإن أعش فسأرى رأيي فيما أتى إلي.

حدثني محمد بن مرزوق، قال: حدثنا عمرو بن يونس، عن عكرمة، قال: حدثنا إسحاق بن أبي طلحة، قال: حدثني أنس بن مالك في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين أرسلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل بئر معونة، قال: لا أدري، أربعين أو سبعين ! وعلى ذلك الماء عامر بن الطفيل الجعفري ، فخرج أولئك النفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين بعثوا، حتى أتوا غاراً مشرفاً على الماء قعدوا فيه. ثم قال بعضهم لبعض: أيكم يبلغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل هذا الماء ؟ فقال - أراه ابن ملحان الأنصاري - : أنا أبلغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فخرج حتى أتى حواءً منهم، فاحتبى أما البيوت، ثم قال: يا أهل بئر معونة، إني رسول رسول الله إليكم، إني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، فآمنوا بالله ورسوله.
فخرج إليه من كسر البيت برمح فضرب به في جنبه حتى خرج من الشق الآخر، فقال: الله أكبر، فزت ورب الكعبة ! فاتبعوا أثره حتى أتوا أصحابه في الغار، فقتلهم أجميعين عامر بن الطفيل.
قال إسحاق: حدثني أنس بن مالك أن الله عز وجل أنزل فيهم قرآناً: " بلغوا عنا قومنا أنا لقينا ربنا، فرضى عنا، ورضينا عنه " ، ثم نسخت، فرفعت بعد ما قرأناه زماناً، وأنزل الله عز وجل: " ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياءٌ عند ربهم يرزقون، فرحين " حدثني العباس بن الوليد، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا الأوزاعي، قال: حدثني إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة الأنصاري عن أنس بن مالك، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عامر بن الطفيل الكلابي سبعين رجلاً من الأنصار.
قال: فقال أميرهم: مكانكم حتى آتيكم بخبر القوم ! فلما جاءهم قال: أتؤمنونني حتى أخبركم برسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالوا: نعم، فبينا هو عندهم؛ إذا وخزه رجلٌ منهم بالسنان. قال: فقال الرجل: فزت ورب الكعبة ! فقتل، فقال: عامر: لااحسبه إلا أن له أصحابً، فاقتصوا أثره حتى أتوهم فقتلوهم، فلم يفلت منهم إلا رجلٌ واحدٌ.
قال أنس: فكنا نقرأ فيما نسخ: " بلغوا عنا إخواننا أن قد لقينا ربنا، فرضى عنا ورضينا عنه " .
وفي هذه السنة - أعني السنة الرابعة من الهجرة - أجلى النبي صلى الله عليه وسلم بني النضير من ديارهم.
ذكر خبر جلاء بني النضيرقال أبو جعفر: وكان سبب ذلك ما قد ذكرنا قبل من قتل عمرو بن أمية الضمري الرجلين الذين قتلهما في منصرفه من الوجه الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وجهه إليه مع أصحابه بئر معونة، وكان لهما من رسول الله صلى الله عليه وسلم جوارٌ وعهدٌ.
وقيل إن عامر بن الطفيل كتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنك قتلت رجلين لهما منك جوارٌ وعهدٌ؛ فابعث بديتهما. فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قباء، ثم مال إلى بني النضير مستعيناً بهم في ديتهما، ومعه نفر من المهاجرين والأنصار، فيهم أبو بكر وعمر وعلي وأسيد بن حضير.

فحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني النضير، يستعينهم في دية ذينك القتيلين من بني عامر اللذين قتل عمرو بن أمية الضمري، للجوار الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عقده لهما؛ - كما حدثني يزيد بن رومان - وكان بين بني النضير وبين بني عامر حلف وعقد؛ فلما أتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعينهم في دية ذنيك القتيلين؛ قالوا: نعم أبا القاسم، نعنيك على ما أحببت مما استعنت بنا عليه. ثم خلا بعضهم ببعض، فقالوا: إنكم لن تجدوا هذا الرجل على مثل حاله هذه - ورسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنب جدار من بيوتهم، قاعد - فقالوا: من رجل يعلو على هذا البيت، فيلقى عليه صخرة فيقتله بها فيريحنا منه ؟ فانتدب لذلك عمرو بن جحاش بن كعب أحدهم؛ فقال: أنا لذلك، فصعد ليلقي عليه الصخرة - كما قال - ورسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه؛ فيهم أبو بكر وعمر وعلي؛ فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر من السماء بما أراد القوم، فقام وقال لأصحابه: لا تبرحوا حتى آتيكم،
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://arabelalekat.yoo7.com
الشيخ عودة
الشيخ عودة
الشيخ عودة



عدد المساهمات : 1748
تاريخ التسجيل : 28/09/2008
العمر : 73

كتاب : تاريخ الرسل والملوك المؤلف : الطبري - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: كتاب : تاريخ الرسل والملوك المؤلف : الطبري   كتاب : تاريخ الرسل والملوك المؤلف : الطبري - صفحة 2 Emptyالسبت ديسمبر 14, 2013 10:31 am

ثم ضربها رسول الله صلى الله عليه وسلم الثالثة فكسرها، وبرق منها برقة أضاء ما بين لابتيها، حتى لكأن مصباحاً في جوف بيت مظلم، فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم تكبير فتح وكبر المسلمون، ثم أخذ بيد سلمان فرقى، فقال سلمان: بأبي أنت وأمي يا رسول الله! لقد رأيت شيئاً ما رأيته قط ! فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى القوم، فقال: هل رأيتم ما يقول سلمان ؟ قالوا: نعم يا رسول الله، بأبينا أنت وأمنا قد رأيناك تضرب فيخرج برق كالموج، فرأيناك تكبر فنكبر، ولا نرى شيئاً غير ذلك.
قال: صدقتم، ضربت ضربتي الأولى، فبرق الذي رأيتم، أضاءت لي منها قصور الحيرة ومدائن كسرى، كأنها أنياب الكلاب، فأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها، ثم ضربت ضربتي الثانية، فبرق الذي رأيتم، أضاءت لي منها قصور الحمر من أرض الروم، كأنها أنياب الكلاب، فأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها، ثم ضربت ضربتي الثالثة، فبرق منها الذي رأيتم، أضاءت لي منها قصور صنعاء كأنها أنياب كلاب، فأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها، فأبشروا بلغهم النصر، وأبشروا يبلغهم النصر، وأبشروا يبلغهم النصر فاستبشر المسلمون، وقالوا: الحمد لله موعد صادق بار، وعدنا النصر بعد الحصر، فطلعت الأحزاب، فقال المؤمنون: " هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيماناً وتسليماً " وقال المنافقون: ألا تعجبون ! يحدثكم ويمنيكم ويعدكم الباطل ! يخبركم أنه يبصر من يثرب قصور الحيرة ومدائن كسرى، وأنها تفتح لكم؛ وأنتم تحفرون الخندق ولا تستطيعون أن تبرزوا ! وأنزل القرآن: " وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرضٌ ما وعدنا الله ورسوله إلا غروراً " .
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثنا محمد بن إسحاق عمن لا يتهم ، عن أبي هريرة، أنه كان يقول حين فتحت هذه الأمصار في زمن عمر وعثمان وما بعده: افتتحوا ما بدالكم ! فوالذي نفس أبي هريرة بيده؛ ما افتتحتم من مدينة ولا تفتتحونها إلى يوم القيامة إلا وقد أعطى محمد مفاتيحها قبل ذلك.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: كان أهل الخندق ثلاثة آلاف. قال: ولما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخندق، أقبلت قريش حتى نزلت بمجتمع الأسيال من رومة بين الجرف والغابة، في عشرة آلاف من أحابيشهم، ومن تابعهم من كنانة وأهل تهامة، وأقبلت غطفان ومن تابعهم من أهل نجدٍ؛ حختى نزلوا بذنب نقمي إلى جانب أحد.
وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون، حتى جعلوا ظهورهم إلى سلع، في ثلاثة آلاف من المسلمين، فضرب هنالك عسكره، وأمر بالذراري والنساء. فرفعوا في الآطام. وخرج عدو الله حيى بن أخطب؛ حتى أتى كعب بن أسد القرظي صاحب عقد بني قريظة وعهدهم؛ وكان قد وادع رسول الله صلى الله عليه وسلم على قومه، وعاهده على ذلك وعاقده؛ فلما سمع كعب بحيى بن أخطب، أغلق دونه حصنه فاستأذن عليه فأبى أن يفتح له، فناداه حييٌ: يا كعب، افتح لي، قال: ويحك يا حيي ! أنك امرؤٌ مشئوم، إني قد عاهدت محمداً ! فلست بناقض ما بيني وبينه، ولم أر منه إلا وفاءً وصدقا. قال: ويحك ! افتح لي أكلمك، قال: ما أنا بفاعل؛ قال: والله إن أغلقت دوني إلا على جشيشتك أن آكل معك منها؛ فأحفظ الرجل، ففتح له، فقال: ويحك يا كعب ! جئتك بعز الدهر وببحرٍ طامٍ، جئتك بقريش على قادتها وسادتها؛ حتى أنزلتهم بمجتمع الأسيال من رومة؛ وبغطفان على قادتها وسادتها حتى أنزلتهم بذنب نقمي إلى جانب أحد؛ قد عاهدوني وعاقدوني ألا يبرحوا حتى يستأصلوا محمداً ومن معه. فقال كعب بن أسد: جئتني والله بذل الدهر ! بجهام قد هراق ماءه يرعد ويبرق، ليس فيه شيء ! ويحك فدعني ومحمداً وما أنا عليه؛ فلم أر من محمد إلا صدقاً ووفاءً ! فلم يزل حيي بكعب يفتله في الذروة والغارب؛ حتى سمح له، على أن أعطاه عهداً من الله وميثاقا: لئن رجعت قريش وغطفان ولم يصيبوا محمداً أن ادخل معك في حصنك حتى يصيبني ما أصابك. فنقض كعب بن أسد عهده، وبرئ مما كان عليه فيما بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم .

فلما انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر وإلى المسلمين، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ بن النعمان بن امرئ القيس أحد بني عبد الأشهل - وهو يومئذ سيد الأوس - وسعد بن عبادة بن دليم، أحد بني ساعدة بن كعب بن الخزرج - وهو يومئذ سيد الخزرج - ومعهما عبد الله بن رواحة أخو بالحارث بن الخزرج، وخوات بن جبير، أخو بني عمرو بن عوف؛ فقال: انطلقوا حتى تنظروا: أحق ما بلغنا عن هؤلاء القوم أم لا ؟ فإن كان حقاً فالحنوا لي لحناً نعرفه، ولا تفتوا في أعضاد الناس، وإن كانوا على الوفاء فيما بيننا وبينهم فاجهروا به للناس.
فخرجوا حتى أتوهم فوجدوهم على أخبث ما بلغهم عنهم، ونالوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا: لا عقد بيننا وبين محمد ولا عهد. فشاتمهم سعد بن عبادة وشاتموه؛ وكان رجلاً فيه حد، فقال له سعد ابن معاذ: دع عنك مشاتمتهم؛ فما بيننا وبينهم أربى من المشاتمة. ثم أقبل سعد وسعد ومن معهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلموا عليه، ثم قالوا: عضل والقارة أي كغدر عضل والقارة بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحاب الرجيع؛ خبيب بن عدي وأصحابه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الله أكبر ! أبشروا يا معشر المسلمين، وعظم عند البلاء، واشتد الخوف، وأتاهم عدوهم من فوقهم ومن أسفل منهم حتى ظن المؤمنون كل ظن، ونجم النفاق من بعض المنافقين، حتى قال معتب بن قشير، أخو بني عمرو بن عوف: كان محمدٌ يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر؛ وأحدنا لا يقدر أن يذهب إلى الغائط ! وحتى قال أوس بن قيظي، أحد بني حارثة بن الحارث: يا رسول الله، إن بيوتنا لعورة من العدو - وذلك عن ملأ من رجال قومه - فأذن لنا فلنرجع إلى دارنا؛ فإنها خارجة من المدينة.
فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقام المشركون عليه بضعاً وعشرين ليلة، قريباً من شهر؛ ولم يكن بين القوم حرب إلا الرمي بالنبل والحصار.
فلما اشتد البلاء على الناس بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم - كما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق عن عاصم بن عمر بن قتادة. وعن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري - إلى عيينة بن حصن، وإلى الحارث بن عوف بن أبي حارثة المري - وهما قائدا غطفان - فأعطاهما ثلث ثمار المدينة؛ على أن يرجعا بمن معهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فجرى بينه وبينهم الصلح؛ حتى كتبوا الكتاب، ولم تقع الشهادة ولا عزيمة الصلح إلا بالمراوضة في ذلك، ففعلا، فلما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفعل، بعث إلى سعد بن معاذ وسعد بن عبادة؛ فذكر ذلك لهما، واستشارهما فيه فقالا: يا رسول الله؛ أمرٌ تحبه فنصنعه، أم شيءٌ أمرك الله عز وجل به؛ لا بد لنا من عمل به، أم شيءٌ تصنعه لنا ؟ قال: لا، بل لكم؛ والله ما أصنع ذلك إلا أني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة، وكالبوكم من كل جانب، فأردت أن أكسر عنكم شوكتهم لأمرٍ ما ساعة. فقال له سعد بن معاذ: يا رسول الله؛ قد كنا نحن وهؤلاء القوم على شرك بالله عز وجل وعبادة اللأوثان، ولا نعبد الله ولا نعرفه؛ وهم لا يطمعون أن يأكلوا منا تمرة إلا قرى أو بيعاً، أفحين أكرمنا الله بالإسلام، وهدانا له، وأعزنا بك، نعطيهم أموالنا ! ما لنا بهذا من حاجة؛ والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فأنت وذاك ! فتناول سعدٌ الصحيفة؛ فمحا ما فيها من الكتاب، ثم قال: ليجهدوا علينا.

فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون وعدوهم محاصروهم؛ لم يكن بينهم قتال إلا أن فوارس من قريش منهم عمرو بن عبدود بن أبي قيس، أخو بني عامر بن لؤي، وعكرمة بن أبي جهل وهبيرة بن أبي وهب المخزوميان، ونوفل بن عبد الله، وضرار بن الخطاب بن مرداس، أخو بني محارب بن فهر؛ قد تلبسوا للقتال، وخرجوا على خيلهم، ومروا على بني كنانة، فقالوا: تهيئوا يا بني كنانة للحرب؛ فستعلمون اليوم من الفرسان ! ثم اقبلوا نحو الخندق؛ حتى وقفوا عليه، فلما رأوه قالوا: والله إن هذه لمكيدةٌ ما كانت العرب تكيدها؛ ثم تيمموا مكاناً من الخندق ضيقاً، فضربوا خيولهم، فاقتحمت منه؛ فجالت بهم في السبخة بين الخندق وسلع، وخرج علي بن أبي طالب في نفر من المسلمين؛ حتى أخذ عليهم الثغرة التي أقحموا منها خيلهم، وأقبلت الفرسان تعنق نحوهم.
وقد كان عمرو بن عبدودٌ قاتل يوم بدر؛ حتى أثبتته الجراحة، قلم يشهد أحداً، فلما كان يوم الخندق خرج معلماً ليرى مكانه؛ فلما وقف هو وخيله، قال له على: يا عمرو؛ إنك كنت تعاهد الله ألا يدعوك رجلٌ من قريش إلى خلتين إلا أخذت منه إحداهما ! قال: أجل ! قال له علي بن أبي طالب: فإني أدعوك إلى الله عز وجل وإلى رسوله وإلى الإسلام، قال: لا حاجة لي بذلك؛ قال: فإني أدعوك إلى النزال، قال: ولم يا بن أخي؛ فوالله ما أحب أن أقتلك ! قال: علي: ولكني والله أحب أن أقتلك. قال: فحمى عمرو عند ذلك، فاقتحم عن فرسه فعقره - أو ضرب وجهه - ثم أقبل على علي، فتنازلا وتجاولا، فقتله علي عليه السلام وخرجت خيله منهزمة؛ حتى اقتحمت من الخندق هاربة، وقتل مع عمرو رجلان: منبه بن عثمان بن عبيد بن السباق بن عبد الدار، أصابه سهم فمات منه بمكة؛ ومن بني مخزوم نوفل بن عبد الله بن المغيرة؛ وكان اقتحم الخندق فتورط فيه، فرموه بالحجارة، فقال: يا معشر العرب، قتلة أحسن من هذه ! فنزل إليه علي فقتله، فغلب المسلمون على جسده، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيعهم جسده، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا حاجة لنا بجسده ولا ثمنه؛ فشأنكم به. فخلى بينهم وبينه.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق عن أبي ليلى عبد الله بن سهل بن عبد الرحمن بن سهل الأنصاري، ثم أحد بني حارثة، أن عائشة أم المؤمنين كانت في حصن بني حارثة يوم الخندق، وكان من أحرز حصون المدينة؛ وكانت أم سعد بن معاذ معها في الحصن.
قالت عائشة: وذلك قبل أن يضرب علينا الحجاب. قالت: فمر سعدٌ وعليه درعٌ مقلصة، قد خرجت منها ذراعه كلها؛ وفي يده حربته يرقد بها ويقول:
لبث قليلاً يشهد الهيجا حمل ... لا بأس بالموت إذا حان الأجل
قالت له أمه: الحق يا بني، فقد والله أخرت.
قالت عائشة: فقلت لها: يا أم سعد؛ والله لوددت أن درع سعد كانت أسبغ مما هي ! قالت: وخفت عليه حيث أصاب السهم منه.
قالت: فرمى سعد بن معاذ بسهم، فقطع منه الأكحل، رماه - فيما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثنا محمد ابن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة - حبان بن قيس بن العرقة أحد بني عامر بن لؤي؛ فلما أصابه قال: خذها وأنا ابن العرقة، فقال سعدٌ: عرق الله وجهك في النار ! اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئاً فأبقني لها، فإنه لا قوم أحب إلى أن أجاهدهم من قوم آذوا رسولك، وكذبوه وأخرجوه. اللهم وإن كنت قد وضعت الحرب بيننا وبينهم فاجعله لي شهادة ولا تمتنى حتى تقر عيني من بنى قريظة.
حدثنا سفيان بن وكيع، قال: حدثنا محمد بن بشر، قال: حدثنا محمد بن عمرو، قال: حدثني أبي، عن علقمة، عن عائشة، قالت: خرجت يوم الخندق أقفوا آثار الناس فو الله إني لأمشي إذ سمعت وئيد الأرض خلفي - تعني حس الأرض - فالتفت فإذا أنا بسعد؛ فجلست إلى الأرض، ومعه ابن أخيه الحارث بن أوس - شهد بدراً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، حدثنا بذلك محمد بن عمرو - يحمل مجنه، وعلى سعد درع من حديد قد خرجت أطرافه منها.
قالت: وكان من أعظم الناس وأطوالهم.
قالت: فأنا أتخوف على أطراف سعد، فمر بي يرتجز، ويقول:
لبث قليلاً يدرك الهيجا حمل ... ما أحسن الموت إذا حان الأجل !

قالت: فلما جاوزني قمت فاقتحمت حديقة فيها نفر من المسلمين، فيهم عمر بن الخطاب وفيهم رجل عليه تسبغة له - قال محمد: والتسبغة المغفر - لا ترى إلا عيناه، فقال عمر: إنك لجريئة؛ ما جاء بك ؟ ما يدريك لعله يكون تحوز أو بلاء ! فوالله مازال يلومني حتى وددت أن الأرض تنشق لي فأدخل فيها، فكشف الرجل التسبغة عن وجهه، فإذا هو طلحة؛ فقال: إنك قد أكثرت، أين الفرار، وأني التحوز إلا إلى الله عز وجل ! قالت: فرمى سعد يومئذ بسهم، رماه رجلٌ يقال له ابن العرقة؛ فقال: خذها وأنا ابن العرقة؛ فقال: سعد: عرف الله وجهك في النار ! فأصاب الأكحل فقطعه. قال محمد بن عمرو: زعموا أنه لم ينقطع من أحد قط إلا لم يزل يبض دماً حتى يموت. فقال سعد: اللهم لا تمتني حتى تقر عيني في بني قريظة ! وكانوا حلفاءه في الجاهلية.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عمن لا يتهم، عن عبيد الله بن كعب بن مالك، أنه كان يقول: ما أصاب سعد يومئذ بالسهم إلا أبو أسامة الجشمي حليف بني مخزوم، فالله أعلم أي ذلك كان ! حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه عباد، قال: كانت صفية بنت عبد المطلب في فارع " حصن حسان بن ثابت " . قالت: وكان حسان معنا فيه مع النساء والصبيان. قالت: صفية: فمر بنا رجلٌ من يهود، فجعل يطيف بالحصن، وقد حاربت بنو قريظة وقطعت ما بينها وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليس بيننا وبينهم أحدٌ يدفع عنا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون في نحور عدوهم لا يستطعون أن ينصرفوا إلينا عنهم إن أتانا آت.
قالت: فقلت: يا حسان، إن هذا اليهودي كما ترى، يطيف بالحصن، وإني والله ما آمنه أن يدل على عوارتنا من وراءنا من يهود، وقد شغل عنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فانزل إليه فاقتله. فقال: يغفر اله لك يا بنا عبد المطلب ! والله لقد عرفت ما أنا بصاحب هذا ! قالت: فلما قال لي ذلك، ولم أر عنده شيئاً احتجزت؛ ثم أخذ عموداً، ثم نزلت من الحصن إليه فضربته بالعمود حتى قتلته، فلما فرغت منه رجعت إلى الحصن، فقلت: يا حسان، انزل إليه فاسلبه، فإنه لم يمنعني من سلبه إلا أنه رجلٌ؛ قال: مالي من حاجة يا بنت عبد المطلب.
قال ابن إسحاق: وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه؛ فيما وصف الله عز وجل من الخوف والشدة؛ لتظاهر عدوهم عليهم، وإتيانهم من فوقهم ومن أسفل منهم.
ثم إن نعيم بن مسعود بن عامر بن أنيف بن ثعلبة بن قنفذ بن هلال ابن خلاوة بن أشجع بن ريث بن غطفان أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إني قد أسلمت، إن قومي لم يعلموا بإسلامي؛ فمرني بما شئت. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما أنت فينا رجلٌ واحد؛ فخذل عنا إن استطعت؛ فإن الحرب خدعة.
فخرج نعيم بن مسعود حتى أتى بني قريظة - وكان لهم نديماً في الجاهلية - فقال لهم: يا بني قريظة، قد عرفتم ودي إياكم وخاصة ما بيني وبينكم، قالوا : صدقت، لست عندنا بمتهم؛ فقال لهم: إن قريشاً وغطفان قد جاءوا لحرب محمد. وقد ظاهرتموهم عليه، وإن قريشاً وغطفان ليسوا كهيئتكم، والبلد بلدكم، به أموالكم وأبناؤكم ونساؤكم؛ لا تقدرون على أن تحولوا منه إلى غيره، وإن قريشاً وغطفان أموالهم وأبناؤهم ونساؤهم وبلدهم بغيره؛ فليسوا كهيئتكم، إن رأوا نهزةً وغنيمة أصابوها، وإن كان غير ذلك لحقوا ببلادهم، وخلوا بينكم وبين الرجل ببلدكم؛ ولا طاقة لكم به إن خلا بكم؛ فلا تقاتلوا مع القوم حتى تأخذوا منهم رهناً من أشرافهم يكونون بأيديكم؛ ثقة لكم على أن تقاتلوا معكم محمداً، حتى تناجزوه، فقالوا: لقد أشرت برأي ونصحٍ.

ثم خرج حتى أتى قريشاً، فقال لأبي سفيان بن حرب ومن معه من رجال قريش: يا معشر قريش، قد عرفتم ودي إياكم، وفراقي محمداً وقد بلغني أمرٌ رأيت حقاً علىأن أبلغكموه نصحاً لكم، فاكتموا على. قالوا: نفعل، قال: فاعلموا أن معشر يهود قد ندموا على صنعوا فيما بينهم وبين محمد، وقد أرسلوا إليه أن قد ندمنا على ما فعلنا، فهل يرضيك عنا أن نأخذ من القبليتين من قريش وغطفان رجالاً من أشرافهم؛ فنعطيكم، فنضرب أعناقهم؛ ثم نكون معك على من بقي منهم ؟ فأرسل إليهم أن نعم؛ فإن بعثت إليكم يهود يلتمسون منكم رهناً من رجالكم؛ فلا تدافعوا إليهم منكم رجلاً واحداً. ثم خرج حتى أتى غطفان، فقال: يا معشر غطفان؛ أنتم أصلي وعشيرتي، وأحب الناس إلي، ولا أراكم تتهمونني ! قالوا: صدقت، قال: فاكتموا علي، قالوا: نفعل، ثم قال لهم مثل ما قال لقريش، وحذرهم ما حذرهم؛ فلما كانت ليلة السبت في شوال سنة خمس؛ وكان مما صنع الله عز وجل لرسوله أن أرسل أبو سفيان ورءوس غطفان إلى بني قريظة عكرمة بن أبي جهل، في نفر من قريش وغطفان، فقالوا لهم: إنا لسنا بدار مقام؛ قد هلك الخف والحافر، فاغدوا للقتال حتى نناجز محمداً ونفرغ مما بيننا وبينه؛ فأرسلوا إليهم أن اليوم السبت؛ وهو يوم لا نعمل فيه شيئاً؛ وقد كان أحدث فيه بعضنا حدثاً فأصابه ما لم يخف عليكم، ولسنا مع ذلك بالذين نقاتل معكم حتى تعطونا رهناً من رجالكم، يكونون بأيدينا ثقة لنا؛ حتى نناجز محمداً؛ فإنا نخشى إن ضرستكم الحرب، واشتد عليكم القتال، أن تشمروا إلى بلادكم وتتركونا والرجل في بلدنا، ولا طاقة لنا بذلك من محمدٍ. فلما رجعت إليهم الرسل بالذي قالت بنو قريظة، قالت قريش وغطفان: تعلمون والله أن الذي حدثكم نعيم بن مسعود لحق. فأرسلوا إلى بني قريظة: إنا والله لا ندفع إليكم رجلاً واحداً من رجالنا، فإن كنتم تريدون القتال فاخرجوا فقاتلوا، فقالت بنو قريظة حين انتهت الرسل إليهم بهذا: إن الذي ذكر لكم نعيم بن مسعود لحق؛ ما يريد القوم إلا أن يقاتلوا؛ فإن وجدوا فرصة انتهزوها؛ وإن كان غير ذلك تشمروا إلى بلادهم، وخلوا بينكم وبين الرجل في بلادكم. فأرسلوا إلى قريش وغطفان: إنا والله نقاتل معكم حتى تعطونا رهناً، فأبوا عليهم، وخذل الله بينهم؛ وبعث الله عز وجل عليهم الريح في ليالٍ شاتية شديدة البرد، فجعلت تكفأ قدورهم، وتطرح أبنيتهم. فلما انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما اختلف من أمرهم، وما فرق الله من جماعتهم، دعا حذيفة بن اليمان، فبعثه إليهم لينظر ما فعل القوم ليلا.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: حدثنا يزيد بن زياد، عن محمد بن كعب القرظي؛ قال: قال فتى من أهل الكوفة لحذيفة بن اليمان: يا أبا عبد الله، رأيتم رسول الله وصحبتموه ! قال: نعم يا بن أخي، قال: فكيف كنتم تصنعون ؟ قال: والله لقد كنا نجهد، فقال الفتى: والله لو أدركناه ما تركناه يمشي على الأرض، ولحملناه على أعناقنا.

فقال حذيفة: يابن أخي؛ والله لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخندق، وصلى هوياً من الليل، ثم التفت إلينا، فقال: من رجل يقوم فينظر لنا ما فعل القوم ثم يرجع - يشرط له رسول الله أنه يرجع - أدخله الله الجنة ؟ فما قام رجل. ثم صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هوياً من الليل، ثم التفت إلينا فقال مثله، فما قام منا رجل، ثم صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هوياً من الليل، ثم التفت إلينا، فقال: من رجل يقوم فينظر لنا ما فعل القوم ثم يرجع - يشرط له رسول الله الرجعة - أسأل الله أن يكون رفيقي في الجنة ؟ فما قام رجلٌ من القوم من شدة الخوف وشدة الجوع وشدة البرد. فلما لم يقم أحدٌ دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يكن لي بد من القيام حين دعاني. فقال: يا حذيفة؛ اذهب فادخل في القوم فانظر ما يفعلون، ولا تحدثن شيئاً حتى تأتينا؛ قال: فذهبت فدخلت في القوم والريح وجنود الله تفعل بهم ما تفعل؛ لا تقر لهم قدراً ولا ناراً ولا بناء. فقام أبو سفيان بن حرب، فقال: يا معشر قريش، لينظر امرؤٌ جليسه، قال: فأخذت بيد الرجل الذي كان إلى جنبي، فقلت: من أنت ؟ قل: أنا فلان بن فلان. ثم قال أبو سفيان: يا معشر قريش، إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام، لقد هلك الكراع والخف، وأخلفتنا بنو قريظة وبلغنا عنهم الذي نكره؛ ولقينا من هذه الريح ما ترون؛ والله ما تطمئن لنا قدرٌ، ولا تقوم لنا نار، ولا يستمسك لنا بناءٌ؛ فارتحلوا فإني مرتحل.
ثم قام إلى جمله وهو معقول ،فجلس عليه، ثم ضربه فوثب به على ثلاث؛ فما أطلق عقاله إلا وهو قائم؛ ولولا عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ألا أحدث شيئاً حتى آتيه، ثم شئت لقتلته بسهم. قال حذيفة: فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو قائم يصلي في مرط لبعض نسائه مرحلٍ؛ فلما رآني أدخلني بين رجليه وطرح على طرف المرط ثم ركع وسجد؛ فأذلقته. فلما سلم أخبرته الخبر، وسمعت غطفان بما فعلت قريش، فانشمروا راجعين إلى بلادهم.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق قال: فلما أصبح نبي الله صلى الله عليه وسلم انصرف عن الخندق راجعاً إلى المدينة والمسلمون ووضعوا السلاح.
غزوة بني قريظةفلما كانت الظهر، أتى جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم - كما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن ابن شهاب الزهري - معتجراً بعمامة من إستبرق، على بغلةٍ عليها رحالة ، عليها قطيفة من ديباج، فقال: أقد وضعت السلاح يا رسول الله ؟ قال نعم، قال جبريل: ما وضعت الملائكة السلاح وما رجعت الآن إلا من طلب القوم؛ إن الله يأمرك يا محمد بالسير إلى بني قريظة، وأنا عامد إلى بني قريظة.
فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم منادياً، فأذن في الناس: إن من كان سامعاً مطيعاً فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة.

وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب برايته إلى بني قريظة، وابتدرها الناس، فسار علي بن أبي طالب عليه السلام؛ حتى إذا دنا من الحصون، سمع منها مقالة قبيحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم منهم؛ فرجع حتى لقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالطريق، فقال: يا رسول الله، لا عليك ألا تدنو من هؤلاء الأخابث ! قال: لم ؟ أظنك سمعت لي منهم أذى ! قال: نعم يا رسول الله. لو قد رأوني لم يقولوا من ذلك شيئاً. فلما دنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من حصونهم، قال: يا إخوان القردة، هل أخزاكم الله، وأنزل بكم نقمته ! قالوا: يا أبا القاسم، ما كنت جهولاً. ومر رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه بالصورين قبل أن يصل إلى بني قريظة، فقال: هل مر بكم أحد ؟ فقالوا: نعم يا رسول الله، قد مر بنا دحية بن خليفة الكلبي، على بغلة بيضاء، عليها رحالة عليها قطيفة ديباج، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذلك جبريل، بعث إلى بني قريظة يزلزل بهم حصونهم، ويقذف الرعب في قلوبهم. فلما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بني قريظة، نزل على بئر من آبارها في ناحية من أموالهم، يقال لها بئر أنا؛ فلاحق به الناس، فأتاه رجالٌ من بعد العشاء الآخرة، ولم يصلوا العصر، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يصلين أحدٌ العصر إلا في بني قريظة، لشيء لم يكن لهم منه بد من حربهم؛ وأبوا أن يصلوا، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: حتى تأتوا بني قريظة، فصلوا العصر بها بعد العشاء الآخرة. فما عابهم الله بذلك في كتابه؛ ولا عنفهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم. والحديث عن محمد بن إسحاق، عن أبيه، عن معبد بن كعب بن مالك الأنصاري .
حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا محمد بن بشر، قال: حدثنا محمد ابن عمرو، قال: حدثني أبي، عن علقمة، عن عائشة، قالت: ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على سعد قبة في المسجد، ووضع السلاح - يعني عند منصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخندق - ووضع المسلمون السلاح، فجاءه جبريل عليه السلام، فقال: أوضعتم السلاح ! فوالله ما وضعت الملائكة بعد السلاح، اخرج إليهم فقاتلهم، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بلأمته فلبسها، ثم خرج وخرج المسلمون؛ فمر ببني غنم، فقال: من مر بكم ؟ قالوا: علينا دحية الكلبي - وكان يشبه سنته ولحيته ووجهه بجبريل عليه السلام - حتى نزل عليهم، وسعدٌ في قبته التي ضرب عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد؛ فحاصرهم شهراً - أو خمساً وعشرين ليلة - فلما اشتد عليهم الحصار قيل لهم: انزلوا على حكم رسول الله، فأشار أبو لبابة بن عبد المنذر إنه الذبح، فقالوا: ننزل على حكم سعد بن معاذ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: انزلوا على حكمه، فنزلوا ، فبعث إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بحمار بإكاف من ليف، فحمل عليه. قالت عائشة: لقد كان برأ كلمه حتى ما يرى منه إلا مثل الخرص.
رجع الحديث إلى حديث ابن إسحاق، قال: وحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم خمساً وعشرين ليلة؛ حتى جهدهم الحصار؛ وقذف الله في قلوبهم الرعب - وقد كان حيى بن أخطب دخل على بني قريظة في حصنهم حين رجعت عنهم قريش وغطفان، وفاءً لكعب بن اسد بما كان عاهده عليه - فلما ايقنوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غير منصرف عنهم حتى يناجزهم، قال كعب بن أسد لهم: يا معشر يهود، إنه قد نزل بكم من الأمر ما ترون، وإني عارض عليكم خلالا ثلاثا فخذوا أيها شئتم ! قالوا: وما هن ؟ قال: نتابع هذا الرجل ونصدقه؛ فوالله لقد كان تبين لكم أنه لنبي مرسل، وأنه للذي كنتم تجدونه في كتابكم، فتأمنوا على دمائكم وأموالكم وأبنائكم ونسائكم، قالوا: لا نفارق حكم التوراة أبداً، ولا نستبدل به غيره. قال: فإذا أبيتم هذه علي فهلم فلنقتل أبناءنا ونساءنا، ثم نخرج إلى محمد وأصحابه رجلا مصلتين السيوف؛ ولم نترك وراءنا ثقلاً يهمنا؛ حتى يحكم الله بيننا وبين محمد؛ فإن نهلك نهلك ولم نترك وراءنا شيئاً نخشى عليه، وإن نظهر فلعمري لنجدن النساء ولأبناء.
قالوا: نقتل هؤلاء المساكين؛ فما خير العيش بعدهم ! قال: فإذا أبيتم هذه على فإن الليلة ليلة السبت؛ وإنه عسى أن يكون محمد وأصحابه قد أمنوا فيها؛ فانزلوا لعلنا نصيب محمد وأصحابه غرةً.

قالوا: نفسد سبتنا، ونحدث فيه ما لم يكن أحدث فيه من كان قبلنا، إلا من قد علمت. فأصابه من المسخ ما لم يخفف عليك. قال: ما بات رجل منكم منذ ولدته أمه ليلة واحدة من الدهر حازماً.
قال: ثم إنهم بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن ابعث إلينا أبا لبابة بن عبد المنذر؛ أخا بني عمرو بن عوف - وكانوا حلفاء الأوس - نستشيره في أمرنا، فأرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم فلما رأوه قام إليه الرجال، وبهش إليه النساء والصبيان يبكون في وجهه، فرق لهم وقالوا له: يا أبا لبابة، أترى أن ننزل على حكم محمد ! قال: نعم، وأشار بيده إلى حلقه: إنه الذبح؛ قال: قال أبو لبابة: فوالله ما زالت قدماي حتى عرفت أني خنت الله ورسوله.
ثم انطلق أبو لبابة على وجهه، ولم يأت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ارتبط في المسجد إلى عمود من عمده، وقال: لا أبرح مكاني هذا حتى يتوب الله علي مما صنعت؛ وعاهد الله ألا يطأ بني قريظة أبداً.
وقال: لا يراني الله في بلد خنت الله ورسوله فيه أبداً. فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خبره، وأبطأ عليه - وكان قد استبطأه - قال: أما لو جاءني لا ستغفرت له؛ فأما إذ فعل ما فعل، فما أنا بالذي أطلقه من مكانه حتى يتوب الله عليه.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة بن فضل، قال: حدثنا محمد بن إسحاق، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط، أن توبة أبي لبابة أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم: وهو في بيت أم سلمة.
قالت أم سلمة: فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم من السحر يضحك فقلت: مم تضحك يا رسول الله، أضحك الله سنك ! قال: تيب على أبي لبابة، فقلت: ألا أبشره بذلك يا رسول الله ! قال: بلى إن شئت؛ قال: فقامت على باب حجرتها - وذلك قبل أن يضرب عليهن الحجاب - فقالت: يا أبا لبابة ، أبشر فقد تاب الله عليك. قال: فثار الناس إليه ليطلقوه؛ فقال: لا والله حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يطلقني بيده، فلما مر عليه خارجاً إلى الصبح أطلقه.
قال ابن إسحاق: ثم إن ثعلبة بن سعية وأسيد بن سعية، وأسد ابن عبيد - وهم نفر من بني هدل؛ ليسوا من بني قريظة ولا النضير، نسبهم فوق ذلك - هم بنو عم القوم أسلموا تلك الليلة التي نزلت فيها قريظة على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم - وخرج في تلك الليلة عمرو بن سعدي القرظي، فمر بحرس رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وعليه محمد بن مسلمة الأنصاري تلك الليلة؛ فلما رآه قال: من هذا ؟ قال: عمرو بن سعدي - وكان عمرو قد أبى أن يدخل مع بني قريظة في غدرهم برسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال: لا أغدر بمحمد أبداً - فقال محمد بن مسلمة حين عرفه: اللهم لا تحرمني عثرات الكرام. ثم خلى سبيله؛ فخرج على وجهه حتى بات في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة تلك الليلة. ثم ذهب فلا يدري أين ذهب من أرض الله إلى يومه هذا ! فذكر لرسول اله صلى الله عليه وسلم شأنه، فقال: ذاك الرجل نجاه الله بوفائه.
قال ابن إسحاق: وبعض الناس يزعم أنه كان أوثق برمة فيمن أوثق من بني قريظة حين نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأصبحت رمته ملقاةً لا يدري أين يذهب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك المقالة. والله أعلم.
قال ابن إسحاق. فلما أصبحوا نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتواثبت الأوس. فقالوا: يا رسول الله، إنهم موالينا دون الخزرج، وقد فعلت في موالي الخزرج بالأمس ما قد علمت - وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل بني قريظة حاصر بني قنينقاع، وكانوا حلفاء الخزرج، فنزلوا على حكمه؛ فسأله إياهم عبد الله بن أبي سلول، فوهبهم له.

فلما كلمه الأوس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا ترضون يا معشر الأوس أن يحكم فيهم رجل منكم ! قالوا: بلى: قال: فذاك إلى سعد بن معاذ - وكان سعد بن معاذ قد جعله رسول الله صلى الله عليه وسلم في خيمة امرأة من أسلم يقال لها رفيدة في مسجده، كانت تداوي الجرحى، وتحتسب بنفسها على خدمة من كانت به ضيعة من المسلمين؛ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال لقومه حين أصابه السهم بالخندق: اجعلوه في خيمة رفيدة، حتى أعوده من قريب - فلما حكمه رسول اله صلى الله عليه وسلم في بني قريظة، أتاه قومه، فاحتملوه على حمار قد وطئوا له بوسادة من أدمٍ - وكان رجلاً جسيماً - ثم أقبلوا معه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم يقولون: يا أبا عمرو، أحسن في مواليك؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما ولاك ذلك لتحسن فيهم. فلما أكثروا عليه قال: قد أني لسعد ألا تأخذه في الله لومة لائم. فرجع بعض من كان معه من قومه إلى دار بني عبد الأشهل، فنعى لهم رجال بني قريظة قبل أن يصل إليهم سعد بن معاذ عن كلمته التي سمع منه.
قال أبو جعفر: فلما انتهى سعدٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا محمد بن بشر، قال: حدثنا محمد بن عمرو، قال: حدثني أبي، عن علقمة، في حديث ذكره، قال: قال أبو سعيد الخدري: فلما طلع - يعني سعداً - قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قوموا إلى سيدكم - أو قال: إلي خيركم - فأنزلوه، فقال، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: احكم فيهم، قال: فإني أحكم فيهم أن تقتل مقاتلتهم، وأن تسبى ذراريهم، وأن تقسم أموالهم. فقال: لقد حكمت فيهم بحكم الله وحكم رسوله.
رجع الحديث إلى حديث ابن إسحاق: وأما ابن إسحاق فإنه قال في حديثه: فلما انتهى سعدٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قوموا إلى سيدكم، فقاموا إليه، فقالوا: يا أبا عمرو، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ولاك أمر مواليك لتحكم فيهم، فقال سعد: عليكم بذلك عهد الله وميثاقه أن الحكم فيها ما حكمت ! قالوا: نعم، قال: وعلى من ها هنا ؟ - في الناحية التي فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو معرض عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إجلالاً له - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم، قال سعد: فإني أحكم فيهم بأن تقتل الرجال، وتقسم الأموال، وتسبى الذراري والنساء.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة، عن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ، عن علقمة بن وقاص الليثي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لسعد: لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة.
قال ابن إسحاق: ثم استنزلوا، فحبسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في دار ابنة الحارث، امرأة من بني النجار. ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سوق المدينة التي هي سوقها اليوم، فخندق بها خنادق، ثم بعث إليهم فضرب أعناقهم في تلك الخنادق؛ يخرج بهم إليه أرسالاً؛ وفيهم عدو الله حيى بن أخطب، وكعب بن أسد، رأس القوم، وهم ستمائة أو سبعمائة؛ المكثر لهم يقول: كانوا من الثمانمائة إلى التسعمائة.
وقد قالوا لكعب بن أسد - وهم يذهب بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسالاً - : يا كعب، ما ترى ما يصنع بنا ! فقال كعب: في كل موطن لا تعقلون: ألا ترون الداعى لا ينزع، وأنه من ذهب به منكم لا يرجع، هو والله القتل ! فلم يزل ذلك الدأب حتى فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم، أتى بحيى بن أخطب عدو الله وعليه حلة له فقاحية قد شققها عليه من كل ناحية كموضع الأنملة، أنملة أنملة، لئلا يسلبها، مجموعة يداه إلى عنقه بحبل. فلما نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: أما والله ما لمت نفسي في عداوتك؛ ولكنه من يخذل الله يخذل.
ثم أقبل على الناس، فقال: أيها الناس، إنه لا بأس بأمر الله، كتاب الله وقدره، وملحمةٌ قد كتبت على بني إسرائيل. ثم جلس فضربت عنقه، فقال جبل بن جوال الثعلبي:
لعمرك ما لام ابن أخطب نفسه ... ولكنه من يخذل الله يخذل
لجاهد حتى أبلغ النفس عذرها ... وقلقل يبغي العز كل مقلقل

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة بن الزبير، عن عائشة، قالت: لم يقتل من نسائهم إلا امرأة واحدة.
قالت: والله إنها لعندي تحدث معي، وتضحك ظهراً وبطناً، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقتل رجالهم بالسوق؛ إذ هتف هاتفٌ باسمها: أين فلانة ؟ قالت: أنا والله. قالت: قلت: ويلك مالك ! قالت: أقتل ! قلت: ولم ؟ قالت: حدثٌ أحدثته. قالت: فانطلق بها فضربت عنقها. فكانت عائشة تقول: ما أنسى عجبنا منها، طيب نفس وكثرة ضحك، وقد عرفت أنها تقتل ! وكان ثابت بن قيس بن شماس - كما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن ابن شهاب الزهري - أتى الزبير بن باطا القرظي - وكان يكنى أبا عبد الرحمن - وكان الزبير قد من على ثابت بن قيس بن شماس في الجاهلية.
قال محمد: مما ذكر لي بعض ولد الزبير، أنه كان من عليه يوم بعاث؛ أخذه فجز ناصيته، ثم خلى سبيله - فجاءه وهو شيخ كبير، فقال: يا أبا عبد الرحمن، هل تعرفني ؟ قال: وهو يجهل مثلي مثلك ! قال: إني أردت أن أجزيك بيدك عندي، قال: إن الكريم يجزي الكريم. ثم أتى ثابت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله؛ قد كانت للزبير عندي يدٌ؛ وله علي منةٌ؛ وقد أحببت أن أجزيه بها؛ فهب لي دمه.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هو لك، فأتاه، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وهب لي دمك فهو لك، قال: شيخ كبير لا أهل له ولا ولد؛ فما يصنع بالحياة ! فأتى ثابت رسول الله صلى الله عليه وسلم: فقال: يا رسول الله، أهله ولده، قال: هم لك، فأتاه فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أعطاني امرأتك وولدك فهم لك.
قال: أهل بيت بالحجاز لا مال لهم، فما بقاءهم ! فأتى ثابتٌ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، ماله ! قال: هو لك، فأتاه فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أعطاني مالك فهو لك، قال: أي ثابت ! ما فعل الذي كأنه وجهه مرآة صينية تتراءى فيها عذاري الحي، كعب بن أسد ؟ قال: قتل، قال: فما فعل الحاضر والبادي، حيى بن أخطب ؟ قال: قتل، قال: فما فعل مقدمتنا إذا شددنا، وحاميتنا إذا كررنا؛ عزال بن شمويل ؟ قال: قتل، قال: فما فعل المجلسان - يعني بني كعب بن قريظة وبني عمرو بن قريظة - قال: ذهبوا، قتلوا. قال: فإني أسألك بيدي عندك يا ثابت ،إلا ألحقتني بالقوم؛ فوالله ما في العيش بعد هؤلاء من خير، فما أنا بصابر الله قبلة دلو نضج حتى ألقى الأحبة ! فقدمه ثابت فضرب عنقه، فلما بلغ أبا بكر قوله: ألقى الأحبة قال: يلقاهم والله في نار جهنم خالداً فيعا مخلداً أبداً. فقال ثابت بن قيس بن الشماس في ذلك، يذكر الزبير بن باطا : "
وفت ذمتي أني كريمٌ وأنني ... صبورٌ إذا ما القوم حادوا عن الصبر
وكان زبيرٌ أعظم الناس منةً ... على فلما شد كوعاه بالأسر
أتيت رسول الله كيما أفكه ... وكان رسول الله بحراً لنا يجري
قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر بقتل من أنبت منهم.
فحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن أيوب بن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي صعصعة، أخي بني عدي بن النجار؛ أن سلمى بنت قيس أم المنذر أخت سليط بن قيس - وكانت إحدى خالات رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد صلت معه القبلتين، وبايعته بيعة النساء - سألته رفاعة بن شمويل القرظي - وكان رجلاً قد بلغ ولاذ بها، وكان يعرفهم قبل ذلك - فقالت: يا نبي الله، بأبي أنت وأمي ! هب لي رفاعة بن شمويل؛ فإنه قد زعم أنه سيصلي، ويأكل لحم الجمل؛ فوهبه لها؛ فاستحيته.

قال ابن إسحاق: ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم أموال بني قريظة ونساءهم وأبناءهم على المسلمين، وأعلم في ذلك اليوم سهمان الخيل وسهمان الرجال، وأخرج منها الخمس، فكان للفارس ثلاثة أسهم؛ للفرس سهمان ولفارسه سهم، وللراجل ممن ليس له فرسٌ سهم، وكانت الخيل يوم بني قريظة ستة وثلاثين فرساً، وكان أول فىء وقع فيه السهمان وأخرج منه الخمس، فعلى سنتها وما مضى من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها وقعت المقاسم، ومضت السنة في المغازي؛ ولم يكن يسهم للخيل إذا كانت مع الرجل إلا لفرسين.
ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سعد بن زيد الأنصاري، أخا بني عبد الأشهل بسبايا من سبايا بني قريظة إلى نجد، فابتاع له بهم خيلاً وسلاحاً، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اصطفى لنفسه من نسائهم ريحانة بنت عمرو بن خناقة إحدى نساء بني عمرو بن قريظة، فكانت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى توفي عنها وهي في ملكه، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عرض عليها أن يتزوجها، ويضرب عليها الحجاب، فقالت: يا رسول الله، بل تتركني في ملكك فهو أخف علي وعليك. فتركها؛ وقد كانت حين سباها رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تعصت بالإسلام، وأبت إلا اليهودية، فعزلها رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجد في نفسه لذلك من أمرها؛ فبينا هو مع أصحابه إذ سمع وقع نعلين خلفه، ، فقال: إن هذا لثعلبة بن سعية يبشرني بإسلام ريحانة، فجاءه فقال: يا رسول الله، قد أسلمت ريحانة، فسره ذلك.
فلما انقضى شأن بني قريظة انفجر جرح سعد بن معاذ، وذلك أنه دعا - كما حدثني ابن وكيع، قال: حدثنا ابن بشر، قال: حدثنا محمد بن عمرو؛ قال: حدثني أبي، عن علقمة، في خبر ذكره عن عائشة: ثم دعا سعد بن معاذ - بعد أن حكم في بني قريظة ما حكم - فقال: اللهم إنك قد علمت أنه لم يكن قوم أحب إلي أن أقاتل أو أجاهد من قوم كذبوا رسولك. اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش على رسولك شيئا فأبقني لها، وإن كنت قد قطعت الحرب بينه وبينهم فاقبضي إليك. فانفجر كلمه، فرجعه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خيمته التي ضربت عليه في المسجد. قالت عائشة: فحضره رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر، وعمر؛ فوالذي نفس محمد بيده؛ إني لأعرف بكاء أبي بكر من بكاء عمر وإني لفي حجرتي. قالت: وكانوا كما قال الله عز وجل: " رحماء بينهم " قال علقمة: أي أمه ! كيف كان يصنع رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالت: كانت عينه لا تدمع على أحد؛ ولكنه كان إذا اشتد وجده على أحد، أو إذا وجد فإنما هو آخذ بلحيته .
حدثنا ابن حميد؛ قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني ابن إسحاق، قال: لم يقتل من المسلمين يوم الخندق إلا ستة نفر، وقتل من المشركين ثلاثة نفر، وقتل يوم بني قريظة خلاد بن سويد بن ثعلبة بن عمرو ابن بلحارث بن الخزرج، طرحت عليه رحى فشدخته شدخاً شديداً. ومات أبو سنان بن محصن بن حرثان، أخو بني أسد بن خزيمة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم محاصر بني قريظة، فدفن في مقبرة بني قريظة. ولما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخندق، قال: الآن نغزوهم - يعني قريشاً - ولا يغزوننا، فكان كذلك حتى فتح الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم مكة.
وكان فتح بني قريظة في ذي القعدة أو في صدر ذي الحجة، في قول ابن إسحاق. وأما الواقدي فإنه قال: غزاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة، لليال بقين منه؛ وزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أن يشق لبني قريظة في الأرض أخاديد ثم جلس؛ فجعل علي والزبير يضربان أعناقهم بين يديه، وزعم أن المرأة التي قتلها النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ كانت تسمى بنانة، امرأة الحكم القرظي، كانت قتلت خلاد بن سويد، رمت عليه رحى، فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فضرب عنقها بخلاد بن سويد.
واختلف في وقت غزوة النبي صلى الله عليه وسلم بني المصطلق؛ وهي الغزوة التي يقال لها غزوة المريسيع - والمريسيع اسم ماء من مياه خزاعة بناحية قديد إلى الساحل - فقال: ابن إسحاق - فيما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غزا بني المصطلق من خزاعة، في شعبان سنة ست من الهجرة.

وقال الواقدي: غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم المريسيع في شعبان سنة خمس من الهجرة. وزعم أن غزوة الخندق وغزوة بني قريظة كانتا بعد المريسيع لحرب بني المصطلق من خزاعة.
وزعم ابن إسحاق - فيما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم انصرف بعد فراغه من بني قريظة؛ وذلك في آخر ذي القعدة أو في صدر ذي الحجة - فأقام بالمدينة ذا الحجة والمحرم وصفرا وشهري ربيع، وولى الحجة في سنة خمس المشركون.
ذكر الأحداث التي كانت في سنة ست من الهجرة
غزوة بني لحيان
قال أبو جعفر: وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في جمادى الأولى على رأس ستة أشهر من فتح بني قريظة إلى بني لحيان، يطلب بأصحاب الرجيع؛ خبيب بن عدي وأصحابه؛ وأظهر أنه يريد الشام ليصيب من القوم غرةً، فخرج من المدينة، فسلك على غراب جبل بناحية المدينة على طريقه إلى الشام ثم على مخيض، ثم على البتراء؛ ثم صفق ذات اليسار، ثم على يين، ثم على صخيرات اليمام، ثم استقام به الطريق على المحجة من طريق مكة، فأغذ السير سريعاً؛ حتى نزل على غران؛ وهي منازل بني لحيان - وغران وادٍ بين أمج وعسفان - إلى بلد يقال له ساية، فوجدهم قد حذروا وتمنعوا في رءوس الجبال، فلما نزلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخطأه من غرتهم ما أراد، قال: لو أنا هبطنا عسفان لرأي أهل مكة أنا قد جئنا مكة. فخرج في مائتي راكب من أصحابه حتى نزل عسفان، ثم بعث فارسين من أصحابه؛ حتى بلغا كراع الغميم، ثم كرا وراح قافلا.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني ابن إسحاق. - قال: والحديث في غزوة بني لحيان - عن عاصم بن عمر بن قتادة وعبد الله بن أبي بكر، عن عبيد الله بن كعب.
قال ابن إسحاق: ثم قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فلم يقم إلا ليالي قلائل حتى أغار عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر الفزاري في خيل لغطفان على لقاح رسول الله صلى الله عليه وسلم بالغابة؛ وفيها رجلٌ من بني غفار وامرأته، فقتلوا الرجل واحتملوا المرأة في اللقاح.
غزوة ذي قردحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة وعبد الله بن أبي بكر ومن لا أتهم، عن عبيد الله بن كعب بن مالك، كل قد حدث في غزوة ذي قرد بعض الحديث، أنه أول من نذر بهم سلمة بن عمرو بن الأكوع الأسلمي، غدا يريد الغابة متوشحاً قوسه ونبله، ومعه غلام لطلحة بن عبد الله.
وأما الرواية عن سلمة بن الأكوع بهذه الغزوة من رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد مقدمة المدينة، منصرفاً من مكة عام الحديبية، فإن كان ذلك صحيحاً، فينبغي أن يكون ما روى عن سلمة بن الأكوع كان إما في ذي الحجة من سنة ست من الهجرة، وإما في أول سنة سبع، وذلك أن انصراف رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة عام الحديبية كان في ذي الحجة في سنة ست من الهجرة، وبين الوقت الذي وقته ابن إسحاق لغزوة ذي قرد والوقت الذي روى عن سلمة بن الأكوع قريب من ستة أشهر. حدثنا حديث سلمة بن الأكوع الحسن بن يحيى، قال: حدثنا أبو عامر العقدي، قال: حدثنا عكرمة بن عمار اليمامي، عن إياس بن سلمة، عن أبيه، قال: أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة - يعني بعد صلح الحديبية - فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بظهره مع رباح غلام رسول الله، وخرجت معه بفرس لطلحة بن عبيد الله. فلما أصبحنا إذا عبد الرحمن بن عيينة قد أغار على ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستاقه أجمع، وقتل راعيه. قلت: يا رباح؛ خذ هذا الفرس وأبلغه طلحة. وأخبر رسول الله أن المشركين قد أغاروا على سرحه. ثم قمت على أكمة فاستقبلت المدينة، فناديت ثلاثة أصوات: يا صباحاه ! ثم خرجت في آثار القوم أرميهم بالنبل، وارتجز وأقول: " أنا ابن الأكوع، واليوم يوم الرضع " .

قال: فوالله ما زلت أرميهم وأعقر بهم، فإذا رجع إلى فارس منهم أتيت شجرةً وقعدت في أصلها، فرميته فعقرت به؛ وإذا تضايق الجبل فدخلوا في متضايقٍ علوت الجبل، ثم أرديهم بالحجارة؛ فوالله ما زلت كذلك حتى ما خلق الله بعيراً من ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا جعلته وراء ظهري، وخلوا بيني وبينه وحتى ألقوا أكثر من ثلاثين رمحاً وثلاثين بردةً، يستخفون بها لا يقلون شيئاً إلا جعلت عليه آرما حتى يعرفه رسول ا
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://arabelalekat.yoo7.com
الشيخ عودة
الشيخ عودة
الشيخ عودة



عدد المساهمات : 1748
تاريخ التسجيل : 28/09/2008
العمر : 73

كتاب : تاريخ الرسل والملوك المؤلف : الطبري - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: كتاب : تاريخ الرسل والملوك المؤلف : الطبري   كتاب : تاريخ الرسل والملوك المؤلف : الطبري - صفحة 2 Emptyالسبت ديسمبر 14, 2013 10:33 am

فلما استقل رسول الله صلى الله عليه وسلم وسار، لقيه أسيد بن حضير، فحياه تحية النبوة، وسلم عليه، ثم قال: يا رسول الله، لقد رحت في ساعة منكرة ما كنت تروح فيها ! فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم أو ما بلغك ماقال صاحبكم ! قال: وأي صاحب يا رسول الله ! قال: عبد الله بن أبي، قال: وما قال ؟ قال: زعم أنه إن رجع إلى المدينة أخرج الأعز منها الأذل، قال أسيد: فأنت والله يا رسول الله تخرجه إن شئت، هو والله الذليل وأنت العزيز ! ثم قال: يا رسول الله، ارفق به فوالله لقد جاء الله بك، وإن قومه لينظمون له الخرز ليتوجوه؛ فإنه ليرى أنك قد استلبته ملكاً.
ثم متن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس يومهم ذلك حتى أمسى، وليلتهم حتى أصبح، وصدر يومهم ذلك حتى آذتهم الشمس.
ثم نزل بالناس؛ فلم يكن إلا أن وجدوا مس الأرض وقعوا نياما؛ وإنما فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ليشغل الناس عن الحديث الذي كان بالأمس من حديث عبد الله بن أبي.
ثم راح بالناس، وسلك الحجاز حتى نزل على ماء بالحجاز فويق النقيع، يقال له نقعاء، فلما راح رسول الله صلى الله عليه وسلم هبت على الناس ريح شديدة آذتهم، وتخوفوها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تخافوا، فإنما هبت لموت عظيم من عظماء الكفار، فلما قدموا المدينة وجدوا رفاعة بن زيد بن التابوت، أحد بني قينقاع - وكان من عظماء يهود، وكهفاً للمنافقين - قد مات في ذلك اليوم.
ونزلت السورة التي ذكر الله فيها المنافقين في عبد الله بن أبي بن سلول ومن كان معه على مثل أمره، فقال: " إذا جاءك المنافقون " ، فلما نزلت هذه السورة أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بأذن زيد بن أرقم فقال: هذا الذي أوفى الله بأذنه.
حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا يحيى بن آدم، قال: حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن زيد بن أرقم، قال: خرجت مع عمي في غزاةٍ، فسمعت عبد الله بن أبي بن سلول يقول لأصحابه: " لا تنفقوا على من عند رسول الله " والله، " لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل " ؛ فذكرت ذلك لعمى، فذكره عمي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسل إلي فحدثته، فأرسل إلى عبد الله وأصحابه، فحلفوا ما قالوا؛ قال: فكذبني رسول الله صلى الله عليه وسلم وصدقه، فأصابني همٌ لم يصبني مثله قط، فجلست في البيت، فقال لي عمي: ما أردت إلى أن كذبك رسول الله ومقتك ! قال: حتى أنزل الله عز وجل: " إذا جاءك المنافقون " ، قال فبعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأها، ثم قال: إن الله صدقك يا زيد.
رجع الحديث إلى حديث ابن إسحاق. وبلغ عبد الله بن عبد الله بن أبي الذي كان من أمر أبيه . فحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة؛ أن عبد الله بن عبد الله بن أبي ابن سلول أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إنه بلغني أنك تريد قتل عبد الله بن أبي - فيما بلغك عنه - فإن كنت فاعلاً فمرني به، فأنا أحمل إليك رأسه؛ فوالله لقد علمت الخزرج ما كان بها رجلٌ أبر بوالده مني، وإني أخشى أن تأمر به غيري فيقتله، فلا تدعني نفسي أنظر إلى قاتل عبد الله بن أبي يمشي في الناس فأقتله؛ فأقتل مؤمناً بكافر أدخل النار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل نرفق به، ونحسن صحبته ما بقي معنا. وجعل بعد ذلك إذا أحدث الحدث، كان قومه هم الذين يعاتبونه ويأخذونه، ويعنفونه ويتوعدونه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب حين بلغه ذلك عنهم من شأنهم: كيف ترى يا عمر ! أما والله لو قتلته يوم ما أمرتني بقتله، لأرعدت له آنفٌ لو أمرتها اليوم بقتله لقتلته. قال: فقال عمر: قد والله علمت، لأمر رسول الله أعظم بركة من أمري.
قال: وقدم مقيس بن صبابة من مكة مسلماً فيما ظهر، فقال: يا رسول الله، جئتك مسلماً وجئت أطلب دية أخي قتل خطأ. فأمر له رسول الله صلى الله عليه وسلم ديه أخيه هشام بن صبابة، فأقام عند رسول الله غير كثير، ثم عدا على قاتل أخيه فقتله، ثم خرج إلى مكة مرتداً، فقال في شعر:
شفى النفس أن قد بات بالقاع مسنداً ... تضرج ثوبيه دماء الأخادع
وكانت هموم النفس من قبل قتله ... تلم، فتحميني وطاء المضاجع

حللت به وترى، وأدركت ثؤرتي ... وكنت إلى الأوثان أول راجع
تأرت به فهراً وحملت عقله ... سراة بني النجار أرباب فارغ
وقال مقيس بن صبابة أيضاً:
جللته ضربة باءت، لها وشلٌ ... من ناقع الجوف يعلوه وينصرم
فقلت والموت تغشاه أسرته ... لا تأمنن بني بكرٍ إذا ظلموا
وأصيب من بني المصطلق يومئذ ناس كثير، وقتل علي بن أبي طالب منهم رجلين: مالكاً وابنه، وأصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم سبياً كثيراً، ففشا قسمة في المسلمين؛ ومنهم جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار زوج النبي صلى الله عليه وسلم حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة، عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، قالت: لما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم سبايا بني المصطلق، وقعت جويرية بنت الحارث في السهم لثابت بن قيس ابن الشماس - أو لابن عم له - فكاتبته على نفسها - وكانت امرأة حلوة ملاحة، لا يراها أحدٌ إلا أخذت بنفسه - فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم تستعينه على كتابتها، قالت: فوالله ما هو إلا أن رأيتها على باب حجرتي كرهتها، وعرفت أنه سيرى منها مثل ما رأيت، فدخلت عليه، فقالت: يا رسول الله، أنا جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار سيد قومه، وقد أصابني من البلاء مالم يخف عليك؛ فوقعت بالسهم لثابت بن قيس بن الشماس - أو لابن عم له - فكاتبته على نفسي، فجئتك أستعينك على كتابتي، فقال لها: فهل لك في خير من ذلك ؟ قالت: وما هو يا رسول الله ؟ قال: أقضي كتابتك وأتزوجك، قالت: نعم يا رسول الله، قال: قد فعلت، قالت: وخرج الخبر إلى الناس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تزوج جورية بنت الحارث، فقال الناس: أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسلوا ما بأيديهم.
قالت: فلقد أعتق بتزويجه إياها مائة أهل بيت من بني المصطلق، فما أعلم امرأة كانت أعظم بركة على قومها منها.
حديث الإفكحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: وأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من سفره ذلك - كما حدثني أبي إسحاق، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة - حتى إذا كان قريباً من المدينة - وكانت معه عائشة في سفره ذلك - قال أهل الإفك فيها ما قالوا.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن الزهري، عن علقمة بن وقاص الليثي وعن سعيد بن المسيب، وعن عروة بن الزبير وعن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود قال الزهري: كل قد حدثني بعض هذا الحديث، وبعض القوم كان أوعى له من بعض. قال: وقد جمعت لك كل الذي حدثني القوم.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: حدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، عن عائشة، قال: وحدثني عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري، عن عمرة بنت عبد الرحمن، عن عائشة، قال: وكل قد اجتمع حديثه في خبر قصة عائشة عن نفسها حين قال أهل الإفك فيها ما قالوا :، فكل قد دخل في حديثها عن هؤلاء جميعاً، ويحدث بعضهم ما يحدث بعضٌ، وكل كان عنها ثقة، وكل قد حدث عنها بما سمع.

قالت عائشة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفراً أقرع بين نسائه، فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه؛ فلما كانت غزوة بني المصطلق، أقرع بين نسائه كما كان يصنع؛ فخرج سهمي عليهن، فخرج بي رسول الله صلى الله عليه وسلم. قالت: وكان النساء إذ ذاك إنما يأكلن العلق لم يبهجن اللحم فيثقلن. قالت: وكنت إذا رحل بعيري جلست في هودجي، ثم يأتي القوم الذين يرحلون هودجي في بعيري، ويحملوني فيأخذون بأسفل الهودج، فيرفعونه فيضعونه على ظهر البعير، فيشدونه بحباله، ثم يأخذون برأس البعير، فينطلقون به. قالت: لما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من سفره ذلك، وجه قافلا، حتى إذا كان قريباً من المدينة نزل منزلا، فبات فيه بعض الليل، ثم اذن في الناس بالرحيل، فلما ارتحل الناس خرجت لبعض حاجتي وفي عنقي عقدٌ لي فيه جزع ظفار، فلما فرغت انسل من عنقي ولا أدري؛ فلما رجعت إلى الرحل ذهبت ألتمسه في عنقي فلم أجده، وقد أخذ الناس في الرحيل. قالت: فرجعت عودي على بدئي إلى المكان الذي ذهبت إليه، فالتمسته حتى وجدته، وجاء خلافي القوم الذين كانوا يرجلون لي البعير، وقد فرغوا من رحلته، فأخذوا الهودج، وهم يظنون أني فيه كما أصنع، فاحتملوه، فشدوه على البعير، ولم يشكوا أني فيه. ثم أخذوا برأس البعير فانطلقوا به، ورجعت إلى العسكر وما فيه داعٍ ولا مجيب، قد انطلق الناس. قالت: فتلففت بجلبابي ثم اضطجعت في مكاني الذي ذهبت إليه؛ وعرفت أن لو قد افتقدوني قد رجعوا إلي. قالت: فوالله إني لمضجعة، إذ مر بي صفوان بن المعطل السلمي، وقد كان تخلف عن العسكر لبعض حاجته، فلم يبت مع الناس في العسكر؛ فلما رأى سوادي أقبل حتى وقف علي فعرفني - وقد كان يراني قبل أن يضرب علينا الحجاب - فلما رآني قال: إنا لله وإنا إليه راجعون ! أظعينة رسول الله ! وأنا متلففه في ثيابي. قال: ما خلفك رحمك الله ؟ قالت: فما كلمته، ثم قرب البعير فقال: اركبي رحمك الله ! واستأخر عني. قالت فركبت وجاء فأخذ برأس البعير، فانطلق بي سريعاً يطلب الناس؛ فوالله ما أدركنا الناس، وما افتقدت حتى أصبحت، ونزل الناس؛ فلما اطمأنوا طلع الرجل يقودني، فقال أهل الإفك في ما قالوا. فارتج العسكر، ووالله ما أعلم بشيء من ذلك. ثم قدمنا المدينة، فلم أمكث أن اشتكيت شكوى شديدة، ولا يبلغني شيء من ذلك؛ وقد انتهى الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى أبوي، ولا يذكران لي من ذلك قليلاً ولا كثيراً، إلا أني قد أنكرت من رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض لطفه بي؛ كنت إذا اشتكيت رحمني ولطف بي؛ فلم يفعل ذلك في شكواي تلك، فأنكرت منه، وكان إذا دخل علي وأمي تمرضني، قال: كيف تيكم ؟ لا يزيد على ذلك. قالت: حتى وجدت في نفسي مما رأيت من جفائه عني، فقلت له: يا رسول الله، لو أذنت لي فانتقلت إلى أمي فمرضتني ! قال: لا عليك ! قالت: فانتقلت إلى أمي، ولا أعلم بشيء مما كان، حتى نقهت من وجعي بعد بضع وعشرين ليلة. قالت: وكنا قوماً عرباً لا نتخذ في بيوتنا هذه الكنف التي تتخذها الأعاجم، نعافها ونكرهها، إنما كنا نخرج في فسح المدينة؛ وإنما كان النساء يخرجن كل ليلة في حوائجهن؛ فخرجت ليلةً لبعض حاجتي، ومعي أم مسطح بنت أبي رهم بن المطلب بن عبد مناف، وكانت أمها بنت صخر بن عامر بن كعب بن سعد بن تيم، خالة أبي بكر. قالت: فوالله إنها لتمشي معي، إذ عثرت في مرطها، فقالت: تعس مسطح ! قالت: قلت: بئس لعمر الله ما قلت لرجل من المهاجرين قد شهد بدراً ! قالت: أو ما بلغك الخبر يا بنت أبي بكر ! قالت: قلت: وما الخبر ؟ فأخبرتني بالذي كان من قول أهل الإفك. قالت: قلت: وقد كان هذا ! قالت: نعم والله لقد كان. قالت: فوالله ما قدرت على أن أقضي حاجتي، ورجعت فما زلت أبكي حتى ظننت أن البكاء سيصدع كبدي. قالت: وقلت لأمي: يغفر الله لك ! تحدث الناس بما تحدثوا به وبلغك ما بلغك؛ ولا تذكرين لي من ذلك شيئاً ! قالت: أي بنية خفضي الشأن؛ فوالله قلما كانت امرأة حسناء عند رجل يحبها لها ضرائر إلا كثرن وكثر الناس عليها.

قالت: وقد قام رسول الله في الناس يخطبهم ولا أعلم بذلك. ثم قال: أيها الناس، ما بال رجال يؤذونني في أهلي، ويقولون عليهن غير الحق ! والله ما علمت منهن إلا خيراً، ويقولون ذلك لرجل والله ما علمت منه إلا خيراً ! وما دخل بيتاً من بيوتي إلا وهو معي. قالت: وكان كبر ذلك عند عبد الله بن أبي بن سلول في رجال من الخزرج؛ مع الذي قال مسطح وحمنة بنت جحش - وذلك أن أختها زينب بنت جحش كانت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم تكن من نسائه امرأة تناصبني في المنزلة عنده غيرها، فأما زينب فعصمها الله، وأما حمنة بنت جحش، فأشاعت من ذلك ما أشاعت، تضارني لأختها زينب بنت جحش - فشقيت بذلك.
فلما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك المقالة، قال أسيد بن حضير أخو بني عبد الأشهل: يا رسول الله، إن يكونوا من الأوس نكفكهم، وإن يكونوا من إخواننا من الخزرج فمرنا بأمرك؛ فوالله إنهم لأهلٌ أن تضرب أعناقهم. قالت: فقام سعد بن عبادة - وكان قبل ذلك يرى رجلاً صالحاً - فقال: كذبت لعمر الله لا تضرب أعناقهم ! أما والله ما قلت هذه المقالة إلا أنك قد عرفت أنهم من الخزرج، ولو كانوا من قومك ما قلت هذا ! قال أسيد: كذبت لعمر الله ! ولكنك منافق تجادل عن المنافقين ! قالت: وتثاوره الناس حتى كاد أن يكون بين هذين الحيين من الأوس والخزرج شر، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخل علي، قالت: فدعا علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد؛ فاستشارهما، فأما أسامة فأثنى خيرا وقاله، ثم قال: يا رسول الله، أهلك، ولا نعلم عليهن إلا خيرا؛ وهذا الكذب والباطل. وأما علي فإنه قال: يا رسول الله؛ إن النساء لكثيرٌ؛ وإنك لقادر على أن تستخلف؛ وسل الجارية فإنها تصدقك. فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بريرة يسألها. قالت: فقام إليها علي فضربها ضربا شديدا؛ وهو يقول: اصدقي رسول الله؛ قالت: فتقول: والله ما أعلم إلا خيرا، وما كنت أعيب على عائشة؛ إلا أني كنت أعجن عجيني فآمرها أن تحفظه فتنام عنه، فيأتي الداجن فيأكله.
ثم دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندي أبواي، وعندي امرأة من الأنصار؛ وأنا أبكي وهي تبكي معي؛ فجلس فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: يا عائشة؛ إنه قد كان ما بلغك من قول الناس، فاتقى الله؛ وان كنت قارفت سوءا مما يقول الناس فتوبي إلى الله؛ فإن الله يقبل التوبة عن عباده؛ قالت: فوالله ما هو إلا أن قال ذلك، تقلص دمعي؛ حتى ما أحس منه شيئا، وانتظرت أبوي أن يجيبا رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يتكلما. قالت: وايم الله لأنا كنت أحقر في نفسي وأصغر شأنا من أن ينزل الله عز وجل في قرآنا يقرأ به في المساجد، ويصلى به، ولكني قد كنت أرجو أن يرى رسول الله في نومه شيئا يكذب الله به عني، لما يعلم من براءتي، أو يخبر خبرا؛ فأما قرآن ينزل في، فوالله لنفسي كانت أحقر عندي من ذلك. قالت: فلما لم أر أبوي يتكلمان. قالت: قلت ألا تجيبان رسول الله ! قالت: فقالا لي : والله ما ندري بماذا نجيبه ! قالت: وايم الله ما أعلم أهل بيت دخل عليهم ما دخل على آل أبي بكر في تلك الأيام ! قالت: فلما استعجما علي استعبرت فبكيت ثم قلت: والله لا أتوب إلى الله مما ذكرت أبدا؛ والله لئن أقررت بما يقول الناس - والله يعلم أني منه بريئة - لتصدقني؛ لأقولن ما لم يكن؛ ولئن أنا أنكرت ما تقولون لاتصدقونني. قالت : ثم التمست اسم يعقوب فما أذكره؛ ولكني أقول كما قال أبو يوسف: " فصبرٌ جميلٌ والله المستعان على ما تصفون " .

قالت: فوالله ما برح رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسه حتى تغشاه من الله ما كان يتغشاه، فسجي بثوبه، ووضعت وسادة من أدم تحت رأسه؛ فأما أنا حين رأيت من ذلك ما رأيت؛ فوالله ما فزعت كثيرا ولا باليت؛ قد عرفت أني بريئة، وأن الله غير ظالمي، وأما أبواي؛ فوالذي نفس عائشة بيده، ما سري عن رسسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ظننت لتخرجن أنفسهما فرقاً أن يأتي من الله تحقيق ما قال الناس. قالت: ثم سري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجلس وإنه ليتحدر منه مثل الجمان في يوم شات، فجعل يمسح العرق عن جبينه، ويقول: أبشري يا عائشة؛ فقد أنزل الله براءتك، قالت: فقلت: بحمد الله وذمكم. ثم خرج إلى الناس فخطبهم، وتلا عليهم ما أنزل الله عز وجل من القرآن في. ثم أمر بمسطح بن أثاثة وحسان بن ثابت وحمنة بنت جحش - وكانوا ممن أفصح بالفاحشة - فضربوا حدهم.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن أبيه، عن بعض رجال بني النجار، أن أبا أيوب خالد بن زيد، قالت له امرأته أم أيوب: يا أبا أيوب، أما تسمع ما يقول الناس في عائشة ؟ قال: بلى؛ وذلك الكذب؛ أكنت يا أم أيوب فاعلةً ذلك ! قالت: لا والله ما كنت لأفعله، قال: فعائشة والله خيرٌ منك. قال: فلما نزل القرآن ذكر الله من قال من الفاحشة ما قال من أهل الإفك: " إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم .. " . الآية؛ وذلك حسان بن ثابت في أصحابه الذين قالوا ما قالوا.
ثم قال الله عز وجل: " لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا. " الآية، أي كما قال أبو أيوب وصاحبته. ثم قال: " إذ تلقونه بألسنتكم ... " الآية. فلما نزل هذا في عائشة وفيمن قال لها ما قال قال أبو بكر - وكان ينفق على مسطح لقرابته منه وحاجته: والله لا أنفق على مسطح شيئا أبدا، ولا أنفعه بنفع أبدا بعد الذي قال لعائشة، وأدخل علينا ما أدخل ! قالت: فأنزل الله عز وجل في ذلك: " ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى ... " الآية. قالت: فقال أبو بكر: والله لأحب أن يغفر الله لي. فرجع إلى مسطح نفقته التي كان ينفق عليه، وقال: والله لا أنزعها منه أبدا.
ثم إن صفوان بن المعطل اعترض حسان بن ثابت بالسيف حين بلغه ما يقول فيه؛ وقد كان حسان قال شعرا مع ذلك يعرض بابن المعطل فيه وبمن أسلم من العرب من مضر، فقال:
أمسى الجلابيب قد عزوا وقد كثروا ... وابن الفريعة أمسى بيضة البلد
قد ثكلت أمه من كنت صاحبه ... أو كان منتشباً في برثن الأسد
ما لقتيلي الذي أغدو فآخذه ... من ديةٍ فيه يعطاها ولا قود
ما البحر حين تهب الريح شامية ... فيغطئل ويرمي العبر بالزبد
يوما بأغلب مني حين تبصرني ... ملغيظ أفري كفري العارض البرد
فاعترضه صفوان بن المعطل بالسيف فضربه ثم قال - كما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق:
تلق ذباب السيف عني فإني ... غلام إذا هو جيت لست بشاعر
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي، أن ثابت بن قيس بن الشماس أخا بلحارث بن الخزرج، وثب على صفوان بن المعطل في ضربه حسان، فجمع يديه إلى عنقه، فانطلق به إلى دار بني الحارث بن الخزرج، فلقيه عبد الله بن رواحة، فقال: ما هذا ؟ قال: ألا أعجبك ضرب حسان بن ثابت بالسيف ! والله ما أراه إلا قد قتله. قال: فقال له عبد الله ابن رواحة: هل علم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشىء مما صنعت ؟ قال: لا والله، قال: لقد اجترأت ! أطلق الرجل، فأطلقه. ثم أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكروا له ذلك؛ فدعا حسان وصفوان بن المعطل، فقال ابن المعطل: يا رسول الله، آذاني وهجاني، فاحتملني الغضب فضربته. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحسان: يا حسان أتشوهت على قومي أن هداهم الله للإسلام ! ثم قال: أحسن يا حسان في الذي قد أصابك، قال: هي لك يا رسول الله.

وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد ابن إبراهيم بن الحارث، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاه عوضا منها بيرحا - وهي قصر بني حديلة اليوم بالمدينة؛ كانت مالا لأبي طلحة بن سهل، تصدق بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأعطاها حسان في ضربته - وأعطاه سيرين؛ أمةً قبطيةً، فولدت له عبد الرحمن بن حسان. قال: وكانت عائشة تقول: لقد سئل عن صفوان بن المعطل فوجدوه رجلا حصوراً ما يأتي النساء. ثم قتل بعد ذلك شهيدا.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عبد الواحد ابن حمزة، أن حديث عائشة كان في عمرة القضاء.
قال أبو جعفر: ثم أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة شهر رمضان وشوالا، وخرج في ذي القعدة من سنة ست معتمراً.
ذكر الخبر عن عمرة النبي صلى الله عليه وسلم التي صده المشركون فيها عن البيت، وهي:
قصة الحديبيةحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا الحكم بن بشير، قال: حدثنا عمر ابن ذر الهمداني، عن مجاهد، أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر ثلاث عمرٍ، كلها في ذي القعدة؛ يرجع في كلها إلى المدينة.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: خرج النبي صلى الله عليه وسلم معتمرا في ذي القعدة لا يريد حرباً، وقد استنفر العرب ومن حوله من أهل البوادي من الأعراب أن يخرجوا معه، وهو يخشى من قريش الذي صنعوا به أن يعرضوا له بحرب، أو يصدوه عن البيت، فأبطأ عليه كثيرٌ من الأعراب، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من المهاجرين والأنصار، ومن لحق به من العرب، وساق معه الهدى، وأحرم بالعمرة، ليأمن الناس من حربه، وليعلم الناس أنه إنما جاء زائرا لهذا البيت، معظماً له.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد إسحاق، عن محمد بن مسلم الزهري، عن عروة بن الزبير، عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم؛ أنهما حدثاه قالا: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية، يريد زيارة البيت، لا يريد قتالاً، وساق معه سبعين بدنة، وكان الناس سبعمائة رجل؛ كانت كل بدنة عن عشرة نفر.
وأما حديث ابن عبد الأعلى؛ فحدثنا عن محمد بن ثور، عن معمر، عن الزهري، عن عروة بن الزبير، عن المسور بن مخرمة.
وحدثني يعقوب، قال: حدثني يحيى بن سعيد، قال: حدثنا عبد الله بن مبارك، قال: حدثني معمر، عن الزهري، عن عروة بن الزبير، عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم، قالا: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية، في بضعة عشر ومائة من أصحابه ... ثم ذكر الحديث.
حدثنا الحسن بن يحيى، حدثنا أبو عامر، قال: حدثنا عكرمة بن عمار اليمامي، عن إياس بن سلمة، عن أبيه، قال: قدمنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديبية، ونحن أربعة عشر ومائة.
حدثنا يوسف بن موسى القطان، قال: حدثنا هشام بن عبد الملك وسعيد بن شرحبيل المصري، قالا: حدثنا الليث بن سعد المصري، قال: حدثنا أبو الزبير، عن جابر، قال: كنا يوم الحديبية ألفا وأربعمائة.
حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قال: كان أهل البيعة تحت الشجرة ألفا وخمسمائة وخمسة وعشرين.
حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا أبو داود، قال: حدثنا شعبة، عن عمرو بن مرة، قال: سمعت عبد الله بن أبي أوفى، يقول: كنا يوم الشجرة ألفا وثلثمائة، وكانت أسلم ثمن المهاجرين.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر بن عبد الله الأنصاري، قال: كنا أصحاب الحديبية أربعة عشر ومائة.
قال الزهري: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إذا كان بعسفان لقيه بشر بن سفيان الكعبي، فقال له: يا رسول الله، هذه قريش قد سمعوا بمسيرك، فخرجوا معهم العوذ المطافيل، قد لبسوا جلود النمور، وقد نزلوا بذي طوى، يحلفون بالله لا تدخلها عليهم أبدا؛ وهذا خالد بن الوليد في خيلهم، قد قدموها إلى كراع الغميم.
قال أبو جعفر: وقد كان بعضهم يقول: إن خالد بن الوليد كان يومئذ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مسلماً.
ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يعقوب القمي، عن جعفر - يعني ابن أبي المغيرة - عن ابن أبزى، قال: لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم بالهدى، وانتهى إلى ذي الحليفة، قال له عمر: يا رسول الله، تدخل على قوم هم لك حربٌ بغير سلاح ولا كراع ! قال: فبعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فلم يدع فيها كراعا ولا سلاحا إلا حمله، فلما دنا من مكة منعوه أن يدخل، فسار حتى أتى منى، فنزل بمنى، فأتاه عينه أن عكرمة بن أبي جهل قد خرج عليك في خمسمائة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لخالد بن الوليد: يا خالد، هذا ابن عمك، قد أتاك في الخيل، فقال خالد: أنا سيف الله وسيف رسوله - فيومئذ سمي سيف الله - : يا رسول الله ارم بي حيث شئت. فبعثه على خيل، فلقى عكرمة في الشعب، فهزمه حتى أدخله حيطان مكة، ثم عاد في الثانية، فهزمه حتى أدخله حيطان مكة، ثم عاد في الثالثة فهزمه حتى أدخله حيطان مكة، فأنزل الله تعالى فيه: " وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم " - إلى قوله: " عذاباً أليماً " قال: وكف الله النبي صلى الله عليه وسلم عنهم بعد أن أظفره عليهم لبقايا من المسلمين كانوا بقوا فيها من بعد أن أظفره عليهم كراهية أن تطأهم الخيل بغير علم.
رجع الحديث إلى حديث ابن إسحاق. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا ويح قريش ! قد أكلتهم الحرب، ماذا عليهم لو خلوا بيني وبين سائر العرب؛ فإن هم أصابوني كان ذلك الذي أرادوا، وإن أظهرني الله عليهم دخلوا في الإسلام وافرين؛ وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة. فما تظن قريش ! فوالله لا أزال أجاهدهم على الذي بعثني الله به حتى يظهره الله أو تنفرد هذه السالفة.
ثم قال: من رجل يخرج بنا على طريق غير طريقهم التي هم بها ؟ فحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر، أن رجلاً من أسلم قال: أنا يا رسول الله، قال: فسلك بهم على طريق وعر حزن بين شعاب، فلما أن خرجوا منه - وقد شق ذلك على المسلمين، وأفضوا إلى أرض سهلة عند منقطع الوادي - قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس : قولوا : نستغفر الله ونتوب إليه . ففعلوا . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والله إنها للحطة التي عرضت على بني إسرائيل فلم يقولوها.
قال ابن شهاب: ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس فقال: اسلكوا ذات اليمين، بين ظهري الحمض في طريق تخرجه على ثنية المرار؛ على مهبط الحديبية من أسفل مكة. قال: فسلك الجيش ذلك الطريق، فلما رأت خيل قريش قترة الجيش، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد خالفهم عن طريقهم، ركضوا راجعين إلى قريش، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إذا سلك في ثنية المرار، بركت ناقته، فقال الناس: خلأت ! فقال: ما خلأت، وما هو لها بخلقٍ؛ ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة؛ لا تدعوني قريش اليوم إلى خطةٍ يسألوني صلة الرحم إلا أعطيتهم إياها. ثم قال للناس: انزلوا، فقيل: يا رسول الله ما بالوادي ما ننزل عليه ! فأخرج سهماً من كنانته فأعطاه رجلاً من أصحابه، فنزل في قليب من تلك القلب فغرزه في جوفه، فجاش الماء بالري حتى ضرب الناس عليه بعطن.
فحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن بعض أهل العلم، أن رجلاً من أسلم حدثه، أن الذي نزل في القليب بسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ناجية بن جندب بن عمير ابن يعمر بن دارم، وهو سائق بدن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: وقد زعم لي بعض أهل العلم أن البراء بن عازب كان يقول: أنا الذي نزلت بسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.قال وأنشدت أسلم أبياتاً من شعر قالها ناجية ، قد ظننا أنه هو الذي نزل بسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فزعمت أسلم أن جاريةً من الأنصار أقبلت بدلوها، وناجية في القليب يميح على الناس، فقالت:
يأيها المائح دلوي دونكا ... إني رأيت الناس يحمدونكا
يثنون خيراً ويمجدونكا
وقال ناجية، وهو في القليب يميح الناس:
قد علمت جاريةٌ يمانيه ... أني أنا المائح واسمى ناجيه
وطعنةٍ ذات رشاش واهيه ... طعنتها تحت صدور العاديه

حدثنا محمد بن عبد الأعلى الصنعاني، قال: حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الزهري، عن عروة، عن المسور بن مخرمة. وحدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا يحيى بن سعيد القطان، قال: حدثنا عبد الله بن المبارك، قال: حدثنا معمر، عن الزهري، عن عروة، عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم، قالا: نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأقصى الحديبية على ثمد قليل الماء؛ إنما يتبرضه الناس تبرضاً فلم يلبثه الناس أن نزحوه، فشكي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العطش، فنزع سهماً من كنانته، ثم أمرهم أن يجعلوه فيه، فوالله ما زال يجيش لهم بالري حتى صدروا عنه؛ فبيناهم كذلك جاء بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من قومه من خزاعة - وكانوا عيبة نصح رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل تهامة - فقال: إني تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي قد نزلوا أعداد مياه الحديبية؛ معهم العوذ المطافيل، وهم مقاتلوك لؤي وصادوك عن البيت. فقال النبي صلى الله عليه وسلم :إنا لم نأت لقتال أحد، ولكنا جئنا معتمرين، وإن قريشاً قد نهكتهم الحرب وأضرت بهم، فإن شاءوا ماددناهم مدة ويخلوا بيني وبين الناس، فإن أظهر، فإن شاءوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا وإلا فقد جموا؛ وإن هم أبوا فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي ، أو لينفذن الله أمره. فقال بديل: سنبلغهم ما تقول.
فانطلق حتى أتى قريشاً فقال: إنا قد جئناكم من عند هذا الرجل، وسمعناه يقول قولاً؛ فإن شئتم أن نعرضه عليكم فعلنا. فقال سفهاؤهم: لا حاجة لنا أن تحدثنا عنه بشيء، وقال ذو الراي منهم: هات ما سمعته يقول، قال: سمعته يقول كذا وكذا، فحدثهم بما قال النبي صلى الله عليه وسلم . فقام عروة بن مسعود الثقفي: فقال: أي قوم؛ ألستم بالوالد ! قالوا: بلى، قال: أو لست بالولد ! قالوا: بلى، قال: فهل تتهمونني ؟ قالوا: لا، قال: ألستم تعلمون أني استنفرت أهل عكاظ ؛ فلما بلحوا علي جئتكم بأهلي وولدي ومن أطاعني ! قالوا: بلى.
وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن الزهري، في حديثه، قال: كان عروة بن مسعود لسبيعة بنت عبد شمس.
رجع الحديث إلى حديث ابن عبد الأعلى ويعقوب. قال: فإن هذا الرجل قد عرض عليكم خطة رشدٍ فاقبلوها، ودعوني آته. فقالوا: ائته، فأتاه، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال النبي نحواً من مقالته لبديل، فقال عروة عند ذلك: أي محمد، أرأيت إن استأصلت قومك، فهل سمعت بأحد من العرب اجتاح أصله قبلك ! وإن تكن الأخرى، فوالله إني لأرى وجوهاً وأوشاباً من الناس خلقاً أن يفروا ويدعوك.
فقال أبو بكر: امصص بظر اللات - واللات طاغية ثقيف التي كانوا يعبدون - أنحن نفر وندعه ! فقال: من هذا ؟ فقالوا:أبو بكر، فقال: أما والذي نفسي بيده لولا يدٌ لك عندي لم أجزك بها لأجبتك؛ وجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم ، فلكا كلمه أخذ بلحيته - والمغيرة بن شعبة قائمٌ على رأس النبي صلى الله عليه وسلم ، ومعه السيف وعليه المغفر؛ فكلما أهوى عروة بيده إلى لحية النبي صلى الله عليه وسلم ضرب يده بنعل السيف، وقال: أخر يدك عن لحيته، فرفع عروة رأسه، فقال: من هذا ؟ قالوا: المغيرة ابن شعبة، قال: أي غدر؛ ألست أسعى في غدرتك ! وكان المغيرة بن شعبة صحب قوماً في الجاهلية، فقتلهم، وأخذ أموالهم، ثم جاء فأسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أما الإسلام فقد قبلنا، وأما المال فإنه مال غدر، لا حاجة لنا فيه.
وإن عروة جعل يرمق أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بعينه. قال: فوالله إن يتنخم النبي نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فذلك بها وجهه وجلده؛ وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه؛ وإذا تكلموا عنده خفضوا أصواتهم وما يحدون النظر إليه تعظيماً له.
فرجع عروة إلى أصحابه، فقال: أي قوم، والله لقد وفدت على الملوك ووفدت على كسرى وقيصر والنجاشي؛ والله إن رأيت ملكاً قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمدٍ محمداً، والله إن يتنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فذلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على مضوئه، وإذا تكلموا عنده خفضوا أصواتهم؛ وما يحدون النظر إليه تعظيماً له؛ وإنه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها.

فقال رجل من كنانة: دعوني آته، فقالوا: ائته؛ فلما أشرف النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، قال النبي صلى الله عليه وسلم : هذا فلان، وهو من قوم يعظمون البدن فابعثوها له، فبعثت له، واستقبله قومٌ يلبون، فلما رأى ذلك قال: سبحان الله ! ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت ! وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن الزهري؛ قال في حديثه: ثم بعثوا إليه الحليس بن علقمة - أو ابن زبان - وكان يومئذ سيد الأحابيش؛ وهو أحد بلحارث بن عبد مناة بن كنانة، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن هذا من قوم يتألهون، فابعثوا الهدى في وجهه حتى يراه، فلما رأى الهدى يسيل عليه من عرض، الوادي في قلائده، قد أكل أو باره من طول الحبس، رجع إلى قريش، ولم يصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إعظاماً لما رأى، فقال: يا معشر قريش، إني قد رأيت مالا يحل صده: الهدى في قلائده، قد أكل أوباره من طول الحبس عن محله؛ قالوا له: اجلس، فإنما أنت رجل أعرابيٌ لا علم لك.
وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر، أن الحليس غضب عند ذلك، وقال: يا معشر قريش، والله ما على هذا حالفناكم، ولا على هذا عاقدناكم؛ أن تصدوا عن بيت الله من جاءه معظماً له؛ والذي نفس الحليس بيده لتخلن بين محمد وبين ماجاء له أو لأنفرن بالأحابيش نفرة رجل واحد ! قال: فقالوا له: مه ! كف عنا يا حليس حتى نأخذ لأنفسنا ما نرضى به.
رجع الحديث إلى حديث ابن عبد الأعلى ويعقوب. فقام رجل منهم يقال له مكرز بن حفص، فقال لهم: دعوني آته، قالوا: ائته، فلما أشرف عليهم قال النبي صلى الله عليه وسلم : هذا مكرز بن حفص؛ وهو رجل فاجر؛ فجاء فجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم ؛ فبينا هو يكلمه إذ جاء سهيل بن عمرو.
وقال أيوب عن عكرمة: إنه لما جاء سهيل قال النبي صلى الله عليه وسلم : قد سهل لكم من أمركم.
فحدثني محمد بن عمارة الأسدي ومحمد بن منصور - واللفظ لابن عمارة - قالا: حدثنا عبيد الله بن موسى، قال: أخبرنا موسى بن عبيدة عن إياس ابم سلمة بن الأكوع، عن أبيه، قال: بعثت قريش سهيل بن عمرو وحويطب بن عبد العزى وحفص بن فلان، إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليصالحوه، فلما رآهم رسول الله فيهم سهيل بن عمرو، قال: سهل الله لكم من أمركم؛ القوم ماتون إليكم بأرحامكم، وسائلوكم الصلح، فابعثوا الهدى، وأظهروا التلبية؛ لعل ذلك يلين قلوبهم.
فلبوا من نواحي العسكر حتى ارتجت أصواتهم بالتلبية.
قال: فجاءوا فسألوه الصلح، قال: فبينما الناس قد توادعوا، وفي المسلمين ناس من المشركين، وفي المشركين ناس من المسلمين، قال: ففتك به أبو سفيان، قال: فإذا الوادي يسيل بالرجال والسلاح. قال إياس: قال سلمة: فجئت بستة من المشركين متسلحين أسوقهم، ما يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً؛ فأتيت بهم النبي صلى الله عليه وسلم ، فلم يسلب ولم يقتل، وعفا.
وأما الحسن بن يحيى فإنه حدثنا قال: حدثنا أبو عامر قال: حدثنا عكرمة بن عمار اليمامي، عن إياس بن سلمة، عن أبيه، أنه قال: لما اصطلحنا نحن وأهل مكة، أتيت الشجرة فكسحت شوكها؛ ثم اضطجعت في ظلها، فأتاني أربعة نفر من المشركين من أهل مكة، فجعلوا يقعون في رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأبغضتهم. قال: فتحولت إلى شجرة أخرى، فعلقوا سلاحهم، ثم اضطجعوا؛ فبيناهم كذلك؛ إذ نادى مناد من أسفل الوادي: يا للمهاجرين ! قتل ابن زنيم ! فاخترطت سيفي، فشددت على أولئك الأربعة وهم رقود؛ فأخذت سلاحهم فجعلته ضغثاً في يدي، ثم قلت: والذي كرم وجه محمد صلى الله عليه وسلم؛ لا يرفع أحدٌ منكم رأسه إلا ضربت الذي فيه عيناه. قال: فجئت بهم أقودهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاء عمي عامر برجل من العبلات، يقال له مكرز؛ يقوده مجففاً، حتى وقفنا بهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبعين من المشركين، فنظر إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: دعوهم يكن لهم بدء الفجور، فعفا عنهم. قال: فأنزل الله عز وجل: " وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة " .

رجع الحديث إلى حديث محمد بن عمارة ومحمد بن منصور، عن عبيد الله. قال سلمة: فشددنا على من في أيدي المشركين منا، فما تركنا في أيديهم منا رجلاً إلا استنقذناه. قال: وغلبنا على من في أيدينا منهم.
ثم إن قريشاً بعثوا سهيل بن عمرو وحويطباً فولوهم صلحهم، وبعث النبي صلى الله عليه وسلم علياً عليه السلام في صلحه.
حدثنا بشر بن معاذ؛ قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: ذكر لنا أن رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقال له زنيم، اطلع الثنية من الحديبية، فرماه المشركون فقتلوه، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خيلاً، فأتوه باثنى عشر رجلاً فارساً من الكفار، فقال لهم نبي الله صلى الله عليه وسلم: هل لكم علي عهد ؟ هل لكم علي ذمة ؟ قالوا: لا، قال: فأرسلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فأنزل الله في ذلك القرآن: " وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة " - إلى قوله: " بما تعملون بصيراً " .
وأما ابن إسحاق، فإنه ذكر أن قريشاً إنما بعثت سهيل بن عمرو بعد رسالة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسلها إليهم مع عثمان بن عفان.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: حدثني بعض أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا خراش بن أمية الخزاعي، فبعثه إلى قريش بمكة، وحمله على جمل له يقال له الثعلب؛ ليبلغ أشرافهم عنه ما جاء له، فعقروا به جمل رسول الله وأرادوا قتله، فمنعته الأحابيش، فخلوا سبيله؛ حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال حدثني من لا أتهم، عن عكرمة مولى ابن عباس، أن قريشاً بعثوا أربعين رجلاً منهم - أو خمسين رجلاً - وأمروهم أن يطيفوا بعسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصيبوا لهم من أصحابه، فأخذوا أخذاً، فأتى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعفا عنهم، وخلى سبيلهم - وقد كانوا رموا في عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجارة والنبل - ثم دعا النبي صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب ليبعثه إلى مكة، فيبلغ عنه أشراف قريشٍ ما جاء له؛ فقال: يا رسول الله، إني أخاف قريشاً على نفسي؛ وليس بمكة من بنى عدي بن كعب أحد يمنعني؛ وقد عرفت قريش عداوتي إياها، وغلظتي عليها، ولكني أدلك على رجل هو أعز بها مني، عثمان بن عفان ! فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان، فبعثه إلى أبي سفيان وأشراف قريش يخبرهم أنه لم يأت لحرب؛ وإنما جاء زائراً لهذا البيت، معظماً لحرمته .
فخرج عثمان إلى مكة، فلقيه أبان بن سعيد بن العاص حين دخل مكة - أو قبل أن يدخلها - فنزل عن دابته، فحمله بين يديه، ثم ردفه وأجاره؛ حتى بلغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانطلق عثمان حتى أتى أبا سفيان وعظماء قريش، فبلغهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أرسله به، فقالوا لعثمان حين فرغ من رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم: إن شئت أن تطوف بالبيت فطف به؛ قال: ماكنت لأفعل حتى يطوف به رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فاحتبسته قريش عندها، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين أن عثمان قد قتل.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: فحدثني عبد الله بن أبي بكر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بلغه أن عثمان قد قتل، قال: لا نبرح حتى نناجز القوم؛ ودعا الناس إلى البيعة فكانت بيعة الرضوان تحت الشجرة.
حدثني ابن عمارة الأسدي، قال: حدثني عبيد الله بن موسى، عن موسى بن عبيدة، عن إياس بن سلمة، قال: قال سلمة بن الأكوع: بينما نحن قافلون من الحديبية، نادى منادي النبي صلى الله عليه وسلم: أيها الناس؛ البيعة البيعة ! نزل روح القدس. قال: فسرنا إلى رسول الله وهو تحت الشجرة سمرة، قال: فبايعناه، قال: وذلك قول الله تعالى: " لقد رضى الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة " .
حدثنا ابن حميد بن بيان، قال: أخبرنا محمد بن يزيد، عن إسماعيل ابن أبي خالد، عن عامر، قال: كان أول من بايع بيعة الرضوان رجلاً من بني أسد، يقال له:أبو سنان بن وهب.

حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنا القاسم بن عبد الله بن عمر، عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله؛ أنهم كانوا يوم الحديبية أربعة عشر ومائة. قال: فبايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعمر آخذ بيده تحت الشجرة، وهي سمرة، فبايعناه غير الجد بن قيس الأنصاري، اختبأ تحت بطن بعيره.
قال جابر: بايعنا رسول الله على ألا نفر؛ ولم نبايعه على الموت.
وقد قيل في ذلك ما حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرأبو عامر، قال: أخبرنا عكرمة بن عمار اليمامي، عن إياس بن سلمة بن الأكوع، عن أبيه، أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا الناس للبيعة في أصل الشجرة، فبايعته في أول الناس، ثم بايع وبايع؛ حتى إذا كان في وسطٍ من الناس، قال: بايع يا سلمة، قال: قلت: قد بايعتك يا رسول الله في أول الناس ! قال: وأيضاً؛ ورآني النبي صلى الله عليه وسلم أعزل، فأعطاني جحفة أو درقةً. قال: ثم إن رسول الله بايع الناس؛ حتى إذا كان في آخرهم، قال: ألا تبايع يا سلمة ! قلت: يا رسول الله؛ قد بايعتك في أول الناس وأوسطهم ! قال: وأيضاً. قال: فبايعته الثالثة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فأين الدرقة، والجحفة التي أعطيتك ؟ قلت: لقيني عمي عامر أعزل فأعطيته إياها، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: إنك كالذي قال الأول: اللهم ابغني حبيباً هو أحب إلي من نفسي.
رجع الحديث إلى حديث ابن إسحاق. قال: فبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس، ولم يتخلف عنه أحد من المسلمين حضرها إلا الجد ابن قيس، أخو بني سلمة، قال: كان جابر بن عبد الله يقول: لكأني أنظر إليه لاصقاً بإبط ناقته، قد ضبأ إليها يستتر بها من الناس. ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الذي كان من أمر عثمان باطل.
قال إبن إسحاق: قال الزهري: ثم بعثت قريش سهيل بن عمرو، أخا بني عامر بن لؤي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وقالوا: له: ائت محمداً فصالحه، ولا يكن في صلحه إلا أن يرجع عنا عامة هذا، فوالله لا تحدث العرب أنه دخل علينا عنوة أبداً.
قال: فأقبل سهيل بن عمرو، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم مقبلاً، قال: قد أراد القوم الصلح حين بعثوا هذا الرجل. فلما انتهى سهيل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تكلم فأطال الكلام، وتراجعا، ثم جرى بينهما الصلح، فلما التأم الأمر، ولم يبقى إلا الكتاب وثب عمر بن الخطاب، فأتى أبا بكر، فقال: يا أبا بكر، اليس برسول الله ! قال: بلى، قال: أو لسنا بالمسلمين ! قال: بلى، قال: أو ليسوا بالمشركين ! قال: بلى، قال: فعلام نعطى الدنية في ديننا ! قال أبو بكر: يا عمر الزم غرزه؛ فإني أشهد أنه رسول الله، قال عمر: وأنا اشهد أنه رسول الله. قال: ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ألست برسول الله ! قال: بلى، قال: أولسنا بالمسلمين ! قال: بلى، قال: أوليسوا بالمشركين ! قال: بلى قال: فعلام نعطى الدنية في ديننا ! فقال: أنا عبد الله ورسوله لن أخالف أمره، ولن يضيعني. قال: فكان عمر يقول: ما زلت أصوم وأتصدق وأصلي وأعتق من الذي صنعت يومئذ، مخافة كلامي الذي تكلمت به؛ حتى رجوت أن يكون خيراً.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن بريدة بن سفيان بن فروة الأسلمي، عن محمد بن كعب القرظي، عن علقمة ابن قيس النخعي، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، قال: ثم دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: اكتب بسم الله الرحمن الرحيم. فقال سهيل: لا أعرف هذا، ولكن اكتب: " باسمك اللهم " ، فقال رسول الله: اكتب " باسمك اللهم " ، فكتبتها. ثم قال: اكتب: " هذا ما صالح عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو. فقال سهيل بن عمرو: لو شهدت أنك رسول الله لم أقاتلك؛ ولكن اكتب اسمك واسم أبيك، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اكتب: " هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله سهيل ابن عمرو؛ اصطلحا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين، يأمن فيهن الناس، ويكف بعضهم عن بعض، على أنه من أتى رسول الله من قريش بغير إذن وليه رده عليهم، ومن جاء قريشاً ممن مع رسول الله لم ترده عليه. وأن بيننا عيبة مكفوفة، وأنه لا إسلال ولا إغلال؛ وأنه من أحب أن يدخل في عقد رسول الله وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم، دخل فيه " - فتواثبت خزاعة فقالوا: نحن في عقد رسول الله وعهده، وتواثبت بنو بكر، فقالوا: نحن في عقد قريش وعهدها - " وأنك ترجع عنا عامك هذا، فلا تدخل علينا مكة، وأنه إذا كان عام قابل خرجنا عنك، فدخلتها بأصحابك؛ فأقمت بها ثلاثاً، وأن معك سلاح الراكب، السيوف في القرب لا تدخلها بغير هذا " .
فبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يكتب الكتاب هو وسهيل بن عمرو، إذ جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسف في الحديد، قد انفلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال: وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال: وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خرجوا وهم لا يشكون في الفتح، لرؤيا رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فلما رأوا ما رأوا من الصلح والرجوع، وما تحمل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفسه، دخل الناس من ذلك أمرٌ عظيمٌ حتى كادوا أن يهلكوا - فلما رأى سهيل أبا جندل، قام إليه فضرب وجهه، وأخذ بلببه، فقال: يا محمد قد لجت القضية بيني وبينك قبل أن يأتيك هذا ! قال: صدقت، قال: فجعل ينتره بلببه، ويجره ليرده إلى قريش، وجعل أبو جندل يصرخ بأعلى صوته: يا معشر المسلمين، أرد إلى المشركين يفتنونني في ديني ! فزاد الناس ذلك شراً إلى ما بهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا جندل، احتسب، فإن الله جاعلٌ لك ولمن معك من المستضعفين فرجاً ومخرجاً؛ إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم عقداً وصلحاً، وأعطيناهم على ذلك عهداً، وأعطونا عهداً، وإنا لا نغدر بهم.
قال: فوثب عمر بن الخطاب مع أبي جندل يمشي إلى جنبه، ويقول: اصبر يا أبا جندل؛ فإنما هم المشركون؛ وإنما دم أحدهم دم كلب ! قال: ويدنى قائم السيف منه، قال: يقول عمر: رجوت أن يأخذ السيف فيضرب به أباه، قال: فضن الرجل بأبيه.
فلما فرغ من الكتاب أشهد على الصلح رجالاً من المسلمين، ورجالاً من المشركين: أ
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://arabelalekat.yoo7.com
الشيخ عودة
الشيخ عودة
الشيخ عودة



عدد المساهمات : 1748
تاريخ التسجيل : 28/09/2008
العمر : 73

كتاب : تاريخ الرسل والملوك المؤلف : الطبري - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: كتاب : تاريخ الرسل والملوك المؤلف : الطبري   كتاب : تاريخ الرسل والملوك المؤلف : الطبري - صفحة 2 Emptyالسبت ديسمبر 14, 2013 10:34 am

وأما الرواية الأخرى عن سلمة بن الأكوع في هذه السرية، أن أميرها كان أبا بكر بن أبي قحافة؛ حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا أبو عامر، قال: حدثنا عكرمة بن عمار، عن إياس بن سلمة، عن أبيه، قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم علينا أبا بكر؛ فغزونا ناساً من بني فزارة، فلما دنونا من الماء أمرنا أبو بكر فعرسنا، فلما صلينا الصبح، أمرنا أبو بكر فشننا الغارة عليهم.
قال: فوردنا الماء فقتلنا به من قتلنا. قال: فأبصرت عنقاً من الناس؛ وفيهم النساء والذراري قد كادوا يسبقون إلى الجبل، فطرحت سهماً بينهم وبين الجبل، فلما رأوا السهم وقفوا، فجئت بهم أسوقهم إلى أبي بكر؛ وفيهم امرأة من فزارة عليها قشع أدم، معها ابنة لها من أحسن العرب.
قال: فنفلني أبو بكر ابنتها، قال: فقدمت المدينة، فلقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسوق، فقال: يا سلمة، لله أبوك ! هب لي المرأة ! فقلت: يا رسول الله، والله لقد أعجبتني وما كشفت لها ثوباً.
قال: فسكت عني حتى إذا كان من الغد لقيني في السوق، فقال: يا سلمة، لله أبوك ! هب لي المرأة، فقلت: يا رسول الله، والله ما كشفت لها ثوباً، وهي لك يا رسول الله. قال: فبعث بها رسول الله إلى مكة؛ ففادى بها أسارى من المسلمين كانوا في أيدي المشركين. فهذه رواية عن سلمة.
قال محمد بن عمر: وفيها سرية كرز بن جابر الفهري إلى العرنيين الذين قتلوا راعي رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستاقوا الإبل في شوال من سنة ست؛ وبعثه رسول الله في عشرين فارساً.
ذكر خروج رسل رسول الله إلى الملوكقال: وفيها بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الرسل؛ فبعث ذي الحجة ستة نفر: ثلاثة مصطحبين، حاطب بن أبي بلتعة من لخم حليف بني أسد بن عبد العزى إلى المقوقس، وشجاع بن وهب من بني أسد بن خزيمة - حليفاً لحرب بن أمية شهد بدراً - إلى الحارث بن أبي شمر الغساني، ودحية ابن خليفة الكلبي إلى قيصر.
وبعث سليط بن عمرو العامري عامر بن لؤي إلى هوذة بن علي الحنفي. وبعث عبد الله بن حذافة السهمي إلى كسرى.وعمرو بن أمية الضمري إلى النجاشي .
وأما ابن أسحاق، فإنه - فيما زعم، وحدثنا به ابن حميد - قال: حدثنا سلمة، عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد فرق رجالاً من أصحابه إلى ملوك العرب والعجم، دعاةً إلى الله عز وجل فيما بين الحديبية ووفاته.
وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني ابن إسحاق، عن يزيد بن أبي حبيب المصري، أنه وجد كتاباً فيه تسمية من بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ملوك الخائبين، وما قال لأصحابه حين بعثهم، فبعث به إلى ابن شهاب الزهري، مع ثقة من أهل بلدة فعرفه.
وفي الكتاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على أصحابه ذات غداة، فقال لهم: إني بعثت رحمةً وكافة؛ فأدوا عني يرحمكم الله، ولا تختلفوا علي كاختلاف الحواريين على عيسى بن مريم، قالوا: يا رسول الله، وكيف كان اختلافهم ؟ قال: دعا إلى مثل ما دعوتكم إليه، فأما من قرب به فأحب وسلم، وأما من بعد به فكره وأبى؛ فشكا ذلك منهم عيسى إلى الله عز وجل، فأصبحوا من ليلتهم تلك؛ وكل رجل منهم يتلكم بلغة القوم الذين بعث إليهم. فقال عيسى: هذا أمرٌ قد عزم الله لكم عليه؛ فامضوا.
قال ابن إسحاق: ثم فرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصحابه؛ فبعث سليط بن عمرو بن عبد شمس بن عبد ود أخا بني عامر بن لؤي إلى هوذة بن علي، صاحب اليمامة.
وبعث العلاء بن الحضرمي إلى المنذر بن ساوى أخي بني عبد القيس صاحب البحرين، وعمرو بن العاص إلى جيفر بن جلندي وعباد بن جلندي الأزديين صاحبي عمان.
وبعث حاطب بن أبي بلتعة إلى المقوقس صاحب الإسكندرية؛ فأدى إليه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأهدى المقوقس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع جوار، منهن مارية أم إبراهيم بن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وبعث رسول الله دحية بن خليفة الكلبي ثم الخزجي إلى قيصر، وهو هرقل ملك الروم؛ فلما أتاه بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم نظر فيه ثم جعله بين فخذيه وخاصرته.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن ابن شهاب الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن عبد الله ابن عباس، قال: حدثني أبو سفيان بن حرب، قال: كنا قوماً تجاراً، وكانت الحرب بيننا وبين رسول الله قد حصرتنا حتى نهكت أموالنا؛ فلما كانت الهدنة بيننا وبين رسول الله، لم نأمن ألا نجد أمناً؛ فخرجت في نفر من قريش تجار إلى الشأم؛ وكان وجه متجرنا منها غزة، فقدمناها حين ظهر هرقل على من كان بأرضه من فارس، وأخرجهم منها، وانتزع له منهم صليبه الأعظم؛ وكانوا قد استلبوه إياه، فلما بلغ ذلك منهم، وبلغه أن صليبه قد استنقذ له - وكانت حمص منزله - خرج منها يمشي على قدميه متشكراً لله حين رد عليه مارد، ليصلي في بيت المقدس، تبسط له البسط، وتلقى عليها الرياحين، فلما انتهى إلى إبلياء وقضى فيها صلاته، ومعه بطارقته وأشراف الروم، أصبح ذات غداة مهموماً يقلب طرفه إلى السماء، فقال له بطارقته: والله لقد أصبحت أيها الملك الغداة مهموماً. قال: أجل، أريت في هذه الليلة أن ملك الختان ظاهرٌ ! قالوا له :أيها الملك، ما نعلم أمةً تختتن إلا يهود، وهم في سلطانك وتحت يدك؛ فابعث إلى كل من لك عليه سلطان في بلادك، فمره فليضرب أعناق كل من تحت يديه من يهود، واسترح من هذا الهم، فوالله إنهم لفي ذلك من رأيهم يديرونه؛ إذ أتاه رسول صاحب بصرى برجل من العرب، يقوده - وكانت الملوك تهادى الأخبار بينها - فقال: أيها الملك، إن هذا الرجل من العرب من أهل الشاء والإبل، يحدث عن أمر حدث ببلاده عجب، فسله عنه.
فلما انتهى به إلى هرقل رسول صاحب بصرى، قال هرقل لترجمانه: سله، ما كان هذا الحدث الذي ببلاده ؟ فسأله فقال: خرج بين أظهرنا رجلٌ يزعم أنه نبي، قد اتبعه ناسٌ وصدقوه، وخالفه ناس؛ وقد كانت بينهم ملاحم في مواطن كثيرة، فتركتهم على ذلك.
قال: فلما أخبره الخبر قال: جردوه، فجردوه، فإذا هو مختون، فقال هرقل: هذا والله الذي رأيت؛ لا ما تقولون، أعطوه ثوبه، انطلق عنا.
ثم دعا صاحب شرطته، فقال له: قلب لي الشأم ظهراً وبطناً؛ حتى تأتيني برجل من قوم هذا الرجل - يعني النبي صلى الله عليه وسلم.
قال أبو سفيان : فوالله إنا لبغزة. إذ هجم علينا صاحب شرطته؛ فقال: أنتم من قوم هذا الرجل الذي بالحجاز ؟ قلنا: نعم، قال: انطلقوا بنا إلى الملك؛ فانطلقنا؛ فلما انتهينا إليه قال: أنتم من رهط هذا الرجل ؟ قلنا: نعم، قال: فأيكم أمس به رحماً ؟ قلت: أنا.
قال أبو سفيان: وايم الله ما رأيت من رجل أرى أنه كان أنكر من ذلك الأغلف - يعني هرقل - فقال: ادنه فأقعدني بين يديه، وأقعد أصحابي خلفي، ثم قال: إني سأسأله؛ فإن كذب فردوا عليه؛ فوالله لو كذبت ما رودوا علي، ولكني كنت أمراً سيداً أتكرم عن الكذب؛ وعرفت أن أيسر ما في ذلك إن أنا كذبته أن يحفظوا ذلك علي؛ ثم يحدثوا به عني؛ فلم أكذبه، فقال: أخبرني عن هذا الرجل الذي خرج بين أظهركم يدعي ما يدعي ! فقال: فجعلت أزهد له شأنه، وأصغر له أمره؛ وأقول له: أيها الملك، ما يهمك من أمره! إن شأنه دون ما يبلغك، فجعل لا يلتفت إلى ذلك، ثم قال: أنبئني عما أسألك عنه من شأنه.
قلت: سل عما بدا لك؛ قال: كيف نسبه فيكم ؟ قلت: محضٌ؛ أوسطنا نسباً.
قال: فأخبرني هل كان أحد من أهل بيته يقول مثل ما يقول، فهو يتشبه به ؟ قلت: لا، قال: فهل كان له فيكم ملكٌ فاستلبتموه إياه، فجاء بهذا الحديث لتردوا عليه ملكه ؟ قلت: لا، قال: فأخبرني عن أتباعه منكم، من هم ؟ قال: قلت: الضعفاء والمساكين والأحداث من العلمان والنساء، وأما ذوو الأسنان والشرف من قومه، فلم يتبعه منهم أحدٌ.

قال: فأخبرني عمن تبعه، أيحبه ويلزمه أم يقليه ويفارقه ؟ قال: قلت: ما تبعه رجل ففارقه. قال: فأخبرني كيف الحرب بينكم وبينه ؟ قال: قلت: سجالٌ يدال علينا وندال عليه؛ قال: فأخبرني هل يغدر ؟ فلم أجد شيئاً مما سألني عنه أغمزه فيه غيرها: قلت: لا، ونحن منه في هدنة، ولا نأمن غدره. قال: فوالله ما التفت إليها مني، ثم كر على الحديث. قال: سألتك كيف نسبه فيكم فزعمت أنه محضٌ، من أوسطكم نسباً؛ وكذلك يأخذ الله النبي إذا أخذه؛ لا يأخذ إلا من أوسط قومه نسباً. وسألتك: هل كان أحدٌ من أهل بيته يقول بقوله؛ فهو يتشبه به؛ فزعمت أن لا؛ وسألتك: هل كان له فيكم ملكٌ فاستلبتموه إياه؛ فجاء بهذا الحديث يطلب به ملكه ؟ فزعمت أن لا. وسألتك عن أتباعه، فزعمت أنهم الضعفاء والمساكين والأحداث والنساء؛ وكذلك أتباع الأنبياء في كل زمان، وسألتك عمن يتبعه، أيحبه ويلزمه أم يقليه ويفارقه ؟ فزعمت أنه لا يتبعه أحدٌ فيفارقه؛ وكذلك حلاوة الإيمان لا تدخل قلباً فتخرج منه. وسألتك: هل يغدر ؟ فزعمت أن لا؛ فلئن كنت صدقتني عنه ليغلبني على ما تحت قدمي هاتين؛ ولوددت أني عنده فأغسل قدميه. انطلق لشأنك.
قال: فقمت من عنده وأنا أضرب إحدى يدي بالأخرى؛ وأقول: أي عباد الله؛ لقد أمر أمر ابن أبي كبشة ! أصبح ملوك بني الأصفر يهابونه في سلطانهم بالشام ! قال: وقدم عليه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مع دحية بن خليفة الكلبي: بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم. السلام على من اتبع الهدى. أما بعد: أسلم تسلم، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين؛ وإن تتول فإن إثم الأكارين عليك - يعني تحماله .
حدثنا سفيان بن وكيع، قال: حدثنا يحيى بن آدم، قال: حدثنا عبد الله بن إدريس، قال: حدثنا محمد بن إسحاق، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس، قال: أخبرني أبو سفيان ابن حرب، قال: لما كانت الهدنة بيننا وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية، خرجت تاجراً إلى الشام. ثم ذكر نحو حديث ابن حميد، عن سلمة، إلا أنه زاد في آخره: قال: فأخذ الكتاب فجعله بين فخذيه وخاصرته.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني ابن إسحاق، قال: قال ابن شهاب الزهري: حدثني أسقفٌ للنصارى أدركته في زمان عبد الملك بن مروان، أنه أدرك ذلك من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر هرقل وعقله، قال: فلما قدم عليه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مع دحية بن خليفة، أخذه هرقل، فجعله بين فخذيه وخاصرته.
ثم كتب إلى رجل برومية كان يقرأ من العبرانية ما يقرءونه؛ يذكر له أمره، ويصف له شأنه، ويخبره بما جاء منه؛ فكتب إليه صاحب رومية: إنه للنبي الذي كنا ننتظره؛ لا شك فيه؛ فاتبعه وصدقه.
فأمر هرقل ببطارقة الروم؛ فجمعوا له في دسكرة، وأمر بها فأشرجت أبوابها عليهم؛ ثم اطلع عليهم من علية له؛ وخافهم على نفسه، وقال: يا معشر الروم؛ إنني قد جمعتكم لخير؛ إنه قد أتاني كتاب هذا الرجل يدعوني إلى دينه، وإنه والله للنبي الذي كنا ننتظره ونجده في كتبنا؛ فهلموا فلنتبعه ونصدقه، فتسلم لنا دنيانا وآخرتنا.
قال: فنخروا نخرة رجل واحد؛ ثم ابتدروا أبواب الدسكرة ليخرجوا منها فوجدوها قد أغلقت، فقال: كروهم علي - وخافهم على نفسه - فقال: يا معشر الروم؛ إني قد قلت لكم المقالة التي قلت لأنظر كيف صلابتكم على دينكم لهذا الأمر الذي قد حدث؛ وقد رأيت منكم الذي أسر به؛ فوقعوا له سجداً؛ وأمر بأبواب الدسكرة ففتحت لهم؛ فانطلقوا.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثنا محمد بن إسحاق، عن بعض أهل العلم، أن هرقل قال لدحية بن خليفة حين قدم عليه بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: ويحك ! والله إني لأعلم أن صاحبك نبيٌ مرسل؛ وأنه الذي كنا ننتظره ونجده في كتابنا؛ ولكني أخاف الروم على نفسي؛ ولولا ذلك لأتبعته؛ فاذهب إلى صغاطر الأسقف فاذكر لهم أمر صاحبكم؛ فهو والله أعظم في الروم منى، وأجوز قولا عندهم منى؛ فانظر ما يقول لك.
قال: فجاءه دحية؛ فأخبره بما جاء به من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل، وبما يدعوه إليه، فقال صغاطر: صاحبك والله نبي مرسل؛ نعرفه بصفته، ونجده في كتبنا باسمه.

ثم دخل فألقى ثياباً كانت عليه سوداً، ولبس ثيابا بيضا، ثم أخذ عصاه؛ فخرج على الروم وهم في الكنيسة، فقال: يا معشر الروم؛ إنه قد جاءنا كتابٌ من أحمد؛ يدعونا فيه إلى الله عز وجل؛ وإني أشهد أن لا إله إلا الله وأن أحمد عبده ورسوله.
قال: فوثبوا عليه وثبة رجل واحد، فضربوه حتى قتلوه. فلما رجع دحية إلى هرقل فأخبره الخبر قال: قد قلت لك: إنا نخافهم على أنفسنا؛ فصغاطر - والله - كان أعظم عندهم وأجوز قولاً مني.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثنا محمد بن إسحاق، عن خالد بن يسار، عن رجل من قدماء أهل الشام ، قال: لما أراد هرقل الخروج من أرض الشأم إلى القسطنطينة ، لما بلغه من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، جمع الروم، فقال: يا معشر الروم؛ إني عارضٌ عليكم أموراً، فانظروا فيهم قد أردتها ! قالوا: ما هي ؟ قال: تعلمون والله أن هذا الرجل لنبي مرسلٌ؛ إنا نجده في كتابنا نعرفه بصفته التي وصف لنا، فهلم فلنتبعه، فتسلم لنا دنيانا وآخرتنا، فقالوا: نحن نكون تحت يدي العرب، ونحن أعظم الناس ملكاً، وأكثرهم رجالاً، وأفضلهم بلداً ! قال: فهلم فأعطيه الجزية في كل سنة، اكسروا عني شوكته وأستريح من حربه بمال أعطيه إياه، قالوا: نحن نعطي العرب الذل والصغار، بخرجٍ يأخذونه منا؛ ونحن أكثر الناس عدداً، وأعظمهم ملكاً، وأمنعهم بلداً؛ لا والله لا نفعل هذا أبداً.
قال: فهلم فلأصالحه على أن أعطيه أرض سورية، ويدعني وأرض الشام - قال: وكانت أرض سورية أرض فلسطين والأردن ودمشق وحمص ومادون الدرب من أرض سورية؛ وكان ما وراء الدرب عندهم الشام - فقالو له: نحن نعطيه أرض سورية؛ وقد عرفت أنها سرة الشام؛ والله لا نفعل هذا أبداً.
فلما أبوا عليه، قال: أما والله لترون أنكم قد ظفرتم إذا امتنعتم منه في مدينتكم. ثم جلس على بغل له؛ فأنطلق حتى إذا أشرف على الدرب استقبل أرض الشام، ثم قال: السلام عليكم أرض سورية تسليم الوداع، ثم ركض حتى دخل القسطنطينية.
قال ابن إسحاق: وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم شجاع بن وهب، أخا بني أسد بن خزيمة إلى المنذر بن الحارث بن أبي شمر الغساني؛ صاحب دمشق .
وقال محمد بن عمر الواقدي: وكتب إليه معه: سلام على من اتبع الهدى وآمن به. إني أدعوك إلى أن تؤمن بالله وحده لا شريك له يبقى لك ملكك.
فقدم به شجاع بن وهب، فقرأه عليهم، فقال: من ينزع منى ملكي ! أنا سائر إليه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: باد ملكه ! حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثنا ابن إسحاق، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية الضمري إلى النجاشي في شان جعفر بن أبي طالب وأصحابه؛ وكتب معه كتاباً.
بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول الله إلى النجاشي الأصحم ملك الحبشة، سلمٌ أنت؛ فإني أحمد إليك الله الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن؛ وأشهد أن عيسى بن مريم روح الله وكلمته، ألقاها إلى مريم البتول الطيبة الحصينة، فحملت بعيسى؛فخلقه الله من روحه ونفخه كما خلق آدم بيده ونفخه، وإني أدعوك إلى الله وحده لا شريك له؛ والموالاة على طاعته؛ وأن تتبعني وتؤمن بالذي جاءني؛ فإني رسول الله، وقد بعثت إليك ابن عمي جعفراً ونفراً معه من المسلمين؛ فإذا جاءك فأقرهم، ودع التجبر؛ فإني أدعوك وجنودك إلى الله؛ فقد بلغت ونصحت؛ فاقبلوا نصحي، والسلام على من اتبع الهدى.
فكتب النجاشي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: بسم الله الرحمن الرحيم، إلى محمد رسول الله، من النجاشي الأصحم بن أبجر. سلام عليك يا نبي الله ورحمة الله وبركاته، من الله الذي لا إله إلا هو، الذي هداني إلى الإسلام. أما بعد؛ فقد بلغني كتابك يا رسول الله فيما ذكرت من أمر عيسى، فورب السماء والأرض إن عيسى ما يزيد على ما ذكرت ثفروقاً؛ إنه كما قلت؛ وقد عرفت ما بعثت به إلينا؛ وقد قرينا ابن عمك وأصحابه؛ فأشهد أنك رسول الله صادقاً مصدقا؛ وقد بايعتك وبايعت ابن عمك؛ وأسلمت على يديه لله رب العالمين؛ وقد بعثت إليك با بني أرها بن الأصحم ابن أبجر؛ فإني لا أملك إلا نفسي؛ وإن شئت أن آتيك فعلت يا رسول الله؛ فإني أشهد أن ما تقول حق، والسلام عليك يا رسول الله.

قال ابن إسحاق: وذكر لي أن النجاشي بعث ابنه في ستين من الحبشة في سفينة؛ فإذ كانوا في وسط من البحر غرقت بهم سفينتهم، فهلكوا.
وحدثت عن محمد بن عمر، قال: أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي ليزوجه أم حبيبة بنت أبي سفيان؛ ويبعث بها إليه مع من عنده من المسلمين، فأرسل النجاشي إلى أم حبيبة ليخبرها بخطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم إياها جارية له يقال لها أبرهة؛ فأعطتها أوضاحاً لها وفتخاً؛ سرورا بذلك، وأمرها أن توكل من يزوجها، فوكلت خالد بن سعيد بن العاص، فزوجها، فخطب النجاشي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخطب خالد فأنكح أم حبيبة، ثم دعا النجاشي بأربعمائة دينار صداقها؛ فدفعها إلى خالد بن سعيد؛ فلما جاءت أم حبيبة تلك الدنانير، قال: جاءت بها أبرهة فأعطتها خمسين مثقالا، وقالت: كنت أعطيتك ذلك؛ وليس بيدي شىء، وقد جاء الله عز وجل بهذا.
فقالت أبرهة: قد أمرني الملك ألا آخذ منك شيئا؛ وأن أرد إليك الذي أخذت منك، فرددته وأنا صاحبة دهن الملك وثيابه، وقد صدقت محمداً رسول الله وآمنت به؛ وحاجتي إليك أن تقرئيه مني السلام.
قالت: نعم؛ وقد أمر الملك نساءه أن يبعثن إليك بما عندهن من عود وعنبر؛ فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يراه عليها وعندها فلا ينكره.
قالت أم حبيبة: فخرجنا في سفينتين؛ وبعث معنا النواتي حتى قدمنا الجار، ثم ركبنا الظهر إلى المدينة؛ فوجدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر، فخرج من خرج إليه، وأقمت بالمدينة حتى قدم رسول الله؛ فدخلت إليه، فكان يسائلني عن النجاشي؛ وقرأت عليه من أبرهة السلام، فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها؛ ولما جاء أبا سفيان تزويج النبي صلى الله عليه وسلم أم حبيبة قال: ذلك الفحل لا يقدع أنفه.
وفيها كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى كسرى، وبعث الكتاب مع عبد الله بن حذافة السهمي؛ فيه: بسم الله الرحمن الرحيم؛ من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم فارس. سلامٌ على من اتبع الهدى، وآمن بالله ورسوله؛ وشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، إلى الناس كافة، لينذر من كان حيا؛ أسلم تسلم، فإن أبيت فعليك إثم المجوس.
فمزق كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله: مزق ملكه ! حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن يزيد بن حبيب، قال: وبعث عبد الله بن حذافة بن قيس بن عدي بن سعد بن سهم، إلى كسرى بن هرمز ملك فارس وكتب معه: بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم فارس؛ سلام على من اتبع الهدى، وآمن بالله ورسوله، وشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ وأن محمدا عبده ورسوله؛ وأدعوك بدعاء الله؛ فإني أنا رسول الله إلى الناس كافة لأنذر من كان حياً ويحق القول على الكافرين، فأسلم تسلم، فإن أبيت؛ فإن إثم المجوس عليك.
فلما قرأه مزقه، وقال: يكتب إلى هذا وهو عبدي ! حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر، عن الزهري، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف؛ أن عبد الله بن حذافة قدم بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على كسرى، فلما قرأه شقه، فقال رسول الله: مزق ملكه ! حين بلغه أنه شق كتابه.
ثم رجع إلى حديث يزيد بن أبي حبيب. قال: ثم كتب كسرى إلى باذان؛ وهو على اليمن: أن ابعث إلى هذا الرجل الذي بالحجاز رجلين من عندك جلدين، فليأتياني به؛ فبعث باذان قهرمانه وهو بابويه - وكان كاتباً حاسباً بكتاب فارس - وبعث معه رجلا من الفرس يقال له خر خسره، وكتب معهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمره أن ينصرف معهما إلى كسرى، وقال لبابويه: ائت بلد هذا الرجل، وكلمه وأتني بخبره، فخرجا حتى قدما الطائف فوجدا رجالا من قريش بنخب من أرض الطائف فسألاهم عنه، فقالوا: هو بالمدينة، واستبشروا بهما وفرحوا؛ وقال بعضهم لبعض: أبشروا فقد نصب له كسرى ملك الملوك، كفيتم الرجل !

فخرجا حتى قدما على رسول الله صلى اللعه عليه وسلم، فكلمه بابويه، فقال: إن شاهانشاه ملك الملوك كسرى؛ قد كتب إلى الملك باذان، يأمره أن يبعث إليك من يأتيه بك؛ وقد بعثني إليك لتنطلق معي؛ فإن فعلت كتب فيك إلى ملك الملوك ينفعك ينفعك ويكفه عنك؛ وإن أبيت فهو من قد علمت ! فهو مهلكك ومهلك قومك، ومخرب بلادك؛ ودخلا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد حلقا لحاهما، وأعفيا شواربهما؛ فكره النظر إليهما، ثم أقبل عليهما فقال: ويلكما ! من أمركما بهذا ؟ قالا: أمرنا بهذا ربنا - يعنيان كسرى - فقال رسول الله: لكن ربي قد أمرني بإعفاء لحيتي وقص شاربي. ثم قال لهما: ارجعا حتى تأتياني غداً، وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر من السماء أن الله قد سلط على كسرى ابنه شيرويه؛ فقتله في شهر كذا وكذا ليلة كذا وكذا من الليل؛ بعد ما مضى من الليل؛ سلط عليه ابنه شيرويه فقتله.
- قال الواقدي: قتل شيرويه أباه كسرى ليلة الثلاثاء لعشر ليال مضين من جمادى الأولى من سنة سبع لست ساعات مضت منها - رجع الحديث إلى حديث محمد بن إسحاق، عن يزيد بن أبي حبيب. فدعاهما فأخبرهما، فقالا: هل تدري ما تقول ! إنا قد نقمنا عليك ما هو أيسر من هذا؛ أفنكتب هذا عنك، ونخبره الملك ! قال: نعم، أخبراه ذلك عني، وقولا له: إن ديني وسلطاني سيبلغ ما بلغ ملك كسرى، وينتهي إلى منتهى الخف والحافر؛ وقولا له: إنك إن أسلمت أعطيتك ما تحت يديك؛ وملكتك على قومك من الأبناء؛ ثم أعطى خرخسره منطقة فيها ذهب وفضة، كان أهداها له بعض الملوك.
فخرجا من عنده حتى قدما على باذان، فأخبراه الخبر، فقال: والله ما هذا بكلام ملك، وإني لأرى الرجل نبياً كما يقول؛ ولننظرن ما قد قال؛ فلئن كان هذا حقا ما فيه كلامٌ؛ إنه لنبي مرسلٌ؛ وإن لم يكن فسنرى فيه رأينا.
فلم ينشب باذان أن قدم عليه كتاب شيرويه؛ أما بعد فإني قد قتلت كسرى، ولم أقتله إلا غضباً لفارس لما كان استحل من قتل أشرافهم وتجميرهم في ثغورهم؛ فإذا جاءك كتابي هذا فخذ لي الطاعة ممن قبلك؛ وانظر الرجل الذي كان كسرى كتب فيه إليك فلا تهجه حتى يأتيك أمري فيه.
فلما انتهى كتاب شيرويه إلى باذان قال: إن هذا الرجل لرسولٌ. فأسلم وأسلمت الأبناء معه من فارس من كان منهم باليمن؛ فكانت حمير تقول لخرخسره: ذو المعجزة، للمنطقة التي أعطاها إياها رسول الله صلى الله عليه وسلم - والمنطقة بلسان حمير المعجزة - فبنوه اليوم ينسبون إليها خرخسره ذو المعجزة.
وقد قال بابويه لباذان: ما كلمت رجلاً قط أهيب عندي منه، فقال له باذان: هل معه شرطٌ ؟ قال: لا.
قال الواقدي: وفيها كتب إلى المقوقس عظيم القبط، يدعوه إلى الإسلام فلم يسلم.
قال أبو جعفر: ولما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة الحديبية إلى المدينة أقام بها ذا الحجة وبعض المحرم - فيما حدثنا ابن حميد قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق.
قال: و ولى الحج في تلك السنة المشركون.
الجزء الثالث
بسم الله الرحمن الرحيم
ذكر الأحداث الكائنة في سنة سبع من الهجرة
غزوة خيبر
ثم دخلت سنة سبع؛ فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في بقية المحرم إلى خبير وأستخلف على المدينة سباع بن عرفطة الغفاري، فمضى حتى نزل بجيشه بواد يقال له الرجيع؛ فنزل بين أهل خيبر وبين غطفان - فيما حدثنا ابن حميد قال حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق - ليحول بينهم وبين أن يمدوا أهل خيبر؛ وكانوا لهم مظاهرين على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال: فبلغني أن غطفان لما سمعت بمنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر، جمعوا له، ثم خرجوا ليظاهروا يهود عليه؛ حتى إذا ساروا منقلة سمعوا خلفهم في أموالهم وأهاليهم حساً؛ ظنوا أن القوم قد خالفوا إليهم، فرجعوا على أعقابهم؛ فأقاموا في أهاليهم وأموالهم؛ وخلوا بين رسول الله وبين خيبر، وبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأموال يأخذها مالاً مالا، ويفتتحها حصناً حصناً؛ فكان أول حصونهم أفتتح حصن ناعم؛ وعنده قتل محمود بن مسلمة؛ ألقيت عليه رحاً منه فقتلته؛ ثم القموص؛ حصن ابن أبي الحقيق. وأصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم سبايا؛ منهم صفية بنت حيى بن أخطب، وكانت عند كنانة بن الربيع بن أبي الحقيق؛ وابنتي عم لها. فاصطفى رسول الله صلى الله عليه وسلم صفية لنفسه، وكان دحية الكلبي قد سأل رسول الله صفية؛ فلما اصطفاها لنفسه أعطاه ابنتي عمها؛ وفشت السبايا من خيبر في المسلمين .
قال: ثم جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يتدنى الحصون والأموال.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر؛ أنه حدثه بعض أسلم؛ أن بني سهم من أسلم، أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله؛ والله لقد جهدنا وما بأيدينا شيء؛ فلم يجدوا عند رسول الله شيئاً يعطيهم إياه، فقال النبي: اللهم إنك قد عرفت حالهم، وأن ليست بهم قوة؛ وأن ليس بيدي شيء أعطيهم إياه؛ فافتح عليهم أعظم حصونها ؛ وأكثرها طعاماً وودكاً. فغدا الناس، ففتح الله عليهم حصن الصعب بن معاذ؛ وما بخيبر حصن كان أكثر طعاماً وودكاً منه.
قال: ولما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم من حصونهم ما أفتتح، وحاز من الأموال ما حاز، انتهوا إلى حصنهم الوطيح والسلالم - وكان آخر حصون خيبر أفتتح - حاصرهم رسول الله بضع عشرة ليلة .
فحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن سهل بن عبد الرحمن بن سهل أخي بني حارثة، عن جابر بن عبد الله الأنصاري، قال: خرج مرحب اليهودي من حصنهم؛ قد جمع سلاحه وهو يرتجز؛ ويقول:
قد علمت خيبر أني مرحب ... شاكي السلاح بطل مجرب
أطعن أحياناً وحيناً أضرب ... إذا الليوث أقبلت تحرب
كان حماي، للحمى لا يقرب
وهو يقول: هل من مبارز! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من لهذا؟ فقام محمد بن مسلمة؛ فقال: أنا له يا رسول الله؛ أنا والله الموتور الثائر؛ قتلوا أخي بالأمس! قال: فقم إليه؛ اللهم أعنه عليه.
فلما أن دنا كل واحد منهما من صاحبه، دخلت بينهما شجرة عمرية من شجر العشر ؛ فجعل أحدهما يلوذ بها من صاحبه؛ فكلما لاذ بها أقتطع بسيفه منها ما دونه منها؛ حتى برز كل واحد منهما لصاحبه، وصارت بينهما كالرجل القائم، ما بينهما فنن؛ ثم حمل مرحب على محمد فضربه؛ فاتقاه بالدرقة فوقع سيفه فيها؛ فعضت به فأمسكته، وضربه محمد أبن مسلمة حتى قتله .
ثم خرج بعد مرحب أخوه ياسر، يرتجز ويقول:
قد علمت خيبر أني ياسر ... شاكي السلاح بطل مغاور
إذا الليوث أقبلت تبادر ... وأحجمت عن صولتي المغاور
إن حماي فيه موت حاضر
وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد أبن إسحاق، عن هشام بن عروة؛ أن الزبير بن العوام خرج إلى ياسر، فقالت أمه صفية بنت عبد المطلب: أيقتل أبني يا رسول الله؟ قال: بل أبنك يقتله إن شاء الله. فخرج الزبير وهو يقول:
قد علمت خيبر أني زبار ... قرم لقوم غير نكس فرار
ابن حماة المجد وأبن الأخيار ... ياسر لا يغررك جمع الكفار
فجمعهم مثل السراب الجرار
ثم ألتقيا فقتله الزبير.

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا عوف، عن ميمون أبي عبد الله، أن عبد الله بن بريدة حدث عن بريدة الأسلمي، قال: لما كان حين نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بحصن أهل خيبر، أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم اللواء عمر بن الخطاب، ونهض من نهض معه من الناس؛ فلقوا أهل خيبر؛ فانكشف عمر وأصحابه، فرجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ يجبنه أصحابه ويجبنهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لأعطين اللواء غداً رجلاً يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله. فلما كان من الغد تطاول لها أبو بكر وعمر؛ فدعا علياً عليه السلام وهو أرمد، فتفل في عينيه، وأعطاه اللواء؛ ونهض معه من الناس من نهض. قال: فلقي أهل خيبر؛ فإذا مرحب يرتجز ويقول:
قد علمت خيبر أني مرحب ... شاكي السلاح بطل مجرب
أطعن أحياناً وحيناً أضرب ... إذا الليوث أقبلت تلهب
فأختلف هو وعلى ضربتين، فضربه على على هامته؛ حتى عض السيف منها بأضراسه ؛ وسمع أهل العسكر صوت ضربته ؛ فما تتام آخر الناس مع على عليه السلام حتى فتح الله له ولهم.
حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا يونس بن بكير، قال: حدثنا المسيب بن مسلم الأودي، قال: حدثنا عبد الله بن بريدة، عن أبيه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ربما أخذته الشقيقة ، فيلبث اليوم واليومين لا يخرج. فلما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر أخذته الشقيقة فلم يخرج إلى الناس. وإن أبا بكر أخذ راية رسول الله؛ ثم نهض فقاتل قتالاً شديداً؛ ثم رجع فأخذها عمر فقاتل قتالاً شديداً هو أشد من القتال الأول؛ ثم رجع فأخبر بذلك رسول الله، فقال: أما والله لأعطينها غداً رجلاً يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، يأخذها عنوة - قال: وليس ثم على عليه السلام - فتطاولت لها قريش، ورجا كل واحد منهم أن يكون صاحب ذلك؛ فأصبح فجاء علي عليه السلام على بعير له، حتى أناخ قريباً من خباء رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أرمد، وقد عصب عينيه بشقة برد قطري؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مالك؟ قال: رمدت بعد ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أدن منى، فدنا فتفل في عينيه، فما وجعهما حتى مضى لسبيله. ثم أعطاه الراية؛ فنهض بها معه وعليه حلة أرجوان حمراء قد أخرج خملها . فأتى مدينة خيبر؛ وخرج مرحب صاحب الحصن وعليه مغفر معصفر يمان، وحجر قد ثقبه مثل البيضة على رأسه، وهو يرتجز ويقول:
قد علمت خيبر أني مرحب ... شاكي السلاح بطل مجرب
فقال علي عليه السلام:
أنا الذي سمتني أمي حيدره ... أكيلكم بالسيف كيل السندره
ليث بغابات شديد قسوره
فأختلفا ضربتين؛ فبدره علي فضربه، فقد الحجر والمفغر ورأسه؛ حتى وقع في الأضراس. وأخذ المدينة.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن الحسن؛ عن بعض أهله، عن أبي رافع مولي رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: خرجنا مع علي بن أبي طالب حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم برايته؛ فلما دنا من الحصن خرج إليه أهله؛ فقاتلهم فضربه رجل من اليهود، فطرح ترسه من يده؛ فتناول علي رضي الله عنه باباً كان عند الحصن، فتترس به عن نفسه، فلم يزل في يده وهو يقاتل؛ حتى فتح الله عليه؛ ثم ألقاه من يده حين فرغ؛ فلقد رأيتني في نفر سبعة أنا ثامنهم، نجهد على أن نقلب ذلك الباب فما نقلبه .

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: ولما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم القموص، حصن ابن أبي الحقيق، أتى رسول الله بصفية بنت حيي بن أخطب، وبأخرى معها؛ فمر بهما بلال - وهو الذي جاء بهما - على قتلي من قتلي يهود، فلما رأتهم التي مع صفية صاحت وصكت وجهها، وحثت التراب على رأسها، فلما رآها رسول الله قال: أغربوا عني هذه الشيطانة؛ وأمر بصفية فحيزت خلفه، وألقي عليها رداؤه، فعرف المسلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اصطفاها لنفسه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لبلال - فيما بلغني - حين رأى من تلك اليهودية ما رأى: أنزعت منك الرحمة يا بلال؛ حيث تمر بامرأتين على قتلي رجالهما! وكانت صفية قد رأت في المنام وهي عروس بكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق؛ أن قمراً وقع في حجرها؛ فعرضت رؤياها على زوجها فقال: ما هذا إلا أنك تمنين ملك الحجاز محمداً، فلطم وجهها لطمة أخضرت عينها منها؛ فأتى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وبها أثر منها، فسألها: ما هو؟ فأخبرته هذا الخبر.
قال ابن إسحاق: وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق - وكان عنده كنز بني النضير - فسأله فجحد أن يكون يعلم مكانه؛ فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم برجل من يهود؛ فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إني قد رأيت كنانة يطيف بهذه الخربة كل غداة. فقال رسول الله لكنانة: أرأيت إن وجدناه عندك، أأقتلك؟ قال: نعم؛ فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخربة فحفرت؛ فأخرج منها بعض كنزهم؛ ثم سأله ما بقي. فأبى أن يؤديه، فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم الزبير بن العوام، فقال: عذبه حتى تستأصل ما عنده؛ فكان الزبير يقدح بزنده في صدره حتى أشرف على نفسه؛ ثم دفعه رسول الله إلى محمد بن مسلمة، فضرب عنقه بأخيه محمود بن مسلمة. وحاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل خيبر في حصنيهم، الوطيح والسلالم؛ حتى إذا أيقنوا بالهلكة سألوه أن يسيرهم ويحقن لهم دماءهم؛ ففعل. وكان رسول الله قد حاز الأموال كلها: الشق ونطاة والكتبية؛ وجميع حصونهم إلا ما كان من ذينك الحصنين. فلما سمع بهم أهل فدك قد صنعوا ما صنعوا بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه أن يسيرهم ويحقن دماءهم لهم، ويخلوا له الأموال أففعل، وكان فيمن مشى بينهم وبين رسول الله في ذلك محيصة بن مسعود؛ أخوبني حارثة؛ فلما نزل أهل خيبر على ذلك؛ سألوا رسول الله أن يعاملهم بالأموال على النصف، وقالوا: نحن أعلم بها منكم؛ وأعمر لها؛ فصالحهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على النصف؛ على أنا إذا شئنا أن نخرجكم أخرجناكم؛ وصالحه أهل فدك على مثل ذلك، فكانت خيبر فيئاً للمسلمين، وكانت فدك خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم لم يجلبوا عليها بخيل ولا ركاب. فلما اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهدت له زينب بنت الحارث امرأة سلام بن مشكم شاة مصلية ؛ وقد سألت: أي عضو من الشاة أحب إلى رسول الله؟ فقيل لها: الذراع؛ فأكثرت فيها السم، فسمت سائر الشاة، ثم جاءت بها، فلما وضعتها بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم تناول الذراع؛ فأخذها فلاك منها مضغة فلم يسغها؛ ومعه بشر بن البراء أبن معرور؛ وقد أخذ منها كما أخذ رسول الله، فأما بشر فأساغها؛ وأما رسول الله فلفظها، ثم قال: إن هذا العظم ليخبرني أنه مسموم؛ ثم دعا بها فاعترفت، فقال: ما حملك على ذلك؟ قالت: بلغت من قومي ما لم يخف عليك، فقلت: إن كان نبياً فسيخبر؛ وإن كان ملكاً استرحت منه؛ فتجاوز عنها النبي صلى الله عليه وسلم. ومات بشر بن البراء من إكلته التي أكل .
حدثنا ابن حميد؛ قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق؛ عن مروان بن عثمان بن أبي سعيد بن المعلي، قال: وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في مرضه الذي توفي فيه - ودخلت عليه أم بشر بن البراء تعوده: يا أم بشر؛ إن هذا الأوان وجدت انقطاع أبهري من الأكلة التي أكلت مع أبنك بخيبر.
قال: وكان المسلمون يرون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات شهيداً مع ما أكرمه الله به من النبوة.
قال ابن إسحاق: فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر أنصرف إلى وادي القرى فحاصر أهله ليالي، ثم أنصرف راجعاً إلى المدينة.

ذكر غزوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وادي القرى حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن ثور ابن زيد، عن سالم مولى عبد الله بن مطيع، عن أبي هريرة، قال: لما انصرفنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر إلى وادي القرى، نزلنا أصلاً مع مغارب الشمس، ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم غلام له ؛ أهداه إليه رفاعة بن زيد الجذامي، ثم الضبيبي ؛ فو الله إنا لنضع رحل رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أتاه سهم غرب ؛ فأصابه فقتله، فقلنا: هنيئاً له الجنة! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كلا والذي نفس محمد بيده؛ إن شملته الآن لتحرق عليه في النار. قال: وكان غلها من فئ المسلمين يوم خيبر.
قال: فسمعها رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاه، فقال: يا رسول الله، أصبت شراكين لنعلين لي، قال: فقال: يقد لك مثلهما من النار .
وفي هذه السفرة نام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه عن صلاة الصبح حتى طلعت الشمس؛ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، قال: لما أنصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر؛ وكان ببعض الطريق، قال من آخر الليل: من رجل يحفظ علينا الفجر، لعلنا ننام؟ فقال بلال: أنا يا رسول الله أحفظ لك؛ فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونزل الناس فناموا؛ وقام بلال يصلي، فصلى ما شاء الله أن يصلي ثم أستند إلى بعيره؛ وأستقبل الفجر يرمقه؛ فغلبته عينه، فنام فلم يوقظهم إلا مس الشمس ؛ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أول أصحابه هب من نومه، فقال: ماذا صنعت بنا يا بلال! فقال: يا رسول الله، أخذ بنفسي الذي أخذ بنفسك، قا : صدقت. ثم أقتاد رسول الله غير كثير، ثم أناخ فتوضأ وتوضأ الناس، ثم أمر بلالا فأقام الصلاة، فصلى بالناس، فلما سلم أقبل على الناس، فقال: إذا نسيتم الصلاة فصلوها إذا ذكرتموها، فإن الله عز وجل يقول: " وأقم الصلاة لذكري " .
قال ابن إسحاق: وكان فتح خيبر في صفر.
قال: وشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نساء من نساء المسلمين، فرضخ لهن رسول الله من الفيء ولم يضرب لهن بسهم.
أمر الحجاج بن علاط السلمي قال : ولما فتحت خيبر قال الحجاج بن علاط السلمي ثم البهزي لرسول الله صلى الله عليه وسلم : يا رسول الله ؛ إن لي مالاً بمكة عند صاحبتي أم شيبة بنت أبي طلحة - وكانت عنده، له منها معرض بن الحجاج - ومال متفرق في تجار أهل مكة، فأذن لي يا رسول الله. فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: إنه لا بد لي من أن أقول، قال: قل، قال الحجاج: فخرجت حتى إذا قدمت مكة، فوجدت بثينة البيضاء رجالاً من قريش يتسمعون الأخبار، ويسألون عن أمر رسول الله، وقد بلغهم أنه قد سار إلى خيبر، وقد عرفوا أنها قرية الحجاز؛ ريفاً ومنعه ورجالاً، فهم يتحسسون الأخبار؛ فلما رأوني قالوا: الحجاج بن علاط - ولم يكونوا علموا بإسلامي - عنده والله الخبر! أخبرنا بأمر محمد، فإنه قد بلغنا أن القاطع قد سار إلى خيبر؛ وهي بلدة يهود وريف الحجاز. قال: قلت: قد بلغني ذلك، وعندي من الخبر ما يسركم. قال: فالتاطوا بجنبي ناقتي يقولون: إيه يا حجاج! قال: قلت: هزموا هزيمة لم تسمعوا بمثلها قط؛ وقتل أصحابه قتلاً لم تسمعوا بمثله قط، وأسر محمد أسراً، وقالوا: لن نقتله حتى نبعث به إلى مكة فيقتلوه بين أظهرهم بمن كان أصاب من رجالهم. قال: فقاموا فصاحوا بمكة وقالوا: قد جاءكم الخبر، وهذا محمد إنما تنتظرون أن يقدم به عليكم فيقتل بين أظهركم. قال: قلت: أعينوني على جمع مالي بمكة على غرمائي؛ فإني أريد أن أقدم خيبر، فأصيب من فل محمد وأصحابه قبل أن يسبقني التجار إلى ما هنالك.

قال: فقاموا فجمعوا مالي كأحث جمع سمعت به. فجئت صاحبتي فقلت: مالي - وقد كان لي عندها مال موصوع - لعلي ألحق بخيبر؛ فأصيب من فرص البيع قبل أن يسبقني إليه التجار. فلما سمع العباس بن عبد المطلب الخبر وجاءه عني، أقبل حتى وقف إلى جنبي؛ وأنا في خيمة من خيام التجار، فقال: يا حجاج، ما هذا الذي جئت به؟ قال: قلت: وهل عندك حفظ لما وضعت عندك؟ قال: نعم، قلت: فاستأخر عني حتى ألقاك على خلاء، فإني في جمع مالي كما ترى؛ فأنصرف عني حتى إذا فرغت من جمع كل شيء كان لي بمكة، وأجمعت الخروج، لقيت العباس، فقلت: أحفظ على حديثي يا أبا الفضل؛ فإني أخشى الطلب ثلاثاً، ثم قل ما شئت. قال: أفعل، قال: قلت فإني والله لقد تركت أبن أخيك عروساً على ابنة ملكهم - يعني صفية بنت حي أبن أخطب ولقد أفتتح خيبر، وأنتثل ما فيها؛ وصارت له ولأصحابه. قال: ما تقول يا حجاج؟؟؟؟؟؟! قال: قلت: إي والله؛ فأكتم على؛ ولقد أسلمت وما جئت إلا لآخذ مالي فرقاً من أن أغلب عليه، فإذا مضت ثلاث فأظهر أمرك؛ فهو والله على ما تحب. قال: حتى إذا كان اليوم الثالث لبس العباس حلة له، وتخلق وأخذ عصاه، ثم خرج حتى أتى الكعبة، فطاف بها؛ فلما رأوه قالوا: يا أبا الفضل؛ هذا والله التجلد لحر المصيبة! قال: كلا والذي حلفتم به! لقد أفتتح محمد خيبر، وترك عروساً على ابنة ملكهم، وأحرز أموالها وما فيها؛ فأصبحت له ولأصحابه. قالوا: من جاءك بهذا الخبر؟ قال: الذي جاءكم به؛ لقد دخل عليكم مسلماً، وأخذ ماله وأنطلق ليلحق برسول الله وأصحابه فيكون معه، قالوا: يال عباد الله! أفلت عدو الله! أما والله لو علمنا لكان لنا وله شأن، ولم ينشبوا أن جاءهم الخبر بذلك ذكر مقاسم خيبر وأموالها حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: حدثني عبد الله بن أبي بكر، قال: كانت المقاسم على أموال خيبر على الشق ونطاة والكتيبة؛ فكانت الشق ونطاة في سهمان المسلمين، وكانت الكتيبة خمس الله عز وجل وخمس النبي صلى الله عليه وسلم؛ وسهم ذوي القربى واليتامى والمساكين وأبن السبيل، وطعم أزواج النبي، وطعم رجال مشوا بين رسول الله وبين أهل فدك بالصلح؛ منهم محيصة أبن مسعود، أعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم منها ثلاثين وسق شعير، وثلاثين وسق تمر. وقسمت خيبر على أهل الحديبية؛ من شهد منهم خيبر ومن غاب عنها، ولم يغب عنها إلا جابر بن عبد الله بن حرام الأنصاري، فقسم له رسول الله صلى الله عليه وسلم كسهم من حضرها.
قال: ولما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر قذف الله الرعب في قلوب أهل فدك حين بلغهم ما أوقع الله بأهل خيبر؛ فبعثوا إلى رسول الله يصالحونه على النصف من فدك، فقدمت عليه رسلهم بخيبر أو بالطائف ، وإما بعد ما قدم المدينة. فقبل ذلك منهم؛ فكانت فدك لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة، لأنه لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب .
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث إلى أهل خيبر عبد الله بن رواحة خارصاً بين المسلمين ويهود، فيخرص عليهم؛ فإذا قالوا: تعديت علينا، قال: إن شئتم فلكم؛ وإن شئتم فلنا؛ فتقول يهود: بهذا قامت السموات والأرض.
وإنما خرص عليهم عبد الله بن رواحة؛ ثم أصيب بمؤتة، فكان جبار بن صخر بن خنساء، أخو بني سلمة؛ هو الذي يخرص عليهم بعد عبد الله بن رواحة، فأقامت يهود على ذلك لا يرى بهم المسلمون بأساً في معاملتهم؛ حتى عدوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على عبد الله ابن سهل، أخي بني حارثة؛ فقتلوه، فاتهمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون عليه .
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: سألت أبن شهاب الزهري: كيف كان إعطاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يهود خيبر نخيلهم حين أعطاهم النخل على خرجها؟ أبت ذلك لهم حتى فبض، أم أعطاهم إياها لضرورة من غير ذلك؟

فأخبرني أبن شهاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفتتح خيبر عنوة بعد القتال؛ وكانت خيبر مما أفاء الله على رسوله؛ خمسها رسول الله وقسمها بين المسلمين، ونزل من نزل من أهلها على الإجلاء بعد القتال؛ فدعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن شئتم دفعنا إليكم هذه الأموال على أن تعلموها؛ وتكون ثمارها بيننا وبينكم؛ وأقركم ما أقركم الله. فقبلوا ، فكانوا على ذلك يعملونها. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث عبد الله بن رواحة فيقسم ثمرها، ويعدل عليهم في الحرص؛ فلما توفى الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم أقرها أبو بكر بعد النبي في أيديهم على المعاملة التي كان عاملهم عليها رسول الله حتى توفى، ثم أقرها عمر صدراً من إمارته؛ ثم بلغ عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في وجعه الذي قبض فيه: لا يجتمعن بجزيرة العرب دينان، ففحص عمر عن ذلك حتى بلغه الثبت، فأرسل إلى يهود أن الله قد أذن في إجلائكم؛ فقد بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا يجتمعن بجزيرة العرب دينان، فمن كان عنده عهد من رسول الله فليأتني به أنفذه له؛ ومن لم يكن عنده عهد من رسول الله من اليهود فليتجهز للجلاء؛ فأجلى عمر من لم يكن عنده عهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم .
قال أبو جعفر: ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة.
قال الواقدي: في هذه السنة رد رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب أبنته على أبي العاص بن الربيع؛ وذلك في المحرم.
قال: وفيها قدم حاطب بن أبي بلتعة من عند المقوقس بمارية وأختها سيرين وبغلته دلدل وحماره يعفور وكساً؛ وبعث معهما بخصي فكان معهما، وكان حاطب قد دعاهما إلى الإسلام قبل أن يقدم بهما ؛ فأسلمت هي وأختها، فأنزلهما رسول الله صلى الله عليه وسلم على أم سليم بنت ملحان - وكانت مارية وضيئة - قال: فبعث النبي صلى الله عليه وسلم بأختها سيرين إلى حسان بن ثابت، فولدت له عبد الرحمن بن حسان.
قال: وفي هذه السنة أتخذ النبي صلى الله عليه وسلم منبره الذي كان يخطب الناس عليه، وأتخذ درجتين ومقعده.
قال: ويقال إنه عمل في سنة ثمان. قال: وهو الثبت عندنا.
قال: وفيها بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب في ثلاثين رجلاً إلى عجز هوازن بتربة، فخرج بدليل له من بني هلال؛ وكانوا يسيرون الليل، ويكمنون النهار، فأتى الخبر هوازن فهربوا؛ فلم يلق كيداً، ورجع.
قال: وفيها سرية أبي بكر بن أبي قحافة في شعبان إلى نجد؛ قال سلمة أبن الأكوع: غزونا مع أبي بكر في تلك السنة.
قال أبو جعفر: قد مضى خبرها قبل.
قال الواقدي: وفيها سرية بشير بن سعد إلى بني مرة بفدك في شعبان في ثلاثين رجلاً، فأصيب أصحابه وأرتث في القتلي، ثم رجع إلى المدينة.
قال أبو جعفر: وفيها سرية غالب بن عبد الله في شهر رمضان إلى الميفعة؛ فحدثنا أبن حميد قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم غالب ابن عبد الله الكلبي إلى أرض بني مرة، فأصاب بها مرداس بن نهيك حليفاً لهم من الحرقة من جهينة؛ قتله أسامة بن زيد ورجل من الأنصار.
قال أسامة: لما غشينا
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://arabelalekat.yoo7.com
الشيخ عودة
الشيخ عودة
الشيخ عودة



عدد المساهمات : 1748
تاريخ التسجيل : 28/09/2008
العمر : 73

كتاب : تاريخ الرسل والملوك المؤلف : الطبري - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: كتاب : تاريخ الرسل والملوك المؤلف : الطبري   كتاب : تاريخ الرسل والملوك المؤلف : الطبري - صفحة 2 Emptyالسبت ديسمبر 14, 2013 10:35 am

وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص إلى أرض بلى وعذرة، يستنفر الناس إلى الشأم؛ وذلك أن أم العاص بن وائل كانت أمرأة من بلى، فبعثه رسول الله إليهم يستألفهم بذلك؛ حتى إذا كان على ماء بأرض جذام، يقال له السلاسل - وبذلك سميت تلك الغزوة ذات السلاسل - فلما كان عليه خاف، فبعث إلى رسول الله يستمده، فبعث إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا عبيدة أبن الجراح في المهاجرين الأولين؛ فيهم أبو بكر وعمر رضوان الله عليهم، وقال لأبي عبيدة حين وجهه: لا تختلفا ؛ فخرج أبو عبيدة حتى إذا قدم عليه، قال له عمرو بن العاص: إنما جئت مدداً لي، فقال له أبو عبيدة: يا عمرو؛ إن رسول الله قد قال لي: لا تختلفا؛ وأنت إن عصيتني أطعتك، قال: فأنا أمير عليك؛ وإنما أنت مدد لي، قال: فدونك! فصلي عمرو أبن العاص بالناس.
غزوة الخبط قال الواقدي: وفيها كانت غزوة الخبط ؛ وكان الأمير فيها أبو عبيدة أبن الجراح، بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم في رجب منها، في ثلثمائة من المهاجرين والأنصار قبل جهينة، فأصابهم فيها أزل شديد وجهد، حتى أقتسموا التمر عدداً.
وحدثنا بن عبد الرحمن، قال: حدثنا عمي عبد الله بن وهب، قال: أخبرني عمرو بن الحارث أن عمرو بن دينار حدثه أنه سمع جابر أبن عبد الله يقول: خرجنا في بعث ونحن ثلثمائة، وعلينا أبو عبيدة بن الجراح، فأصابنا جوع، فكنا نأكل الخبط ثلاثة أشهر؛ فخرجت دابة من البحر يقال لها العنبر، فمكثنا نصف شهر، نأكل منها، ونحر رجل من الأنصار جزائر، ثم نحر من الغد كذلك؛ فنهاه أبو عبيدة، فأنتهى.
قال عمرو بن دينار - وسمعت ذكوان أبا صالح قال: إنه قيس بن سعد.
قال عمرو: وحدثني بكر بن سوادة الجذامي، عن أبي جمرة، عن جابر بن عبد الله نحو ذلك ، إلا أنه قال: جهدوا؛ وقد كان عليهم قيس أبن سعد، ونحر لهم تسع ركائب، وقال: بعثهم في بعث من وراء البحر؛ وإن البحر ألقي إليهم دابة؛ فمكثوا عليها ثلاثة أيام يأكلون منها ويقددون ويغرفون شحمها؛ فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكروا له ذلك من أمر قيس بن سعد، فقال رسول الله: إن الجود من شيمة أهل ذلك البيت، وقال في الحوت: لو نعلم أنا نبلغه قبل أن يروح لأحببنا أن لو كان عندنا منه شيء؛ ولم يذكر الخبط ولا شيئاً سوى ذلك.
حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا الضحاك بن مخلد، عن أبن جريج، قال: أخبرني أبو الزبير، أنه سمع جابر بن عبد الله يخبر، قال: زودنا النبي صلى الله عليه وسلم جراباً من تمر، فكان يقبض لنا أبو عبيدة قبضة قبضة، ثم تمرة تمرة، فنمصها ونشرب عليها الماء إلى الليل؛ حتى نفد ما في الجراب، فكنا نجني الخبط، فجعنا جوعاً شديداً. قال: فألقي لنا البحر حوتاً ميتاً، فقال أبو عبيدة: جياع كلوا، فأكلنا - وكان أبو عبيدة ينصب الضلع من أضلاعه فيمر الراكب على بعيره تحته، ويجلس النفر الخمسة في موضع عينه - فأكلنا واد هنا حتى صلحت أجسامنا، وحسنت شحماتنا؛ فلما قدمنا المدينة قال جابر: فذكرنا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: كلوا رزقاً أخرجه الله عز وجل لكم معكم منه شيء؟ - وكان معنا منه شيء - فأرسل إليه بعض القوم فأكل منه.
قال الواقدي: وإنما سميت غزوة الخبط ، لأنهم أكلوا الخبط حتى كأن أشداقهم أشداق الإبل العضهة.
قال: وفيها كانت سرية وجهها رسول الله صلى الله عليه وسلم في شعبان، أميرها أبو قتادة.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني ابن إسحاق، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن محمد بن إبراهيم، عن عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي، قال: تزوجت أمرأة من قومي، فأصدقتها مائتي درهم، فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم أستعينه على نكاحي، فقال: وكم أصدقت؟ قلت: مائتي درهم يا رسول الله، قال: سبحان الله! لو كنتم إنما تأخذون الدراهم من بطن واد ما زدتم! والله ما عندي ما أعينك به. قال: فلبثت أياماً؛ وأفبل رجل من بني جشم بن معاوية يقال له رفاعة بن قيس - أو قيس بن رفاعة - في بطن عظيم من جشم؛ حتى نزل بقومه ومن معه بالغابة؛ يريد أن يجمع قيساً على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال: وكان ذا أسم وشرف في جشم. قال: فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجلين، من المسلمين فقال: أخرجوا إلى هذا الرجل حتى تأتونا به؛ أو تأتونا منه بخبر وعلم. قال: وقدم لنا شارفاً عجفاء، فحمل عليها أحدنا؛ فو الله ما قامت به ضعفاً حتى دعمها الرجال من خلفها بأيديهم حتى أستقلت وما كادت. ثم قال: تبلغوا على هذه وأعتقبوها.
قال: فخرجنا ومعنا سلاحنا من النبل والسيوف؛ حتى جئنا قريباً من الحاضر عشيشية مع غروب الشمس، فكمنت في ناحية، وأمرت صاحبي، فكمنا في ناحية أخرى من حاضر القوم، وقلت لهما: إذا سمعتماني قد كبرت وشددت على العسكر فكبرا وشدا معي.
قال: فو الله إنا لكذلك ننتظر أن نرى غرة أو نصيب منهم شيئاً، غشينا الليل حتى ذهبت فحمة العشاء؛ وقد كان لهم راع قد سرح في ذلك البلد، فأبطأ عليهم حتى تخوفوا عليه.
قال: فقام صاحبهم ذلك رفاعة بن قيس، فأخذ سيفه، فجعله في عنقه ثم قال: والله لأتبعن أثر راعينا هذا؛ ولقد أصابه شر. فقال نفر ممن معه: والله لا تذهب، نحن نكفيك! فقال: والله لا يذهب إلا أنا، قالوا: فنحن معك، قال: والله لا يتبعني منكم أحد.
قال: وخرج حتى مر بي، فلما أمكنني نفحته بسهم فوضعته في فؤاده، فو الله ما تكلم، ووثبت إليه فأحتززت رأسه، ثم شددت في ناحية العسكر وكبرت؛ وشد صاحباي وكبرا؛ فو الله ما كان إلا النجاء ممن كان فيه عندك بكل ما قدروا عليه من نسائهم وأبنائهم؛ وما خف معهم من أموالهم.
قال: فأستقنا إبلاً عظيمة، وغنماً كثيرة، فجئنا بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجئت برأسه أحمله معي، قال: فأعانني رسول الله صلى الله عليه وسلم من تلك الإبل بثلاثة عشر بعيراً، فجمعت إلى أهلي.
وأما الواقدي، فذكر أن محمد بن يحيى بن سهل بن أبي حثمة، حدثه عن أبيه، أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أبن أبي حدرد في هذه السرية مع أبي قتادة، وأن السرية كانت ستة عشر رجلاً، وأنهم غابوا خمس عشرة ليلة، وأن سهمانهم كانت أثنى عشر بعيراً يعدل البعير بعشر من الغنم، وأنهم أصابوا في وجوههم أربع نسوة؛ فيهن فتاة وضيئة، فصارت لأبي قتادة، فكلم محمية بن الجزء فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا قتادة عنها، فقال: أشتريتها من المغنم، فقال: هبها لي، فوهبها له، فأعطاها رسول الله محمية بن جزء الزبيدي.
قال: وفيها أغزي رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية أبا قتادة إلى بطن إضم. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن يزيد ابن عبد الله بن قسيط، عن أبي القعقاع بن عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي. وقال بعضهم عن أبن القعقاع - عن أبيه، عن عبد الله بن أبي حدرد، قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى إضم، فخرجت في نفر من المسلمين فيهم أبو قتادة الحارث بن ربعي ومحلم بن جثامة بن قيس الليثي، فخرجنا حتى إذا كنا ببطن إضم - وكانت قبل الفتح - مر بنا عامر بن الأضبط الأشجعي على قعود له، معه متيع له ووطب من لبن . فلما مر بنا سلم علينا بتحية الإسلام، فأمسكنا عنه، وحمل عليه محلم بن جثامة الليثي لشيء كان بينه وبينه؛ فقتله وأخذ بعيره ومتيعه، فلما قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرناه الخبر، نزل فينا القرآن: " يأيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا " الآية.
وقال الواقدي: إنما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث هذه السرية حين خرج لفتح مكة في شهر رمضان، وكانوا ثمانية نفر.
ذكر الخبر عن غزوة مؤتة قال ابن إسحاق - فيما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة عنه، قال: لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة من خيبر؛ أقام بها شهري ربيع، ثم بعث في جمادى الأولى بعثه إلى الشأم الذين أصيبوا بمؤتة.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة بن الزبير، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه إلى مؤتة في جمادى الأولى من سنة ثمان؛ وأستعمل عليهم زيد بن حارثة، وقال: إن أصيب زيد حارثة فجعفر بن أبي طالب على الناس، فإن أصيب جعفر فعبد الله بن رواحة على الناس.

فتجهز الناس، ثم تهيئوا للخروج، وهم ثلاثة آلاف، فلما حضر خروجهم ودع الناس أمراء رسول الله وسلموا عليهم وودعوهم؛ فلما ودع عبد الله بن رواحة مع من ودع من أمراء رسول الله صلى الله عليه وسلم بكى، فقالوا له: ما يبكيك يا بن رواحة؟ فقال: أما والله ما بي حب الدنيا، ولا صبابة بكم؛ ولكني سمعت رسول الله يقرأ آية من كتاب الله يذكر فيها النار: " وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتماً مقضياً " . فلست أدري كيف لي بالصدر بعد الورود! فقال المسلمون: صحبكم الله ودفع عنكم، وردكم إلينا صالحين، فقال عبد الله بن رواحة:
لكنني أسأل الرحمن مغفرةً ... وضربةً ذات فرغ تقذف الزبدا
أو طعنة بيدي حران مجهزةً ... بحرية تنفذ الأحشاء والكبدا
حتى يقولوا إذا مروا على جدثي ... أرشدك الله من غاز وقد رشدا!
ثم إن القوم تهيئوا للخروج فجاء عبد الله بن رواحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فودعه، ثم خرج القوم، وخرج رسول الله يشيعهم؛ حتى إذا ودعهم وأنصرف عنهم، قال عبد الله بن رواحة:
خلف السلام على أمرئ ودعته ... في النخل خير مشيع وخليل
ثم مضوا حتى نزلوا معان من أرض الشأم؛ فبلغ الناس أن هرقل قد نزل مآب من أرض البلقاء في مائة ألف من الروم، وأنضمت إليه المستعربة من لخم وجذام وبلقين وبهراء وبلى في مائة ألف منهم؛ عليهم رجل من بلى، ثم أحد إراشة، يقال له: مالك بن رافلة، فلما بلغ ذلك المسلمين أقاموا على معان ليلتين، ينظرون في أمرهم، وقالوا: نكتب إلى رسول الله ونخبره بعدد عدونا، فإما أن يمدنا برجال، وإما أن يأمرنا بأمره فنمضي له فشجع الناس عبد الله بن رواحة وقال: يا قوم؛ والله إن الذي تكرهون للذي خرجتم تطلبون الشهادة، وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة، ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به؛ فأنطلقوا، فإنما هي إحدى الحسنيين؛ إما ظهور؛ وإما شهادة، فقال الناس: قد والله صدق أبن رواحة. فمضى الناس، فقال عبد الله بن رواحة في محبسهم ذلك:
جلبنا الخيل من آجام قرح ... تغر من الحشيش لها العكوم
حذوناها من من الصوان سبتاً ... أزل كأن صفحته أديم
أقامت ليلتين على معان ... فأعقب بعد فترتها جموم
فرحنا والجياد مسومات ... تنفس في مناخرها السموم
فلا وأبي، مآب لنأتينها ... ولو كانت بها عرب وروم
فعبأنا أعنتها فجاءت ... عوابس والغبار لها بريم
بذي لجب كأن البيض فيه ... إذا برزت قوانسها النجوم
فراضية المعيشة طلقتها ... أسنتنا فتنكح أو تئيم
ثم مضى الناس حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر، أنه حدث عن زيد بن أرقم، قال: كنت يتيماً لعبد الله بن رواحة في حجره، فخرج في سفره ذلك مردفي على حقيبة رحله، فو الله إنه ليسير ليلة إذ سمعته وهو يتمثل أبياته هذه:
إذا أديتني وحملت رحلي ... مسيرة أربع بعد الحساء
فشأنك أنعم وخلاك ذم ... ولا أرجع إلى أهلي ورائي
وجاء المسلمون وغادروني ... بأرض الشؤم مشتهي التواء
وردك كل ذي نسب قريب ... إلى الرحمن منقطع الإخاء
هنالك لا أبالي طلع بعل ... ولا نخل أسافلها رواء
قال: فلما سمعتهن منه بكيت، فخفقني بالدرة، وقال: ما عليك يا لكع! يرزقني الله الشهادة، وترجع بين شعبتي الرحل! ثم قال عبد الله في بعض شعره وهو يرتجز:
يا زيد زيد اليعملات الذبل ... تطاول الليل هديت فأنزل

قال: ثم مضى الناس حتى إذا كانوا بتخوم البلقاء، لقيتهم جموع هرقل من الروم والعرب، بقرية من قرى البلقاء يقال لها مشارف. ثم دنا العدو، وأنحاز المسلمون إلى قرية يقال لها مؤتة؛ فألتقى الناس عندها، فتعبأ المسلمون، فجعلوا على ميمنتهم رجلاً من بني عذرة، يقال له قطبة بن قتادة، وعلى ميسرتهم رجلاً من الأنصار يقال له عباية بن مالك، ثم ألتقى الناس؛ فأقتتلوا؛ فقاتل زيد بن حارثة براية رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى شاط في رماح القوم؛ ثم أخذها جعفر بن أبي طالب؛ فقاتل بها حتى إذا ألحمه القتال أقتحم عن فرس له شقراء فعقرها ، ثم قاتل القوم حتى قتل؛ فكان جعفر أول رجل من المسلمين عقر في الإسلام فرسه .
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة وأبو تميملة، عن محمد بن إسحاق، عن يحيى بن عباد، عن أبيه ، قال : حدثني أبي الذي أرضعني - وكان أحد بني مرة بن عوف، وكان في تلك الغزوة غزوة مؤتة - قال: والله لكأني أنظر إلى جعفر حين أقتحم عن فرس له شقراء؛ فعقرها، ثم قاتل القوم حتى قتل؛ فلما قتل جعفر أخذ الراية عبد الله بن رواحة؛ ثم تقدم بها وهو على فرسه، فجعل يستنزل نفسه ويتردد بعض التردد، ثم قال:
أقسمت يا نفس لتنزلنه ... طائعةً أو فلتكرهنه
إن أجلب الناس وشدوا الرنه ... مالي أراك تكرهين الجنه!
قد طالما قد كنت مطمئنه ... هل أنت إلا نطفة في شنه!
وقال أيضاً:
يا نفس إلا تقتلي تموتي ... هذا حمام الموت قد صليت
وما تمنيت فقد أعطيت ... إن تفعلي فعلهما هديت
قال: ثم نزل؛ فلما نزل أتاه أبن عم له بعظم من لحم؛ فقال: شد بها صلبك؛ فإنك قد لقيت أيامك هذه ما لقيت؛ فأخذه من يده؛ فأنتهس منه نهسة ثم سمع الحطمة في ناحية الناس، فقال: وأنت في الدنيا! ثم ألقاه من يده، وأخذ سيفه؛ فتقدم فقاتل حتى قتل؛ فأخذ الراية ثابت بن أقرم؛ أخو بلعجلان؛ فقال: يا معشر المسلمين أصطلحوا على رجل منكم، فقالوا: أنت، قال: ما أنا بفاعل؛ فأصطلح الناس على خالد بن الوليد؛ فلما أخذ الراية دافع القوم؛ وحاشى بهم، ثم أنحاز وتحيز عنه حتى أنصرف بالناس .
فحدثني القاسم بن بشر بن معروف، قال: حدثنا سليمان بن حرب، قال: حدثنا الأسود بن شيبان، عن خالد بن سمير، قال: قدم علينا عبد الله بن رباح الأنصاري - وكانت الأنصار تفقهه - فغشيه الناس، فقال: حدثنا أبو قتادة فارس رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: بعث رسول الله جيش الأمراء، فقال: عليكم زيد بن حارثة؛ فإن أصيب فجعفر أبن أبي طالب؛ فإن أصيب جعفر فعبد الله بن رواحة؛ فوثب جعفر فقال: يا رسول الله؛ ما كنت أذهب أن تستعمل زيداً علي! قال: أمض؛ فإنك لا تدري أي ذلك خير! فأنطلقوا، فلبثوا ما شاء الله. ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم صعد المنبر، وأمر فنودى: الصلاة جامعة! فأجتمع الناس إلى رسول الله، فقال: باب خير، باب خير، باب خير! أخبركم عن جيشكم هذا الغازي؛ إنهم أنطلقوا فلقوا العدو، فقتل زيد شهيداً - وأستغفر له - ثم أخذ اللواء جعفر، فشد على القوم حتى قتل شهيداً - فشهد له بالشهادة وأستغفر له - ثم أخذ اللواء عبد الله بن رواحة؛ فأثبت قدميه حتى قتل شهيداً - فأستغفر له - ثم أخذ اللواء خالد بن الوليد - ولم يكن من الأمراء؛ هو أمر نفسه - ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم إنه سيف من سيوفك، فأنت تنصره - فمنذ يومئذ سمى خالد سيف الله - ثم قال رسول الله: أبكروا فأمدوا إخوانكم ولا يتخلفن منكم أحد. فنفروا مشاة وركباناً، وذلك في حر شديد.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عبد الله أبن أبي بكر، قال: لما أتى رسول الله مصاب جعفر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد مر جعفر البارحة في نفر من الملائكة، له جناحان، مختضب القوادم بالدم، يريدون بيشة؛ أرضاً باليمن.

قال. وقد كان قطبة بن قتادة العذري الذي كان على ميمنة المسلمين حمل على مالك بن رافلة قائد المستعربة فقتله. قال: وقد كانت كاهنة من حدس حين سمعت بجيش رسول الله صلى الله عليه وسلم مقبلاً قد قال لقومها من حدس - وقومها بطن يقال لهم بنو غنم: أنذركم قوماً خزراً ، ينظرون شزراً ، ويقودون الخيل بتراً ، ويهريقون دماً عكراً . فأخذوا بقولها؛ فأعتزلوا من بين لخم؛ فلم يزالوا بعد أثرى حدس. وكان الذين صلوا الحرب يومئذ بنو ثعلبة ؛ بطن من حدس؛ فلم يزالوا قليلاً بعد؛ ولما أنصرف خالد بن الوليد بالناس أقبل بهم قافلاً .
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة بن الزبير، قال: لما دنوا من دخول المدينة، تلقاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون، ولقيهم الصبيان يشتدون، ورسول الله مقبل مع القوم على دابة، فقال: خوا الصبيان فأحملوهم وأعطوني أبن جعفر؛ فأتى بعبد الله بن جعفر فأخذه، فحمله بين يديه، قال: وجعل الناس يحثون على الجيش التراب، ويقولون: يا فرار في سبيل الله، فيقول رسول الله: ليسوا بالفرار؛ ولكنهم الكرار؛ إن شاء الله ! حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر، عن عامر بن عبد الله بن الزبير؛ عن بعض آل الحارث بن هشام - وهم أخواله - عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، قال: قالت أم سلمة لا مرأة سلمة بن هشام بن المغيرة: مالي لا أرى سلمة يحضر الصلاة مع رسول الله ومع المسلمين! قال: والله ما يستطيع أن يخرج، كلما خرج صاح الناس: أفررتم في سبيل الله! حتى قعد في بيته فما يخرج .
وفيها غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل مكة.
ذكر الخبر عن فتح مكة حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني ابن إسحاق، قال: ثم أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة بعد بعثه إلى مؤتة، جمادى الآخرة ورجب.
ثم إن بني بكر بن عبد مناة بن كنانة عدت على خزاعة، وهم على ماء لهم بأسفل مكة؛ يقال له الوتير . وكان الذي هاج ما بين بني بكر وبني خزاعة رجل من بل حضرمي، يقال له مالك بن عباد - وحلف الحضرمي يومئذ إلى الأسود بن رزن - خرج تاجراً، فلما توسط أرض خزاعة عدواً عليه فقتلوه؛ وأخذوا ماله؛ فعدت بنو بكر على رجل من خزاعة فقتلوه، فعدت خزاعة قبيل الإسلام على بني الأسود بن رزن الديلي؛ وهم منخر بني بكر وأشرلفهم: سلمى، وكلثوم، وذؤيب؛ فقتلوهم بعرفة عند أنصاب الحرم .
حدثنا ابن حميد؛ قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن رجل من بني الديل ، قال: كان بنو الأسود يودون في الجاهلية ديتين ديتين، ونودى ديةً ديةً لفضلهم فينا.
فبينا بنو بكر وخزاعة على ذلك حجز بينهم الإسلام، وتشاغل الناس به، فلما كان صلح الحديبية بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قريش كان فيما شرطوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشرط لهم - كما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن مسلم بن عبد الله بن شهاب الزهري، عن عروة بن الزبير، عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم وغيره من علمائنا - أنه من أحب أن يدخل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعقده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عهد قريش وعقدهم دخل فيه؛ فدخلت بنو بكر في عقد قريش، ودخلت خزاعة في عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلما كانت تلك الهدنة أغتنمتها بنو الدين، من بني بكر من خزاعة وأرادوا أن يصيبوا منهم ثأراً بأولئك النفر الذين أصابوا منهم ببني الأسود بن رزن، فخرج نوفل بن معاوية الديلي في بني الديل - وهو يومئذ قائدهم؛ ليس كل بني بكر تابعه - حتى بيت خزاعة، وهم على الوتير؛ ماء لهم، فأصابوا منهم رجلاً وتحاوزوا وأقتتلوا؛ ورفدت قريش بني بكر بالسلاح؛ وقاتل معهم من قريش من قاتل بالليل مستخفياً؛ حتى حازوا خزاعة إلى الحرم. - قال الواقدي: كان ممن أعان من قريش بني بكر على خزاعة ليلتئذ بأنفسهم متنكرين صفوان بن أمية، وعكرمة بن أبي جهل، وسهيل بن عمرو؛ مع غيرهم وعبيدهم

رجع الحديث إلى حديث ابن إسحاق، قال: فلما أنتهوا إليه قالت بنو بكر: يا نوفل، إنا قد دخلنا الحرم إلهك إلهك؛ فقال: كلمة عظيمة إنه لا إله له اليوم! يا بني بكر أصيبوا ثأركم، فلعمري إنكم لتسرقون في الحرم؛ أفلا تصيبون ثأركم فيه! وقد أصابوا منهم ليلة بيتوهم بالوتير رجلاً يقال له منبه، وكان منبه رجلاً مفئوداً خرج هو ورجل من قومه، يقال له تميم بن أسد - فقال له منبه: يا تميم، أنج بنفسك؛ فأما أنا فو الله إني لميت قتلوني أو تركوني؛ لقد أنبت فؤادي. فأنطلق تميم فأفلت، وأدركوا منبها فقتلوه - فلما دخلت خزاعة مكة لجئوا إلى دار بديل بن ورقاء الخزاعي، ودار مولى لهم يقال له رافع.
قال: فلما تظاهرت بنو بكر وقريش على خزاعة، وأصابوا منهم ما أصابوا، ونقضوا ما كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم من العهد والميثاق بما أستحلوا من خزاعة - وكانوا في عقده وعهده - خرج عمرو بن سالم الخزاعي، ثم أحد بني كعب؛ حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة؛ وكان ذلك مما هاج فتح مكة؛ فوقف عليه وهو في المسجد جالس بين ظهراني الناس، فقال:
لا هم إني ناشد محمدا ... حلف أبينا وأبيه الأتلدا
فوالداً كنا وكنت ولدا ... ثمت أسلمنا فلم ننزع يدا
فأنصر رسول الله نصراً أعتدا ... وأدع عباد الله يأتوا مددا
فيهم رسول الله قد تجردا ... أبيض مثل البدر ينمي صعدا
إن سيم خسفاً وجهه تربدا ... في فيلق كالبحر يجري مزبدا
إن قريشاً أخلفوك الموعدا ... ونقضوا ميثاقك المؤكدا
وجعلوا لي في كداء رصدا ... وزعموا أن لست أدعو أحدا
وهم أذل وأقل عددا ... هم بيتونا بالوتير هجدا
فقتلونا ركعاً وسجدا يقول: قد قتلونا وقد أسلمنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سمع ذلك: قد نصرت يا عمرو بن سالم! ثم عرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم عنان من السماء، فقال: إن هذه السحابة لتستهل بنصر بني كعب.
ثم خرج بديل بن ورقاء في نفر من خزاعة حتى قدموا على رسول الله المدينة، فأخبروه بما أصيب منهم، وبمظاهرة قريش بني بكر عليهم؛ ثم أنصرفوا راجعين إلى مكة. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للناس: كأنكم بأبي سفيان قد جاء ليشدد العقد، ويزيد في المدة.
ومضى بديل بن ورقاء وأصحابه، فلقوا أبا سفيان بعسفان، قد بعثته قريش إلى رسول الله ليشدد العقد ويزيد في المدة؛ وقد رهبوا الذي صنعوا؛ فلما لقي أبو سفيان بديلاً، قال: من أين أقبلت يا بديل؟ وظن أنه قد أتى رسول الله، قال: سرت في خزاعة في الساحل وفي بطن هذا الوادي. قال: أو ما أتيت محمداً؟ قال: لا. قال: راح بديل إلى مكة قال أبو سفيان: لئن كان جاء المدينة لقد علف بها النوى؛ فعمد إلى مبرك ناقته ، فأخذ من بعرها ففته؛ فرأى فيه النوى، فقال: أحلف بالله لقد جاء بديل محمداً.

ثم خرج أبو سفيان حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة؛ فدخل على أبنته أم حبيبة بنت أبي سفيان؛ فلما ذهب ليجلس على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم طوته عنه، فقال: يا بنية؛ والله ما أدري أرغبت بي عن هذا الفراش، أم رغبت به عني! قالت: بل هو فراش رسول الله، وأنت رجل مشرك نجس، فلم أحب أن تجلس على فراش رسول الله، قال: والله لقد أصابك يا بنية بعدي شر. ثم خرج حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكلمه فلم يردد عليه شيئاً، ثم ذهب إلى أبي بكر فكلمه أن يكلم له رسول الله، فقال: ما أنا بفاعل. ثم أتى عمر بن الخطاب، فكلمه فقال: أنا أشفع لكم إلى رسول الله! فو الله لو لم أجد إلا الذر لجاهدتكم. ثم خرج فدخل على علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، وعنده فاطمة أبنة رسول الله، وعندها الحسن بن علي؛ غلام يدب بين يديها، فقال: يا علي؛ إنك أمس القوم بي رحماً، وأقربهم مني قرابة، وقد جئت في حاجة؛ فلا أرجعن كما جئت خائباً، أشفع لنا إلى رسول الله! قال: ويحك يا أبا سفيان! والله لقد عزم رسول الله على أمر ما نستطيع أن نكلمه فيه، فألتفت إلى فاطمة، فقال: يا أبنة محمد هل لك أن تأمرى بنيك هذا فيجير بين الناس، فيكون سيد العرب إلى آخر الدهر! قالت: والله ما بلغ بنيى ذلك أن يجير بين الناس، وما يجير على رسول الله أحد. قال: يا أبا الحسن، إني أرى الأمور قد أشتدت علي فأنصحني. فقال له : والله ما أعلم شيئاً يغنى عنك شيئاً، ولكنك سيد بني كنانة؛ فقم فأجر بين الناس، ثم الحق بأرضك. قال: أو ترى ذلك مغنياً عني شيئاً! قال: لا والله ما أظن؛ ولكن لا أجد لك غير ذلك؛ فقام أبو سفيان في المسجد، فقال: أيها الناس؛ إني قد أجرت بين الناس؛ ثم ركب بعيرة فأنطلق.
فلما قدم على قريش، قالوا: ما وراءك؟ قال: جئت محمداً فكلمته، فو الله ما رد على شيئاً، ثم جئت أبن أبي قحافة، فلم أجد عنده خيراً، ثم جئت أبن الخطاب؛ فوجدته أعدى القوم، ثم جئت على بن أبي طالب، فوجدته ألين القوم؛ وقد أشار علي بشيء صنعته؛ فو الله ما أدري هل يغنيني شيئاً أم لا! قالوا: وبماذا أمرك؟ قال: أمرني أن أجير بين الناس ففعلت؛ قالوا: فهل أجاز ذلك محمد؟ قال: لا، قالوا: ويلك! والله إن زاد على أن لعب بك، فما يغنى عنا ما قلت. قال: لا والله، ما وجدت غير ذلك، قال: وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس بالجهاز؛ وأمر أهله أن يجهزوه؛ فدخل أبو بكر على أبنته عائشة وهي تحرك بعض جهاز رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أي بنية، أأمركم رسول الله بأن تجهزوه؟ قالت: نعم، فتجهز، قال: فأين ترينه يريد؟ قالت: والله ما أدري.
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم الناس أنه سائر إلى مكة؛ وأمرهم بالجد والتهيؤ ، وقال: اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها في بلادها.
فتجهز الناس، فقال حسان بن ثابت الأنصاري يحرض الناس، ويذكر مصاب رجال خزاعة:
أتاني ولم أشهد ببطحاء مكة ... رجال بني كعب تحز رقابها
بأيدي رجال لم يسلوا سيوفهم ... وقتلي كثير لم تجن ثيابها
ألا ليت شعري هل تنالن نصرتي ... سهيل بن عمرو حرها وعقابها !
وصفوان عوداً حز من شفراسته ... فهذا أوان الحرب شد عصابها
فلا تأمننا يا بن أم مجالد ... إذا أحتلبت صرفاً وأعصل نابها
فلا تجزعوا منها فإن سيوفنا ... لها وقعة بالموت يفتح بابها
وقول حسان: بأيدي رجال لم يسلوا سيوفهم يعني قريشاً. وأبن أم مجالد، يعني عكرمة بن أبي جهل

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة بن الزبير وغيره من علمائنا، قالوا: لما أجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم المسير إلى مكة، كتب حاطب بن أبي بلتعة كتاباً إلى قريش، يخبرهم بالذي أجمع عليه رسول الله من الأمر في السير إليهم؛ ثم أعطاه أمرأة - يزعم محمد بن جعفر أنها من مزينة؛ وزعم غيره أنها سارة، مولاة لبعض بني عبد المطلب - وجعل لها جعلاً على أن تبلغه قريشاً. فجعلته في رأسها، ثم فتلت عليه قرونها، ثم خرجت به. وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر من السماء بما صنع حاطب؛ فبعث علي بن أبي طالب والزبير بن العوام، فقال: أدركا أمرأة قد كتب معها حاطب بكتاب إلى قريش، يحذرهم ما قد أجمعنا له في أمرهم؛ فخرجا حتى أدركاها بالحليفة، حليفة أبن أبي أحمد؛ فأستنزلاها، فالتمسا في رحلها، فلم يجدا شيئاً، فقال لها علي بن أبي طالب: إني أحلف ما كذب رسول الله ولا كذبنا؛ ولتخرجن إلى هذا الكتاب أو لنكشفنك؛ فلما رأت الجد منه، قالت: أعرض عني فأعرض عنها، فحلت قرون رأسها، فأستخرجت الكتاب منه ، فدفعته إليه، فجاء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا رسول الله حاطباً؛ فقال: يا حاطب، ما حملك على هذا؟ فقال: يا رسول الله، أما والله إني لمؤمن بالله ورسوله، ما غيرت ولا بدلت، ولكني كنت امرأً ليس لي في القوم أصل ولا عشيرة، وكان لي بين أظهرهم أهل وولد، فصانعتهم عليهم، فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله، دعني فلأضرب عنقه، فإن الرجل قد نافق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما يدريك يا عمر، لعل الله قد أطلع إلى أصحاب بدر يوم بدر؛ فقال: أعلموا ما شئتم فقد غفرت لكم! فأنزل الله عز وجل في حاطب: " يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء " إلى قوله: " وإليك أنبنا " إلى آخر القصة .
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمى، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن مسلم الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن أبن عباس، قال: ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم لسفره؛ وأستخلف على المدينة أبارهم كلثوم بن حصين بن خلف الغفاري، وخرج لعشر مضين من شهر رمضان، فصام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصام الناس معه؛ حتى إذا كان بالكديد ما بين عسفان وأمج، أفطر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم مضى حتى نزل مر الظهران في عشرة آلاف من المسلمين، فسبعت سليم؛ وألفت مزينة وفي كل القبائل عدد وإسلام؛ وأوعب مع رسول الله المهاجرون والأنصار، فلم يتخلف عنه منهم أحد، فلما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم مر الظهران، وقد عميت الأخبار عن قريش فلا يأتيهم خبر عن رسول الله؛ ولا يدرون ما هو فاعل؛ فخرج في تلك الليلة أبو سفيان بن حرب وحكيم بن حزام، وبديل بن ورقاء، يتحسسون الأخبار؛ هل يجدون خبراً أو يسمعون به ! حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: وقد كان فيما حدثني محمد بن إسحاق، عن العباس بن عبد الله بن معبد بن العباس بن عبد المطلب؛ عن أبن عباس: وقد كان العباس بن عبد المطلب تلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعض الطريق ؛ وقد كان أبو سفيان بن الحارث وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة قد لقيا رسول الله صلى الله عليه وسلم بنيق العقاب؛ فيما بين مكة والمدينة، فألتمس الدخول على رسول الله، فكلمته أم سلمة فيهما، فقالت: يا رسول الله، أبن عمك وأبن عمتك وصهرك، قال: لا حاجة لي بهما، أما أبن عمتي فهتك عرضي؛ وأما أبن عمتي وصهري فهو الذي قال بمكة ما قال.
فلما خرج الخبر إليهما بذلك؛ ومع أبي سفيان بني له فقال: والله ليأذن لي أو لآخذن بيد بني هذا؛ ثم أتذهبن في الأرض؛ حتى نموت عطشاً وجوعاً. فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم رق لهما؛ ثم أذن لهما، فدخلا عليه؛ فأسلما وأنشده أبو سفيان قوله في إسلامه واعتذاره مما كان مضى منه:
لعمري إني يوم أحمل رايةً ... لتغلب خيل الات خيل محمد
لكا لمدلج الخيران أظلم ليله ... فهذا أواني حين أهدى وأهتدى
وهاد هداني غير نفسي ونالني ... مع الله من طردت كل مطرد
أصدو أنأي جاهداً عن محمد ... وأدعى ولو لم أنتسب من محمد

هم ما هم من لم يقل بهواهم ... وإن كان ذا رأي يلم ويفند
أريد لأرضيهم ولست بلائط ... مع القوم ما لم أهد في كل مقعد
فقل لثقيف لا أريد قتالها ... وقل لثقيف تلك غيري أو عدي
وما كنت في الجيش الذي نال عامراً ... وما كان عن جري لساني ولا يدي
قبائل جاءت من بلاد بعيدة ... نزائع جاءت من سهام وسردد
قال: فزعموا أنه حين أنشد رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: ونالني مع الله من طردت كل مطرد؛ ضرب النبي صلى الله عليه وسلم في صدره، ثم قال: أنت طردتني كل مطرد ! وقال الواقدي: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة، فقائل يقول: يريد قريشاً، وقائل يقول: يريد هوازن، وقائل يقول: يريد ثقيفاً؛ وبعث إلى القبائل فتخلفت عنه؛ ولم يعقد الألوية ولم ينشر الرايات حتى قدم قديداً، فلقيته بنو سليم على الخيل والسلاح التام؛ وقد كان عيينة لحق رسول الله بالعرج في نفر من أصحابه، ولحقه الأقرع بن حابس بالسقيا، فقال عيينة: يا رسول الله؛ والله ما أرى آلة الحرب ولا تهيئة الإحرام، فأين تتوجه يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: حيث شاء الله. ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تعمي عليهم الأخبار؛ فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم مر الظهران، ولقيه العباس بالسقيا، ولقيه مخرمة بن نوفل بنيق العقاب.
فلما نزل مر الظهران خرج أبو سفيان بن حرب ومعه حكيم بن حزام.

فحدثنا أبو كريب، قال: أخبرنا يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق، قال: حدثني حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس، عن عكرمة عن أبن عباس، قال: لما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم مر الظهران، قال العباس بن عبد المطلب، وقد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة: يا صباح قريش ! والله لئن بغتها رسول الله في بلادها؛ فدخل مكة عنوة؛ إنه لهلاك قريش آخر الدهر! فجلس على بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم البيضاء، وقال: أخرج إلى الأراك لعلي أرى حطاباً أو صاحب لبن؛ أو داخلاً يدخل مكة؛ فيخبرهم بمكان رسول الله؛ فيأتونه فيستأمنونه. فخرجت؛ فو الله إني لأطوف في الأراك ألتمس ما خرجت له؛ إذ سمعت صوت أبي سفيان بن حرب وحكيم بن حزام وبديل بن ورقاء، وقد خرجوا يتحسسون الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسمعت أبا سفيان وهو يقول: والله ما رأيت كاليوم قط نيراناً! فقال بديل: هذه والله نيران خزاعة، حمشها الحرب! فقال أبو سفيان: خزاعة ألأم من ذلك وأذل! فعرفت صوته، فقلت يا أبا حنظلة! فقال: أبو الفضل! فقلت: نعم، فقال: لبيك فداك أبي وأمي! فما وراءك؟ فقلت: هذا رسول الله ورائي قد دلف إليكم بما لا قبل لكم به بعشرة آلاف من المسلمين. قال: فما تأمرني؟ فقلت: تركب عجز هذه البغلة، فأستأمن لك رسول الله؛ فو الله لئن ظفر بك ليضربن عنقك، فردفني فخرجت به أركض بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكلما مررت بنار من نيران المسلمين ونظروا إلى، قالوا: عم رسول الله على بغلة رسول الله؛ حتى مررت بنار عمر بن الخطاب، فقال أبو سفيان! الحمد لله الذي أمكن منك بغير عقد ولا عهد! ثم أشتد نحو النبي صلى الله عليه وسلم، وركضت البغلة، وقد أردفت أبا سفيان؛ حتى أقتحمت على باب القبة، وسبقت عمر بما تسبق به الدابة البطيئة الرجل البطئ؛ فدخل عمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، هذا أبو سفيان عدو الله؛ قد أمكن الله منه بغير عهد ولا عقد؛ فدعني أضرب عنقه؛ فقلت: يا رسول الله، إني قد أجرته! ثم جلست إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذت برأسه، فقلت: والله لا يناجيه اليوم أحد دوني! فلما أكثر فيه عمر، قلت: مهلاً يا عمر! فو الله ما تصنع هذا إلا لأنه رجل من بني عبد مناف؛ ولو كان من بني عدي أبن كعب ما قلت هذا. فقال: مهلاً يا عباس! فو الله لإسلامك يوم أسلمت كان أحب إلى من إسلام الخطاب لو أسلم! وذلك لأني أعلم أن إسلامك كان أحب إلى رسول الله من إسلام الخطاب لو أسلم؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أذهب فقد آمناه حتى تغدو به على بالغداة . فرجع به إلى منزله؛ فلما أصبح غداً به على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رآه قال: ويحك يا أبا سفيان! ألم يأن لك أن تعلم أن لا إله إلا الله! فقال: بأبي أنت وأمي، ما أوصلك وأحلمك وأكرمك! والله لقد ظننت أن لو كان مع الله غيره لقد أغنى عني شيئاً، فقال: ويحك يا أبا سفيان! ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله! فقال: بأبي أنت وأمي ما أوصلك وأحلمك وأكرمك! أما هذه ففي النفس منها شيء! فقال العباس: فقلت له ويلك! تشهد شهادة الحق قبل والله أن تضرب عنقك؛ قال: فتشهد.

قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس حين تشهد أبو سفيان: أنصرف يا عباس فأحبسه عند خطم الجبل بمضيق الوادي، حتى تمر عليه جنود الله، فقلت له: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل يحب الفخر، فأجعل له شيئاً يكون في قومه. فقال: نعم؛ من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن. فخرجت حتى حبسته عند خطم الجبل بمضيق الوادي؛ فمرت عليه القبائل، فيقول: من هؤلاء يا عباس؟ فأقول : سليم، فيقول: مالي ولسليم! فتمر به قبيلة، فيقول: من هؤلاء؟ فأقول: أسلم، فيقول: مالي ولأسلم! وتمر جهينة، فيقول: مالي ولجهينة! حتى مر رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخضراء ؛ كتيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار في الحديد؛ لا يرى منهم إلا الحدق، فقال: من هؤلاء يا أبا الفضل؟ فقلت: هذا رسول الله في المهاجرين والأنصار؛ فقال: يا أبا الفضل، لقد أصبح ملك أبن أخيك عظيماً. فقلت: ويحك إنها النبوة! فقال: نعم إذاً، فقلت: الحق الآن بقومك فحذرهم؛ فخرج سريعاً حتى أتى مكة، فصرخ في المسجد: يا معشر قريش، هذا محمد قد جاءكم بما لا قبل لكم به! قالوا: فمه! فقال: من دخل داري فهو آمن، فقالوا: ويحك! وما تغني عنا دارك! فقال: ومن دخل المسجد فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن .
حدثني عبد الوارث بن عبد الصمد بن عبد الوارث، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا، أبان العطار قال: حدثنا هشام بن عروة، عن عروة، أنه كتب إلى عبد الملك بن مروان: أما بعد، فإنك كتبت إلى تسألني عن خالد بن الوليد: هل أغار يوم الفتح؟ وبأمر من أغار؟ وإنه كان من شأن خالد يوم الفتح أنه كان مع النبي صلى الله عليه وسلم، فلما ركب النبي بطن مر عامداً إلى مكة، وقد كانت قريش بعثوا أبا سفيان وحكيم بن حزام يتلقيان رسول الله صلى الله عليه وسلم! إليهم أو إلى الطائف! وذاك أيام الفتح؛ وأستتبع أبو سفيان وحكيم بن حزام بديل بن ورقاء، وأحبا أن يصحبهما، ولم يكن غير أبي سفيان وحكيم بن حزام وبديل؛ وقالوا لهم حين بعثوهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا نؤتين من ورائكم، فإنا لا ندري من يريد محمد! إيانا يريد، أو هوازن يريد، أو ثقيفاً! وكان بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين قريش صلح يوم الحديبية وعهد ومدة، فكانت بنو بكر في ذلك الصلح مع قريش، فأقتتلت طائفة من بني كعب وطائفة من بني بكر؛ وكان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قريش في ذلك الصلح الذي أصطلحوا عليه: لا إغلال ولا إسلال، فأعانت قريش بني بكر بالسلاح، فأتهمت بنو كعب قريشاً ، فمنها غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل مكة؛ وفي غزوته تلك لقي أبا سفيان وحكيماً وبديلاً بمر الظهران؛ ولم يشعروا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل مر، حتى طلعوا عليه، فلما رأوه بمر، دخل عليه أبو سفيان وبديل وحكيم بمنزله بمر الظهران فبايعوه ، فلما بايعوه بعثهم بين يديه إلى قريش، يدعوهم إلى الإسلام، فأخبرت أنه قال: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن - وهي بأعلى مكة - ومن دخل دار حكيم - وهي بأسفل مكة - فهو آمن، ومن أغلق بابه وكف يده فهو آمن.
وإنه لما خرج أبو سفيان وحكيم من عند النبي صلى الله عليه وسلم عامدين إلى مكة، بعث في أثرهما الزبير وأعطاه رايته، وأمره على خيل المهاجرين والأنصار وأمره أن يغرز رايته بأعلى مكة بالحجون؛ وقال للزبير: لا تبرح حيث أمرتك أن تغرز رايتي حتى آتيك؛ ومن ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر خالد بن الوليد - فيمن كان أسلم من قضاعة وبني سليم وأناس، إنما أسلموا قبيل ذلك - أن يدخل من أسفل مكة، وبها بنو بكر قد أستنفرتهم قريش. وبنو الحارث بن عبد مناة ومن كان من الأحابيش أمرتهم قريش أن يكونوا بأسفل مكة، فدخل عليهم خالد بن الوليد من أسفل مكة.

وحدثت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لخالد والزبير حين بعثهما: لا تقاتلا إلا من قاتلكما؛ فلما قدم خالد على بني بكر والأحابيش بأسفل مكة. قاتلهم فهزمهم الله عز وجل، ولم يكن بمكة قتال غير ذلك؛ غير أن كرز بن جابر أحد بني محارب بن فهو وأبن الأشعر - رجلاً من بني كعب - كانا في خيل الزبير فسلكا كداء، ولم يسلكا طريق الزبير الذي سلك، الذي أمر به . فقدما على كتيبة من قريش مهبط كداء فقتلا؛ ولم يكن بأعلى مكة من قبل الزبير قتال؛ ومن ثم قدم النبي صلى الله عليه وسلم، وقام الناس إليه يبايعونه؛ فأسلم أهل مكة، وأقام النبي صلى الله عليه وسلم عندهم نصف شهر، لم يزد على ذلك، حتى جاءت هوزان وثقيف فنزلوا بحنين.
وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن أبي نجيح، أن النبي صلى الله عليه وسلم حين فرق جيشه من ذي طوى، أمر الزبير أن يدخل في بعض الناس من كدى؛ وكان الزبير على المجنبة اليسري، فأمر سعد بن عبادة أن يدخل في بعض الناس من كداء. فزعم بعض أهل العلم أن سعداً قال حين وجه داخلاً: اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الحرمه. فسمعها رجل من المهاجرين، فقال: يا رسول الله، أسمع ما قال سعد بن عبادة، وما نأمن أن تكون له في قريش صولة ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب: أدركه فخذ الراية، فكن أنت الذي تدخل بها .
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عبد الله بن أبي نجيح في حديثه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر خالد بن الوليد، فدخل من الليط أسفل مكة، في بعض الناس؛ وكان خالد على المجنبة اليمنى، وفيها أسلم وغفار ومزينة وجهينة وقبائل من قبائل العرب؛ وأقبل أبو عبيدة بن الجراح بالصف من المسلمين ينصب لمكة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودخل رسول صلى الله عليه وسلم من أذاخر؛ حتى نزل بأعلى مكة، وضربت هنالك قبته .
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://arabelalekat.yoo7.com
الشيخ عودة
الشيخ عودة
الشيخ عودة



عدد المساهمات : 1748
تاريخ التسجيل : 28/09/2008
العمر : 73

كتاب : تاريخ الرسل والملوك المؤلف : الطبري - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: كتاب : تاريخ الرسل والملوك المؤلف : الطبري   كتاب : تاريخ الرسل والملوك المؤلف : الطبري - صفحة 2 Emptyالسبت ديسمبر 14, 2013 10:36 am

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عبد الله بن أبي نجيح وعبد الله بن أبي بكر، أن صفوان بن أمية، وعكرمة أبن أبي جهل، وسهيل بن عمرو، وكانوا قد جمعوا أناساً بالخندمة ليقاتلوا؛ وقد كان حماس بن قيس بن خالد أخو بني بكر يعد سلاحاً قبل أن يدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة ويصلح منها، فقالت له أمرأته: لماذا تعد ما رأى؟ قال: لمحمد وأصحابه، فقالت: والله ما أراه يقوم لمحمد وأصحابه شيء، قال: والله إني لأرجو أن أخدمك بعضهم، فقال:
إن تقبلوا اليوم فمالي عله ... هذا سلاح كامل وأله
وذو غرارين سريع السلة ثم شهد الخندمة مع صفوان وسهيل بن عمرو وعكرمة، فلما لقيهم المسلمون من أصحاب خالد بن الوليد ناوشوهم شيئاً من قتال، فقتل كرز أبن جابر بن حسل بن الأجب بن حبيب بن عمرو بن شيبان بن محارب بن فهر، وحبيس بن خالد، وهو الأشر بن ربيعة بن أصرم بن ضبيس أبن حرام بن حبشية بن كعب بن عمرو؛ حليف بني منقذ - وكانا في خيل خالد بن الوليد، فشذا عنه، وسلكا طريقاً غير طريقه، فقتلا جميعاً - قتل خنيس قبل كرز بن جابر؛ فجعله كرز بين رجليه؛ ثم قاتل حتى قتل وهو يرتجز، ويقول:
قد علمت صفراء من بني فهر ... نقية الوجه نقية الصدر
لأضربن اليوم عن أبي صخر وكان خنيس يكني بأبي صخر؛ وأصيب من جهينة سلمة بن الميلاء من خيل خالد بن الوليد، وأصيب من المشركين أناس قريب من أثنى عشر أو ثلاثة عشر. ثم أنهزموا، فخرج حماس منهزماً؛ حتى دخل بيته، ثم قال لأمرأته: أغلقي علي بابي، قالت: فأين ما كنت تقول؟ فقال:
إنك لو شهدت يوم الخندمه ... إذ فر صفوان وفر عكرمه
وأبو يزيد قائم كالمؤتمه ... وأستقبلتهم بالسيوف المسامه
يقطعن كل ساعد وجمجمه ... ضرباً فلا تسمع إلا غمغمه
لهم نهيت خلفنا وهمهمه ... لم تنطقي في اللوم أدنى كلمه

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عهد إلى أمرائه من المسلمين حين أمرهم أن يدخلوا مكة؛ ألا يقتلوا أحداً إلا من قاتلهم؛ إلا أنه قد عهد في نفر سماهم؛ أمر بقتلهم وإن وجودا تحت أستار الكعبة؛ منهم عبد الله بن سعد أبن أبي سرج بن حبيب بن جذيمة بن نصر بن مالك بن حسل بن عامر أبن لؤي - وإنما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله، لأنه كان قد أسلم فأرتد مشركاً، ففر إلى عثمان، وكان أخاه من الرضاعة، فغيبه حتى أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن أطمأن أهل مكة فأستأمن له رسول الله، فذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صمت طويلاً، ثم قال: نعم؛ فلما أنصرف به عثمان، قال رسول الله لمن حوله من أصحابه: أما والله لقد صمت ليقوم إليه بعضكم فيضرب عنقه ؟ فقال رجل من الأنصار: فهلا أومأت إلي يا رسول الله ؟؟؟؟! قال: إن النبي لا يقتل بالإشارة - وعبد الله بن خطل، رجل من بني تيم بن غالب - وإنما أمر بقتله لأنه كان مسلماً، فبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم مصدقاً ، وبعث معه رجلاً من الأنصار؛ وكان معه مولي له يخدمه، وكان مسلماً، فنزل منزلاً، وأمر المولى أن يذبح له تيساً، ويصنع له طعاماً، ونام فأستيقظ ولم يصنع له شيئاً، فعدا عليه فقتله، ثم أرتد مشركاً؛ وكانت له قينتان: فرتني وأخرى معها، وكانتا تغنيان بهجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأمر بقتلهما معه - والحويرث بن نقيذ بن وهب بن عبد بن قصي، وكان ممن يؤذيه بمكة، ومقيس بن صبابة - وإنما أمر بقتله لقتله الأنصاري الذي كان قتل أخاه خطأ، ورجوعه إلى قريش مرتداً - وعكرمة بن أبي جهل، وسارة مولاة كانت لبعض بني عبد المطلب؛ وكانت ممن يؤذيه بمكة. فأما عكرمة بن أبي جهل فهرب إلى اليمن؛ وأسلمت أمرأته أم حكيم بنت الحارث بن هشام، فأستأمنت له رسول الله فأمه؛ فخرجت في طلبه حتى أتت به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان عكرمة يحدث - فيما يذكرون - أن الذي رده إلى الإسلام بعد خروجه إلى اليمن أنه كان يقول: أردت ركوب البحر لألحق بالحبشة، فلما أتيت السفينة لأركبها قال صاحبها: يا عبد الله، لا تركب سفينتي حتى توحد الله، وتخلع ما دونه من الأنداد، فإني أخشى إن لم تفعل أن نهلك فيها، فقلت: وما يركبه أحد حتى يوحد الله ويخلع ما دونه! قال: نعم؛ لا يركبه أحد إلا أخلص. قال: فقلت: ففيم أفارق محمداً! فهذا الذي جاءنا به، فو الله إن إلهنا في البحر لألهنا في البر؛ فعرفت الإسلام عند ذلك، ودخل في قلبي. وأما عبد الله أبن خطل، فقتله سعيد بن حريث المخزومي وأبو برزة الأسلمي، أشتركا في دمه، وأما مقيس بن صبابة فقتله نميلة بن عبد الله؛ رجل من قومه، فقالت أخت مقيس:
لعمري لقد أخزي نميلة رهطه ... وفجع أضياف الشتاء بمقيس
فلله عيناً من رأى مثل مقيس ... إذا النفساء أصبحت لم تخرس !
وأما قينتا ابن خطل فقتلت إحداهما، وهربت الأخرى حتى أستؤمن لها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد، فأمنها. وأما سارة، فأستؤمن لها فأمنها، ثم بقيت حتى أوطأها رجل من الناس فرساً له في زمن عمر بن الخطاب بالأبطح، فقتلها. وأما الحويرث بن نقيذ، فقتله علي بن أبي طالب رضي الله عنه .
وقال الواقدي: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل ستة نفر وأربع نسوة، فذكر من الرجال من سماه أبن إسحاق، ومن النساء هند بنت عتبة أبن ربيعة، فأسلمت وبايعت، وسارة مولاة عمرو بن هاشم بن عبد المطلب أبن عبد مناف، قتلت يومئذ، وقريبة؛ قتلت يومئذ، وفرتني عاشت إلى خلافة عثمان.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عمر بن موسى أبن الوجيه، عن قتادة السدوسي؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام قائماً حين وقف على باب الكعبة، ثم قال: لا إله إلا الله وحده، لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده. ألا كل مأثرة ، أو دم، أو مال يدعي؛ فهو تحت قدمي هاتين إلا سدانة البيت وسقاية الحاج. ألا وقتيل الخطإ مثل العمد؛ السوط والعصا، فيهما الدية مغلظة مائة من الإبل ، منها أربعون في بطونها أولادها.

يا معشر قريش؛ إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء. الناس من آدم؛ وآدم خلق من تراب. ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ياأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم " الآية.
يا معشر قريش، ويا أهل مكة؛ ما ترون أني فاعل بكم؟ قالوا: خيراً، أخ كريم وأبن أخ كريم. ثم قال: أذهبوا فأنتم الطلقاء .
فأعتقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كان الله أمكنه من رقابهم عنوة، وكانوا له فيئاً ، فبذلك يسمى أهل مكة الطلقاء. ثم أجتمع الناس بمكة لبيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام، فجلس لهم - فيما بلغني - على الصفا وعمر بن الخطاب تحت رسول الله أسفل من مجلسه يأخذ على الناس. فبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة لله ولرسوله - فيما أستطاعوا - وكذلك كانت بيعته لمن بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الناس على الإسلام. فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من بيعة الرجال بايع النساء، وأجتمع إليه نساء من نساء قريش؛ فيهن هند بنت عتبة، متنقبة متنكرة لحدثها وما كان من صنيعها بحمزة ، فهي تخاف أن يأخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم بحدثها ذلك، فلما دنون منه ليبايعنه قال، رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما بلغني - : تبايعنني على ألا تشركن بالله شيئاً! فقالت هند: والله إنك لتأخذ علينا أمراً ما تأخذه على الرجال وسنؤتيكه، قال: ولا تسرقن، قالت: والله إن كنت لأصيب من مال أبي سفيان الهنة والهنة، وما أدري أكان ذلك حلالي أم لا! فقال أبو سفيان - وكان شاهداً لما تقول: أما ما أصبت فيما مضى فأنت منه في حل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وإنك لهند بنت عتبة! فقالت: أنا هند بنت عتبة، فأعف عما سلف عفا الله عنك! قال: ولا تزنين، قالت: يا رسول الله، هل تزني الحرة! قال: ولا تقتلن أولادكن، قالت: قد ربيناهم صغاراً، وقتلتهم يوم بدر كباراً، فأنت وهم أعلم! فضحك عمر بن الخطاب من قولها حتى أستغرب . قال: ولا تأتين ببهتان تفترينه بين أيديكن وأرجلكن، قالت: والله إن إتيان البهتان لقبيح؛ ولبعض التجاوز أمثل. قال: ولا تعصينني في معروف، قال: ما جلسنا هذا المجلس ونحن نريد أن نعصيك في معروف، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر: بايعهن وأستغفر لهن رسول الله، فبايعهن عمر، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يصافح النساء، ولا يمس أمرأة ولا تمسه إلا أمرأة أحلها الله له، أو ذات محرم منه.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن أبان أبن صالح، أن بيعة النساء قد كانت على نحوين - فيما أخبره بعض أهل العلم - كان يوضع بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم إناء فيه ماء، فإذا أخذ عليهن وأعطينه غمس يده في الإناء، ثم أخرجها، فغمس النساء أيديهن فيه. ثم كان بعد ذلك يأخذ عليهن، فإذا أعطينه ما شرط عليهن، قال: أذهبن فقد بايعتكن، لا يزيد على ذلك.
قال الواقدي: فيها قتل خراش بن أمية الكعبي جنيدب بن الأدلع الهذلي - وقال أبن إسحاق: أبن الأثوع الهذلي - وإنما قتله بذحل، وكان في الجاهلية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن خراشاً قتال؛ إن خراشاً قتال! يعيبه بذلك، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم خزاعة أن يدوه.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير - قال محمد بن إسحاق: ولا أعلمه إلا وقد حدثني عن عروة بن الزبير - قال: خرج صفوان بن أمية يريد جدة، ليركب منها إلى اليمن ، فقال عمير بن وهب، يا نبي الله، إن صفوان بن أمية سيد قومه، وقد خرج هارباً منك ليقذف نفسه في البحر؛ فأمنه صلى الله عليك! قال: هو آمن، قال: يا رسول الله، أعطني شيئاً يعرف به أمانك؛ فأعطاه عمامته التي دخل فيها مكة؛ فخرج بها عمير حتى أدركه بجدة، وهو يريد أن يركب البحر، فقال: يا صفوان، فداك أبي وأمي! أذكرك الله في نفسك أن تهلكها! فهذا أمان من رسول الله قد جئتك به، قال: ويلك! أغرب عني فلا تكلمني! قال: أي صفوان! فداك أبي وأمي! أفضل الناس وأبر الناس، وأحلم الناس، وخير الناس، أبن عمتك، عزه عزك، وشرفه شرفك، وملكه ملكك! قال: إني أخافه على نفسي، قال: هو أحلم من ذلك وأكرم؛ فرجع به معه، حتى قدم به على رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال صفوان: إن هذا زعم أنك قد أمنتني، قال: صدق، قال: فأجعلني في أمري بالخيار شهرين، قال: أنت فيه بالخيار أربعة أشهر .
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن الزهري، أن أم حكيم بنت الحارث بن هشام وفاختة بنت الوليد - وكانت فاختة عند صفوان بن أمية، وأم حكيم عند عكرمة بن أبي جهل - أسلمتا، فأما أم حكيم فأستأمنت رسول الله لعكرمة بن أبي جهل، فآمنه، فلحقت به باليمن، فجاءت به؛ فلما أسلم عكرمة وصفوان، أقرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم عندهما على النكاح الأول .
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق؛ لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة هرب هبيرة بن أبي وهب المخزومي وعبد الله بن الزبعري السهمي إلى نجران. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن سعيد بن عبد الرحمن بن حسان بن ثابت الأنصاري؛ قال: رمى حسان عبد الله بن الزبعري وهو بنجران ببيت واحد، ما زاده عليه:
لتعد من رجلاً أحلك بغضه ... نجران في عيش أحذ لئيم
فلما بلغ ذلك أبن الزبعري، رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال حين أسلم:
يا رسول المليك إن لساني ... راتق ما فتقت إذ أنا بور
إذ أباري الشيطان في سنن الري ... ح ومن مال ميله مثبور
آمن اللحم والعظام لربي ... ثم نفسي الشهيد أنت النذير
إنني عنك زاجر ثم حي ... من لؤي فكلهم مغرور
وأما هبيرة بن أبي وهب، فأقام بها كافراً، وقد قال حين بلغه إسلام أم هانئ بنت أبي طالب وكانت تحته، وأسمها هند:
أشاقتك هند أم نآك سؤالها ... كذلك النوى أسبابها وأنفتالها
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: وكان جميع من شهد فتح مكة من المسلمين عشرة آلاف؛ من بني غفار أربعمائة، ومن أسلم أربعمائة، ومن مزينة ألف وثلاثة نفر، ومن بني سليم سبعمائة، ومن جهينة ألف وأربعمائة رجل؛ وسائرهم من من قريش والأنصار وحلفائهم وطوائف العرب من بني تميم وقيس وأسد .
قال الواقدي: في هذه السنة تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم مليكة بنت داود الليثية، فجاء إليها بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت لها: ألا تستحيين حين تزوجين رجلاً قتل أباك! فأستعاذت منه؛ وكانت جميلة، وكانت حدثة، ففارقها رسول الله؛ وكان قتل أباها يوم فتح مكة.
قال: وفيها هدم خالد بن الوليد العزي ببطن نخلة، لخمس ليال بقين من رمضان؛ وهو صنم لبني شيبان؛ بطن من سليم حلفاء بني هاشم، وبنو أسد بن عبد العزي، يقولون: هذا صنمنا، فخرج إليه خالد، فقال: قد هدمته، قال: أرأيت شيئاً؟ قال: لا، قال: فأرجع فأهدمه، فرجع خالد إلى الصنم فهدم بيته، وكسر الصنم، فجعل السادن يقول: أعزي أغضبي بعض غضباتك! فخرجت عليه أمرأة حبشية عريانة مولولة، فقتلها وأخذ ما فيها من حلية، ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره بذلك، فقال: تلك العزي، ولا تعبد العزي أبداً.

حدثنا أبن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن أبن إسحاق، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى العزي - وكانت بنخلة، وكانت بيتاً يعظمه هذا الحي من قريش وكنانة ومضر كلها؛ وكانت سدنتها من بني شيبان، من بني سليم حلفاء بني هاشم - فلما سمع صاحبها بمسير خالد إليها، علق عليها سيفه، وأسند في الجبل الذي هي إليه فأصعد فيه، وهو يقول:
أيا عز شدي شدة لا شمى لها ... على خالد ألقي القناع وشمري
ويا عز إن لم تقتلي اليوم خالداً ... فبوئي بإثم عاجل أو تنصري
فلما أنتهى إليها خالد هدمها، ثم رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الواقدي: وفيها هدم سواع؛ وكان برهاط لهذيل، وكان حجراً؛ وكان الذي هدمه عمرو بن العاص لما أنتهى إلى الصنم، قال له السادن: ما تريد؟ قال: هدم سواع، قال: لا تطيق تهدمه، قال له عمرو بن العاص: أنت في الباطل بعد! فهدمه عمرو، ولم يجد في خزانته شيئاً، ثم قال عمرو للسادن: كيف رأيت؟ قال: أسلمت والله.
وفيها هدم مناة بالمشلل، هدمه سعد بن زيد الأشهلي، وكان للأوس والخزرج.
مسير خالد بن الوليد إلى بني جذيمة بن مالكوفيها كانت غزوة خالد بن الوليد بني جذيمة، وكان من أمره وأمرهم ما حدثنا به ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: قد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث فيما حول مكة السرايا تدعو إلى الله عز وجل؛ ولم يأمرهم بقتال؛ وكان ممن بعث خالد بن الوليد، وأمره أن يسير بأسفل تهامة داعياً، ولم يبعثه مقاتلاً؛ فوطئ بني جذيمة، فأصاب منهم.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن حكيم بن حكيم بن عباد بن حنيف، عن أبي جعفر محمد بن علي بن حسين، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أفتتح مكة خالد بن الوليد داعياً ولم يبعثه مقاتلاً، ومعه قبائل من العرب: سليم ومدلج، وقبائل من غيرهم؛ فلما نزلوا على الغميصاء - وهي ماء من مياه بني جذيمة بن عامر بن عبد مناة أبن كنانة - على جماعتهم، وكانت بنو جذيمة قد أصابوا في الجاهلية عوف بن عبد عوف أبا عبد الرحمن بن عوف والفاكه بن المغيرة - وكانا أقبلا تاجرين من اليمن - حتى إذا نزلا بهم قتلوهما؛ وأخذوا أموالهما، فلما كان الإسلام، وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد، سار حتى نزل ذلك الماء؛ فلما رآه القوم أخذوا السلاح، فقال لهم خالد: ضعوا السلاح، فإن الناس قد أسلموا .
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: حدثني بعض أهل العلم، عن رجل من بني جذيمة، قال: لما أمرنا خالد بوضع السلاح، قال رجل منا يقال له جحدم: ويلكم يا بني جذيمة! إنه خالد! والله ما بعد وضع السلاح إلا الإسار، ثم ما بعد الإسار إلا ضرب الأعناق؛ والله لا أضع سلاحي أبداً. قال: فأخذه رجال من قومه، فقالوا: يا جحدم؛ أتريد أن تسفك دماءنا! إن الناس قد أسلموا، ووضعت الحرب، وأمن الناس؛ فلم يزالوا به حتى نزعوا سلاحه، ووضع القوم السلاح لقول خالد؛ فلما وضعوه أمر بهم خالد عند ذلك فكتفوا، ثم عرضهم على السيف، فقتل من قتل منهم. فلما أنتهى الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رفع يديه إلى السماء، ثم قال: اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد! ثم دعا علي بن أبي طالب عليه السلام، فقال: يا علي أخرج إلى هؤلاء القوم؛ فأنظر في أمرهم، وأجعل أمر الجاهلية تحت قدميك. فخرج حتى جاءهم ومعه مال قد بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم به، فودى لهم الدماء وما أصيب من الأموال؛ حتى إنه ليدي ميلغة الكلب؛ حتى إذا لم يبق شيء من دم ولا مال إلا وداه، بقيت معه بقية من المال. فقال لهم علي عليه السلام حين فرغ منهم: هل بقي لكم دم أو مال لم يود إليكم؟ قالوا: لا، قال: فإني أعطيكم هذه البقية من هذا المال أحتياطاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم مما لا يعلم ولا تعلمون. ففعل، ثم رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره الخبر، فقال: أصبت وأحسنت. ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأستقبل القبلة قائماً شاهراً يديه؛ حتى إنه ليرى بياض ما تحت منكبيه؛ وهو يقول: اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد، ثلاث مرات!

قال ابن إسحاق: وقد قال بعض من يعذر خالداً: إنه قال: ما قاتلت حتى أمرني بذلك عبد الله بن حذافة السهمي، وقال: إن رسول الله قد أمرك بقتلهم لأمتناعهم من الإسلام، وقد كان جحدم قال لهم حين وضعوا سلاحهم ، ورأى ما يصنع خالد ببني جذيمة: يا بني جذيمة، ضاع الضرب، قد كنت حذرتكم ما وقعتم فيه ! حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق ، قال : حدثني عبد الله بن أبي سلمة، قال: كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن أبن عوف - فيما بلغني - كلام في ذلك، فقال له: عملت بأمر الجاهلية في الإسلام! فقال: إنما ثأرت بأبيك، فقال عبد الرحمن بن عوف: كذبت! قد قتلت قاتل أبي، ولكنك إنما ثأرت بعمك الفاكه بن المغيرة؛ حتى كان بينهما شيء ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: مهلاً يا خالد! دع عنك أصحابي؛ فو الله لو كان لك أحد ذهباً ثم أنفقته في سبيل الله؛ ما أدركت غدوة رجل من أصحابي ولا روحته .
حدثنا سعيد بن يحيى الأموي، قال: حدثنا أبي. وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة؛ جميعاً عن ابن إسحاق، عن يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس بن شريق، عن ابن شهاب الزهري، عن ابن عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي، عن أبيه عبد الله بن أبي حدرد، قال: كنت يومئ في خيل خالد، فقال لي فتى منهم - وهو في السبي؛ وقد جمعت يداه إلى عنقه برمة ونسوة مجتمعات غير بعيد منه: يا فتى! قلت: نعم؛ قال: هل أنت آخذ بهذه الرمة فقائدي بها إلى هؤلاء النسوة، حتى أقضى إليهن حاجة، ثم تردني بعد، فتصنعوا بي ما بدا لكم؟ قال: قلت: والله ليسير ما سألت، فأخذت برمته فقدته بها حتى أوقفته عليهن، فقال: أسلمي حبيش ، على نفد العيش :
أريتك إذ طالبتكم فوجدتكم ... بحلية أو ألفيتكم بالخوانق!
ألم يك حقاً أن ينول عاشق ... تكلف إدلاج السري والودائق !
فلا ذنب لي قد قلت إذ أهلنا معاً ... أثيبي بود قبل إحدى الصفائق!
أثيبي بود قبل أن تشحط النوى ... وينأي الأمير بالحبيب المفارق
فإني لا سراً لدي أضعته ... ولا راق عيني بعد وجهك رائق
على أن ما ناب العشيرة شاغل ... ولا ذكر إلا أن يكون لوامق
قالت: وأنت فحييت عشراً، وسبعاً وتراً، وثمانياً تترى ! ثم أنصرفت به، فقدم فضربت عنقه.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن أبي فراس بن أبي سنبلة الأسلمي؛ عن أشياخ منهم، عمن كان حضرها، قالوا: قامت إليه حين ضربت عنقه، فأكبت عليه، فما زالت تقبله حتى ماتت عنده.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، قال: أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة بعد فتحها خمس عشرة ليلة يقصر الصلاة.
قال ابن إسحاق: وكان فتح مكة لعشر ليال بقين من شهر رمضان سنة ثمان.
ذكر الخبر عن غزوة رسول الله صلى الله عليه وسلم هوازن بحنين

وكان من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر المسلمين وأمر هوزان ما حدثنا على بن نصر بن علي الجهضمي وعبد الوارث بن عبد الصمد بن عبد الوارث - قال علي: حدثنا عبد الصمد، وقال عبد الوارث: حدثنا أبي - قال: حدثنا أبان العطار، قال: حدثنا هشام بن عروة، عن عروة، قال: أقام النبي صلى الله عليه وسلم بمكة عام الفتح نصف شهر، لم يزد على ذلك؛ حتى جاءت هوازن وثقيف، فنزلوا بحنين - وحنين واد إلى جنب ذي المجاز - وهم يومئذ عامدون يريدون قتال النبي صلى الله عليه وسلم، وكانوا قد جمعوا قبل ذلك حين سمعوا بمخرج رسول الله من المدينة، وهم يظنون أنه إنما يريدهم حيث خرج من المدينة، فلما أتاهم أنه قد نزل مكة، أقبلت هوازن عامدين إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأقبلوا معهم بالنساء والصبيان والأموال - ورئيس هوازن يومئذ مالك بن عوف أحد بني نصر - وأقبلت معهم ثقيف؛ حتى نزلوا حنيناً يريدون النبي صلى الله عليه وسلم؛ فلما حدث النبي وهو بمكة أن قد نزلت هوازن وثقيف بحنين، يسوقهم مالك بن عوف أحد بني نصر - وهو رئيسهم يومئذ - عمد النبي صلى الله عليه وسلم حتى قدم عليهم، فوافاهم بحنين، فهزمهم الله عز وجل، وكان فيها ما ذكر الله عز وجل في الكتاب؛ وكان الذي ساقوا من النساء والصبيان والماشية غنيمة غنمها الله عز وجل رسوله، فقسم أموالهم فيمن كان أسلم معه من قريش.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: لما سمعت هوازن برسول الله صلى الله عليه وسلم وما فتح الله عليه من مكة؛ جمعها مالك بن عوف النصري؛ وأجتمعت إليه مع هوازن ثقيف كلها، فجمعت نصر وجشم كلها وسعد بن بكر وناس من بني هلال؛ وهم قليل، ولم يشهدها من قيس عيلان إلا هؤلاء، وغابت عنها فلم يحضرها من هوازن كعب ولا كلاب؛ ولم يشهدها منهم أحد له إسم، وفي جشم دريد بن الصمة شيخ كبير؛ ليس فيه شيء إلا التيمن برأيه ومعرفته بالحرب، وكان شيخاً كبيراً مجرباً؛ وفي ثقيف سيدان لهم في الأحلاف: قارب بن الأسود أبن مسعود، وفي بني مالك ذو الخمار سبيع بن الحارث وأخوه الأحمر بن الحارث في بني هلال، وجماع أمر الناس إلى مالك بن عوف النصري.
فلما أجمع مالك المسير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حط مع الناس أموالهم ونساءهم وأبناءهم؛ فلما نزل بأوطاس، إجتمع إليه الناس؛ وفيهم دريد بن الصمة في شجار له يقاد به ؛ فلما نزل قال بأي واد أنتم؟ قالوا: بأوطاس، قال: نعم مجال الخيل! لا حزن ضرس ، ولا سهل دهس ؛ مالي أسمع رغاء البعير، ونهاق الحمير، ويعار الشاء ، وبكاء الصغير! قالوا: ساق مالك بن عوف مع الناس أبناءهم ونساءهم وأموالهم، فقال: أين مالك؟ فقيل: هذا مالك، فدعى له، فقال: يا مالك، إنك قد أصبحت رئيس قومك؛ وإن هذا يوم كائن له ما بعده من الأيام؛ مالي أسمع رغاء البعير، ونهاق الحمير، ويعار الشاء، وبكاء الصغير! قال: سقت مع الناس أبناءهم ونساءهم وأموالهم، قال: ولم؟ قال: أردت أن أجعل خلف كل رجل أهله وماله ليقاتل عنهم؛ قال: فأنقض به ثم قال: راعي ضأن والله! هل يرد المنهزم شيء! إنها إن كانت لك لم ينفعك إلا رجل بسيفه ورمحه، وإن كانت عليك فضحت في أهلك ومالك. ما فعلت كعب وكلاب؟ قالوا: لم يشهد منهم أحد، قال: غاب الجد والحد؛ لو كان يوم علاء ورفعة لم تغب عنه كعب وكلاب؛ ولوددت أنكم فعلتم ما فعلت كعب وكلاب؛ فمن شهدها منكم؟ قالوا: عمرو بن عامر وعوف بن عامر؛ قال: ذانك الجذعان من بني عامر! لا ينفعان ولا يضران، يا مالك إنك لم تصنع بتقديم البيضة؛ بيضة هوازن، إلى نحور الخيل شيئاً، أرفعهم إلى متمنع بلادهم وعليا قومهم؛ ثم ألق الصباء على متون الخيل، فإن كانت لك لحق بك من وراءك، وإن كانت عليك ألفاك ذلك وقد أحرزت أهلك ومالك. قال: والله لا أفعل، إنك قد كبرت وكبر علمك؛ والله لتطيعنني يا معشر هوازن أو لأتكئن على هذا السيف حتى يخرج من ظهري! وكره أن يكون لدريد فيها ذكر ورأى. قال دريد بن الصمة: هذا يوم لم أشهده؛ ولم يفتني:
يا ليتني فيها جذع ... أخب فيها وأضع
أقود وطفاء الزمع ... كأنها شاة صدع

وكان دريد رئيس بني جشم وسيدهم وأوسطهم؛ ولكن السن أدركته حتى فنى - وهو دريد بن الصمة بن بكر بن علقمة بن جداعة بن غزية أبن جشم بن معاوية بن بكر بن هوازن - ثم قال مالك للناس: إذا أنتم رأيتم القوم فأكسروا جفون سيوفكم، وشدوا شدة رجل واحد عليهم .
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن أمية أبن عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان؛ أنه حدث أن مالك بن عوف بعث عيوناً من رجاله لينظروا له، ويأتوه بخبر الناس؛ فرجعوا إليه وقد تفرقت أوصالهم، فقال: ويلكم! ما شأنكم؟ قالوا: رأينا رجالاً بيضاً على خيل بلق؛ فو الله ما تماسكنا أن أصابنا ما ترى! فلم ينهه ذلك عن وجهه؛ أن مصى على ما يريد .
قال ابن إسحاق: ولما سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إليهم عبد الله بن أبي حدرد الإسلمي، وأمره أن يدخل في الناس فيقيم فيهم حتى يأتيه بخبر منهم؛ ويعلم من علمهم. فأنطلق أبن أبي حدرد، فدخل فيهم، فأقام معهم حتى سمع وعلم ما قد أجمعوا له من حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلم أمر مالك وأمر هوازن وما هم عليه. ثم أتى رسول الله، فأخبره الخبر؛ فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب، فأخبره خبر أبن أبي حدرد، فقال: عمر: كذب! فقال أبن أبي حدرد: إن تكذبني فطالما كذبت بالحق يا عمر! فقال عمر: ألا تسمع يا رسول الله إلى ما يقول أبن أبي حدرد! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد كنت ضالاً فهداك الله يا عمر .
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: حدثني أبو جعفر محمد بن علي بن حسين، قال: لما أجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم السير إلى هوازن ليلقاهم، ذكر له أن عند صفوان بن أمية أدراعاً وسلاحاً، فأرسل إليه، فقال: يا أبا أمية - وهو يومئذ مشرك: أعرنا سلاحك هذا نلق فيه عدونا غداً. فقال له صفوان: أغصباً يا محمد! قال: بل عارية مضمونة حتى نؤديها إليك، قال: ليس بهذا بأس، فأعطاه مائة درع بما يصلحها من السلاح؛ فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأله أن يكفيه حملها ففعل .
قال أبو جعفر محمد بن علي: فمضت السنة أن العارية مضمونة مؤداة.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عبد الله أبن أبي بكر، قال: ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ومعه ألفان من أهل مكة، مع عشرة آلاف من أصحابه الذين فتح الله بهم مكة، فكانوا أثنى عشر ألفاً، وأستعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم عتاب بن أسيد أبن العيص بن أمية بن عبد شمس على مكة أميراً على من غاب عنه من الناس، ثم مضى على وجهه يريد لقاء هوازن .

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة، عن عبد الرحمن بن جابر، عن أبيه، قال: لما أستقبلنا وادي حنين، أنحدرنا في واد من أودية تهامة أجوف حطوط، إنما ننحدر فيه أنحداراً - قال: وفي عماية الصبح، وكان القوم قد سبقوا إلى الوادي، فكمنوا لنا في شعابه وأحنائه ومضايقه، قد أجمعوا وتهيئوا وأعدوا - فو الله ما راعنا ونحن منحطون إلا الكتائب قد شدت علينا شدة رجل واحد؛ وأنهزم الناس أجمعوا، فأنشمروا لا يلوي أحد على أحد؛ وأنحاز رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات اليمين، ثم قال: أين أيها الناس! هلم إلى! أنا رسول الله، أنا محمد بن عبد الله! قال: فلا شيء، أحتملت الإبل بعضها بعضاً، فأنطلق الناس؛ إلا أنه قد بقي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نفر من المهاجرين والأنصار وأهل بيته. وممن ثبت معه من المهاجرين أبو بكر، عمر، ومن أهل بيته علي بن أبي طالب، والعباس بن عبد المطلب، وأبنه الفضل، وأبو سفيان بن الحارث، وربيعة بن الحارث، وأيمن بن عبيد - وهو أيمن بن أم أيمن - وأسامة بن زيد بن حارثة. قال: ورجل من هوازن على جمل له أحمر، بيده راية سوداء في رأس رمح طويل، أمام الناس وهوازن خلفه ، إذا أدرك طعن برمحه، وإذا فاته الناس رفع رمحه لمن وراءه؛ فأتبعوه. ولما أنهزم الناس، ورأى من كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من جفاة أهل مكة الهزيمة، تكلم رجال منهم بما في أنفسهم من الضغن، فقال أبو سفيان بن حرب: لا تنتهي هزيمتهم دون البحر؛ والأزلام معه في منانته؛ وصرخ كلدة بن الحنبل - وهو مع أخيه صفوان بن أمية بن خلف وكان أخاه لأمه، وصفوان يومئذ مشرك في المدة التي جعل له رسول الله صلى الله عليه وسلم - فقال: ألا بطل السحر اليوم! فقال له صفوان: أسكت فض الله فاك! فو الله لأن يربني رجل من قريش أحب إلى من أن يربني رجل من هوازن! وقال شيبة بن عثمان بن أبي طلحة، أخوبني عبد الدار: قلت: اليوم أدرك ثأري - وكان أبوه قتل يوم أحد - اليوم أقتل محمداً. قال: فأردت رسول الله لأقتله، فأقبل شيء حتى تغشى فؤادي فلم أطق ذلك، وعلمت أنه قد منع مني .
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق عن الزهري، عن كثير بن العباس، عن أبيه العباس بن عبد المطلب، قال: إني لمع رسول الله صلى الله عليه وسلم آخذ بحكمة بغلته البيضاء، قد شجرتها بها، قال: وكنت أمرأً جسيماً شديد الصوت، قال: ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول حين رأى من الناس ما رأى : أين أيها الناس ! فلما رأى الناس لا يلوون على شيء قال: يا عباس، أصرخ: يا معشر الأنصار! يا أصحاب السمرة! فناديت: يا معشر الأنصار، يا معشر أصحاب السمرة! قال: فأجابوا: أن لبيك لبيك! قال: فيذهب الرجل منهم يريد ليثني بعيره؛ فلا يقدر على ذلك، فيأخذ درعه فيقذفها في عنقه، ويأخذ سيفه وترسه ، ثم يقتحم عن بعيره فيخلى سبيله في الناس، ثم يؤم الصوت، حتى ينتهي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ حتى إذا أجتمع إليه منهم مائة رجل أستقبلوا الناس، فأقتتلوا، فكانت الدعوى أول ما كانت: يا للأنصار! ثم جعلت أخيراً: يا للخزرج! وكانوا صبراً عند الحرب؛ فأشرف رسول الله صلى الله عليه وسلم في ركابه، فنظر مجتلد القوم وهم يجتلدون، فقال: الآن حمى الوطيس ! حدثنا هارون بن إسحاق، قال: حدثنا مصعب بن المقدام، قال: حدثنا إسرائيل، قال: حدثنا أبو إسحاق، عن البراء، قال: كان أبو سفيان بن الحارث يقود بالنبي صلى الله عليه وسلم بغلته يوم حنين، فلما غشى النبي صلى الله عليه وسلم المشركون، نزل فجعل يرتجز، ويقول:
أنا النبي لا كذب ... أنا أبن عبد المطلب
فما رئى من الناس أشد منه.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عاصم أبن عمر بن قتادة، عن عبد الرحمن بن جابر، عن أبيه جابر بن عبد الله، قال: بينا ذلك الرجل من هوازن صاحب الراية على جمله يصنع ما يصنع؛ إذ هوى له علي بن أبي طالب ورجل من الأنصار؛ يريدانه، فيأتيه على من خلفه، فيضرب عرقوبي الجمل، فوقع على عجزه، ووثب الأنصاري على الرجل فضربه ضربة أطن قدمه بنصف ساقه ، فأنجعف عن رحله. قال: وأجتلد الناس، فو الله ما رجعت راجعة الناس من هزيمتهم حتى وجدوا الأساري مكتفين؛ وقد ألتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي سفيان أبن الحارث بن عبد المطلب - وكان ممن صبر يومئذ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان حسن الإسلام حين أسلم، وهو آخذ بثفر بغلته - فقال: من هذا؟ قال: أبن أمك يا رسول الله ! حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ألتفت، فرأى أم سليم بنت ملحان - وكانت مع زوجها أبي طلحة - حازمة وسطها ببرد لها؛ وإنها لحامل بعبد الله بن أبي طلحة، ومعها جمل أبي طلحة، وقد خشيت أن يعزها الجمل، فأدنت رأسه منها، فأدخلت يدها في خزامته مع الخطام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أم سليم! قالت: نعم؛ بأبي أنت وأمي يا رسول الله! أقتل هؤلاء الذين يفرون عنك كما تقتل هؤلاء الذين يقاتلونك، فإنهم لذلك أهل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أو يكفي الله يا أم سليم! ومعها خنجر في يدها، فقال لها أبو طلحة: ما هذا معك يا أم سليم؟ قالت: خنجر أخذته معي؛ إن دنا مني أحد من المشركين بعجته به . قال : يقول أبو طلحة: ألا تسمع ما تقول أم سليم يا رسول الله ! .
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: حدثني حماد بن سلمة، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس أبن مالك، قال: لقد أستلب أبو طلحة يوم حنين عشرين رجلاً وحده هو قتلهم .
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن أبيه، أنه حدث عن جبير بن مطعم، قال: لقد رأيت قبل هزيمة القوم والناس يقتتلون مثل البجاد الأسود، أقبل من السماء حتى سقط بيننا وبين القوم؛ فنظرت فإذا نمل أسود مبثوث قد ملأ الوادي؛ فلم أشك أنها الملائكة، ولم يكن إلا هزيمة القوم .
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: فلما أنهزمت هوازن أستحر القتل من ثقيف ببني مالك، فقتل منهم سبعون رجلاً تحت رايتهم، فيهم عثمان بن عبد الله بن ربيعة بن الحارث بن حبيب؛ جد أبن أم حكم بنت أبي سفيان، وكانت رايتهم مع ذي الخمار، فلما قتل أخذها عثمان بن عبد الله فقاتل بها حتى قتل .
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، فال: حدثني محمد بن إسحاق، عن عامر بن وهب بن الأسود بن مسعود، قال: لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل عثمان، قال: أبعده الله! فإنه كان يبغض قريشاً .
حدثنا علي بن سهل، قال: حدثنا مؤمل، عن عمارة بن زاذان، عن ثابت، عن أنس، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يوم حنين على بغلة بيضاء، يقال لها دلدل، فلما أنهزم المسلمون، قال النبي صلى الله عليه وسلم لبغلته: البدي دلدل! فوضعت بطنها على الأرض، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم حفنة من تراب، فرمى بها في وجوههم، وقال: " حم لا ينصرون ! " . فولى المشركون مدبرين، ما ضرب بسيف ولا طعن برمح ولا رمى بسهم.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس، قال: قتل مع عثمان بن عبد الله غلام له نصراني أغرل . قال: فبينا رجل من الأنصار يستلب قتلي من ثقيف، إذ كشف العبد ليستلبه، فوجده أغرل، فصرخ بأعلى صوته: يعلم الله أن ثقيفاً غرل ما تختتن! قال المغيرة بن شعبة: فأخذت بيده، وخشيت أن تذهب عنا في العرب، فقلت: لا تقل ذلك فداك أبي وأمي! إنما هو غلام لنا نصراني، ثم جعلت أكشف له قتلانا فأقول: ألا تراهم مخنين! قال: وكانت راية الأحلاف مع قارب بن الأسود بن مسعود، فلما هزم الناس أسند رايته إلى شجرة، وهرب هو وبنو عمه وقومه من الأحلاف، فلم يقتل منهم إلا رجلان؛ رجل من بني غيرة يقال له وهب، وآخر من بني كنة يقال له: الجلاح، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بلغه قتل الجلاح: قتل اليوم سيد شباب ثقيف؛ إلا ما كان من أبن هنيدة - وأبن هنيدة الحارث بن أوس .
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: ولما أنهزم المشركون أتوا الطائف، ومعهم مالك بن عوف، وعسكر بعضهم بأوطاس، وتوجه بعضهم نحو نخلة - ولم يكن فيمن توجه نحو نخلة إلا بنو غيرة من ثقيف - فتبعت خيل رسول الله صلى الله عليه وسلم من سلك في نخلة من الناس، ولم تتبع من سلك الثنايا، فأدرك ربيعة بن رفيع بن أهبان بن ثعلبة بن ربيعة بن يربوع بن سمال بن عوف بن أمرئ القيس - وكان يقال له أبن لذعة وهي أمه، فغلبت على نسبة - دريد بن الصمة، فأخذ بخطام جمله؛ وهو يظن أنه أمرأة؛ وذلك أنه كان في شجار له، فإذا هو رجل، فأناخ به، وإذا هو بشيخ كبير؛ وإذا هو دريد بن الصمة، لا يعرفه الغلام، فقال له دريد: ماذا تريد بي؟ قال: أقتلك، قال: ومن أنت؟ قال: أنا ربيعة بن رفيع السلمى، ثم ضربه بسيفه فلم يغن شيئاً، فقال: بئسما سلحتك أمك! خذ سيفي هذا من مؤخر الرحل في الشجار، ثم أضرب به وأرفع عن العظام، وأخفض عن الدماغ، فإني كذلك كنت أقتل الرجال. ثم إذا أتيت أمك فأخبرها أنك قتلت دريد بن الصمة؛ فرب يوم والله قد منعت نساءك! فزعمت بنو سليم أن ربيعة قال: لما ضربته فوقع تكشف الثوب عنه، فإذا عجانه وبطون فخذيه مثل القرطاس من ركوب الخيل أعراء ، فلما رجع ربيعة إلى أمه أخبرها بقتله إياه، فقالت: والله لقد أعتق أمهات لك ثلاثاً .
قال أبو جعفر: وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في آثار من توجه قبل أوطاس؛ فحدثني موسى بن عبد الرحمن الكندي، قال: حدثنا أبو أسامة، عن بريد بن عبد الله، عن أبي بردة، عن أبيه، قال: لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم من حنين بعث أبا عامر على جيش إلى أوطاس، فلقى دريد بن الصمة، فقتل دريداً، وهزم الله أصحابه.
قال أبو موسى: فبعثني مع أبي عامر، قال: فرمى أبو عامر في ركبته، رماه رجل من بني جشم بسهم فأثبته في ركبته، فأنتهيت إليه، فقلت: يا عم، من رماك؟ فأشار أبو عامر لأبي موسى، فقال: إن ذاك قاتلي، تراه ذلك الذي رماني! قال أبو موسى: فقصدت له فأعتمدته، فلحقته، فلما رآني ولي عني ذاهباً، فأتبعه، وجعلت أقول له: ألا تستحي! ألست عربياً! ألا تثبت! فكر، فالتقيت أنا وهو، فأختلفنا ضربتين، فضربته بالسيف، ثم رجعت إلى أبي عامر، فقلت: قد قتل الله صاحبك، قال: فأنزع هذا السهم، فنزعته فنزا منه الماء، فقال: يا بن أخي، أنطلق إلى رسول الله، فأفرئه منى السلام، وقل له إنه يقول لك: أستغفر لي.
قال: وأستخلفني أبو عامر على الناس فمكث يسيراً. ثم إنه مات.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: يزعمون أن سلمة بن دريد، هو الذي رمى أبا عامر بسهم فأصاب ركبته، فقتله، فقال سلمة بن دريد في قتله أبا عامر:
إن تسألوا عني فإني سلمه ... أبن سمادير لمن توسعه
أضرب بالسيف رءوس المسلمه وسمادير أم سلمة، فأنتهى إليها.
قال: وخرج مالك بن عوف عند الهزيمة، فوقف في فوارس من قومه على ثنية من الطريق، وقال لأصحابه: قفوا حتى تمضي ضعفاؤكم وتلحق أخراكم؛ فوقف هنالك حتى مضى من كان لحق بهم من منهزمة الناس .

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: حدثني بعض بني سعد بن بكر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يومئذ لخيله التي بعث: إن قدرتم على يجاد - رجل من بني سعد أبن بكر - فلا يفلتنكم؛ وكان بجاد قد أحدث حدثاً، فلما ظفر به المسلمون ساقوه وأهله، وساقوا أخته الشيماء بنت الحارث بن عبد الله بن عبد العزي، أخت رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرضاعة، فعنفوا عليها في السياق معهم، فقالت للمسلمين: تعلمون والله أني لأخت صاحبكم من الرضاعة؛ فلم يصدقوها حتى أتوا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثنا ابن إسحاق، عن أبي وجزة يزيد بن عبيد السعدي، قال: لما أنتهى بالشيماء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: يا رسول الله، إني أختك، قال: وما علامة ذلك؟ قالت عضة عضضتنيها في ظهري وأنا متوركتك. قال: فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم العلامة، فبسط لها رداءه، ثم قال: ها هنا، فأجلسها عليه، وخيرها، وقال: إن أحببت فعندي محببة مكرمة، وإن أحببت أمتعك وترجعي إلى قومك، قالت: بل تمتعني وتردني إلى قومي، فمتعها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وردها إلى قومها؛ فزعمت بنو سعد بن بكر أنه أعطاها غلاماً له يقال له مكحول، وجارية؛ فزوجت أحدهما الآخر، فلم يزل فيهم من نسلهما بقية .
قال ابن إسحاق: أستشهد يوم حنين من قريش، ثم من بني هاشم: أيمن بن عبيد - وهو أبن أم أيمن، مولاة رسول الله صلى الله عليه وسلم - ومن بني أسد بن عبد العزى يزيد بن زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد - جمح به فرس له يقال له الجناح، فقتل - ومن الأنصار سراقة بن الحارث أبن عدي بن بلعجلان، ومن الأشعريين أبو عامر الأشعري. ثم جمعت إلى رسول الله سبايا حنين وأموالها؛ وكان على المغانم مسعود بن عمرو القاري، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسبايا والأموال إلى الجعرانة فحبست بها حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: قال ابن إسحاق: لما قدم فل ثقيف الطائف أغلقوا عليهم أبواب مدينتها، وصنعوا الصنائع للقتال؛ ولم يشهد حنيناً ولا حصار الطائف عروة بن مسعود ولا غيلان بن سلمة؛ كانا بجرش يتعلمان صنعة الدباب والضبور والمجانيق .
غزوة الطائف فحدثنا علي بن نصر بن علي، قال: حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث، وحدثنا عبد الوارث بن عبد الصمد بن عبد الوارث، قال: حدثنا أبي، قال: أخبرنا أبان العطار، قال: حدثنا هشام بن عروة، عن عروة، قال: سار رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين من فوره ذلك - يعني منصرفه من حنين - حتى نزل الطائف، فأقام نصف شهر يقاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وقاتلتهم ثقيف من وراء الحصن؛ لم يخرج إليه في ذلك أحد منهم؛ وأسلم من حولهم من الناس كلهم؛ وجاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم وفودهم؛ ثم رجع النبي صلى الله عليه وسلم ولم يحاصرهم إلا نصف شهر حتى نزل الجعرانة؛ وبها السبي الذي سبي رسول الله من حنين من نسائهم وأبنائهم - ويزعمون أن ذلك السبي الذي أصاب يومئذ من هوازن كانت عدته ستة آلاف من نسائهم وأبنائهم - فلما رجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى الجعرانة، قدمت عليه وفود هوازن مسلمين، فأعتق أبناءهم ونساءهم كلهم، وأهل بعمرة من الجعرانة؛ وذلك في ذي القعدة.
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم رجع إلى المدينة، وأستخلف أبا بكر رضي الله تعالى عنه على أهل مكة، وأمره أن يقيم للناس الحج، ويعلم الناس الإسلام، وأمره أن يؤمن من حج من الناس؛ ورجع إلى المدينة؛ فلما قدمها قدم عليه وفود ثقيف، فقاضوه على القضية التي ذكرت؛ فبايعوه، وهو الكتاب الذي عندهم كاتبوه عليه.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني ابن إسحاق عن عمرو بن شعيب؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سلك إلى الطائف من حنين على نخلة اليمانية، ثم على قرن، ثم على المليح، ثم على بحرة الرغاء من لية، فأبتني بها مسجداً، فصلى فيه، فأقاد يومئذ ببحرة الرغاء حين نزلها بدم - وهو أول دم أقيد به في الإسلام - رجلاً من بني ليث؛ قتل رجلاً من هذيل، فقتله رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وأمره رسول الله وهو بلبية بحصن مالك بن عوف فهدم؛ ثم سلك في طريق يقال لها الضيقة، فلما توجه فيها، سأل على أسمها، فقال: ما أسم هذه الطريق؟ فقيل له: الضيفة، فقال: بل هي اليسرى. ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على نخب؛ حتى نزل تحت سدرة يقال لها الصادرة، قريباً من مال رجل من ثقيف، فأرسل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: إما أن تخرج؛ وإما أن نخرب عليك حائطك؛ فأبى أن يخرج، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإخرابه .
ثم مضى رسول الله حتى نزل قريباً من الطائف؛ فضرب عسكره، فقتل أناس من أصحابه بالنبل؛ وذلك أن العسكر أقترب من حائط الطائف فكانت النبل تنالهم، ولم يقدر المسلمون أن يدخلوا حائطهم، غلقوه دونهم؛ فلما أصيب أولئك النفر من أصحابه بالنبل، أرتفع، فوضع عسكره عند مسجده الذي بالطائف اليوم؛ فحاصرهم بضعاً وعشرين ليلة ؛ ومعه أمرأتان من نسائه؛ إحداهما أم سلمة بنت أبي أمية وأخرى معها - قال الواقدي: الأخرى زينب بنت جحش - فضرب لهما قبتين، فصلى بين القبتين ما أقام.
فلما أسلمت ثقيف ، بني علي مصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك أبو أمية بن عمرو بن وهب بن معتب بن مالك مسجداً، وكانت في ذلك المسجد سارية - فيما يزعمون - لا تطلع عليها الشمس يوماً من الدهر؛ إلا سمع لها نقيض ؛ فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقاتلهم قتالاً شديداً، وتراموا بالنبل حتى إذا كان يوم الشدخة عند جدار الطائف، دخل نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت دبابة؛ ثم زحفوا بها إلى جدار الطائف، فأرسلت عليهم ثقيف سكك الحديد محماة بالنار، فخرجوا من تحتها، فرمتهم ثقيف بالنبل، وقتلوا رجالاً؛ فأمر رسول الله بقطع أعناب ثقيف، فوقع فيها الناس يقطعون.
وتقدم أبو سفيان بن حرب والمغيرة بن شعبة إلى الطائف. فناديا ثقيفاً: أن أمنونا حتى نكلمكم! فأمنوهما؛ فدعوا نساء من نساء قريش وبني كنانة ليخرجن إليهما - وهما يخافان عليهن السباء - فأبين؛ منهن آمنة بنت أبي سفيان، كانت عند عروة بن مسعود له منها داود بن عروة وغيرها .
وقال الواقدي: حدثني كثير بن زيد، عن الوليد بن رباح، عن أبي هريرة، قال: لما مضت خمس عشرة من حصار الطائف، أستشار رسول الله نوفل بن معاوية الديلي، وقال: يا نوفل، ما ترى في المقام عليهم؟ قال: يا رسول الله؛ ثعلب في جحر؛ إن أقمت عليه أخذته، وإن تركته لم يضرك.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثنا ابن إسحاق، قال: قد بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر بن أبي قحافة، وهو محاصر ثقيفاً بالطائف: يا أبا بكر، إني رأيت أنه أهديت لي قعبة مملوءة زبداً، فنقرها ديك فأهراق ما فيها؛ فقال أبو بكر: ما أظن أن تدرك منهم يومك هذا ما تريد يا رسول الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وأنا لا أرى ذلك.

ثم إن خولة بنت حكيم بن أمية بن حارثة بن الأوقص السلمية - وهي أمرأة عثمان بن مظعون - قالت: يا رسول الله، أعطني إن فتح الله عليك الطائف حلى بادية بنت غيلان بن سلمة، أو حلى الفارغة بنت عقيل - وكانتا من أحلى نساء ثقيف - قال: فذكر لي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها: وإن كان لم يؤذن لي في ثقيف يا خويلة! فخرجت خويلة، فذكرت ذلك لعمر بن الخطاب، فدخل عمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، ما حديث حد ثتنيه خويلة أنك قلته! قال: قد قلته، قال: أو ما أذن فيهم يا رسول الله! قال: لا،
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://arabelalekat.yoo7.com
الشيخ عودة
الشيخ عودة
الشيخ عودة



عدد المساهمات : 1748
تاريخ التسجيل : 28/09/2008
العمر : 73

كتاب : تاريخ الرسل والملوك المؤلف : الطبري - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: كتاب : تاريخ الرسل والملوك المؤلف : الطبري   كتاب : تاريخ الرسل والملوك المؤلف : الطبري - صفحة 2 Emptyالسبت ديسمبر 14, 2013 10:37 am

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عبد الله أبن أبي بكر، قال: أعطي رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤلفة قلوبهم - وكانوا أشرافاً من أشراف الناس يتألفهم ويتألف به قلوبهم - فأعطي أبا سفيان بن حرب مائة بعير، وأعطي أبنه معاوية مائة بعير، وأعطي حكيم أبن حزام مائة بعير، وأعطي النضير بن الحارث بن كلدة بن علقمة أخا بني عبد الدار مائة بعير، وأعطي العلاء بن جارية الثقفي حليف بني زهرة مائة بعير، وأعطي الحارث بن هشام مائة بعير، وأعطي صفوان بن أمية مائة بعير، وأعطي سهيل بن عمرو مائة بعير، وأعطي حويطب بن عبد العزي بن أبي قيس مائة بعير، وأعطي عيينة بن حصن مائة بعير، وأعطي الأقرع أبن حابس التميمي مائة بعير، وأعطي مالك بن عوف النصري مائة بعير، فهؤلاء أصحاب المئين؛ وأعطي دون المائة رجالاً من قريش؛ منهم مخرمة أبن نوفل بن أهيب الزهري، وعمير بن وهب الجمحي، وقد عرف فيما زعم أنها دون المائة - وأعطي سعيد بن يربوع بن عنكثة بن عامر بن مخزوم خمسين من الإبل، وأعطي السهمي خمسين من الإبل، وأعطي عباس بن مرداس السلمي أبا عر فنسخطها ، وعاتب فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:
كانت نهاباً تلافيتها ... بكرى على المهر في الأجرع
وإيقاظي القوم أن يرقدوا ... إذا هجع الناس لم أهجع
فأصبح نهبي ونهب العبيد ... د بين عيينة والأقرع
وقد كنت في الحرب ذا تدرإ ... فلم أعط شيئاً ولم أمنع
إلا أفائل أعطيتها ... عديد قوائمها الأربع
وما كان حصن ولاحابس ... يفوقان مرداس في المجمع
وما كنت دون أمرئ منهما ... ومن تضع اليوم لا يرفع
قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أذهبوا فأقطعوا عني لسانه؛ فزادوه حتى رضي؛ فكان ذلك قطع لسانه الذي أمر به .
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن أبراهيم بن الحارث، أن قائلاً قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم من أصحابه: يا رسول الله، أعطيت عيينة بن حصن والأقرع بن حابس مائة مائة، وتركت جعيل بن سراقة الضمري ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما والذي نفسي بيده، لجعيل بن سراقة خير من طلاع الأرض، كلهم مثل عيينة بن حصن والأقرع بن حابس؛ ولكني تألفتهما ليسلما، ووكلت جعيل بن سراقة إلى إسلامه .
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: حدثني أبو عبيدة بن محمد، عن مقسم أبي القاسم مولي عبد الله بن الحارث بن نوفل، قال: خرجت أنا وتليد بن كلاب الليثي حتى أتينا عبد الله أبن عمرو بن العاص وهو يطوف بالبيت معلقاً نعليه بيده، فقلنا له: هل حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين كلمه التميمي يوم حنين؟ قال: نعم، أفبل رجل من بني تميم يقال له ذو الخويصرة، فوقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يعطي الناس، فقال: يا محمد قد رأيت ما صنعت في هذا اليوم! فقال رسول الله: أجل؛ فكيف رأيت؟ قال: لم أرك عدلت! فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: ويحك! إذا لم يكن العدل عندي، فعند من يكون! فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله، ألا نقتله ! فقال: لا، دعوه ؛ فإنه سيكون له شيعة يتعمقون في الدين حتى يخرجوا منه كما يخرج السهم من الرمية ، ينظر في النصل فلا يوجد شيء، ثم في القدح فلا يوجد شيء؛ ثم في الفوق فلا يوجد شيء؛ سبق الفرث والدم .
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي مثل ذلك؛ وسماه ذا الخويصرة التميمي .
قال أبو جعفر: وقد روى عن أبي سعيد الخدري أن الذي كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الكلام؛ إنما كلمه به في مال كان علي عليه السلام بعثه من اليمن إلى رسول الله، فقسمه بين جماعة؛ منهم عيينة بن حصن، والأقرع، وزيد الخيل؛ فقال حينئذ ما ذكر عن ذي الخويصرة أنه قاله رجل حضره.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر أن رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ممن شهد معه حنيناً، قال: والله إني لأسير إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ناقة لي، وفي رجلي نعل غليظة، إذ زحمت ناقتي ناقة رسول الله، ويقع حرف نعلي على ساق رسول الله فأوجعه، قال: فقرع قدمي بالسوط، قال: أوجعتني فتأخر عني، فأنصرفت؛ فلما كان من الغد إذا رسول الله يلتمسني، قال: قلت: هذا والله لما كنت أصبت من رجل رسول الله بالأمس. قال: فجئته وأنا أتوقع، فقال لي: إنك قد أصبت رجلي بالأمسي فأوجعتني فقرعت قدمك بالسوط، فدعونك لأعوضك منها؛ فأعطاني ثمانين نعجة بالضربة التي ضربني.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عاصم أبن عمر بن قتادة، عن محمود بن لبيد، عن أبي سعيد الخدري، قال: لما أعطي رسول الله ما أعطي من تلك العطايا في قريش وقبائل العرب، ولم يكن في الأنصار منها شيء، وجد هذا الحي من الأنصار في أنفسهم، حتى كثرت منهم القالة ؛ حتى قال قائلهم: لقي والله رسول الله قومه! فدخل عليه سعد بن عبادة فقال: يا رسول الله؛ إن هذا الحي من الأنصار قد وجدوا عليك في أنفسهم لما صنعت في هذا الفئ الذي أصبت؛ قسمت في قومك وأعطيت عطايا عظاماً في قبائل العرب، ولم يكن في هذا الحي من الأنصار شيء، قال: فأين أنت من ذلك يا سعد! قال: يا رسول الله ما أنا إلا من قومي! قال: فأجمع لي قومك في الحظيرة، قال: فخرج سعد فجمع الأنصار في تلك الحظيرة، قال: فجاءه رجال من المهاجرين، فتركهم فدخلوا، وجاء آخرون فردهم، فلما أجتمعوا إليه أناه سعد فقال: قد أجتمع لك هذا الحي من الأنصار، فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحمد الله وأثنى عليه بالذي هو له أهل، ثم قال: يا معشر الأنصار، ما قالة بلغتني عنكم، وموجدة وجدتموها في أنفسكم! ألم آتكم ضلالاً فهداكم الله؛ وعالة فأغناكم الله، وأعداء فألف الله بين قلوبكم! قالوا: بلى، لله ولرسوله المن والفضل! فقال: ألا تجيبوني يا معشر الأنصار! قالوا: وبماذا نجيبك يا رسول الله، لله ولرسوله المن والفضل! قال: أما والله لو شئتم لقلتم فصدقتم، ولصدقتم؛ أتيتنا مكذباً فصدقناك، ومخذولاً فنصرناك، وطريداً فآويناك، وعائلاً فآسيناك؛ وجدتم في أنفسكم يا معشر الأنصار في لعاعة من الدنيا تألفت بها قوماً ليسلموا، ووكلتكم إلى إسلامكم! أفلا ترضون يا معشر الأنصار؛ أن يذهب الناس بالشاء والبعير، وترجعوا برسول الله إلى رحالكم! فو الذي نفس محمد بيده؛ لولا الهجرة لكنت أمرأ من الأنصار، ولو سلك الناس شعباً وسلكت الأنصار شعباً، لسلكت شعب الأنصار! اللهم أرحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار! قال: فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم، وقالوا: رضينا برسول الله قسماً وجظاً، ثم أنصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفرقوا .
عمرة رسول الله من الجعرانة حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من الجعرانة معتمراً، وأمر ببقايا الفئ، فحبس بمجنة، وهي بناحية مر الظهران، فلما فرغ رسول الله من عمرته وأنصرف راجعاً إلى المدينة؛ أستخلف عتاب بن أسيد على مكة، وخلف معه معاذ بن جبل يفقه الناس في الدين ويعلمهم القرآن، وأتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم ببقايا الفئ.
وكانت عمرة رسول الله في ذي القعدة، فقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة في ذي القعدة أو في ذي الحجة، وحج الناس تلك السنة على ما كانت العرب تحج عليه، وحج تلك السنة بالمسلمين عتاب بن أسيد؛ وهي سنة ثمان؛ وأقام أهل الطائف على شركهم وأمتناعهم في طائفهم ما بين ذي القعدة، إذ أنصرف رسول الله عنهم إلى شهر رمضان من سنة تسع .
قال الواقدي: لما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم الغنائم بين المسلمين بالجعرانة، أصاب كل رجل أربع من الإبل وأربعون شاة؛ فمن كان منهم فارساً أخذ سهم فرسه أيضاً. وقال أيضاً: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة لليال يقين من ذي الحجة من سفرته هذه.

قال: وفيها بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص إلى جيفر وعمرو أبني الجلندي من الأزد مصدقاً، فخليا بينه وبين الصدقة، فأخذ الصدقة من أغنيائهم وردها على فقرائهم، وأخذ الجزية من المجوس الذين بها، وهم كانوا أهل البلد، والعرب كانوا يكونون حولها.
قال: وفيها تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم الكلابية التي يقال لها فاطمة بنت الضحاك بن سفيان، فأختارت الدنيا حين خيرت. وقيل: إنها أستعاذت من رسول الله، ففارقها. وذكر أن إبراهيم بن وثيمة بن مالك بن أوس بن الحدثان؛ حدثه عن أبي وجزة السعدي أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها في ذي القعدة.
قال: وفيها ولدت مارية إبراهيم في ذي الحجة، فدفعه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أم بردة بنت المنذر بن زيد بن لبيد بن خداش بن عامر أبن غنم بن عدي بن النجار، وزوجها البراء بن أوس بن خالد بن الجعد أبن عوف بن مبذول بن عمر بن غنم بن عدي بن النجار؛ فكانت ترضعه.
قال: وكانت قابلتها سلمى مولاة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فخرجت إلى أبي رافع فأخبرته أنها ولدت غلاماً؛ فبشر به أبو رافع رسول الله، فوهب له مملوكاً.
قال: وغارت نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأشتد عليهن حين رزقت منه الولد.
ثم دخلت سنة تسع وفيها قدم وفد بني أسد على رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما ذكر - فقالوا: قدمنا يا رسول الله قبل أن ترسل إلينا رسولاً، فأنزل الله عز وجل في ذلك من قولهم: " يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم " .
وفيها قدم وفد بلى في شهر ربيع الأول، فنزلوا على رويفع بن ثابت البلوي. وفيها قدم وفد الداريين من لخم، وهم عشرة.
أمر ثقيف ولإسلامها وفيها قدم - في قول الواقدي - عروة بن مسعود الثقفي على رسول الله صلى الله عليه وسلم مسلماً، وكان من خبره - ما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنصرف عن أهل الطائف أتبع أثره عروة بن مسعود بن معتب حتى أدركه قبل أن يصل إلى المدينة، فأسلم؛ وسأله أن يرجع إلى قومه بالإسلام، فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم - كما يتحدث قومهم : إنهم قاتلوك؛ وعرف رسول الله أن فيهم نخوة بالإمتناع الذي كان منهم - فقال له عروة: يا رسول الله، أنا أحب إليهم من أبكارهم - وكان فيهم كذلك محبباً مطاعاً - فخرج يدعو قومه إلى الإسلام، ورجا ألا يخالفوه لمنزله فيهم؛ فلما أشرف لهم على علية له وقد دعاهم إلى الإسلام، وأظهر لهم دينه، رموه بالنبل من كل وجه، فأصابه سهم فقتله؛ فتزعم بنو مالك، وتزعم الأحلاف أنه قتله رجل منهم من بني عتاب بن مالك، يقال له وهب بن جابر. فقيل لعروة: ما ترى في دمك؟ قال: كرامة أكرمني الله بها، وشهادة ساقها الله إلى، فليس في إلا ما في الشهداء الذين قتلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يرتحل عنكم، فادفنوني معهم، فدفنوه معهم. فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فيه: إن مثله في قومه كمثل صاحب يس في قومه .
وفيها قدم وفد أهل الطائف على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قيل: إنهم قدموا عليه في شهر رمضان.
فحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: ثم أقامت ثقيف بعد قتل عروة أشهراً، ثم إنهم أئتمروا بينهم ألا طاقة لهم بحرب من حولهم من العرب وقد بايعوا وأسلموا.
وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس بن شريق الثقفي، أن عمرو بن أمية أخا بني علاج كان مهاجراً لعبد ياليل بن عمرو، الذي بينهما سييء - وكان عمرو بن أمية من أدهى العرب - فمشى إلى عبد ياليل بن عمرو وحتى دخل عليه داره، ثم أرسل إليه: إن عمرو بن أمية يقول لك: أخرج إلي، فقال عبد ياليل للرسول: ويحك! أعمرو أرسلك؟ قال: نعم، وهو ذا واقف في دارك.

فقال: إن هذا لشيء ما كنت أظنه! لعمرو كان أمنع في نفسه من ذلك. فلما رآه رحب به، وقال عمرو: إنه قد نزل بنا أمر ليست معه هجرة، إنه قد كان من أمر هذا الرجل ما قد رأيت، وقد أسلمت العرب كلها، وليست لكم بحربهم طاقة، فأنظروا في أمركم. فعند ذلك أئتمرت ثقيف بينها، وقال بعضهم لبعض: ألا ترون أنه لا يأمن لكم سرب، ولا يخرج منكم أحد إلا أقتطع به! فأئتمروا بينهم، وأجمعوا أن يرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً، كما أرسلوا عروة، فكلموا عبد ياليل أبن عمرو بن عمير - وكان في سن عروة بن مسعود - وعرضوا ذلك عليه، فأبى أن يفعل، وخشى أن يصنع به إذا رجع كما يصنع بعروة، فقال: لست فاعلاً حتى تبعثوا معي رجالاً، فأجمعوا على أن يبعثوا معه رجلين من الأحلاف وثلاثة من بني مالك، فيكونوا ستة: عثمان بن أبي العاص بن بشر بن عبد دهمان أخو بني يسار، وأوس بن عوف أخو بني سالم، ونمير بن خرشة بن ربيعة أخو بلحارث؛ وبعثوا من الأخلاف مع عبد ياليل الحكم بن عمرو بن وهب بن معتب وشرحبيل بن غيلان بن سلمة بن معتب؛ فخرج بهم عبد ياليل - وهو ناب القوم وصاحب أمرهم؛ ولم يخرج إلا خشية من مثل ما صنع بعروة بن مسعود، ليشغل كل رجل منهم إذا رجعوا إلى الطائف رهطه - فلما دنوا من المدينة، ونزلوا قناة لقوا بها المغيرة بن شعبة يرعى في نوبته ركاب أصحاب رسول الله، وكانت رعيتها نوباً على أصحابه، فلما رآهم المغيرة ترك الركاب وضبر يشتد ليبشر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقدومهم عليه، فلقيه أبو بكر الصديق رضي الله عنه قبل أن يدخل على رسول الله ، فأخبره عن ركب ثقيف أنهم قدموا يريدون البيعة والإسلام، بأن يشرط لهم شروطاً، ويكتتبوا من رسول الله كتاباً في قومهم وبلادهم وأموالهم. فقال أبو بكر للمغيرة: أقسمت عليك بالله لا تسبقني إلى رسول الله حتى أكون أنا الذي أحدثه، ففعل المغيرة، فدخل أبو بكر على رسول الله، فأخبره عن ركب ثقيف بقدومهم، ثم خرج المغيرة إلى أصحابه فروح الظهر معهم، وعلمهم كيف يحيون رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يفعلوا إلا بتحية الجاهلية. ولما أن قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب عليهم قبة في ناحية مسجده - كما يزعمون - وكان خالد بن سعيد بن العاص هو الذي يمشي بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ حتى أكتتبوا كتابهم؛ وكان خالد هو الذي كتب كتابهم بيده، وكانوا لا يطعمون طعاماً يأتيهم من عند رسول الله حتى يأكل منه خالد؛ حتى أسلموا وبايعوا وفرغوا من كتابهم - وقد كان فيما سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدع الطاغية؛ وهي اللات، لا يهدمها ثلاث سنين؛ فأبى رسول الله ذلك عليهم؛ فما برحوا يسألونه سنة سنة، فأبى عليهم حتى سألوه شهراً واحداً بعد مقدمهم؛ فأبى أن يدعها شيئاً يسمى؛ وإنما يريدون بذلك فيما يظهرون أن يسلموا بتركها من سفائهم ونسائهم وذراريهم، ويكرهون أن يروعوا قومهم بهدمها حتى يدخلهم الإسلام - فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك إلا أن يبعث آبا سفيان بن حرب والمغيرة أبن شعبة فيهدماها؛ وقد كانوا سألوه مع ترك الطاغية أن يعفيهم من الصلاة، وأن يكسروا أوثانهم بأيديهم؛ فقال رسول الله: أما كسر أوثانكم بأيديكم فسنعفيكم منه؛ وأما الصلاة فلا خير في دين لا صلاة فيه؛ فقالوا: يا محمد، أما هذه فسنؤتيكها وإن كانت دناءة.
فلما أسلموا وكتب لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابهم؛ أمر عليهم عثمان بن أبي العاص - وكان من أحدثهم سناً - وذلك أنه كان أحرصهم على التفقه في الإسلام وتعلم القرآن، فقال أبو بكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله؛ إني قد رأيت هذا الغلام فيهم من أحرصهم على التفقه في الإسلام وتعلم القرآن .

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن يعقوب أبن عتبة، قال: فلما خرجوا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوجهوا إلى بلادهم راجعين، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا سفيان بن حرب، والمغيرة بن شعبة في هدم الطاغية، فخرجا مع القوم؛ حتى إذا قدموا الطائف أراد المغيرة أن يقدم أبا سفيان، فأبى ذلك أبو سفيان عليه، وقال: أدخل أنت على قومك؛ وأقام أبو سفيان بما له بذي الهرم ، فلما دخل المغيرة بن شعبة علاها يضربها بالمعول، وقام قومه دونه - بنو معتب - خشية أن يرمي أو يصاب كما أصيب عروة، وخرج نساء ثقيف حسراً يبكين عليها، ويقلن:
ألا أبكين دفاع ... أسلمها الرضاع
لم يحسنوا المصاع قال: ويقول أبو سفيان والمغيرة يضربها بالفأس: واهاً لك ! واهاً لك! فلما هدمها المغيرة أخذ مالها وحليها وأرسل إلى أبي سفيان وحليها مجموع، ومالها من الذهب والجزع، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أبا سفيان أن يقضي من مال اللات دين عروة والأسود أبني مسعود، فقضى منه دينهما .
وفي هذه السنة غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة تبوك.
ذكر الخبر عن غزوة تبوك حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة بعد منصرفه من الطائف، ما بين ذي الحجة إلى رجب.
ثم أمر الناس بالتهيؤ لغزو الروم؛ فحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن الزهري ويزيد بن رومان وعبد الله بن أبي بكر وعاصم بن عمر بن قتادة وغيرهم؛ كل قد حدث في غزوة تبوك ما بلغه عنها، وبعض القوم يحدث ما لم يحدث بعض، وكل قد أجتمع حديثه في هذا الحديث. إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه بالتهيؤ لغزو الروم؛ وذلك في زمن عسرة من الناس، وشدة من الحر، وجدب من البلاد؛ وحين طابت الثمار وأحبت الظلال؛ فالناس يحبون المقام في ثمارهم وظلالهم، ويكرهون الشخوص عنها على الحال من الزمان الذي هم عليه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قلماً يخرج في غزوة إلا كنى عنها، وأخبر أنه يريد غير الذي يصمد له؛ ألا ما كان من غزوة تبوك، فإنه بينها للناس لبعد الشفة وشدة الزمان وكثرة العدو الذي يصمد له، ليتأهب الناس لذلك أهبته، وأمر الناس بالجهاز، وأخبرهم أنه يريد الروم.
فتجهز الناس على ما في أنفسهم من الكره لذلك الوجه لما فيه؛ مع ما عظموا من ذكر الروم وغزوهم؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم وهو في جهازه ذلك للجد بن قيس أخي بني سلمة: هل لك ياجد العام في جلاد بني الأصفر ؟ فقال: يا رسول الله، أو تأذن لي ولا تفتني! فو الله لقد عرف قومي ما رجل أشد عجباً بالنساء منى؛ وإني أخشى إن رأيت نساء بني الأصفر ألا أصبر عنهن. فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: قد أذنت لك؛ ففي الجد بن قيس نزلت هذه الآية: " ومنهم من يقول أئذن لي ولا تفتني " الآية؛ أي إن كان إنما يخشى الفتنة من نساء بني الأصفر - وليس ذلك به - فما سقط فيه من الفتنة بتخلفه عن رسول الله والرغبة بنفسه عن نفسه أعظم؛ وإن جهنم لمن ورائه. وقال قائل من المنافقين لبعض: لا تنفروا في الحر، زهادة في الجهاد، وشكاً في الحق، وإرجافاً بالرسول، فأنزل الله تبارك وتعالى فيهم: " وقالوا لا تنفروا في الحر قل نار جهنم أشد حراً لو كانوا يفقهون " إلى قوله: " جزاء بما كانوا يكسبون " .
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم جد في سفره، فأمر الناس بالجهاز والأنكماش، وحض أهل الغنى على النفقة والحملان في سبيل الله، ورغبهم في ذلك، فحمل رجال من أهل الغنى فأحتسبوا ، وأنفق عثمان أبن عفان في ذلك نفقة عظيمة لم ينفق أحد أعظم من نفقته .

ثم إن رجالاً من المسلمين أتوا رسول الله؛ وهم البكاءون، وهم سبعة نفر من الأنصار وغيرهم ، فأستحملوا رسول الله، وكانوا أهل حاجة، فقال: " لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزناً ألا يجدوا ما ينفقون " . قال: فبلغني أن يامين بن عمير بن كعب النضري لقي أبا ليلى عبد الرحمن بن كعب وعبد الله بن مغفل، وهما يبكيان، فقال لهما: ما يبكيكما؟ قالا: جئنا رسول الله ليحملنا، فلم نجد عنده ما يحملنا عليه، وليس عندنا ما نتقوى به على الخروج معه، فأعطاهما ناضحاً فأرتحلاه، وزودهما شيئاً من تمر، فخرجا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: وجاء المعذرون من الأعراب، فأعتذروا إليه فلم يعذرهم الله عز وجل؛ وذكر لي أنهم كانوا من بني غفار، منهم خفاف بن إيماء بن رحضة.
ثم أستتب برسول الله صلى الله عليه وسلم سفره، وأجمع السير؛ وقد كان نفر من المسلمين أبطأت بهم النية عن رسول الله حتى تخلفوا عنه من غير شك ولا أرتياب؛ منهم كعب بن مالك بن أبي كعب أخو بني سلمة، ومرارة بن الربيع أخو بني عمرو بن عوف، وهلال بن أمية أخو بني واقف، وأبو خيثمة أخو بني سالم بن عوف؛ وكانوا نفر صدق لا يتهمون في إسلامهم، فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب عسكره على ثنية الوداع، وضرب عبد الله بن أبي بن سلول عسكره على حدة أسفل منه بحذاء ذباب؛ جبل بالجبانة أسفل من ثنية الوداع. وكان - فيما يزعمون - ليس بأقل العسكرين؛ فلما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم تخلف عنه عبد الله بن أبي فيمن تخلف من المنافقين وأهل الريب - وكان عبد الله بن أبي أخا بني عوف بن الخزرج - وعبد الله بن نبتل أخا بني عمرو بن عوف، ورفاعة بن زيد بن التابوت أخا بني قينقاع؛ وكانوا من عظماء المنافقين؛ وكانوا ممن يكيد الإسلام وأهله .
قال: وفيهم - فيما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عمرو بن عبيد، عن الحسن البصري - أنزل الله عز وجل: " لقد أتبغوا الفتنة من قبل وقلبوا لك الأمور " ، الآية.
قال أبن إسحاق: وخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب على أهله، وأمره بالإقامة فيهم، وأستخلف على المدينة سباع بن عرفطة، أخا بني غفار، فأرجف المنافقون بعلي بن أبي طالب، وقالوا: ما خلفه إلا أستثقالا له، وتخففاً منه. فلما قال ذلك المنافقون، أخذ على سلاحه ثم خرج حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بالجرف فقال: يا نبي الله؛ زعم المنافقون أنك إنما خلفتني؛ أنك أستثقلتني وتخففت مني! فقال: كذبوا، ولكني إنما خلفتك لما ورائي، فأرجع فأخلفني في أهلي وأهلك؛ أفلا ترضى يا علي أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؛ إلا أنه لا نبي بعدي! فرجع علي إلى المدينة، ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على سفره .
ثم إن أبا خيثمة أخا بني سالم رجع - بعد أن سار رسول الله صلى الله عليه وسلم أياماً - إلى أهله في يوم حار، فوجد أمرأتين له في عريشين لهما في حائط ، قد رشت كل واحدة منهما عريشها وبردت له فيه ماء، وهيأت له فيه طعاماً؛ فلما دخل فقام على باب العريشين؛ فنظر إلى أمرأتيه وما صنعتا له، قال: رسول الله في الضح والريح، وأبو خيثمة في ظلال باردة وماء بارد وطعام مهيإ وأمرأة حسناء، في ماله مقيم! ما هذا بالنصف! ثم قال: والله لا أدخل عريش واحدة منكما حتى ألحق برسول الله؛ فهيئا لي زاداً؛ ففعلتا. ثم قدم ناضحه فأرتحله ، ثم خرج في طلب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أدركه حين نزل تبوك، وقد كان أدرك أبا خيثمة عمير بن وهب الجمحي في الطريق، يطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فترافقا حتى إذا دنوا من تبوك قال أبو خيثمة لعمير بن وهب: إن لي ذنباً، فلا عليك أن تخلف عني حتى آتى رسول الله صلى الله عليه وسلم. ففعل، ثم سار حتى إذا دنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو نازل بتبوك، قال الناس: يا رسول الله، هذا راكب على الطريق مقبل، فقال رسول الله: كن أبا خيثمة! فقالوا: يا رسول الله، هو والله أبو خيثمة! فلما أناخ أقبل فسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له رسول الله: أولى لك يا أبا خيثمة! ثم أخبر رسول الله الخبر، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم خيراً، ودعا له بخير.

وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين مر بالحجر نزلها وأستقى الناس من بئرها، فلما راحوا منها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تشربوا من مائها شيئاً، ولا تتوضئوا منها للصلاة، وما كان من عجين عجنتموه فاعلفوه الإبل، ولا تأكلوا منه شيئاً، ولا يخرجن أحد منكم الليلة إلا ومعه صاحب له؛ ففعل الناس ما أمرهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا رجلين من بني ساعدة؛ خرج أحدهما لحاجته، وخرج الآخر في طلب بعير له، فأما الذي ذهب لحاجته فإنه خنق على مذهبه، وأما الذي ذهب في طلب بعيره فأحتملته الريح حتى طرحته في جبلي طيئ، فأخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ألم أنهكم أن يخرج منكم أحد إلا ومعه صاحب له! ثم دعا للذي أصيب على مذهبه فشفى، وأما الآخر الذي وقع بجبلي طيئ؛ فإن طيئاً هدته لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة .
قال أبو جعفر: والحديث عن الرجلين .
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر، عن العباس بن سهل بن سعد الساعدي: فلما أصبح الناس - ولا ماء معهم - شكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا الله، فأرسل الله سحابة فأمطرت حتى أرتوي الناس، وأحتملوا حاجتهم من الماء .
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة، قال: قلت لمحمود بن لبيد: هل كان الناس يعرفون النفاق فيهم؟ قال: نعم؛ والله إن كان الرجل ليعرفه من أخيه ومن أبيه ومن عمه ومن عشيرته، ثم يلبس بعضهم بعضاً على ذلك؛ ثم قال محمود: لقد أخبرني رجال من قومي عن رجل من المنافقين معروف نفاقه، كان يسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث سار، فلما كان من أمر الماء بالحجر ما كان، ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دعا، فأرسل الله السحابة فأمطرت حتى أرتوى الناس، أقبلنا عليه نقول: ويحك! هل بعد هذا شيء! قال: سحابة مارة.
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم سار حتى إذا كان ببعض الطريق ضلت ناقته، فخرج أصحابه في طلبها، وعند رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من أصحابه، يقال له عمارة بن حزم، وكان عقبياً بدرياً، وهو عم بني عمرو بن حزم، وكان في رحله زيد بن لصيب القينقاعي، وكان منافقاً، فقال زيد بن لصيب وهو في رحل عمارة، وعمارة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم: أليس يزعم محمد أنه نبي يخبركم عن خبر السماء وهو لا يدري أين ناقته! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم - وعمارة عنده: إن رجلاً قال: إن محمداً هذا يخبركم أنه نبي، وهو يزعم أنه يخبركم بخير السماء وهو لا يدري أين ناقته! وإني والله ما أعلم إلا ما علمني الله، وقد دلني الله عليها، وهي في الوادي من شعب كذا وكذا قد حبستها شجرة بزمامها، فأنطلقوا حتى تأتوا بها، فذهبوا فجاءوا بها، فرجع عمارة بن حزم إلى أهله ، فقال: والله لعجب من شيء حدثناه رسول الله صلى الله عليه وسلم آنفاً عن مقالة قائل أخبره الله عنه عنه كذا وكذا - للذي قال زيد بن اللصيب - فقال رجل ممن كان في رحل عمارة، ولم يحضر رسول الله: زيد والله قال هذه المقالة قبل أن تأتي. فأقبل عمارة على زيد يجأ في عنقه ، ويقول: يا عباد الله، والله إن في رحلي لداهية وما أدري! أخرج يا عدو الله من رحلي فلا تصحبني! قال: فزعم بعض الناس أن زيداً تاب بعد ذلك، وقال بعض: لم يزل متهماً بشر حتى هلك. ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم سائراً؛ فجعل يتخلف عنه الرجل فيقولون: يا رسول الله، تخلف فلان، فيقول: دعوه، فإن يك فيه خير فسيلحقه الله بكم، وإن يك غير ذلك فقد أراحكم الله منه؛ حتى قيل: يا رسول الله، تخلف أبو ذر وأبطأ به بعيره؛ فقال: دعوه، فإن يك فيه خير فسيلحقه الله بكم، وإن يك غير ذلك فقد أراحكم الله منه.
قال: وتلوم أبو ذر على بعيره، فلما أبطأ عليه أخذ متاعه، فحمله على ظهره، ثم خرج يتبع أثر رسول الله ماشياً، ونزل رسول الله في بعض منازله، فنظره ناظر من المسلمين، فقال: يا رسول الله، إن هذا الرجل يمشي على الطريق وحده، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كن أبا ذر! فلما تأمله القوم، قالوا: يا رسول الله، هو أبو ذر! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يرحم الله أبا ذر! يمشي وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده .

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن بريدة بن سفيان الأسلمى، عن محمد بن كعب القرظي، قال: لما نفي عثمان أبا ذر نزل أبو ذر الربذة، فأصابه بها قدره، ولم يكن معه أحد إلا أمرأته وغلامه، فأوصاهما أن غسلانى وكفنانى، ثم ضعاني على قارعة الطريق ، فأول ركب يمر بكم فقولوا: هذا أبو ذر صاحب رسول الله فأعينونا على دفنه. فلما مات فعلاً ذلك به، ثم وضعاه على قارعة الطريق، فأقبل عبد الله بن مسعود ورهط من أهل العراق عماراً، فلم يرعهم إلا بجنازة على الطريق قد كادت الإبل تطؤها، وقام إليهم الغلام، فقال: هذا أبو ذر صاحب رسول الله، فأعينونا على دفنه. قال: فأستهل عبد الله بن مسعود يبكي، ويقول: صدق رسول الله! تمشي وحدك، وتموت وحدك، وتبعث وحدك، ثم نزل هو وأصحابه فواروه.
ثم حدثهم ابن مسعود حديثه وما قال له رسول الله في مسيره إلى تبوك.
قال: وقد كان رهط من المنافقين، منهم وديعة بن ثابت أخو بني عمرو ابن عوف، ومنهم رجل من أشجع حليف لبني سلمة، يقال له مخشى ابن حمير، يسيرون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو منطلق إلى تبوك، فقال بعضهم لبعض: أتحسبون قتال بني الأصفر كقتال غيرهم! والله لكأني بكم غداً مقرنين في الحبال؛ إرجافاً وترهيباً للمؤمنين. فقال مخشي ابن حمير: والله لوددت أني أقاضي على أن يضرب كل رجل منا مائة جلدة، وأنا ننفلت أن ينزل الله فينا قرآنا لمقالتكم هذه. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما بلغني - لعمار بن ياسر: أدرك القوم، فإنهم قد أحترقوا، فسلهم عما قالوا؛ فإن أنكروا فقل: بلى قد قلتم كذا وكذا. فانطلق إليهم عمار فقال لهم ذلك؛ فأتوا رسول الله يعتذرون إليه، فقام وديعة بن ثابت ورسول الله واقف على ناقته، فجعل يقول وهو آخذ بحقبها : يا رسول الله، كنا نخوض ونلعب؛ فأنزل الله عز وجل فيهم: " ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب " . وقال مخشي بن حمير: يا رسول الله، قعد بي إسمي وإسم أبي؛ فكان الذي عفى عنه في هذه الآية مخشي بن حمير؛ فسمى عبد الرحمن، وسأل الله أن يقتله شهيداً لا يعلم مكانه، فقتل يوم اليمامة فلم يوجد له أثر. فلما أنتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك، أتاه يحنه بن رؤبة، صاحب أيلة فصالح رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعطاه الجزية، وأهل جرباء وأذرح أعطوه الجزية، وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم لكل كتاباً؛ فهو عندهم.
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا خالد بن الوليد، فبعثه إلى أكيدر دومة - وهو أكيدر بن عبد الملك، رجل من كندة، كان ملكاً عليها وكان نصرانياً - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لخالد: إنك ستجده يصيد البقر، فخرج خالد بن الوليد حتى إذا كان من حصنه بمنظر العين، وفي ليلة مقمرة صائفة، وهو على سطح له، ومعه أمرأته، فباتت البقر تحك بقرونها باب القصر، فقالت أمرأته: هل رأيت مثل هذا قط! قال: لا والله، قالت: فمن يترك هذا؟ قال: لا أحد. فنزل فأمر بفرسه فأسرج له وركب معه نفر من أهل بيته، فيهم أخ له يقال له حسان، فركب، وخرجوا معه بمطاردهم؛ فلما خرجوا تلقتهم خيل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذته، وقتلوه أخاه حسان، وقد كان عليه قباء له من ديباج مخوص بالذهب، فأستلبه خالد، فبعث به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل قدومه عليه حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة، عن أنس بن مالك؛ قال: رأيت قباء أكيدر حين قدم به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل المسلمون يلمسونه بأيديهم، ويتعجبون منه، فقال رسول الله: أتعجبون من هذا! فو الذي نفس محمد بيده لمناديل سعد بن معاذ في الجنة أحسن من هذا! حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: ثم إن خالداً قدم بأكيدر على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحقن له دمه، وصالحه على الجزية، ثم خلى سبيله، فرجع إلى قريته.

رجع الحديث إلى حديث يزيد بن رومان الذي في أول غزوة تبوك. قال: فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بتبوك بضع عشرة ليلة ولم يجاوزها ، ثم أنصرف قافلا إلى المدينة، فكان في الطريق ماء يخرج من وشل ما يروي الراكب والراكبين والثلاثة، بواد يقال له وادي المشقق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من سبقنا إلى ذلك الماء فلا يستقين منه شيئاً حتى نأتيه. قال: فسبقه إليه نفر من المنافقين فأستقوا ما فيه، فلما أتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف عليه فلم ير فيه شيئاً؛ فقال: من سبقنا إلى هذا الماء؟ فقيل له: يا رسول الله ، فلان وفلان، فقال: أو لم ننههم أن يستقوا منه شيئاً حتى نأتيه! ثم لعنهم رسول الله، ودعا عليهم. ثم نزل صلى الله عليه وسلم، فوضع يده تحت الوشل ، فجعل يصب في يده ما شاء الله أن يصب، ثم نضحه به ومسحه بيده، ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بما شاء الله أن يدعو، فأنخرق من الماء - كما يقول من سمعه: إن له حساً كحس الصواعق؛ فشرب الناس وأستقوا حاجتهم منه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من بقي منكم ليسمعن بهذا الوادي؛ وهو أخصب ما بين يديه وما خلفه. ثم أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل بذي أوان؛ بلد بينه وبين المدينة ساعة من نهار؛ وكان أصحاب مسجد الضرار قد كانوا أتوه وهو يتجهز إلى تبوك، فقالوا يا رسول الله؛ إنا قد بنينا مسجداً لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة والليلة الشاتية؛ وإنا نحب أن تأتينا فتصلى لنا فيه. فقال: إني على جناح سفر، وحال شغل - أو كما قال رسول الله - ولو قدمنا إن شاء الله أتيناكم فصلينا لكم فيه؛ فلما نزل بذي أو أن أتاه خبر المسجد، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم مالك بن الدخشم، أخا بني سالم بن عوف ومعن بن عدي - أو أخاه عاصم بن عدي أخا بني العجلان - فقال: أنطلقا إلى المسجد الظالم أهله فاهدماه وحرقاه؛ فخرجا سريعين حتى أتيا بني سالم ابن عوف؛ وهم رهط مالك بن الدخشم، فقال مالك لمعن: أنظرني حتى أخرج إليك بنار من أهلي، فدخل إلى أهله، فأخذ سعفاً من النخل، فأشعل فيه ناراً، ثم خرجا يشتدان حتى دخلا المسجد وفيه أهله، فحرقاه وهدماه، وتفرقوا عنه، ونزل فيهم من القرآن ما نزل: " والذين أتخذوا مسجداً ضراراً وكفراً وتفريقاً بين المؤمنين " ، إلى آخر القصة.
وكان الذين بنوه اثنى عشر رجلا: خذام بن خالد، من بني عبيد بن زيد؛ أحد بني عمرو بن عوف - ومن داره أخرج مسجد الشقاق - وثعلبة بن حاطب من بني عبيد - وهو إلى بني أمية بن زيد، ومعتب بن قشير من بني ضبيعة بن زيد، وأبو حبيبة بن الأزعر من بني ضبيعة بن زيد، وعباد ابن حنيف؛ أخو سهل بن حنيف من بني عمرو بن عوف، وجارية بن عامر، وابناه مجمع بن جارية وزيد بن جارية، ونبتل بن الحارث، من بني ضبيعة، وبحزج - وهو إلى بني ضبيعة - وبجاد بن عثمان - وهو من بني ضبيعة - ووديعة بن ثابت وهو إلى بني أمية رهط أبي لبابة بن عبد المنذر.
قال: وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة - وقد كان تخلف عنه رهط من المنافقين، وتخلف أولئك الرهط من المسلمين من غير شك ولا نفاق: كعب بن مالك، ومرارة بن الربيع، وهلال بن أمية - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يكلمن أحد أحداً من هؤلاء الثلاثة، وأتاه من تخلف عنه من المنافقين، فجعلوا يحلفون له ويعتذرون ن فصفح عنهم رسول الله ولم يعذرهم الله ولا رسوله، وأعتزل المسلمون كلام هؤلاء الثلاثة النفر، حتى أنزل الله عز وجل قوله: " لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار " - إلى قوله - " وكونوا مع الصادقين " ، فتاب الله عليهم.
قال: وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة من تبوك في شهر رمضان. وقدم عليه في ذلك الشهر وفد ثقيف، وقد مضى ذكر خبرهم قبل.
أمر طيئ وعدي بن حاتم قال: وفي هذه السنة - أعني ستة تسع - وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب رضي الله عنه في سرية إلى بلاد طيئ في ربيع الآخر، فأغار عليهم، فسبى وأخذ سيفين كانا في بيت الصنم؛ يقال لأحدهما: رسوب، وللآخر المخذم؛ وكان لهما ذكر، كان الحارث بن أبي شمر نذرهما له، وسبى أخت عدي بن حاتم.
قال أبو جعفر: فأما الأخبار الواردة عن عدي بن حاتم عندنا بذلك فبغير بيان وقت، وبغير ما قال الواقدي في سبي على أخت عدي بن حاتم.

حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، قال: حدثنا سماك، قال: سمعت عباد بن حبيش يحدث عن عدي بن حاتم، قال: جاءت خيل رسول الله صلى الله عليه وسلم - أو قال: رسل رسول الله - فأخذوا عمتي وناساً، فأتوا بهم النبي صلى الله عليه وسلم. قال: فصفوا له. قالت: قلت: يا رسول الله، نأى الوافد، وأنقطع الوالد؛ وأنا عجوز كبيرة ما بي من خدمة؛ فمن على من الله عليك يا رسول الله! قال: ومن وافدك؟ قالت: عدي بن حاتم؛ قال: الذي فر من الله ورسوله! قالت فمن علي - ورجل إلى جنبه ترى أنه على عليه السلام، قال: سليه حملاناً - قال: فسألته، فأمر بها فأتتني، فقالت: لقد فعلت فعلة ما كان أبوك يفعلها! قالت: ائته راغباً وراهباً، فقد أتاه فلان فأصاب منه، وأتاه فلان فأصاب منه. قال: فأتيته فإذا عنده أمرأة وصبيان - أو صبي - فذكر قربهم من النبي صلى الله عليه وسلم - فعرفت أنه ليس بملك كسرى ولا قيصر، فقال لي: يا عدي بن حاتم، ما أفرك أن يقال لا إله إلا الله! فهل من إله إلا الله! وما أفرك أن يقال الله أكبر! فهل من شيء هو أكبر من الله! فأسلمت فرأيت وجهه أستبشر.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن شيبان بن سعد الطائي، قال: كان عدي بن حاتم طيئ يقول فيما بلغني: ما رجل من العرب كان أشد كراهية لرسول الله حين سمع به مني؛ أما أنا فكنت أمرأ شريفاً، وكنت نصرانياً أسير في قومي بالمرباع ، فكنت في نفسي على دين، وكنت ملكاً في قومي، لما كان يصنع بي، فلما سمعت برسول الله كرهته، فقلت لغلام كان لي عربي وكان راعياً لإبلي: لا أبالك! أعدد لي من إبلي أجمالاً ذللا سمانا مسان ، فأحبسها قريباً مني؛ فإذا سمعت بجيش لمحمد قد وطئ هذه البلاد فآذني، ففعل. ثم إنه أتاني ذات غداة، فقال: يا عدي؛ ما كنت صانعاً إذا غشيتك خيل محمد فاصنعه الآن، فإني قد رأيت رايات، فسألت عنها، فقالوا: هذه جيوش محمد، قال: فقلت: قرب لي جمالي، فقربها، فأحتملت بأهلي وولدي، ثم قلت: ألحق بأهل ديني من النصاري بالشأم، فسلكت الحوشية وخلفت ابنة حاتم في الحاضر، فلما قدمت الشأم أقمت بها، وتخالفني خيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم فتصيب ابنة حاتم فيمن أصيب. فقدم بها على رسول الله في سبايا طيئ، وقد بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم هربي إلى الشأم. قال: فجعلت ابنة حاتم في حظيرة بباب المسجد كانت السبايا يحبسن بها، فمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقامت إليه - وكانت أمرأة جزلة - فقالت: يا رسول الله؛ هلك الوالد، وغاب الوافد، فأمنن على من الله عليك! قال: ومن وافدك؟ قالت: عدي بن حاتم، قال: الفار من الله ورسوله! قالت: ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتركني؛ حتى إذا كان الغد مر بي وقد أيست، فأشار إلى رجل من خلفه: أن قومي إليه فكلميه، قالت: فقمت إليه، فقلت: يا رسول الله، هلك الوالد، وغاب الوافد، فأمنن علي من الله عليك! قال: قد فعلت فلا تعجلي بخروج حتى تجدي من قومك من يكون لك ثقة حتى يبلغك إلى بلادك ثم آذنيني. قالت: فسألت عن الرجل الذي أشار إلى أن كلميه فقيل: علي بن أبي طالب. قالت: وأقمت حتى قدم ركب من بلى - أو من قضاعة - قالت: وإنما أريد أن آتي أخي بالشأم، قالت: فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله، قد قدم رهط من قومي لي فيهم ثقة وبلاغ. قالت: فكساني رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحملني وأعطاني نفقة، فخرجت معهم حتى قدمت الشأم.

قال عدي: فو الله، إني لقاعد في أهلي إذ نظرت إلى ظعينة تصوب إلى تؤمنا. قال: فقلت: ابنة حاتم! قال: فإذا هي هي؛ فلما وقفت على أنسحلت تقول: القاطع الظالم! أحتملت بأهلك وولدك، وتركت بنية والدك وعورته! قال: قلت: يا أخية، لا تقولي إلا خيراً، فو الله مالي عذر، لقد صنعت ما ذكرت. قال: ثم نزلت فأقامت عندي، فقلت لها - وكانت أمرأة حازمة: ماذا ترين في أمر هذا الرجل؟ قالت: أرى والله أن تلحق به سريعاً، فإن يكن الرجل نبياً فالسابق إليه له فضيلة، وإن يكن ملكاً فلن تذل في عز اليمن وأنت أنت ! قلت: والله إن هذا للرأي. قال: فخرجت حتى أقدم على رسول الله المدينة، فدخلت عليه وهو في مسجده فسلمت عليه، فقال: من الرجل؟ فقلت: عدي بن حاتم، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنطلق بي إلى بيته، فو الله إنه لعامد بي إذ لقيته أمرأة ضعيفة كبيرة فأستوقفته، فوقف لها طويلا تكلمه في حاجتها. قال: فقلت في نفسي: والله ما هذا بملك، ثم مضى رسول الله حتى دخل بيته، فتناول وسادة من أدم محشوة ليفاً، فقذفها إلى، فقال لي: أجلس على هذه، قال: قلت: لا بل أنت، فأجلس عليها. قال: لا بل أنت، فجلست وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأرض. قال: قلت في نفسي: والله ما هذا بأمر ملك، ثم قال: إيه يا عدي بن حاتم! ألم تك ركوسيا ! قال: قلت: بلى، قال: أو لم تكن تسير في قومك بالمرباع! قال: قلت: بلى، قال: فإن ذلك لم يكن يحل لك في دينك، قال: قلت: أجل والله - وعرفت أنه نبي مرسل يعلم ما يجهل - قال: ثم قال: لعله يا عدي بن حاتم؛ إنما يمنعك من الدخول في هذا الدين ما ترى من حاجتهم! فو الله ليوشكن المال يفيض فيهم حتى لا يوجد من يأخذه؛ ولعله إنما يمنعك من الدخول في هذا الدين ما ترى من كثرة عدوهم وقلة عددهم؛ فو الله ليوشكن أن تسمع بالمرأة تخرج من القادسية على بعيرها حتى تزور هذا البيت، لا تخاف إلا الله؛ ولعله إنما يمنعك من الدخول فيه أنك ترى أن الملك والسلطان في غيرهم، وايم الله ليوشكن أن تسمع بالقصور البيض من أرض بابل قد فتحت. قال: فأسلمت، فكان عدي بن حاتم يقول: مضت الثنتان وبقيت الثالثة، والله لتكونن قد رأيت القصور البيض من أرض بابل قد فتحت، ورأيت المرأة تخرج من القادسية على بعيرها لا تخاف شيئاً حتى تحج هذا البيت. وايم الله لتكونن الثالثة ليفيضن المال حتى لا يوجد من يأخذه.
قدوم وفد بني تميم ونزول سورة الحجرات قال الواقدي: وفيها قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد بني تميم، فحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة وعبد الله بن أبي بكر، قالا: قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم عطارد بن حاجب بن زرارة بن عدس التميمي في أشرفها من تميم منهم الأقرع بن جابس والزبرقان بن بدر التمتمي ثم أحد بني سعد، وعمرو بن الأهتم، والحتات بن فلان، ونعيم بن زيد، وقيس بن عاصم أخو بني سعد في وفد عظيم من بني تميم، معهم عيينة بن حصن بن حذيفة الفزاري - وقد كان الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن شهدا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فتح مكة وحصار الطائف، فلما وفد وفد بني تميم كانا معهم، فلما دخل وفد بني تميم المسجد، نادوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من وراء الحجرات: أن أخرج إلينا يا محمد. فآذي ذلك من صياحهم رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فخرج إليهم، فقالوا: يا محمد، جئناك لنفاخرك، فأذن لشاعرنا وخطيبنا، قال: نعم، أذنت لخطيبكم فليقل . فقام إليه عطارد بن حاجب، فقال : الحمد لله الذي له علينا الفضل وهو أهله، الذي جعلنا ملوكاً، ووهب لنا أموالاً عظاماً نفعل فيها المعروف، وجعلنا أعز أهل المشرق وأكثره عدداً، وأيسره عدة، فمن مثلنا في الناس! ألسنا برءوس الناس وأولى فضلهم! فمن يفاخرنا فليعدد مثل ما عددنا؛ وإنا لو نشاء لأكثرنا الكلام؛ ولكنا نحيا من الإكثار فيما أعطانا؛ وإنا نعرف. أقول هذا الآن لتأتونا بمثل قولنا، وأمر أفضل من أمرنا، ثم جلس. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لثابت بن قيس بن شماس أخي بلحارث بن الخزرج: قم فأجب الرجل في خطبته.

فقام ثابت، فقال: الحمد لله الذي السموات والأرض خلقه، قضى فيهن أمره، ووسع كرسيه علمه، ولم يك شيء قط إلا من فضله. ثم كان من قدرته أن جعلنا ملوكاً وأصطفى من خير خلقه رسولا أكرمهم نسباً، وأصدقهم حديثاً، وأفضلهم حسباً، فأنزل عليه كتابه، وائتمنه على خلقه؛ فكان خيرة الله من العالمين، ثم دعا الناس إلى الإيمان، فآمن برسول الله المهاجرون من قومه وذوي رحمه؛ أكرم الناس أنساباً، وأحسن الناس وجوهاً؛ وخير الناس فعالاً؛ ثم كان أول الخلق إجابة - وأستجاب لله حين دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم - نحن؛ فنحن أنصار الله ووزراء رسوله، نقاتل الناس حتى يؤمنوا بالله، فمن آمن بالله ورسوله منع ماله ودمه، ومن كفر جاهدناه في الله أبداً، وكان قتله علينا يسيراً، أقول قولي هذا وأستغفر الله للمؤمنين وللمؤمنات؛ والسلام عليكم.
قالوا: يا محمد، ائذن لشاعرنا، فقال: نعم، فقام الزبرقان بن بدر فقال :
نحن الكرام فلا حي يعادلنا ... منا الملوك وفينا تنصب البيع
وكم قسرنا من الأحياء كلهم ... عند النهاب وفضل العز يتبع
ونحن نطعم عند القحط مطعمنا ... من الشواء إذا لم يؤنس القزع
ثم ترى الناس تأتينا سراتهم ... من كل أرض هويا ثم نصطنع
فننحر الكوم عبطا في أرومتنا ... للنازلين إذا ما أنزلوا شبعوا
فلا ترانا إلى حي نفاخرهم ... إلا أستقادوا وكاد الرأس يقتطع
إنا أبينا ولن يأبى لنا أحد ... إنا كذلك عند الفخر نرتفع
فمن يقادرنا في ذاك يعرفنا ... فيرجع القول والأخبار تستمع
وكان حسان بن ثابت غائباً، فبعث إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال حسان: فلما جاءني رسوله فأخبرني أنه إنما دعاني لأجيب شاعر بني تميم، خرجت إلى رسول الله، وأنا أقول:
منعنا رسول الله إذ حل وسطنا ... على كل باغ من معد وراغم
منعناه لما حل بين بيوتنا ... بأسيافنا من كل عاد وظالم
ببيت حريد عزه وثراؤه ... بجابية الجولان وسط الأعاجم
هل المجد إلا السؤدد العود والندى ... وجاه الملوك وأحتمال العظائم!
قال: فلما أنتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقا
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://arabelalekat.yoo7.com
الشيخ عودة
الشيخ عودة
الشيخ عودة



عدد المساهمات : 1748
تاريخ التسجيل : 28/09/2008
العمر : 73

كتاب : تاريخ الرسل والملوك المؤلف : الطبري - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: كتاب : تاريخ الرسل والملوك المؤلف : الطبري   كتاب : تاريخ الرسل والملوك المؤلف : الطبري - صفحة 2 Emptyالسبت ديسمبر 14, 2013 10:41 am

قال أبو جعفر: وفيها قدم وفد زبيد على النبي صلى الله عليه وسلم بإسلامهم. فحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر، قال: قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن معد يكرب في أناس من بني زبيد، فأسلم، وكان عمرو بن معد يكرب قد قال لقيس بن مكشوح المرادي حين انتهى إليهم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا قيس؛ إنك سيد قومك اليوم؛ وقد ذكر لنا أن رجلا من قريش يقال له محمد قد خرج بالحجاز يقول، إني نبي؛ فانطلق بنا إليه حتى نعلم علمه؛ فإن كان نبياً كما يقول؛ فإنه لا يخفى عليك. إذا لقيناه اتبعناه ؛ وإن كان غير ذلك علمنا علمه، فأبى عليه ذلك قيس بن مكشوح وسفه رأيه.
فركب عمرو بن معد يكرب حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فصدقه وآمن به؛ فلما بلغ ذلك قيساً أوعد عمراً، وتحفظ عليه ، وقال: خالفني وترك رأيي! فقال عمرو في ذلك:
أمرتك يوم ذي صنعا ... ء أمراً بادياً رشده
أمرتك باتقاء الل ... ه والمعروف تاتعده
خرجت من المنى مثل ال ... حمار أعاره وتده
تمناني على فرس ... عليه جالساً أسده
على مفاضة كالنه ... ى أخلص ماءه جدده
ترد الرمح مثنى ال ... سنان عوائراً قصده
فلو لا قيتني لاقي ... ت ليثاً فوقه لبده
تلاقي شنبثاً شثن ال ... براثن ناشزاً كتده
يسامي القرن إن قرن ... تيممه فيعتضده
فيأخذه فيرفعه ... فيخفضه فيقتصده
فيدمغه فيحطمه ... فيخضمه فيزد رده
ظلوم الشرك فيما أحد ... رزت أنيابه ويده
متى ما يغد أو يغدى ... به فقبوله برده
فيخطر مثل خطر الفح ... ل فوق جرانه زبده
فأمسى يعتريه من ال ... بعوض ممنعاً بلده
فلا تتمننى وتمن ... غيري ليناً كتده
وبوئنىله وطناً ... كثيراً حوله عدده
قال: فأقام عمرو بن معد يكرب في قومه من بني زبيد؛ وعليهم فروة ابن مسيك المرادي، فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتد عمرو فقال حين ارتد:
وجدنا ملك فروة شر ملك ... حماراً ساف منخره بقذر
وكنت إذا رأيت أبا عمير ... ترى الحولاء من خبث وغدر
قدوم فروة بن مسيك المرادي وقد كان قدم على رسول الله في هذه السنة - أعني سنة عشر - قبل قدوم عمرو ابن معد يكرب، فروة بن مسيك المرادي مفارقاً لملوك كنده. فحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق ، عن عبد الله بن أبي بكر ، قال: قدم فروة بن مسيك المرادي على رسول الله صلى الله عليه وسلم مفارقاً لملوك كندة ، ومعانداً لهم ؛ وقد كان قبيل الإسلام بين مراد وهمدان وقعة أصابت فيها همدان من مراد ما أرادوا ؛ حتى أثخنوهم في يوم كان يقال له الرزم ؛ وكان الذي قاد همدان إلى مراد الأجدع بن مالك ، ففضحهم يومئذ ، وفي ذلك يقول فروة بن مسيك :
فإن نغلب فغلابون قدماً ... وإن نهزم فغير مهزمينا
وإن نقتل فلا جبن ولكن ... منايانا وطعمة آخرينا
كذاك الدهر دولته سجال ... تكر صروفه حيناً فحينا
فبيناه يسر به ويرضى ... ولو لبست غضارته سنينا
إذ انقلبت به كرات دهر ... فألقى للأولى غبطوا طحينا
ومن يغبط بريب الدهر منهم ... يجد ريب الزمان له خؤونا
فلو خلد الملوك إذاً خلدنا ... ولو بقي الكرام إذا بقينا
فأفني ذا كم سروات قومي ... كما أفني القرون الأولينا
ولما توجه فروة بن مسيك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مفارقاً لملوك كندة قال :
لما رأيت ملوك كندة أعرضت ... كالرجل خان الرجل عرق نسائها
يممت راحلتي أؤم محمداً ... أرجو فواضلها وحسن ثرائها

قال : فلما انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له رسول الله - فيما بلغني - : يا فروة ، هل ساءك ما أصاب قومك يومك يوم الرزم ؟ فقال : يا رسول الله ، ومن ذا يصيب قومه مثل ما أصاب قومي يوم الرزم ؛ لا يسوءه ذلك ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أما إن ذلك لم يزد قومك في الإسلام إلا خيراً . فاستعمله رسول الله على مراد وزبيد ومذحج كلها ؛ وبعث معه خالد بن سعيد بن العاص على الصدقة ، وكان معه في بلاده حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم .
حدثنا أبو كريب وسفيان بن وكيع ، قالا : حدثنا أبو أسامة ، قال : أخبرنا مجالد ، قال : حدثنا عامر ، عن فروة بن مسيك ، قال : قال رسول الله : أكرهت يومك ويوم همدان ؟ فقلت : إي والله ! أفنى الأهل والعشيرة ؛ فقال : أما إنه خير لمن بقي .
قدوم الجارود في وفد عبد القيس وفيها قدم وفد عبد القيس ، فحدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم الجارود بن عمرو بن حنش بن المعلي ، أخو عبد القيس في وفد عبد القيس وكان نصرانياً .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن الحسن بن دينار ، عن الحسن ، قال : لما انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمه ؛ فعرض عليه الإسلام ، ودعاه إليه ، ورغبه فيه ، فقال : يا محمد ، إني قد كنت على دين ؛ وإني تارك ديني لدينك ؛ فتضمن لي ديني ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : نعم أنا ضامن لك أن قد هداك الله إلى ما هو خير منه . قال : فأسلم وأسلم معه أصحابه ، ثم سألوا رسول الله الحملان ؛ فقال : والله ما عندي ما أحملكم عليه ، فقالوا : يا رسول الله ، إن بيننا وبين بلادنا ضوال من ضوال الناس ؛ أفنتبلغ عليها إلى بلادنا ؟ قال : إياكم وإياها ؛ فإنما ذلك حرق النار . قال : فخرج من عنده الجارود راجعاً إلى قومه - وكان حسن الإسلام صلباً على دينه - حتى هلك ؛ وقد أدرك الردة ، فلما رجع من قومه من كان أسلم منهم إلى دينهم الأول مع الغرور ، المنذر ابن النعمان بن المنذر ، أقام الجارود فشهد شهادة الحق ودعا إلى الإسلام ، فقال : يأيها الناس ؛ إني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله ، وأنهى من لم يشهد .
وقد كان رسول الله بعث العلاء بن الحضرمي قبل فتح مكة إلى المنذر بن ساوي العبدي ، فأسلم فحسن إسلامه ؛ ثم هلك بعد وفاة رسول الله ، وقبل ردة أهل البحرين ، والعلاء أمير عنده لرسول الله على البحرين .
قدوم وفد بني حنيفة ومعهم مسيلمة وفيها قدم وفد بني حنيفة ؛ حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد بني حنيفة ؛ فيهم مسيلمة بن حبيب الكذاب ، فكان منزلهم في دار ابنة الحارث ؛ امرأة من الأنصار ، ثم من بني النجار .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : حدثني بعض علمائنا من أهل المدينة ، أن بني حنيفة أتت بمسيلمة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تستره بالثياب ، ورسول الله جالس في أصحابه ، ومعه عسيب من سعف النخل ، في رأسه خوصات ، فلما انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يسترونه بالثياب ، كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال له رسول الله : لو سألتني هذا العسيب الذي في يدي ما أعطيتك !

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ؛ عن شيخ من بني حنيفة من أهل اليمامة ، قال : كان حديث مسيلمة على غير هذا ؛ زعم أن وفد بني حنيفة أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفوا مسيلمة في رحالهم ؛ فلما أسلموا ذكروا له مكانه ، فقالوا : يا رسول الله ؛ إنا قد خلفنا صاحباً لنا في رحالنا وركابنا يحفظهما لنا . قال : فأمر له رسول الله بمثل ما أمر به للقوم ؛ وقال : أما إنه ليس بشركم مكاناً ، يحفظ ضيعة أصحابه ؛ وذلك الذي يريد رسول الله . قال : ثم انصرفوا عن رسول الله وجاءوا مسيلمة بما أعطاه رسول الله ؛ فلما انتهى إلى اليمامة ارتد عدو الله وتنبأ وتكذب لهم ، وقال : إني قد أشركت في الأمر معه ، وقال لوفده : ألم يقل لكم رسول الله حيث ذكرتموني : ((أما إنه ليس بشركم مكاناً)) ! ما ذلك إلا لما كان يعلم أني قد أشركت معه ؛ ثم جعل يسجع السجعات ، ويقول لهم فيما يقول مضاهاة للقرآن : ((لقد أنعم الله على الحبلي ، أخرج منها نسمة تسعى ، من بين صفاق محشى)) ، ووضع عنهم الصلاة ؛ وأحل لهم الخمر والزنا ، ونحو ذلك . فشهد لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نبي ، فأصفقت بنو حنيفة على ذلك ، فالله أعلم أي ذلك كان .
قدوم الأشعث بن قيس في وفد كندة قال أبو جعفر : وفيها وفد كندة ؛ رأسهم الأشعث بن قيس الكندي ؛ فحدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن ابن شهاب الزهري ، قال : قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم الأشعث ابن قيس في ستين راكباً من كندة ، فدخلوا على رسول الله مسجده ، وقد رجلوا جممهم ، وتكحلوا ، عليهم جبب الحبرة ؛ قد كففوها بالحرير ؛ فلما دخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : ألم تسلموا ؟ قالوا : بلى ، قال : فما بال هذا الحرير في أعناقكم ؟ قال : فشقوه منها فألقوه ، ثم قال الأشعث : يا رسول الله ؛ نحن بنو آكل المرار ، وأنت ابن آكل المرار ، فتبسم رسول الله ، ثم قال : ناسبوا بهذا النسب العباس ابن عبد المطلب وربيعة بن الحارث . قال : وكان ربيعة والعباس تاجرين ؛ فكانا إذا ساحا في أرض العرب فسئى من هما ؟ قالا : نحن بنو آكل المرار ؛ يتعززان بذلك ؛ وذلك أن كندة كانت ملوكاً ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : نحن بنو النضر بن كنانة لا نقفو أمنا ، ولا ننتفي من أبينا . فقال الأشعث بن قيس : هل عرفتم يا معشر كندة ! والله لا أسمع رجلاً قالها بعد اليوم إلا ضربته حده ثمانين .
قال الواقدي : وفيها قدم وفد محارب وفيها قدم وفد الرهاويين .
وفيها قدم وفد العاقب والسيد من نجران ، فكتب لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاب الصلح .
قال : وفيها قدم وفد عبس .
وفيها قدم وفد صدف ، وافوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع .
قال : وفيها قدم عدي بن حاتم الطائي ، في شعبان .
وفيها مات أبو عامر الراهب عند هرقل ، فاختلف كنانة بن عبد ياليل وعلقمة بن علاثة في ميراثه ، فقضى به لكنانة بن عبد ياليل . قال : هما من أهل المدر ، وأنت من أهل الوبر .
قدوم رفاعة بن زيد الجذامي قال : وفيها قدم وفد خولان ، وهم عشرة .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : حدثني ابن إسحاق ، قال : حدثني يزيد بن أبي حبيب ، قال : قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم في هدنة الحديبية قبل خيبر رفاعة بن زيد الجذامي ثم الضبيبي ؛ فأهدى لرسول الله غلاماً ، وأسلم فحسن إسلامه ، وكتب له رسول الله إلى قومه كتاباً ، في كتابه : بسم الله الرحمن الرحيم ؛ هذا كتاب من محمد رسول الله لرفاعة بن زيد ؛ إني بعثته إلى قومه عامة ومن دخل فيهم ، يدعوهم إلى الله وإلى رسوله ؛ فمن أقبل فمن حزب الله وحزب رسوله، ومن أدبر فله أمان شهرين. فلما قدم رفاعة على قومه ، أجابوا وأسلموا، ثم ساروا إلى الحره؛ حرة الرجلاء فنزلوها .

فحدثنا ابن حميد ، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عمن لا يتهم، عن رجال من جذام كانوا بها علماء، أن رفاعة بن زيد، لما قدم من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتابه يدعوهم إلى الإسلام ، فاستجابوا له، لم يلبث أن أقبل دحيه بن خليفة الكلبي من عند قيصر صاحب الروم، حين بعثه رسول الله ومعه تجارة له؛ حتى إذا كان بواد من أوديتها، يقال له: شنار؛ أغار على دحية الهنيد بن عوض وابنه عوص بن الهنيد ، الضليعيان - والضليع بطن من جذام - فأصابا كل شيء كان معه؛ فبلغ ذلك نفراً من بني الضبيب قوم رفاعة ممن كان أسلم وأجاب ، فنفروا إلى الهنيد وابنه ، فيهم من بني الضبيب النعمان بن أبي جعال، حتى لقوهم ، فاقتتلوا ، وانتمى يومئذ قرة بن أشقر الضفاري ثم الضليعي ، فقال : أنا ابن لبنى ؛ ورمى النعمان بن أبي جعال بسهم فأصاب ركبته ، فقال حين أصابه : خذها وأنا ابن لبنى - وكانت له أم تدعى لبنى - قال : وقد كان حسان بن ملة الضبيبي قد صحب دحية بن خليفة الكلبي قبل ذلك ؛ فعلمه أم الكتاب ؛ فاستنقذوا ما كان في يد الهنيد وابنه عوص ، فردوه على دحية ؛ فسار دحية حتى قدم على رسول الله ، فأخبره خبره ، واستسقاه دم الهنيد وابنه ؛ فبعث إليهم رسول الله زيد بن حارثة - وذلك الذي هاج غزوة زيد جذاماً ، وبعث معه جيشاً - وقد وجهت غطفان من جذام كلها ووائل ومن كان من سلامان وسعد بن هذيم حين جاءهم رفاعة بن زيد بكتاب رسول الله ؛ فنزلوا بالحرة ؛ حرة الرجلاء ، ورفاعة بن زيد بكراع ربة ولم يعلم ، ومعه ناس من بني الضبيب وسائر بني الضبيب بواد من ناحية الحرة مما يسيل مشرقاً ، وأقبل جيش زيد بن حارثة من ناحية الأولاج ؛ فأغار بالفضافض من قبل الحرة ، وجمعوا ما وجدوا من مال وأناس ، وقتلوا الهنيد وابنه ورجلين من بني الأحنف ، ورجلاً من بني خصيب ؛ فلما سمعت بذلك بنو الضبيب والجيش بفيفاء مدان ، ركب حسان بن ملة على فرس لسويد بن زيد يقال لها العجاجة ، وأنيف بن ملة على فرس لملة ، يقال لها رغال ، وأبو زيد بن عمرو على فرس له يقال لها شمر ؛ فانطلقوا حتى إذا دنوا من الجيش ، قال أبو زيد لأنيف بن ملة : كف عنا وانصرف ؛ فإنا نخشى لسانك ، فانصرف فوقف عنهما ، فلم يبعدا منه ؛ فجعل فرسه تبحث بيدها وتوثب ؛ فقال : لأنا أضن بالرجلين منك بالفرسين ؛ فأرخى لها حتى أدركهما ؛ فقالا له : أما إذ فعلت ما فعلت ، فكف عنا لسانك ولا تشأمنا اليوم ، وتواطئوا ألا يتكلم منهم إلا حسان بن ملة ؛ وكانت بينهم كلمة في الجاهلية ؛ قد عرفوها ؛ بعضهم من بعض ؛ إذا أراد أحدهم أن يضرب بسيفه قال : " ثوري " .
فلما برزوا على الجيش أقبل القوم يبتدرونهم ؛ فقال حسان : إنا قوم مسلمون ؛ وكان أول من لقيهم رجل على فرس أدهم بائع رمحه يقول معرضه : كأنما ركزه على منسج فرسه جد وأعتق ؛ فأقبل يسوقهم ، فقال أنيف : " ثوري " ، فقال حسان : مهلاً ! فلما وقفوا على زيد بن حارثة قال له حسان : إنا قوم مسلمون ، فقال له زيد : فاقرأ أم الكتاب ، فقرأها حسان ، فقال زيد بن حارثة : نادوا في الجيش ، إن الله قد حرم علينا ثغرة القوم التي جاءوا منها إلا من ختر ؛ و إذا أخت لحسان ابن ملة - وهي امرأة أبي وبر بن عدي بن أمية بن الضبيب - في الأساري . فقال له زيد : خذها ، فأخذت بحقويه ، فقالت أم الفزر الضليعية : أتنطلقون ببناتكم ، وتذرون أمهاتكم ! فقال أحد بني خصيب : إنها بنو الضبيب ! وسحرت ألسنتهم سائر اليوم ؛ فسمعها بعض الجيش ؛ فأخبر بها زيد بن حارثة ؛ فأمر بأخت حسان ؛ ففكت يداها من حقويه ، فقال لها : اجلسي مع بنات عمك حتى يحكم الله فيكن حكمه ؛ فرجعوا ؛ ونهى الجيش أن يهبطوا إلى واديهم الذي جاءوا منه ، فأمسوا في أهليهم ؛ واستعتموا ذوداً لسويد بن زيد ؛ فلما شربوا عتمتهم ركبوا إلى رفاعة بن زيد ؛ وكان ممن ركب إلى رفاعة تلك الليلة أبو زيد بن عمرو وأبو شماس بن عمرو ، وسويد بن زيد ، وبعجة بن زيد ، وبرذع بن زيد ، وثعلبة بن عمرو ، ومخرية بن عدي ، وأنيف بن ملة ، حسان بن ملة ؛ حتى صبحوا رفاعة ابن زيد بكراع ربة بظهر الحرة على بئر هنالك من حرة ليلى ، فقال له حسان بن ملة : إنك لجالس تحلب المعزى ونساء جذام يجررن أساري قد غرها كتابك الذي جئت به ! فدعا رفاعة بن زيد بجمل له ؛ فجعل يشكل عليه رحله ؛ وهو يقول :

هل أنت حي أو تنادي حيا ثم غدا وهم معه بأمية بن ضفارة أخي الخصيبي المقتول مبكرين من ظهر الحرة ، فساروا إلى جوف المدينة ثلاث ليال ؛ فلما دخلوا انتهوا إلى المسجد ، ونظر إليه رجل من الناس ، فقال لهم : لا تنيخوا إبلكم فتقطع أيديهن ، فنزلوا عنها وهن قيام ؛ فلما دخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ورآهم ، ألاح إليهم بيده : أن تعالوا من وراء الناس ؛ فلما استفتح رفاعة بن زيد المنطق قام رجل من الناس ، فقال : إن هؤلاء يا نبي الله قوم سحرة ؛ فرددها مرتين ؛ فقال رفاعة : رحم الله من لم يجزنا في يومنا هذا إلا خيراً ! ثم دفع رفاعة كتابه إلى رسول الله الذي كان كتبه له ، فقال : دونك يا رسول الله قديماً كتابه ، حديثاً غدره . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اقرأ يا غلام وأعلن ؛ فلما قرأ كتابهم واستخبرهم فأخبروه الخبر ، قال رسول الله : كيف أصنع بالقتلى ؟ ثلاث مرات ؛ فقال رفاعة : أنت يا رسول الله أعلم ، لا نحرم عليك حلالاً ، ولا نحل لك حراماً ؛ فقال أبو زيد بن عمرو : أطلق لنا يا رسول الله من كان حياً ، ومن كان قد قتل فهو تحت قدمي هاتين . فقال رسول الله : صدق أبو زيد ، اركب معهم يا علي ، فقال علي : يا رسول الله ؛ إن زيداً لن يطيعني ، قال : خذ سيفي ، فأعطاه سيفه ، فقال علي : ليس لي راحلة يا رسول الله أركبها ، فحمله رسول الله على جمل لثعلبة بن عمرو ، يقال له المكحال ؛ فخرجوا ، فإذا رسول لزيد بن حارثة على ناقة من إبل أبي وبر ، يقال لها الشمر ؛ فأنزلوا عنها ، فقال : يا علي ما شأني ؟ فقال له علي : ما لهم عرفوه فأخذوه . ثم ساروا حتى لقوا الجيش بفيفاء الفحلتين ، فأخذوا ما في أيديهم من أموالهم ؛ حتى كانوا ينزعون لبد المرأة من تحت الرحل وفد بني عامر بن صعصعة حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن عاصم بن عمر بن قتادة ، قال : قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد بني عامر ؛ فيهم عامر بن الطفيل ، وأربد بن قيس بن مالك بن جعفر ، وجبار بن سلمى بن مالك بن جعفر ؛ وكان هؤلاء الثلاثة رءوس القوم وشياطينهم .
فقدم عامر بن الطفيل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يريد الغدر به ؛ وقد قال له قومه : يا عامر ؛ إن الناس قد أسلموا فأسلم ؛ قال : والله لقد كنت آليت ألا أنتهي حتى تتبع العرب عقبي ؛ أفأنا أتبع عقب هذا الفتى من قريش ! ثم قال لأريد : إذا قدمت على الرجل فإني شاغل عنك وجهه ؛ فإذا فعلت ذلك فاعله بالسيف ؛ فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عامر بن الطفيل : يا محمد خالني ؛ قال : لا والله حتى تؤمن بالله وحده ، قال : يا محمد خالني ، قال : وجعل يكلمه فينتظر من أربد ما كان أمره به ، فجعل أربد لا يحير شيئاً ، فلما رأى عامر ما يصنع أربد ، قال : يا محمد خالني ، قال : لا والله حتى تؤمن بالله وحده لا شريك له . فلما أبى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : أما والله لأملأنها عليك خيلاً حمراً ورجالاً ، فلما ولى قال رسول الله : اللهم اكفنى عامر بن الطفيل ، فلما خرجوا من عند رسول الله قال عامر لأربد : ويلك يا أربد ! أين ما كنت أوصيتك به ! والله ما كان على ظهر الأرض رجل هو أخوف على نفسي عندي منك ، وايم الله لا أخافك بعد اليوم أبداً . قال : لا تعجل علي لا أبا لك ! والله ما هممت بالذي أمرتني به من مرة إلا دخلت بيني وبين الرجل حتى ما أرى غيرك ، أفأضربك بالسيف ! قال عامر بن الطفيل :
بعث الرسول بما ترى فكأنما ... عمداً نسن على المقانب غارا
ولقد وردن بنا المدينة شزباً ... ولقد قتلن بجوها الأنصارا

وخرجوا راجعين إلى بلادهم ؛ حتى إذا كانوا ببعض الطريق بعث الله عز وجل على عامر بن الطفيل الطاعون في عنقه فقتله ؛ وإنه في بيت امرأة من بني سلول ؛ فجعل يقول : يا بني عامر ؛ أغدة كغدة البكر ؛ وموت في بيت امرأة من بني سلول ! ثم خرج أصحابه حين واووه ؛ حتى قدموا أرض بني عامر ؛ فلما قدموا أتاهم قومهم ، فقالوا : ما وراءك يا أربد ؟ قال : لا شيء ؛ والله لقد دعانا إلى عبادة شيء لوددت أنه عندي الآن فأرميه بنبلي هذه حتى أقتله ؛ فخرج بعد مقالته هذه بيوم أو يومين ، معه جمل له يبيعه ؛ فأرسل الله عليه وعلى جمله صاعقة فأحرقتهما . وكان أربد بن قيس أخا لبيد بن ربيعة لأمه .
قدوم زيد الخيل في وفد طيئ وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد طيئ ؛ فيهم زيد الخيل ، وهو سيدهم ، فلما انتهوا إليه كلموه ؛ وعرض عليهم رسول الله الإسلام فأسلموا فحسن إسلامهم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم - كما حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : حدثني محمد بن إسحاق ، عن رجال من طيئ : (( ما ذكر لي رجل من العرب بفضل ثم جاءني إلا رأيته دون ما يقال فيه إلا ما كان من زيد الخيل ؛ فإنه لم يبلغ فيه كل ما فيه )) . ثم سماه زيد الخير ؛ وقطع له فيداً وأرضين معه ؛ وكتب له بذلك . فخرج من عند رسول الله راجعاً إلى قومه ، فقال رسول الله : إن ينج زيد من حمى المدينة ! سماها رسول الله باسم غير الحمى وغير أم ملدم فلم يثبته - فلما انتهى من بلاد نجد إلى ماء من مياهه يقال له فردة أصابته الحمى ؛ فمات بها ، فلما أحس زيد بالموت قال :
أمر تحل قومي المشارق غدوة ... وأترك في بيت بفردة منجد
ألا رب يوم لو مرضت لعادني ... عوائد من لم يبر منهن يجهد
فلما مات عمدت امرأته إلى ما كان معها من كتبه التي قطع له رسول الله صلى الله عليه وسلم فحرقتها بالنار .
كتاب مسيلمة إلى رسول الله والجواب عنه وفي هذه السنة كتب مسيلمة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعى أنه أشرك معه في النبوة . حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ؛ عن عبد الله بن أبي بكر ، قال : كان مسيلمة بن حبيب الكذاب كتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم : من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله . سلام عليك ؛ فإني قد أشركت في الأمر معك ؛ وإن لنا نصف الأرض ولقريش نصف الأرض ، ولكن قريشاً قوم يعتدون .
فقدم عليه رسولان بهذا الكتاب .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن شيخ من أشجع قال ابن حميد : أما علي بن مجاهد فيقول : عن أبي مالك الأشجعي ، عن سلمة بن نعيم بن مسعود الأشجعي ، عن أبيه نعيم - قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لهما حين قرآ كتاب مسيلمة: فما تقولان أنتما ؟ قالا : نقول كما قال ؛ فقال : أما والله لولا أم الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما .
ثم كتب إلى مسيلمة : بسم الله الرحمن الرحيم ؛ من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب . سلام على من اتبع الهدى ؛ أما بعد ، فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين . قال : وكان ذلك في آخر سنة عشر .
قال أبو جعفر : وقد قيل : إن دعوى مسيلمة ومن ادعى النبوة من الكذابين في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، إنما كانت بعد انصراف النبي من حجه المسمى حجة الوداع ؛ ومرضته التي مرضها التي كانت منها وفاته صلى الله عليه وسلم . حدثنا عبيد الله بن سعيد الزهري ، قال : حدثني عمي يعقوب بن إبراهيم قال : حدثني سيف بن عمر - وكتب بذلك إلى السري يقول : حدثنا شعيب ابن إبراهيم التميمي ، عن سيف بن عمر التميمي الأسيدي - قال : حدثنا عبد الله بن سعيد بن ثابت بن الجذع الأنصاري ، عن عبيد مولي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أبي مويهبة مولي رسول الله ، قال : لما انصرف النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بعد ما قضى حجة التمام ، فتحلل به السير ، وطارت به الأخبار لتحلل السير بالنبي صلى الله عليه وسلم ؛ أنه قد اشتكى ؛ فوثب الأسود باليمن ومسيلمة باليمامة ؛ وجاء الخبر عنهما للنبي صلى الله عليه وسلم ، ثم وثب طليحة في بلاد بني أسد بعد ما أفاق النبي ، ثم اشتكى في المحرم وجعه الذي توفاه الله فيه .
خروج الأمراء والعمال على الصدقات

قال أبو جعفر : وفرق رسول الله صلى الله عليه وسلم في جميع البلاد التي دخلها الإسلام عمالاً على الصدقات . فحدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن عبد الله بن أبي بكر ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بعث أمراءه وعماله على الصدقات ، على كل ما أوطأ الإسلام من البلدان ؛ فبعث المهاجر بن أبي أمية بن المغيرة إلى صنعاء ؛ فخرج عليه العنسي وهو بها ، وبعث زياد بن لبيد أخا بني بياضة الأنصاري إلى حضرموت على صدقتها ، وبعث عدي بن حاتم على الصدقة ؛ صدقة طئ وأسد ، وبعث مالك بن نويرة على صدقات بني حنظلة ، وفرق صدقة بني سعد على رجلين منهم ، وبعث العلاء بن الحضرمي على البحرين ، وبعث علي بن أبي طالب إلى نجران ليجمع صدقاتهم ، ويقدم عليه بجزيتهم ..
حجة الوداع فلما دخل ذو القعدة من هذه السنة - أعني سنة عشر - تجهز النبي إلى الحج ، فأمر الناس بالجهاز له . فحدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ؛ عن عبد الرحمن بن القاسم ، عن أبيه ، عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ، قالت : خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الحج لخمس ليال بقين من ذي القعدة ، لا يذكر ولا يذكر الناس إلا الحج ؛ حتى إذا كان بسرف ، وقد ساق رسول الله معه الهدى وأشراف من أشراف الناس ، أمر الناس أن يحلوا بعمرة إلا من ساق الهدى ، وحضت ذلك اليوم ؛ فدخل علي وأنا أبكي ؛ فقال : مالك يا عائشة ؟ لعلك نفست ! فقلت : نعم ، لوددت أني لم أخرج معكم عامي هذا في هذا السفر ، قال : لا تفعلي ؛ لا تقولن ذلك ؛ فإنك تقضين كل ما يقضي الحاج ؛ إلا أنك لا تطوفين بالبيت . قالت : ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة ؛ فحل كل من كان لا هدى معه ، وحل نساؤه بعمرة ؛ فلما كان يوم النحر أتيت بلحم بقر كثير ، فطرح في بيتي ، قلت : ما هذا ؟ قالوا : ذبح رسول الله عن نسائه البقر ؛ حتى إذا كانت ليلة الحصبة ، بعثني رسول الله مع أخي عبد الرحمن بن أبي بكر ، لأقضي عمرتي من التنعيم مكان عمرتي التي فاتتني .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن ابن أبي نجيح ، قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب إلى نجران ، فلقيه بمكة ؛ وقد أحرم ؛ فدخل علي على فاطمة ابنة رسول الله ، فوجدها قد حلت وتهيأت ، فقال : مالك يا ابنة رسول الله ؟ قالت : أمرنا رسول الله أن نحل بعمرة ؛ فأحللنا ، قال : ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما فرغ من الخبر عن سفره ، قال له رسول الله : انطلق فطف بالبيت ، وحل كما حل أصحابك ، فقال : يا رسول الله ، إني قد أهللت بما أهللت به ؛ قال : ارجع فاحلل كما حل أصحابك ، قال : قلت : يا رسول الله ، إني قلت حين أحرمت : اللهم إني أهللت بما أهل به عبدك ورسولك ؛ قال : فهل معك من هدى ؟ قال : قلت : لا ، قال : فأشركه رسول الله صلى الله عليه وسلم في هديه وثبت على إحرامه مع رسول الله ؛ حتى فرغا من الحج ، ونحر رسول الله الهدى عنهما .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن يحيى ابن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي عمرة ، عن يزيد بن طلحة بن يزيد بن ركانة ، قال : لما أقبل علي بن أبي طالب من اليمن ليلقي رسول الله بمكة تعجل إلى رسول الله ، واستخلف على جنده الذين معه رجلاً من أصحابه ، فعمد ذلك الرجل ، فكسا رجالاً من القوم حللاً من البز الذي كان مع علي بن أبي طالب ؛ فلما دنا جيشه ؛ خرج علي ليلقاهم ؛ فإذا هم عليهم الحلل ، فقال : ويحك ما هذا ! قال : كسوت القوم ليتجملوا به إذا قدموا في الناس ، فقال : ويلك ! انزع من قبل أن تنتهي إلى رسول الله . قال : فانتزع الحلل من الناس ، وردها في البز ؛ وأظهر الجيش شكاية لما صنع بهم .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن معمر بن حزم ، عن سليمان بن محمد بن كعب ابن عجرة ، عن عمته زينب بنت كعب بن عجرة - وكانت عند أبي سعيد الخدري - عن أبي سعيد ، قال : شكا الناس علي بن أبي طالب ، فقام رسول الله فينا خطيباً ، فسمعته يقول : يأيها الناس ؛ لا يشكوا علياً ، فو الله إنه لأخشى في ذات الله - أو في سبيل الله - من أن يشكي .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن عبد الله بن أبي نجيح ، قال : ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على حجه ؛ فأرى الناس مناسكهم ، وأعلمهم سنن حجهم ؛ وخطب الناس خطبته التي بين للناس فيها ما بين ، فحمد الله وأثنى عليه ؛ ثم قال : أيها الناس ، اسمعوا قولي ؛ فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا ، بهذا الموقف أبداً . أيها الناس ؛ إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام ؛ إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا ، وحرمة شهركم هذا ؛ وستلقون ربكم ، فيسألكم عن أعمالكم . وقد بلغت ، فمن كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها . وإن كل رباً موضوع ، ولكم رءوس أموالكم ، لا تظلمون ولا تظلمون . قضى الله أنه لا ربا . وإن ربا العباس بن عبد الطلب موضوع كله ، وأن كل دم كان في الجاهلية موضوع ، وإن أول دم أضع دم ابن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب - وكان مسترضعاً في بني ليث ، فقتلته بنو هذيل - فهو أول ما أبدأ به من دماء الجاهلية .
أيها الناس ؛ إن الشيطان قد يئس من أن يعبد بأرضكم هذه أبداً ؛ ولكنه رضى أن يطاع فيما سوى ذلك مما تحقرون من أعمالكم ، فاحذروه على دينكم .
أيها الناس : " إنما النسئ زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاماً ويحرمونه عاماً ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله " ، ويحرموا ما أحل الله ؛ وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض ؛ و " إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض منها أربعة حرم " ، ثلاثة متوالية ؛ ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان .
أما بعد أيها الناس ؛ فإن لكم على نسائكم حقاً ولهن عليكم حقاً ، لكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه ، وعليهن ألا يأتين يفاحشة مبينة ؛ فإن فعلن فإن الله أذن لكم أن تهجروهن في المضاجع ، وتضربوهن ضرباً غير مبرح ، فإن انتهين فلهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف ، واستوصوا بالنساء خيراً ، فإنهن عندكم عوان لا يملكن لأنفسهن شيئاً ، وإنكم إنما أخذتموهن بأمانة الله ، واستحللتم فروجهن بكلمة الله ؛ فاعقلوا أيها الناس واسمعوا قولي ؛ فإني قد بلغت وتركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبداً ؛ كتاب الله وسنة نبيه .
أيها الناس ، اسمعوا قولي فإني قد بلغت ، واعقلوه . تعلمن أن كل مسلم أخو المسلم ، وأن المسلمين إخوة ، فلا يحل لأمرئ من أخيه إلا ما أعطاه عن طيب نفس ؛ فلا تظلموا أنفسكم . اللهم هل بلغت ! قال : فذكر أنهم قالوا : اللهم نعم ، فقال رسول الله : اللهم أشهد .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير ، عن أبيه عباد ، قال : كان الذي يصرخ في الناس بقول رسول الله وهو على عرفة ، ربيعة بن أمية بن خلف ، قال : يقول له رسول الله : قل : أيها الناس ؛ إن رسول الله يقول : هل تدرون أي شهر هذا ! فيقولون : الشهر الحرام ، فيقول : قل لهم : إن الله قد حرم عليكم دماءكم وأموالكم إلى أن تلقوا ربكم كحرمة شهركم هذا . ثم قال : قل : إن رسول الله ، يقول : أيها الناس ؛ فهل تدرون أي بلد هذا ؟ قال : فيصرخ به ، فيقولون : البلد الحرام ، قال : فيقول : قل : إن الله حرم عليكم دماءكم وأموالكم إلى أن تلقوا ربكم ، كحرمة بلدكم هذا . ثم قال : قل : أيها الناس ، هل تدرون أي يوم هذا ؟ فقال لهم ، فقالوا : يوم الحج الأكبر ، فقال : قل : إن الله حرم عليكم أموالكم ودماءكم إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن عبد الله بن أبي نجيح ، أن رسول الله حين وقف بعرفة ، قال : هذا الموقف - للجبل الذي هو عليه - وكل عرفة موقف . وقال حين وقف على قزح صبيحة المزدلفة : هذا الموقف ، وكل المزدلفة موقف . ثم لما نحر بالمنحر ، قال : هذا المنحر ، وكل مني منحر ؛ فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم الحج وقد أراهم مناسكهم ، وعلمهم ما افترض عليهم في حجهم في المواقف ورمى الجمار والطواف بالبيت ، وما أحل لهم في حجهم وما حرم عليهم ؛ فكانت حجة الوداع وحجة البلاغ ؛ وذلك أن رسول الله لم يحج بعدها .
ذكر جملة الغزوات

قال أبو جعفر : وكانت غزواته بنفسه ستاً وعشرين غزوة ؛ ويقول بعضهم : هن سبع وعشرون غزوة ؛ فمن قال : هي ست وعشرون ، جعل غزوة النبي صلى الله عليه وسلم خيبر وغزوته من خيبر إلى وادي القرى غزوة واحدة ؛ لأنه لم يرجع من خيبر حين فرغ من أمرها إلى منزله ؛ ولكنه مضى منها إلى وادي القرى ؛ فجعل ذلك غزوة واحدة . ومن قال : هي سبع وعشرون غزوة ، جعل غزوة خيبر غزوة ، وغزوة وادي القرى غزوة أخرى ؛ فيجعل العدد سبعاً وعشرين .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن عبد الله بن أبي بكر ، قال : كان جميع ما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه ستاً وعشرين غزوة . أول غزوة غزاها ودان ؛ وهي غزوة الأبواء ، ثم غزوة بواط إلى ناحية رضوى ، ثم غزوة العشيرة من بطن ينبع ، ثم غزوة بدر الأولى يطلب كرز بن جابر ، ثم غزوة بدر الكبرى التي قتل فيها صناديد قريش وأشرافهم ، وأسر فيها من أسر ، ثم غزوة بني سليم حتى بلغ الكدر ؛ ماء لبنى سليم ، ثم غزوة السويق يطلب أبا سفيان حتى بلغ قرقرة الكدر ، ثم غزوة غطفان إلى نجد ؛ وهي غزوة ذي أمر ؛ ثم غزوة بحران ؛ معدن بالحجاز من فوق الفرع ، ثم غزوة أحد ، ثم غزوة حمراء الأسد ، ثم غزوة بني النضير ، ثم غزوة ذات الرقاع من نخل ، ثم غزوة بدر الآخرة ، ثم غزوة دومة الجندل ، ثم غزوة الخندق ، ثم غزوة بني قريظة ، ثو غزوة بني لحيان من هذيل ، ثم غزوة ذي قرد ، ثم غزوة بني المصطلق من خزاعة ، ثم غزوة الحديبية - لا يريد قتالاً ، فصده المشركون - ثم غزوة خيبر ؛ ثم اعتمر عمرة القضاء ، ثم غزوة الفتح ؛ فتح مكة ، ثم غزوة حنين ، ثم غزوة الطائف ، ثم غزوة تبوك . قاتل منها في تسع غزوات : بدر ، وأحد ، والخندق ، وقريظة ، والمصطلق ، وخيبر ، والفتح ، وحنين ، والطائف .
حدثنا الحارث ، قال : حدثنا ابن سعد ، قال : حدثنا محمد بن عمر ، قال : حدثنا محمد بن يحيى بن سهل بن أبي حشمة ، عن أبيه ، عن جده ، قال : غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم ستاً وعشرين غزوة . ثم ذكر نحو حديث ابن حميد ، عن سلمة .
قال محمد بن عمر : مغازي رسول الله معروفة مجتمع عليها ، ليس فيها اختلاف بين أحد في عددها ؛ وهي سبع وعشرون غزوة ؛ وإنما اختلفوا بينهم في تقديم مغزاة قبل مغزاة .
حدثني الحارث ، قال : حدثنا ابن سعد ، قال : حدثني محمد بن عمر ، قال : حدثنا معاذ بن محمد الأنصاري ، عن محمد بن ثابت الأنصاري ، قال : سئل ابن عمر : كم غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : سبعا وعشرين غزوة ، فقيل لابن عمر : كم غزوت معه ؟ قال : إحدى وعشرين غزوة ؛ أولها الخندق ، وفاتني ست غزوات ، وقد كنت حريصاً ، قد عرضت على النبي صلى الله عليه وسلم ؛ كل ذلك يردني فلا يجيزني حتى أجازني في الخندق .
قال الواقدي : قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم في إحدى عشرة ، ذكر من ذلك التسع التي ذكرتها عن ابن إسحاق ؛ وعد معها غزوة وادي القرى ، وأنه قاتل فيها فقتل غلامه مدعم ، رمى بسهم . قال : وقاتل يوم الغابة ، فقتل من المشركين ، وقتل محرز بن نضلة يؤمئذ .
ذكر جملة السرايا والبعوث

واختلف في عدد سراياه صلى الله عليه وسلم ، حدثنا محمد بن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : حدثني محمد بن إسحاق ، عن عبد الله بن أبي بكر ، قال : كانت سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعوثه - فيما بين أن قدم المدينة وبين أن قبضه الله - خمساً وثلاثين بعثاً وسرية : سرية عبيدة بن الحارث إلى أحياء من ثنية المرة ، وهو ماء بالحجاز ، ثم غزوة حمزة بن عبد المطلب إلى ساحل البحر من ناحية العيص - وبعض الناس يقدم غزوة حمزة قبل غزوة عبيدة - وغزوة سعد بن أبي وقاص إلى الخرار من أرض الحجاز ، وغزوة عبد الله بن جحش إلى نخلة ، وغزوة زيد ابن حارثة القردة ؛ ماء من مياه نجد ، وغزوة مرثد بن أبي مرثد الغنوي الرجيع ، وغزوة المنذر بن عمرو بئر معونة ، وغزوة أبي عبيدة بن الجراح إلى ذي القصة من طريق العراق ، وغزوة عمر بن الخطاب تربة من أرض بني عامر ، وغزوة علي بن أبي طالب اليمن ، وغزوة غالب بن عبد الله الكلبي - كلب ليث - الكديد ، وأصاب بلملوح ، وغزوة علي بن أبي طالب إلى بني عبد الله بن سعد من أهل فدك ، وغزوة ابن أبي العوجاء السلمى أرض بني سليم ؛ أصيب بها هو وأصحابه جميعاً ، وغزوة عكاشة بن محصن الغمرة ، وغزوة أبي سلمة بن عبد الأسد قطناً ؛ ماء من مياه بني أسد من ناحية نجد قتل فيها مسعود بن عروة ، وغزوة محمد بن مسلمة ؛ أخي بني الحارث إلى القرطاء من هوازن ، وغزوة بشير بن سعد إلى بني مرة بفدك ، وغزوة بشير بن سعد أيضاً إلى يمن وجناب ؛ بلد من أرض خيبر - وقيل يمن وجبار ؛ أرض من أرض خيبر ، وغزوة زيد بن حارثة الجموم ؛ من أرض بني سليم ، وغزوة زيد بن حارثة أيضاً جذام من أرض حسمي - وقد مضى ذكر خبرها قبل - وغزوة زيد بن حارثة أيضاً وادي القرى ، لقي بني فزارة .
وغزوة عبد الله بن رواحة خيبر مرتين : إحداهما التي أصاب الله فيها يسير بن رزام - وكان من حديث يسير بن رزام اليهودي أنه كان بخيبر يجمع غطفان لغزو رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فبعث إليه رسول الله عبد الله بن رواحة في نفر من أصحابه ؛ منهم عبد الله بن أنيس حليف بني سلمة ، فلما قدموا عليه كلموه وواعدوه وقربوا له ، وقالوا له : إنك إن قدمت على رسول الله استعملك وأكرمك ؛ فلم يزالوا به حتى خرج معهم في نفر من يهود ؛ فحمله عبد الله بن أنيس على بعيره وردفه حتى إذا كان بالقرقرة من خيبر على ستة أميال ندم يسير بن رزام على سيره إلى رسول الله ، ففطن له عبد الله ابن أنيس وهو يريد السيف ؛ فاقتحم به ؛ ثم ضربه بالسيف فقطع رجله وضربه يسير بمخرش في يده من شوحط ، فأمه في رأسه ، وقتل الله يسيرا ؛ ومال كل رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على صاحبه من يهود فقتله إلا رجلاً واحداً أفلت على راحلته ؛ فلما قدم عبد الله ابن أنيس على رسول الله صلى الله عليه وسلم تفل على شجته فلم تقح ولم تؤذه .
وغزوة عبد الله بن عتيك إلى خيبر ؛ فأصاب بها أبا رافع ؛ وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث محمد بن مسلمة وأصحابه - فيما بين بدر وأحد - إلى كعب بن الأشرف فقتلوه ، وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أنيس إلى خالد بن سفيان بن نبيح الهذلي - وهو بنخلة أو بعرنة - يجمع لرسول الله ليغزوة ، فقتله .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير ، عن عبد الله بن أنيس ، قال : دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : إنه بلغني أن خالد بن سفيان بن نبيح الهذلي يجمع لي الناس ليغزوني - وهو بنخلة أو بعرنة - فأته فاقتله ، قال : قلت : يا رسول الله ؛ انعته لي حتى أعرفه ، قال : إذا رأيته أذكرك الشيطان ! إنه آية ما بينك وبينه أنك إذا رأيته وجدت له قشعريرة . قال : فخرجت متوشحاً سيفي حتى دفعت إليه وهو في ظعن يرتاد لهن منزلاً حيث كان وقت العصر ؛ فلما رأيته وجدت ما وصف لي رسول الله صلى الله عليه وسلم من القشعريرة ، فأقبلت نحوه ، وخشيت أن تكون بيني وبينه مجاولة تشغلني عن الصلاة ، فصليت وأنا أمشي نحوه ، أومي برأسي إيماء ؛ فلما انتهيت إليه قال : من الرجل ؟ قلت : رجل من العرب سمع بك وبجمعك لهذا الرجل ؛ فجاءك لذلك ، قال : أجل ، أنا في ذلك ؛ فمشيت معه شيئاً حتى إذا أمكنني حملت عليه بالسيف حتى قتلته ؛ ثم خرجت وتركت ظعائنه مكبات عليه . فلما قدمت على رسول الله وسلمت عليه ورآني ، قال : أفلح الوجه ! قال : قلت : قد قتلته . قال : صدقت ! ثم قام رسول الله فدخل بيته ، فأعطاني عصا ، فقال : أمسك هذه العصا عندك يا عبد الله بن أنيس . قال : فخرجت بها على الناس ، فقالوا : ما هذه العصا ؟ قلت : أعطانيها رسول الله ، وأمرني أن أمسكها عندي ، قالوا : أفلا ترجع إلى رسول الله فتسأله لم ذلك ؟ فرجعت إلى رسول الله ، فقلت : يا رسول الله ، لم أعطيتني هذه العصا ؟ قال : آية ما بيني وبينك يوم القيامة ؛ إن أقل الناس المتخصرون يومئذ ؛ فقرنها عبد الله بسيفه ، فلم تزل معه حتى إذا مات أمر بها فضمت معه في كفنه ، ثم دفنا جميعاً .
ثم رجع الحديث إلى حديث عبد الله بن أبي بكر . قال : وغزوة زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب وعبد الله بن رواحة إلى مؤتة من أرض الشام ، وغزوة كعب بن عمير الغفاري بذات أطلاح من أرض الشأم ، فأصيب بها هو وأصحابه ، وغزوة عيينة بن حصن بني العنبر من بني تميم ؛ وكان من حديثهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه إليهم ؛ فأغار عليهم ؛ فأصاب منهم ناساً ، وسبى منهم سبياً .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن عاصم بن عمر بن قتادة ، أن عائشة قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم : يا رسول الله ؛ إن علي رقبة من بني إسماعيل ، قال : هذا سبى بني العنبر يقدم الآن فنعطيك إنساناً فتعتقينه . قال ابن إسحاق : فلما قدم سبيهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ركب فيهم وفد من بني تميم ، حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ منهم ربيعة بن رفيع ، وسبرة بن عمرو ، والقعقاع بن معبد ، ووردان بن محرز ، وقيس بن عاصم ، ومالك بن عمرو ، والأقرع بن حابس ، وحنظلة بن درام ، وفراس بن حابس . وكان ممن سبى من نسائهم يومئذ أسماء بنت مالك ، وكأس بنت أرى ، ونجوة بنت نهد وجميعة بنت قيس ، وعمرة بنت مطر .
ثم رجع إلى حديث عبد الله بن أبي بكر . قال : وغزوة غالب بن عبد الله الكلبي - كلب ليث - أرض بني مرة ؛ فأصاب بها مرداس بن نهيك ؛ حليفاً لهم من الحرقة من جهينة ، قتله أسامة بن زيد ورجل من الأنصار ، وهو الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم لأسامة : من لك بلا إله إلا الله ! وغزوة عمرو بن العاص ذات السلاسل ، وغزوة ابن أبي حدرد وأصحابه إلى بطن إضم ، وغزوة ابن أبي حدرد الأسلمى إلى الغابة ، وغزوة عبد الرحمن ابن عوف .
وبعث سرية إلى سيف البحر ، وعليهم أبو عبيدة بن الجراح ؛ وهي غزوة الخبط .
حدثني الحارث بن محمد ، قال : حدثنا ابن سعد ، قال : قال محمد ابن عمر : كانت سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانياً وأربعين سرية .
قال الواقدي : في هذه السنة قدم جرير بن عبد الله البجلي على رسول الله صلى الله عليه وسلم مسلماً في رمضان ، فبعثه رسول الله إلى ذي الخلصة فهدمها .
قال : وفيها قدم وبر بن يحنس على الأنباء باليمن ، يدعوهم إلى الإسلام فنزل على بنات النعمان بن بزرج فأسلمن ، وبعث إلى فيروز الديلمي فأسلم ، وإلى مركبود وعطاء ابنه ، ووهب بن منبه ، وكان أول من جمع القرآن بصنعاء ابنه عطاء بن مركبود ووهب بن منبه .

قال : وفيها أسلم باذان ، وبعث إلى النبي صلى الله عليه وسلم بإسلامه .
قال أبو جعفر : وقد خالف في ذلك عبد الله بن أبي بكر من قال : كانت مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم ستاً وعشرين غزوة ، من أنا ذاكره : حدثنا أبو كريب محمد بن العلاء ، قال : حدثنا يحيى بن آدم ، قال : حدثنا زهير ؛ عن أبي إسحاق ، عن زيد بن أرقم ، قال : سمعت منه أن رسول الله غزا تسع عشرة غزوة ، وحج بعد ما هاجر حجة ، لم يحج غير حجة الوداع . وذكر ابن إسحاق حجة بمكة .
قال أبو إسحاق : فسألت زيد بن أرقم : كم غزوت مع رسول الله ؟ قال : سبع عشرة .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن أبي إسحاق ؛ أن عبد الله بن يزيد الأنصاري خرج يستسقي بالناس ، قال : فصلى ركعتين ثم استسقى . قال : فلقيت يومئذ زيد بن أرقم ، قال : ليس بيني وبينه غير رجل - أو بيني وبينه رجل - قال : فقلت : كم غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : تسع عشرة غزوة ، فقلت : كم غزوت معه ؟ قال : سبع عشرة غزوة ، فقلت : فما أول غزوة غزا ؟ قال : ذات العسير - أو العشير .
وزعم الواقدي أن هذا عندهم خطأ ؛ حدثني الحارث ، قال : حدثنا ابن سعد ، قال : أخبرنا محمد بن عمر ، قال : أخبرنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق الهمداني ، قال : قلت لزيد بن أرقم : كم غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : سبع عشرة غزوة ، قلت : كم غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : تسع عشرة غزوة . قال الحارث : قال ابن سعد : قال الواقدي : فحدثت بهذا الحديث عبد الله بن جعفر ، فقال : هذا إسناد أهل العراق ؛ يقولون هكذا ؛ وأول غزوة غزاها زيد بن الأرقم المريسيع ؛ وهو غلام صغير ، وشهد مؤتة رديف عبد الله بن رواحة ؛ وما غزا مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا ثلاث غزوات أو أربعا .
وروى عن مكحول في ذلك ما حدثني الحارث ، قال : حدثنا ابن سعد ، قال : أخبرنا ابن عمر ، قال : حدجثني سويد بن عبد العزيز ، عن النعمان بن المنذر ، عن مكحول ، قال : غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثماني عشرة غزوة ؛ قاتل من ذلك في ثمان غزوات أولهن بدر وأحد والأحزاب وقريظة .
قال الواقدي : فهذان الحديثان : حديث زيد بن الأرقم وحديث مكحول جميعاً غلط .
ذكر الخبر عن حج رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثني عبد الله بن أبي زياد ، قال : حدثنا زيد بن الحارث ، عن سفيان الثوري ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن جابر ، أن النبي صلى الله عليه وسلم حج ثلاث حجج : حجتين قبل أن يهاجر ، وحجة بعد ما هاجر ، معها عمرة .
حدثنا عبد الحميد بن بيان ، قال : أخبرنا إسحاق بن يوسف ، عن شريك ، عن أبي إسحاق ، عن مجاهد ، عن ابن عمر ، قال : اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرتين قبل أن يحج ، فبلغ ذلك عائشة ، فقالت : اعتمر رسول الله أربع عمر ؛ قد علم ذلك عبد الله بن عمر ، منهن عمرة مع حجته .
حدثنا محمد بن علي بن الحسن بن شقيق ، قال : سمعت أبي ، قال : حدثنا أبو حمزة ، عن مطرف ، عن أبي إسحاق ، عن مجاهد ، قال : سمعت ابن عمر يقول : اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث عمر . فبلغ عائشة ، فقالت : لقد علم ابن عمر أنه اعتمر أربع عمر ، منها عمرته التي قرن معها الحجة .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد ، قال : دخلت أنا وعروة بن الزبير المسجد ؛ فإذا ابن عمر جالس عند حجرة عائشة ، فقلنا : كم اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : أربعاً ؛ إحداهن في رجب ، فكرهنا أن نكذبه ونرد عليه ، فسمعنا استنان عائشة في الحجرة ، فقال عروة بن الزبير : يا أمه ، يا أم المؤمنين ، أما تسمعين ما يقول أبو عبد الرحمن ! فقالت : وما يقول ؟ قال : يقول : إن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر أربع عمر : إحداهن في رجب ، فقالت : يرحم الله أبا عبد الرحمن ! ما اعتمر النبي عمرة إلا وهو شاهد ، وما اعتمر في رجب .
ذكر الخبر عن أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن منهن عاش بعده ومن منهن فارقه في حياته ، والسبب الذي فارقه من أجله ، ومن منهن مات قبله .

فحدثني الحارث ، قال : حدثنا ابن سعد ، قال : حدثنا هشام بن محمد ، قال : أخبرني أبي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج خمس عشرة امرأة ؛ دخل بثلاث عشرة ، وجمع بين إحدى عشرة ، وتوفي عن تسع .
تزوج في الجاهلية ؛ وهو ابن بضع وعشرين سنة خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزي ؛ وهي أول من ت
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://arabelalekat.yoo7.com
الشيخ عودة
الشيخ عودة
الشيخ عودة



عدد المساهمات : 1748
تاريخ التسجيل : 28/09/2008
العمر : 73

كتاب : تاريخ الرسل والملوك المؤلف : الطبري - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: كتاب : تاريخ الرسل والملوك المؤلف : الطبري   كتاب : تاريخ الرسل والملوك المؤلف : الطبري - صفحة 2 Emptyالسبت ديسمبر 14, 2013 10:42 am

رجع الخبر إلى خبر هشام بن محمد . ثم تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة بنت أبي بكر - واسمه عتيق بن أبي قحافة ، وهو عثمان - ويقال عبد الرخمن بن عثمان - بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة ، تزوجها قبل الهجرة بثلاث سنين ، وهي ابنة سبع سنين ؛ وجمع إليها بعد أن هاجر إلى المدينة وهي ابنة تسع سنين في شوال ؛ فتوفي عنها وهي ابنة ثمان عشرة ، ولم يتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم بكراً غيرها ، ثم تزوج رسول الله حروف حفصة بنت عمر بن الخطاب ابن نفيل بن عبد العزي بن رياح بن عبد الله بن قرط بن كعب - وكانت قبله عند خنيس بن حذافة بن قيس بن عدي ابن سعد بن سهم . وكان بدرياً ، شهد بدراً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم - فلم تلد له شيئاً ، ولم يشهد من بني سهم بدراً غيره .
ثم تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أم سلمة ، واسمها هند بنت أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم ؛ وكانت قبله عند أبي سلمة ابن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم ؛ وشهد بدراً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان فارس القوم ، فأصابته جراحة يوم أحد فمات منها ؛ وكان ابن عمة رسول الله ورضيعه ، وأمه برة بنت عبد المطلب ولدت له عمر ، وسلمة ، وزينب ، ودرة ؛ فلما مات كبر رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي سلمة تسع تكبيرات ، فلما قيل : يا رسول الله ، أسهوت أم نسيت ؟ قال : لم أسه ولم أنس ؛ ولو كبرت على أبي سلمة ألفاً كان أهلاً لذلك ؛ ودعا النبي صلى الله عليه وسلم لأبي سلمة بخلفه في أهله . فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الأحزاب سنة ثلاث ، وزوج سلمة بن أبي سلمة ابنة حمزة بن عبد المطلب .
ثم تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم عام المريسيع جويرية بنت الحارث ابن أبي ضرار بن حبيب بن مالك بن جذيمة - وهو المصطلق بن سعد بن عمرو - سنة خمس ، وكانت قبله عند مالك بن صفوان ذي الشفر بن أبي سرح بن مالك بن المصطلق ؛ لم تلد له شيئاً ؛ فكانت صفية رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم المريسيع ، فأعتقها وتزوجها ، وسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عتق ما في يده من قومها ، فأعتقهم لها .
ثم تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أم حبيبة بنت أبي سفيان بن حرب ؛ وكانت عند عبيد الله بن جحش بن رئاب بن يعمر بن صبرة بن مرة بن كبير بن غنم بن دودان بن أسد - وكانت من مهاجرات الحبشة هي وزوجها ، فتنصر زوجها وحاولها أن تتابعه فأبت وصبرت على دينها ، ومات زوجها على النصرانية ، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي فيها ، فقال النجاشي لأصحابه : من أولاكم بها ؟ قالوا : خالد بن سعيد بن العاص ، قال : فزوجها من نبيكم ، ففعل وأمهرها أربعمائة دينار . ويقال : بل خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عثمان بن عفان ، فلما زوجه إياها بعث إلى النجاشي فيها ، فساق عنه النجاشي ، وبعث بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ثم تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش بن رئاب ابن يعمر بن صبرة ؛ وكانت قبله عند زيد بن حارثة بن شراحيل مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلم تلد له شيئاً ، وفيها أنزل الله عز وجل : " وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك " إلى آخر الآية فزوجها الله عز وجل إياه ، وبعث في ذلك جبريل ؛ وكانت تفخر على نساء النبي صلى الله عليه وسلم ، وتقول : أنا أكرمكن ولياً ، وأكرمكن سفيراً .
ثم تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم صفية بنت حيى بن أخطب بن سعية بن ثعلبة بن عبيد بن كعب بن الخزرج بن أبي حبيب بن النضير ؛ وكانت قبله تحت سلام بن مشكم بن الحكم بن حارثة بن الخزرج بن كعب بن الخزرج ؛ وتوفي عنها وخلف عليها كنانة بن الربيع بن أبي الحقيق ، فقتله محمد بن مسلمة بأمر النبي صلى الله عليه وسلم ، ضرب عنقه صبراً ، فلما تصفح النبي صلى الله عليه وسلم السبي يوم خيبر ، ألقى رداءه على صفية ، فكانت صفيه يوم خيبر ؛ ثم عرض عليها الإسلام فأسلمت فأعتقها ؛ وذلك سنة ست .

ثم تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم ميمونة بنت الحارث بن حزن ابن بجير بن الهزم بن رويبة بن عبد الله بن هلال ؛ وكانت قبله عند عمير ابن عمرو ، من بني عقدة بن غيرة بن عوف بن قسى - وهو ثقيف - لم تلد له شيئاً ، وهي أخت أم الفضل امرأة العباس بن عبد المطلب ، فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بسرف في عمرة القضاء ؛ زوجها إياه العباس ابن عبد المطلب ؛ فتزوجها رسول الله .
وكل هؤلاء اللواتي ذكرنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجهن إلى هذا الموضع ، توفي رسول الله وهن أحياء ، غير خديجة بنت خويلد .
ثم تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة من بني كلاب بن ربيعة ؛ يقال لها النشاة بنت رفاعة ، وكانوا حلفاء لبني رفاعة من قريظة . وقد اختلف فيها ، وكان بعضهم يسمى هذه سنا وينسبها ، فيقول : سنا بنت أسماء بن الصلت السلمية . وقال بعضهم : هي سبا بنت أسماء بن الصلت من بني حرام من بني سليم . وقالوا : توفيت قبل أن يدخل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ونسبها بعضهم فقال : هي سنا بنت الصلت بن حبيب بن حارثة بن هلال بن حرام بن سمال بن عوف السلمي .
ثم تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم الشنباء بنت عمرو الغفارية . وكانوا أيضاً حلفاء لبني قريظة ، وبعضهم يزعم أنها قرظية ، وقد جهل نسبها لهلاك بني قريظة ، وقيل أيضاً إنها كنانية ، فعركت حين دخلت عليه ؛ ومات إبراهيم قبل أن تطهر ، فقالت : لو كان نبياً ما مات أحب الناس إليه ؛ فسرحها رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ثم تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم غزية بنت جابر من بني أبي بكر بن كلاب ، بلغ رسول الله عنها جمال وبسطة ، فبعث أبا أسيد الأنصاري ، ثم الساعدي ، فخطبها عليه ، فلما قدمت على النبي صلى الله عليه وسلم - وكانت حديثة عهد بالكفر - فقالت : إني لم أستأمر في نفسي ، إني أعوذ بالله منك ؟؟! فقال النبي صلى الله عليه وسلم : امتنع عائذ الله . وردها إلى أهلها ؛ ويقال : إنها من كندة .
ثم تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أسماء بنت النعمان بن الأسود ابن شراحيل بن الجون بن حجر بن معاوية الكندي ، فلما دخل بها وجد بها بياضاً فمتعها وجهزها وردها إلى أهلها ؛ ويقال : بل كان النعمان بعث بها إلى رسول الله فسرحته ، فلما دخلت عليه استعاذت منه أيضاً ، فبعث إلى أبيها ، فقال له : أليست ابنتك ؟ قال : بلى ، قال لها : ألست ابنته ؟ قالت : بلى ، قال النعمان : عليكها يا رسول الله ، فإنها وإنها ... وأطنب في الثناء فقال : إنها لم تيجع قط ، ففعل بها ما فعل بالعامرية ، فلا يدري : ألقو لها أم لقول أبيها: " إنها لم تيجع قط " .
وأفاء الله عز وجل على رسوله ريحانة بنت زيد ، من بنت قريظة .
وأهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم مارية القبطية ، أهداها له المقوقس صاحب الإسكندرية ، فولدت له إبراهيم بن رسول الله .
فهؤلاء أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، منهن ست قرشيات .
قال أبو جعفر : وممن لم يذكر هشام في خبره هذا ممن روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه تزوجه من النساء : زينب بنت خزيمة - وهي التي يقال لها أم المساكين - من بني عامر بن صعصعة ، وهي زينب بنت خزيمة بن الحارث ابن عبد الله ابن عمرو بن عبد مناف بن هلال بن عامر بن صعصعة ، وكانت قبل رسول الله عند الطفيل بن الحارث بن المطلب ، أخي عبيدة بن الحارث ، توفيت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة .
وقيل إنه لم يمت عند رسول الله في حياته من أزواجه غيرها وغير خديجة وشراف بنت خليفة ، أخت دحية بن خليفة الكلبي ، والعالية بنت ظبيان .
حدثني ابن عبد الله بن عبد الحكم ، قال : حدثنا شعيب بن الليث ، عن عقيل ، عن ابن شهاب ، قال : تزوج رسول اله صلى الله عليه وسلم العالية ؛ امرأة من بني أبي بكر كلاب فمتعها ، ثم فارقها ، وقتيلة بنت قيس ابن معد يكرب أخت الأشعث بن قيس ، فتوفى عنها قبل أن يدخل بها ، فارتدت عن الإسلام مع أخيها ، وفاطمة بنت شريح .

وذكر عن ابن الكلبي أنه قال : غزية بنت جابر ، هي أم شريك ، تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد زوج كان لها قبله ؛ وكان لها منه ابن يقال له شريك ، فكنيت به ، فلما دخل بها النبي صلى الله عليه وسلم وجدها مسنة ، فطلقها ، وكانت قد أسلمت ؛ وكانت تدخل على نساء قريش فتدعوهن إلى الإسلام .
وقيل : إنه تزوج خولة بنت الهذيل بن هبيرة بن قبيصة بن الحارث ؛ زوى ذلك عن الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس .
وبهذا الإسناد أن ليلى بنت الخطيم بن عدي بن عمرو بن سواد بن ظفر ابن الحارث بن الخزرج ، أقبلت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو مول ظهره الشمس ، فضربت على منكبه ، فقال : من هذه ؟ قالت : أنا ابنة مبارى الريح ، أنا ليلى بنت الخطيم ، جئتك أعرض عليك نفسي فتزوجني ، قال : قد فعلت ، فرجعت إلى قومها ، فقالت : قد تزوجني رسول الله ، فقالوا : بئسما صنعت ! أنت امرأة غيرى ؛ والنبي صاحب نساء ، استقيليه نفسك ، فرجعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقالت : أفلني ، قال : قد أقلتك .
وبغير هذا الإسناد أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج عمرة بنت يزيد ، امرأة من بني رؤاس بن كلاب .
ذكر من خطب النبي صلى الله عليه وسلم من النساء ثم لم ينكحهن منهن أم هانئ بنت أبي طالب ، واسمها هند ، خطبها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ولم يتزوجها ؛ لأنها ذكرت أنها ذات ولد .
وخطب ضباعة بنت عامر بن قرط بن سلمة بن قشير بن كعب بن ربيعة بن عامر صعصعة إلى ابنها سلمة بن هشام بن المغيرة ، فقال : حتى أستأمرها ، فأتاها فقال : إن النبي صلى الله عليه وسلم خطبك ، فقالت : ما قلت له ؟ قال : قلت له حتى أستأمرها ! قالت : وفي النبي يستأمر ! ارجع فزوجه ؛ فرجع فسكت عنه النبي صلى الله عليه وسلم ، وذلك أنه أخبر أنها قد كبرت .
وخطب - فيما ذكر - صفية بنت بشامة أخت الأعور العنبري ، وكان أصابها سباء ، فخيرها ، فقال : إن شئت أنا وإن شئت زوجك ، قالت : بل زوجي ؛ فأرسلها .
وخطب أم حبيب بنت العباس بن عبد المطلب ، فوجد العباس أخاه من الرضاعة ، أرضعتهما ثويبة .
وخطب جمرة بنت الحارث بن أبي حارثة ، فقال أبوها - فيما ذكر : بها شيء ، ولم يكن بها شيء ، فرجع فوجدها قد برصت .
ذكر سراري رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي مارية بنت شمعون القبطية ، وريحانة بنت زيد القرظية . وقيل : هي من بني النضير . وقد مضى ذكر أخبارهما قبل .
ذكر موالي رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنهم زيد بن حارثة وابنه أسامة بن زيد ، وقد ذكرنا خبره فيما مضى .
وثوبان - مولي رسول الله ، فأعتقه ، ولم يزل معه حتى قبض ، ثم نزل حمص وله بها دار وقف ؛ ذكر أنه توفي سنة أربع وخمسين في خلافة معاوية . وقال بعضهم : بل كان سكن الرملة ، ولا عقب له .
وشقران - وكان من الحبشة ، اسمه صالح بن عدي ؛ اختلف في أمره . قد ذكر عن عبد الله بن داود الخريبي أنه قال : شقران ورثه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أبيه . وقال بعضهم : شقران من الفرس ، ونسبه فقال : هو صالح بن حول ابن مهر بود .
نسب شقران مولي رسول الله صلى الله عليه وسلم في قول من نسبه إلى عجم الفرس . زعم أنه صالح بن حول بن مهر بوذ بن آذر جشنس بن مهربان بن فيران بن رستم بن فيروز بن ماي بن بهرام بن رشتهري ، وزعم أنهم كانوا من دهاقين الري .
وذكر عن مصعب الزبيري أنه قال : كان شقران لعبد الرحمن بن عوف . فوهبه للنبي صلى الله عليه وسلم وأنه أعقب ؛ وأن آخرهم مؤبا ، رجل كان بالمدينة من ولده ، كان له بالبصرة بقية .
ورويفع - وهو أبو رافع مولي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، اسمه أسلم . وقال بعضهم : اسمه إبراهيم . واختلفوا في أمره ؛ فقال بعضهم : كان للعباس بن عبد المطلب ، فوهبه لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأعتقه رسول الله . وقال بعضهم : كان أبو رافع لأبي أحيحة سعيد بن العاص الأكبر فورثه بنوه ، فأعتق ثلاثة منهم أنصباءهم منه ، وقتلوا يوم بدر جميعاً ؛ وشهد أبو رافع معهم بدراً ، ووهب خالد بن سعيد نصيبه منه لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأعتقه رسول الله .
وابنه البهى - اسمه رافع .

وأخو البهى عبيدة الله بن أبي رافع - وكان يكتب لعلي بن أبي طالب ، فلما ولى عمرو بن سعيد المدينة دعا البهى ، فقال : من مولاك ؟ فقال : رسول الله ، فضربه مائة سوط ، وقال : مولى من أنت ! قال : مولى رسول الله ، فضربه مائة سوط ؛ فلم يزل يفعل به ذلك كلما سأله : مولى من أنت ؟ قال : مولى رسول الله ؛ حتى ضربه خمسمائة سوط ، ثم قال : مولى من أنت ؟ قال : مولاكم ، فلما قتل عبد الملك عمرو بن سعيد قال البهى بن أبي رافع :
صحت ولا شلت وضرت عدوها ... يمين هراقت مهجة ابن سعيد
هو ابن العاصى مراراً وينتمي ... إلى أسرة طابت له وجدود
وسلمان الفارسي - وكنيته أبو عبد الله من أهل قرية أصبهان ؛ ويقال : إنه من قرية رامهرمز ؛ فأصابه أسر من بعض كلب ، فبيع من بعض اليهود بناحية وادي القرى ؛ فكاتب اليهودى ، فأعانه رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون حتى عتق . وقال بعض نسابة الفرس : سلمان من كورس أبور ، واسمه مابه بن بوذخشان بن ده ديره .
وسفينة - مواى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان لأم سلمة فأعتقته ؛ واشترطت عليه خدمة رسول الله صلى الله عليه وسلم حياته ، قيل : إنه أسود ؛ واختلف في اسمه ، فقال بعضهم : اسمه مهران ، وقال بعضهم : اسمه رباح ، وقال بعضهم : هو من عجم الفرس ؛ واسمه سبيه بن مارقيه ، وأنسة . يكني أبا مسرح ، وقيل : أبا مسروح . كان من مولدي السراة ؛ وكان يأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جلس ، وشهد بدراً وأحداً والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقال بعضهم : أصله من عجم الفرس ؛ كانت أمه حبشية وأبوه فارسياً . قال : واسم أبيه بالفارسية كردوى ابن أشرنيده بن أدوهر بن مهرادر بن كحنكان من بني مهجوار بن يوماست .
وأبو كبشة - واسمه سليم ، قيل إنه كان من مولدي مكة ، وقيل : من مولدي أرض دوس ، اتباعه رسول اله صلى الله عليه وسلم فأعتقه ، فشهد مع رسول الله بدراً وأحداً والمشاهد . توفي في أول يوم استخلف فيه عمر بن الخطاب ، سنة ثلاث عشرة من الهجرة .
وأبو مويهبة - قيل : إنه كان من مولدي مزينة ، فاشتراه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعتقه .
ورباح الأسود - كان يأذن لرسول الله صلى الله عليه وسلم .
وفضالة - مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل - فما ذكر - الشأم .
ومدعم - مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كان عبداً لرفاعة ابن زيد الجذامي ، فوهبه لرسول الله ، فقتل بوادي القرى ، يوم نزل بهم رسول الله ، أتاه سهم غرب فقتله .
وأبو ضميرة - كان بعض نسابة الفرس زعم أنه من عجم الفرس ، من ولد كشتاسب الملك ، وأن اسمه واح بن شيرز بن بيرويس بن تاريشمه ابن ماهوش بن باكمهير .. وذكر بعضهم أنه كان ممن صار في قسم رسول الله في بعض وقائعه ، فأعتقه ، وكتب له كتاباً بالوصية ؛ وهو جد حسين بن عبد الله بن أبي ضميرة ، وأن ذلك الكتاب في أيدي ولد ولده وأهل بيته ، وأن حسين بن عبد الله هذا قدم على المهدي ومعه ذلك الكتاب ، فأخذه المهدي فوضعه على عينيه ، ووصله بثلثمائة دينار .
ويسار - وكان فيما ذكر نوبياً ؛ كان فيما وقع في سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض غزواته فأعتقه ؛ وهو الذي قتله العرنيون الذين أغاروا على لقاح رسول الله .
ومهران - حدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وكان له خصى يقال له مابور - كان المقوقس أهداه إليه مع الجاريتين اللتين يقال لإحداهما مارية ، وهي التي تسرى بها والأخرى سيرين وهي التي وهبها رسول الله صلى الله عليه وسلم لحسان بن ثابت ، لما كان من جناية صفوان بن المعطل عليه ، فولدت لحسان ابنه عبد الرحمن بن حسان . وكان المقوقس بعث بهذا الخصى مع الجاريتين اللتين أهداهما لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليوصلهما إليه ، ويحفظهما من الطريق حتى تصلا إليه . وقيل : إنه الذي قذفت مارية به ، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً وأمره بقتله ، فلما رأى علياً وما يريد به تكشف حتى تبين لعلى أنه أجب لا شيء معه مما يكون مع الرجال ، فكف عنه علي . وخرج إليه من الطائف - وهو محاصر أهلها - أعبد لهم أربعة ، فأعتقهم صلى الله عليه وسلم ، منهم أبو بكرة .
ذكر من كان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم

ذكر أن عثمان بن عفان كان يكتب له أحياناً ، وأحياناً علي بن أبي طالب ، وخالد بن سعيد ، وأبان بن سعيد ، والعلاء بن الحضرمي .
قيل : أول من كتب له أبي بن كعب ؛ وكان إذا غاب أبي كتب له زيد بن ثابت .
وكتب له عبد الله بن سعد بن أبي سرح ، ثم ارتد عن الإسلام ، ثم راجع الإسلام يوم فتح مكة .
وكتب له معاوية بن أبي سفيان ، وحنظلة الأسيدي .
أسماء خيل رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثني الحارث ، قال : حدثنا ابن سعد ، قال : حدثنا محمد بن عمر ، قال : حدثنا محمد بن يحيى بن سهل بن أبي حثمة ، عن أبيه ، قال : أول فرس ملكه رسول الله صلى الله عليه وسلم فرس اتباعه بالمدينة من رجل من بني فزارة بعشر أواق ، وكان اسمه عند الأعرابي الضرس ، فسماه رسول الله السكب ؛ وكان أول ما غزا عليه أحد ، ليس مع المسلمين يومئذ فرس غيره ، وفرس لأبي بردة بن نيار ، يقال له ملاوح .
حدثني الحارث ، قال : أخبرنا ابن سعد ، قال : أخبرنا محمد بن عمر ، قال : سألت محمد بن يحيى بن سهل بن أبي حثمة عن المرتجز ، فقال : هو الفرس الذي اشتراه من الأعرابي الذي شهد له فيه خزيمة بن ثابت ؛ وكان الأعرابي من بني مرة .
حدثني الحارث قال : حدثنا ابن سعد ، قال : أخبرنا محمد بن عمر ، قال : أخبرنا أبي بن عباس بن سهل ، عن أبيه ، عن جده ، قال : كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أفراس : لزاز ، والظرب ، واللخيف ؛ فأما لزاز فأهداه له المقوقس ، وأما اللخيف فأهداه له ربيعة بن أبي البراء ؛ فأثابه عليه فرائض من نعم بني كلاب ، وأما الظرب فأهداه له فروة ابن عمرو الجذامي . وأهدى تميم الدارى لرسول الله فرساً يقال له : الورد ، فأعطاه عمر ؛ فحمل عليه عمر في سبيل الله فوجده ينباع .
وقد زعم بعضهم أنه كان له مع ما ذكرت من الخيل فرس يقال له اليعسوب .
ذكر أسماء بغال رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثني الحارث ، قال : حدثنا ابن سعد ، قال : حدثنا محمد بن عمر ، قال : حدثنا موسى بن محمد بن إبراهيم ، عن أبيه ، قال : كانت دلدل بغلة النبي صلى الله عليه وسلم أول بغلة رئيت في الأسلام ، أهداها له المقوقس وأهدى له معها حماراً يقال له عفير ؛ فكانت البغلة قد بقيت حتى كان زمن معاوية .
حدثني الحارث ، قال : حدثنا ابن سعد ، قال : أخبرنا محمد بن عمر ، قال : أخبرنا معمر ، عن الزهري ، قال : دلدل أهداها له فروة بن عمرو الجذامي .
حدثني الحارث ، قال : حدثنا ابن سعد ، قال : أخبرنا محمد بن عمر ، قال : أخبرنا أبو بكر بن عبد الله بن أبي سبرة ، عن زامل بن عمرو ، قال : أهدى فروة بن عمرو إلى النبي صلى الله عليه وسلم بغلة يقال لها فضة ؛ فوهبها لأبي بكر ، وحماره يعفور ؛ فنفق منصرفه من حجة الوداع .
ذكر أسماء إبله صلى الله عليه وسلم حدثني الحارث ، قال : حدثنا ابن سعد ، قال : أخبرنا محمد بن عمر ، قال : حدثني موسى بن محمد بن إبراهيم التيمي ، عن أبيه ، قال : كانت القصواء من نعم بني الحريش ، ابتاعها أبو بكر وأخرى معها بثمانمائة درهم ، وأخذها منه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربعمائة ؛ فكانت عنده حتى نفقت ؛ وهي التي هاجر عليها ؛ وكانت حين قدم رسول الله المدينة رباعية ، وكان اسمها القصواء والجدعاء والعضباء .
حدثني الحارث ، قال : حدثنا ابن سعد ، قال : أخبرنا محمد بن عمر ، قال : حدثني ابن أبي ذئب ، عن يحيى بن يعلى ، عن ابن المسيب ، قال : كان اسمها العضباء ؛ وكان في طرف أذنها جدع .
ذكر أسماء لقاح رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثني الحارث ، قال : حدثنا ابن سعد ، قال أخبرنا محمد بن عمر ن قال : حدثني معاوية بن عبد الله بن عبيد الله بن أبي رافع ، قال : كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم لقاح ، وهي التي أغار عليها القوم بالغابة ، وهي عشرون لقحة ، وكانت التي يعيش بها أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم يراح إليه كل ليلة بقربتين عظيمتين من لبن فيها لقاح غزار : الحناء ، والسمراء ، والعريس ، والسعدية ، والبغوم ، واليسيرة ، والريا .

حدثني الحارث ، قال : حدثنا ابن سعد ، قال : أخبرنا محمد بن عمر ، قال : حدثني هارون بن محمد ، عن أبيه ، عن نبهان ؛ مولى أم سلمة ، قال : سمعت أم سلمة ، تقول : كان عيشنا مع رسول الله اللبن - أو قالت أكثر عيشنا - كانت لرسول الله لقاح بالغابة كان قد فرقها على نسائه ، فكانت فيها لقحة تدعى العريس ؛ وكنا منها فيما شئنا من اللبن ، وكانت لعائشة لقحة تدعى السمراء غزيرة ، لم تكن كلقحتى ، فقرب راعيهن اللقاح إلى مرعي بناحية الجوانية ، فكانت تروح على أبياتنا فنؤتى بهما فتحلبان ، فتوجد لقحته أغزر منهما بمثل لبنهما أو أكثر .
حدثني الحارث ، قال : حدثنا ابن سعد ، قال : أخبرنا محمد بن عمر ، قال : حدثنا عبد السلام بن جبير ، عن أبيه ، قال : كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم لقائح تكون بذي الجدر ، وتكون بالجماء ، فكان لبنها يؤوب إلينا ؛ لقحة تدعى مهرة ، أرسل بها سعد بن عبادة من نعم بني عقيل وكانت غزيرة ؛ وكانت الريا والشقراء ابتاعهما بسوق النبط من بني عامر ، وكانت بردة ، والسمراء ، والعريس ، واليسيرة ، والحناء ، يحلبن ويراح إليه بلبنهن كل ليلة ؛ وكان فيها غلام للنبي صلى الله عليه وسلم اسمه يسار ، فقتلوه .
ذكر أسماء منائح رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثني الحارث ، قال : حدثنا ابن سعد ، قال : أخبرنا محمد بن عمر ، قال : حدثني زكرياء بن يحيى ، عن إبراهيم بن عبد الله ، من ولد عتبة بن غزوان ، قال : كانت منائح رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعاً : عجوة ، وزمزم ، وسقيا ، وبركة ، وورسة ، وأطلال ، وأطراف .
حدثني الحارث ، قال : حدثنا ابن سعد ، قال : أخبرنا محمد ، قال : حدثني أبو إسحاق ، عن عباد بن منصور ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : كانت منائح رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع أعنز منائح ، يرعاهن ابن أم أيمن .
ذكر أسماء سيوف رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثني الحارث ، قال : حدثنا ابن سعد ، قال : أخبرنا محمد بن عمر ، قال : حدثنا أبو بكر بن عبد الله بن أبي سبرة ، عن مروان بن أبي سعيد بن المعلى ، قال : أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من سلاح بني قينقاع ثلاثة أسياف : سيفاً قلعياً ، وسيفاً يدعى بتاراً ، وسيفاً يدعى الحتف ؛ وكان عنده بعد ذلك المخذم ورسوب ، أصابهما من الفلس . وقيل إنه قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ومعه سيفان ، يقال لأحدهما : القضيب ، شهد به بدراً ، وسيفه ذو الفقار غنمه يوم بدر ، كان لمنبه بن الحجاج .
ذكر أسماء قسيه ورماحه صلى الله عليه وسلم حدثني الحارث ، قال : حدثنا ابن سعد ، قال : أخبرنا محمد بن عمر ، قال : حدثنا أبو بكر بن عبد الله بن أبي سبرة ، عن مروان بن أبي سعيد بن المعلي ، قال : أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من سلاح بني قينقاع ثلاثة أرماح وثلاث قسى : قوس الروحاء ، وقوس شوحط ؛ تدعى البيضاء ، وقوس صفراء تدعى الصفراء من نبع .
ذكر أسماء دروعه صلى الله عليه وسلم حدثني الحارث ، قال : حدثنا ابن سعد ، قال : أخبرنا محمد بن عمر ، قال : حدثنا أبو بكر بن عبد الله بن أبي سبرة ، عن مروان بن أبي سعيد بن المعلي ، قال : أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من سلاح بني قينقاع درعين ؛ درع يقال لها السعدية ، ودرع يقال لها فضة .
حدثني الحارث ، قال : حدثني ابن سعد ، قال : أخبرنا محمد بن عمر ، قال : حدثني موسى بن عمر ، عن جعفر بن محمود ، عن محمد بن مسلمة ، قال : رأيت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد درعين : درعه ذات الفضول ودرعه فضة ، ورأيت عليه يوم خيبر درعين : ذات الفضول والسعدية .
ذكر ترسه صلى الله عليه وسلم حدثني الحارث ، قال : حدثنا ابن سعد ، قال : أخبرنا عتاب بن زياد ، قال : أخبرنا عبد الله بن المبارك ، قال : أخبرنا عبد الرحمن بن يزيد ابن جابر ، قال : سمعت مكحولا يقول : كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم ترس فيه تمثال رأس كبش ، فكره رسول الله مكانه ، فأصبح يوماً وقد أذهبه الله عز وجل .
ذكر أسماء رسول الله صلى الله عليه وسلم

حدثني محمد بن المثنى ، قال : حدثنا ابن أبي عدي ، عن عبد الرحمن - يعني المسعودي - عن عمرو بن مرة ، عن أبي عبيدة ، عن أبي موسى ، قال : سمى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه أسماء ، منها ما حفظنا . قال : أنا محمد ، وأحمد ، والمقفي ، والحاشر ، ونبي التوبة والملحمة .
حدثني ابن المثنى ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : أخبرنا إبراهيم - يعني ابن سعد - عن الزهري ، قال : أخبرني محمد بن جبير بن مطعم ، عن أبيه ، قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن لي أسماء ؛ أنا محمد ، وأحمد ، والعاقب ، والماحي . قال الزهري : العاقب : الذي ليس بعده أحد والماحي : الذي يمحو الله به الكفر .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا يزيد بن هارون ، قال ، أخبرنا سفيان ابن حين ، قال : حدثني الزهري ، عن محمد بن بن جبير بن مطعم ، عن أبيه ؛ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنا محمد ، وأحمد ، والماحي ، والعاقب ، والحاشر ؛ الذي يحشر الناس على قدمي . قال يزيد : فسألت سفيان : ما العاقب ؟ قال : آخر الأنبياء .
ذكر صفة النبي صلى الله عليه وسلم حدثني ابن المنني ، قال : حدثني ابن أبي عدي ، عن المسعودي ، عن عثمان بن عبد الله بن هرمز ، قال : حدثني نافع بن جبير ، عن على أبن أبي طالب ،قال :كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس بالطويل ولا بالقصير ، ضخم الرأ س واللحية ، شثن الكفين والقدمين ، ضخم الكراديس مشربا " وجهه الحمرة ، طويل المسربة إذا مشى تكفأ تكفؤا كانمأ ينحط من صبب ،لم أر قبله ولا بعده مثله ؛ صلى الله عليه وسلم .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري ، قال : حدثنا مجمع بن يحيى ، قال : حدثنا عبد الله بن عمران ، عن رجل من الأنصار - لم يسمه - أنه سأل علي بن أبي طالب وهو في مسجد الكوفة محتب بحمالة سيفه ، فقال : انعت لي نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال له علي : كان رسول الله أبيض اللون مشرباً حمرة ، أدعج سبط الشعر ، دقيق المسربة ، سهل الخدين ، كث اللحية ، ذا وفرة ؛ كأن عنقه إبريق فضة ؛ كان له شعر من لبتة إلى سرته يجري كالقضيب ؛ لم يكن في إبطه ولا صدره شعر غيره ، شثن الكف والقدم ؛ إذا مشى كأنما ينحدر من صبب ؛ وإذا مشى كأنما ينقلع من صخر ، وإذا التفت التفت جميعاً ؛ ليس بالقصير ولا بالطويل ، ولا العاجز ولا اللئيم ؛ كأن العرق في وجهه اللؤلؤ ؛ ولريح عرقه أطيب من المسك ؛ لم أر قبله ولا بعده مثله صلى الله عليه وسلم .
حدثنا ابن المقدمي ، قال : حدثنا يحيى بن محمد بن قيس الذي يقال له أبو زكير ، قال : سمعت ربيعة بن أبي عبد الرحمن يذكر عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث على رأس أربعين ؛ فأقام بمكة عشراً وبالمدينة عشرآ ، وتوفي على رأس ستين ؛ ليس في رأسه ولحيته عشرون شعرة بيضاء ؛ ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالطويل البائن ، ولا القصير ؛ ولم يكن بالأبيض الأمهق ؛ ولا الآدم ، ولم يكن بالجعد القطط ولا السبط .
حدثني ابن المثنى قال : حدثنا يزيد بن هارون ، عن الجريري ، قال : كنت مع أبي الطفيل نطوف بالبيت ؛ فقال : ما بقي أحد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم غيري ؛ قال : وقلت : أرأيته ؟ قال : نعم ، قلت : كيف كان صفته ؟ قال : كان أبيض مليحاً مقصداً .
ذكر خاتم النبوة التي كانت به صلى الله عليه وسلم حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا الضحاك بن مخلد ، قال : حدثنا عزرة بن ثابت ، قال : حدثنا علباء ، قال : حدثنا أبو زيد ، قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا أبا زيد ، ادن مني امسح ظهري - وكشف عن ظهره - قال : فمسست ظهره ، ثم وضعت أصبعي على الخاتم فغمزتها ، قال : قلت : وما الخاتم ؟ قال : شعر مجمع كان على كتفيه .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا بشر بن الوضاح أبو الهيثم ، قال : حدثنا أبو عقيل الدورقي عن أبي نضرة ، قال : سألت أبا سعيد الخدري عن الخاتم التي كانت للنبي صلى الله عليه وسلم ، قال كانت بضعة ناشزة .
ذكر شجاعته وجوده صلى الله عليه وسلم

حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا حماد بن واقد ، عن ثابت ، عن أنس ، قال : كان نبي الله صلى الله عليه وسلم من أحسن الناس ، وأسمح الناس ، وأشجع الناس ؛ لقد كان فزع بالمدينة ، فانطلق أهل المدينة نحو الصوت ، فإذا هم قد تلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على فرس عري لأبي طلحة ، ما عليه سرج ، وعليه السيف . قال : وقد كان سبقهم إلى الصوت ، قال : فجعل يقول : يأيها الناس ، لم تراعوا ، لم تراعوا ! مرتين ، ثم قال : يا أبا طلحة ، وجدناه بحراً ؛ وقد كان الفرس يبطأ ، فما سبقه فرس بعد ذلك .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، قال حدثنا حماد بن زيد عن ثابت ، عن أنس ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشجع الناس ، وأجود الناس ؛ كان فزع بالمدينة فخرج الناس قبل الصوت ، فاستبرأ الفزع على فرس لأبي طلحة عري ، ما عليه سرج ، في عنقه السيف . قال : وجدناه بحراً - أو قال : وإنه لبحر .
ذكر صفة شعره صلى الله عليه وسلم وهل كان يخضب أم لا حدثني ابن المثنى ، قال : حدثنا معاذ بن معاذ ، قال : حدثنا حريز بن عثمان ، قال أبو موسى : قال معاذ : وما رأيت من رجل قط من أهل الشأم أفضله عليه ، قال : دخلنا على عبد بن بسر ، فقلت له من بين أصحابي : أرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ أشيخا كان ؟ قال : فوضع يده على عنفقته ، وقال : كان في عنفقته شعر أبيض .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا زهير ، عن أبي إسحاق ، عن أبي جحيفة ، قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنفقته بيضاء ، قيل : مثل من أنت يومئذ يا أبا جحيفة ؟ قال : أبري النبل وأريشها .
حدثني ابن المثنى ، قال : حدثنا خالد ابن الحارث ، قال : حدثنا حميد ، قال : سئل أنس : أخضب رسول الله ؟ قال : فقال أنس : لم يشتد برسول الله الشيب ، ولكن خضب أبو بكر بالحناء والكتم ، وخضب عمر بالحناء .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا ابن أبي عدي ، عن حميد ، قال : سئل أنس : هل خضب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : لم يرمن الشيب إلا نحو من تسع عشرة أو عشرين شعرة بيضاء في مقدم لحيته . قال : إنه لم يشن بالشيب ، فقيل لأنس : وشين هو ! قال : كلكم يكرهه ؛ ولكن خضب أبو بكر بالحناء والكتم ، وخضب عمر بالحناء .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا معاذ بن معاذ ، قال : حدثنا حميد ، عن أنس ، قال : لم يكن الشيب الذي بالنبي صلى الله عليه وسلم عشرين شعرة .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا حماد ابن سلمة ، عن سماك ، عن جابر بن سمرة ، قال : ما كان في رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشيب إلا شعرات في مفرق رأسه ؛ وكان إذا دهنه غطاهن.
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، قال : حدثنا سلام بن أبي مطيع ، عن عثمان بن عبد الله بن موهب ، قال : دخلت زوج النبي صلى الله عليه وسلم فأخرجت إلينا شعراً من شعر رسول الله مخضوباً بالحناء والكتم .
حدثنا ابن جابر بن الكردي الواسطي ، قال : حدثنا أبو سفيان ، قال : حدثنا الضحاك بن حمرة ، عن غيلان بن جامع ، عن إياد بن لقيط ، عن أبي رمثة ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخضب بالحناء والكتم؛ وكان يبلغ شعره كتفيه أو منكبيه - الشك من أبي سفيان .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، عن إبراهيم - يعني ابن نافع - عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، عن أم هانئ ، قالت : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وله ضفائر أربع .
ذكر الخبر عن بدء مرض رسول الله الذي توفي فيه وما كان منه قبيل ذلك لما نعيت إليه نفسه صلى الله عليه وسلم قال أبو جعفر : يقول الله عز وجل : " إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان تواباً " . قد مضى ذكرنا قبل ما كان من تعليم رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه - في حجته التي حجها المسماة حجة الوداع ، وحجة التمام ، وحجة البلاغ - مناسكهم ووصيته إياهم ، بما قد ذكرت قبل في خطبته التي خطبها بهم فيها .
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف من سفره ذلك بعد فراغه من حجه إلى منزله بالمدينة في بقية ذي الحجة ، فأقام بها ما بقي من ذي الحجة والمحرم والصقر .

ثم دخلت سنة إحدى عشرة ذكر الأحداث التي كانت فيها قال أبو جعفر : ثم ضرب في المحرم من سنة إحدى عشرة على الناس بعثاً إلى الشأم ، وأمر عليهم مولاه وابن مولاه أسامة بن زيد بن حارثة ، وأمره - فيما حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن عبد الرحمن بن الحارث بن عباس بن أبي ربيعة - أن يوطئ الخيل تخوم البلقاء والداروم من أرض فلسطين ، فتجهز الناس ، وأوعب مع أسامة المهاجرون الأولون .
فينا الناس على ذلك ابتدئ صلى الله عليه وسلم شكواه التي قبضه الله عز وجل فيها إلى ما أراد به رحمته وكرامته في ليال بقين من ضفر ، أو في أول شهر ربيع الأول .
حدثنا عبيد الله بن سعد الزهري ، قال : حدثني عمي يعقوب بن إبراهيم قال : أخبرنا سيف بن عمر ، قال : حدثنا عبد الله بن سعيد بن ثابت ابن الجزع الأنصاري ، عن عبيد بن حنين مولى النبي صلى الله عليه وسلم ، عن أبي مويهبة مولى رسول الله ، قال : رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بعد ما قضى حجة التمام ، فتحلل به السير ، وضرب على الناس بعثاً ، وأمر عليهم أسامة بن زيد وأمره أن يوطئ من آبل الزيت من مشارف الشأم الأرض بالأردن ، فقال المنافقون في ذلك ، ورد عليهم النبي صلى الله عليه وسلم : " إنه لخليق لها - أي حقيق بالإمارة - وإن قلتم فيه لقد قلتم في أبيه من قبل ؛ وإن كان لخليقاً لها " . فطارت الأخبار بتحلل السير بالنبي صلى الله عليه وسلم أن النبي قد اشتكى ، فوثب الأسود باليمن ومسيلمة باليمامة ؛ وجاء الخبر عنهما للنبي صلى الله عليه وسلم . ثم وثب طليحة في بلاد أسد بعد ما أفاق النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم اشتكى في المحرم وجعه الذي قبضه الله تعالى فيه .
حدثنا ابن سعد ، قال : حدثني عمي يعقوب بن إبراهيم قال : أخبرنا سيف ، قال : حدثنا هشام بن عروة ، عن أبيه ؛ قال : اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه الذي توفاه الله به في عقب المحرم .
وقال الواقدي : بدئ رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه لليلتين بقيتا من صفر .
حدثنا عبيد الله بن سعد ، قال : حدثني عمي ، قال : حدثنا سيف ابن عمر ، قال : حدثنا المستنير بن يزيد النخعي ، عن عروة بن غزية الدثيني ، عن الضحاك بن فيروز بن الديلمى ، عن أبيه ، قال : إن أول ردة كانت في الإسلام باليمن كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على يدي ذي الخمار عبهلة بن كعب - وهو الأسود - في عامة مذحج . خرج بعد الوداع ؛ كان الأسود كاهناً شعبا ذا ، وكان يريهم الأعاجيب ، ويسبى قلوب من سمع منطقه ، وكان أول ما خرج أن خرج من كهف خبان ؛ وهي كانت داره ، وبها ولد ونشأ ؛ فكاتبته مذحج ، وواعدته نجران ؛ فوثبوا بها وأخرجوا عمرو بن حزم وخالد بن سعد بن العاص وأنزلوه منزلهما ، ووثب قيس بن عبد يغوث على فروة بن مسيك وهو على مراد ، فأجلاه ونزل منزله ؛ فلم ينشب عبهلة بنجران أن سار إلى صنعاء فأخذها ، وكتب بذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم من فعله ونزوله صنعاء ؛ وكان أول خبر وقع به عنه من قبل فروة بن مسيك ، ولحق بفروة من تم على الإسلام من مذحج ، فكانوا باأحسية ، ولم يكاتبه الأسود ولم يرسل إليه ، لأنه لم يكن معه أحد يشاغبه ، وصفا له ملك اليمن .
حدثنا عبيد الله ، قال : أخبرني عمي يعقوب ، قال : حدثني سيف ، قال : حدثنا طلحة بن الأعلم ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم قد ضرب بعث أسامة فلم يستتب لوجع رسول الله ولخلع مسيلمة والأسود ؛ وقد أكثر المنافقون في تأمير أسامة ، حتى بلغه ؛ فخرج النبي صلى الله عليه وسلم على الناس عاصباً رأسه من الصداع لذلك الشأن وانتشاره ، لرؤيا رآها في بيت عائشة : فقال : إني رأيت البارحة - فيما يرى النائم - أن في عضدي سوارين من ذهب ؛ فكرهتهما فنفختهما ، فطارا ، فأولتهما هذين الكذابين - صاحب اليمامة وصاحب اليمن - وقد بلغني أن أقواماً يقولون في إمارة أسامة ! ولعمري لئن قالوا في إمارته ، لقد قالوا في إمارة أبيه من قبله ! وإن كان أبوه لخليقاً للإمارة ، وإنه لخليق لها ؛ فأنفذوا بعث أسامة . وقال : لعن الله الذين يتخذون قبور أنبيائهم مساجد !

فخرج أسامة فضرب بالجرف ؛ وأنشأ الناس في العسكر ، ونجم طليحة وتمهل الناس ، وثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يستتم الأمر ؛ ينظرون أولهم آخرهم ، حتى توفي الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم .
كتب إلى السرى بن يحيى ، يقول : حدثنا شعيب بن إبراهيم التميمي ، عن سيف بن عمر ، قال : حدثنا سعيد بن عبيد أبو يعقوب ، عن أبي ماجد الأسدي ، عن الحضرمي بن عامر الأسدي ، قال : سألته عن أمر طليحة ابن خويلد ؛ فقال : وقع بنا الخبر بوجع النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم بلغنا أن مسيلمة قد غلب على اليمامة ، وأن الأسود قد غلبب على اليمن ؛ فلم يلبث إلا قليلاً حتى ادعى طليحة النبوة ، وعسكر بسميراء ، واتبعه العوام ؛ واستكثف أمره ؛ وبعث حبال ابن أخيه إلى النبي صلى الله عليه وسلم يدعوه إلى الموادعة ، ويخبره خبره . وقال حبال : إن الذي يأتيه ذو النون ؛ فقال : لقد سمى ملكاً ، فقال حبال : أنا ابن خويلد ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : قتلك الله وحرمك الشهادة ! وحدثني عبيد الله بن سعد ، قال : أخبرنا عمي يعقوب ، قال : أخبرنا سيف ، قال : وحدثنا سعيد بن عبيد ، عن حريث بن المعلي : أن أول من كتب إلى النبي صلى الله عليه وسلم بخبر طليحة سنان بن أبي سنان ، وكان على بني مالك ؛ وكان قضاعي بن عمرو على بني الحارث .
حدثنا عبيد الله بن سعد ، قال : أخبرنا عمي ، قال : أخبرنا سيف ، قال : أخبرنا هشام بن عروة ، عن أبيه ، قال : حاربهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرسل ، قال : فأرسل إلى نفر من الأبناء رسولاً ، وكتب إليهم أن يحاولوه ، وأمرهم أن يستنجدوا رجالاً - قد سماهم - من بني تميم وقيس ؛ وأرسل إلى أولئك النفر أن ينجدوهم ، ففعلوا ذلك ؛ وانقطعت سبل المرتدة ، وطعنوا في نقصان وأغلقهم ، واشتغلوا في أنفسهم ، فأصيب الأسود في حياة رسول الله، وقبل وفاته بيوم أو بليلة ، ولظ طليحة ومسيلمة وأشباهم بالرسل ؛ ولم يشغله ما كان فيه من الوجع عن أمر الله عز وجل والذب عن دينه ، فبعث وبربن يحنس إلى فيروز وجشيش الديلمي وداذويه الإصطخري ؛ وبعث جرير بن عبد الله إلى ذي القلاع وذي ظلم ، وبعث الأفرع بن عبد الله الحمير إلى ذي زود وذي مران ، وبعث فرأت بن حيان اعجلي إلى قمامة بن أسال ، وبعث أياد بن حنظل التميمة ثم اعمري إلى قيس بن عاصم والبر قان بن بدر ، وبعث سلسل بن شرحبيل إلى سبرة العنبري ووكيع الدارمي وإلى عمرو بن المحجوب العامري ، وإلى عمرو بن الخفاجي من بني عامر ، وبعث ضرار بن الأزور الأسدي إلى عوف الزرقاني من بني الصيداء وسنان الأسدي ثم الغنمي ، وقضاعي الدئلي ، وبعث نعيم بن مسعود الأشجعي إلى ابن ذي اللحية وابن مشيمصة الجبيري .
وحدثت عن هشام بن محمد ، عن أبي مخنف ، قال : حدثنا الصقعب ابن زهير ، عن فقهاء أهل الحجاز ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجع وجعه الذي قبض في آخر صفر في أيام بقين منه ؛ وهو في بيت زينب بنت جحش .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة وعلي بن مجاهد ، عن محمد ابن إسحاق ، عن عبد الله بن عمر بن علي ، عن عبيد ين جبير ، مولي الحكم ابن أبي العاص ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، عن أبي مويهبة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم من جوف الليل ، فقال لي : يا أبا مويهبة ، إني قد أمرت أن أستغفر لأهل البقيع ؛ فانطلق معي ، فانطلقت معه ، فلما وقف بين أظهرهم ، قال : السلام عليكم أهل المقابر ؛ ليهن لكم ما أصبحتم فيه مما أصبح الناس فيه ! أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم ، يتبع آخرها أولها ، الآخرة شر من الأولى . ثم أقبل علي فقال : يا أبا مويهبة ، إني قد أوتيت مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها ، ثم الجنة ، خيرت بين ذلك وبين لقاء ربي والجنة ، فاخترت لقاء ربي والجنة . قال : قلت : يأبي أنت وأمي ! فخذ مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها ، ثم الجنة . فقال : لا والله يا أبا مويهبة ، لقد اخترت لقاء ربي والجنة ، ثم استغفر لأهل البقيع ، ثم انصرف فبدئ رسول الله صلى الله عليه وسلم بوجعه الذي قبض فيه .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال :حدثنا محمد ابن إسحاق .

وحدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا علي بن مجاهد ، قال : حدثنا ابن إسحاق ، عن يعقوب بن عتبة ، عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة ، عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ، قالت : رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من البقيع ، فوجدني وأنا أجد صداعاً في رأسي ، وأنا أقول : وارأساه ! قال : بل أنا والله يا عائشة وارأساه ! ثم قال : ما ضرك لو مت قبلي فقمت عليك وكفنتك ، وصليت عليك ، ودفنتك ! فقلت : والله لكأني بك لو فعلت ذلك رجعت إلى بيتي فأعرست ببعض نسائك ، قالت : فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ،وتتام به وجعه ؛ وهو يدور على نسائه حتى استعز به وهو في بيت ميمونة ، فدعا نساءه فاستأذنهن أن يمرض في بيتي ، فأذن له .
فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بين رجلين من أهله : أحدهما الفضل بن العباس ورجل آخر تخط قدماه الأرض ، عاصباً رأسه حتى دخل بيتي .
قال عبيد الله : فحدثت هذا الحديث عنها عبد الله بن عباس ، فقال : هل تدري من الرجل ؟ قلت : لا ، قال : علي بن أبي طالب . ولكنها كانت لا تقدر على أن تذكره بخير وهي تستطيع.
ثم غمر رسول الله صلى الله عليه وسلم واشتد به الوجع ؛ فقال : أهريقوا على من سبع قرب من آبار شتى ؛ حتى أخرج إلى الناس فأعهد إليهم ، قالت : فأقعدناه في مخضب لحفصة بنت عمر ، ثم صببنا عليه الماء حتى طفق يقول : حسبكم ، حسبكم ! .
فحدثني حميد بن الربيع الخراز ، قال : حدثنا معن بن عيسى ، قال : حدثنا الحارث بن عبد الملك بن عبد الله بن إياس الليثي ؛ ثم الأشجعي ، عن القاسم بن يزيد ، عن عبد الله بن قسيط ، عن أبيه ، عن عطاء ، عن ابن عباس ، عن أخيه الفضل بن عباس ، قال : جاءني رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فخرجت إليه فوجدته موعوكاً قد عصب رأسه ، فقال : خذ بيدي يا فضل ، فأخذت بيده ؛ حتى جلس على المنبر ، ثم قال : ناد في الناس . فاجتمعوا إليه ، فقال : أما بعد أيها الناس ، فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو ؛ وإنه قد دنا منى حقوق من بين أظهركم ، فمن كنت جلدت له ظهراً فهذا ظهري فليستقيد منه ، ومن كنت شتمت له عرضاً فهذا عرضي فليستقد منه ؛ ألا وإن الشحناء ليست من طبعي ولا من شأني ، ؛ ألا وإن أحبكم إلى من أخذ مني حقاً إن كان له ، أو حللني فلقيت الله وأنا أطيب النفس ؛ وقد أرى أن هذا غير مغن عني حتى أقوم فيكم مراراً .
قال الفضل : ثم نزل فصلى الظهر ، ثم رجع فجلس على المنبر ، فعاد لمقالته الأولى في الشحناء وغيرها ، فقام رجل فقال : يا رسول الله ؛ إن لي عندك ثلاثة دراهم ، قال : أعطه يا فضل ، فأمرته فجلس . ثم قال : أيها الناس ، من كان عنده شيء فليؤده ولا يقل فضوح الدنيا ، ألا وإن فضوح الدنيا أيسر من فضوح الآخرة . فقام رجل فقال : يا رسول الله عندي ثلاثة دراهم غللتها في سبيل الله ، قال : ولم غللتها ؟ قال : كنت إليها محتاجاً ، قال : خذها منه يا فضل . ثم قال : يأيها الناس ، من خشى من نفسه شيئاً فليقم أدع له . فقام رجل فقال : يا رسول الله ، إني لكذاب ، إني لفاحش ، وإني لنؤوم ؛ فقال : اللهم ارزقه صدقاً وإيماناً ، وأذهب عنه النوم إذا أراد . ثم قام رجل فقال : والله يا رسول ا لله ، إني لكذاب وإني لمنافق ، وما شيء - أو إن شيء - إلا قد جنيته . فقام عمر بن الخطاب ، فقال : فضحت نفسك أيها الرجل ! فقال النبي صلى الله عليه وسلم : يا بن الخطاب ، فضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة ، اللهم ارزقه صدقاً وإيماناً وصير أمره إلى خير .
فقال عمر كلمة . فضحك رسول الله ، ثم قال : عمر معي وأنا مع عمر ، والحق بعدي مع عمر حيث كان .

حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن الزهري ، عن أيوب بن بشير ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج عاصباً رأسه ؛ حتى جلس على المنبر ؛ ثم كان أول ما تكلم به أن صلى على أصحاب أحد ، واستغفر لهم ؛ وأكثر الصلاة عليهم ، ثم قال : إن عبداً من عباد الله خيره الله بين الدنيا وبين ما عنده ، فاختار ما عند الله . قال : ففهمها أبو بكر ، وعلم أن نفسه يريد ؛ فبكى ، وقال : بل نفديك بأنفسنا وأبنائنا ، فقال : على رسلك يا أبا بكر ! انظروا هذه الأبواب الشوارع اللافظة في المسجد فسدوها ؛ إلا ما كان من بيت أبي بكر ؛ فإني لا أعلم أحداً كان أفضل عندي في الصحبة يداً منه .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن عبد الرحمن بن عبد الله ، عن بعض آل أبي سعيد بن المعلي ، أن رسول الله قال يومئذ في كلامه هذا : فإني لو كنت متخذاً من العباد خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً ؛ ولكن صحبة وإخاء إيمان حتى يجمع الله بيننا عنده .
وحدثني أحمد بن عبد الرحمن بن وهب ، قال : حدثني عمي عبد الله ابن وهب ، قال : حدثنا مالك ، عن أبي النضر ، عن عبيد بن حنين ، عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً على المنبر ، فقال : إن عبداً خيره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء ، وبين ما عند الله ؛ فاختار ما عند الله ؛ فبكى أبو بكر ثم قال : فديناك بآبائنا
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://arabelalekat.yoo7.com
الشيخ عودة
الشيخ عودة
الشيخ عودة



عدد المساهمات : 1748
تاريخ التسجيل : 28/09/2008
العمر : 73

كتاب : تاريخ الرسل والملوك المؤلف : الطبري - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: كتاب : تاريخ الرسل والملوك المؤلف : الطبري   كتاب : تاريخ الرسل والملوك المؤلف : الطبري - صفحة 2 Emptyالسبت ديسمبر 14, 2013 10:44 am

قال أبو هريرة : قال عمر : والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر يتلوها فعقرت حتى وقعت إلى الأرض ؛ ما تحملني رجلاي ، وعرفت أن رسول الله قد مات .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن أبي معشر زياد بن كليب ، عن أبي أيوب ، عن إبراهيم ، قال : لما قبض النبي صلى الله عليه وسلم كان أبو بكر غائباً ، فجاء بعد ثلاث ، ولم يجترئ أحد أن يكشف عن وجهه ؛ حتى اربد بطنه ؛ فكشف عن وجهه ، وقبل بين عينيه ، ثم قال : بأبي أنت وأمي ! طبت حياً وطبت ميتاً ! ثم خرج أبو بكر ، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : من كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت ، ومن كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات . ثم قرأ : " وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين " . وكان عمر يقول : لم يمت ؛ وكان يتوعد الناس بالقتل في ذلك .
فاجتمع الأنصار في سقيفة بني ساعدة ليبايعوا سعد بن عبادة ، فبلغ ذلك أبا بكر ، فأتاهم ومعه عمر وأبو عبيدة بن الجراح ، فقال : ما هذا ؟ فقالوا : منا أمير ومنكم أمير ، فقال أبو بكر : منا الأمراء ومنكم الوزراء .
ثم قال أبو بكر : إني قد رضيت لكم أحد هذين الرجلين : عمر أو أبا عبيدة ، إن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه قوم فقالوا : أبعث معنا أميناً فقال : لأبعثن معكم أميناً حق أمين ؛ فبعث معهم أبا عبيدة بن الجراح ؛ وأنا أرضى لكم أبا عبيدة . فقام عمر ، فقال : أيكم تطيب نفسه أن يخلف قدمين قدمهما النبي صلى الله عليه وسلم ! فبايعه عمر وبايعه الناس ، فقالت الأنصار - أو بعض الأنصار ؛ لا نبايع إلا علياً .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن زياد بن كليب ، قال : أتى عمر بن الخطاب منزل علي وفيه طلحة والزبير ورجال من المهاجرين ، فقال : والله لأحرقن عليكم أو لنخرجن إلى البيعة . فخرج عليه الزبير مصلتاً بالسيف ، فعثر فسقط السيف من يده ، فوثبوا عليه فأخذوه .
حدثنا زكرياء بن يحيى الضرير ، قال : حدثنا أبو عوانة ، قال : حدثنا داود بن عبد الله الأودي ، عن حميد بن عبد الرحمن الحميري ، قال : توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر في طائفة من المدينة ، فجاء فكشف الثوب عن مجهه فقبله ، وقال : فداك أبي وأمي ! ما أطيبك حياً وميتاً ! مات محمد ورب الكعبة ! قال : ثم انطلق إلى المنبر ، فوجد عمر ابن الخطاب قائماً يوعد الناس ، ويقول : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حي لم يمت ؛ وإنه خارج إلى من أرجف به ، وقاطع أيديهم ، وضارب أعناقهم ، وصالبهم . قال : فنكلم أبو بكر ، قال : أنصت . قال : فأبى عمر أن ينصت ، فتكلم أبو بكر ، وقال : إن الله قال لنبيه صلى الله عليه وسلم : " إنك ميت وإنهم ميتون ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون " . " وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ... " ؛ حتى ختم الآية ، فمن كان يعبد محمداً فقد مات إلهه الذي كان يعبده ، ومن كان يعبد الله لا شريك له ، فإن الله حي لا يموت .
قال : فخلف رجال أدركناهم من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم : ما علمنا أن هاتين الآيتين نزلتا حتى قرأهما أبو بكر يومئذ ؛ إذ جاء رجل يسعى فقال : هاتيك الأنصار قد اجتمعت في ظلة بني ساعدة ، يبايعون رجلاً منهم ، يقولون : منا أمير ومن قريش أمير ، قال : فانطلق أبو بكر وعمر يتقاودان حتى أتياهم ؛ فأراد عمر أن يتكلم ، فنهاه أبو بكر ، فقال : لا أعصى خليفة النبي صلى الله عليه وسلم في يوم مرتين .

قال : فتكلم أبو بكر ، فلم يترك شيئاً نزل في الأنصار ، ولا ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم من شأنهم إلا وذكره . وقال : لقد علمتم أن رسول الله قال : لو سلك الناس وادياً وسلكت الأنصار وادياً سلكت وادي الأنصار ، ولقد علمت يا سعد أن رسول الله قال وأنت قاعد : قريش ولاة هذا الأمر ، فبر الناس تبع لبرهم ، وفاجرهم تبع لفاجرهم . قال : فقال سعد : صدقت ، فنحن الوزراء وأنتم الأمراء . قال : فقال عمر : ابسط يدك يا أبا بكر فلأبايعك ؛ فقال أبو بكر : بل أنت يا عمر ، فأنت أقوى لها منى . قال : وكان عمر أشد الرجلين ، قال : وكان كل واحد منهما يريد صاحبه يفتح يده يضرب عليها ، ففتح عمر يد أبي بكر وقال : إن لك قوتى مع قوتك . قال : فبايع الناس واستثبتوا للبيعة ، وتخلف على والزبير ، واخترط الزبير سيفه ، وقال : لا أغمده حتى يبايع على ، فبلغ ذلك أبا بكر وعمر ، فقال عمر : خذوا سيف الزبير ، فاضربوا به الحجر . قال : فانطلق إليهم عمر ، فجاء بهما تعباً ، وقال : لتبايعان وأنتما طائعان ، أو لتبايعان وأنتما كارهان ؟! فبايعا .
حديث السقيفة حدثني علي بن مسلم ، قال : حدثنا عباد بن عباد ، قال : حدثنا عباد بن راشد ، قال : حدثنا عن الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة ، عن ابن عباس ، قال : كنت أقرئ عبد الرحمن بن عوف القرآن ، قال : فحج عمر وحججنا معه ، قال : فإني لفي منزل بمنى إذ جاءني عبد الرحمن ابن عوف ، فقال : شهدت أمير المؤمنين اليوم ، وقام إليه رجل فقال : إني سمعت فلاناً يقول : لو قد مات أمير المؤمنين لقد بايعت فلاناً . قال : فقال أمير المؤمنين : إنى لقائم العشية في الناس فمحذرهم هؤلاء الرهط الذين يريدون أن يغصبوا الناس أمرهم . قال : قلت : يا أمير المؤمنين ؛ إن الموسم يجمع رعاع الناس وغوغاءهم ؛ وإنهم الذين يغلبون على مجلسك ، وإنى لخائف إن قلت اليوم مقالة ألا يعوها ولا يحفظوها ، ولا يضعوها على مواضعها ، وأن يطيروا بها كل مطير ؛ ولكن أمهل حتى تقدم المدينة ، نقدم دار الهجرة والسنة ، وتخلص بأصحاب رسول الله من المهاجرين والأنصار ، فتقول ما قلت متمكناً فيعوا مقالنك ، ويضعوها على مواضعها . فقال : والله لأقومن بها في أول مقام أقومه بالمدينة .

قال : فلما قدمنا المدينة ، وجاء يوم الجمعة هجرت للحديث الذي حدثنيه عبد الرحمن ؛ فوجدت سعيد بن زيد قد سبقنى بالتهجير ، فجلست إلى جنبه عند المنبر ، ركبتى إلى ركبته ؛ فلما زالت الشمس لم يلبث عمر أن خرج ، فقلت لسعيد وهو مقبل : ليقولن أمير المؤمنين اليوم على هذا المنبر مقالة لم تقل قبله . فغضب وقال : فأى مقالة يقول لم تقل قبله ! فلما جلس عمر على المنبر أذن المؤذنون ، فلما قضى المؤذن أذانه قام عمر ، فحمد الله وأثنى عليه ، وقال : أما بعد ، فإنى أريد أن أقول مقالة قد قدر أن أقولها ، من وعاها وعقلها وحفظها ، فليحدث بها حيث تنتهي به راحلته ، ومن لم يعها فإنى لا أحل لأحد أن يكذب علي . إن الله عز وجل بعث محمداً بالحق ، وأنزل عليه الكتاب ؛ وكان فيما أنزل عليه آية الرجم ، فرجم رسول الله ورجمنا بعده ، وإنى قد خشيت أن يطول بالناس زمان ، فيقول قائل : والله ما نجد الرجم في كتاب الله ، فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله ، وقد كنا نقول : لا ترغبوا عن آبائكم ؛ فإنه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم . ثم إنه بلغني أن قائلاً منكم يقول : لو قد مات أمير المؤمنين بايعت فلاناً ! فلا يغرن امرأً أن يقول : إن بيعة أبى بكر كانت فلتة ؛ فقد كانت كذلك ؛ غير أن الله وقى شرها ؛ وليس منكم من تقطع إليه الأعناق مثل أبى بكر ! وإنه كان من خبرنا حين توفى الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن علياً والزبير ومن معهما تخلفوا عنا في بيت فاطمة ، ونخلفت عنا الأبصار بأسرها ، واجتمع المهاجرون إلى أبي بكر ، فقلت لأبي بكر : انطلق بنا إلى إخواننا هؤلاء من الأنصار ، فانطلقنا نؤمهم ؛ فلقينا رجلان صالحان قد شهدا بدراً ، فقالا : أين تريدون يا معشر المهاجرين ؟ فقلنا : نريد إخواننا هؤلاء من الأنصار . قالا : فارجعوا فاقضوا أمركم بينكم . فقلنا : والله لنأتينهم ، قال : فأتيناهم وهم مجتمعون في سقيفة بني ساعدة . قال : وإذا بين أظهرهم رجل مزمل ، قال : قلت : من هذا ؟ قالوا : سعد بن عبادة ، فقلت : ما شأنه ؟ قالوا : وجع ، فقام رجل منهم ، فحمد الله ، وقال : أما بعد ، فنحن الأنصار وكتيبة الإسلام ، وأنتم يا معشر قريش رهط نبينا ؛ وقد دفت إلينا من قومكم دافة قال : فلما رأيتهم يريدون أن يختزلونا من أصلنا ، ويغصبونا الأمر . وقد كنت زورت في نفسي مقالة أقدمها بين يدي أبي بكر ، وقد كنت أداري منه بعض الحد ، وكان هو أوقر منى وأحلم ؛ فلما أردت أن أتكلم ، قال: على رسلك ! فكرهت أن أعصيه ؛ فقام فحمد الله وأثنى عليه ، فما ترك شيئاً كنت زورت في نفسي أن أتكلم به لو تكلمت ؛ إلا قد جاء به أو بأحسن منه . وقال : أما بعد يا معشر الأنصار ؛ فإنكم لا تذكرون منكم فضلاً إلا وأنتم له أهل ؛ وإن العرب لا تعرف هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش ؛ وهم أوسط العرب داراً ونسباً ، ولكن قد رضيت لكم أحد هذين الرجلين ، فبايعوا أيهما شئتم . فأخذ بيدى وبيد أبي عبيدة بن الجراح . وإني والله ما كرهت من كلامه شيئاً غير هذا الكلمة ؛ إن كنت لأقدم فتضرب عنقي فيما لا يقربني إلى إثم أحب إلى من أن أؤمر على قوم فيهم أبو بكر . فلما قضى أبو بكر كلامه ، قام منهم رجل ، فقال : أنا جذيلها المحكك ، وعذيقها المرجب ؛ منا أمير ومنكم أمير ؛ يا معشر قريش .
قال :فارتفعت الأصوات ، وكثر اللغط ، فلما أشفقت الختلاف ، قلت لأبي بكر : ابسط يدك أبايعك ، فبسط يده فبايعته وبايعه المهاجرون ، وبايعه الأنصار . ثم نزونا على سعد ، حتى قال قائلهم : قتلتم سعد بن عبادة ! فقلت : قتل الله سعداً ! وإنا والله ما وجدنا أمراً هو أقوى من مبايعة أبي بكر ؛ خشينا إن فارقنا القوم ولم تكن بيعة أن يحدثوا بعدنا بيعة ، فإما أن نتابعهم على ما نرضى ، أو نخالفهم فيكون فساد .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن الزهري ، عن عروة بن الزبير ، قال : إن أحد الرجلين اللذين لقوا من ؟ الأنصار حين ذهبوا إلى السقيفة ، عويم بن ساعدة والآخر معن بن عدى ؛ أخو بنى العجلان ، فأما عويم بن ساعدة فهو الذي بلغنا أنهقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم : من الذين قال الله لهم : " فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين " ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : نعم المرء منهم عويم بن ساعدة ! وأما معن فبلغنا أن الناس بكوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم حين توفاه الله ، وقالوا : والله لوددنا أنا متنا قبله ؛ إنا نخشى أن نفتتن بعده . فقال معن بن عدي : والله ما أحب أنى مت قبله حتى أصدقه ميتاً كما صدقته حياً . فقتل معن يوم اليمامة شهيداً في خلافة أبي بكر يوم مسيلمة الكذاب .
حدثنا عبيد الله بن سعد الزهري ، قال : أخبرنا عمي يعقوب بن إبراهيم قال : أخبرني سيف بن عمر ، عن الوليد بن عبد بن أبي ظبية الجلي ، قال : حدثنا الوليد بن جميع الزهري ، قال : قال عمرو بن حرث لسعيد ابن زيد : أشهدت وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : نعم ، فال : فمتى بويع أبو بكر ؟ قال : يوم مات رسول الله صلى الله عليه وسلم كرهوا أن يبقوا بعض يوم وليسوا في جماعة . قال : فخالف عليه أحد ؟ قال : لا إلا مرتد أو من قد كاد أن يرتد ، لولا أن الله عز وجل ينقذهم من الأنصار . قال : فهل قعد أحد من المهاجرين ؟ قال : لا ، تتابع المهاجرون على بيعته ، من غير أن يدعوهم .
حدثنا عبيد الله بن سعد ، قال : أخبرني عمي ، قال : أخبرني سيف ، عن عبد العزيز بن ساه ، عن حبيب بن أبي ثابت ، قال : كان على في بيته إذ أتى فقيل له : قد جلس أبو بكر للبيعة ، فخرج في قميص ما عليه إزار ولا رداء ، عجلاً ، كراهية أن يبطئ عنها ، حتى بايعه . ثم جلس إليه وبعث إلى ثوبه فأتاه فتجلله ، ولزم مجلسه .
حدثنا أبو صالح الضرار ، قال : حدثنا عبد الرزاق بن همام ، عن معمر ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة ، أن فاطمة والعباس أتيا أبا بكر يطلبان ميراثهما من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهما حينئذ يطلبان أرضه من فدك ، وسهمه من خيبر ، فقال لهما أبو بكر : أما آني سمعت رسول الله يقول : لا نورث ، ما تركنا فهو صدقة ، إنما يأكل آل محمد في هذا المال . وآني والله لا أدع أمراً رأيت رسول الله يصنعه إلا صنعته . قال : فهجرته فاطمة فلم تكلمه في ذلك حتى ماتت ، فدفنها على ليلاً ، ولم يؤذن بها أبا بكر . وكان لعلى وجه من الناس حياة فاطمة ، فلما توفيت فاطمة انصرفت وجوه الناس عن علي ؛ فمكثت فاطمة ستة أشهر بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم توفيت .
قال معمر : فقال رجل للزهري : أفل يبايعه على ستة أشهر ! قال : لا ؛ ولا أحد من بني هاشم ؛ حتى بايعه علي . فلما رأى على انصراف وجوه الناس عنه ضرع إلى مصالحة أبي بكر ، فأرسل إلى أبي بكر : أن ائتنا ولا يأتنا معك أحد ، وكره أن يأتيه عمر لما علم من شدة عمر ، فقال عمر : لآتتهم وحدك ، قال أبو بكر : ولله لآتينهم وحدي ، وما عسى أن يصنعوا بي ! قال : فانطلق أبو بكر ، فدخل على علي ، وقد جمع بنى هاشم عنده ، فقام علي فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ، ثم قال : أما بعد ، فإنه لم يمنعنا من أن نبايعك يا أبا بكر إنكار لفضيلتك ، ولا نفاس عليك بخير ساقه الله إليك ، ولكنا كنا نرى أن لنا في هذا الأمر حقاً ، فاستبددتم به علينا . ثم ذكر قرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم وحقهم . فلم يزل علي يقول ذلك حتى بكى أبو بكر .
فلما صمت علي تشهد أبو بكر . فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ، ثم قال : أما بعد ؛ فه الله لقرابة رسول الله أحب إلى أن أصل من قرابتي ؛ وإني والله ما ألوت في هذه الأموال التي كانت بيني وبينكم غير الخير ؛ ولكني سمعت رسول الله يقول : ((لا نورث ؛ ما تركنا فهو صدقة ، إنما يأكل آل محمد في هذا المال)) ؛ وإني أعوذ بالله لا أذكر أمراً صنعه محمد رسول الله إلا صنعته فيه إن شاء الله .

ثم قال علي : موعدك العشية للبيعة ، فلما صلى أبو بكر الظهر أقبل على الناس ، ثم عذر عليا ببعض ما اعتذر ، ثم قام علي فعظم من حق أبي بكر ، وذكر فضيلته وسابقته ، ثم مضى إلى أبي بكر فبايعه . قالت : فأقبل الناس إلى علي فقالوا : أصبت وأحسنت ، قالت : فكان الناس قريباً إلى علي حين قارب الحق والمعروف .
حدثني محمد بن عثمان بن صفوان الثقفي ، قال : حدثنا أبو قتيبة ، قال : حدثنا مالك - يعني ابن مغول - عن ابن الحر ، قال : قال أبو سفيان لعلي : ما بال هذا الأمر في أقل حي من قريش ! والله لئن شئت لأملأنها عليه خيلاً ورجالاً ! قال : فقال علي : يا أبا سفيان ، طالما عاديت الإسلام وأهله فلم تضره بذاك شيئاً ! إنا وجدنا أبا بكر لها أهلاً .
حدثني محمد بن عثمان التقفي ، قال : حدثنا أمية بن خالد ، قال : حدثنا حماد بن سلمة ، عن ثابت ، قال : لما استخلف أبو بكر قال أبو سفيان : ما لنا ولأبي فصيل ؛ إنما هي بنو عبد مناف ! قال : فقيل له : إنه قد ولى ابنك ، قال : وصلته رحم ! حدثت عن هشام ، قال : حدثني عوانة ، قال : لما اجتمع الناس على بيعة أبي بكر ، أقبل أبو سفيان ؛ وهو يقول : والله إني لأرى عجاجة لا يطفئها إلا دم ! يا آل عبد مناف فيم أبو بكر من أموركم ! أين المستضعفان ! أين الأذلان علي والعباس ! وقال : أبا حسن ! ابسط يدك حتى أبايعك ، فأبى علي عليه ، فجعل يتمثل بشعر المتلمس :
ولن يقيم على خسف يراد به ... إلا الأذلان عير الحي والوتد
هذا على الخسف معكوس برمته ... وذا يشج فلا يبكي له أحد
قال : فزجره علي ، وقال : إنك والله ما أردت بهذا إلا الفتنة ؛ وإنك والله طالما بغيت الإسلام شراً ! لا حاجة لنا في نصيحتك .
قال هشام بن محمد : وأخبرني أبو محمد القرشي ، قال : لما بويع أبو بكر ، قال أبو سفيان لعلي والعباس : أنتما الأذلان ! ثم أنشد يتمثل :
إن الهوان حمار الأهل يعرفه ... والحر ينكره والرسلة الأجد
ولا يقيم على ضيم يراد به ... إلا الأذلان عير الحي والوتد
هذا على الخسف معكوس برمته ... وذا يشج فلا يبكي له أحد
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن الزهري ، قال : حدثنا أنس بن مالك ، قال : لما بويع أبو بكر في السقيفة ؛ وكان الغد ، جلس أبو بكر على المنبر ، فقام عمر فتكلم قبل أبي بكر ؛ فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ، ثم قال : أيها الناس ؛ إني قد كنت قلت لكم بالأمس مقالة ما كانت إلا عن رأيي ؛ وما وجدتها في كتاب الله ؛ ولا كانت عهداً عهده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ ولكني قد كنت أرى أن رسول الله سيدبر أمرنا ؛ حتى يكون آخرنا ؛ وإن الله قد أبقى فيكم كتابه الذي هدى به رسول الله ؛ فإن اعتصمتم به هداكم الله لما كان هداه له ؛ وإن الله قد جمع أمركم على خيركم ؛ صاحب رسول الله ، وثاني اثنين إذ هما في الغار ؛ فقوموا فبايعوا . فبايع الناس أبا بكر بيعة العامة بعد بيعة السقيفة .
ثم تكلم أبو بكر ، فحمد الله وأثنى عليه بالذي هو أهله ، ثم قال : أما بعد أيها الناس ؛ فإني قد وليت عليكم ولست بخيركم ؛ فإن أحسنت فأعينوني ؛ وإن أسأت فقوموني . الصدق أمانة ، والكذب خيانة ، والضعيف فيكم قوى عندي حتى أريح عليه حقه إن شاء الله ، والقوى منكم الضعيف عندي حتى آخذ الحق منه إن شاء الله . لا يدع أحد منكم الجهاد في سبيل الله ؛ فإنه لا يدعه قوم إلا ضربهم الله بالذل ، ولا تشيع الفاحشة في قوم إلا عمهم الله بالبلاء . أطيعوني ما أطعت الله ورسوله ؛ فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم . قوموا إلى صلاتكم رحمكم الله !

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد إسحاق ، عن حسين بن عبد الله ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : والله إني لأمشي مع عمر في خلافته ؛ وهو عامد إلى حاجة له ، وفي يده الدرة ، وما معه غيري . قال وهو يحدث نفسه ، ويضرب وحشي قدمه بدرته ، قال إذ التفت إلى فقال : يا بن عباس ، هل تدري ما حملني على مقالتي هذه التي قلت حين توفي الله رسوله ؟ قال : قلت : لا أدري يا أمير المؤمنين ؛ أنت أعلم ، قال : والله إن حملني على ذلك إلا أني كنت أقرأ هذه الآية : " وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً " ؛ فو الله إني كنت لأظن أن رسول الله سيبقى في أمته حتى يشهد عليها بآخر أعمالها ؛ فإنه للذي حملني على أن قلت ما قلت ذكر جهاز رسول اله صلى الله عليه وسلم ودفنه قال أبو جعفر : فلما بويع أبو بكر أقبل الناس على جهاز رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال بعضهم : كان ذلك من فعلهم يوم الثلاثاء ؛ وذلك الغد من وفاته صلى الله عليه وسلم .
وقال بعضهم : إنما دفن بعد وفاته بثلاثة أيام ، وقد مضى ذكر بعض قائلي ذلك .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن عبد الله بن أبي بكر وكثير بن عبد الله وغيرهما من أصحابه ، عمن يحدثه ؛ عن عبد الله بن عباس ، أن علي بن أبي طالب والعباس بن عبد المطلب والفضل ابن العباس وقثم بن العباس وأسامة بن زيد وشقران مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم هم الذين ولوا غسله ، وإن أوس بن خولي أحد بني عوف ابن الخزرج ؛ قال لعلي بن أبي طالب : أنشدك الله يا علي ؛ وحظنا من رسول الله ! وكان أوس من أصحاب بدر ؛ وقال : ادخل ؛ فدخل فحضر غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فأسنده علي بن أبي طالب إلى صدره ، وكان العباس والفضل وقثم هم الذين يقبلونه معه ؛ وكان أسامة بن زيد وشقران مولياه هما اللذان يصبان الماء ، وعلي يغسله قد أسنده إلى صدره ، وعليه قميصه يدلكه من ورائه ، لا يفضى بيده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلي يقول : بأبي أنت وأمي ! ما أطيبك حياً وميتاً ! ولم ير من رسول الله شيء مما يرى من الميت .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن يحيى ابن عباد ، عن أبيه عباد ، عن عائشة ، قالت : لما أرادوا أن يغسلوا النبي صلى الله عليه وسلم اختلفوا فيه ، فقالوا : والله ما ندري أنجرد رسول الله من ثيابه كما نجرد موتانا ، أو نغسله وعليه ثيابه ! فلما اختلفوا ألقي عليهم السنة حتى ما منهم رجل إلا وذقنه في صدره ، ثم كلمهم متكلم من ناحية البيت لا يدري من هو : أن اغسلوا النبي وعليه ثيابه ؛ قالت : فقاموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فغسلوه وعليه قميصه يصبون عليه الماء فوق القميص ، ويدلكونه والقميص دون أيديهم .
قال : فكانت عائشة تقول : لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما غسله إلا نساؤه .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن جعفر ابن محمد بن علي بن حسين ، عن أبيه ، عن جده علي بن حسين . قال ابن إسحاق : وحدثني الزهري ، عن علي بن حسين ، قال : فلما فرغ من غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم كفن في ثلاثة أثواب : ثوبين صحاريين وبرد حبرة ؛ أدرج فيها إدراجا .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن حسين بن عبد الله ، عن عكرمة مولى ابن عباس ، عن عبد الله بن عباس ، قال : لما أرادوا أن يحفروا لرسول الله صلى الله عليه وسلم - وكان أبو عبيدة بن الجراح يضرح كحفر أهل مكة ، وكان أبو طلحة زيد ابن سهل هو الذي يحفر لأهل المدينة ، وكان يلحد - فدعا العباس رجلين ، فقال لأحدهما : اذهب إلى أبي عبيدة ، وللآخر : اذهب إلى أبي طلحة ؛ اللهم خر لرسولك ؛ قال : فوجد صاحب أبي طلحة أبا طلحة فجاء به فلحد لرسول الله صلى الله عليه وسلم . فلما فرغ من جهاز رسول الله يوم الثلاثاء وضع على سريره في بيته ؛ وقد كان المسلمون اختلفوا في دفنه ؛ فقال قائل : ندفنه في مسجده ، وقال قائل : يدفن مع أصحابه ؛ فقال أبو بكر : إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ((ما قبض نبي إلا يدفن حيث قبض)) ؛ فرفع فراش رسول الله الذي توفي عليه ؛ فحفر له تحته ؛ ودخل الناس على رسول الله يصلون عليه أرسالا ؛ حتى إذا فرغ الرجال أدخل النساء ، حتى إذا فرغ النساء أدخل الصبيان ؛ ثم أدخل العبيد ؛ ولم يؤم الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد ، ثم دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم من وسط الليل ليلة الأربعاء .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن فاطمة بنت محمد بن عمارة ، امرأة عبد الله - يعني ابن أبي بكر - عن عمرة بنت عبد الرحمن بن سعد بن زرارة ، عن عائشة أم المؤمنين ، قالت : ما علمنا بدفن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى سمعنا صوت المساحي من جوف الليل ليلة الأربعاء .
قال ابن إسحاق : وكان الذي نزل قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب والفضل بن العباس وقثم بن العباس وشقران مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ وقد قال أوس بن خولي : أنشدك الله يا علي وحظنا من رسول الله ! فقال له : انزل فنزل مع القوم ؛ وقد كان شقران مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حفرته ، وبني عليه ؛ قد أخذ قطيفة كان رسول الله يلبسها ويفترشها ؛ فقذفها في القبر ، وقال : والله لا يلبسها أحد بعدك أبداً . قال : فدفنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قال ابن إسحاق : وكان المغيرة بن شعبة يدعى أنه أحدث الناس عهداً برسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويقول : أخذت خاتمي فألقيته في القبر ، وقلت : إن خاتمي قد سقط ، وإنما طرحته عمداً لأمس رسول الله ، فأكون آخر الناس به عهداً .
حدثني ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن أبيه إسحاق بن يسار ، عن مقسم أبي القاسم ، مولى عبد الله بن الحارث ابن نوفل ، عن مولاه عبد الله بن الحارث ، قال : اعتمرت مع علي بن أبي طالب في زمان عمر - أو زمان عثمان - فنزل على أخته أم هانئ بنت أبي طالب ، فلما فرغ من عمرته رجع وسكبت له غسلا فاغتسل ؛ فلما فرغ من غسله دخل عليه نفر من أهل العراق ؛ فقالوا ، يا أبا الحسن ؛ جئنا نسألك عن أمر نحب أن تخبرنا به ! فقال : أظن المغيرة يحدثكم أنه كان أحدث الناس عهداً برسول الله صلى الله عليه وسلم ! قالوا : أجل ، عن ذا جئنا نسألك ! قال : كذب ؛ كان أحدث الناس عهداً برسول الله قثم بن العباس .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن صالح ابن كيسان ، عن الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله ، عن عائشة ، قالت : كان على رسول الله صلى الله عليه وسلم خميصة سوداء حين اشند به وجعه ، قالت : فهو يضعها مرة على وجهه ، ومرة يكشفها عنه ، ويقول : قاتل الله قوماً اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ! يحذر ذلك على أمته .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن صالح ابن كيسان ، عن الزهري ، عن عبيد اله بن عبد الله بن عتبة ، عن عائشة ، قالت : كان آخر ما عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : لا يترك بجزيرة العرب دينان .
قالت : وتوفى رسول الله صلى الله عليه وسلم لاثنتى عشرة ليلة مضت من شهر ربيع الأول ، في اليوم الذي قدم فيه المدينة مهاجراً فاستكمل في هجرته عشر سنين كوامل .
واختلف في مبلغ سنه يوم توفي صلى الله عليه وسلم ، فقال بعضهم : كان له يومئذ ثلاث وستون سنة .
ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا حجاج بن المنهال ، قال : حدثنا حماد - يعني ابن سلمة - عن أبي جمرة ، عن ابن عباس ، قال : أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ثلاث عشرة سنة يوحى إليه ، وبالمدينة عشراً ؛ ومات وهو ابن ثلاث وستين سنة .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا حجاج بن المنهال ، قال : حدثنا حماد ، عن أبي جمرة ، عن أبيه ، قال : عاش رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثاً وستين سنة .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا عبد الوهاب ، قال : حدثنا يحيى بن سعيد ، قال : سمعت سعيد بن المسيب ، يقول : أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثلاث وأربعين سنة ، وأقام بمكة عشراً ، وبالمدينة عشراً ، وتوفى وهو ابن ثلاث وستين .
حدثنا محمد بن خلف العسقلاني ، قال : حدثنا آدم ، قال : حدثنا حماد بن سلمة ، قال : حدثنا أبو جمرة الضبعي ، عن ابن عباس ، قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم لأربعين سنة ، وأقام بمكة ثلاث عشرة يوحى إليه ، وبالمدينة عشراً ، ومات وهو ابن ثلاث وستين سنة .
حدثني أحمد بن عبد الرحمن بن وهب ، قال : حدثنى عمي عبد الله ، قال : حدثنا يونس ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة ، قالت : توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثلاث وستين .
وقال آخرون : كان له يومئذ خمس وستون .
ذكر من قال ذلك : حدثني زياد بن أيوب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا علي بن زيد ، عن يوسف بن مهران ، عن ابن عباس ، قال : قبض النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن خمس وستين .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا معاذ بن هشام ، قال : حدثني أبي ، عن قتادة ، عن الحسن ، عن دغفل - يعني ابن حنظلة - أن النبي صلى الله عليه وسلم توفي وهو ابن خمس وستين سنة .
وقال آخرون : بل كان له يومئذ ستون سنة .
ذكر من قال ذلك : حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا حجاج ، قال : حدثنا حماد ، قال : حدثنا عمرو بن دينار ، عن عروة بن الزبير ، قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن أربعين ، ومات وهو ابن ستين .
حدثنا الحسين بن نصر ، قال : أخبرنا عبيد الله ، قال : أخبرنا شيبان ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن أبي سلمة ، قال : حدثتني عائشة وابن عباس ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لبث بمكة عشر سنين ينزل عليه القرآن ، وبالمدينة عشراً .
ذكر الخبر عن اليوم والشهر اللذين توفى فيهما رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أبو جعفر : حدثنا عبد الرحمن بن الوليد الجرجاني ، قال : حدثنا أحمد بن أبي طيبة ؛ قال : حدثنا عبيد الله ، عن نافع ، عن ابن عمر ، أن النبي صلى الله عليه وسلم استعمل أبا بكر على الحج سنة تسع ، فأراهم مناسكهم ، فلما كان العام المقبل حج رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع سنة عشر ؛ وصدر إلى المدينة ، وقبض في ربيع الأول .
حدثني إبراهيم بن سعيد الجوهري ، قال : حدثنا موسى بن داود ، عن ابن لهيعة ، عن خالد بن أبي عمران ، عن حنش الصنعاني ، عن ابن عباس ، قال : ولد النبي صلى الله عليه وسلم يوم الأثنين ، واستنئ يوم الاثنين ، ورفع الحجر يوم الاثنين ، وخرج مهاجراً من مكة إلى المدينة يوم الاثنين ، وقدم المدينة يوم الاثنين ، وقبض يوم الاثنين .
حدثني أحمد بن عثمان بن حكيم ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن شريك ، قال : حدثني أبي ، عن ابن إسحاق ، عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد ابن عمرو بن حزم ، عن أبيه ، قال : توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر ربيع الأول في اثنتى عشرة ليلة مضت من شهر ربيع الأول يوم الاثنين ودفن ليلة الأربعاء .
حدثني أحمد بن عثمان ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا أبي ، قال : حدثنا محمد بن إسحاق ، عن عبد الله بن أبي بكر ، أنه دخل عليه فقال لامرأته فاطمة : حدثي محمداً ما سمعت من عمرة بنت عبد الرحمن . فقالت : سمعت عمرة تقول : سمعت عائشة تقول : دفن نبي الله صلى الله عليه وسلم ليلة الأربعاء ؛ وما علمنا به حتى سمعنا صوت المساحي .
ذكر الخبر عما جرى بين المهاجرين والأنصار في أمر الإمارة في سقيفه بني ساعدة

حدثنا هشام بن محمد ، عن أبي محنف ، قال : حدثنى عبد الله ابن عبد الرحمن بن أبي عمرة الأنصاري ، أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قبض اجتمعت الأنصار في سقيفة بني ساعدة ، فقالوا : نولي هذا الأمر بعد محمد عليه السلام سعد بن عبادة ، وأخرجوا سعداً إليهم وهو مريض ؛ فلما اجتمعوا قال لابنه أو بعض بني عمه : إني لا أقدر لشكواى أن أسمع القوم كلهم كلامي ؛ ولكن تلق مني قولي فأسمعهموه ؛ فكان يتكلم ويحفظ الرجل قوله ، فيرفع صوته فيسمع أصحابه ، فقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه : يا معشر الأنصار ؛ لكم سابقة في الدين وفضيلة في الإسلام ليست لقبيلة من العرب ؛ إن محمداً عليه السلام لبث بضع عشرة سنة في قومه يدعوهم إلى عبادة الرحمن وخلع الأنداد والأوثان ؛ فما آمن به من قومه إلا رجال قليل ؛ وكان ما كانوا يقدرون على أن يمنعوا رسول الله ؛ ولا أن يعزوا دينه ، ولا أن يدفعوا عن أنفسهم ضيماً عموا به ؛ حتى إذا أراد بكم الفضيلة ، ساق إليكم الكرامة وخصكم بالنعمة ، فرزقكم الله الإيمان به وبرسوله ، والمنع له ولأصحابه ، والإعزاز له ولدينه ؛ والجهاد لأعدائه ؛ فكنتم أشد الناس على عدوه منكم ، وأثقله على عدوه من غيركم ؛ حتى استقامت العرب لأمر الله طوعاً وكرهاً ؛ وأعطى البعيد المقادة صاغراً داخراً ؛ حتى أثخن الله عز وجل لرسوله بكم الأرض ، ودانت بأسيافكم له العرب ؛ وتوفاه الله وهو عنكم راض ؛ وبكم قرير عين . استبدوا بهذا الأمر فإنه لكم دون الناس .
فأجابوه بأجمعهم : أن قد وفقت في الرأي وأصبت في القول ، ولن نعدو ما رأيت ، ونوليك هذا الأمر ، فإنك فينا مقنع ولصالح المؤمنين رضا . ثم إنهم ترادوا الكلام بينهم ، فقالوا : فإن أبت مهاجرة قريش ، فقالوا : نحن المهاجرون وصحابة رسول الله الأولون ؛ ونحن عشيرته وأولياؤه ؛ فعلام تنازعوننا هذا الأمر بعده ! فقالت طائفة منهم : فإنا نقول إذاً : منا أمير ومنكم أمير ؛ ولن نرضى بدون هذا الأمر أبداً . فقال سعد بن عبادة حين سمعها : هذا أول الوهن ! .
وأتى عمر الخبر ، فأقبل إلى منزل النبي صلى الله عليه وسلم ، فأرسل إلى أبي بكر وأبو بكر في الدار وعلي بن أبي طالب عليه السلام دائب في جهاز رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فأرسل إلى أبي بكر أن اخرج إلى ، فأرسل إليه : إني مشتغل ؛ فأرسل إليه أنه قد حدث أمر لا بد لك من حضوره ؛ فخرج إليه ، فقال : أما علمت أن الأنصار قد اجتمعت في سقيفة بني ساعدة ، يريدون أن يولوا هذا الأمر سعد بن عبادة ؛ وأحسنهم مفالة من يقول : منا أمير ومن قريش أمير ! فمضيا مسرعين نحوهم ؛ فلقيا أبا عبيدة بن الجراح ؛ فتماشوا إليهم ثلاثتهم ، فلقيهم عاصم بن عدي وعويم بن ساعدة ، فقالا لهم : ارجعوا فإنه لا يكون ما تريدون ، فقالوا : لا نفعل ، فجاءوا وهم مجتمعون . فقال عمر بن الخطاب : أتيناهم - وقد كنت زورت كلاماً أردت أن أقوم به فيهم - فلما أن دفعت إليهم ذهبت لأبتدئ المنطق ، فقال لي أبو بكر : رويداً حتى أتكلم ثم انطق بعد بما أحببت . فنطق ، فقال عمر : فما شيء كنت أردت أن أقوله إلا وقد أتى به أو زاد عليه .

فقال عبد الله بن عبد الرحمن : فبدأ أبو بكر ، فحمد الله وأثنى عليه ؛ ثم قال : إن الله بعث محمداً رسولاً إلى خلقه ، وشهيداً على أمته ، ليعبدوا الله ويوحدوه وهم يعبدون من دونه آلهة شتى ؛ ويزعمون أنها لهم عنده شافعة ، ولهم نافعة ؛ وإنما هي من حجر منحوت ، وخشب منجور ، ثم قرأ : " ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله " ، وقالوا : " ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى " ؛ فعظم على العرب أن يتركوا دين آبائهم ، فخص الله المهاجرين الأولين من قومه بتصديقه ، والإيمان به ، والمؤاساة له ، والصبر معه على شدة أذى قومهم لهم ؛ وتكذيبهم إياهم ؛ وكل الناس لهم مخالف ، زار عليهم ، فلم يستوحشوا لقلة عددهم وشنف الناس لهم ؛ وإجماع قومهم عليهم ؛ فهم أول من عبد الله في الأرض وآمن بالله وبالرسول ؛ وهم أولياء وعشيرته ، وأحق الناس بهذا الأمر من بعده ؛ ولا ينازعهم ذلك إلا ظالم ، وأنتم يا معشر الأنصار ، من لا ينكر فضلهم في الدين ، ولاسابقتهم العظيمة في الإسلام ، رضيكم الله أنصاراً لدينه ورسوله ، وجعل إليكم هجرته ، وفيكم جلة أزواجه وأصحابه ؛ فليس بعد المهاجرين الأولين عندنا أحد بمنزلتكم ؛ فنحن الأمراء وأنتم الوزراء ، لا تفتاتون بمشورة ، ولا نقضى دونكم الأمور .
قال : فقام الحباب بن المنذر بن الجموح ، فقال : يا معشر الأنصار ، املكوا عليكم أمركم ؛ فإن الناس في فيئكم وفي ظلكم ، ولن يجترئ مجترئ على خلافكم ؛ ولن يصدر الناس إلا عن رأيكم ، أنتم أهل العز والثروة ، وأولو العدد والمنعة والتجربة ، ذوو البأس والنجدة ؛ وإنما ينظر الناس إلى ما تصنعون ؛ ولا تختلفوا فيفسد عليكم رأيكم ؛ وينتقض عليكم أمركم ؛ فإن أبي هؤلاء إلا ما سمعتم ؛ فمنا أمير ومنهم أمير .
فقال عمر : هيهات لا يجتمع اثنان في قرن ! والله لا ترضى العرب أن يؤمروكم ونبيها من غيركم ؛ ولكن العرب لا تمتنع أن تولى أمرها من كانت النبوة فيهم وولى أمورهم منهم ؛ ولنا بذلك على من أبى من العرب الحجة الظاهرة والسلطان المبين ؛ من ذا ينازعنا سلطان محمد وإمارته ، ونحن أولياؤه وعشيرته إلا مدل بباطل ، أو متجانف إثم ، ومتورط في هلكة ! فقام الحباب بن المنذر فقال : يا معشر الأنصار ، املكوا على أيديكم ، ولا تسمعوا مقالة هذا وأصحابه فيذهبوا بنصيبكم من هذا الأمر ؛ فإن أبوا عليكم ما سألتموه ، فاجلوهم عن هذه البلاد ، وتولوا عليهم هذه الأمور ؛ فأنتم والله أحق بهذا الأمر منهم ؛ فإنه بأسيافكم دان لهذا الذين من دان ممن لم يكن يدين ؛ أنا جذيلها المحكك ، وعذيقها المرجب ! أما والله لئن شئتم لنعيدنها جذعة ؛ فقال عمر : إذاً يقتلك الله ! قال : بل إياك يقتل ! فقال أبو عبيدة : يا معشر الأنصار ؛ إنكم أول من نصر وآزر ؛ فلا تكونوا أول من بدل وغير .
فقام بشير بن سعد أبو النعمان بن بشير فقال : يا معشر الأنصار ؛ إنا والله لئن كنا أولى فضيلة في جهاد المشركين ، وسابقة في هذا الدين ؛ ما أردنا به إلا رضا ربنا وطاعة نبينا ؛ والكدح لأنفسنا ؛ فما ينبغي لنا أن نستطيل على الناس بذلك ، ولا نبتغي به من الدنيا عرضا ؛ فإن الله ولى المنة علينا بذلك ؛ ألا إن محمداً صلى الله عليه وسلم من قريش ، وقومه أحق به وأولى . وايم الله لا يراني الله أنازعهم هذا الأمر أبداً ، فاتقوا الله ولا تخالفوهم ولا تنازعوهم ! فقال أبو بكر : هذا عمر ، وهذا أبو عبيدة ، فأيهما شئتم فبايعوا . فقالا : لا والله لا نتولى هذا الأمر عليك ؛ فإنك أفضل المهاجرين وثاني اثنين إذ هما في الغار ، وخليفة رسول الله على الصلاة ؛ والصلاة أفضل دين المسلمين ؛ فمن ذا ينبغي له أن يتقدمك أو يتولى هذا الأمر عليك ! ابسط يدك نبايعك .
فلما ذهبا ليبايعاه ، سبقهما إليه بشير بن سعد ، فبايعه ، فناداه الحباب ابن المنذر : يا بشير بن سعد : عقتك عقاق ؛ ما أحوجك إلى ما صنعت ، أنفست على ابن عمك الإمارة ! فقال : لا والله ؛ ولكني كرهت أن أنازع قوماً حقاً جعله الله لهم .

ولما رأت الأوس ما صنع بشير بن سعد ، وما تدعو إليه قريش ، وما تطلب الخزرج من تأمير سعد بن عبادة ، قال بعضهم لبعض ، وفيهم أسيد ابن حضير - وكان أحد النقباء : والله لئن وليتها الخزرج عليكم مرة لا زالت لهم عليكم بذلك الفضيلة ؛ ولا جعلوا لكم معهم فيها نصيباً أبداً ، فقوموا فبايعوا أبا بكر . فقاموا إليه فبايعوه ، فانكسر على سعد بن عبادة وعلى الخزرج ما كانوا أجمعوا له من أمرهم .
قال هشام : قال أبو مخنف : فحدثنى أبو بكر بن محمد الخزاعي ، أن أسلم أقبلت بجماعتها حتى تضايق بهم السكك ، فبايعوا أبا بكر ؛ فكان عمر يقول : ما هو إلا أن رأيت أسلم ، فأيقنت بالنصر .
قال هشام ، عن أبي مخنف : قال عبد الله بن عبد الرحمن : فأقبل الناس من كل جانب يبايعون أبا بكر ، وكادوا يطئون سعد بن عبادة ، فقال ناس من أصحاب سعد : اتقوا سعداً لا تطئوه ، فقال عمر : اقتلوه قتله الله ! ثم قام على رأسه ، فقال : لقد هممت أن أطأك حتى تنذر عضدك ، فأخذ سعد بليحة عمر ، فقال : والله لو حصصت منه شعره ما رجعت وفي فيك واضحة ؛ فقال أبو بكر : مهلاً يا عمر ! الرفق ها هنا أبلغ . فأعرض عنه عمر . وقال سعد : أما والله لو أن بي قوة ما ، أقوى على النهوض ، لسمعت منى في أقطارها وسككها زئيراً يجحرك وأصحابك ؛ أما والله إذاً لألحقنك بقوم كنت فيهم تابعاً غير متبوع ! احملوني من هذا المكان ، فحملوه فأدخلوه في داره ، وترك أياماً ثم بعث إليه أن أقبل فبايع فقد بايع الناس وبايع قومك ؛ فقال : أما والله حتى أرميكم بما في كنانتي من نبلي ، وأخضب سنان رمحي ، وأضربكم بسيفي ما ملكته يدي ، وأقاتلكم بأهل بيتي ومن أطاعني من قومي ؛ فلا أفعل ، وايم الله لو أن الجن اجتمعت لكم مع الإنس ما بايعتكم ، حتى أعرض على ربي ، وأعلم ما حسابي .
فلما أتى أبو بكر بذلك قال له عمر : لا تدعه حتى يبايع . فقال له بشير بن سعد : إنه قد لج وأبى ؛ وليس بمبايعكم حتى يقتل ، وليس بمقتول حتى يقتل معه ولده وأهل بيته وطائفة من عشيرته ؛ فاتركوه فليس تركه بضاركم ؛ إنما هو رجل واحد . فتركوه وقبلوا مشورة بشير بن سعد واستنصحوه لما بدا لهم منه ؛ فكان سعد لا يصلي بصلاتهم ، ولا يجمع معهم ويحج ولا يفيض معهم بإفاضتهم ؛ فلم يزل كذلك حتى هلك أبو بكر رحمه الله .
حدثنا عبيد الله بن سعد ، قال : حدثنا عمي ، قال : أخبرنا سيف ابن عمر ، عن سهل وأبي عثمان ، عن الضحاك بن خليفة ، قال : لما قام الحباب ابن المتذر انتضى سيفه ؛ وقال : أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب ؛ أنا أبو شبل في عريسة الأسد ، يعزى إلى الأسد . فحامله عمر فضرب يده ، فندر السيف ، فأخذه ثم وثب على سعد ووثبوا على سعد ؛ وتتابع القوم على البيعة ؛ وبايع سعد ؛ وكانت فلتة كفلتات الجاهلية ؛ قام أبو بكر دونها . وقال قائل حين أوطئ سعد : قتلتم سعداً ، فقال عمر : قتله الله ! إنه منافق ، واعترض عمر بالسيف صخرة فقطعه .
حدثنا عبيد الله بن سعيد ، قال : حدثني عمي يعقوب ، قال : حدثنا سيف ، عن مبشر ، عن جابر ، قال : قال سعد بن عبادة يومئذ لأبي بكر : إنكم يا معشر المهاجرين حسدتموني على الإمارة ؛ وإنك وقومي أجبرتموني على البيعة ، فقالوا : إنا لو أجبرناك على الفرقة فصرت إلى الجماعة كنت في سعة ؛ ولكنا أجبرنا على الجماعة ، فلا إقالة فيها ؛ لئن نزعت يداً من طاعة ، أو فرقت جماعة ، لنضربن الذي فيه عيناك .
ذكر أمر أبي بكر في أول خلافته

حدثنا عبيد الله بن سعد ، قال : أخبرنا عمي ، قال : حدثنا سيف - وحدثني السري بن يحيى ، قال : حدثنا شعيب بن إبراهيم ، عن سيف بن عمر - عن أبي ضمرة ، عن أبيه ، عن عاصم بن عدي ، قال : نادى منادي أبي بكر ، من بعد الغد من متوفى رسول الله صلى الله عليه وسلم : ليتم بعث أسامة ؛ ألا لا يبقين بالمدينة أحد من جند أسامة إلا خرج إلى عسكره بالجرف . وقام في الناس ، فحمد الله وأثنى عليه وقال : يأيها الناس ، إنما أنا مثلكم ؛ وإني لا أدري لعكم ستكلفونني ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يطيق ؛ إن الله اصطفى محمداً على العالمين وعصمه من الآفات ؛ وإنما أنا متبع ولست بمبتدع ؛ فإن استقمت فتابعوني ، وإن زغت فقوموني ؛ وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبض وليس أحد من هذه الأمة يطلبه بمظلمة ضربة سوط فما دونها ؛ ألا وإن لي شيطاناً يعتريني ؛ فإذا أتاني فاجتنبوني ؛ لا أؤثر في أشعاركم وأبشاركم ؛ وأنتم تغدون وتروحون في أجل قد غيب عنكم علمه ؛ فإن استطعتم ألا يمضى هذا الأجل إلا وأنتم في عمل صالح فافعلوا ؛ ولن تستطيعوا ذلك إلا بالله ، فسابقوا في مهل آجالكم من قبل أن تسلمكم آجالكم إلى انقطاع الأعمال ؛ فإن قوماً نسوا آجالهم ، وجعلوا أعمالهم لغيرهم ؛ فإياكم أن تكونوا أمثالهم . الجد الجد ! والوحا الوحا ! والنجاء النجاء ! فإن وراءكم طالبا حثيثاً ، أجلاً مره سريع . احذروا الموت ، واعتبروا بالآباء والأبناء والإخوان ، ولا تغبطوا الأحياء إلا بما تغبطون به الأموات .
وقام أيضاً فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : إن الله عز وجل لا يقبل من الأعمال إلا ما أريد به وجهه ؛ فأريدوا الله بأعمالكم ، واعلموا أن ما أخلصتم لله من أعمالكم فطاعة أتيتموها ، وخطأ ظفرتم به ، وضرائب أديتموها ، وسلف قدمتموه من أيام فانية لأخرى باقية ؛ لحين فقركم وحاجتكم . اعتبروا عباد الله بمن مات منكم ، وتفكروا فيمن كان قبلكم . أين كانوا أمس ، وأين هم اليوم ! أين الجبارون ! وأين الذين كان لهم ذكر القتال والغلبة في مواطن الحروب ! قد تضعضع بهم الدهر ، وصاروا رميماً ؛ قد تركت عليهم القالات ؛ الخبيثات للخبيثين ، والخبيثون للخبيثات . وأين الملوك الذين أثاروا الأرض وعمروها ؛ قد بعدوا ونسى ذكرهم ، وصاروا كلا شيء . ألا إن الله قد أبقى عليهم التبعات ، وقطع عنهم الشهوات ، ومضوا والأعمال أعمالهم ، والدنيا دنيا غيرهم ، وبقينا خلفاً بعدهم ؛ فإن نحن اعتبرنا بهم نجونا ؛ وإن اغتررنا كنا مثلهم ! أين الوضاء الحسنة وجوههم ، المعجبون بشبابهم ! صاروا تراباً ، وصار ما فرطوا فيه حسرة عليهم ! أين الذين بنوا المدائن وحصنوها بالحوائط ، وجعلوا فيها الأعاجيب ! قد تركوها لمن خلفهم ؛ فتلك مساكنهم خاوية ، وهم في ظلمات القبور ، هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزاً ! أين من تعرفون من أبنائكم وإخوانكم ؛ قد انتهت بهم آجالهم ، فوردوا على ما فدموا فحلوا عليه وأقاموا للشقوة والسعادة فيما بعد الموت . ألا إلا الله لا شريك له ، ليس بينه وبين أحد من خلقه سبب يعطيه به خيراً ، ولا يصرف عنه به سوءاً ، إلا بطاعته واتباع أمره . واعلموا أنكم عبيد مدينون ، وإن ما عنده لا يدرك إلا بطاعته ؛ أما أنه لا خير بخير بعده النار ، ولا شر بشر بعده الجنة .
حدثني عبيد الله بن سعد ، قال : أخبرني عمي ، قال : أخبرني سيف - وحدثني السرى ، قال : حدثنا شعيب ، قال : أخبرنا سيف - عن هشام ابن عروة ، عن أبيه ، قال : لما بويع أبو بكر رضى الله عنه وجمع الأنصار في الأمر الذي افترقوا فيه ، قال : ليتم بعث أسامة ؛ وقد ارتدت العرب ؛ إما عامة وإما خاصة في كل قبيلة ؛ ونجم النفاق ، واشرأبت اليهود والنصارى ، والمسلمون كالغنم في الليلة المطيرة الشاتية ، لفقد نبيهم صلى الله عليه وسلم وقلتهم ، وكثرة عدوهم . فقال له الناس : إن هؤلاء جل المسلمين والعرب - على ما ترى - قد انتقضت بك ؛ فليس ينبغي لك أن تفرق عنك جماعة المسلمين . فقال أبو بكر : والذي نفس أبي بكر بيده ، لو ظننت أن السباع تخطفني لأنفذت بعث أسامة كما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولو لم يبق في القرى غيري فنفذته !

حدثني عبيد الله ، قال : حدثني عمي ، قال : أخبرني سيف - وحدثني السري ، قال : حدثنا شعيب ، قال : حدثنا سيف - عن عطية ، عن أبي أيوب عن علي ، وعن الضحاك عن ابن عباس ، قالا : ثم اجتمع من حول المدينة من القبائل التي غابت في عام الحديبية ، وخرجوا وخرج أهل المدينة في جند أسامة ؛ فحبس أبو بكر من بقي من تلك القبائل التي كانت لهم الهجرة في ديارهم ، فصاروا مسالح حول قبائلهم وهم قليل .
حدثنا عبيد الله ، قال : حدثني عمي ، قال : أخبرني سيف - وحدثني السري ، قال : حدثنا شعيب ، قال : حدثنا سيف - عن أبي ضمرة وأبي عمرو وغيرهما ؛ عن الحسن بن أبي الحسن البصري ، قال : ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل وفاته بعثاً على أهل المدينة ومن حولهم ؛ وفيهم عمر ابن الخطاب ، وأمر عليهم أسامة بن زيد . فلم يجاوز آخرهم الخندق ، حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فوقف أسامة بالناس ، ثم قال لعمر : ارجع إلى خليفة رسول الله فاستأذنه ؛ يأذن لي أن أرجع بالناس ؛ فإن معت وجوه الناس وحدهم ؛ ولا آمن على خليفة رسول الله وثقل رسول الله وأثقال المسلمين أن ينخطفهم المشركون . وقالت الأنصار : فإن أبي إلا أن نمضى فأبلغه عنا ، واطلب إليه أن يولى أمرنا رجلاً أقدم سناً من أسامة . فخرج عمر بأمر أسامة ، وأتى أبا بكر فأخبره بما قال أسامة ، فقال أبو بكر ، لو خطفتني الكلاب والذئاب لم أرد قضاء قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم ! قال : فإن الأنصار أمروني أن أبلغك ، وإنهم يطلبون إليك أن تولى أمرهم رجلاً أقدم سناً من أسامة ؛ فوثب أبو بكر - وكان جالساً - فأخذ بلحية عمر ، فقال له : ثكلتك أمك وعدمتك يا بن الخطاب ! استعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم وتأمرني أن أنزعه ! فخرج عمر إلى الناس فقالوا له : ما صنعت ؟ فقال : امضوا ، ثكلتكم أمهاتكم ! ما لقيت في سببكم من خليفة رسول الله ! ثم خرج أبو بكر حتى أتاهم ، فأشخصهم وشيعهم وهو ماش وأسامة راكب ، وعبد الرحمن بن عوف يقود دابة أبي بكر ، فقال له أسامة : يا خليفة رسول الله ، والله لتركبن أو لأنزلن ! فقال : والله لا تنزل ووالله لا أركب ! وما علي أن أغبر قدمى في سبيل الله ساعة ؛ فإن للغازي بكل خطوة يخطوها سبعمائة حسنة تكتب له ، وسبعمائة درجة ترتفع له ، وترفع عنه سبعمائة خطيئة ! حتى إذا انتهى قال : إن رأيت أن تعينني بعمر فافعل ! فأذن له ، ثم قال : يأيها الناس ، قفوا أوصكم بعشر فاحفظوها عني : لا تخونوا ولا تغلوا ، ولا تغدروا و
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://arabelalekat.yoo7.com
الشيخ عودة
الشيخ عودة
الشيخ عودة



عدد المساهمات : 1748
تاريخ التسجيل : 28/09/2008
العمر : 73

كتاب : تاريخ الرسل والملوك المؤلف : الطبري - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: كتاب : تاريخ الرسل والملوك المؤلف : الطبري   كتاب : تاريخ الرسل والملوك المؤلف : الطبري - صفحة 2 Emptyالسبت ديسمبر 14, 2013 10:45 am

حدثني السري ، قال : حدثنا شعيب ، قال : حدثنا سيف ، عن أبي القاسم وأبي محمد ، عن أبي زرعة يحيى بن أبي عمرو السيباني ، من جند فلسطين ؛ عن عبد الله بن فيروز الديلمي ؛ أن أباه حدثه أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث إليهم رسولاً ، يقال له : وبر بن يحنس الأزدى ؛ وكان منزله على داذويه الفارسي ، وكان الأسود كاهناً معه شيطان وتابع له ، فخرج فنزل على ملك اليمن ؛ فقتل ملكها ونكح امرأته وملك اليمن ؛ وكان باذام هلك قبل ذلك ، فخلف ابنه على أمره ، فقتله وتزوجها ، فاجتمعت أنا وداذويه وقيس بن المكشوح المرادي عند وبر بن يحنس رسول نبي الله صلى الله عليه وسلم نأتمر بقتل الأسود . ثم إن الأسود أمر الناس فاجتمعوا في رحبة من صنعاء ، ثم خرج حتى قام في وسطهم ، ومعه حربة الملك ، ثم دعا بفرس الملك فأوجره الحربة ، ثم أرسل فجعل يجري في المدينة ودماؤه تسيل حتى مات . وقام وسط الرحبة ؛ ثم دعا بجزر من وراء الخط فأقامها ، وأعناقها ورءوسها في الخط ما يجزنه . ثم استقبلهن بحربته فنحرهن فتصدعن عنه ؛ حتى فرغ منهن ، ثم أمسك حربته في يده ، ثم أكب على الأرض ، ثم رفع رأسه ، فقال : إنه يقول - يعني شيطانه الذي معه : إن ابن المكشوح من الطغاة ، يا أسود اقطع قنة رأسه العليا . ثم أكب رأسه أيضاً ينظر ، ثم رفع رأسه ، فقال : إنه يقول : إن ابن الديلمى من الطغاة ؛ يا أسود اقطع يده اليمنى ورجله اليمنى ؛ فلما سمعت قوله قلت : والله ما آمن أن يدعو بي ، فينحرني بحربته كما نحر هذه الجزر ؛ فجعلت أستتر بالناس لئلا يراني ، حتى خرجت ولا أدري من حذرى كيف آخذ ! فلما دنوت من منزلي لقيني رجل من قومه ، فدق في رقبتي ، فقال : إن الملك يدعوك وأنت تروغ ! ارجع ؛ فردني ، فلما رأيت ذلك خشيت أن يقتلني . قال : وكنا لا يكاد يفارق رجلا منا أبداً خنجره ، فأدس يدي في خفي ، فأخذت خنجري ، ثم أقبلت وأنا أريد أن أحمل عليه ، فأطعنه به حتى أقتله ، ثم أقتل من معه ، فلما دنوت منه رأى في وجهي الشر ، فقال : مكانك ! فوقفت ، فقال : إنك أكبر من ها هنا وأعلمهم بأشراف أهلها ، فاقسم هذه الجزر بينهم . وركب فانطلق وعلقت أقسم اللحم بين أهل صنعاء ، فأتاني ذلك الذي دق في رقبتي ، فقال : أعطني منها ، فقلت : لا والله ولا بضعة واحدة ؛ ألست الذي دققت في رقبتي ! فانطلق غضبان حتى أتى الأسود ؛ فأخبره بما لقي مني وقلت له . فلما فرغت أتيت الأسود أمشي إليه ، فسمعت الرجل وهو يشكوني إليه ، فقال له الأسود : أما والله لأذبحنه ذبحاً ! فقت له : إني قد فرغت مما أمرتني به ، وقسمته بين الناس . قال : قد أحسنت فانصرف . فانصرفت ، فبعثنا إلى امرأة الملك : إنا نريد قتل الأسود ؛ فكيف لنا ! فأرسلت إلى : أن هلم . فأتيتها ، وجعلت الجارية على الباب لتؤذننا إذا جاء ؛ ودخلت أنا وهي البيت الآخر ، فحفرنا حتى نقبنا نقباً ، ثم خرجنا إلى البيت ، فأرسلنا الستر ، فقلت : إنا نقتله الليلة ، فقالت : فتعالوا ؛ فما شعرت بشيء حتى إذا الأسود قد دخل البيت ؛ وإذا هو معنا ؛ فأخذته غيرة شديدة ، فجعل يدق في رقبتي ، وكفكفته عني ، وخرجت فأتيت أصحابي بالذي صنعت ، وأيقنت بانقطاع الحيلة عنا فيه ؛ إذ جاءنا رسول المرأة ؛ ألا يكسرن عليكم أمركم ما رأيتم ؛ فإني قد قلت له بعد ما خرجت : ألستم تزعمون أنكم أقوام أحرار لكم أحساب ! قال : بلى ، فقلت : جاءني أخي يسلم على ويكرمني ، فوقعت عليه تدق في رقبته ؛ حتى أخرجته ، فكانت هذه كرامتك إياه ! فم أزل ألومه حتى لام نفسه ، وقال : أهو أخوك ؟ فقلت : نعم ، فقال : ما شعرت ؛ فأقبلوا الليلة لما أردتم .

قال الديلمي : فاطمأنت أنفسنا ، واجتمع لنا أمرنا ؛ فأقبلنا من الليل أنا وداذويه وقيس حتى ندخل البيت الأقصى من النقب الذي نقبنا ، فقلت : يا قيس ، أنت فارس العرب ، ادخل فاقتل الرجل ، قال : إني تأخذني رعدة شديدة عند البأس ، فأخاف أن أضرب الرجل ضربة لا تغنى شيئاً ؛ ولكن ادخل أنت يا فيروز ، فإنك أشبنا وأقوانا ، قال : فوضعت سيفي عند القوم ، ودخلت لأنظر أين رأس الرجل ! فإذا السراج يزهر ؛ وإذا هو راقد على فرش قد غاب فيها لا أدري أين رأسه من رجليه ! وإذا المرأة جالسة عنده كانت تطعمه رماناً حتى رقد ، فأشرت إليها : أين رأسه ؟ فأشارت إليه ، فأقبلت أمشي حتى قمت عند رأسه لأنظر ، فما أدري أنظرت في وجهه أم لا ! فإذا هو قد فتح عينيه ؛ فنظر إلي ، فقلت : إن رجعت إلى سيفي خفت أن يفوتني ويأخذ عدة يمتنع بها مني ؛ وإذا شيطانه قد أنذره بمكاني وقد أيقظه ، فلما أبطأ كلمني على لسانه ؛ وإنه لينظر ويغط ، فأضرب بيدي إلى رأسه ، فأخذت رأسه بيد ولحيته بيد ؛ ثم ألوي عنقه فدققتها ؛ ثم أقبلت إلى أصحابي ، فأخذت المرأة بثوبي ، فقالت : أختكم نصيحتكم ! قلت : قد والله قتلته وأرحتك منه . قال : فدخلت على صاحبي فأخبرتهما ، قالا : فارجع فاحتز رأسه وائتنا به ، فدخلت فبربر فألجمته فحززت رأسه ، فأتيتهما به ، ثم خرجنا حتى أتينا منزلنا ؛ وعندنا وبر بن يحنس الأزدي ، فقام معنا حتى ارتقينا على حصن مرتفع من تلك الحصون ؛ فأذن وبر بن يحنس بالصلاة ، ثم قلنا : ألا إن الله عز وجل قد قتل الأسود الكذاب ، فاجتمع الناس إلينا فرمينا برأسه ، فلما رأى القوم الذين كانوا معه أسرجوا خيولهم ؛ ثم جعل كل واحد منهم يأخذ غلاماً من أبنائنا معه من أهل البيت الذي كان نازلا فيهم ؛ فأبصرتهم في الغلس مردفي الغلمان ، فناديت أخي وهو أسفل مني مع الناس : أن تعلقوا بمن استطعتم منهم ؛ ألا ترون ما يصنعون بالأبناء ! فتعلقوا بهم ؛ فحبسنا منهم سبعين رجلاً ، وذهبوا منا بثلاثين غلاماً ، فلما برزوا إذا هم يفقدون سبعين رجلا حين تفقدوا أصحابهم ، فأتونا فقالوا : أرسلوا إلينا أصحابنا ، فقلنا لهم : أرسلوا إلينا أبناءنا ، فأرسلوا إلينا الأبناء ، وأرسلنا إليهم أصحابهم .
قال : وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه : إن الله قد قتل الأسود الكذاب العنسي ، قتله بيد رجل من إخوانكم ، وقوم أسلموا وصدقوا ؛ فكنا كأنا على الأمر الذي كان قبل قدوم الأسود علينا وأمن الأمراء وتراجعوا ، واعتذر الناس وكانوا حديثي عهد بالجاهلية .
حدثنا عبيد الله ، قال : حدثنا عمي ، قال : أخبرنا سيف - وحدثنى السري ، قال : حدثنا شعيب ، قال : حدثنا سيف - عن سهل بن يوسف ، عن أبيه ، عن عبيد بن صخر ، قال : كان أول أمره إلى آخره ثلاثة أشهر .
وحدثني السري ، قال : حدثنا شعيب ، عن سيف - وحدثنا عبيد الله قال : أخبرنا عمي ، قال : أخبرنا سيف - عن جابر بن يزيد ، عن عروة ابن غزية ، عن الضحاك بن فيروز ، قال : كان ما بين خروجه بكهف خبان ومقتله نحواً من أربعة أشهر ؛ وقد كان قبل ذلك مستسراً بأمره . حتى بادى بعد .
حدثني عمر بن شبة ، قال : حدثنا علي بن محمد ، عن أبي معشر ويزيد بن عياض بن جعدبة وغسان بن عبد الحميد وجويرية بن أسماء ، عن مشيختهم ، قالوا : أمضي أبو بكر جيش أسامة بن زيد في آخر ربيع الأول ، وأتى مقتل العنسي في آخر ربيع الأول بعد مخرج أسامة ؛ وكان ذلك أول فتح أتى أبا بكر وهو بالمدينة .
وقال الواقدي : في هذه السنة - أعني سنة إحدى عشرة - قدم وفد النخع في النصف من المحرم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، رأسهم زرارة بن عمرو ، وهم آخر من قدم من الوفود .
وفيها : ماتت فاطمة ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة الثلاثاء ، لثلاث خلون من شهر رمضان ؛ وهي يومئذ ابنة تسع وعشرين سنة أو نحوها . وذكر أن أبا بكر بن عبد الله ، حدثه عن إسحاق بن عبد الله ، عن أبان بن صالح بذلك . وزعم أن ابن جريج حدثه عن عمرو بن دينار ، عن أبي جعفر ، قال : توفيت فاطمة عليها السلام بعد النبي صلى الله عليه وسلم بثلاثة أشهر .
قال : وحدثنا ابن جريج ، عن الزهري ، عن عروة ، قال : توفيت فاطمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم بستة أشهر .
قال الواقدي : وهو أثبت عندنا .

قال : وغسلها علي عليه السلام وأسماء بنت عميس .
قال : حدثني عبد الرحمن بن عبد العزيز بن عبد الله بن عثمان بن حنيف ، عن عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم ، عن عمرة ابنة عبد الرحمن قالت : صلى عليها العباس بن عبد المطلب .
وحدثنا أبو زيد ، قال : حدثنا علي ، عن أبي معشر ، قال : دخل قبرها العباس وعلي والفضل بن العباس .
قال : وفيها توفي عبد الله بن أبي بكر بن أبي قحافة ، وكان أصابه بالطائف سهم مع النبي صلى الله عليه وسلم ، رماه أبو محجن ، ودمل الجرح حتى انتقض به في شوال ؛ فمات .
وحدثني أبو زيد ، قال : حدثنا علي ، قال : حدثنا أبو معشر ومحمد ابن إسحاق وجويرية بن أسماء بإسناده الذي ذكرت قبل ، قالوا : في العام الذي بويع فيه أبو بكر ملك أهل فارس عليهم يزد جرد .
قال أبو جعفر : وفيها كان لقاء أبي بكر رحمه الله خارجة بن حصن الفزارى . حدثني أبو زيد ، قال : حدثنا علي بن محمد بإسناده الذي ذكرت قبل ، قالوا : أقام أبو بكر بالمدينة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوجيهه أسامة في جيشه إلى حيث قتل أبوه زيد بن حارثة من أرض الشأم ؛ وهو الموضع الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره بالمسير إليه ؛ لم يحدث شيئاً ، وقد جاءته وفود العرب مرتدين يقرون بالصلاة ، ويمنعون الزكاة . فلم يقبل ذلك منهم وردهم ، وأقام حتى قدم أسامة بن زيد بن حارثة بعد أربعين يوماً من شخوصه - ويقال : بعد سبعين يوماً - فلما قدم أسامة بن زيد استخلفه أبو بكر على المدينة وشخص - ويقال استخلف سناناً الضمري على المدينة - فسار ونزل بذي القصة في جمادى الأولى ؛ ويقال في جمادى الآخرة ؛ وكان نوفل بن معاوية الديلي بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلقيه خارجة بن حصن بالشربة ؛ فأخذ ما في يديه ؛ فرده على بني فزارة ؛ فرجع نوفل إلى أبي بكر بالمدينة قبل قدوم أسامة على أبي بكر . فأول حرب كانت في الردة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم حرب العنسي ؛ وقد كانت حرب العنسي باليمن ؛ ثم حرب خارجة بن حصن ومنظور بن زبان بن سيار في غطفان ، والمسلمون غارون ، فانحاز أبو بكر إلى أجمة فاستتر بها ، ثم هزم الله المشركين .
وحدثني عبيد الله ، قال : حدثنا عمي ، قال : أخبرنا سيف - وحدثني السري ، قال : حدثنا شعيب ، قال : حدثنا سيف - عن المجالد ابن سعيد ، قال : لما فضل أسامة كفرت الأرض وتضرمت ، وارتدت من كل قبيلة عامة أو خاصة إلا قريشاً وثقيفاً .
وحدثني عبيد الله ، قال : حدثنا عمي ، قال : أخبرنا سيف - وحدثني السري ، قال : حدثنا شعيب ، قال : حدثنا سيف - عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، قال : لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفصل أسامة ارتدت العرب عوام أو خواص ؛ وتوحى مسيلمة وطليحة ، فاستغلظ أمرهما ؛ واجتمع على طليحة عوام طيئ وأسد ، وارتدت غطفان إلى ما كان من أشجع وخواص من الأفناء فبايعوه ، وقدمت هوازن رجلاً وأخرت رجلاً أمسكوا الصدقة إلا ما كان من ثقيف ولفها ؛ فإنهم اقتدى بهم عوام جديلة والأعجاز ؛ وارتدت خواص من بني سليم ؛ وكذلك سائر الناس بكل مكان .
قال : وقدمت رسل النبي صلى الله عليه وسلم من اليمن واليمامة وبلاد بني أسد ووفود من كان كاتبه النبي صلى الله عليه وسلم ، وأمر أمره في الأسود ومسيلمة وطلحة بالأخبار والكتب ؛ فدفعوا كتبهم إلى أبي بكر ، وأخبروه الخبر ، فقال لهم أبو بكر : لا تبرحوا حتى تجئ رسل أمرائكم وغيرهم بأدهى مما وصفتم وأمر ؛ وانتقاض الأمور . فلم يلبثوا أن قدمت كتب أمراء النبي صلى الله عليه وسلم من كل مكان بانتفاض عامة أو خاصة ، وتبسطهم بأنواع الميل على المسلمين ، فحاربهم أبو بكر بما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حاربهم بالرسل . فرد رسلهم بأمره ، وأتبع الرسل رسلاً ؛ وانتظر بمصادمتهم قدوم أسامة ؛ وكان أول من صادم عبس وذبيان ، عاجلوه فقاتلهم قبل رجوع أسامة .
حدثني عبيد اله ، قال : أخبرنا عمي ، قال : أخبرنا سيف - وحدثني السري ، قال : حدثنا شعيب ، قال : حدثنا سيف - عن أبي عمرو ، عن زيد بن أسلم ، قال : مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وعماله على قضاعة ، وعلى كلب امرؤ القيس بن الأصبغ الكلبي من بني عبد الله ، وعلى القين عمرو بن الحكم ، وعلى سعد هذيم معاوية بن فلان الوائلي .

وقال السري الوالبي : فارتد وديعة الكلبي فيمن آزره من كلب ، وبقي امرؤ القيس على دينه ، وارتد زميل بن قطبة القيني فيمن آزره من بني القين وبقي عمرو ، وارتد معاوية فيمن آزره من سعد هذيم . فكتب أبو بكر إلى امرئ القيس بن فلان - وهو جد سكينة ابنة حسين - فسار لوديعة ، وإلى عمرو فأقام لزميل ، وإلى معاوية العذري . فلما توسط أسامة بلاد قضاعة ، بث الخيول فيهم وأمرهم أن ينهضوا من أقام على الإسلام إلى من رجع عنه ؛ فخرجوا هراباً ؛ حتى أرزوا إلى دومة ، واجتمعوا إلى وديعة ، ورجعت خيول أسامة إليه ؛ فمضى فيها أسامه . حتى أغار على الحمقتين ، فأصاب في بني الضبيب من جذام ، وفي بني خيليل من لخم ولفها من القبيلين ؛ وحازهم من آبل وانكفأ سالماً غانماً .
فحدثني السري ، قال : حدثنا شعيب ، عن سيف ، عن سهل بن يوسف ، عن القاسم بن محمد ، قال : مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ واجتمعت أسد وغطفان وطيئ على طليحة ؛ إلا ما كان من خواص أقوام في القبائل الثلاث ؛ فاجتمعت أسد بسميراء ، وفزارة ومن يليهم من غطفان بجنوب طيبة ، وطيئ على حدود أرضهم . واجتمعت ثعلبة بن سعد ومن يليهم من مرة وعبس بالأبرق من الربذة ، وتأشب ، إليهم ناس من بني كنانة ؛ فلم تحملهم البلاد ؛ فافترقوا فرقتين ؛ فأقامت فرقة منهم بالأبرق ، وسارت الأخرى إلى ذي القصة ، وأمدهم طليحة بحبال فكان حبال على أهل ذي القصة من بني أسد ومن تأشب من ليث والديل ومدلج . وكان على مرة بالأبرق عوف بن فلان بن سنان ، وعلى ثعلبة وعبس الحارث ابن فلان ؛ أحد بني سبيع ، وقد بعثوا وفوداً فقدموا المدينة ، فنزلوا على وجوه الناس ، فأنزلوهم ما خلا عباساً فتحملوا بهم على أبي بكر ؛ على أن يقيموا الصلاة ؛ وعلى ألا يؤتوا الزكاة ؛ فعزم الله لأبي بكر على الحق ، وقال : لو منعوني عقالا لجاهدتهم عليه - وكانت عقل الصدقة على أهل الصدقة مع الصدقة - فردهم فرجع وفد من يلى المدينة من المرتدة إليهم ، فأخبروا عشائرهم بقلة من أهل المدينة ، وأطمعوهم فيها ؛ وجعل أبو بكر بعد ما أخرج الوفد على أنقاب المدينة نفراً :علياً والزبير وطلحة وعبد الله بن مسعود ؛ وأخذ أهل المدينة بحضور المسجد ، وقال لهم : إن الأرض كافرة ؛ وقد رأى وفدهم منكم قلة ؛ وإنكم لا تدرون أليلاً تؤتون أم نهاراً ! وأدناهم منكم على بريد . وقد كان القوم يأملون أن نقبل منهم ونوادعهم ؛ وقد أبينا عليهم ، ونبذنا إليهم عهدهم ، فاستعدوا وأعدوا . فما لبثوا إلا ثلاثاً حتى طرقوا المدينة غارة مع الليل ، وخلفوا بعضهم بذي حسي ، ليكونوا لهم ردءاً ، فوافق الغوار ليلا الأنقاب ؛ وعليها المقاتلة ، ودونهم أقوام يدرجون ، فنبهوهم ؛ وأرسلوا إلى أبي بكر بالخبر ، فأرسل إليهم أبو بكر أن الزموا أماكنكم ، ففعلوا . وخرج في أهل المسجد على النواضح إليهم ، فانفش العدو ، فاتبعهم المسلمون على إبلهم ؛ حتى بلغوا ذا حسي ؛ فخرج عليهم الردء بأنحاء قد نفخوها ، وجعلوا فيها الحبال ، ثم دهدهوها بأرجلهم في وجوه الإبل ؛ فتدهده كل نحي في طوله ، فنفرت إبل المسلمين وهم عليها - ولا تنفر الإبل من شيء نفارها من الأنحاء - فعاجت بهم ما يملكونها ؛ حتى دخلت بهم المدينة ؛ فلم يصرع مسلم ولم يصب ؛ فقال في ذلك الخطيل بن أوس أخو الحطيئة ابن أوس :
فدى لبنى ذبيان رحلى وناقتي ... عشية يحذى بالرماح أبو بكر
ولكن يدهدى بالرجال فهبنه ... إلى قدر ما إن يزيد ولا يحرى
ولله أجناد تذاق مذاقه ... لتحسب فيما عد من عجب الدهر !
وأنشده الزهري : ((من حسب الدهر)) .
وقال عبد الله الليثي ؛ وكانت بنو عبد مناة من المرتدة - وهم بنو ذبيان - في ذلك الأمر بذي القصة وبذي حمى :
أطعنا رسول الله ما كان بيننا ... فيا لعباد الله ما لأبي بكر !
أيورثها بكراً إذا مات بعده ... وتلك لعمر الله قاصمة الظهر
فهلا رددتم وفدنا بزمانه ... وهلا خشيتم حس راغية البكر !
وإن التي سالوكم فمنعتم ... لكالتمر أو أحلى إلى من التمر

فظن القوم القوم بالمسلمين الوهن ، وبعثوا إلى أهل ذي القصة بالخبر ؛ فقدموا عليهم اعتماداً في الذين أخبروهم ، وهم لا يشعرون لأمر اله عز وجل الذي أراده ، وأحب أن يبلغه فيهم ، فبات أبو بكر ليلته يتهيأ ، فعبى الناس ، ثم خرج على تعبية من أعجاز ليلته يمشي ، وعلى ميمنته النعمان بن مقرن ، وعلى ميسرته عبد الله بن مقرن ، وعلى الساقة سويد بن مقرن معه الركاب ؛ فما طلع الفجر إلا وهم والعدو في صعيد واحد ، فما سمعوا للمسلمين همساً ولا حساً حتى وضعوا فيهم السيوف ، فاقتتلوا أعجاز ليلتهم ؛ فما ذر قرن الشمس حتى ولوهم الأدبار ، وغلبوهم على عامة ظهرهم ؛ وقتل حبال واتبعهم أبو بكر ؛ حتى نزل بذي القصة - وكان أول الفتح - ووضع بها النعمان ابن مقرن في عدد ، ورجع إلى المدينة فذل بها المشركون ؛ فوثب بنو ذبيان وعبس على من فيهم من المسلمين ؛ فقتلوهم كل قتلة ؛ وفعل من وراءهم فعلهم . وعز المسلمون بوقعة أبي بكر ، وحلف أبو بكر ليقتلن في المشركين كل قتلة ؛ وليقتلن في كل قبيلة بمن قتلوا من المسلمين وزيادة ، وفي ذلك يقول زياد بن حنظلة التميمي :
غداة سعى أبو بكر إليهم ... كما يسعى لموتته جلال
أراح على نواهقها علياً ... ومج لهن مهجته حبال
وقال أيضاً :
أقمنا لهم عرض الشمال فكبكبوا ... ككبكبة الغزى أناخوا على الوفر
فما صبروا للحرب عند قيامها ... صبيحة يسمو بالرجال أبو بكر
طرقنا بني عبس بأدنى نباحها ... وذبيان نهنهنا بقاصمة الظهر
ثم لم يصنع إلا ذلك ؛ حتى ازداد المسلمون لها ثباتاً على دينهم في كل قبيلة ، وازداد لها المشركون انعكاساً من أمرهم في كل قبيلة ؛ وطرقت المدينة صدقات نفر : صفوان ، الزبرقان ، عدي ؛ صفوان ، ثم الزبرقان ، ثم عدي ؛ صفوان في أول الليل ، والثاني في وسطه ، والثالث في آخره . وكان الذي بشر بصفوان سعد بن أبي وقاص ، والذي بشر بالزبرقان عبد الرحمن بن عوف ، والذي بشر بعدي عبد الله بن مسعود . وقال غيره : أبو قتادة .
قال : وقال الناس لكلهم حين طلع : نذير ، وقال أبو بكر : هذا بشير ، هذا حام وليس بوان ؛ فإذا نادى بالخير ، قالوا : طالما بشرت بالخير ! وذلك لتمام ستين يوماً من مخرج أسامة . وقدم أسامة بعد ذلك بأيام لشهرين وأيام ، فاستخلفه أبو بكر على المدينة ، وقال له ولجنده : أريحوا وأريحوا ظهركم .
ثم خرج في الذين خرجوا إلى ذي القصة والذين كانوا على الأنقاب على ذلك الظهر ؛ فقال له المسلمون : ننشدك الله يا خليفة رسول الله أن تعرض نفسك ! فإنك إن تصب لم يكن للناس نظام ، ومقامك أشد على العدو ؛ فابعث رجلاً ، فإن أصيب أمرت آخر ، فقال : لا والله لا أفعل ولأواسينكم بنفسي ؛ فخرج في تعبيته إلى ذي حسي وذي القصة ، والنعمان وعبد الله وسويد على ما كانوا عليه ، حتى نزل على أهل الربذة بالأبرق ؛ فاقتتلوا ، فهزم الله الحارث وعوفاً ، وأخذ الحطيئة أسيراً ، فطارت عبس وبنو بكر ؛ وأقام أبو بكر على الأبرق أياماً ؛ وقد غلب بني ذبيان على البلاد . وقال : حرام على بني ذبيان أن يتملكوا هذه البلاد إذ غنمناها الله ! وأجلاها . فلما غلب أهل الردة ؛ ودخلوا في الباب الذي خرجوا منه ، وسامح الناس جاءت بنو ثعلبة ؛ وهي كانت منازلهم لينزلوها ، فمنعوا منها فأتوه في المدينة ، فقالوا : علام نمنع من نزول بلادنا ! فقال : كذبتم ، ليست لكم ببلاد ؛ ولكنها موهبي ونقذي ، ولم يعتبهم ، وحمى الأبرق لخيول المسلمين ، وأرعى سائر بلاد الربذة الناس على بني ثعلبة ، ثم حماها كلها لصدقات المسلمين ؛ لقتال كان وقع بين الناس وأصحاب الصدقات ، فمنع بذلك بعضهم من بعض .
ولما فضت عبس وذبيان أرزوا إلى طليحة وقد نزل طليحة على بزاخة ، وارتحل عن سميراء إليها ، فأقام عليها ؛ وقال في يوم الأبرق زياد بن حنظلة :
ويوم بالأبارق قد شهدنا ... على ذبيان يلتهب التهابا
أتيناهم بداهية نسوف ... مع الصديق إذ ترك العتابا

حدثني السري ، قال : حدثنا شعيب ، عن سيف ، عن عبد الله بن سعيد بن ثابت بن الجذع وحرام بن عثمان ، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك ، قال : لما قدم أسامة بن زيد خرج أبو بكر واستخلفه على المدينة ، ومضى حتى انتهى إلى الربذة يلقي بني عبس وذبيان وجماعة من بني عبد مناة ابن كنانة ، فلقيهم بالأبرق ، فقاتلهم فهزمهم الله وفلهم . ثم رجع إلى المدينة ، فلما جم جند أسامة ، وثاب من حول المدينة خرج إلى ذي القصة فنزل بهم - وهو على بريد من المدينة تلقاء نجد - فقطع فيها الجند ، وعقد الألوية ، عقد أحد عشر لواء على أحد عشر جنداً ، وأمر أمير كل جند باستنفار من مر به من المسلمين من أهل القوة ، وتخلف بعض أهل القوة لمنع بلادهم .
حدثنا السري ، قال : حدثنا شعيب ، عن سيف ، عن سهل بن يوسف ، عن القاسم بن محمد ، قال : لما أراح أسامة وجنده ظهرهم وجموا ، وقد جاءت صدقات كثيرة تفضل عنهم ، قطع أبو بكر البعوث وعقد الألوية ، فعقد أحد عشر لواء : عقد لخالد بن الوليد وأمره بطليحة بن خويلد ؛ فإذا فرغ سار إلى إلى مالك بن نويرة بالبطاح إن أقام له ، ولعكرمة ابن أبي جهل وأمره بمسيلمة ، وللمهاجر بن أبي أمية وأمره بجنود العنسي ومعونة الأبناء على قيس بن المكشوح ومن أعانه من أهل اليمن عليهم ، ثم يمضي إلى كندة بحضرموت ، ولخالد بن سعيد بن العاص - وكان قدم على تفيئة ذلك من اليمن وترك عمله - وبعثه إلى الحمقتين من مشارف الشأم ، ولعمرو بن العاص إلى جماع قضاعة ووديعة والحارث ، ولحذيفة بن محصن الغلفاني وأمره بأهل دبا ولعرفجة بن هرثمة وأمره بمهرة ؛ وأمرهما أن يجتمعا وكل واحد منهما في عمله على صاحبه ، وبعث شرجبيل بن حسنة في أثر عكرمة ابن أبي جهل ، وقال : إذا فرغ من اليمامة فالحق بقضاعة ، وأنت على خيلك تقاتل أهل الردة ، ولطريفة بن حاجز وأمره ببني سليم ومن معهم من هوازن ، ولسويد بن مقرن وأمره بتهامة اليمن ، وللعلاء بن الحضرمي وأمره بالبحرين .
كتاب أبي بكر إلى القبائل المرتدة ووصيته للأمراء ففصلت الأمراء من ذي القصة ، ونزلوا على قصدهم ، فلحق بكل أمير جنده ، وقد عهد إليهم عهده ، وكتب إلى من بعث إليه من جميع المرتدة .
حدثنا السري ، قال : حدثنا شعيب ، عن سيف ، عن عبد الله بن سعيد ، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك ؛ وشاركه في العهد والكتاب قحذم ؛ فكانت الكتب إلى قبائل العرب المرتدة كتاباً واحداً :

بسم الله الرحمن الرحيم . من أبي بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى من بلغه كتابي هذا من عامة وخاصة ؛ أقام على إسلامه أو رجع عنه . سلام على من اتبع الهدى ، ولم يرجع بعد الهدى إلى الضلالة والعمى ؛ فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمداً عبده ورسوله ، نقر بما جاء به ، ونكفر من أبي ونجاهده . أما بعد ؛ فإن الله تعالى أرسل محمداً بالحق من عنده إلى خلقه بشيراً ونذيراً ، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً ، لينذر من كان حياً ويحق القول على الكافرين . فهدى الله بالحق من أجاب إليه ، وضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بإذنه من أدبر عنه ؛ حتى صار إلى الإسلام طوعاً وكرهاً . ثم توفي الله رسوله صلى الله عليه وسلم وقد نفذ لأمر الله ، ونصح لأمته ؛ وقضى الذي عليه ، وكان الله قد بين له ذلك ولأهل الإسلام في الكتاب الذي أنزل ؛ فقال : " إنك ميت وإنهم ميتون " ، وقال : " وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون " ، وقال للمؤمنين : " وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل أنقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين " ؛ فمن كان إنما يعبد محمداً فإن محمداً قد مات ، ومن كان إنما يعبد الله وحده لا شريك له فإن الله له بالمرصاد ؛ حي قيوم لا يموت ؛ ولا تأخذه سنة ولا نوم ، حافظ لأمره ، منتقم من عدوه ، يجزيه . وإني أوصيكم بتقوى الله وحظكم ونصيبكم من الله ، وما جاءكم به نبيكم صلى الله عليه وسلم ، وأن تهتدوا بهداه ، وأن تعتصموا بدين الله ، فإن كل من لم يهده الله ضال ، وكل من لم يعافه مبتلي ، وكل من لم يعنه الله مخذول ، فمن هداه الله كان مهتدياً ، ومن أضله كان ضالاً ؛ قال الله تعالى : " من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً " ، ولم يقبل منه في الدنيا عمل حتى يقر به ؛ ولم يقبل منه في الآخرة صرف ولا عدل . وقد بلغني رجوع من رجع منكم عن دينه بعد أن أقر بالإسلام وعمل به ؛ اغتراراً بالله ، وجهالة بأمره ، وإجابة للشيطان ، قال الله تعالى : " وإذا قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلاً " . وقال : " إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدواً إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير " ؛ وإني بعثت إليكم فلاناً في جيش من المهاجرين والأنصار والتابعين بإحسان ، وأمرته ألا يقاتل أحداً ولا يقتله حتى يدعوه إلى داعية الله ؛ فمن استجاب له وأقر وكف وعمل صالحاً قبل منه وأعانه عليه ؛ ومن أبى أمرت أن يقاتله على ذلك ؛ ثم لا يبقى على أحد منهم قدر عليه ، وأن يحرقهم بالنار ، ويقتلهم كل قتلة ، وأن يسبى النساء والذرارى ، ولا يقبل من أحد إلا الإسلام ؛ فمن اتبعه فهو خير له ، ومن تركه فلن يعجز الله . وقد أمرت رسولي أن يقرأ كتابي في كل مجمع لكم ؛ والداعية الأذان ؛ فإذا أذن المسلمون فأذنوا كفوا عنهم ؛ وإن لم يؤذنوا عاجلوهم ؛ وإن أذنوا اسألوهم ما عليهم ؛ فإن أبوا عاجلوهم ، وإن أقروا قبل منهم ؛ وحملهم على ما ينبغي لهم .
فنفذت الرسل بالكتب أمام الجنود ، وخرجت الأمراء ومعهم العهود :

بسم الله الرحمن الرحيم . هذا عهد من أبي بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم لفلان حين بعثه فيمن بعثه لقتال من رجع عن الإسلام ، وعهد إليه أن يتقى الله ما استطاع في أمره كله سره وعلانيته ، وأمره بالجد في أمر الله ، ومجاهدة من تولى عنه ، ورجع عن الإسلام إلى أماني الشيطان بعد أن يعذر إليهم فيدعوهم بداعية الإسلام ؛ فإن أجابوه أمسك عنهم ، وإن لم يجيبوه شن غارته عليهم حتى يقروا له ؛ ثم ينبئهم بالذي عليهم والذي لهم ، فيأخذ ما عليهم ، ويعطيهم الذي لهم ؛ لا ينظرهم ، ولا يرد المسلمين عن قتال عدوهم ؛ فمن أجاب إلى أمر الله عز وجل وأقر له قبل ذلك منه وأعانه عليه بالمعروف ؛ وإنما يقاتل من كفر بالله على الإقرار بما جاء من عند الله ؛ فإذا أجاب الدعوة لم يكن عليه سبيل ؛ وكان الله حسيبه بعد فيما استسر به ، ومن لم يجب داعية الله قتل وقوتل حيث كان ؛ وحيث بلغ مراغمه ،لا يقبل من أحد شيئاً أعطاه إلا الإسلام ؛ فمن أجابه وأقر قبل منه وعلمه ، ومن أبى قاتله ؛ فإن أظهره الله عليه قتل منهم كل قتلة بالسلاح والنيران ، ثم قسم ما أفاء الله عليه ، إلا الخمس فإنه يبلغناه ، وأن يمنع أصحابه العجلة والفساد ، وألا يدخل فيهم حشواً حتى يعرفهم ويعلم ما هم ؛ لا يكونوا عيوناً ، ولئلا يؤتى المسلمون من قبلهم ، وأن يقتصد بالمسلمين ويرفق بهم في السير والمنزل ويتفقدهم ، ولا يعجل بعضهم عن بعض ، ويستوصي بالمسلمين في حسن الصحبة ولين القول .
ذكر بقية الخبر عن غطفان حين انضمت إلى طليحة وما آل إليه أمر طليحة حدثنا عبيد الله بن سعد ، قال : حدثنا عمي ، قال : أخبرنا سيف - وحدثني السري ، قال : حدثنا شعيب ، قال : حدثنا سيف - عن سهل بن يوسف ، عن القاسم بن محمد وبدر بن الخليل وهشام بن عروة ، قالوا : لما أرزت عبس وذبيان ولفها إلى البزاخة ، أرسل طليحة إلى جديلة والغوث أن ينضموا إليه ، فتعجل إليه أناس من الحيين ، وأمروا قومهم باللحاق بهم ، فقدموا على طليحة ، وبعث أبو بكر عدياً قبل توجيه خالد من ذي القصة إلى قومه ، وقال : أدركهم لا يؤكلوا . فخرج إليهم فقتلهم في الذروة والغارب ، وخرج خالد في أثره ، وأمره أبو بكر أن يبدأ بطيئ على الأكناف ، ثم يكون وجهه إلى البزاخة ، ثم يثلث بالبطاح ، ولا يريم إذا فرغ من قوم حتى يحدث إليه ، ويأمره بذلك . وأظهر أبو بكر أنه خارج إلى خيبر ومنصب عليه منها حتى يلاقيه بالأكناف ، أكناف سلمى ؛ فخرج خالد فازوار عن البزاخة ، وجنح إلى أجأ ، وأظهر أنه خارج إلى خيبر ، ثم منصب عليهم ، فقعد ذلك طيئاً وبطأهم عن طليحة ؛ وقدم عليهم عدي ؛ فدعاهم فقالوا : لا نبايع أبا الفصيل أبداً ، فقال : لقد أتاكم قوم ليبيحن حريمكم ، ولتكننه بالفحل الأكبر ؛ فشأنكم به . فقالوا له : فاستقبل الجيش فنهنهه عنا حتى نستخرج من لحق بالبزاخة منا ، فإنا إن خالفنا طليحة وهم في يديه قتلهم أو ارتهنهم . فاستقبل عدي خالداً وهو بالسنح ، فقال : يا خالد ، أمسك عني ثلاثا يجتمع لك خمسمائة مقاتل تضرب بهم عدوك ؛ وذلك خير من أن تعجلهم إلى النار ؛ وتشاغل بهم ؛ ففعل . فعاد عدي إليهم وقد أرسلوا إخوانهم ؛ فأتوهم من بزاخة كالمدد لهم ؛ ولولا ذلك لم يتركوا ؛ فعاد عدي بإسلامهم إلى خالد ، وارتحل خالد نحو الأنسر يريد جديلة ، فقال له عدي : إن طيئاً كالطائر ، وإن جديلة أحد جناحي طيئ ؛ فأجلني أياماً لعل الله أن ينتقذ جديلة كما انتقذ الغوث ؛ ففعل ، فأتاهم عدي فلم يزل بهم حتى بايعوه ؛ فجاءه بإسلامهم ، ولحق بالمسلمين منهم ألف راكب ؛ فكان خير مولود ولد في أرض طيئ وأعظمه عليهم بركة .

وأما هشام بن الكلبي ؛ فإنه زعم أن أبا بكر لما رجع إليه أسامة ومن كان معه من الجيش ؛ جد في حرب أهل الردة ، وخرج بالناس وهو فيهم حتى نزل بذي القصة ؛ منزلا من المدينة على بريد من نحو مجد ؛ فعبى هنالك جنوده ، ثم بعث خالد بن الوليد على الناس ، وجعل ثابت بن قيس على الأنصار ، وأمره إلى خالد ، وأمره أن يصمد لطليحة وعيينة بن حصن ، وهما على بزاخة ؛ ماء من مياه بني أسد ؛ وأظهر أني ألاقيك بمن معي من نحو خيبر ، مكيدة ؛ وقد أوعب مع خالد الناس ؛ ولكنه أراد أن يبلغ ذلك عدوه فيرعبهم . ثم رجع إلى المدينة ، وسار خالد بن الوليد ؛ حتى إذا دنا من القوم بعث عكاشة بن محصن ، وثابت بن أقرم - أحد بني العجلان حليفاً للأنصار - طليعة ؛ حتى إذا دنوا من القوم خرج طليحة وأخوه سلمة ، ينظران ويسألان : فأما سلمة فلم يمهل ثابتاً أن قتله ، ونادى طليحة أخاه حين رأى أن قد فرغ من صاحبه أن أعني على الرجل ؛ فإنه آكل ؛ فاعتونا عليه ، فقتلاه ثم رجعا ، وأقبل خالد بالناس حتى مروا بثابت بن أقرم قتيلاً ، فلم يفطنوا له حتى وطئته المطئ بأخفافها ، فكبر ذلك على المسلمين ، ثم نظروا فإذا هم بعكاشة بن محصن صريعاً ؛ فجزع لذلك المسلمون ، وقالوا : قتل سيدان من سادات المسلمين وفارسان من فرسانهم ؛ فانصرف خالد نحو طيئ .
قال هشام : قال أبو مخنف : فحدثني سعد بن مجاهد ، عن المحل ابن خليفة ، عن عدي بن حاتم ، قال : بعثت إلى خالد بن الوليد أن سر إلى فأقم عندي أياماً حتى أبعث إلى قبائل طيئ ، فأجمع لك منهم أكثر ممن معك ، ثم أصحبك إلى عدوك . قال : فسار إلى .
قال هشام : قال أبو مخنف : حدثنا عبد السلام بن سويد أن بعض الأنصار حدثه أن خالداً لما رأى ما بأصحابه من الجزع عند مقتل ثابت وعكاشة ، قال لهم : هل لكم إلى أميل بكم إلى حي من أحياء العرب ؛ كثير عددهم ، شديدة شوكتهم ، لم يرتد منهم عن الإسلام أحد ! فقال له الناس : ومن هذا الحي الذي تعني ؟ فنعم والله الحي هو ! قال لهم : طيئ ؛ فقالوا : وفقك الله ، نعم الرأى رأيت ! فانصرف بهم حتى نزل بالجيش في طيئ .
قال هشام : حدثني جديل بن خباب النبهاني من بني عمرو بن أبي ، أن خالداً جاء حتى نزل على أرك ؛ مدينة سلمى .
قال هشام : قال أبو مخنف : حدثني إسحاق أنه نزل بأجأ ، ثم تعبى لحربه ، ثم سار حتى التقيا على بزاخة ، وبنو عامر على سادتهم وقادتهم قريباً يستمعون ويتربصون على من تكون الدبرة .
قال هشام عن أبي مخنف : حدثني سعد بن مجاهد ، أنه سمع أشياخاً من قومه يقولون : سألنا خالداً أن نكفيه قيساً فإن بني أسد حلفاؤنا ، فقال : والله ما قيس بأوهن الشوكتين ، اصمدوا إلى أي القبلتين أحببتم ؛ فقال عدي : لو ترك هذا الدين أسرتي الأدنى فالأدنى من قومي لجاهدتهم عليه ، فأنا أمتنع من جهاد بني أسد لجلفهم ! لا لعمر الله لا أفعل ! فقال له خالد : إن جهاد الفريقين جميعاً جهاد ؛ لا تخالف رأى أصحابك ، امض إلى أحد الفريقين ، وامض بهم إلى القوم الذين هم لقتالهم أنشط .
قال هشام ، عن أبي مخنف : فحدثني عبد السلام بن سويد ، أن خيل طيئ كانت تلقي خيل بني أسد وفزارة قبل قدوم خالد عليهم فيتشامون ولا يقتتلون ، فتقول أسد وفزارة : لا والله لا نبايع أبا الفصيل أبداً . فتقول لهم خيل طيئ : أشهد ليقاتلنكم حتى تكنوه أبا الفحل الأكبر !

فحدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن طلحة بن يزيد بن ركانة ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة ، قال : حدثت أن الناس لما اقتتلوا ، قاتل عيينة مع طليحة في سبعمائة من بني فزارة قتالا شديداً ، وطليحة متلفف في كساء له بفناء بيت له من شعر ، يتنبأ لهم ، والناس يقتتلون ، فلما هزت عيينة الحرب ، وضرس القتال ، كر على طليحة ، فقال : هل جاءك جبريل بعد ؟ قال : لا ، قال : فرجع فقاتل حتى إذا ضرس القتال وهزته الحرب كر عليه فقال : لا أبا لك ! أجاءك جبريل بعد ؟ قال : لا والله ، قال : يقول عيينة حلفاً : حتى متى ! قد والله بلغ منا ! قال : ثم رجع فقاتل ، حتى إذا بلغ كر عليه ، فقال : هل جاءك جبريل بعد ؟ قال : نعم ، قال : فماذا قال لك ؟ قال : قال لي : (( إن لك رحاً كرحاه ، وحديثاً لا تنساه )) ، قال : يقول عيينة : أظن أن قد علم الله أنه سيكون حديث لا تنساه ؛ يا بني فزارة هكذا ؛ فانصرفوا ؛ فهذا والله كذاب . فانصرفوا وانهزم الناس فغشوا طليحة يقولون : ماذا تأمرنا ؟ وقد كان أعد فرسه عنده ، وهيأ بعيراً لامرأته النوار ، فلما أن غشوه يقولون : ماذا تأمرنا ؟ قام فوثب على فرسه ، وحمل امرأته ثم نجا بها ، وقال : من استطاع منكم أن يفعل مثل ما فعلت وينجو بأهله فليفعل ؛ ثم سلك الحوشية حتى لحق بالشأم وارفض جمعه ؛ وقتل الله من قتل منهم ، وبنو عامر قريباً منهم على قادتهم وسادتهم ؛ وتلك القبائل من سليم وهوازن على تلك الحال ؛ فلما أوقع الله بطليحة وفزارة ما أوقع ، أقبل أولئك يقولون : ندخل فيما خرجنا منه ، ونؤمن بالله ورسوله ، ونسلم لحكمه في أموالنا وأنفسنا .
قال أبو جعفر : وكان سبب ارتداد عيينة وغطفان ومن ارتد من طيئ ما حدثنا عبيد الله بن سعد ، قال : أخبرني عمي ، قال : أخبرني سيف - وحدثني السري قال : حدثنا شعيب عن سيف - عن طلحة بن الأعلم عن حبيب ابن ربيعة الأسدي ، عن عمارة بن فلان الأسدي ، قال : ارتد طليحة في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فادعى النبوة ، فوجه النبي صلى الله عليه وسلم ضرار بن الأزور إلى عماله على بني أسد في ذلك ؛ وأمرهم بالقيام في ذلك على كل من ارتد ، فأشجوا طليحة وأخافوا ، ونزل المسلمون بواردات ، ونزل المشركون بسميراء ، فما زال المسلمون في نماء والمشركون في نقصان ؛ حتى هم ضرار بالمسير إلى طليحة ، فلم يبق أحد إلا أخذه سلماً ، إلا ضربة كان ضربها بالجراز ، فنباعنه ، فشاعت في الناس . فأتى المسلمون وهم على ذلك بخير موت نبيهم صلى الله عليه وسلم ، وقال ناس من الناس لتلك الضربة : إن السلاح لا يحيك في طليحة ؛ فما أمسى المسلمون من ذلك اليوم حتى عرفوا النقصان ، وارفض الناس إلى طليحة واستطار أمره ، وأقبل ذو الخمارين عوف الجذمي حتى نزل بإزائنا ، وأرسل إليه ثمامة بن أوس بن لأم الطائي : إن معي من جديلة خمسمائة ، فإن دهمكم أمر فنحن بالقردودة والأنسر دوين الرمل . وأرسل إليه مهلهل بن زيد : إن معي حد الغوث ؛ فإن دهمكم أمر فنحن بالأكناف بحيال فيد . وإنما تحدبت طي على ذي الخمارين عوف ؛ أنه كان بين أسد وغطفان وطيئ حلف في الجاهلية ، فلما كان قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم اجتمعت غطفان وأسد على طيئ ، فأزاحوها عن دارها في الجاهلية : غوثها وجديلتها ، فكره ذلك عوف ؛ فقطع ما بينه وبين غطفان ، وتتابع الحيان على الجلاء ، وأرسل عوف إلى الحيين من طيئ ، فأعاد حلفهم ، وقام بنصرتهم ، فرجعوا إلى دورهم ، واشتد ذلك على غطفان ؛ فلما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم قام عيينة بن حصن في غطفان ، فقال : ما أعرف حدود غطفان منذ انقطع ما بيننا وبين بني أسد ؛ وإني لمجدد الحلف الذي كان بيننا في القديم ومتابع طليحة ؛ والله لأن نتبع نبياً من الحليفين أحب إلينا من أن نتبع نبياً من قريش ؛ وقد مات محمد ، وبقي طليحة . فطابقوه على رأيه ، ففعل وفعلوا .

فلما اجتمعت غطفان على المطابقة لطليحة هرب ضرار وقضاعي وسنان ومن كان قام بشيء من أمر النبي صلى الله عليه وسلم في بني أسد إلى أبي بكر ، وارفض من كان معهم ، فأخبروا أبا بكر الخبر ، وأمروه بالحذر ، فقال ضرار بن الأزور : فما رأيت أحداً - ليس رسول الله صلى الله عليه وسلم - أملأ بحرب شعواء من أبي بكر ؛ فجعلنا نخبره ، ولكأنما نخبره بما له ولا عليه . وقدمت عليه وفود بني أسد وغطفان وهوازن وطيئ ، وتلقت وفود قضاعة أسامة بن زيد ، فحوزها إلى أبي بكر ؛ فاجتمعوا بالمدينة فنزلوا على وجوه المسلمين ؛ لعاشر من متوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فعرضوا الصلاة على أن يعفوا من الزكاة ، واجتمع ملأ من أنزلهم على قبول ذلك حتى يبلغوا ما يريدون ؛ فلم يبق من وجوه المسلمين أحد إلا أنزل منهم نازلا إلا العباس . ثم أتوا أبا بكر فأخبروه خبرهم وما أجمع عليه ملؤهم ، إلا ما كان من أبي بكر ، فإنه أبي إلا ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذ ، وأبوا ، فردهم وأجلهم يوماً وليلة ؛ فتطايروا إلى عشائرهم .
حدثني السري ، قال : حدثنا شعيب ، عن سيف ، عن الحجاج ، عن عمرو بن شعيب ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بعث عمرو ابن العاص إلى جيفر ، منصرفه من حجة الوداع ، فمات رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمرو بعمان ، فأقبل حتى إذا انتهى إلى البحرين وجد المنذر بن ساوي في الموت . فقال له المنذر : أشر علي في مالي بأمر لي ولا علي ، قال : صدق بعقار صدقة تجري من بعدك ، ففعل . ثم خرج من عنده ، فسار في بني تميم ، ثم خرج منها إلى بلاد بني عامر ، فنزل على قرة بن هبيرة ، وقرة يقدم رجلاً ويؤخر رجلاً ؛ وعلى ذلك بنو عامر كلهم إلا خواص ، ثم سار حتى قدم المدينة ، فأطافت به قريش ، وسألوه فأخبرهم أن العساكر معسكرة من دبا إلى حيث انتهيت إليكم ، فتفرقوا وتحلقوا حلقاً ، وأقبل عمر بن الخطاب يريد التسليم على عمرو ، فمر بحلقة ، وهم في شيء من الذي سمعوا من عمرو في تلك الحلقة : عثمان وعلي وطلحة والزبير وعبد الرحمن وسعد ؛ فلما دنا عمر منهم سكتوا ، فقال : فيم أنتم ؟ فلم يجيبوه ، فقال : ما أعلمني بالذي خلوتم عليه ! فغضب طلحة ، وقال : تالله يابن الخطاب لتخبرنا بالغيب ! قال : لا يعلم الغيب إلا الله ؛ ولكن أظن قلتم : ما أخوفنا على قريش من العرب وأخلقهم ألا يقروا بهذا الأمر ! قالوا : صدقت ، قال : فلا تخافوا هذه المنزلة ، أنا والله منكم على العرب أخوف مني من العرب عليكم ؛ والله لو تدخلون معاشر قريش حجراً لدخلته العرب في آثاركم ؛ فاتقوا الله فيهم . ومضى إلى عمرو فسلم عليه ، ثم انصرف إلى أبي بكر .
حدثنا السري ، قال : حدثنا شعيب ، عن سيف ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، قال : نزل عمرو بن العاص منصرفه من عمان - بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم - بقرة بن هبيرة بن سلمة بن قشير ، وحوله عسكر من بني عامر من أفنائهم ، فذبح له وأكرم مثواه ، فلما أراد الرحلة خلا به قرة ، فقال : يا هذا ، إن العرب لا تطيب لكم نفساً بالإتاوة ، فإن أنتم أعفيتموها من أخذ أموالها فستسمع لكم وتطيع ؛ وإن أبيتم فلا أرى أن تجتمع عليكم . فقال عمرو : أكفرت يا قرة ! وحوله بنو عامر ؛ فكره أن يبوح بمتابعتهم فيكفروا بمتابعته ، فينفر في شر ، فقال : لنردنكم إلى فيئتكم - وكان من أمره الإسلام - اجعلوا بيننا وبينكم موعداً . فقال عمرو : أتوعدنا بالعرب وتخوفنا بها ! موعدك حفش أمك ؛ فو الله لأوطئن عليك الخيل . وقدم على أبي بكر والمسلمين فأخبرهم .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : لما فرغ خالد من أمر بني عامر وبيعتهم على ما بايعهم عليه ، أوثق عيينة بن حصن وقرة بن هبيرة ، فبعث بهما إلى أبي بكر ، فلما قدما عليه قال له قرة : يا خليفة رسول الله ، إني قد كنت مسلماً ، ولي من ذلك على إسلامي عند عمرو بن العاص شهادة ؛ قد مر بي فأكرمته وقربته ومنعته . قال : فدعا أبو بكر عمرو بن العاص ، فقال : ما تعلم من أمر هذا ؟ فقص عليه الخبر ، حتى انتهى إلى ما قال له من أمر الصدقة ، قال له قرة : حسبك رحمك الله ! قال : لا والله ؛ حتى أبلغ له كل ما قلت ، فبلغ له ، فتجاوز عنه أبو بكر ، وحقن دمه .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : حدثني محمد بن إسحاق ، عن محمد بن طلحة بن يزيد بن ركانة ، عن عبيد الله بن عبد الله ابن عتبة ، قال : أخبرني من نظر إلى عيينة بن حصن مجموعة يداه إلى عنقه بحبل ، ينخسه غلمان المدينة بالجريد ، يقولون : أي عدو الله ، أكفرت بعد إيمانك ! فيقول : والله ما كنت آمنت بالله قط . فتجاوز عنه أبو بكر وحقن له دمه .
حدثني السري ، قال : حدثنا شعيب ، عن سيف ، عن سهل بن يوسف ، قال : أخذ المسلمون رجلاً من بني أسد ، فأتى به خالد بالغمر - وكان عالماً بأمر طليحة - فقال له خالد : حدثنا عنه وعما يقول لكم ، فزعم أن مما أتى به : ((والحمام واليمام ، والصرد الصوام ، قد صمن قبلكم بأعوام ، ليبلغن ملكنا العراق والشام)) .
حدثني السري ، قال : حدثنا شعيب ، عن سيف ، عن أبي يعقوب سعيد بن عبيد ، قال : لما أرزى أهل الغمر إلى البزاخة ، قام فيهم طليحة ، ثم قال : ((أمرت أن تصنعوا رحاً ذات عراً ، يرمى الله بها من رمى ، يهوى عليها من هوى)) ، ثم عبى جنوده ، ثم قال : ((ابعثوا فارسين ، على فرسين أدهمين ، من بني نصر بن قعين ، يأتيانكم بعين )) . فبعثوا فارسين من بني قعين ، فخرج هو وسلمة طليعتين .
حدثنا السري ، قال : حدثنا شعيب ، عن سيف ، عن عبد الله بن سعيد بن ثابت بن الجذع ، عن عبد الرحمن بن كعب ، عمن شهد بزاخة من الأنصار ، قال : لم يصب خالد على البزاخة عيلا واحداً ، كانت عيالات بني أسد محرزة - وقال أبو يعقوب : بين مثقب وفلج ، وكانت عيالات قيس بين فلج وواسط - فلم يعد أن انهزموا ، فأقروا جميعاً بالإسلام خشية على الذراري ، واتقوا خالداً بطلبته ، واستحقوا الأمان ؛ ومضى طليحة ؛ حتى نزل كلب على النقع ، فأسلم ، ولم يزل مقيماً في كلب حتى مات أبو بكر ؛ وكان إسلامه هنالك حين بلغه أن أسداً وغطفان وعامرا قد أسلموا ؛ ثم خرج نحو مكة معتمراً في إمارة أبي بكر ، ومر بجنبات المدينة ، فقيل لأبي بكر : هذا طليحة ، فقال : ما أصنع به ! خلوا عنه ، فقد هداه الله للإسلام . ومضى طليحة نحو مكة فقضى عمرته ، ثم أتى عمر إلى البيعة حين استخلف ، فقال له عمر : أنت قاتل عكاشة وثابت ! والله لا أحبك أبداً . فقال : يا أمير المؤمنين ، ماتهم من رجلين أكرمهما الله بيدي ، ولم يهنى بأيديهما ! فبايعه عمر ثم قال له : يا خدع ، ما بقي من كهانتك ؟ قال : نفخة أو نفختان بالكير . ثم رجع إلى دار قومه ؛ فأقام بها حتى خرج إلى العراق .
ذكر ردة هوازن وسليم وعامر حدثنا السري ، عن شعيب ، عن سيف ، عن سهل وعبد الله ، قالا : أما بنو عامر فإنهم قدموا رجلا وأخروا أخرى ، ونظروا ما تصنع أسد وغطفان ؛ فلما أحيط بهم وبنو عامر على قادتهم وسادتهم ، كان قرة بن هبيرة في كعب ومن لافها ، وعلقمة بن علاثة في كلاب ومن لافها ؛ وقد كان علقمة أسلم ثم ارتد في أزمان النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم خرج بعد فتح الطائف حتى لحق بالشأم ؛ فلما توفي النبي صلى الله عليه وسلم أقبل مسرعاً حتى عسكر في بني كعب ، مقدماً رجلاً ومؤخراً أخرى ؛ وبلغ ذلك أبا بكر ، فبعث إليه سرية ، وأمر عليها القعقاع بن عمرو ، وقال : يا قعقاع ، سر حتى تغير على علقمة بن علاثة ، لعلك أن تأخذه لي أو تقتله ؛ واعلم أن شفاء الشق الحوص ، فاصنع ما عندك . فخرج في تلك السرية ؛ حتى أغار على الماء الذي عليه علقمة ؛ وكان لا يبرح أن يكون على رجل ؛ فسابقهم على فرسه ؛ فسبقهم مراكضة ، وأسلم أهله وولده ، فانتسف امرأته وبناته ونساءه ، ومن أقام من الرجال ؛ فاتقوه بالإسلام ، فقدم بهم على أبي بكر ، فجحد ولده وزوجته أن يكونوا مالئوا علقمة ، وكانوا مقيمين في الدار ، فلم يبلغه إلا ذلك ، وقالوا : ما ذنبنا فيما صنع علقمة من ذلك ! فأرسلهم ثم أسلم ، فقبل ذلك منه .
حدثنا السري ، عن شعيب ، عن سيف ، عن أبي عمرو وأبي ضمرة ، عن ابن سيرين مثل معانيه .

وأقبلت بنو عامر بعد هزيمة أهل بزاخة يقولون : ندخل فيما خرجنا منه ؛ فبايعهم على ما بايع عليه أهل البزاخة من أسد وغطفان وطيئ قبلهم ، وأعطوه بأيديهم على الإسلام ، ولم يقبل من أحد من أسد ولا غطفان ولا هوازن ولا سليم ولا طيئ إلا أن يأتوه بالذين حرقوا ومثلوا وعدوا على أهل الإسلام في حال ردتهم . فأتوه بهم ، فقبل منهم إلا قرة بن هبيرة ونفراً معه أوثقهم ، ومثل بالذين عدوا على الإسلام ؛ فأحرقهم بالنيران ورضخهم بالحجارة ، ورمى بهم من الجبال ، ونكسهم في الآبار ، وخزق بالنبال . وبعث بقرة وبالأسارى ، وكتب إلى أبي بكر : إن بني عامر أقبلت بعد إعراض ، ودخلت في الإسلام بعد تربص ؛ وإنى لم أقبل من أحد قاتلني أو سالمني شيئاً حتى يجيئوني بمن عدا على المسلمين ؛ فقتلتهم كل قتلة ، وبعثت إليك بقرة وأصحابه .
حدثنا السري ، قال : حدثنا شعيب ، عن سيف ، عن أبي عمرو ، عن نافع ، قال : كتب أبو بكر إلى خالد : ليزدك ما أنعم الله به عليك خيراً ، واتق الله في أمرك ؛ فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون جد في أمر الله ولا تبنين ،
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://arabelalekat.yoo7.com
الشيخ عودة
الشيخ عودة
الشيخ عودة



عدد المساهمات : 1748
تاريخ التسجيل : 28/09/2008
العمر : 73

كتاب : تاريخ الرسل والملوك المؤلف : الطبري - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: كتاب : تاريخ الرسل والملوك المؤلف : الطبري   كتاب : تاريخ الرسل والملوك المؤلف : الطبري - صفحة 2 Emptyالسبت ديسمبر 14, 2013 10:46 am

فتشاغلت في تلك الحال عوف والأبناء بالبطون ؛ والرباب بمقاعس ، وتشاغلت خضم بما لك وبهدى بيربوع ؛ وعلى خضم سبرة بن همرو ، وذلك الذي حلفه عن صفوان والحصين بن نيار على بهدي ، والرباب ؛ عبد الله بن صفوان على ضبة ، وعصمة بن أبير على عبد مناة ، وعلى عوف والأبناء عوف بن البلاد ابن خالد من بني غنم الجشمي ، وعلى البطون سعر بن خفاف ؛ وقد كان ثمامة ابن أثال تأتيه أمداد من بني تميم ؛ فلما حدث هذا الحدث فيما بينهم تراجعوا إلى عشائرهم ، فأضر ذلك بثمامة بن أثال حتى قدم عليه عكرمة وأنهضه ؛ فلم يصنع شيئاً ؛ فبينا الناس في بلاد تميم على ذلك ، قد شغل بعضهم بعضاً ؛ فمسلمهم بإزاء من قدم رجلا وأخر أخرى وتربص ، وبإزاء من ارتاب ، فجئتهم سجاح بنت الحارث قد أقبلت من الجزيرة ، وكانت ورهطها في بني تغلب تقود أفناء ربيعة ، معها الهذيل بن عمران في بني تغلب ، وعقة ابن هلال في النمر ، وتاد بن فلان في إياد ، والسليل بن قيس في شيبان ، فأتاهم أمر دهي ، هو أعظم مما فيه الناس ، لهجوم سجاح عليهم ، ولما هم فيه من اختلاف الكلمة ، والتشاغل بما بينهم . وقال غفيف بن المنذر في ذلك :
ألم يأتيك والأنباء تسرى ... بما لاقت سراة بني تميم
تداعى من سراتهم رجال ... وكانوا في الذوائب والصميم
وألجوهم وكان لهم جناب ... إلى أحياء خالية وخيم
وكانت سجاح بنت الحارث بن سويد بن عقفان - هي وبنو أبيها عقفان - في بني تغلب ، فتنبت بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجزيرة في بني تغلب ، فاستجاب لها الهذيل ، وترك التنصر ؛ وهؤلاء الرؤساء الذين أقبلوا معها لتغزو بهم أبا بكر . فلما انتهت إلى الحزن راسلت مالك بن نويرة ودعته إلى الموادعة ، فأجابها ، وفثأها عن غزوها ، وحملها على أحياء من بني تميم ، قال : نعم ، فشأنك بمن رأيت ، فإني إنما أنا امرأة من بني يربوع ، وإن كان ملك فالملك ملككم . فأرسلت إلى بني مالك بن حنظلة تدعوهم إلى الموادعة ، فخرج عطارد بن حاجب وسروات بني مالك حتى نزلوا في بني العنبر على سبرة بن عمرو هراباً قد كرهوا ما صنع وكيع ، وخرج أشباههم من بني يربوع ؛ حتى نزلوا على الحصين بن نيار في بني مازن ، وقد كرهوا ما صنع مالك ؛ فلما جاءت رسلها إلى بني مالك تطلب الموادعة ، أجابها إلى ذلك وكيع ، فاجتمع وكيع ومالك وسجاح ، وقد وادع بعضهم بعضاً ، واجتمعوا على قتال النس وقالوا : بمن نبدأ ؟ بخضم ، أم ببهدى ، أم بعوف والأبناء ، أم بالرباب ؟ وكفوا عن قيس لما رأوا من تردده وطمعوا فيه ، فقالت : ((أعدوا الركاب ، واستعدوا للنهاب ؛ ثم أغيروا على الرباب ، فليس دونهم حجاب)) .
قال : وصمدت سجاح للأحفار حتى تنزل بها ، وقالت لهم : إن الدهناء حجاز بني تميم ؛ ولن تعدو الرباب ؛ إذا شدها المصاب ، أن تلوذ بالدجاني والدهاني ؛ فلينزلها بعضكم . فتوجه الجفول - يعني مالك بن نويرة - إلى الدجاني فنزلها ؛ وسمعت بهذا الرباب فاجتمعوا لها ؛ ضبتها وعبد مناتها ، فولى وكيع وبشر بني بكر من بني ضبة ، وولى ثعلبة بن سعد بن ضبة عقة ، وولى عبد مناة الهذيل . فالتقى وكيع وبشر وبنو بكر من بني ضبة ، فهزما ، وأسر سماعة ووكيع وقعقاع ، وقتلت قتلى كثيرة ؛ فقال في ذلك قيس بن عاصم ؛ وذلك أول ما استبان فيه الندم :
كأنك لم تشهد سماعة إذ غزا ... وما سر قعقاع وخاب وكيع
رأيتك قد صاحبت ضبة كارهاً ... على ندب في الصفحتين وجيع
ومطلق أسرى كان حمقاً مسيرها ... إلى صخرات أمرهن جميع
فصرفت سجاح والهذيل وعقة بني بكر ، للموادعة التي بينها وبين وكيع - وكان عقة خال بشر - وقالت : اقتلوا الرباب ويصالحونكم ويطلقون أسراكم ، وتحملون لهم دماءهم ؛ وتحمد غب رأيهم أخراهم . فأطلقت لهم ضبة الأسرى ؛ وودوا القتلى ، وخرجوا عنهم . فقال في ذلك قيس يعيرهم صلح ضبة ، إسعاداً لضبة وتأنيباً لهم . ولم يدخل في أمر سجاح عمري ولا سعدى ولا ربي ؛ ولم يطمعوا من جميع هؤلاء إلا في قيس ؛ حتى بدا منه إسعاد ضبة ؛ وظهر منه الندم . ولم يمالئهم من حنظلة إلا وكيع ومالك ؛ فكانت ممالأتهما موادعة على أن ينصر بعضهم بعضا ، ويحتاز بعضهم إلى بعضهم ؛ وقال أصم التيمي في ذلك :

أتتنا أخت تغلب فاستهدت ... جلائب من سراة بني أبينا
وأرست دعوة فينا سفاهاً ... وكانت من عمائر آخرينا
فما كنا لنرزيهم زبالاً ... وما كانت لتسلم إذ أتينا
ألا سفهت حلومكم وضلت ... عشية تحشدون لها ثبينا
قال : ثم إن سجاح خرجت في جنود الجزيرة ، حتى بلغت النباح ؛ فأغار عليهم أوس بن خزيمة الهجيمي فيمن تأشب إليه من بني عمرو ، فأسر الهذيل ؛ أسره رجل من بني مازن ثم أحد بني وبر ، يدعى ناشرة . وأسر عقة ؛ أسره عبدة الهجيمي ؛ وتحاجزوا على أن يترادوا الأسرى ، وينصرفوا عنهم ، ولا يجتازوا عليهم ؛ ففعلوا ، فردوها وتوثقوا عليها وعليهما ؛ أن يرجعوا عنهم ، ولا يتخذوهم طريقاً إلا من ورائهم . فوفوا لهم ؛ ولم يزل في نفس الهذيل على المازني ؛ حتى إذا قتل عثمان بن عفان ، جمع جمعاً فأغار على سفار ، وعليه بنو مازن ؛ فقتلته بنو مازن ورموا به في سفار .
ولما رجع الهذيل وعقة إليها واجتمع رؤساء أهل الجزيرة قالوا لها : ما تأمريننا ؟ فقد صالح مالك ووكيع قومهما ؛ فلا ينصروننا ولا يزيدوننا على أن نجوز في أرضهم ، وقد عاهدنا هؤلاء القوم . فقالت : اليمامة ؛ فقالوا : إن شوكة أهل اليمامة شديدة ؛ وقد غلظ أمر مسيلمة ؛ فقالت : ((عليكم باليمامة ؛ ودفوا دفيف الحمامة ؛ فإنها غزوة صرامة ؛ لا يلحقكم بعدها ملامة)) . فنهدت لبنى حنيفة ؛ وبلغ ذلك مسيلمة فهابها ؛ وخاف إن هو شغل بها أن يغلبه ثمامة على حجر أو شرحبيل بن حسنة ، أو القبائل التي حولهم ، فأهدى لها ؛ ثم أرسل إليها يستأمنها على نفسه حتى يأتيها . فنزلت الجنود على الأمواه ، وأذنت له وآمنته ؛ فجاءها وافداً في أربعين من بني حنيفة - وكانت راسخة في النصرانية ، قد علمت من علم نصاري تغلب - فقال مسيلمة : لنا نصف الأرض ؛ وكان لقريش نصفها لو عدلت ؛ وقد رد الله عليك النصف الذي ردت قريش ؛ فحباك به ، وكان لها لو قبلت . فقالت : ((لا يرد النصف إلا من حنف ، فاحمل النصف إلى خيل تراها كالسهف )) . فقال مسيلمة : ((سمع الله لمن سمع ، وأطمعه بالخير إذا طمع ؛ ولا زال أمره في كل ما سر نفسه يجتمع . رآكم ربكم فحياكم ، ومن وحشة خلاكم ؛ ويوم دينه أنجاكم . فأحياكم علينا من صلوات معشر أبرار ، لا أشقياء ولا فجار ، يقومون الليل ويصومون النهار ، لربكم الكبار ، رب الغيوم والأمطار)) .
وقال أيضاً : ((لما رأيت وجوههم حسنت ، وأبشارهم صفت ، وأيديهم طفلت ؛ قلت لهم : لا النساء تأتون ، ولا الخمر تشربون ؛ ولكنكم معشر أبرار ، تصومون يوماً ، وتكلفون يوماً ؛ فسبحان الله ! إذا جاءت الحياة كيف تحيون ، وإلى ملك السماء ترقون ! فلو أنها حبة خردلة ؛ لقام عليها شهيد يعلم ما في الصدور ، ولأكثر الناس فيها الثبور)) .
وكان مما شرع لهم مسيلمة أن من أصاب ولداً واحدا عقباً لا يأتي امرأة إلى أن يموت ذلك الابن فيطلب الولد ؛ حتى يصيب ابنا ثم يمسك ؛ فكان قد حرم النساء على من له ولد ذكر .
قال أبو جعفر : وأما غير سيف ومن ذكرنا عنه هذا الخبر ؛ فإنه ذكر أن مسيلمة لما نزلت به سجاح ، أغلق الحصن دونها ، فقالت له سجاح : انزل ، قال : فنحى عنك أصحابك ، ففعلت . فقال مسيلمة : اضربوا لها قبة وجمروها لعلها تذكر الباه ؛ ففعلوا ، فلما دخلت القبة نزل مسيلمة فقال : ليقف ها هنا عشرة ، وها هنا عشرة ؛ ثم دارسها ، فقال : ما أوحى إليك ؟ فقالت : هل تكون النساء يبتدئن ! ولكن أنت قل ما أوحى إليك ؟ قال : ((ألم تر إلى ربك كيف فعل بالحبلى ، أخرج منها نسمة تسعى ، من بين صفاق وحشى )) . قالت : وماذا أيضاً ؟ قال : أوحى إلى : ((أن الله خلق النساء أفراجا ، وجعل الرجال لهن أزواجا ؛ فنولج فيهن قعساً إيلاجا ، ثم نخرجها إذا نشاء إخراجا ، فينتجن لنا سخالا إنتاجاً)) . قالت : أشهد أنك نبي ، قال : هل لك أن أتزوجك فآكل بقومي وقومك العرب ! قالت : نعم ، قال :
ألا قومي إلى النيك ... فقد هيى لك المضجع
وإن شئت ففي البيت ... وإن شئت ففي المخدع
وإن شئت سلقناك ... وإن شئت على أربع
وإن شئت بثلثيه ... وإن شئت به أجمع

قالت : بل به أجمع ، قال بذلك أوحى إلى . فأقامت عنده ثلاثاً ثم انصرفت إلى قومها ، فقالوا : ما عندك ؟ قالت : كان على الحق فاتبعته فتزوجته ، قالوا : فهل أصدقك شيئاً ؟ قالت : لا ، قالوا : ارجعي إليه ، فقبيح بمثلك أن ترجع بغير صداق ! فرجعت ، فلما رآها مسيلمة أغلق الحصن ، وقال : مالك ؟ قالت : أصدقني صداقاً ، قال : من مؤذنك ؟ قالت : شبث بن ربعي الرياحي ، قال : على به ، فجاء فقال : ناد في أصحابك أن مسلمة بن حبيب رسول الله قد وضع عنكم صلاتين مما أتاكم به محمد : صلاة العشاء الآخرة وصلاة الفجر .
قال : وكان من أصحابها الزبرقان بن بدر وعطارد بن حاجب ونظراؤهم .
وذكر الكلبي أن مشيخة بني تميم حدثوه أن عامة بني تميم بالرمل لا يصلونهما - فانصرفت ومعها أصحابها ، فيهم الزبرقان ، وعطارد بن حاجب ، وعمرو بن الأهتم ، وغيلان بن خرشة ، وشبث ابن ربعي ، فقال عطارد بن حاجب :
أمست نبيتنا أنثى نطيف بها ... وأصبحت أنبياء الناس ذكرانا
وقال حكيم بن عياش الأعور الكلبي ، وهو يعير مضر بسجاح ، ويذكر ربيعة :
أتوكم بدين قائم وأتيتم ... بمنتسخ الآيات في مصحف طب
رجع الحديث إلى حديث سيف . فصالحها على أن يحمل إليها النصف من غلات اليمامة ، وأبت إلا السنة المقبلة يسلفها ؛ فباح لها بذلك ؛ وقال : خلفي على السلف من يجمعه لك ، وانصرفي أنت بنصف العام ؛ فرجع فحمل إليها النصف ، فاحتملته وانصرفت به إلى الجزيرة ، وخلفت الهذيل وعقة وزياداً لينجز النصف الباقي ؛ فلم يفجأهم إلا دنو خالد بن الوليد منهم ؛ فارفضوا . فلم تزل سجاح في بني تغلب ؛ حتى نقلهم معاوية عام الجماعة في زمانه ؛ وكان معاوية حين أجمع عليه أهل العراق بعد علي عليه السلام يخرج من الكوفة المستغرب في أمر علي ، وينزل داره المستغرب في أمر نفسه من أهل الشأم وأهل البصرة وأهل الجزيرة ؛ وهم الذين يقال لهم النواقل في الأمصار ؛ فأخرج من الكوفة قعقلع بن عمرو بن مالك إلى إيليا بفلسطين ، فطلب إليه أن ينزل منازل بني أبيه بني عقفان ، وينقلهم إلى بني تميم ، فنقلهم من الجزيرة إلى الكوفة ، وأنزلهم منازل القعقاع وبني أبيه ؛ وجاءت معهم وحسن إسلامها ؛ وخرج الزبرقان والأقرع إلى أبي بكر ، وقالا : اجعل لنا خراج البحرين ونضمن لك ألا يرجع من قومنا أحد ، ففعل وكتب الكتاب . وكان الذي يختلف بينهم طلحة بن عبيد الله وأشهدوا شهوداً منهم عمر . فلما أنى عمر بالكتاب فنظر فيه لم يشهد ، ثم قال : لا والله ولا كرامة ! ثم مزق الكتاب ومحاه ، فغضب طلحة ، فأتى أبا بكر ، فقال : أأنت الأمير أم عمر ؟ فقال : عمر ؛ غير أن الطاعة لي . فسكت .
وشهدا مع خالد المشاهد كلها حتى اليمامة ، ثم مضى الأقرع ومعه شرحبيل إلى دومة .
ذكر البطاح وخبره كتب إلى السري بن يحيى ، عن شعيب ، عن سيف ، عن الصعب بن عطية بن بلال ، قال : لما انصرفت سجاح إلى الجزيرة ، ارعوى مالك بن نويرة ، وندم وتحير في أمره ، وعرف وكيع وسماعة قبح ما أتيا ، فرجعا رجوعاً حسناً ، ولم يتجبرا ، وأخرجا الصدقات فاستقبلا بها خالداً ؛ فقال خالد : ما حملكما على موادعة هؤلاء القوم ؟ فقالا : ثأر كنا نطلبه في بني ضبة ؛ وكانت أيام تشاغل وفرص ، وقال وكيع في ذلك :
فلا تحسبا أني رجعت وأنني ... منعت وقد تحنى إلى الأصابع
ولكنني حاميت عن جل مالك ... ولاحظت حتى أكحلتني الأخادع
فلما أتانا خالد بلوائه ... تخطت إليه بالبطح الودائع
ولم يبق في بلاد بني حنظلة شيء يكره إلا ما كان من مالك بن نويرة ومن تأشب إليه بالبطاح ؛ فهو على حاله متحير شج .

كتب إلى السري ، عن شعيب ، عن سيف ، عن سهل ، عن القاسم وعمرو بن شعيب ، قالا : لما أراد خالد السير خرج من ظفر ، وقد استبرأ أسداً وغطفان وطيئاً وهوازن ؛ فسار يريد البطاح دون الحزن ؛ وعليها مالك بن نويرة ، وقد تردد عليه أمره ، وقد ترددت الأنصار على خالد وتخلفت عنه ، وقالوا : ما هذا بعهد الخليفة إلينا ! إن الخليفة عهد إلينا . فقال خالد : إن يك عهد إليكم هذا فقد عهد إلى أن أمضي ، وأنا الأمير وإلى تنتهي الأخبار . ولو أنه لم يأتني له كتاب ولا أمر ؛ ثم رأيت فرصةً ؛ فكنت إن أعلمته فاتتني لم أعلمه حتى أنتهزها ؛ كذلك لو ابتلينا بأمر ليس منه عهد إلينا فيه لم ندع أن نرى أفضل ما بحضرتنا ، ثم نعمل به . وهذا مالك بن نويرة بحيالنا ، وأنا قاصد إليه ومن معي من المهاجرين والتابعين بإحسان ؛ ولست أكرهكم . ومضى خالد ، وندمت الأنصار ، وتذامروا ، وقالوا : إن أصاب القوم خيراً إنه لخير حرمتموه ، وإن أصابتهم مصيبة ليجتنبنكم الناس . فأجمعوا اللحاق بخالد وجردوا إليه رسولا ؛ فأقام عليهم حتى لحقوا به ؛ ثم سار حتى قدم البطاح فلم يجد به أحداً .
قال أبو جعفر : فيما كتب به إلى السري بن يحيى ، يذكر عن شعيب ابن إبراهيم أنه حدثه عن سيف بن عمر ، عن خزيمة بن شجرة العقفاني ، عن عثمان بن سويد ، عن سويد بن المثعبة الرياحي ؛ قال : قدم خالد ابن الوليد البطاح فلم يجد عليه أحداً ، ووجد مالكاً قد فرقهم في أموالهم ، ونهاهم عن الاجتماع حين تردد عليه أمره ، وقال : يا بني يربوع ؛ إنا قد كنا عصينا أمراءنا إذ دعونا إلى هذا الدين ، وبطأنا الناس عنه فلم نفلح ولم ننجح ، وإني قد نظرت في هذا الأمر ، فوجدت الأمر يتأتى لهم بغير سياسة ، وإذا الأمر لا يسوسه الناس ؛ فإياكم ومناوأة قوم صنع لهم ؛ فتفرقوا إلى دياركم وادخلوا في هذا الأمر . فتفرقوا على ذلك إلى أموالهم ، وخرج مالك حتى رجع إلى منزله . ولما قدم خالد البطاح بث السرايا وأمرهم بداعية الإسلام أن يأتوه بكل من لم يجب ، وإن امتنع أن يقتلوه ؛ وكان مما أوصى به أبو بكر : إذا نزلتم منزلا فأذنوا وأقيموا ؛ فإن أذن القوم وأقاموا فكفوا عنهم ؛ وإن لم يفعلوا فلا شيء إلا الغارة ؛ ثم اقتلوهم كل قتلة ؛ الحرق فما سواه ؛ وإن أجابوكم إلى داعية الإسلام فسائلوهم ؛ فإن أقروا بالزكاة فاقبلوا منهم ؛ وإن أبوها فلا شيء إلا الغارة ولا كلمة . فجاءته الخيل بمالك بن نويرة في نفر معه من نبي ثعلبة بن يربوع ، من عاصم وعبيد وعرين وجعفر ، فاختلفت السرية فيهم ، وفيهم أبو قتادة ؛ فكان فيمن شهد أنهم قد أذنوا وأقاموا وصلوا . فلما اختلفوا فيهم أمر بهم فحبسوا في ليلة باردة لا يقوم لها شيء ؛ وجعلت تزداد برداً ، فأمر خالد منادياً فنادى : ((أدفئوا أسراكم)) ، وكانت في لغة كنانة إذا قالوا : دثروا الرجل فأدفئوه ، دفئه قتله وفي لغة غيرهم : أدفه فاقتله ، فظن القوم - وهي في لغتهم القتل - أنه أراد القتل ، فقتلوهم ، فقتل ضرار بن الأزور مالكاً ، وسمع خالد الواعية ؛ فخرج وقد فرغوا منهم ، فقال : إذا أراد الله أمراً أصابه .
وقد اختلف القوم فيهم ، فقال أبو قتادة : هذا عملك ، فزبره خالد فغضب ومضى ، حتى أتى أبا بكر فغضب عليه أبو بكر ؛ حتى كلمه عمر فيه ، فلم يرض إلا أن يرجع إليه ، فرجع إليه حتى قدم معه المدينة ، وتزوج خالد أم تميم ابنة المنهال ، وتركها لينقضي طهرها ، وكانت العرب تكره النساء في الحرب وتعايره ، وقال عمر لأبي بكر . أن في سيف خالد رهقاً ، فإن لم يكن هذا حقاً حق عليه أن تقيده ؛ وأكثر عليه في ذلك - وكان أبو بكر لا يقيد من عماله ولا وزعته - فقال : هيه يا عمر ! تأول فأخطأ ، فارفع لسانك عن خالد . وودى مالكاً وكتب إلى خالد أن يقدم عليه ، ففعل ، فأخبره خبره فعذره وقبل منه ، وعنفه في التزويج الذي كانت تعيب عليه العرب من ذلك

وكتب إلى السري ، عن شعيب ، عن سيف ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، قال : شهد قوم من السرية أنهم أذنوا وأقاموا وصلوا ، ففعلوا مثل ذلك . وشهد آخرون أنه لم يكن من ذلك شيء ، فقتلوا . وقدم أخوه متمم بن نويرة ينشد أبا بكر دمه ، ويطلب إليه في سبيهم ؛ فكتب له برد السبي ، وألح عليه عمر في خالد أن يعزله ، وقال : إن في سيفه رهقاً . فقال : لا يا عمر ؛ لم أكن لأشيم سيفاً سله الله على الكافرين .
كتب إلى السري ، عن شعيب ، عن سيف ، عن خزيمة ، عن عثمان ، عن سوبد ، قال : كان مالك بن نويرة من أكثر الناس شعراً ؛ وإن أهل العسكر أثفوا برءوسهم القدور ، فما منهم رأس إلا وصلت النار إلى بشرته ما خلا مالكاً ، فإن القدر نضجت وما نضج رأسه من كثرة شعره ، وقى الشعر البشرة حرها أن يبلغ منه ذلك .
وأنشده متمم ؛ وذكر خمصه ؛ وقد كان عمر رآه مقدمه على النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : أكذاك يا متمم كان ! قال : أما ما أعني فنعم .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : حدثنا محمد بن إسحاق ، عن طلحة بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق ؛ أن أبا بكر كان من عهده إلى جيوشه : أن إذا غشيتم داراً من دور الناس فسمعتم فيها أذانا للصلاة ، فأمسكوا عن أهلها حتى تسألوهم ما الذي نقموا ! وإن لم تسمعوا أذاناً ، فشنوا الغارة ، فاقتلوا ، وحرقوا .
وكان ممن شهد لمالك بالإسلام أبو قتادة الحارث بن ربعي أخو بني سلمة ، وقد كان عاهد الله ألا يشهد مع خالد بن الوليد حرباً أبداً بعدها ؛ وكان يحدث أنهم لما غشوا القوم راعوهم تحت الليل ، فأخذ القوم السلاح . قال : فقلنا : إنا المسلمون ، فقالوا : ونحن المسلمون ، قلنا : فما بال السلاح معكم ! قالوا لنا : فما بال السلاح معكم ! قلنا : فإن كنتم كما تقولون فضعوا السلاح ، قال : فوضعوها ؛ ثم صلينا وصلوا . وكان خالد يعتذر في قتله أنه قال له وهو يراجعه : ما إخال صاحبكم إلا وقد كان يقول كذا وكذا . قال : أو ما تعده لك صاحباً ! ثم قدمه فضرب عنقه وأعناق أصحابه ، فلما بلغ قتلهم عمر بن الخطاب ، تكلم فيه عند أبي بكر فأكثر ، وقال : عدو الله عدا على امرئ مسلم فقتله ، ثم نزا على امرأته ! وأقبل خالد بن الوليد قافلا حتى دخل المسجد وعليه قباء له عليه صدأ الحديد ، معتجراً بعمامة له ، قد غرز في عمامته أسهماً ؛ فلما أن دخل المسجد قام إليه عمر فانتزع الأسهم من رأسه فحطمها ، ثم قال : أرئاء ! قتلت امرأ مسلما ، ثم نزوت على امرأته ! والله لأرجمنك بأحجارك - ولا يكلمه خالد بن الوليد ، ولا يظن إلا أن رأى أبي بكر على مثل رأى عمر فيه - حتى دخل على أبي بكر ، فلما أن دخل عليه أخبره الخبر ، واعتذر إليه فعذره أبو بكر ، وتجاوز عنه ما كان في حربه تلك . قال : فخرج خالد حين رضى عنه أبو بكر ، وعمر جالس في المسجد ، فقال : هلم إلى يا بن أم شملة ! قال : فعرف عمر أن أبا بكر قد رضى عنه فلم يكلمه ، ودخل بيته .
وكان الذي قتل مالك بن نويرة عبد بن الأزور الأسدى . وقال ابن الكلبي : الذي قتل مالك بن نويرة ضرار بن الأزور .
ذكر بقية خبر مسيلمة الكذاب وقومه من أهل اليمامة كتب إلى السري ، عن شعيب ، عن سيف ، عن سهل بن يوسف ، عن القاسم بن محمد ، قال : كان أبو بكر حين بعث عكرمة بن أبي جهل إلى مسيلمة وأتبعه شرحبيل عجل عكرمة ، فبادر شرحبيل ليذهب بصوتها فواقعهم ، فنكبوه ، وأقام شرحبيل بالطريق حيث أدركه الخبر ؛ وكتب عكرمة إلى أبي بكر بالذي كان من أمره ، قكتب إليه أبو بكر : يا بن أم عكرمة ، لا أرينك ولا تراني على حالها ! لا ترجع فتوهن الناس ؛ امض على وجهك حتى تساند حذيفة وعرفجة فقاتل معهما أهل عمان ومهرة ، وإن شغلا فامض أنت ، ثم تسير وتسير جندك تستبرئون من مررتم به ؛ حتى تلقوا أنتم والمهاجر بن أبي أمية باليمن وحضرموت .

وكتب إلى شرحبيل يأمره بالمقام حتى يأتيه أمره ، ثم كتب إليه قبل أن يوجه خالداً بأيام إلى اليمامة : إذا قدم عليك خالد ، ثم فرغتم إن شاء الله فالحق بقضاعة ؛ حتى تكون أنت وعمرو بن العاص على من أبى منهم وخالف . فلما قدم خالد على أبي بكر من البطاح رضي أبو بكر عن خالد ، وسمع عذره وقبل منه وصدقه ورضى عنه ، ووجهه إلى مسيلمة وأوعب معه الناس . وعلى الأنصار ثابت بن قيس والبراء بن فلان ، وعلى المهاجرين أبو حذيفة وزيد ، وعلى القبائل ؛ على كل قبيلة رجل . وتعجل خالد حتى قدم على أهل العسكر بالبطاح ، وانتظر البعث الذي ضرب بالمدينة ؛ فلما قدم عليه نهض حتى أتى اليمامة وبنو حنيفة يومئذ كثير .
كتب إلى السري ، عن شعيب ، عن سيف ، عن أبي عمرو بن العلاء ، عن رجال ، قالوا : كان عدد بني حنيفة يومئذ أربعين ألف مقاتل ؛ في قراها وحجرها ، فسار خالد حتى إذا أظل عليهم أسند خيولاً لعقة والهذيل وزياد ؛ وقد كانوا أقاموا على خرج أخرجه لهم مسيلمة ليلحقوا به سجاح . وكتب إلى القبائل من تميم فيهم ؛ فنفروهم حتى أخرجوهم من جزيرة العرب ، وعجل شرحبيل بن حسنة ، وفعل فعل عكرمة ، وبادر خالداً بقتال مسيلمة قبل قدوم خالد عليه ؛ فنكب ، فحاجز ؛ فلما قدم عليه خالد لامه ؛ وإنما أسند خالد تلك الخيول مخافة أن يأتوه من خلفه ؛ وكانوا بأفنية اليمامة .
كتب إلى السري ، عن شعيب ، عن سيف ، عن عبد الله بن سعيد بن ثابت ، عمن حدثه ، عن جابر بن فلان ، قال : وأمد أبو بكر خالداً بسليط ؛ ليكون ردءاً له من أن يأتيه أحد من خلفه ؛ فخرج ؛ فلما دنا من خالد وجد تلك الخيول التي انتابت تلك البلاد قد فرقوا ؛ فهربوا ، وكان منهم قريباً ردءاً لهم ؛ وكان أبو بكر يقول : لا أستعمل أهل بدر ؛ أدعهم حتى يلقوا الله بأحسن أعمالهم ؛ فإن الله يدفع بهم وبالصلحاء من الأمم أكثر وأفضل ، مما ينتصر بهم ؛ وكان عمر بن الخطاب يقول : والله لأشركنهم وليواسننى .
كتب إلى السري ، عن شعيب ، عن سيف ، عن طلحة بن الأعلم ، عن عبيد بن عمير ، عن أثال الحنفي - وكان مع ثمامة بن أثال - قال : وكان مسيلمة يصانع كل أحد ويتألفه ولا يبالي أن يطلع الناس منه على قبيح ؛ وكان معه نهار الرجال بن عنفوة ، وكان قد هاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم ؛ وقرأ القرآن ؛ وفقه في الدين ، فبعثه معلماً لأهل اليمامة وليشغب على مسيلمة ، وليشدد من أمر المسلمين ؛ فكان أعظم فتنة على بني حنيفة من مسيلمة ؛ شهد له أنه سمع محمداً صلى الله عليه وسلم يقول : إنه قد أشرك معه ؛ فصدقوه واستجابوا له ، وأمروه بمكاتبة النبي صلى الله عليه وسلم ، ووعدوه إن هو لم يقبل أن يعينوه عليه ؛ فكان نهار الرجال بن عنفوة لا يقول شيئاً إلا تابعه عليه ؛ وكان ينتهى إلى أمره ، وكان يؤذن للنبي صلى الله عليه وسلم ، ويشهد في الأذان أن محمداً رسول الله ؛ وكان الذي يؤذن له عبد الله بن النواحة ، وكان الذي يقيم له حجير بن عمير ، ويشهد له ، وكان مسيلمة إذا دنا حجير من الشهادة ، قال : صرح حجير ؛ فيزيد في صوته ، ويبالغ لتصديق نفسه ، وتصديق نهار وتضليل من كان قد أسلم ؛ فعظم وقاره في أنفسهم .
قال : وضرب حرماً باليمامة ، فنهى عنه ؛ وأخذ الناس به ، فكان محرما فوقع في ذلك الحرم قرى الأحاليف ؛ أفخاذ من بني أسيد ، كانت دراهم باليمامة ؛ فصار مكان دراهم في الحرم - والأحاليف : سيحان المارة ونمر والحارث بنو جرة - فإن أخصبا أغاروا على ثمار أهل اليمامة ، واتخذوا الحرم دغلا ، فإن نذروا بهم فدخلوه أحجموا عنهم ؛ وإن لم ينذروا بهم فذلك ما يريدون . فكثر ذلك منهم حتى استعدوا عليهم ؛ فقال : أنتظر الذي يأتي من السماء فيكم وفيهم . ثم قال لهم : ((والليل الأطحم ، والذئب الأدلم . والجذع الأزلم ، ما انتهكت أسيد من محرم)) ؛ فقالوا : أما محرم استحلال الحرم وفساد الأموال ! ثم عادوا للغارة ، وعادوا للعدوى فقال : أنتظر الذي يأتينى ، فقال : ((والليل الدامس ، والذئب الهامس ، ما قطعت أسيد من رطب ولا يابس)) ؛ فقالوا : أما النخيل مرطبة فقد جدوها ، وأما الجدران يابسة فقد هدموها ؛ فقال : اذهبوا وارجعوا فلا حق لكم .

وكان فيما يقرأ لهم فيهم : ((إن بني تميم قوم طهر لقاح ، لا مكروه عليهم ولا إتاوة ، نجاورهم ما حيينا بإحسان ، نمنعهم من كل إنسان ؛ فإذا متنا فأمرهم إلى الرحمن)) .
وكان يقول " ((والشاء وألوانها ، وأعجبها السود وألبانها . والشاة السوداء واللبن الأبيض ، إنه لعجب محض ، وقد حرم المذق ، فما لكم لا تمجعون !)) .
وكان يقول : ((يا ضفدع ابنة ضفدع ، نقى ما تنقين ، أعلاك في الماء وأسفلك في الطين ، لا الشارب تمنعين ، ولا الماء تكدرين)) .
وكان يقول : ((والمبذرات زرعا ، والحاصدات حصداً ، والذاريات قمحاً ، والطاحنات طحناً ، والخابزات خبزاً ، والثاردات ثرداً ؛ واللاقمات لقماً ، إهالة وسمناً ، لقد فضلتم على أهل الوبر ، وما سبقكم أهل المدر ؛ ريفكم فامنعوه ، والمعتر فآووه ، والباغى فناوئوه)) .
قال : وأتته امرأة من بني حنيفة تكنى بأم الهيثم فقالت : إن نخلنا لسحق وإن آبارنا لجرز ؛ فادع الله لمائنا ولنخلنا كما دعا محمد لأهل هزمان)) . فقال : يا نهار ما تقول هذه ؟ فقال : إن أهل هزمان أتوا محمداً صلى الله عليه وسلم فشكوا بعد مائهم ؛ - وكانت آبارهم جرزاً - ونخلهم أنها سحق ، فدعا لهم فجاشت آبارهم ، وانحنت كل نخلة قد انتهت حتى وضعت جرانها لانتهائها ، فحكت به الأرض حتى أنشبت عروقاً ثم قطعت من دون ذلك ، فعادت فسيلا مكمماً ينمى صاعداً . قال : وكيف صنع بالأبار ؟ قال : دعا بسجل ، فدعا لهم فيه ثم تمضمض بفمه منه ، ثم مجه فيه ، فانطلقوا به حتى فرغوه في تلك الآبار ، ثم سقوه نخلهم ، ففعل النبي ما حدثتك ، وبقي الآخر إلى انتهائه . فدعا مسيلمة بدلو من ماء فدعا لهم فيه ، ثم تمضمض منه ، ثم مج فيه فنقلوه فأفرغوه في آبارهم . فغارت مياه تلك الآبار ، وخوى نخلهم ؛ وإنما استبان ذلك بعد مهلكه .
وقال له نهار : برك على مولودى بني حنيفة ، فقال له : وما التبريك ؟ قال : كان أهل الحجاز إذا ولد فيهم المولود أتوا به محمداً صلى الله عليه وسلم فحنكه ومسح رأسه ؛ فلم يؤت مسيلمة بصبى فحنكه ومسح رأسه إلا قرع ولثغ واستبان ذلك بعد مهلكه .
وقالوا : تتبع حيطانهم كما كان محمد صلى الله عليه وسلم يصنع فصل فيها . فدخل حائطاً من حوائط اليمامة ، فتوضأ ، فقال نهار لصاحب الحائط : ما يمنعك من وضوء الرحمن فتسقى به حائطك حتى يروى ويبتل ، كما صنع بنو المهرية ، أهل بيت من بني حنيفة - وكان رجل من المهرية قدم على النبي صلى الله عليه وسلم فأخذ وضوءه فنقله معه إلى اليمامة فأفرغه في بئره ، ثم نزع وسقى ، وكانت أرضه تهوم فرويت وجزأت فلم تلف إلا خضراء مهتزة - ففعل فعادت يباباً لا ينبت مرعاها .
وأتاه رجل فقال : ادع الله لأرضى فإنها مسبخة ؛ كما دعا محمد صلى الله عليه وسلم لسلمى على أرضه . فقال : ما يقول يا نهار ؟ فقال : قدم عليه سلمى ، وكانت أرضه سبخة فدعا له ، وأعطاه سجلا من ماء ومج له فيه ، فأفرغه في بئره ، ثم نزع ، فطابت وعذبت ؛ ففعل مثل ذلك فانطلق الرجل ، ففعل بالسجل كما فعل سلمى ، فغرقت أرضه ، فما جف ثراها ، ولا أدرك ثمرها .
وأتته امرأة فاستجلبته إلى نخل لها يدعو لها فيها ، فجزت كبائسها يوم عقرباء كلها ؛ وكانوا قد علموا واستبان لهم ؛ ولكن الشقاء غلب عليهم .
كتب إلى السري ، قال : حدثنا شعيب ، عن سيف ، عن خليد بن ذفرة النمرى ، عن عمير بن طلحة النمرى ، عن أبيه ، أنه جاء اليمامة ، فقال : أين مسيلمة ؟ قالوا : مه رسول الله ! فقال : لا ، حتى أراه ؛ فلما جاءه ، قال : أنت مسيلمة ؟ قال : نعم ، قال : من يأتيك ؟ قال : رحمن ، قال : أفى نور أو في ظلمة ؟ فقال : في ظلمة ، فقال : أشهد أنك كذاب وأن محمداً صادق ؛ ولكن كذاب ربيعة أحب إلينا من صادق مضر ، فقتل معه يوم عقرباء .
كتب إلى السرى ، عن شعيب ، عن سيف ، عن الكلبى مثله ؛ إلا أنه قال : كذاب ربيعة أحب إلى من كذاب مضر .

وكتب إلى السرى ، عن شعيب ، عن سيف ، عن طلحة بن الأعلم ، عن عبيد بن عمير ، عن رجل منهم ، قال : لما بلغ مسيلمة دنو خالد ، ضرب عسكره بعقرباء ، واستنفر الناس ، فجعل الناس يخرجون إليه ، وخرج مجاعة بن مرارة في سرية يطلب ثأراً له في بني عامر وبني تميم قد خاف فواته ، وبادر به الشغل ، فأما ثأره في بني عامر فكانت خولة ابنة جعفر فيهم ، فمنعوه منها ، فاختلجها ؛ وأما ثأره في بني تميم فنعم أخذوا له . واستقبل خالد شرحبيل بن حسنة ، فقدمه وأمر على المقدمة خالد بن فلان المخزومى ، وجعل على المجنبتين زيداً وأبا حذيفة ، وجعل مسيلمة على مجنبتيه المحكم والرجال ، فسار خالد ومعه شرحبيل ، حتى إذا كان من عسكر مسيلمة على ليلة ، هجم على جبيلة هجوم - المقلل يقول : أربعين ، والمكثر يقول : ستين - فإذا هو مجاعة وأصحابه ، وقد غلبهم الكرى ، وكانوا راجعين من بلاد بني عامر ، قد طووا إليهم ؛ واستخرجوا خولة ابنة جعفر فهى معهم ، فعرسوا دون أصل الثنية ؛ ثنية اليمامة ، فوجدوهم نياماً وأرسان خيولهم بأيديهم تحت خدودهم وهم لا يشعرون بقرب الجيش منهم ؛ فأنبهوهم ، وقالوا : من أنتم ؟ قالوا : هذا مجاعة وهذه حنيفة ، قالوا : وأنتم فلا حياكم الله ! فأوثقوهم وأقاموا إلى أن جاءهم خالد بن الوليد ، فأتوه بهم ؛ فظن خالد أنهم جاءوه ليستقبلوه وليتقوه بحاجته ، فقال : متى سمعتم بنا ؟ قالوا : ما شعرنا بك ؛ إنما خرجنا لئأر لنا فيمن حولنا من بني عامر وتميم ، ولو فطنوا لقالوا : تلقيناك حين سمعنا بك . فأمر بهم أن يقتلوا ، فجادوا كلهم بأنفسهم دون مجاعة بن مرارة ، وقالوا : إن كنت تريد بأهل اليمامة غداً خيراً أو شراً فاستبق هذا ولا تقتله ؛ فقتلهم خالد وحبس مجاعة عنده كالرهينة .
كتب إلى السري ، قال : حدثنا شعيب ، عن سيف ، عن طلحة ، عن عكرمة ، عن أبي هريرة ، وعبد الله بن سعيد عن أبي سعيد عن أبي هريرة ، قال : قد كان أبو بكر بعث إلى الرجال فأتاه فأوصاه بوصيته ، ثم أرسله إلى أهل اليمامة ؛ وهو يرى أنه على الصدق حين أجابه . قالا : قال أبو هريرة : جلست مع النبي صلى الله عليه وسلم في رهط معنا الرجال ابن عنفوة ، فقال : إن فيكم لرجلاً ضرسه في النار أعظم من أحد ، فهلك القوم وبقيت أنا والرجال ، فكنت متخوفاً لها ؛ حتى خرج الرجال مع مسيلمة ، فشهد له بالنبوة ؛فكانت فتنة الرجال أعظم من فتنة مسيلمة ، فبعث إليهم أبو بكر خالداً ، فسار حتى إذا بلغ ثنية اليمامة ، استقبل مجاعة ابن مرارة - وكان سيد بني حنيفة - في جبل من قومه ، يريد الغارة على بني عامر ، ويطلب دماً ، وهم ثلاثة وعشرون فارساً ركباناً قد عرسوا . فبيتهم خالد في معرسهم ، فقال : متى سمعتم بنا ؟ فقالوا : ما سمعنا بكم ؛ إنما خرجنا لنثئر بدم لنا في بني عامر . فأمر بهم خالد فضربت أعناقهم ، واستحيا مجاعة ؛ ثم سار إلى اليمامة ؛ فخرج مسيلمة وبنو حنيفة حين سمعوا بخالد ، فنزلوا بعقرباء ، فحل بها عليهم - وهي طرف اليمامة دون الأموال - وريف اليمامة وراء ظهورهم . وقال شرحبيل بن مسيلمة : يا بنى حنيفة ، اليوم يوم الغيرة ، اليوم إن هزمتم تستردف النساء سبيات ، وينكحن غير خطيبات ؛ فقاتلوا عن أحسابكم ، وامنعوا نساءكم . فاقتتلوا بعقرباء ، وكانت راية المهاجرين مع سالم مولى أبي حذيفة ، فقالوا : تخشى علينا من نفسك شيئاً ! فقال : بئس حامل القرآن أنا إذاً ! وكانت راية الأنصار مع ثابت بن قيس بن شماس ، وكانت العرب على راياتها ومجاعة أسير مع أم تميم في فسطاطها . فجال المسلمون جولة ، ودخل أناس من بني حنيفة على أم تميم ، فأرادوا قتلها ، فمنعها مجاعة . قال : أنا لها جار ، فنعمت الحرة هى ! فدفعهم عنها ، وتراد المسلمون ، فكروا عليهم ؛ فانهزمت بنو حنيفة ، فقال المحكم بن الطفيل : يا بنى حنيفة ، ادخلوا الحديقة ؛ فإنى سأمنع أدباركم ، فقاتل دونهم ساعة ثم قتله الله ؛ قتله عبد الرحمن بن أبي بكر ؛ ودخل الكفار الحديقة ، وقتل وحشي مسيلمة ، وضربه رجل من الأنصار فشاركه فيه .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة عن محمد بن إسحاق ، بنحو حديث سيف هذا ؛ غير أنه قال : دعا خالد بمجاغة ومن أخذ معه حين أصبح ، فقال : يا بنى حنيفة ، ما تقولون ؟ قالوا : نقول : منا نبي ومنكم نبي ؛ فعرضهم على السيف ؛ حتى إذا بقى منهم رجل يقال له سارية بن عامر ومجاعة بن مرارة ، قال له سارية : أيها الرجل ؛ إن كنت تريد بهذه القرية غداً خيراً أو شراً ، فاستبق هذا الرجل - يعنى مجاعة - فأمر به خالد فأوثقه في الحديد ؛ ثم دفعه إلى أم تميم امرأته ، فقال : استوصى به خيراً ، ثم مضى حتى نزل اليمامة على كثيب مشرف على اليمامة ، فضرب به عسكره ، وخرج أهل اليمامة مع مسيلمة وقد قدم في مقدمته الرحال - قال أبو جعفر ، هكذا قال ابن حميد بالحاء - بن عنفوة بن نهشل ، وكان الرحال رجلاً من بني حنيفة قد كان أسلم ، وقرأ سورة البقرة ، فلما قدم اليمامة شهد لمسيلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كان أشركه في الأمر ؛ فكان أعظم على أهل اليمامة فتنة من مسيلمة ؛ وكان المسلمون يسألون عن الرحال يرجون أنه يثلم على أهل اليمامة أمرهم بإسلامه ، فلقيهم في أوائل الناس متكتباً ، وقد قال خالد بن الوليد وهو جالس على سريره ، وعنده أشراف الناس والناس على مصافهم ؛ وقد رأى بارقة في بنى حنيفة : أبشروا يا معشر المسلمين ؛ فقد كفاكم الله أمر عدوكم . واختلف القوم إن شاء الله ؛ فنظر مجاعة وهو خلفه موثقاً في الحديد ، فقال : كلا والله ، ولكنها الهندوانية خشوا عليها من تحطمها ، فأبرزوها للشمس لتلين لهم ؛ فكان كما قال . فلما التقى المسلمون كان أول من لقيهم الرحال بن عنفوة ، فقتله الله .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن شيخ من بنى حنيفة ، عن أبى هريرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوماً - وأبو هريرة ورحال بن عنفوة في مجلس عنده : ((لضرس أحدكم أيها المجلس في النار يوم القيامة أعظم من أحد)) . قال أبو هريرة : فمضى القوم لسبيلهم ، وبقيت أنا ورحال بن عنفوة ، فما زلت لها متخوفاً ؛ حتى سمعت بمخرج رحال ، فأمنت وعرفت أن ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حق .
ثم التقى الناس ولم يلقهم حرب قط مثلها من حرب العرب ؛ فاقتتل الناس قتالا شديداً ؛ حتى انهزم المسلمون وخلص بنو حنيفة إلى مجاعة وإلى خالد ، فزال خالد عن فسطاطه ودخل أناس الفسطاط وفيه مجاعة عند أم تميم ، فحمل عليها رجل بالسيف ، فقال مجاعة : مه ، أنا لها جار ، فنعمت الحرة ! عليكم بالرجال ، فرعبلوا الفسطاط بالسيوف . ثم إن المسلمين تداعوا ، فقال ثابت بن قيس : بئسما عودتم أنفسكم يا معشر المسلمين ! اللهم إنى أبرأ إليك مما يعبد هؤلاء - يعني أهل اليمامة - وأبرأ إليك مما يصنع هؤلاء - يعنى المسلمين - ثم جالد بسيفه حتى قتل . وقال زيد بن الخطاب حين انكشف الناس عن رحالهم : لا تحوز بعد الرحال ، ثم قاتل حتى قتل . ثم قام البراء بن مالك أخو أنس بن مالك - وكان إذا حضر الحرب أخذته العرواء حتى يقعد عليه الرجال ؛ ثم ينتفض تحتهم حتى يبول في سراويله ؛ فإذا بال يثور كما يثور الأسد - فلما رأى ما صنع الناس أخذه الذي كان يأخذه حتى قعد عليه الرجال ، فلما بال وثب ، فقال : أين يا معشر المسلمين ! أنا البراء بن مالك ، هلم إلى ! وفاءت فئة من الناس ، فقاتلوا القوم حتى قتلهم الله ، وخلصوا إلى محكم اليمامة - وهو محكم بن الطفيل - فقال حين بلغه القتال : يا معشر بنى حنيفة ، الآن والله تستحقب الكرائم غير رضيات ، وينكحن غير خطيبات ؛ فما عندكم من حسب فأخرجوه . فقاتل قتالا شديداً ؛ ورماه عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق بسهم فوضعه في نحره فقتله . ثم زحف المسلمون حتى ألجئوهم إلى الحديقة ؛ حديقة الموت ؛ وفيها عدو الله مسيلمة الكذاب ، فقال البراء : يا معشر المسلمين ، ألقونى عليهم في الحديقة . فقال الناس : لا تفعل يا براء ، فقال : والله لتطرحنى عليهم فيها ؛ فاحتمل حتى فتحها للمسلمين ، ودخل المسلمون عليهم فيها ؛ فاقتتلوا حتى قتل الله مسيلمة عدو الله ؛ واشترك في قتله وحشى مولى جبير بن مطعم ورجل من الأنصار ، كلاهما قد أصابه ؛ أما وحشى فدفع عليه حربته ، وأما الأنصارى فضربه بسيفه ، فكان وحشى يقول : ربك أعلم أينا قتله !

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : وحدثنى محمد بن إسحاق ، عن عبد الله بن الفضل بن العباس بن ربيعة ، عن سليمان بن يسار ، عن عبد الله بن عمر ، قال : سمعت رجلاً يومئذ يصرخ يقول ، قتله العبد الأسود ! كتب إلى السرى ، عن شعيب ، عن سيف ، عن طلحة ، عن عبيد بن عمير ، قال : كان الرجال بحيال زيد بن الخطاب ؛ فلما دنا صفاهما ، قال زيد : يا رجال ، الله الله ! فو الله لقد تركت الدين ، وإن الذي أدعوك إليه لأشرف لك ، وأكثر لدنياك . فأبى ، فاجتلدا فقتل الرجال وأهل البصائر من بني حنيفة في أمر مسيلمة ، فتذامروا وحمل كل قوم في ناحيتهم ؛ فجال المسلمون حتى بلغوا عسكرهم ، ثم أعروه لهم ، فقطعوا أطناب البيوت ، وهتكوها ، وتشاغلوا بالعسكر ، وعالجوا مجاعة ؛ وهموا بأم تميم ، فأجارها ، وقال : نعم أم المثوى ! وتذامر زيد وخالد وأبو حذيفة ، وتكلم الناس - وكان يوم جنوب له غبار - فقال زيد : لا والله لا أتكلم اليوم حتى نهزمهم أو ألقى الله فأكلمه بحجتى ! عضوا على أضراسكم أيها الناس ، واضربوا في عدوكم ، وامضوا قدماً . ففعلوا ، فردوهم إلى مصافهم حتى أعادوهم إلى أبعد من الغاية التي حيزوا إليها من عسكرهم ، وقتل زيد رحمه الله . وتكلم ثابت فقال : يا معشر المسلمين ، أنتم حزب الله وهم أحزاب الشيطان ، والعزة لله ولرسوله ولأحزابه ، أرونى كما أريكم ، ثم جلد فيهم حتى حازهم . وقال أبو حذيفة : يا أهل القرآن ، زينوا القرآن بالفعال . وحمل فحازهم حتى أنفذهم ، واصيب رحمه الله ، وحمل خالد بن الوليد ، وقال لحماته : لا أوتين من خلفى ، حتى كان بحيال مسيلمة يطلب الفرصة ويرقب مسيلمة .
كتب إلى السرى ، عن شعيب ، عن سيف ، عن مبشر بن الفضيل ، عن سالم بن عبد الله ، قال : لما أعطى سالم الراية يومئذ ، قال : ما أعلمنى لأى شئ أعطيتمونيها ! قلتم : صاحب قرآن وسيثبت كما ثبت صاحبها قبله حتى مات ! قالوا : أجل . وقالوا : فانظر كيف تكون ؟ فقال : بئس والله حامل القرآن أنا إن لم أثبت ! وكان صاحب الراية قبله عبد الله بن حفص بن غانم .
وقال عبد الله بن سعيد بن ثابت وابن إسحاق : فلما قال مجاعة لبنى حنيفة : ولكن عليكم بالرجال ، إذا فئة من المسلمين قد تذامروا بينهم فتفانوا وتفانى المسلمون كلهم ، وتكلم رجال من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال زيد بن الخطاب : والله لا أتكلم أو أظفر أو أقتل ، واصنعوا كما أصنع أنا ؛ فحمل وحمل أصحابه . وقال ثابت بن قيس : بئسما عودتم أنفسكم يا معشر المسلمين ! هكذا عنى حتى أريكم الجلاد . وقتل زيد بن الخطاب رحمه الله .
كتب إلى السرى ، قال : حدثنا شعيب ، عن سيف ، عن مبشر ، عن سالم ، قال : قال عمر لعبد الله بن عمر حين رجع : ألا هلكت قبل زيد ! هلك زيد وأنت حي ! فقال : قد حرصت على ذلك أن يكون ، ولكن نفسى تأخرت ، فأكرمه الله بالشهادة . وقال سهل : قال : ما جاء بك وقد هلك زيد ؟ ألا واريت وجهك عنى ! فقال : سأل الله الشهادة فأعطيها ، وجهدت أن تساق إلى فلم أعطها .
كتب إلى السرى ، عن شعيب ، عن سيف ، عن طلحة بن الأعلم ، عن عبيد بن عمير : إن المهاجرين والأنصار جبنوا أهل البوادى وجبنهم أهل البوادى ، فقال بعضهم لبعض : امتازوا كي نستحيا من الفرار اليوم ، ونعرف اليوم من أين نؤتى ! ففعلوا . وقال أهل القرى : نحن أعلم بقتال أهل القرى يا معشر أهل البادية منكم ، فقال لهم أهل البادية : إن أهل القرى لا يحسنون القتال ، ولا يدرون ما الحرب ! فسترون إذا امتزنا من أين يجئ الخلل ! فامتازوا ، فما رئى يوم كان أحد ولا أعظم نكاية مما رئى يومئذ ؛ ولم يدر أى الفريقين كان أشد فيهم نكاية ! إلا أن المصيبة كانت في المهاجرين والأنصار أكثر منها في أهل البادية ، وأن البقية أبداً في الشدة . ورمى عبد الرحمن بن أبى بكر المحكم بسهم فقتله وهو يخطب ، فنحره وقتل زيد بن الخطاب الرجال بن عنفوة .

كتب إلى السرى ، عن شعيب ، عن سيف ، عن الضحاك بن يربوع ، عن أبيه ، عن رجل من بنى سحيم قد شهدها مع خالد ، قال : لما اشتد القتال - وكانت يومئذ سجالا إنما تكون مرة على المسلمين ومرة على الكافرين - فقال خالد : أيها الناس امتازوا لنعلم بلاء كل حى ، ولنعلم من أين نؤتى ! فامتاز أهل القرى والبوادى ، وامتازت القبائل من أهل البادية وأهل الحاضر ؛ فوقف بنو كل أب على رايتهم ، فقاتلوا جميعاً ، فقال أهل البوادى يومئذ : الآن يستحر القتل في الأجزع الأضعف ، فاستحر القتل في أهل القرى ، وثبت مسيلمة ، ودارت رحالهم عليه ، فعرف خالد أنها لا تركد إلا بقتل مسيلمة ؛ ولم تحفل بنو حنيفة بقتل من قتل منهم . ثم برز خالد ، حتى إذا كان أمام الصف دعا إلى البراز وانتمى ، وقال : أنا ابن الوليد العود ، أنا ابن عامر وزيد ! ونادى بشعارهم يومئذ ، وكان شعارهم يومئذ : يا محمداه ! فجعل لا يبرز له أحد إلا قتله ، وهو يرتجز :
أنا ابن أشياخ وسيفى السخت ... أعظم شئ حين يأتيك النغت
ولا يبرز له شئ إلا أكله ، ودارت رحا المسلمى وطحنت . ثم نادى خالد حين دنا من مسيلمة - وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن مع مسيلمة شيطاناً لا يعصيه ، فإذا اعتراه أزبد كأن شدقيه زبيبتان لايهم بخير أبداً إلا صرفه عنه ، فإذا رأيتم منه عورة ؛ فلا تقيلوه العثرة - فلما دنا خالد منه طلب تلك ، ورآه ثابتاً ورحاهم تدور عليه ؛ وعرف أنها لا تزول إلا بزواله ، فدعا مسيلمة طلباً لعورته ، فأجابه ، فعرض عليه أشياء مما يشتهى مسيلمة ، وقال : إن قبلنا النصف ، فأى الأنصاف تعطينا ؟ فكان إذا هم بجوابه أعرض بوجهه مستشيراً ، فينهاه شيطانه أن يقبل ، فأعرض بوجهه مرة من ذلك ؛ وركبه خالد فأرهقه فأدبر ، وزالوا فذمر خالد الناس ، وقال : دونكم لا تقيلوهم ! وركبوهم فكانت هزيمتهم ؛ فقال مسيلمة حين قام ، وقد تطاير الناس عنه ، وقال قائلون : فأين ما كنت تعدنا ؟ فقال : قاتلوا عن أحسابكم ، قال : ونادى المحكم : يا بنى حنيفة ؛ الحديقة الحديقة ! ويأتى وحشى على مسيلمة وهو مزبد متساند لا يعقل من الغيظ ، فخرط عليه حربته فقتله ، واقتحم الناس عليهم حديقة الموت من حيطانها وأبوابها ، فقتل في المعركة ، وحديقة الموت عشرة آلاف مقاتل .
كتب إلى السرى ، عن شعيب ، عن سيف ، عن هارون ، وطلحة ، عن عمرو بن شعيب وابن إسحاق أنهم لما امتازوا وصبروا ، وانحازت بنو حنيفة تبعهم المسلمون يقتلونهم ؛ حتى بلغوا بهم إلى حديقة الموت ، فاختلفوا في قتل مسيلمة عندها ، فقال قائلون : فيها قتل ، فدخلوها وأغلقوها عليهم ، وأحاط المسلمون بهم وصرخ البراء بن مالك ، فقال : يا معشر المسلمين ، احملونى على الجدار حتى تطرحونى عليه ؛ ففعلوا حتى إذا وضعوه على الجدار نظر وأرعد فنادى : أنزلونى ، ثم قال : احملونى ؛ ففعل ذلك مراراً ثم قال : أف لهذا خشعا ! ثم قال : احملونى ، فلما وضعوه على الحائط اقتحم عليهم ، فقاتلهم على الباب حتى فتحه للمسلمين وهم على الباب من خارج فدخلوا ؛ فأغلق الباب عليهم ، ثم رمى بالمفتاح من وراء الجدار ، فاقتتلوا قتالا شديداً لم يروا مثله ، وأبير من في الحديقة منهم ؛ وقد قتل الله مسيلمة ، وقالت له بنو حنيفة : أين ما كنت تعدنا ! قال : قاتلوا عن أحسابكم ! كتب إلى السرى ، عن شعيب ، عن سيف ، عن هاوون وطلحة وابن إسحاق ، قالوا : لما صرخ الصارخ أن العبد الأسود قتل مسيلمة ؛ خرج خالد بمجاعة يرسف في الحديد ليريه مسيلمة ، وأعلام جنده ، فأتى على الرجال فقال : هذا الرجال !
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://arabelalekat.yoo7.com
الشيخ عودة
الشيخ عودة
الشيخ عودة



عدد المساهمات : 1748
تاريخ التسجيل : 28/09/2008
العمر : 73

كتاب : تاريخ الرسل والملوك المؤلف : الطبري - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: كتاب : تاريخ الرسل والملوك المؤلف : الطبري   كتاب : تاريخ الرسل والملوك المؤلف : الطبري - صفحة 2 Emptyالسبت ديسمبر 14, 2013 10:50 am

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : لما فرغ المسلمون من مسيلمة أتى خالد فأخبر ، فخرج بمجاعة يرسف معه في الحديد ليدله على مسيلمة ، فجعل يكشف له القتلى حتى مر بمحكم بن الطفيل - وكان رجلا جسيماً وسيماً - فلما رآه خالد ، قال : هذا صاحبكم . قال : لا ، هذا والله خير منه وأكرم ، هذا محكم اليمامة . قال : ثم مضى خالد يكشف له القتلى حتى دخل الحديقة ، فقلب له القتلى ؛ فإذا رويجل أصيفر أخينس . فقال مجاعة : هذا صاحبكم ، قد فرغتم منه ، فقال خالد لمجاعة : هذا صاحبكم الذي فعل بكم ما فعل ، قال : قد كان ذلك يا خالد ، وإنه والله ما جاءك إلا سرعان الناس ؛ وإن جماهير الناس لفى الحصون . فقال : ويلك ما تقول ! قال : هو والله الحق ؛ فهل لأصالحك على قومي .
كتب إلى أسرى ، عن تشعيب ، عن سيف ، عن الضحاك ، عن أبيه ، قال : كان رجل من بنى عامر بن حنيفة يدعى الأغلب بن عامر بن حنيفة ، وكان أغلظ أهل زمانه عنقاً ؛ فلما انهزم المشركون يومئذ ، وأحاط المسلمون بهم ، تماوت ، فلما أثبت المسلمون في القتلى أتى رجل من الأنصار يكنى أبا بصيرة ومعه نفر عليه ، فلما رأوه مخضلا في القتلى وهم يحسبونه قتيلا ، قالوا : يا أبا بصيرة ، إنك تزعم - ولم تزل تزعم - أن سيفك قاطع ، فاضرب عنق هذا الأغلب الميت ، فإن قطعته فكل شئ كان يبلغنا حق ، فاختره ثم مشى إليه ولا يرونه إلا ميتاً ، فلما دنا منه ثار ، فحاضر ، واتبعه أبو بصيرة ، وجعل يقول : أنا أبو بصيرة الأنصاري ! وجعل الأغلب يتمطر ولا يزداد منه إلا بعداً ؛ فكلما قال ذلك أبو بصيرة ، قال الأغلب : كيف ترى عدو أخيك الكافر ! حتى أفلت .
كتب إلى السرى ، عن شعيب ، عن سيف ، عن سهل بن يوسف ، عن القاسم بن محمد ، قال : لما فرغ خالد من مسيلمة والجند ، قال له عبد الله ابن عمر وعبد الرحمن بن أبى بكر : ارتحل بنا وبالناس فانزل على الحصون ، فقال : دعانى أبث الخيول فألقط من ليس في الحصون ، ثم أرى رأيى . فبث الخيول فحووا ما وجدوا من مال ونساء وصبيان ، فضموا هذا إلى العسكر ، ونادى بالرحيل لينزل على الحصون ، فقال له مجاعة : إنه والله ما جاءك إلا سرعان الناس ، وإن الحصون لمملوءة رجالاً ، فهلم لك إلى الصلح على ما ورائى ، فصالحه على كل شئ دون النفوس . ثم قال : أنطلق إليهم فأشاورهم وننظر في هذا الأمر ؛ ثم أرجع إليك . فدخل مجاعة الحصون ، وليس فيها إلا النساء والصبيان ومشيخة فانية ، ورجال ضعفى فظاهر الحديد على النساء وأمرهن أن ينشرن شعورهن ، وأن يشرفن على رءوس الحصون حتى يرجع إليهن ؛ ثم رجع فأتى خالداً فقال : قد أبوا أن يجيزوا ما صنعت ، وقد أشرف لك بعضهم نقصاً على وهم منى برآء . فنظر خالد إلى رءوس الحصون وقد اسودت ، وقد نهكت المسلمين الحرب ، وطال اللقاء ؛ وأحبوا أن يرجعوا على الظفر ، ولم يدروا ما كان كائناً لو كان فيها رجال وقتال ، وقد قتل من المهاجرين والأنصار من أهل قصبة المدينة يومئذ ثلثمائة وستون . قال سهل : ومن المهاجرين من غير أهل المدينة والتابعين بإحسان ثلثمائة من هؤلاء وثلثمائة من هؤلاء ؛ ستمائة أو يزيدون . وقتل ثابت بن قيس يومئذ ؛ قتله رجل من المشركين قطعت رجله ، فرمى بها قاتله فقتله ، وقتل من بني حنيفة في الفضاء بعقرباء سبعة آلاف ، وفي حديقة الموت سبعة آلاف ؛ وفي الطلب نحو منها .
وقال ضرار بن الأزور في يوم اليمامة :
ولو سئلت عنا جنوب لأخبرت ... عشية سالت عقرباء وملهم
وسال بفرع الواد حتى ترقرقت ... حجارته فيها من القوم بالدم
عشية لا تغنى الرماح مكانها ... ولا النبل إلا المشرفي المصمم
فإن تبتغى الكفار غير مليمة ... جنوب ، فإنى تابع الدين مسلم
أجاهد إذ كان الجهاد غنيمة ... ولله بالمرء المجاهد أعلم

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : قال مجاعة لخالد ما قال إذ قال له : فهلم لأصالحك عن قومي لرجل قد نهكته الحرب ، وأصيب معه من أشراف الناس من أصيب ؛ فقد رق وأحب الدعة والصلح . فقال : هلم لأصالحك ، فصالحه على الصفراء والبيضاء والحلقة ونصف السبي . ثم قال : إني آتى القوم فأعرض عليهم ما قد صنعت . قال : فانطلق إليهم ، فقال للنساء : البسن الحديد ثم أشرفن على الحصون ، ففعلن . ثم رجع إلى خالد ، وقد رأى خالد الرجال فيما يرى على الحصون عليهم الحديد . فلما انتهى إلى خالد ، قال : أبوا ما صالحتك عليه ، ولكن إن شئت صنعت لك شيئاً ، فعزمت على القوم . قال : ما هو ؟ قال : تأخذ منى ربع السبي وتدع ربعاً . قال خالد : قد فعلت ، قال : قد صالحتك ، فلما فرغا فتحت الحصون ، فإذا ليس فيها إلا النساء والصبيان ، فقال خالد لمجاعة : ويحك خدعتني ! قال : قومي ، ولم أستطع إلا ما صنعت .
كتب إلى السرى ، عن شعيب ، عن سيف ، عن سهل بن يوسف ، قال : قال مجاعة يومئذ ثانية : إن شئت أن تقبل مني نصف السبي والصفراء والبيضاء والحلقة والكراع عزمت وكتبت الصلح بيني وبينك . ففعل خالد ذلك ، فصالحه على الصفراء والبيضاء والحلقة والكراع وعلى نصف السبي وحائط من كل قرية يختاره خالد ، ومزرعة يختارها خالد . فتقاضوا على ذلك ، ثم سرحه ، وقال : أنتم بالخيار ثلاثاً ؛ والله لئن تتموا وتقبلوا لأنهدن إليكم ، ثم لا أقبل منكم خصلة أبداً إلا القتل . فأتاهم مجاعة فقال : أما الآن فاقبلوا ، فقال سلمة بن عمير الحنفى : لا والله لا نقبل ؛ نبعث إلى أهل القرى والعبيد فنقاتل ولا نقاضى خالداً ، فإن الحصون حصينة والطعام كثير ، والشتاء قد حضر . فقال مجاعة : إنك امرؤ مشئوم ، وغرك أني خدعت القوم حتى أجابوني إلى الصلح ، وهل بقي منكم أحد فيه خير ، أو به دفع ! وإنما أنا بادرتكم قبل أن يصيبكم ما قال شرحبيل بن مسيلمة ، فخرج مجاعة سابع سبعة حتى أتى خالدا ، فقال : بعد شد مارضوا ؛ اكتب كتابك ، فكتب : هذا ما قاضى عليه خالد بن الوليد بن مجاعة بن مرارة وسلمة بن عمير وفلانا وفلانا ؛ قاضاهم على الصفراء والبيضاء ونصف السبي والحلقة والكراع وحائط من كل قرية ؛ ومزرعة ؛ على أن يسلموا . ثم أنتم آمنون بأمان الله ؛ ولكم ذمة خالد بن الوليد وذمة أبي بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذمة المسلمين على الوفاء .

كتب إلى السري ، عن شعيب ، عن سيف ، عن طلحة ، عن عكرمة ، عن أبي هريرة ، قال : لما صالح خالد مجاعة ؛ صالحه على الصفراء والبيضاء والحلقة وكل حائط رضانا في كل ناحية ونصف المملوكين . فأبوا ذلك ، فقال خالد : أنت بالخيار ثلاثة أيام ، فقال سلمة بن عمير : يا بني حنيفة ، قاتلوا عن أحسابكم ، ولا تصالحوا على شئ ، فإن الحصن حصين ، والطعام كثير وقد حضر الشتاء . فقال مجاعة : يا بني حنيفة ، أطيعوني واعصوا سلمة ، فإنه رجل مشئوم ، قبل أن يصيبكم ما قال شرحبيل بن مسيلمة ((قبل أن تستردف النساء غير رضيات ، وينكحن غير خطيبات)) . فأطاعوه وعصوا سلمة ، وقبلوا قضيته . وقد بعث أبو بكر رضى الله عنه بكتاب إلى خالد مع سلمة بن سلامة بن وقش ، يأمره إن ظفره الله عز وجل أن يقتل من جرت عليه المواسى من بني حنيفة ، فقدم فوجده قد صالحهم ، فوفى لهم ، وتم على ما كان منه ، وحشرت بنو حنيفة إلى البيعة والبراءة مما كانوا عليه إلى خالد ، وخالد في عسكره ؛ فلما اجتمعوا قال سلمة بن عمير لمجاعة : استأذن لي على خالد أكلمه في حاجة له عندي ونصيحة - وقد أجمع أن يفتك به - فكلمه فأذن له ، فأقبل سلمة بن أمير ، مشتملاً على السيف يريد ما يريد ، فقال : من هذا المقبل ؟ قال مجاعة : هذا الذي كلمتك فيه ، وقد أذنت له ، قال : أخرجوه عني ؛ فأخرجوه عنه ، ففتشوه فوجدوا معه السيف ، فلعنوه وشتموه وأوثقوه ، وقالوا : لقد أردت أن تهلك قومك ، وايم الله ما أردت إلا أن تستأصل بنو حنيفة ، وتسبى الذرية والنساء ؛ وايم الله لو أن خالداً علم أنك حملت السلاح لقتلك ، وما نأمنه إن بلغه ذلك أن يقتلك و أن يقتل الرجال ويسبي النساء بما فعلت ؛ ويحسب أن ذلك عن ملإ منا . فأوثقوه وجعلوه في الحصن ؛ وتتابع بنو حنيفة على البراء مما كانوا عليه ، وعلى الإسلام ، وعاهدهم سلمة على ألا يحدث حدثاً ويعفوه ، فأبوا ولم يثقوا بحمقه أن يقبلوا منه عهداً ، فأفلت ليلاً ؛ فعمد إلى عسكر خالد ، فصاح به الحرس ، وفزعت بنو حنيفة ، فاتبعوه فأدركوه في بعض الحوائط ، فشد عليهم بالسيف ؛ فاكتنفوه بالحجارة ، وأجال السيف على حلقه فقطع أوداجه ، فسقط في بئر فمات .
كتب إلى السرى ، عن شعيب ، عن سيف ، عن الضحاك بن يربوع ، عن أبيه ، قال : صالح خالد بني حنيفة جميعاً إلا ما كان بالعرض والقرية فإنهم سبوا عند انبثات الغارة ، فبعث إلى أبي بكر ممن جرى عليه القسم بالعرض والقرية من بني حنيفة أو قيس بن ثعلبة أو يشكر ، خمسمائة رأس .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، قال : ثم إن خالداً قال لمجاعة : زوجني ابنتك ، فقال له مجاعة : مهلاً ، إنك قاطع ظهري وظهرك معي عند صاحبك . قال : أيها الرجل ، زوجني ؛ فزوجه ؛ فبلغ ذلك أبا بكر ، فكتب إليه كتاباً يقطر الدم : لعمري يا بن أم خالد ، إنك لفارغ تنكح النساء وبفناء بيتك دم ألف ومائتى رجل من المسلمين لم يجفف بعد ! قال : فلما نظر خالد في الكتاب جعل يقول : هذا عمل الأعيسر - يعنى عمر بن الخطاب - وقد بعث خالد بن الوليد وفداً من بني حنيفة إلى أبي بكر ، فقدموا عليه ، فقال لهم أبو بكر : ويحكم ! ما هذا الذي استزل منكم ما استزل ! قالوا : يا خليفة رسول الله ؛ قد كان الذي بلغك مما أصابنا كان أمراً لم يبارك الله عز وجل له ولا لعشيرته فيه ، قال : على ذلك ، ما الذي دعاكم به ! قالوا : كان يقول : ((يا ضفدع نقي نقي ، لا الشارب تمنعين ، ولا الماء تكدرين ؛ لنا نصف الأرض ، ولقريش نصف الأرض ؛ ولكن قريشاً قوم يعتدون)) .
قال أبو بكر : سبحان الله ! ويحكم ! إن هذا لكلام ما خرج من إل ولا بر ، فأين يذهب بكم ! فلما فرغ خالد بن الوليد من اليمامة - وكان منزله الذي به التقى الناس أباض ؛ واد من أودية اليمامة . ثم تحول إلى واد من أوديتها يقال له الوبر - كان منزله بها .
ذكر خبر أهل البحرين وردة الحطم ومن تجمع معه بالبحرين

قال أبو جعفر : وكان فيما بلغنا من خبر أهل البحرين وارتداد من ارتد منهم ما حدثنا عبيد الله بن سعد ، قال : أخبرنا عمي يعقوب بن إبراهيم ، قال : أخبرنا سيف ، قال : خرج العلاء بن الحضرمي نحو البحرين ؛ وكان من حديث البحرين أن النبي صلى الله عليه وسلم والمنذر بن ساوى اشتكيا في شهر واحد ، ثم مات المنذر بعد النبي صلى الله عليه وسلم بقليل ، وارتد بعده أهل البحرين ، فأما عبد القيس ففاءت ، وأما بكر فتمت على ردتها ؛ وكان الذي ثنى عبد القيس الجارود حتى فاءوا .
حدثنا عبيد الله ، قال : أخبرنا عمي ، قال : أخبرنا سيف ، عن إسماعيل بن مسلم ، عن الحسن بن أبي الحسن ، قال : قدم الجارود بن المعلى على النبي صلى الله عليه وسلم مرتاداً ، فقال : أسلم يا جارود ، فقال : إن لي ديناً ، قال له النبي صلى الله عليه وسلم : إن دينك يا جارود ليس بشئ ، وليس بدين ؛ فقال له الجارود : فإن أنا أسلمت فما كان من تبعة في الإسلام فعليك ؟ قال : نعم . فأسلم ومكث بالمدينة حتى فقه فلما أراد الخروج ، قال : يا رسول الله ، هل نجد عند أحد منكم ظهراً نتبلغ عليه ؟ قال : ما أصبح عندنا ظهر ، قال : يا رسول الله ؛ إنا نجد بالطريق ضوال من هذه الضوال ، قال : تلك حرق النار ، فإياك وإياها . فلما قدم على قومه دعاهم إلى الإسلام فأجابوه كلهم ، فلم يلبث إلا يسيراً حتى مات النبي صلى الله عليه وسلم . فقالت عبد القيس : لو كان محمد نبياً لما مات ؛ وارتدوا ، وبلغه ذلك فبعث فيهم فجمعهم ، ثم قام فخطبهم ، فقال : يا معشر عبد القيس ؛ إني سائلكم عن أمر فأخبروني به إن علمتموه ولا تجيبوني إن لم تعلموا . قالوا : سل عما بدا لك ، قال : تعلمون أنه كان لله أنبياء فيما مضى ؟ قالوا : نعم ، قال : تعلمونه أو ترونه ؟ قالوا : لا بل نعلمه ، قال : فما فعلوا ؟ قالوا : ماتوا ، قال : فإن محمداً صلى الله عليه وسلم مات كما ماتوا ، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله ، قالوا : ونحن نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله ؛ وأنك سيدنا وأفضلنا . وثبتوا على إسلامهم ، ولم يبسطوا ولم يبسط إليهم وخلوا بين سائر ربيعة وبين المنذر والمسلمين ، فكان المنذر مشتغلاً بهم حياته ، فلما مات المنذر حصر أصحاب المنذر في مكانين حتى تنقذهم العلاء .
قال ابو جعفر : وأما ابن إسحاق فإنه قال في ذلك ما حدثنا به ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة عنه ، قال : لما فرغ خالد بن الوليد من اليمامة بعث أبو بكر رضى الله عنه العلاء بن الحضرمي . وكان العلاء هو الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه إلى المنذر بن ساوى العبدي ، فأسلم المنذر ، فأقام بها العلاء أميراً لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فمات المنذر بن ساوى بالبحرين بعد متوفى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان عمرو بن العاص بعمان ، فتوفى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمرو بها فأقبل عمرو ، فمر بالمنذر بن ساوى وهو بالموت فدخل عليه فقال المنذر له : كم كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجعل للميت من المسلمين من ماله عند وفاته ؟ قال عمرو : فقلت له : كان يجعل له الثلث ؛ قال : فما ترى لي أن أصنع في ثلث مالي ؟ قال عمرو : فقلت له : إن شئت قسمته في أهل قرابتك ، وجعلته في سبيل الخير ؛ وإن شئت تصدقت به فجعلته صدقة محرمة تجري من بعدك على من تصدقت به عليه . قال : ما أحب أن أجعل من مالي شيئاً محرماً كالبحيرة والسائبة والوصيلة والحامي ولكن أقسمه ، فأنفذه على من أوصيت به له يصنع به ما يشاء .
قال : : فكان عمرو يعجب لها من قوله . وارتدت ربيعة بالبحرين فيمن ارتد من العرب ، إلا الجارود بن عمرو بن حنش بن معلى ؛ فإنه ثبت على الإسلام ومن معه من قومه ، وقام حين بلغته وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وارتداد العرب ، فقال : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، وأكفر من لا يشهد . واجتمعت ربيعة بالبحرين وارتدت ، فقالوا : نرد الملك في آل المنذر ، فملكوا المنذر بن النعمان بن المنذر ، وكان يسمى الغرور ، وكان يقول حين أسلم وأسلم الناس وغلبهم السيف : لست بالغرور ؛ ولكنى المغرور

حدثنا عبيد الله بن سعد ، قال : أخبرنا عمي ، قال : أخبرنا سيف ، عن إسماعيل بن مسلم ، عن عمير بن فلان العبدي ، قال : لما مات النبي صلى الله عليه وسلم خرج الحطم بن ضبيعة أخو بني قيس بن ثعلبة فيمن اتبعه من بكر بن وائل على الردة ، ومن تأشب إليه من غير المرتدين ممن لم بزل كافراً ، حتى نزل القطيف وهجر ، واستغوى الخط ومن فيها من الزط والسيابجة ، وبعث بعثاً إلى دارين ، فأقاموا له ليجعل عبد القيس بينه وبينهم ، وكانوا مخالفين لهم ، يمدون المنذر والمسلمين ؛ وأرسل إلى الغرور بن سويد ، أخي النعمان بن المنذر ؛ فبعثه إلى جؤاثي ، وقال : اثبت ، فإني إن ظفرت ملكتك بالبحرين حتى تكون كالنعمان بالحيرة . وبعث إلى جؤاثي ، فحصرهم وألحوا عليهم فاشتد على المحصورين الحصر ، وفي المسلمين المحصورين رجل من صالح المسلمين يقال له عبد الله بن حذف ؛ أحد بني أبي بكر بن كلاب ، وقد اشتد عليه وعليهم الجوع حتى كادوا أن يهلكوا . وقال في ذلك عبد الله بن حذف :
ألا أبلغ أبا بكر رسولاً ... وفتيان المدينة أجمعينا
فهل لكم إلى قوم كرام ... قعود في جؤائي محصرينا !
كأن دماءهم في كل فج ... شعاع الشمس يغشى الناظرينا
توكلنا على الرحمن إنا ... وجدنا الصبر للمتوكلينا
كتب إلى السرى ، عن شعيب ، عن سيف ، عن الصعب بن عطية ابن بلال ، عن سهم بن منجاب ، عن منجاب بن راشد ، قال : بعث أبو بكر العلاء بن الحضرمي على قتال أهل الردة بالبحرين ؛ فلما أقبل إليها ؛ فكان بحيال اليمامة ، لحق به ثمامة بن أثال في مسلمة بني حنيفة من بني سحيم ومن أهل القرى من سائر بني حنيفه ، وكان متلدداً ؛ وقد ألحق عكرمة بعمان ثم مهرة ، وأمر شرحبيل بالمقام حيث انتهى إلى أن يأتيه أمر أبي بكر ، ثم يغاور هو وعمرو بن العاص أهل الردة من قضاعة . فأما عمرو بن العاص فكان يغاور سعداً وبلياً وأمر هذا بكلب ولفها ، فلما دنا منا ونحن في عليا البلاد لم يكن أحد له فرس من الرباب وعمرو بن تميم إلا جنبه ، ثم استقبله ؛ فأما بنو حنظلة فإنهم قدموا رجلا وأخروا أخرى . وكان مالك بن نويرة في البطاح ومعه جموع يساجلنا ونساجله . وكان وكيع بن مالك في القرعاء معه جموع يساجل عمرا وعمرو يساجله ، وأما سعد بن زيد مناة فإنهم كانوا فرقتين ؛ فأما عوف والأبناء فإنهم أطاعوا الزبرقان بن بدر ، فثبتوا على إسلامهم وتموا وذبوا عنه ؛ وأما المقاعس والبطون فإنهما أصاخا ولم يتابعا ؛ إلا ما كان من قيس بن عاصم ؛ فإنه قسم الصدقات التي كانت اجتمعت إليه في المتقاعس والبطون حين شخص الزبرقان بصدقات عوف والأبناء ؛ فكانت عوف والأبناء مشاغيل بالمقاعس والبطون . فلما رأى قيس بن عاصم ما صنعت الرباب وعمرو ومن تلقى العلاء ندم على ما كان فرط منه ، فتلقى العلاء بإعداد ما كان قسم من الصدقات ، ونزع عن أمره الذي كان هم به ، واستاق حتى أبلغها إياه ، وخرج معه إلى قتال أهل البحرين ؛ وقال في ذلك شعراً كما قال الزبرقان في صدقته حين أبلغها أبا بكر ؛ وكان الذي قال الزبرقان في ذلك :
وفيت بأذواد الرسول وقد أبت ... سعاة فلم يردد بعيراً مجيرها
معاً ومنعناها من الناس كلهم ... ترامى الأعادي عندنا ما يضيرها
فأديتها كي لا أخون بذمتى ... محانيق لم تدرس لراكب ظهورها
أردت بها النقوى ومجد حديثها ... إذا عصبة سامى قبيلي فخورها
وإني لمن حي إذا عد سعيهم ... يرى الفخر منها حيها وقبورها
أصاغرهم لم يضرعوا وكبارهم ... رزان مراسيها ، عفاف صدورها
ومن رهط كناد توفيت ذمتي ... ولم يثن سيفي نبحها وهريرها
ولله ملك قد دخلت وفارس ... طعنت إذا ما الخيل شد مغيرها
ففرجت أولاها بنجلاء ثرة ... بحيث الذي يرجو الحياة يضيرها
ومشهد صدق قد شهدت فلم أكن ... به خاملاً واليوم يثنى مصيرها
أرى رهبة الأعداء مني جراءةً ... ويبكي إذا ما النفس يوحى ضميرها
وقال قيس عند استقبال العلاء بالصدقة :

ألا أبلغا عني قريشاً رسالة ... إذا ما أتتها بينات الودائع
حبوت بها في الدهر أعراض منقر ... وأيأست منها كل أطلس طامع
وجدت أبي والخال كانا بنجوة ... بقاع فلم يحلل بها من أدافع

فأكرمه العلاء ، وخرج مع العلاء بن عمرو وسعد الرباب مثل عسكره ، وسلك بنا الدهناء ؛ حتى إذا كنا في بحبوحتها والحنانات والعزافات عن يمينه وشماله ، وأراد الله عز وجل أن يرينا آياته نزل وأمر الناس بالنزول ، فنفرت الإبل في جوف الليل ؛ فما بقي عندنا بعير ولا زاد ولا مزاد ولا بناء إلا ذهب عليها في عرض الرمل ، وذلك حين نزل الناس ، وقبل أن يحطوا ؛ فما علمت جمعاً هجم عليهم من الغم ما هجم علينا وأوصى بعضنا إلى بعض ، ونادى منادي العلاء : اجتمعوا ، فاجتمعنا إليه ، فقال : ما هذا الذي ظهر فيكم وغلب عليكم ؟ فقال الناس : وكيف نلام ونحن إن بلغنا غداً لم تحم شمسه حتى نصير حديثاً ! فقال : أيها الناس ؛ لا تراعوا ، ألستم مسلمين ! ألستم في سبيل الله ! ألستم أنصار الله ! قالوا : بلى ، قال : فأبشروا ؛ فواله لا يخذل الله من كان في مثل حالكم . ونادى المنادي بصلاة الصبح حين طلع الفجر فصلى بنا ، ومنا المتيمم ، ومنا من لم يزل على طهوره ؛ فلما قضى صلاته جثا لركبتيه وجثا الناس ، فنصب في الدعاء ونصبوا معه ؛ فلمع لهم سراب الشمس ؛ فالتفت إلى الصف ، فقال : رائد ينظر ما هذا ؟ ففعل ثم رجع ، فقال : سراب ، فأقبل على الدعاء ، ثم لمع لهم آخر فكذلك ، ثم لمع لهم آخر ، فقال : ماء ، فقام وقام الناس ، فمشينا إليه حتى نزلنا عليه ، فشربنا واغتسلنا ، فما تعالى النهار حتى أقبلت الإبل تكرد من كل وجه ، فأناخت إلينا ، فقام كل رجل إلى ظهره ، فأخذه ، فما فقدنا سلكاً . فأرويناها وأسقيناها العلل بعد النهل ؛ وتروينا ثم تروحنا - وكان أبو هريرة رفيقي - فلما غبنا عن ذلك المكان ، قال لي : كيف علمك بموضع ذلك الماء ؟ فقلت : أنا من أهدى العرب بهذه البلاد قال : فكن معي حتى تقيمني عليه ، فكررت به ، فأتيت به على ذلك المكان بعينه ؛ فإذا هو لا غدير به ، ولا أثر للماء ، فقلت له : والله لولا أني لا أرى الغدير لأخبرتك أن هذا هو المكان ؛ وما رأيت بهذا المكان ماء ناقعاً قبل اليوم ؛ وإذا إداوة مملوءة ، فقال : يا أبا سهم ، هذا والله المكان ؛ ولهذا رجعت ورجعت بك . وملأت إداوتي ثم وضعنها على شفيره ، فقلت صلى الله عليه وسلم إن كان منا من المن وكانت آية عرفتها؛ وإن كان غياثاً عرفته ؛ فإذا من من المن ، فحمد الله ، ثم سرنا حتى ننزل هجر. قال: فأرسل العلاء إلى الجارود ورجل آخر أن انضما في عبد القيس حتى تنزل على الحطم مما يليكما ؛ وخرج هو فيمن جاء معه وفيمن قدم عليه ؛ حتى ينزل عليه مما يلي هجر، وتجمع المشركون كلهم إلى الحطم إلا أهل دارين، وتجمع المسلمون كلهم إلى العلاء بن الحضرمي وخندق المسلمون والمشركون، وكانوا يتراوحون القتال ويرجعون إلى خندقهم ؛ فكانوا كذلك شهراً ؛ فبينا الناس ليلة إذ سمع المسلمون في عسكر المشركين ضوضاء شديدة ؛ كأنها ضوضاء هزيمة أو قتال ، فقال العلاء: من يأتينا بخبر القوم ؟ فقال عبد الله بن حذف: أنا آتيكم بخبر القوم - وكانت أمه عجلية - فخرج حتى إذا دنا من خندقهم أخذوه فقالوا له صلى الله عليه وسلم من أنت ؟ فانتسب لهم ، وجعل ينادي: يا أبجراه ! فجاء أبجر بن بجير ، فعرفه فقال : ما شأنك ؟ فقال : لا أضيعن الليلة بين اللهازم ! علام أقتل وحولي عساكر من عجل وتيم اللات وقيس وعنزة ! أيتلاعب بي الحطم ونزاع القبائل وأنتم شهود ! فتخلصه، وقال : والله إني لأظنك بئس ابن الأخت لأخوالك الليلة ! فقال : دعني من هذا وأطمعني ؛ فإني قد مت جوعاً. فقرب له طعاماً ؛ فأكل ثم قال : زودني واحملني وجوزني أنكطلق إلى كيتي. ويقول ذلك لرجل قد غلب عليه الشراب ، ففعل وحمله على بعير ، وزوده وجوزه ؛ وخرج عبد الله بن حذف حتى دخل عسكر المسلمين ، فأخبرهم أن القوم سكارى ، فخرج المسلمون عليهم حتى اقتحموا عليهم عسكرهم، فوضعوا السيوف فيهم حيث شاءوا ، واقتحموا الخندق هرابا ، فمترد ، وناج ودهش ، ومقتول أو مأسور ، واستولى المسلمون على ما في العسكر ؛ لم يفلت رجل إلا بما عليه ؛ فأما أبجر فأفلت ، وأما الحطم فإنه الحطم بعل ودهش، وطار فؤاده ؛ فقام إلى فرسه والمسلمون خلالهم يجوسونهم - ليركبه ؛ فلما وضع رجله في الركاب انقطع به ، فمر به عفيف بن المنذر أحد بني عمرو بن تميم ، والحطم يستغيث ويقول : ألا رجل من بني قيس بن ثعلبة يعقلني! فرفع صوته ، فعرف صوته

فقال : أبو ضبيعية ! قال : نعم ، قال : أعطني رجلك أعقلك ، فأعطاه رجله يعقله ، فنفحها فأطنها من الفخذ ، وتركه ، فقال : أجهز على ، فقال : إني أحب ألا تموت حتى أمضك. - وكان مع عفيف عدة من ولد أبيه ، فأصيبوا ليلتئذ - وجعل الحطم لا يمر به في الليل أحد من المسلمين إلا قال : هل لك في الحطم أن تقتله ؟ ويقول : ذاك لمن لا يعرفه ، حتى مر به قيس بن عاصم ، فقال له ذلك ، فمال عليه فقتله ، فلما رأى فخذه نادرة ، قال : واسوأتاه ! لو علمت الذي به لم أحركه ؛ وحرج المسلمون بعد ما أحرزوا الخندق على القوم يطلبونهم ، فاتبعوهم ، فلحق قيس بن عاصم أبجر - وكان فرس أبجر أقوى من فرس قيس - فلما خشى أن يفوته طعنه في العرقوب فقطع العصب ، وسلم النسا ؛ فكانت رادة ، وقال عفيف بن المنذر :ال : أبو ضبيعية ! قال : نعم ، قال : أعطني رجلك أعقلك ، فأعطاه رجله يعقله ، فنفحها فأطنها من الفخذ ، وتركه ، فقال : أجهز على ، فقال : إني أحب ألا تموت حتى أمضك. - وكان مع عفيف عدة من ولد أبيه ، فأصيبوا ليلتئذ - وجعل الحطم لا يمر به في الليل أحد من المسلمين إلا قال : هل لك في الحطم أن تقتله ؟ ويقول : ذاك لمن لا يعرفه ، حتى مر به قيس بن عاصم ، فقال له ذلك ، فمال عليه فقتله ، فلما رأى فخذه نادرة ، قال : واسوأتاه ! لو علمت الذي به لم أحركه ؛ وحرج المسلمون بعد ما أحرزوا الخندق على القوم يطلبونهم ، فاتبعوهم ، فلحق قيس بن عاصم أبجر - وكان فرس أبجر أقوى من فرس قيس - فلما خشى أن يفوته طعنه في العرقوب فقطع العصب ، وسلم النسا ؛ فكانت رادة ، وقال عفيف بن المنذر :
فإن يرقأ العرقوب لا يرقأ النسا ... وما كل من يهوى بذلك عالم
ألم تر أنا قد فللنا حماتهم ... بأسرة عمرو والرباب الأكارم
وأسر عفيف بن المنذر الغرورين سويد ، فكلمته الرباب فيه ، وكان أبوه ابن أخت التيم ، وسألوه أن يجيره ، فقال للعلاء : إني قد أجرت هذا ، قال : ومن هذا ؟ قال : الغرور ، قال : أنت غررت هؤلاء ، قال : أيها الملك ، إني لست بالغرور ؛ ولكني المغرور ، قال : أسلم ، فأسلم وبقي بهجر ، وكان إسمه الغرور ، وليس بلقب ؛ وقتل عفيف المنذر بن سويد المنذر، أخا الغرور لأمه، وأصبح العلاء فقسم الأنفال ، ونفل رجالاً من أهل ثباتا ، فكان فيمن نفل عفيف بن المنذر وقيس بن عاصم وثمتنة بن أثال ؛ فأما ثمامة فنفل ثباباً فيها خميصة ذات أعلام ، كان الحطم يباهي فيها ، وباع الثباب وقصد عظم الفلال لدارين ، فركبوا فيها السفن ، ورجع الآخرون إلى وائل فيهم ؛ فكتب العلاء بن الحضرمي إلى عامر بن عبد الأسود بلزوم ما هم عليه والقعود لأهل الردة بكل سبيل ، وأمر مسمعاً بمبادرتهم ، وارسل إلى خصفة التيمي والمثنى بن حارثة الشيباني ، فأقاموا لأولئك بالطريق ، فمنهم من أناب ، فقبلوا منه واشتملوا عليه ؛ ومنهم من أبى ولج فمنع من الرجوع فرجعوا عودهم على بدئهم ؛ حتى عبروا إلى دارين ، فجمعهم الله بها ، وقال في ذلك رجل من بني ضبيعة بن عجل ، يدعى وهبا ، يعير من ارتد من بكر بن وائل
ألم تر أن الله يسبك خلقه ... فيخبث أقوام ويصفو معشر
لحى الله أقواماً اصيبوا بخنعة ... أصابهم زيد الضلال ومعمر!
ولم يزل العلاء مقيماً في عسكر المشركين حتى رجعت إليه الكتب من عند من كان كتب إليه من بكر بن وائل ، وبلغه عنهم القيام بأمر الله ، والغضب لدينه ، فلما جاءه عنهم من ذلك من ذلك ما كان يشتهي ، أيقن أنه لن يؤتى من خلقه بشئ يكرهه على أحد من أهل البحرين ، وندب الناس إلى دارين ، ثم جمعهم فخطبهم ، وقال : إن الله قد جمع لكم أحزاب الشياطين وشرد الحرب في هذا البحر ؛ وقد أراكم من آباته في البر لتعتبروا بها في البحر فانهضوا إلى عدوكم ، ثم استعرضوا البحر إليهم ، فإن الله قد جمعهم ، فاقلوا : مفعل ولا نهاب والله بعد الدهناء هولاً ما بقينا .

فارتحل وارتحلوا ، حتى إذا أتى ساحل البحر اقتحموا على الصاهل ، والجامل ، والشاحج والناهق ؛ والراكب والراجل ، ودعا ودعوا ؛ وكان دعاؤه ودعاؤهم : يا أرحم الراحمين ، يا كريم ، يا كحليم ، يا أحد ، يا صمد ي حي يا محيي الموتى ، يا حي يا قيوم ، لا إله إإلا أنت يا ربنا . فأجازوا ذلك الخليج بإذن الله جميعاً يمشون على مثل رملة ميثاء ، فوقها ماء يغمر أخفاف الإبل ، وإن ما بين الساحل ودارين مسيرة يوم وليلة لسفن البحر في بعض الحالات ، فالتقوا بها ، واقتتلوا قتالاً شديداً ، فما تركوا بها مخبراً وسبوا الذراري ، واستاقوا الأموال ؛ فبلغ نفل الفارس ستة آلاف ، والراجل ألفين ، قطعوا ليلهم وساروا يومهم ؛ فلما فرغوا رجعوا عودهم على بدئهم حتى عبروا ، وفي ذلك يقول عفيف بن المنذر :
ألم تر أن الله ذلل بحره ... وأنزل بالكفار إحدى الجلائل!
دعونا الذي شق البحار فجاءنا ... بأعجب من فلق البحار الأوائل
ولما رجع العلاء إلى البحرين ، وضرب الإسلام فيها بجرانه ، وعز الإسلام وأهله ، وذل الشرك وأهله ؛ أقبل الذين في قلوبهم ما فيها على الإرجاف مرجفون ، وقالوا : ها ذاك مفروق ، قد جمع رهطه. شيبان وتغلب والنمر ، فقال لهم أقوام من المسلمين : إذا تشغلهم عنا اللهازم - واللهازم يومئذ قد استجمع أمرهم على نصر العلاء وطابقوا . وقال عبد الله بن حذف في ذلك :
لا توعدنا بمفرق وأسرته ... إن يأتنا يلق فينا سنة الحطم
وإن ذا الحي من بكر وإن كثروا ... لأمة داخلون النار في أمم
فالنخل ظاهره خيل وباطنه ... خيل تكدس بالفتيان في النعم
وأقفل العلاء بن الحضرمي الناس ، فرجع الناس إلا من أحب المقام فقفلنا وقفل ثمامة ، ورأوا خميصة الحطم عليه دسوا له رجلاً ، وقالوا : سله عنها كيف صارت له ؟ وعن الحطم : أهو قتله أو غيره ؟ فأتاه ، فسأله عنها ، فقال : نفلتها . قال : أأنت قتلت الحطم : أهو قتله الحطم ؟ قال : لا ، ولوددت أنى كنت قتلته ، قال : فما بال هذه الخمصية معك ؟ قال : ألم أخبرك ! فرجع إليهم فأخبرهم ، فتجمعوا له ، ثم أتوه فاحتوشوه ؛ فقال : ما لكم ؟ قالوا : هل ينفل إلا القاتل ! قال إنها لم تكن عليه ، إنما وجدت في رحله ، قالوا : كذبت . فأصابوه .
قال : وكان مع المسلمين راهب في هجر ؛ فأسلم يومئذ فقيل : ما دعاك إلى الإسلام ؟ قال : ثلاثة أشياء ، خشيت أن يمسخني الله بعدها إن أنا لم أفعل : فيض في الرمال ، وتمهيد أثباج البحار ، ودعاء سمعته في عسكرهم في الهواء من السحر . قالوا : وما هو ؟ قال : اللهم أنت الرحمن الرحيم ؛ لا إله غيرك ، والبديع ليس قبلك شئ ، والدائم غير الغافل ، والحي الذي لا يموت ، وخالق ما يرى وما لا يرى ، وكل يوم أنت في شأن ، وعلمت اللهم كا شئ بغير تعلم فعلمت أن القوم لم يعانوا أن القوم لم يعانوا بالملائكة إلا وهم على أمر الله .
فلقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمعون من ذلك الههجري بعد وكتب العلاء إلى أبي بكر : أما بعد ؛ فإن الله تبارك وتعالى فجر لنا الدهناء فيضاً لا ترى غوار به ، وأرانا آية وعبرة بعد غم وكرب ، لنحمد الله ونمجده ، فادع الله واستنصره لجنوده وأعوان دينه.
فحمد أبو بكر الله ودعاه ، وقال : وما زلت العرب فيما تحدث عن بلدانها يقولون : إن لقمان حين سئل عن الدهناء : أيحتقرونها أو يدعونها ؟ نهاهم ، وقال لا تبلغها الأرشية ، ولم تقر العيون ؛ وإن شأن هذا الفيض من عظيم الآيات، وما سمعنا به في أمة قبلها . اللهم أخلف محمداً صلى الله عليه وسلم فينا ثم كتب إليه العلاء بهزيمة أهل الخندق وقتل الحطم . قتله زيد ومعمر : أما بعد، فإن الله تبارك إسمه سلب عدونا عقولهم، وأذهب ريحهم بشراب أصابوه منالنهار، فاقتحمنا عليهم خندقهم ، فوجدناهم سكارى . فقلناهم إلا الشريد ، وقد قتل الله الحطم .
فكتب إلي أبو بكر : أما بعد، فإن بلغك عن نبي شيبان بن ثعلبة تمام على ما بلفك ، وخاض فيه المرجفون ، فابعث إليهم جنداً فأوطئهم وشرد بهم من خلفهم . فلم يجتمعوا ؛ ولم يصر ذلك من إرجافهم إلى شئ ذكر الخبر عن ردة أهل عمان ومهرة واليمن

قال أبو جعفر: وقد اختلف في تاريخ حرب المسلمين . فقال محمد بن إسحاق - فيما حدثنا ابن حميد ، عن سلمة عنه : كان فتح اليمانة واليمن والبحرين وبعث الجنود إلى الشأم في سنة اثنتي عشرة وأما زيد فحدثني عن أبي الحسن المدائني في خبر ذكره ، عن أبي معشر ويزيد بن عياض بن جعدبة وأبي عييدة بن محمد بن أبي عبيدة وغسان بن عبد الحميد وجويرية بن أسماء ، بإسنادهم عن مشيخهم وغيرهم من علماء أهل الشأم وأهل العراق ؛ أن الفتوح في أهل الردة كلها كانت لخالد بن الوليد وغيره في سنة إحدى عشرة ، إلا أمر ربيعة بن بجير ؛ فإنه كان في سنة ثلاث عشرة .
وقصة ربيعة بن بجير التغلبي أن خالد بن الوليد - فيما ذكر في خبره هذا الذي ذكرت عنه - بالمصيخ والحصيد ، قام وهو في جمع من المرتدين فقتله ، وغنم وسبى ، وأصاب ابنة لربيعة بن بجير ، فسباها وبعث بالسبى إلى أبي بكر رحمه الله ، فصارت ابنة ربيعة إلى على بن أبي طالب عليه السلام .
فأما أمر عمان فإنه كان - فيما كتب إلى السرى بن يحيى يخبرني عن شعيب ، عن شيف ، عن سهل بن يوسف ، عن القاسم بن محمد والغصن بن القاسم وموسى الجليوسي عن ابن محيريز ، قال : نبغ بعمان ذو التاج لقيط بن مالك الأزدي ، وكا يسامي في الجاهلية الجلندي ؛ وادعى بمثل ما ادعى به من كان نبياً ن وغلب على عمان مرتداً ، وألجأ جيفراً وعباداً إلى الأجبال والبحر ؛ فبعث جيفر إلى أبي بكر يخبره بذلك ، ويستجيشه عليه . فبعث أبو بكر الصديق حذيفة بين محصن الغلفاني من حمير ، وعرفجة البارقي من الأزد ؛ حذيفة إلى عمان وعرفجه إلى نهرة . وأمرهما أن يجدا السير تى يقدما عمان ؛ فإذا كانا منها قريباً كاتباً جيفراً وعباداً وعملاً برأيهما . فمضيا لما أمرا به ؛ وقد كان أبو بكر بعث عكرمة إلى مسيلمة باليمامة ، وأتبعه شر حبيل بن حسنة وسمى لهما اليمامة ؛ وأمرهما بما أمر به حذيفة وعرفجة . فبادر عكرمة شرحبيل وطلب حظوة الظفر ، فنكبه مسيلمة ؛ فأحجم عن مسيلمة ، وكتب إلى أبي بكر بالخبر ، وأقام شرحبيل عليه حيث بلغه الخبر ، وكتب أبو بكر إلى شرحبيل بن حسنة ؛ أن أقم بأدنى اليمامة حتى يأتيك أمري ، وترك أن يمضيه لوجهه له ؛ وكتب إلى عكرمة يعنفه لتسرعه ، ويقول : لا أرينك ولا أسمعن بك إلا بعد بلاء ، والحق بعمان حتى نقاتل أهل عمان ، وتعين حذيفة وعرفجة ، وكل واحد منكم على خيلة ، وحذيفة ما دمتم في عمله على الناس ، فإذا فرغتم فامض إلى مهرة ثم ليكن وجهك منها إلى اليمين ؛ حتى تلاقى المهاجر ابن أبي أمية باليمن وبحضرموت ، وأوططئ من بين عمان واليمن ممن ارتد ؛ وليبلعنى بلاؤك .

فمضى عكرمة في أثر عرفجة وحذيفة فيمن كان معه حتى لحق بهما قبل أن ينتهيا إلى عمان ، وقد عهد إليهم أن ينتهوا إلى رأى عكرمة بعد الفراغ في السير معه أو المقام بعمان ، فلما تلاحقوا - وكانوا قريباً من عمان بمكتان يدعى رجاماً - واسلوا جيفراً وعباداً . وبلغ لقيطاً مجئ الجيش ، فجمع جموعه وعسكر بدباً ، وخرج جيفر وعباد من موضعهما الذي كانا فيه ، فعسكرا بصحار ، وبعثا إلى حذيفة وعرفجة وعكرمة في القدوم عليهما ، فقدموا عليهما بصحار ، فاستبرءوا ما يليهم حتى رضوا ممن يليهم ؛ وكاتبوا رؤساء مع لقيط وبدءوا بسيد بني جديد فكاتبهم وكاتبوه حتى ارفضوا عنه ؛ ونهدوا إلى لقيط ، فالتقوا على دبا ، وقد كمع لقيط العيالات ، فجعلهم وراء صفوفهم ليجربهم ؛ وليحافظوا على حرمهم - ودبا هي المصر والسوق العظمى - فاقتتلوا بدبا قتالاً شديداً ؛ وكاد لقيط يستعلى الناس ؛ فبيناهم كذلك ، وقد رأى المسلمون الخلل ورأى المشركون الظفر ، جاءت المسلمين موادهم العظمى من بني ناجية ؛ وعليهم الخريت بن راشد ، ومن عبد القيس وعليهم سيحان بن صوحان ، وشواذب عمان من نبي ناجية وعبد القيس ، فقوى الله بهم أهل الإسلام ، ووهن الله بهم أهل الشرك ؛ فولى المشركون الأدبار ، فقتلوا منهم في المعركة عشرة آلاف ، وركبوهم حتى أثخنوا فيهم ، وسبوا الذراري ، وقسموا الأموال على المسلمين ، وبعثوا بالخمس إلى أبي بكر مع عرفجة ، ورأى عكرمة وحذيفة أن يقيم حذيفة بعمان حتى يوطئ الأمور ، ويسكن الناس ؛ وكان الخمس ثمانمائة رأس ، وغنموا السوق بحذافيرها . فسار عرفجة إلى أبي بكر بخمس السبى والمغانم ، وأقام حذيفة لتسكن الناس ، ودعا القبائل حول عمان في الناس ، وبدأ بمهرة ، وقال في ذلك عباد الناجي :
لعمري لقدي لاقى لقيط بن مالك ... من الشر ما أخزى وجوه الثعالب
وادي أبا بكر ومنهل فارتمى ... خليجان من تياره المتراكب
ولم تنهه الأولى ولم ينكأ العدا ... فألوت عليه خيله بالجنائب
ذكر خبر مهرة بالنجد ولما فرغ عكرمة وعرفجة وحذيفة من ردة عمان ، خرج عكرمة في جنده نحوه مهرة ، واستنصر من حول عمان وأهل عمان ، وشسار حتى يأتي مهرة ، ومعه ممن استنصره من ناجية والأزد وعبد القيس وراسب وسعد من بني تميم بشر ؛ حتى اقتحم على مهرة بلادها ، فوافق بها جمعين من مهرة : أما أحدهما فبمكان من أرض مهرة يقال له : جيروت وقد امتلأ ذلك الحيز إلى نذدون - قاعين من قيعان مهرة - عليهم شخريت ، رجل من بني شخراة ؛ وقد انقادت مهرة جميعاً لصاحب هذا الجمع ؛ عليهم المصبح ، أحد بني محارب والناس كلهم كعه ؛ إلا ما كان من شخريت ، فكانا مختلفين ؛ كل واحد من الرئيسين يدعو الآخر إلى نفسه ، وكل واحد من الجندين يشتهي أن يكون الفلج لرئيسهم ؛ وكان ذلك مما أعان الله به المسلمين وقواهمم على عدوهم ؛ ووهنهم .
ولما رأى عكرمة قلة من مع شخريت دعاه إلى الرجوع إلى الإسلام فكان لأول الدعاء ، فأجابه ووهن الله بذلك المصبح . ثم أرسل إلى المصبح يدعوه إلى الإسلام والرجوع عن الكفر ؛ فاغتر بكثرة من معه وازداد مباعدة لمكان شخريت ، فسار إليه عكرمة ، وسار معه شخريت ، فالتقوا هم والمصبح بالنجد ؛ فاقتتلوا أشد من قتال دبا .
ثم أن الله كشف ج - نود المرتدين وقتل رئيسهم ، وركبهم المسلمون فقتلوا منهم ما شاؤا وأصابوا ما شاءوا ، وأصابوا فيما أصابوا ألفى نجيبة ، فخمس عكرمة الفئ ، فبعث بالأخماس مع شخريت إلى أبي بكر ، وقسم الأربعة الأخماس على المسلمين وازداد عكرمة وجنده قوة بالظهر والمتاع والأداة وأقام عكرمة حتى جمعهم على الذي يجب ، وجمع أهل النجد ؛ أهل رياض الروضة ، وأهل الساحل ؛ وأهل الجزائر وأهل المر واللبان وأهل جيروت ، وظهور الشحر والصبرات ، وينعت ، وذات الخيم ؛ فبايعوا على الإسلام فكتب بذلك مع البشير - وهو السائب أحد نبي عابد من مخزوم - فقدم على أبي بكر بالفتح ، وقدم شخريت بعده بالأخماس ، وقال في ذلك علجوم المحاربي :
جزى الله شخريتاً وأفناء هيثم ... وفرضم إذ سارت إلينا الحلائب
جزاء مسئ لم يراقب لذمة ... ولم يرجها فيما يرجى الأقارب
أعكرمة لولا قومي وفعلهم ... لضاقت عليك بالفضاء المذاهب

وكنا كمن إقتاد كفاً بأخنها ... وحلت علينا في الدهور النوائب
ذكر خبر المرتدين باليمن قال أبو جعفر : كتب إلى السري بن يحيى ، عن شعيب ، عن سيف عن طلحة ، عن عكرمة وسهل عن القاسم بن محمد ، قال : توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى مكة وأرضها عتاب بن أسيد والطاهر بن أبي هالة؛ عتاب على بني كنانة ، والطاهر على عك ؛ وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : اجعلوا عمالة عك في بني أبيها معد بن عدنان وعلى الطائف وأرضها عثمان بن أبي العاص ومالك بن عوف النصري ؛ عثمان على أهل المدر ومالك على أهل الوبر أعجاز هوازن ، وعلى نجران وأرضها عمرو بن حزم وأبو سيفان بن حرب ؛ عمرو بن حزم على الصلاة وأبو سفيان بن حرب على الصدقات ، وعلى ما بين رمع وزبيد إلى حد نجران خالد بن سعيد بن العاص ، وعلى همدان كلها عامر بن شهر ، وعلى صنعاء فيروز الديلمي يسانده داذواية وقيس بن المكشوف ، وعلى الجند يعلى بن أمية ، وعلى مأرب أبو موسى الأشعري وعلى الأشعريين مع عك الطاهرين أببي هالة ومعاذ بن جبل يعلم القوم ، وينتقل في عمل كل عامل ، فنزابهم الأسود في حياة النبي صلى الله عليه وسلم فحاربه النبي عليه السلام بالرسل والكتب حتى قتله الله وعاد أم رالنبي عليه السلام كما كان قبل وفاة النبي عليه السلام بليلة ؛ إلا أن مجيئهم لم يحرك الناس ، والناس مستعدون له .
فلما بلغهم موت النبي صلى الله عليه وسلم انتقضت اليمن والبلدان ؛ وقد كانت تذبذبت خيول العنسي - فيما بين نجران إلى صنعاء في عرض ذلك البحر - لا تأوى إلى أحد ، ولا يأوى إليها أحد ؛ فعمرو بن معد يكرب بحيال فروة بن مسك ، ومعاوية بن أس في فالة العيني يتردد ؛ ولم يرجع من عمال النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم إلا عمرو بن حزم وخالد بن سعيد ، ولجأ سائر العمال إلى المسلمين ؛ واعترض عمرو بن معد يكرب خالد بن سعيد فسلبه الصماصمة . ورجعت الرسل مع من رجع بالخبر ، فرجع جرير بن عبد الله والأقراع بن عبد الله ووبر بن يحنس ، فحارب أبو بكر المرتدة جميعاً بالرسل والكتب ، كما كان رسول صلى الله عليه وسلم حاربهم ؛ إلى أن رجع أسامة بن زيد من الشأم ، وحزر ذلك ثلاثة أشهر ، إلا ما كان من أهل ذي حسي وذي القصة . ثم كان أول مصادم عند رجوع أسامة هم . فخرج إلى الأبرق فلم يصمد لقوم فيفلهم إلا استنفر من لم يرتد منهم إلى آخرين ، فيفل بجطائفة من المهاجرين والأنصار والمستنفرة ممن لم يرتد إلى التي تليهم ؛ حتى فرغ من آخر أمور الناس ، ولا يستعين بالمرتدين.
فكان أول من كتب إليه عتاب بن أسيد ، كتب إليه بركوب من ارتد من أهل عمله بمن ثبت على الإسلام ، وعثمان بن أبي العاص بركوب من ابن أسيد إلى أهل عمله بمن ثبت على الإسلام فأا عتاب فإنه بعث خالد ابن أسيد إلى أهل تهامة ، وقد تجمعت بها جماع من مدلج ، وتأشش إليهم شذاذ من خزاعة وأفناء كنانة ، عليهم جندب بن سلمى ، أحد بني شنوق ، من بني مدلج ، ولم يكن في عمل عتاب جمع غيره، فالتقوا بالأبارق ، ففرقهم وقتلهمم ، واستحر القتل في نبي شنوق ، فما زالوا أذلاء قليلاً ، وبرت عمالة عتاب ، وأفلت جندب ، فقال جندب في ذلك :
ندمت وأيقنت الغداة بأنني ... أتيت التي يبقى على المرء عارها
شهدت بأن الله لا شئ غيره ... بنى مدلج فالله ربى وجارها
وبعث عثمان بن أبي العاص بعثا إلى شنوءة ، وقد تجمعت بها جماع من الأزد وبجيلة وخثعم ؛ عليهم حميضة بن النعمان ، وعلى أهل الطائف عثمان بن ربيعة ، فالتقوا بشنوءة ، فهزموا تلك الجماع ، وتفقوا عن حمضية وهرب حمضية في البلاد ، فقال في ذلك عثمان بن ربيعة :
فضضنا جمعهم والنقع كاب ... وقد تعدى على الغدر الفتوح
وأبرق بارق لما إلتقينا ... فعاد خلباً تلك البروق
خبر الأخابث من عك

قال أبو تجعفر : وكان أول منتفض بعد النبي صلى الله عليه وسلم بتهامة عك والأشعرون ، وذلك أنهم حين بلغهم موت النبي صلى الله عليه وسلم تجمع منهم طخارير ، فأقبل إليهم طخارير من الأشعرين وخضهم فانضموا إليهم ، فأقاموا على الأعلاب طريق الساحل ، وتأشب إليهم أوزاع على غيري رئيس ؛ فكتب بذلك الطاهر بن أبي هالة إلى أبي بكر ؛ وسار إليهم وكتب أيضاً بمسيرة إليهم ، ومعه مسروق العكي حتى انتهى إلى تلك الأوزاع ، على الأعلاب ، فالتقوا فاقتتلوا ، فهزمهم الله ، وقتلوهم كل قتلة ؛ وأنتنت السبل لقتلهم ؛ وكان مقتلهم فتحاً عظيماً . وأجاب أبو بكر الطاهر قبل أن يأتيه كتابه بالفتح : بلغني كتابك نخبرني فيه مسيرك واستنفارك مسروقاً وقومه إلى الأخابث وباعلاب، فقد أصبت ، فعاجلوا هذا الضرب ولا ترفهوا عنهم ، وأقيموا بالأعلاب حتى يأمن طريق الأخابث ، ويأتيكم أنري . فسميت تلك الجوع من عك ومن تأشب إليهم إلى اليوم الأخابث ، وسمى ذلك الطريق طريق الأخابث ؛ وقال في ذلك الطاهرين أبي هالة:
ووالله لولا الله لا شئ غيره ... لما فض بالأجراع جمع العثاعث
فلم تر عيني مثل يوم رأيته ... بجنب صحار في جموع الأخابث
قتلناهم ما بين قنة خامر ... إلى القيمة الحمراء ذات النبائث
وفئنا بأموال الأخابث عنوة ... جهاراً ولم نحفل بتلك الهثاهث
وعسكر طاهر على طريق الأخابث ، ومعه مسروق في عك ينتظر أمر أبي بكر رحمه الله قال أبو جعفر : ولما بلغ أهل نجران وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يومئذ أربعون ألف مقاتل ، من بني الأفعى ؛ الأمة التي كانوا بها قبل بني الحارث ؛ بعثوا وفداً ليجددوا عهداً ، فقدموا إليه فكتب لهم كتاباً: بسم الله الرحمن الرحيم . هذا الكتاب من عبد الله أبي بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل نجران ، أجارهم من جنده ونفسه وأجاز لهم ذمة محمد صلى الله عليه وسلم إلا ما رجع عنه محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمر الله عز وجل في أرضهم وأرض العرب ؛ ألا يسكن بها دينان ؛ أجارهم على أنفسهم بعد ذلك وملتهم وسائر أموالهم وحاشيتهم وعاديتهم ، وغائبهم وشاهدهم ، وأسقفهم ورهبانهم وبيعهم حيثما وقعت ؛ وعلى ما ملكت أيديهم من قليل أو كثير ؛ عليهم ما عليهم ، فإذا أدوه فلا يحشرون ولا يعشرون . ولا يغير أسقف من أسقفيته ، ولا راهب من رهبانيه ؛ ووفى لهم بكل ما كتب يحشرون ولا يعشرون . ولا يغير أسقف من أسقفيته ، ولا راهب من رهبانيته ؛ ووفى لهم بكل ما كتب لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى ما في الكتاب من ذمة محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوار المسلين . وعليهم النصح والإصلاح فيما عليهم من الحق . شهد المسور بن عمرو ، وعمرو مولى أبي بكر.
ورد أبو بكر جرير بن عبد الله ، وأمره أن يدعو من قومه من ثبت على أمر الله ، ثم يستنفر مقويهم ، فيقاتل بهم من ولى عن أمر الله ، وأمره أن يأتي خثعم ؛ فيقاتل من خرج غضباً لذى الخلصة ؛ ومن أراد إعادته حتى يقتلهم الله ، ويقتل من شاركهم فيه ؛ ثم يكون وجهه إلى نجران ، فيقيم بها حتى يأتيه أمره .
فخرج فنفذ لما أمره به أبو بكر ، فلم يقر له أحد إلا رجال في عدة قليلة ، فقتلهم وتتبعهم ؛ ثم كان وجهه إلى نجران ، فأقام بها انتظاراً أمر أبي بكر رحمه الله .
وكتب إلى عثمان بن أبي العاص أن يضرب بعثاً على أهل الطائف على كل مخلاف بقدره ، ويلى عليهم رجلا يأمنه ويثق بناجيته ؛ فضرب على كل مخلاف عشرين رجلاً ، وأمر عليهم أخاه وكتب إلى عتاب بن أسيد ؛ أن اضرب على أهل مكة وعملها خمسمائة مقو ؛ وابعث عليهم رجلاً تأمنه ، فسمى من يبعث ، وأمر عليهم خالد بن أسيد ؛ وأقام أمير كل قوم ، وقاموا على رجلً ليأتيهم أمر أبي بكر ، وليمر عليهم المهاجر.
ردة أهل اليمن ثانية

قال أبو جعفر : فممن ارتد ثانية منهم ، قيس بن عبد يغوث المكشوح ؛ كتب إلى السرى ، عن شعيب ، عن سيف، قال : كان من حديث قيس في ردته الثانية ، أنه حين وقع إليهم الخبر بموت رسول الله صلى الله عليه وسلم انتكث ، وعمل في تقل فيروز وداذويه وحشيش ، وكتب أبو بكر إلى عمير ذي مران وإلى سعيد ذي زود وإلى سميفع ذي الكلاع، وإلى حوشب ذي ظليم ، وإلى شهر ذي يناف ؛ يأمرهم بالتمسك بالذي هم عليه والقيام بأمر الله والناس ، وبعدهم الجنود: من أبي بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمير بن أفلح ذي مران ، وسعيد بن العاقب ذي زود ؛ وسميفع بن ناكور ذي الكلاع وحوشب ذي ظليم ، وشهر ذي يناف . أما بعد ، فأعينوا الأبناء على من ناوأهم وحوطوهم واسمعوا من فيروز وجدوا معه فإني قد وليته.
كتب إلى السري عن شعيب عن
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://arabelalekat.yoo7.com
الشيخ عودة
الشيخ عودة
الشيخ عودة



عدد المساهمات : 1748
تاريخ التسجيل : 28/09/2008
العمر : 73

كتاب : تاريخ الرسل والملوك المؤلف : الطبري - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: كتاب : تاريخ الرسل والملوك المؤلف : الطبري   كتاب : تاريخ الرسل والملوك المؤلف : الطبري - صفحة 2 Emptyالسبت ديسمبر 14, 2013 10:51 am

وكتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن سهل، عن القاسم وموسى بن الغصن، عن ابن محيريز، قال: فخرج عكرمة من مهرة سائراً نحو اليمن حتى ورد أبين، ومعه بشر كثير من مهرة، وسعد بن زيد، والأزد، وناجية، وعبد القيس، وحدبان من بني مالك بن كنانة، وعمرو بن جندب من العنبر، فجمع النخع بعد من أصاب من مدبريهم فقال لهم: كيف كنتم في هذا الأمر؟ فقالوا : كنا في الجاهلية أهل صرنا إلى دين. لا نتعاطى ما يتعاطى العرب بعضها من بعض فكيف بنا إذا ثبت عوامهم وهرب من كان فارق من خاصتهم؛ واستبرأ النخع وحمير، وأقام لإجتماعهم، وأرز قيس بن عبد يغوث لهبوط عكرمة إلى اليمن إلى عمرو بن معد يكرب، فلما ضامه وقع بينهما تنازع، فتعايرا، فقال عمرو بن معد يكرب يعير قيساً غدره بالأبناء وقتله داذويه، ويذكر فراره من فيروز:
غدرت ولم تحسن وفاء ولم يكن ... ليحتمل الأسباب إلا المعود
وكيف لقيس أن ينوط نفسه ... إذا ما جرى والمضرحي المسود !
وقال قيس:
وفيت لقومي وأحتشدت لمعشر ... أصابوا على الأحياء عمراً ومرثدا
وكنت لدى الأبناء لما لقيتهم ... كأصيد يسمو بالعزازة أصيدا
وقال عمرو بن معد يكرب:
فما إن داذوى لكم بفخر ... ولكن داذوى فضح الذمارا
وفيروز غداة أصاب فيكم ... وأضرب في جموعكم استجارا
ذكر خبر طاهر حين شخص مدداً لفيروز قال أبو جعفر الطبري رحمة الله : قد كان أبو بكر رحمة الله كتب إلى طاهر بن أبي هالة بالنزول إلى صنعاء وإعانة الأبناء ؛ مإلى مسروق، فخرجا حتى أتيا صنعاء، وكتب إلى عبد الله بن ثور بن أصغر، بأن يجمع إليه العرب ومن استجاب له من أهل تهامة، ثم يقيم بمكانه حتى يأتيه أمره.
وكان أول ردة عمرو بن معد يكرب أنه كان مع هخالد بن سعيد فخالفه، واستجاب لأسود، فسار إليه خالد بن سعيد حتى لقيه ؛ لافاختلفا ضربتين، فضربه خالد على عاتقه فقطع حمالة سيفه فوقع، ووصلت الضربة إلى عاتقه، وضربه عمرو فلم يصنع شيئاً، فلما أراد خالد أن يثنى عليه نزل فتوقل في الجبل، وسلبه فرسه وسيفه الصمصمامة، والحج عمرو فيمن لحج . وصارت إلى سعيد بن العاص الأصغر مواريث آل سعيد بن العاص الأكبر. فلما ولى الكوفة عرض عليه عمرو ابنته، فلم يقبلها، وأتاه في داره بعده سيوف كان خالداً أصابها باليمن فقال: أيها فضرب الإكاف فقطعه والبرذعة ؛ وأسرع في البغل، ثم رده على سعيد، وقال : لو زرتني في بيتي وهو لي لوهبته لك، فما كنت لأقبله إذ وقع.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عنسيف، عن المستنير بن يزيد عن عروة بن غزية وموسى، من عند أبي بكر - وكان في آخر من فصل - اتخذ مكة طريقاً، فمر بها فاتبعه خالد بن أسيد، ومر بالطائف فاتبعه عبد الرحمن بن أبي العاص، ثم مضى حتى إذا حاذى جرير بن عبد الله ضمه إليه، وانضم إليه عبد الله بن ثور حين حازاه، ثم قدم على أهل نجران ؛ فانضم إليه فروة بم مسيك وفارق عمرو بن معد يكرب قيساً، وأقبل مستحيباً ؛ حتى دخل على المهاجر على غير أمان ؛ فأوثقه المهاجر ؛ وأوثق قيساً، وكتب بحالهما إلى أبي بكر رحمه الله، وبعث بهما إليه. فلما سار المهاجر من نجران إلى اللحجية، والتقت الخيول على تلك الفالة استأمنوا، فأبى أن يؤمنهم، فافترقوا فرقتين ؛ فلقى المهاجر إحداهمابعجيب، فأتى عليهم، ولقيت خيوله الأخرى بطريق الأخابث، فأتوا عليهم - وعلى الخيول عبد الله - وقتل الشرداء بكل سبيل، فقدم بقيس وعمرو على أبي بكر، فقال: يا قيس، أعدوت على عباد الله تقتلهم وتتخذ المرتدين والمشركين وليجة من دون المؤمنين! وهم بقتلة لووجد أمراً جلياً. وانتفى قيس من أن يكون قارف من أمر داذويه شيئاً، وكان ذلك عملاً عمل في سر لم يكن به بينه، فتجافى له عن دمه، وقال لعمرو ابن معد يكرب: أما تخزى أنك كل يوم مهزوم أو مأسور! لو نصرت هذا الدين لرفعك الله . ثم خلى سبيله، ورد هما إلى عشائرهما، وقال عمرو: لا جرم!لأقبلن ولا أعود.

كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن المستنير وموسى قالا: سار المهاجر من عجيب، حتى ينزل صنعاء، وأمر أن يتبعوا شذاذ القبائل الذين هربوا ؛ فقتلوا من قدروا عليه منهم كل قتلة، ولم يعف متمرداً، وقبل توبة من أناب من غير المتمرد ؛ وعملوا في ذلك على قدر ما رأوا من آثارهم، ورجوا عندهم. وكتب إلى بكر بدخوله صنعاء وبالذي يتبع من ذلك.
ذكر خبر حضرموت في ردتهم قال أبو جعفر: كتب إلى السرى، عنشعيب، عنسيف، عن سهل بن يوسف، عن الصلت، عن كثير بن الصلت، قال: مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وعماله على بلاد حضرموت: زياد بن لبيد البياض على حضرموت. وعكاشة بن محض على السكاسك والسكون، والمهاجر على كندة - وكان بالمدينة لم يكن خرج حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فبعثه أبو بكر بعد إلى قتال من باليمن والمضي بعد إلى عمله.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن أبي السائب، عطاء ابن فلان المخزومي، عن أبيه عن أم سلمة والمهاجرين أبي أمية، أ،ه كان تخلف عن تبوك، فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عليه عاتب ؛ فبينا أم سلمة تغسل رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: كيف ينفعني شئ وأنت عاتب على أخي! فرأت منه رقة ؛ فأومأت إلى خادمها ؛ فدعته، فلم يزل برسول الله صلى الله عليه وسلم ينشر عذره حتى عذره ورضى عنه وأمره على كندة. فاشتكى ولم يطق الذهاب ؛ فكتب إلى زياد ليقوم له على عمله: وبرأ بعد، فأتم له أبو بكر إمرته، وأمره بقتال من بين نجران إلى أقصى اليمن ؛ ولذلك أبطأ زياد وعكاشة عن مناجرة كندة انتظاراً له كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن سهل بن يوسف، عن القاسم بن محمد ؛ قال : كان سبب ردة كندة إحابتهم الأسود العنسى حتى لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الملوك الأربعة، وأنهم قبل ردتهم حين أسلموا وأسلم أهل بلاد حضرموت كلهم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يوضع من الصدقات أن يوضع صدقة بعض حضرموت في السكون والسكون في بعض حضرموت . فقال نفر من بني وليعة: يا رسول الله ، إنا لسنا بأصحاب إبل ؛ فإن رأيت أن يبعثوا إلينا بذلك على ظهر ! فقال: إن أنتكم! قالوا: فإنغ ننظر، وجاء ذلك الإبان، دعا زياد الناس إلى ذلك، فحضروه فقالت بنو وليعة: أبلغونا كما وعدتم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : إن لكم ظهراً، فهملوا فاحتملوا، ولا حوهم ؛ حتى لاحوا زيادا ؛ وقالوا له : أنت معهم علينا. فأبى الحضرميون، ولج الكنديون، فرجعوا إلى دارهم، وقدموا رجلً وأخروا أخرى، وأمسك عنهم زياد انتظاراً للمهاجر ؛ فلما قدم المهاجر صنعاء، كتب إلى أبي بكر بكل الذي صنع ، وأقام حتى قدم عليه جواب كتابه من قبل أبي بكر ؛ فكتب إليه أبو بكر وإلى عكرمة، أن يسيرا حتى يقدما حضرموت، وأقر زياداً على علمه، وأذن لمن معك من بين مكة واليمن في القفل؛ إلا أن يؤثر قوم الجهاد. وأمده بعبيده ابن سعد. ففعل ؛ فسار المهاجر من صنعاء يريد حضرموت، وسار عكرمة من أبين يريد حضرموت، فاتقيا بمأرب ؛ ثم فوزا من صهيد ؛حتى اقتحما حضرموت، فنزل أحدهما على الأشعث والآخر علة وائل.

كتب إلى السى، عن شعيب عن سيف عن سهل بن يوسف، عن سهيل بن يوسف، عن أبيه، عن كثير بن الصلت ؛ قال: وكان زياد بن لبيد حين رجع الكنديون ولجوا ولج الحضرميون، ولى صدقات بني عمرو بم معاوية بنفسه، فقدك عليهم وهم بالرياض، فصدق أول من انتهى إليه منهم ؛ وهو غلام، يقال له شيطان بن حجر ؛ فأعجبته بكرة من الصدقة، فدعا بنار فوضع عليها الميسم، وإذا الناقة لأخي الشيطان العداء بن حجر، وليست عليه صدقة، وكان أخوه قد أوهم حين أخرجها وظنها غيرها ؛ فقال العداء: هذه شذرة بإسمها ؛ فقال الشيطان: صدق أخي ؛ فإني لم أعطوكموها إلا وأنا أراها غيرها ؛ فأطلق شذرة وخذ غيرها، فإ،ها غير متروكة . فرأى زياد أن ذلك منه اعتلال، واتهمه بالكفر ومباعدة الإسلام وتحري الشر. فحمى وحمى الرجلان، فقال زياد : لا ولا تنعم ؛ ولا هي لك ؛ لقد وقع عليها ميسم الصدقة وصارت في حق الله، ولا سبيل إلى ردها، فلا تكونن شذرة عليكم كالبسوس ؛ فنادى العداء: يا آل عمرو ، بالرياض أضام وأضهد! إن الذليل من أكل في داره!ونادى : يا أبا السميط، فأقبل أبو السميط حارثة بن سراقة بن معد يكرب ؛ فقصد لزياد بن لبيد وهو واقف، فقال: أطلق لهذا الفتى بكرته، وخذ بعيراً مكانها، فإ،ما بعير مكان بعير، فقال : مكا إلى ذلك سبيل! فقال: ذاك إذا كنت يهودياً!وعاج إليها، فأطلق عقالها، ثم ضرب على جنبها ؛ فبعثها وقام دونها، وهو يقوا:
يمنعها شيخ بخديه الشيب ... ملمع كما يلمع الثوب
فأمر به زياد شباباً من حضرموت والسكون، فمبعثره وتوطئوه، وكتفوه وكتفوا أصحابه، وارتهنوهم، وأخذوا البكرة فعقلوها كمات انت؛ وقال زياد ابن لبيد في ذلك:
لم يمنع الشذرة أركوب ... والشيخ قد يثنيه أرجوب
وتصايح أهل الرياض وتنادوا، وغضبت بنو معاوية لحارثة، وأظهروا أمرهم، وغضبت السكون لزياد، وغضبت له حضرموت، وقاموا جميعاً دونه. وتوافى عسكران عظيمان من هؤلاء وهؤلاء؛ لا تحدث بنو معاوية لمكان أسرئهم شيئاً، ولا يجد أصحاب زياد على بني معاوية سبيلاً يتعقلون به عليهم ؛ فأرسل إليهم زياد: إما أن تصعوا السلاح، وإما أن تؤذنوا بحرب ؛ فقالوا: لا نضع السلاح أبداً حتى ترفضوا وأنتم صغرة قمأة. يا أخابث الناس، ألستم سكان حضرموت وجيران السكون!فما عسيتم أن تكونوا وتصنعوا في دار حضرموت ؛ وفي جنوب مواليكم !وقالت له السكون : ناهد القوم، فإنه لا يفطمهم إلا ذلك، فنهد إليهم ليلاً، فقتل منهم، وكاروا عباديد، وتمثل زياد حين أصبح في عسكرهم:
وكنت امرأ لا أبعث الحرب ظالماً ... فلما أبوا سامحت في حرب حاطب
ولما هرب القوم خلى عن النفر الثلاثة ؛ ورجع زياد إلى منزله على الظفر. ولما رجع الأسراء إلى أصحابهم ذمروهم فتذامروا، وقالوا: لا تصلح البلدة علينا وعلى هؤلاء حتى تخلو لأحد الفريقين. فأجمعوا وعسكروا جميعاً، ونادوا بمنع الصدقة، فتركهم زياد لم يخرج إليهم، وبين زياد وحضرموت والسكون حتى سكن بعضهم عن بعض ؛ وهذه النفرة الثانية، وقال السكوني في ذلك:
لعمري وما عمري بعرضة جانب ... ليجتلبن منها المرار بنو عمرو
كذبتم وبيت الله لا تمنعونها ... زياداً، وقد جئنا زياداً على قدر

فأقاموا بعد ذلك يسيراً. ثم أن بني عمرو بن معاوية خصوصاً خرجوا إلى المحاجر، إلى أحماء ححكوها، فنزل جمد محجراً، ومخوص محجراً، ومشرح محجراً، وأبضعة محجراً، وأختهم العمردة محجراً - وكانت بنو عمرو بن معاوية على هؤلاء الرؤساء - ونزلت بنو الحارث بن معاوية محاجرها، فنزل الأشعث بن قيس محجراً، والسمط بن الأسود محجراً وكابقت معاوية كلها على منع الصدقة، وأجمعوا على الردة إلا ما كان من شرحبيل بن السمط وابنه، فإنهما قاما في بني معاوية، فقالا: والله إن هذا لقبيح بأقوام أحرار التنقل ؛ إن الكرام ليكونون على الشبهة فيتكرمون أن يتنقلوا منها إلى أوضح منها مخافة العار ؛ فكيف بالرجوع عن الجميل وعن الحق إلى الباطل والقبيح ! اللهم إنا لا نمالئ قومنا على هذا، وإنا لنادمون على مجامعتهم إلى يومنا هذا - يعني يوم البكرة ويوم النفرة - وخرج ابن صالح وامرؤ القيس بن عابس ؛ حتى أتيا زياداً، فقالا له: بيت القوم، فإن أقواماً من السكاسك قد انضموا إليهم، وقد تسرع إليهم قوم من السكونوشذاذ من حضرموت، لعلنا نوقع بهم وقعة تورث بيننا عداوة، وتفرق بيننا ؛ وإن أبيت خشينا أن يرفض الناس عنا إليهم ؛ والقوم غارون لمكان من أتاهم، راجون لمن بقي. فقال : شأنكم. فجمعوا جمعهم، فطرقوهم في محاجرهم، فوجودوهم حول نيرانهم جلوساً، فعرفوا من يريدون، فأكبوا على بني عمرو بن معاوية؛ وهم عدد القوم وشوكتهم، من خمسة أوجه في خمس فرق ، فأصابوا مشرحاً ومخوصاً وجمداً وأبضعة وأختهم العمردة أدركتهم اللعنة، وقتلوا فأكثروا، وهرب من أطاق الهرب، ووهنت بنو عمرو بن معاوية، فلم يأتوا بخير بعدها، وانكفأ زياد بالسبى والأموال، وأخذوا طريقاً يفضي بهم إلى عسكر الأشعث وبني الحارث بن معاوية ؛ فلما مروا بهم فيه استغاث نسوة بني عمرو بن معاوية ببني الحارث وناديته: يا أشعث، يا أشعث! خلاتك خالاتك! فثار في بني الحارث فتنقذهم - وهذه الثالثة - وقال الأشعث:
منعت بني عمرو وقد جاء جمعهم ... بأمعز من يوم البضيض وأصبرا
وعلم الأشعث أن زياداً وجنده إذا بلغهم ذلك لم يقلعوا عنه ولا عن بني الحارث بن معاوية وبنيعمرو بن معاوية، فجمع إليه بني الحارث بن معاوية وبني عمرو بن معاوية، ومن أطاعه من السكاسك والخصائص من قبائل ما حولهم، وتباين لهذه الوقعة من بحضرموت من القبائل، فثبت أصحاب زياد على طاعة زياد، ولجت كندة فلما تباينت القبائل كتب زياد إلى المهاجر؛ وكاتبه الناس فتلقاه بالكتاب، وقد قطع صهيد - مفازة ما بين مأرب حضرموت - واستخلف على الجيش عكرمة وتعجل في سرعان الناس، ثم سار حتى قدم على زياد ؛ فنهد إلى كندة وعليهم الأشعث، فالتقوا بمحجر الزرقان فاقتتلوا به فهزمت كندة، وقتلت وخرجوا هراباً، فالتجأت إلى النحير وقد رموه وحصنوه، وقال في يوم محجر الزرقان المهاجر:
كنا بزرقان إذ يشردكم ... بحر يزجى في موجه الحطبا
نحن قتلناكم بمحجركم ... حتى ركبتم من خوفنا السببا
إلى حصار يكون أهوانه ... سبى الذرارى وسوقها خببا
وسار المهاجر في الناس من محجر الزرقان حتى نزل على النجير، وقد اجتمعت إليه كنده، فتحصنوا فيه، ومعهم من استغووا من السكاسك وشذاذ من السكون وحضرموت والنجير، على ثلاثة سبل فنزل زياد على أحدهما، ونزل المهاجر على الآخر، وكان الثالث لهم يؤتون فيه ويذهبون فيه، إلى أن قدم عكرمة في الجيش ، فأ،زله على ذلك الطريق، فقطع عليهم المواد وردهم، وفرق في كندة الخيول، وأمرهم أن يوظئهم. وفيمن بعث يزيد بن قنان من بني مالك بن سعد، فقتل من بقرى بني هند إلى برهوت، وبعث فيمن بعث إلى الساحل خالد بن فلان المخزومي وربيعة الحضرمي، فقتلوا أهل محا وأحيا أخر ؛ وبلغ كندة وهم في الحصار ما لقى سائر قومهم، فقالوا: الموت خير مما أنتم فيه ؛ جزوا نواصيكم حتى كأنكم قوم قد وهبتم لله أنفسكم فأنعم عليكم فبؤتم بنعمة ؛ لعله أن ينصركم على هؤلاء الظلمة. فجزوا نواصيهم، وتعاقدوا وتواثقوا ألا يفر بعضهم عن بعذض ، وجعل راجزهم يرتجز في جوف الليل فوق حصنهم:
صباح سوء لبني قتيره ... وللأمير من بني المغيره
وجعل راجز المسلمين زياد بن دينار يريد عليهم:

لا تواعدونا واصبرواحصيرة ... نحن خيول ولد المغيره
وفي الصباح تظفر العشيرة فلما أصبحزا خرجوا على الناس، فاقتتلوا بأفنية النجير، حتى كثرت القتلى بحيال كل طريق من الطرق الثلاثة، وجعل عكرمة يرتجز يومئذ، ويقول:
أطعنهم وأنا على أوفاز ... طعناً أبوء به على مجاز
ويقول:
أنفذ قولي وله نفاذ ... وكل من جاورني معاذ
فهزمت كندة، وقد أكثروا فيهم القتل.
وقال هشام بن محمد: قدم عكرمة بن أبي جهل بعدما ما فرغ المهاجر من امر القوم مدداً لكم، وقد سبقتموهم بالفتح فأشركوهم في الغنيمة. ففعلوا وأشركوا من لحق بهم، وتواصلوا بذلك، وبعثوا بالأخماس والأسرى، وسار البشير فسبقهم؛ وكانوا يبشرون القبائل ويقرءون عليهم الفتح.
وكتب إلى السرى، قال: كتب أبو بكر رحمه الله إلى المهاجر مع المغيرة بن شعبة: إذا جاءكم كتابي هذا ولم يظفروا ؛ فإن ظفرتم بالقوم فاقتلوا المقاتلة، واسبوا الذرية إن أخذتموهم عنوة، أو ينزلوا على حكمي، فإن جرى بينكم صلح قبل ذلك فعلى أن تخروجوهم من ديارهم ؛ فإني أكره أن أقر أقواماً فعلوا فعلهم في منازلهم، ليعلموا أن قد أساءوا، وليذوقوا وبال بعض الذي أتوا.
قال أبو جعفر: ولما رأى أهل النجير المواد لا تنقجطع عن المسلمين، وأيقنوا أنهم غير منصرفين عنهم، خشعت أنفسهم، ثم خافوا القتل وخاف الرؤساء على أنفسهم ؛ ولو صبروا حتى يجئ المغيرة لكانت لهم في الثالثة الصلح على الجلاء نجاة. فعجل الأشعث، فخرج إلى عكرمة بأمان، وكان لا يأمن غيره ؛ وذلك أنه كانت تحته أسماء ابنة النعمان بن الجون ، خطبها وهو يومئذ بالجند ينتظر المهاجر، فأهداها إليه أبوها قبل أن يبادوا، فأبلغه عكرمة المهاجر، واستأمنه له على نفسه، ونفر معه تسعة ؛ على أن يؤمنهم وأهليهم وأن يفتحوا لهم الباب ؛ فأجابه إلى ذلك، وقال: انطلق فاستوثق لنفسك، ثم هلم كتابك أختمه.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن أبي إسحاق الشيباني، عن سعيد بن أبي بردة، عن عامر، أنه دخل عليه فاستأمنه على أهله وماله، وتسعة ممن أحب، وعلى أن يتفح لهم الباب فيدخلوا على قومه. فقال له المهاجر: اكتب ما شئت واعجل، فكتب أمانة وأمانهم، وفيهم أخوه وبنو عمه وأهلوهم، ونسى نفسه؛ عجل ودهش. ثم جاء بالكتاب فختمه ؛ ورجع فسرب الذين في الكتاب.
وقال الأجاح والمجالد: لما لم يبق إلا أن يكتب نفسه وثب عليه جحدم بشفيرة، وقال: نفسك أو تكتبني! فكتبه وترك نفسه.
قال أبو إسحاق: فلما فتح الباب اقتحمه المسلمون فلم يدعوا فيه مقاتلاً إلا قتلوه ؛ ضربوا أعناقهم صبراً، وأحصى ألف امرأة ممن في النجير والخندق ؛ ووضع على السبي والفئ الأحراس، وشاركهم كثير.

وقال كثير بن الصلت: لما فتح الباب وفرغ ممن في النجير، وأحصى ما أفاء الله عليهم، دعا الأشعث بأولئك النفر، ودعا بكتابة فعرضهم، فأجاز من في لكتاب، فإذا الأشعث يا عدو الله! قد كنت أشتهي أن يخزنك الله. الذي أخطأك نوءك يا أشعث، يا عدو الله !قد كنت أشتهي أن يخزيك الله.فشد وثاقاً، وهم بقتله، فقال له عكرمة: أخره، وأبلغه أبا بكر، فهو أعلم بالحكم في هذا . وإنه كان رجلاً نسى إسمه أن يكتبه ؛ وهو ولي المخاطبة. أفداك يبطل ذاك ! فقال المهاجر: إن أمره لبين، ولكني أتبع المشورة وأورها. وأخره وبعث به إلى أبي بكر مع السبي، فكان معهم يلعنه المسلمون ويلعنه سبايا قومه، وسماه نساء قومه عرف النار - كلام يمان يسمون به الغادر - وقد كان المغيرة تحير ليله للذي أراد الله، فجاء والقوم في دمائهم والسبي على ظهر، وسارت السبايا والأسرى، فقدم القوم على أبي بكر رحمه الله بالفتح والسبايا والأسرى. فدعا بالأشعث، فقال: استزلك بنو وليعة، ولم تكن لتستنزل لهم - ولا يرونك لذلك أهلاً - وهلكوا وأهلكوك! أما تخشى أن تكون دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وصل إليك منها طرف! ما تراني صانعاً بك؟ قال: إني لا علم لي برأيك، وأنت أعلم برأيك، قال : فإني أرى قتلك . قال : فإني أنا الذي راوضت القوم في عشرة، فما يحل دمي، قال: أفوضوا إليك؟ قال نعم، قال: ثم أتيتهم بما فوضوا إليم فختموه لك؟ قال: نعم، قال: فإنما وجب الصلح بعد ختم الصحيفة على من في الصحيفة، وإنما كنت قبل ذلك مراوضاً.فلما خشى أن يقع به قال: أو تحتسب في خيراً فتطلق إساري وتقيلني عثرني، وتقبل إسلامي، وتفعل بي مثل ما فعلته بأمثالي وترد على زوجتي - وقد كان خطب أم فروة بنت أبى قحافة مقدمة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فزوجه وأخرها إلى أن يقدم الثانية، فمات رسول صلى الله عليه وسلم وفعل الأشعث ما فعل، فخشى ألا ترد عليه - تجدني خير أهل بلاد لدين الله! فتجافى له عن دمه، وقبل منه، ورد عليه أهله، وقال : انطلق فليبلغني عنك خير، وخلى عن القوم فذهبوا، وقسم أبو بكر في الناس الخمس، واقتسم الجيش الأربعة الأخماس.
قال أبو جعفر: وأما ابن حميد، فإنه قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر، أن الأشعث لما قدم به على بكر، قال: ماذا تراني أصنع بك ؛ فإنك قد فعلت ما علمت ! قال : تمن على فتفكني من الحديد وتزوجني أختك ؛ فإني قد راجعت وأسلمت . فقال أبو بكر: قد فعلت. فزوجه أم فروة ابنة أبي قحافة، فكان بالمدينة بالمدينة حتى فتح العراق.
رجع الحديث إلى حديث سيف . فلما ولى عمر رحمه الله، قال : إنه ليقبح بالعرب أن يملك بعضهم بعضاً. وقد وسع الله، وفتح الأعاجم. واستشار في فداء سبايا العرب في الجاهلية والإسلام إلا امرأة ولدت لسيدها، وجعل فداء كل إنسان سبعة أبعرة وستة أبعرة إلا حنيفة كندة ؛ فإنه خفف عنهم لقتل رجالهم، ومن لا يقدر على فداء لقيامهم وأهل دبا، فتتبعت رجالهم نساءهم بكل مكان. فوجد الأشعث في بني ننهد وبني غطيف امرأتين ؛ وذلك أنه وقف فيها يسأل عن غراب وعقاب ، فقيل: ما تريد إلى ذلك ؟ قال: إن نساءنا يوم النجير خطفهن العقبان والغربان والذئاب والكلام. فقال بنو غطيف: هذا غراب، قال: فما موضعه فيكم؟ قالوا: في الصيانة ، قال: فنعم، وانصرف. وقال عمر : لا ملك على عربي، للذي أجمع عليه المسلمون معه.

قالوا: ونظر المهاجر في أمر المرأة التي كان أبوها النعمان بن الجون أهداها لرسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فوصفها أنها لم تشتك قط. فردها، وقال: لا حاجة لنا بها، بعد أن أجلسها بين يديه وقال له : لو كان لها عند الله خير لا شتكت. فقال المهاجر لعكرمة: متى تزوجتها؟ قال " وأنتا بعدن، فأهديت إلى بالجند، فسافرت بها إلى مأرب، ثم أوردتها العسكر. فقال بعضهم: دعها فإنها ليست بأهل أن يرغب فيها. وقال بعضهم: دعها فكتب المهاجر إلى أبي بكر رحمه الله يسأله عن ذلك فكتب إليه أبو بكر: إن أباها النعمان بن الجون أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فزينها له حتى أمره أن يجيئه بها، فلما جاءه بها قال : أزيدك أنها لم تيجع شيئاً قط، فقال: لو كان لها عند الله خير لا شتكت، ورغب عنها ؛ فارغبوا عنها. فأرسلها وبقي في قريش بعد ما أمر عمر في السبي بالفداء عدة منهم بشرى بنت فيس بن أبي الكيسم، عند سعد بن مالك، فولدت له عمر، وزرعة بنت مشرح عند عبد الله بن العباس ولدت له علياً.
كتب أبو بكر إلى المهاجر يخيره اليمن أو حضرموت ؛ فاختار اليمن، فكانت اليمن على أميرين: فيروز والمهاجر، زكانت حضرموت على أميرين: عبيدة بن سعد على كندة والسكاسك، وزياد بن لبيد على حضرموت.
وكتب أبو بكر إلى عمان الردة: أما بعد، فإن أحب من أدخلتم في أموركم إلى من لم يرتد ومن كان ممن لم يرتد، فأجتمعوا على ذلك، فاتخذوا منها صنائع وائذنوا لمن شاء في الأنصراف، ولا تستعينوا بمرتد في جهاد عدو.
وقال الأشعث بن مئناس السكوني يبكي أهل النجير:
لعمري وما عمري على بهين ... لقد كنت بالقتلى لحق ضنين
فلا غزو إلا يوم أقرع بينهم ... وما الدهر عندي بعدهم بأمين
فليت جنوب الناس تحت جنوبهم ... ولم تمش أنثى بعدهم لجنين
وكنت كذاب البو ريعت ... فأقبلت على بوها إذ كربت بحنين
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن موسى بن عقبة، عن الضحاك بن خليفة، قال: وقع إلى المهاجر امرأتان مغنيتان؛ غنت إحداهما بشتم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقطع يدها، ونزع ثنيتها ؛ فكتب إليه أبو بكر رحمه الله: بلغني الذي سرت به في المرأة التي تغنت وزمرت بشتيمه رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فلو لا ما قد سبقتني فيها لأمرتك بقتلها ؛ لأن حد الأنبياء ليس يشبه الحدود، فمن تعاطى ذلك من مسلم فهو مرتد، أو يمعاهد فهو محارب.
وكتب إليه أبو بكر في التي تغنت بهجاء المسلمين: أما بعد ؛ فإنه بلغني أنك قطعت يداً امرأة في أن تغنت بهجاء المسلمين، ونزعت تنيتها ؛ فإن كانت ممن تدعى الإسلام فأدب وتقدمه دون المثلة، وإن كانت ذمية فلعمري لما صفحت عنه من الشرك أعظم ؛ لو كنت تقدمت إليك في مثل هذا لبلغت مكروهاً ؛ فأقبل الدعة وإياك والمثلة في الناس ؛ فإنها مأثم ومنفرة إلا في قصاص.
وفي هذه السنة - أعني سنة إحدى عشرة - انصرف معاذ بن جبل من اليمن.
وستقضى أبو بكر فيها عمر بن الخطاب، فكان على القضاء أيام خلافته كلها.
وفيها أمر أبو بكر رحمه الله على الموسم عتاب بن أسيد - فيما ذكره الذين أسند إليهم خبره على بن محمد الذين ذكرت قبل في كتابي هذا أسماءهم.
وقال علي بن محمد: وقال قوم: بل حج بالناس في إحدى عشرة عبد الرحمن بن عوف عن تأمير أبي إياه بذلك .
ثم كانت سنة اثنتي عشرة من الهجرة
مسير خالد إلى العراق وصلح الحيرة
قال أبو جعفر، ولما فرغ خالد من أمر اليمامة، كتب إليه أبو بكر الصديق رحمه الله ؛ وخالد مقيم باليمامة - فيما حدثنا عبيد الله بن سعد الزهري، قال: أخبرنا عمى، قال: أخبرنا سيف بن عمر، عن عمرو بم محمد، عن الشعبي: أن سر إلى العراق حتى تدخلها، وابدأ بفرج الهند، وهي الأبلة، وتألف أهل فارس، ومن كان في ملكهم من الأمم.
حدثني عمر بن شبة، قال حدثنا على بن محمد بالأسناد الذي قد تقدم ذكره، عن القوم الذين ذكرتهم فيه، أن أبا بكر رحمه الله وجه المحرم سنة اثنتي عشرة، فجعل طريقه البصرة ، وفيها قطبة بن قتادة السدوسي.

قال أبو جعفر: وأما الواقدي، فإنه قال : اختلف في أمر خالد بن الوليد، فقائل يقول: مضى من وجهه ذلك من اليمامة إلى العراق . وقائل يقول : رجع من اليمامة، فقدم المدينة، ثم سار إلى العراق من المدينة على كطريق الكوفة؛ حتى انتهى إلى الحيرة.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن صالح بن كيسان ؛ أن أبا بكر رحمه الله كتب إلى خالد بن الوليد يأمره أن يسير إلى العراق، فمضى خالد يريد العراق، حتى نزل بقريات من السواد، يقال لها: بانقياً وباروسما وأليس ؛ فصالحه أهلها، وكان الذي صالحه عليها ابن صلوبا، وذلك في سنة اثنتي عشرة، فقبل منهم خالد الجزية وكتب لهم كتاباً فيه: بسم الله الرحمن الرحيم . من خالد بن الوليد لأبن صلوبا السوادي - ومنزله بشاطئ الفرات - إنك آمن بأمان الله - إذ حقن دمه بإعطاء الجزية - وقد أعطيت عن نفسك وعن أهل خرجك وجزيرتك ومن كان في قريتيك - بانقاً وباروسيما ألف درهم، فقبلتها منك، ورضى من معي من المسلمين بها منك، ولك ذمة الله وذمة محمد صلى الله عليه وسلم ، وذمة المسلمين على ذلك. وشهد هشام بن الوليد.
ثم أقبل خالد بن الوليد بمن معه حتى نزل الحيرة، فخرج إليه أشرفهم مع قبيصة بن إياس بن حية الطائي - وكان أمره عليها كسرى بعد النعمان بن المنذر - فقال له خالد ولأصحابه: أدعوكم إلى الله وإلى الإسلام، فإن أجبتم إليه فأنتم من المسلمين، لكم ما لهم وعليكم وما عليهم ؛ فإن أبيتم فالجزية، فإن أبيتم الجزية فقد أتيتكم بأقوام هم أحرص على الموت منكم على الحياة ؛ جاهدناكم حتى يحكم الله بيننا وبينكم.
فقال له قبيضة بن إياس: ما لنا بحربك من حاجة، بل نقيم على ديننا، ونعطيك الجزية. فصالحهم على تسعين ألف درهم، فكانت أول جزية وقعت بالعراق، هي القربات التي صالح عليها ابن صلوبا.
قال أبو جعفر: وأما هشام بن الكلبي ؛ فإنه قال: لما كتب أبو بكر خالد بن الوليد وهو باليمامة أن يسير إلى الشأم ، أمره أن يبدأ بالعراق فيمر بها ؛ فأقبل خالد منها يسير حتى نزل النباج.
قال هشام : قال أبو مخنف: فحدثني أبو الخطاب حمزة بن علي، عن رجل من بكر بن وائل، فقال : أمرني على من قبلي من قومي، أقاتل من يليني من أهل فارس، وأكفيك ناحيتي، ففعل ذلك ؛ فأقبل فجمع قومه وأخذ يغير بناحية كسكر مرة، وفي أسفل الفرات مرة، ونزل خالد بن الوليد النباج والمثنى بن حارثة بخفان معسكر ؛ فكتب إليه خالد بن الوليد ليأتيه ، وبعث إليه بكتاب من أبي بكر يأمره فيه بطاعته ؛ فانقص إليه جواداً حتى لحق به، وقد زعمت بنو عجل أنة كان خرج من المثنى بن حارثة رجل منهم يقال له مذعور بن عدي، نازع المثنى بن حارثة، فتكاتبا إلى أبي بكر ؛ فكتب أبو بكر إلى العجلي مصر ، فشرف بها وعظم شأنه ، فداره اليوم بها معرفة ؛ وأقبل خالد بن الوليد يسير، فعرض له جابان صاحب أليس، فبعث إليه المثنى بن حارثة، فقاتله فهزمه، وقتل جل أصحابه، إلى جانب نهر ثم يدعى نهر دم لتلك الوقعة ؛ وصالح خيل كسرى التي كانت في مسالح ما بينه وبين العرب، فلقوهم بمجتمع الأنهار، فتوجه إليهم المثنى بن حارثة، فهزمهم الله.
ولما راى ذلك أهل الحيرة خرجوا يستقبلونه ؛ فيهم عبد المسيح بن عمرو بن بقيلة وهانئ بن قبضية ، فقال خالد لعبد المسيح: من أين أثرك؟ قال : من ظهر أبي، قال: من أين خرجت؟ قال : من بطن أمي، قال: ويحك ! على أي شئ أنت؟ قال: ويحك!تعقل ؟ قال: نعم وأقيد، قال إنما أسألك، قال: وأنا أجيبك، قال أسلم أنت أم حرب؟ قال : بل سلم قال : فما هذه الحصون التي أرى ؟ قال: بنيناها للسفيه نحبسه حتى يجئ الحليم فينهاه. ثم قال لهم خالد: إني أدوكم إلى الله وإلى عبادته وإلى الإسلام، فإن قبلتم فلكم مآلنا وعليكم ما علينا، وإن أبيتم فالجزية، وإن أبيتم فقد جئناكم يقوم يحبون الموت كما تحبون أنتم شرب الخمر . فقالوا: لاحاجة لنا في حربك، فصالحهم على تسعين ومائة ألف درهم، فكانت أول جزية حملت إلى المدينة من العراق. ثم نزل على بانقياً، فصالحه بصيري بن صلوبا على ألف درهم وطيلسان ؛ وكتب لهم كتاباً وكان صالح خالد أهل الحيرة على أن يكونوا له عيوناً، ففعلوا.
قال هشام، عن أبي مخنف، قال : حدثني المجالد بن سعيد، عن الشعبي، قال: أقرأني بنو بقيلة كتاب خالد بن الوليد إلى أهل المدائن:

من خالد بن الوليد إلى مرازية أهل فارس ؛ سلام على من اتبع الهدى. أما بعد، فالحمد لله الذي فض خدمتكم ، وسلب ملككم، ووهن كيدكم. وإنه من صلى صلاتنا ؛ واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا ؛ فذلك المسلم الذي له مالنا، وعليه ما علينا. أما بعد، فإذا جاءكم كتابي فابعثوا إلى بالرهن، واعتقدوا منى الذمة، وإلا فوالذي لا إله لأبعثن إليكم قوماً يحبون الموت كما تحبون الحياة.
فلما قرءوا الكتاب، أخذوا يتعجبون، وذلك سنة اثنتي عشرة.
قال أبو جعفر: وأما غير ابن إسحاق وغير هشام ومن ذكرت قوله من قبل، فإنه قال في أمر خالد ومسيره إلى العراق ما حدثنا عبيد الله بن سعد الزهري، قال: حدثني عمي، عن سيف بن عمر، عن عمرو بن محمد، عن الشعبي، قال: لما فرغ خالد بن الوليد من اليمامة، كتب إليه أبو بكر رحمه الله: إن الله فتح عليك فعارق حتى تلقى عياضاً. وكتب إلى عياض بن غنم وهو بين النباج والحجاز: أن سر حتى تأتي المصيخ فابدأ بها، ثم ادخل العراق من أعلاها، وعارق حتى تلقى خالداً. وأذنا لمن شاء بالرجوع، ولا تستفتحا بمتكاره.
ولما قدم الكتاب على خالد وعياض، وأذنا في القفل عن أمر أبي بكر قفل أهل المدينة وما حولها وأعروهما ، فاستمدا أبا بكر، فأمد أبو بكر خالداً بالقعقاع بن عمرو التيمي، فقيل له : أتمد رجلاً قد ارفض عنه جنزده برجل! فقال: لا يهزم جيش فيهم مثل هذا. وأمد عياضاً بعبد بن عوف الحميري، وكتب إليهما أن استنفرا من قاتل أهل الردة، ومن ثبت على الإسلام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا يغزون معكم أحد ارتد حتى أرى رأيي. فلم يشهد الأيام مرتد.
فلما قدم الكتاب على خالد بتأمير العراق، كتب إلى حرملة وسلمى والمثنى ومذعور باللحاق به، وأمرهم أن يواعدوا جنود هم الأبلة، وذلك أن أبا بكر أمر خالداً في كتابه: إذا دخل العراق أن يبدأ بفرج أهل السند والهند - وهو يومئذ الأبلة - ليوم قد سماه، ثم حشر من بينه وبين العراق، فحشر ثمانية آلاف من ربيعة ومضر إلى ألفين كانا معه، فقدم في عشرة آلاف على ثمانية آلاف ممن كان مع الأمراء الأربعة - يعني بالأمراء الأربعة: المثنى، ومذعوراً، وسلمى، وحرملة - فلقى هروز في ثمانية عشر ألفاً حدثنا عبيد الله، قال: حدثني عمتي، عن سيف، عن المهلب الأسدي عن عبد الرحمن بن سياه، وطلحة بن الأعلم، عن المغيرة بن عتيبة، قالوا: كتب أبو بكر إلى خالد بن الوليد، إذ أمره على حرب العراق ؛ أن يدخلها من أسفلها . وإلى عياض إذ أمره على حرب العراق ؛ أن يدخلها من أعلاها ؛ ثم يستبقا إلى الحيرة، فأيهما سبق إلى الحيرة فهو أمير على صاحبه، وقال: إذا اجتمعتما بالحيرة، وقد فضضتما مسالح فارس وأمنتما أن يؤتى المسلمون من خلفهم، فليكن أحدكما ردءاً للمسلمين ولصاحبه بالحيرة ؛ وليقتحم الآخر على عدو الله وعدوكم من أهل فارس دارهم ومستقر عزهم ؛ المدائن.
حدثنا عبيد الله، قال: حدثني عمي عن سيف عن المجالد، عن الشعبي، قال: كتب خالد إلى هرمز قبل خروجه مع آزاذبه - أبي الزياذبة الذين باليمامة - وهرمز صاحب الثغر يومئذ: أما بعد، فأسلم تسلم، أو اعتقد لنفسك وقومك الذمة وأقرر بالجزية ؛ وإلا فلا تلومن إلا نفسك، فقد جئتك بقوم يحبون الموت كما تحبون الحياة.
قال سيف، عن طلحة بن الأعلم، عن المغيرة بن عتيبة - وكان قاضي أهل الكوفة - قال: فرق خالد مخرجه من اليمامة إلى العراق جنده ثلاث فرق، ولم يحملهم على طريق واحدة. فسرح المثنى قبله بيومين ودليله ظفر، وسرح عدي بن حاتم وعاصم بن عمرو ودليلاهما مالك بن عباد وسالم بن نصر، أحدهما قبل صاحبه بيوم ؛ وخرج خالد ودليله رافع ؛ فواعدهم جميعاً الحفير ليجتمعوا به وليصادموا به عدوهم ؛ وكان فرج الهند أعظم فروج فارس شأناً، وأشدها شوكة، وكان صاحبه يحارب العرب في البر والهند في البحر.
قال - وشاركه المهلب بن عقبة وعبد الرحمن بن سياه الأحمري، الذي تنسب إليه الحمراء سياه - قال: لما قدم كتاب خالد على هرمز كتب بالخبر إلى شيرى بن كسرى وإلى أردشير بن شيرى وجمع جموعه، ثم تعجل إلى الكواظم في سرعامن أصحابه ليتلقى خالداً، وسبق حلبته فلم يجدها طريق خالد، وبلغه أنهم تواعدوا الحفير، فعاج يبايبادره إلى الحفير فنزله، فتبعني به

يبادره إلى الحفير فنزله، فتبعني به، وجعل على مجنبته أخوين يلاقيان أرد شير وشيرى إلى أردشير الأكبر، يقال لهما: فماذا وأنو شجان، واقترنوا في السلاسل، فقال من لم ير ذلك لمن رآه: قيدتم أنفسكم لعدوكم، فلا تفعلوا ؛ فإن هذا طائر سوء. فأجابوهم وقالوا: أما أنتم فحدثوننا أنكم تريدون الهرب. فلما أتى الجبر خالداً بأن هرمز في الحفير أمال الناس إلى كاظمة، وبلغ هرمز ذلك. فبادره إلى كاظمة فنزلها وهو حسير ؛ وكان من أسوأ أمراء ذلك الفرج جوراً للعرب، فكل العرب عليه مغيظ ؛ وقد كانوا ضربوه مثلاً في الخبث حتى قالوا: أخبث من هرمز، وأكفر من هرمز. وتعبني هرمز وأصحابه واقترنوا في السلاسل، والماء في أيديهم. وقدم خالد عليهم فنزل على غير ماء، فقالوا له في ذلك، فأمر مناديه، فنادى: ألا انزلوا وحطوا أثقالكم، ثم جالدوهم على الماء، فلعمري ليصيرن الماء لأصبر الفريقين، وأكرم الجندين ؛ فحطت الأثقال والخيل وقوف، وتقدم الرجل، ثم زحف إليهم حتى لاقاهم ؛ فاقتتلوا ؛ وأرسل الله سحابة فأغزرت ما وراء صف المسلمين ، فقواهم بها ؛ وما ارتفع النهار وفي الغائط مقترن.
حدثنا عبيد الله، قال: حدثني عمي، عن سيف، عن عبد الملك لن عطاء البكائي ؛ عن المقطع بن الهيثم البكائي بمثله، وقالوا: وأرسل هرمز أصحابه بالغد ليغدروا بخالد، فواطئواه على ذلك، ثم خرج هرمز، فنادى رجل ورجل: أين خالد؟ وقد عهد إلى فرسانه عهده، فلما نزل خالد نزل هرمز، ودعاه إلى المنزل فنزل خالد فمشى إليه، فالتقيا فاختلفا ضربتين، واحتضنه خالد، وحملت حامية هرمز وغدرت، فاستلحموا خالداً فما شغله ذلك عن قتله. وحمل القععقاع بن عمرو واستلحم حماة هرمز فأناموا ؛ وإذا خالد يماصعهم ، وانهزم أهل فارس، وركب المسلمون أكتافهم إلى الليل، وجمع خالد الرثاث وفيها السلاسل، فكانت وقر بعير ؛ ألف رطل، فسميت ذات السلاسل، وأفلت قباذ وأنو شجان.
حدثنا عبيد الله، قال: حدثني عمي، عن سيف، عن عمرو بن محمد ؛ عن الشعبي، قال: كان أهل فارس يجعلون قلانسهم على قدر أحسابهم في عشائرهم، فمن تم شرفه فقيمة قلنسوته مائة ألف. فكان هرمز ممن تم شرفه، فكانت قيمتها مائة ألف ؛ فنفلها أبو بكر خالداً، وكانت مفصصة بالجوهر، وتمام شرف أحدهم أن يكون من بيوتات حدثنا عبيد الله، قال: حدثني عمي، نعن سيف، عن محمد بن نويرة، عن حنظلة بن زياد بن حنظلة، قال: لما تراجع الطلب من ذلك اليوم، نادى منادي خالد بالرحيل، وسار بالناس، واتبعته الأثقال ؛ حتى ينزل بموضع الجسر الأعظم من البصرة اليوم، وقد أفلت قباذ وأنوشجان، وبعث خالد بالفتح وما بقي من الأخماس وبالفيل، وقرأ الفتح على الناس . ولما قدم زر بم كليب بالفيل مع الأخماس، فطيف به في المدينة ليراه الناس. جعل ضعيفات النساء يقلن: أمن خلق الله ما نرى! ورأينه مصنوعاً، فرده أبو بكر مع زر. قال ولما نزل خالد موضع الجسر الأعظم اليوم بالبصرة ؛ بعث المثنى بن حارثة في آثار القوم ؛ وأرسل معقل بن مقرن المزني إلى الأبلة ليحجمع له مالها والسبي، فخرج معقل حتى نزل الأبلة فجمع الأموال والسبايا.
قال أبو جعفر: وهذه القصة في أمر الأبلة وفتحها خلاف ما يعرفه أهل السير، وخلاف ما جاءت به الآثار الصحاح، وإنما كان فتح الأبلة أيام عمر رحمه الله، وعلى يد عتبة بن غزوان في سنة أربع عشرة من الهجرة ؛ وسنذكر أمرها وقصة فتحها إذا انتهينا إلى ذلك إن شاء الله.
رجع الحديث إلى حديث سيف، عن محمد بن نويرة، عن حنظلة بن زياد، قال: وخرج المثنى حتى انتهى إلى نهر المرأة، فانتهى إلى الحصن الذي فيه المرأة، فخلف المعنى بن حارثة عليه، فحاصرها في قصرها، ومضى المثنى إلى الرجل فحاصره ثم استنزلهم عنوة ؛ فقتلهم واستفاء أموالهم ؛ ولما بلغ ذلك المرأة صالحت المثنى وأسلمت، فتزوجها المعنى، ولم يحرك خالد وأمراؤه الفلاحين في شئ من فتوحهم لتقدم أبي بكر إليه فيهم، وسبى أولاد المقاتلة الذين كانوا يقومون بأمور الأعاجم، وأقر من لم ينهض من الفلاحين ؛ وجعل لهم الذمة ؛ وبلغ سهم الفارس في يوم ذات السلاسل والثنى ألف درهم، والراجل على الثلث من ذلك.
ذكر وقعة المذار

قال: وكانت وقعة المذار في صفر سنة اثنتي عشرة، ويومئذ قال الناس: صفر الأصفار، فيه يقتل كل جبار، على مجمع الأنهار . حدثنا عبيد الله، قال: حدثني عمي، عن سيف، عن زياد والمهلب، عن عبد الرحمن بن سياه الأحمري.
وأما فيما كتب به إلى السري، عن شعيب، عن سيف، فإنه عن سيف، عن المهلب بن عقبة وزياد بن سرجس الأحمري وعبد الرحمن بن سياه الأحمري وسفيان الأحمري، قالوا: وقد كان هرمز كتب إلى أردشير وشيرى بالخبر بكتاب خالد إليه بمسيره من اليمامة نحوه، فأمده بقارن بن قريانس، فخرج قارن من المدائن ممداً لهرمز ؛ حتى إذا انتهى إلى المذار بلغته الهزيمة ؛ وانتهت إليه الفلال السواد والجبل: إن افترقتم لم تجتمعوا بعدها أبداً؛ فاجتمعوا على العود مرة واحدو، فهذا مدد الملك وهذا قارن، لعل الله يديلنا ويشفينا من عدونا وندرك بعض ما أصابوا منا ففعلوا وعسكروا بالمذار، واستعمل قارن على مجنبته قباذ وأنوشجان، وأرز المثنى والمعنى إلى خالد بالخبر ؛ ولما انتهى الخبر إلى خالد عن قارن قسم الفئ على من أفاءه الله عليه، ونفل من الخمس ما شاء الله، وبعث ببقيته وبالفتح إلى أبى ابن عقبة - والعرب تسمى كل نهر الثنى - وخرج خالد سائراً حتى ينزل المذار على قارن في جموعه، فالتقوا وخالد على تعبيته، فاقتتلوا على حنق وحفيظة، وخرج قارن يدعو للبراز، فبرز له خالد وأبيض الركبان معقل بن الأعشى بن النباش، فابتدراه، فسبقه إليه معقل، فقتله وقتل عاصم الأنوشجان، وقتل عدي قباذ . وكان شرف قارن قد النتهى ؛ ثم لم يقاتل المسلمون بعده أحداً انتهى شرفه في الأعاجم، وقتلت فارس مقتله عظيمة ؛ فضموا السفن، ومنعت المياه المسلمين من طلبهم، وأقام خالد بالمذار، وسلم الأسلاب لمن سلبها بالغة ما بلغت، وقسم الفئ ونفل من الأخماس أهل البلاء، وبعث ببقية الأخماس، ووفد وفداً مع سعيد بن النعمان أخي بني عدي بن كعب.
حدثنا عبيد الله، قال: حدثني عمي، عن سيف، عن محمد بن عبد الله، عن أبي عثمان، قال: قتل ليلة المذار ثلاثون ألفاً سوى من غرق ولولا المياه لأتى على آخرهم ؛ ولم يفلت منهم من أفلت إلا عراة وأشباه العراة.
قال سيف، عن عمرو والمجالد، عن الشعبي، قال: كان أول من لقي خالد مهبطه العراق هرمز بالكواظم، ثم نزل الفرات بشاطئ دجلة ؛ فلم يلق كيداً، وتبحبح بشاطئ دجلة، ثم الثنى، ولم يلق بعد هرمز أحداً إلا كانت الوقعة الآخرة أعظم من التي قبلها، حتى أتى دومة الجندل، وزاد سهم الفارس في يوم الثنى على سهمه في ذات السلاسل. فأقام خالد بالثنى يسبي عيالات النقاتلة ومن أعانهم، وأقر الفلاحين ومن أجاب إلى الخراج من جميع الناس بعد ما دعوزا، وكل ذلك أخذ عنوة ولكن دعوا إلى الجزاء ، فأجابوا وتراجعوا، وصاروا ذمة وصارت أرضهم لهم كذلك جرى ما لم يقسم فإذا اقتسم فلا.
وكان في السبي حبيب أبو الحسن - يعني أبا الحسن البصري - وكان نصرانياً، وما فنة مولى عثمان، وأبو زياد مولى المغيرة بن شعبة.
وأمر على الجند سعيد بن النعمان، وعلى الجزاء سويد بن مقرن المزني، وأمره بنزول الحفير، وأمرهي ببث عماله ووضع يده في الجباية، وأقام لعدوه يتحسس الأخبار.
ذكر وقعة الولجة ثم كان أمراً الولجة في صفر من سنة اثنتي عشرة ؛ والولجة مما يلي كسكر من البر.
حدثنا عبيد الله، قال: حدثني عمي، قال " حدثني سيف، عن عمرو والمجالد عن الشعبي قال لما فرغ خالد من الثنى وأتى الخبر أردشير، بعث الأندر زغر ؛ وكان فارسياً من مولدي السواد.

حدثنا عبيد الله قال: حدثني عمي، قال: حدثني سيف، عن زياد بن سرجس، عن عبد الرحمن بن سياده، قال - وفيما كتب به إلى السرى، قال حدثنا شعيب ؛ قال حدثنا سيف، عن المهلب بن عقبة وزياد بن سرجيس وعبد الرحمن بن سياده - قالوا: لما وقع الخبر بأرد شير بمصاب قارن وأهل المذار، أرسل الأنذار زغر ؛ - وكان فارسياً من مولدي السواد وتنائهم ؛ ولم يكن ممن ولد في المدائن ولا نشأ بها - وأرسل بهمن جاذويه في أثره في جيش، وأمره أن يعبر طريق الأنذرزعر ؛ وكان الأنذازعر قبل ذلك على فرج خراسان ؛ فخرج الأنذرزغر سائراً من المدائن حتى أتى كسكر، ثم جازها إلى الولجة، وخرج بهمن جاذويه في أثر كسكر، من عرب الضاحية والد هاقين فعسكروا إلى جنب عسكره بالولجة ؛ فلما اجتمع له ما أراد واستم أعجبه ما هو فيه، وأجمع السير إلى خالد ؛ ولما بلغ خالداً وهو بالثنى خبر الأنذرزعر ونزوله الولجة، نادى بالرحيل، وخلف سويد بن وأمرهم بالحذر وقلة الغفلة، وترك الإغترار، وخرج سائراً في الجنود نحو الولجة، حتى ينزل على الأندرزغر وجنوده ومن تأشب إليه ، فاقتتلوا قتالاً شديداً؛ هو أعظم من قتال الثنى.
حدثنا عبيد الله، قال: حدثني عمتي، عن سيف، عن محمد بن أبي عثمان، قال: نزل خالد على الأندرزعر بالولجة في صفر، فاقتتلوا بها قتالاً شدياً، حتى ظن الفريقان أن الصبر قد فرغ، واستبطأ خالد كمينه ؛ وكان قد وضع لهم كميناً في ناحيتين، عليهم بسرين أبي رهم وسعيد بن مرة العجلي، فخرج الكمين في وجهين، فانهزمت صفوف الأعاجم وولوا، فأخذهم خالد من بين أيديهم والكمين من خلفهم، فلم ير رجل منهم مقتل صاحبه؛ ومضى الأندرزعر في هزيمته، فمات عطشاً . وقام خالد في الناس خطيباً يرغبهم في بلاد العجم، ويزهدهم في بلاد العرب، وقال: ألا ترون إلى الطعام كرفغ التراب وبالله لو لم يلزمنا الجهاد في الله والدعاء إلى الله عز وجل ولم يكن إلا المعاش، لكان الرأي أن نقارع على هذا الريف حتى نكون أولى به، ونولى الجوع والإقلاع من تولاه ممن اثاقل عما أنتم عليه. وسار خالد في الفلاحين بسيرته فلم يقتلهم، وسبى ذراري المقاتلة ومن أعانهم، ودعا أهل الأرض إلى الجزاء والذمة، فتراجعوا.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن شيف - وحدثنا عبيد الله، قال: حدثني عمتي، عن سيف - عن عمرو، عن الشعبي، قال: بارز خالد يوم الولجة رجلاً من أهل فارس يعدل بألف رجل فقتله، فلما فرغ اتكأ عليه، ودعا بغدائه. وأصاب في أناس من بكر بن وائل ابناً لجابر بن بجير وابناً لعبد الأسو.
خبر أليس، وهي صلب الفرات

قال أبو جعفر، حدثنا عبيد الله، قال حدثني عمي، قال: حدثنا سيف، عن محمد بن طلحة، عن أبي عثمان وطلحة بن الأعلم عن المغيرة بن عتيبة. وأما السرى فإنه قال فيما كتب إلى : حدثنا شعيب، عن سيف، عن محمد بن عبد الله عن أبي عثمان، وطلحة بن الأعلم عن المغيرة بن عتيبة، قالا: ولما أصاب خالد يوم الولجة من أصاب من بكر بن وائل من نصاراهم الذين أعانوا أهل فارس غضب لهم نصارى قومهم؛ فكاتبوا الأعاجم وكاتبهم الأعاجم ؛ فاجتمعوا إلى أليس، وعليهم عبد الأسود العجلي، وكان أشد الناس على أولئك النصارى مسلمو بني عجل: عتيبة بن النهاس وسعيد بن مروة وفرات بن ح0يان والمثنى بن لاحق ومذعور بن عدي. وكتب أردشير إلى بهمن جاذويه، وهو بقسيانا وكان رافد فارس في كل يوم رافد قد نصب لذلك يرفدهم عند الملك ؛ فكان رافدهم بهمن روز أن سرحتي تقدم أليس بجيشك إلى من اجتمع بها من فارس ونصارى العرب. فقدم بهمن جاذويه جابان وأمره بالحث، وقال كفكف نفسك وجندك من قتال القوم حتى ألحق بك إلا أن يعجلوك. فسار جابان نحو أليس ؛ وانطلق بهمن جاذويه إلى أرشير ليحدث به عهداً، وليستأمره فيما يريد أن يشير به، فوجده مريضاً ؛ فعرج عليهخ، وأخلى جابان بذلك الوجه، ومضى حتى أتى أليس، فنزل بها في صفر، واجتمعت إليه المسالح التي كانت بإزاء العرب ؛ وعبد الأسود في نصارى العرب من بني عجل زتيم اللات وضبيعة وعرب الضاحية من أهل الحيرة ؛ وكان جابر بن بجير نصرانياً، فساند عبد الأسود ؛ وقد كان خالد بلغه تجمع عبد الأسود وجابر وزهير فيمن تأشب إليهم، فنهد لهم ولا يشعر بدنو جابان، وليست لخالد همة إلا من تجمع له من عرب الضاحية ونصاراهم ؛ فأقبل فلما طلع على جابان بأليس، قالت الأعاجم لجابان: أنعاجلهم أم نغدي الناس ولا نريهم أنا نحفل بهم، ثم نقاتل بعد الفراغ؟ فقال جابان: إن تركوكم والتهاون بكم فتهاونوا، ولكن ظني بهم أن سيعجلونكم ويعجلونكم عن الطعام . فعصوه وبسطوا البسط ووضعوا الأطعمة، وتداعوا إليها، وتوافوا عليها. فلما انتهى خالد إليهم ، وقف وأمر بحط الأثقال، فلما وضعت توجه إليهم، ووكل خالد بنفسه حوامى يحمون ظهره، ثم بدر أمام الصف، فنادى: أين أبجر؟ أين عبد الأسود؟ أين مالك بن قيس؟ رجل من جذرة ؛ فنكلوا عنه جميعاً إلا مالكاً، فبرز له، فقال له خالد: يا بن الخبيث
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://arabelalekat.yoo7.com
الشيخ عودة
الشيخ عودة
الشيخ عودة



عدد المساهمات : 1748
تاريخ التسجيل : 28/09/2008
العمر : 73

كتاب : تاريخ الرسل والملوك المؤلف : الطبري - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: كتاب : تاريخ الرسل والملوك المؤلف : الطبري   كتاب : تاريخ الرسل والملوك المؤلف : الطبري - صفحة 2 Emptyالسبت ديسمبر 14, 2013 10:52 am

وأبي خالد أن يكاتبهم إلا على إسلام كرامة بنت عبد المسيح إلى شويل ؛ فثقل ذلك عليهم، فقالت: هونوا عليكم وأسلموني، فإني سأفتدى. ففعلوا ؛ وكتب خالد بينه وبينهم كتاباً: بسم الله الرحمن الرحيم . هذا ما عاهد عليه خالد بن الوليد عدياً وعمراً ابني عدي، وعمرو بن عبد المسيح وإياس بن قبيصة وحيري بن أكال - وقال عبيد الله: جبري - وهم نقباء أهل الحيرة ؛ ورضى بذلك أهل الحيرة، وأمروهم به - عاهدهم على تسعين ومائة ألف درهم، تقبل في كل سنة جزاء عن أيديهم في الدنيا ؛ رهبانهم وقسيسهم ؛ إلا من كان منهم على غير ذي يد، حبيساً عن الدنيا، تاركاً لها - وقال عبيد الله: إلا من كان غير ذي يد حبيساً عن الدنيا تاركاً لها - أوسائحاً تاركاً للدنيا، وعلى المنعة، فإن لم يمنعهم فلا شئ عليهم حتى يمنعهم، وإن غدروا بفعل أو بقول فالذمة منهم بريئة. وكتب في شهر ربيع الأول من سنة اثنتي عشرة، ودفع الكتاب إليهم.
فلما كفر أهل السواد بعد موت أبي بكر استخفوا بالكتاب، وضيعوه، وكفروا فيمن كفر، وغلب عليهم أهل فارس ؛ افتتح المثنى ثانية ؛ أدلوا بذلك، فلم يجيبهم إليه، وعاد بشرط آخر ؛ فلما غلب المثنى على البلاد كفروا وأعانوا واستخفوا وأضاعوا الكتاب. فلما افتتحها سعد ةأدلوا بذلك سألهم واحداً من الشرطين، فلم يجيئوا بهما ؛ فوضع عليهم وتحرى ما يرى أنهم مطيقون ، فوضع عليهم أربعمائة ألف سوى الحرزة - قال عبيد الله: سوى الخرزة .
حدثنا عبيد الله، قال: حدثني عمي، عن سيف - والسري، عن شعيب، عن سيف - عن الغصن بن القاسم الكناني عن رجل من بني كنانة ويونس بن أبي إسحاق، قالا: كان جرير بن عبد الله ممن خرج مع خالد بن سعيد بن العاصى إلى الشأم، فاستأذن الداً إلى أبي بكر ليكلمه في قومه وليجمعهم له ؛ وكانوا أوزاعاً في العرب، وليتخلصهم ؛ فأذن له، فقدم على أبي بكر، فذكر له عدة من النبي صلى الله عليه وسلم وأتاه على العدة بشهود، وسأله إنجاز ذلك، فغضب أبو بكر، وقال له: ترى شغلنا وما نحن فيه بغوث المسلمين ممن بإزائهم من الأسدين فارس والروم؛ ثم أنت تكلفني التشاغل بما لا ينبغي عما هو أرضى لله ولرسوله! دعني وسر نحو خالد بن الوليد حتى أنظر ما يحكم الله في هذين الوجهين.
فسار حتى قدم على خالد وهو بالحيرة، ولم يشهد شيئاً مما كان بالعراق إلا ما كان بعد الحيرة ؛ ولا شيئاً مما كان خالد فيه من أهل الردة. وقال القعقاع بن عمرو في أيام الحيرة :
سقى الله بالفرات مقيمة ... وأخرى بأنباج النجاف الكوانف
فنحن وطئنا بالكواظم هرمزاً ... وبالثنى قرني قارن بالجوارف
ويوم أحطنا بالقصور تتابعت ... على الحيرة الروحاء إحدى المصارف
حططناهم منها وقد كاد عرشهم ... يميل بهم فعل الجبان المخالف
رمينا عليهم بالقبول وقد رأوا ... غبوق المنايا حول تلك المحارف
صبيحة قالوا نحن قوم تنزلوا ... إلى الريف من أرض العريب المقانف
خبر ما بعد الحيرة حدثنا عبيد الله بن سعد الزهري، قال: حدثني عمي، عن سيف، عن جميل الطائي، عن أبيه، قال: لما أعطى شويل كرامة بنت عبد المسيح قلت لعدي بن حاتم: ألا تعجب من مسألة شويل كرامة بنت المسيح على ضعفه!قال: كان يهرف بها دهره، قال وذلك أني لما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر ما رفع له من البلدان، فذكر الحيرة فيما رفع له، وكأن شرف قصورها أضراس الكلاب ؛ عرفت أن قد أريها، وأنها ستفتح، فلقيته مسألتها.

وحدثنا عبيد الله، قال: حدثني، عن سيف، قال: قال لي عمرو والمجالد، عن الشعبي - والسري، عن شعيب، عن سيف، عن المجالد، عن الشعبي - قال: لما قدم شويل إلى خالد، قال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر فتح الحيرة، فسألته كرامة، فقال: هي لك إذا فتحت عنوة. وشهد له بذلك، وعلى ذلك صالحهم ؛ فدفعها إليه، فاشتد ذلك على أهل بيتها وأهل قريتها ما وقعت فيه، وأعظموا الخطر، فقالت " : لا تخطروه، ولكن اصبروا؛ ما تخافون على امرأة بلغت ثمانين سنة! فإنما هذا أحمق رآني في شبيبتي فظن أن الشاب يدوم. فدفعوها إلى خالد ؛ فدفعها خالد إليه، فقالت: ما رأبك إلى عجوز كما ترى!فادنى، قال: لا، إلا على حكمي، قالت: فلك حكمك مرسلً. فقال: لست لأم شويل إن نقصك من ألف درهم! فاستكثرت ذلك لتخدعه، ثم أتته بها. فرجعت إلى أهلها، فتسامع الناس بذلك، فعنفوه، فقال: ما كنت أرى أن عدداً يزيد على ألف!فأبوا عليه إلا أن يخاصمهم فخاصمهم ، فقال: كانت نيتي غاية العدد، وقد ذكروا أن العدد يزيد على ألف، فقال خالد: أردت أمراً وأراد الله غيره ؛ نأخذ بما يظهر وندعك ونيتك، كاذباً كنت أو صادقاً.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن عمرو، عن الشعبي، قال: لما فتح خالد الحيرة صلى صلاة الفتح ثماني ركعات لا يسلم فيهن، ثم انصرف، وقال: لقد قاتلت يوم مؤتة فانقطع في يدي تسعة أسياف، وما لقيت قوماً كقوم لقيتهم من أهل فارس؛ وما لقيت من أهل فارس قوماً كأهل أليس! حدثنا عبيد الله، قال: حدثني عمي، عن سيف، عن عمرو والمجالد، عن الشعبي، قال صلى خالد صلاة الفتح ، ثم انصرف . ثم ذكر مثل حديث السري.
حدثنا عبيد الله، قال: حدثني عمي، عن سيف - والسري، عن شعيب، عن سيف - عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم - وكان قدم مع جرير على خالد - قال: أتينا خالداً بالحيرة وهو متوشح قد شد ثوبه في عنقه يصلي فيه وحده، ثم انصرف، فقال: اندق في يدي تسعة أسياف يوم مؤتة، ثم صبرت في يدي صفيحة يمانية، فما زالت معي.
حدثنا عبيد الله، قال: حدثني عمي، عن سيف، عن محمد بن عبد الله عن أبي عثمان وطلحة بن الأعلم عن المغيرة بن عتيبة والغصن ابن القاسم، عن رجل من بني كنانة وسيفان الأحمري عن ماهان، قال: ولما صالح أهل الحيرة خالداً خرج صلوباً بن نسطوناً صاحب قس الناطف، حتى دخل على خالد عسكره؛ فصالحه على بانقياً وبسماً، وضمن له ما عليهما وعلى أرضهما من شاطئ الفرات جميعاً، واعتقد لنفسه وأهله وقومه على عشرة آلاف دينار سوى الخرزة، خرزة كسرى؛ وكانت على كل رأس أربعة دراهم، وكتب لهم كتاباً فتموا وتم، ولم يتعلق عليه في حال غلبة فارس بغدر، وشاركهم المجالد في الكتاب: بسم الله الرحمن الرحيم . هذا كتاب من خالد بن الوليد لصلو بابن نسطونا وقومه ؛ إني عاهدتكم على الجزية والمنعة؛ على كل ذي يد؛ بانقياً وبسماً جميعاً، على عشر آلاف دينار سوى الخرزو، القوى على قدر قوته، والمقل على قدر إقلاله، في كل سنة. وإن قد نقبت على قومك، وإن قومك قد رضوا بك. وقد قبلت ومن معي من المسلمين، ورضيت ورضى قومك؛ فلك الذمة والمنعة ؛ فإن منعناكم فلنا الجزية؛ وإلا فلا حتى نمنعكم. شهد هشام بن الوليد، والقعقاع بن عمرو، وجرير بن عبد الله الحميري، وحنطلة الربيع. وكتب سنة اثنتي عشرة في صفر.
كتب إلى السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد بن عبد الله، عن أبي عثمان، عن ابن أبي مكنف، وطلحة عن المغيرة، وسيفان عن ماهان، وحدثنا عبيد الله، قال: حدثني عمي، عن سيف، عن محمد، عن أبي عثمان، وطلحو عن المغيرة، قال " كان الدهاقين يتربصون بخالد وينظرون ما يصنع أهل الحيرة. فلما استقام ما بين أهل الحيرة وبين خالد، واستقاموا له أتته دهاقين الملطاطين ، وأتاه زاذبن بهيش دهقان فرات سرياً ، وصلوباً بن بصبهري ونسطونا - فصالحوه على ما بين الفلاليج إلى هرمز جرد على ألفي ألف - وقال عبيد الله في حديثه: على ألف ألف ثقيل - وأن للمسلمين ما كان لآل كسرى ومن مال معهم عن المقام في داره فلم يدخل في الصلح. وضرب خالد رواقه في عسكره، وكتب لهم كتاباً:

بسم الله الرحمن الرحيم . هذا كتاب من خالد بن الوليد لزاد بن بهميش وصلوبا بن نسطونا ؛ لكم الذمة وعليكم الجزية، وأنتم ضامنون لمن نقبتم عليه من أهل البهقاباذ الأسفل والأوسط وقال عبيد الله: وأنتم ضامنون جزية من نقبتم عليه على ألفي ثقيل في كل سنة ؛ عن كل ذي يد سوى ما على بانقاً وبسماً وإنكم قد أرضيتموني والمسلمين؛ وإنا قد أرضيناكم وأهل البهقباذ الأسفل؛ ومن دخل معكم من أهل البهقباذ الأوسط على أموالكم ؛ ليس فيها ما كان لآل كسرى ومن مال ميلهم. شهد هشام بن الوليد ، والقعقاع بن عمرو، وجرير بن عبد الله الحكيري، وبشير بن عبيد الله بن الخصاصة، وحنظلة بن الربيع. وكتب سنة اثنتي عشرة في صفر وبعث خالد ابن الوليد عماله ومسالحه ؛ فبعث في العمالة عبد الله بن وثيمة النصري ، فنزل في أعلى العمل بالفلاليج على المنعة وقبض الجزية ، وجرير بن عبد الله على بانقيا وبسما، وبشير بن الخصاصية على النهرين فنزل الكوفية ببانبورة، وسويد بن مقرن المزني إلى سنتر، فنزل العقر - فهي تسمى عقر سويد إلى اليوم، وليست بسويد المنقري سميت - وأط بن أبي إط إلى روذمستان، فنزل منزلاً على نهر سمى ذلك النهر به - ويقال له : نهر إط إلى اليوم؛ وهو رجل من بن يسعد بن زيد مناة ؛ فهؤلاء كانوا عمال الخراج زمن خالد بن الوليد .
وكانت الثغور في زمن خالد بالبسيب، بعث ضرار بن الأزور وضرار بن الخطاب والمثنى بن حارثة ضرار بن مقرن والقعقاع بن عمرو وبسر بن أبي رهم وعتيبة بن النهاس ؛ فنزلو ا على السيب في عرض سلطانه. فهؤلاء أمراء ثغور خالد. وأمرم خالد بالغارة والإلحاح، فمخروا ما رواء ذلك إلى شاطئ دجلة.
قالوا: ولما غلب خالد على أحد جانبي السواد، دعا من أهل الحيرة برجل، وكتب معه إلى أهل فارس وهم بالمدائن مختلفون متساندون لموت أردشير ؛ إلا أنهم قد أنزلوا بهمن جاذويه ببهر سير ؛ وكأنه على المقدمة، ومع بهمن جاذويه الآزاذبة في أشباه له ، ودعى صلوبا برجل ، وكتب معهما كتابين؛ فأما أحدهما فإلى الخاصة وأما الآخر فإلى العامة ؛ أحدهما حيري والآخر نبطي ولما قال خالد لرسول أهل الحيرة : ما اسمك؟ قال: مرة، قال: خذ الكتاب فأت به أهل فارس، لعل الله أن يمر عليهم عيشهم، أو يسلموا، أو ينبهوا، وقال لرسول صلوبا: ما أسمك؟ قال: هزميل ، قال: فخذ الكتاب. وقال : اللهم أزهق نفوسهم.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن مجالد وغيره، بمثله، والكتابان: بسم الله الرحمن الرحيم .من خالد بن الوليد إلى ملوك فارس ؛ أما بعد ؛ فالحمد لله الذي حل نظامكم، ووهن كيديطم، وفرق كلمتكم، ولو لم يفعل ذلك بكم كان شراً لكم ؛ فادخلوا في أمرنا ندعكم وأرضكم، ونجوزكم إلى غيركم، وإلا كان ذلك وأنتم كارهون على غلب، على أيدي قوم يحبون الموت كما تحبون الحياة.
بسم الله الرحمن الرحيم . من خالد بن الوليد إلى مرازية فارس ؛ أما بعد فأسلموا تسلموا ؛ وإلا فاعتقدوا مني الذمة، وأدوا الجزية، وإلا فقد جئتكم بقوم يحبون الموت، كما تحبون شرب الخمر.
جدثني عبيد الله، قال: حدثني، عن سيف، عن محمد بن نوريرة، عن أبي عثمان. والسري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد بن عبد الله، عن أبي عثمان والمهلب بن عقبة وزياد بن سرجس، عن سياده وسيفان الأحمري، عن ماهان: أن الخراج جبي إلى خالد في خمسين ليلة، وكان الذين ضمنوه والذين هم رءوس الرساتيق رهناً في يده، فأعطى ذلك كله للمسلمين، فقووا على أمورهم. وكان أهل فارس بموت أردشير مختلفين في الملك، مجتمعين على قتال خالد، متساندين ؛ وكانوا بذلك سنة، والمسلمون يمخرون كا دون دجلة، وليس لأهل فارس فيما بين الحيرة ودجلة أمر ؛ وليست لأحد منهم ذمة إلا الذين كاتبوه واكتتبوا منه، وسائر أهل السواد جلاء، ومتحصنون ، ومحاربون، واكتتب عمال الخراج، وكتبوا البراءات لأهل الخراج، من نسخة واحدة: بسم الله الرحمن الرحيم .براءة لمن كان من كذا وكذا من الجزية التي صالحهم عليها الأمير خالد بن الوليد، وقد قبضت الذي صالحهم عليه خالد، يوخالد والمسلمون لكم يد على من بدل صلح خالد ؛ ما أقررتم بالجزية وكففتم. أمانكم أمان، وصلحكم صلح ؛ نحن لكم على الوفاء

وأشهدوا لهم النفر من الصحابة الذين كان خالد أشهدهم: هشاما، والقعقاع، وجابر بن طارق، وجريراً، وبشيراً، وحنظلة، وأزداذ، والحجاج بن ذي العنق، ومالك بن زيد.
حدثنا عبيد الله، قال: حدثني عمي، سيف، عن عطية بن الحارث، عن عبد خير، قال: وخرج خالد وقد كتب أهل الحيرة عنه كتاباً: إنا قد أدينا الجزية التي عاهدنا عليها خالد العبد الصالح والمسلمون عباد الله الصالحون، على أن يمنعونا وأميرهم البغي من المسلمين وغيرهم.
وأما المرى ؛ فإنه قال في كتابه إلى: حدثنا شعيب، عن سيف عن عطية بن الحارث، عن عبد خير، عن هشام بن الوليد، قال: فرغ خالد....ثم سائر الحديث مثل حديث عبيد الله بن سعد.
حدثنا عبيد الله، قال: حدثني عمي عن سيف والسرى، عن شعيب عن سيف عن عبد العززيز بن سياه، عن حبيب بن أبي ثابت، عن ابن الهذيل الكاهلي نحواً منه، قالوا: وأمر الرسولين اللذين بعثهما أن يوافياه بالخبر، وأقام خالد في عمله سنة ومنزله الحيرة، يصعد ويصوب قبل خروجه إلى الشأم، وأهل فارس يخلعون ويملكون ؛ ليس إلا الدفع عن بهر سير ؛ وذلك أن شيري بن كسرى قتل كل من كان يناسبه إلى كسرى بن قباذ، ووثب أهل فارس بعده وبعد أرشير ابنة ، فقتلوا كل من بين كسرى بن قباذ وبين بهرام جور، فقوا لا يقدرون على من يملكون ممن يجتمعون عليه.
حدثنا عبيد الله، قال: حدثني عمي، قال: حدثني سيف، عن عمرو والمجالد، عن الشعبي، قال: أقام خالد بن الوليد فيما بين فتح الخيرة إلى خروجه إلى الشأم اكثر من سنة ، يعالج عمل عياض الذي سمى له، وقال خالد للمسلمين: لولا ما عهد إلى الخليفة لم أتنقذ عياضاً، وكان قد شجى وأشجى بدومة، وكا كان دون فتح فارس شئ ؛ إنها لسنة كأنها سنة نساء. وكان عهد إليه ألا يقتحم عليهم وخلفه نظام لهم. وكان بالعين عسكر لفارس وبالأنبار آخر وبالفراص آخر ولما وقعت كتب خالد إلى أهل المدائن تلكم نساء آل كسرى، فولى الفرخزاذين البندوان إلى أن يجتمع آل كسرى على رجل إن وجدوه.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن محمد بن عبد الله عن أبي عثمان، وطلحة عن المغيرة، والمهلب عن سياه، وسفين عن ماهان، قالوا: كان أبو بكر رحمه الله قد عهد إلى خالد أن يأتي العراق من أسفل منها، وإلى عياض أن يأتي العراق من فوقها، وأيكما ما سبق إلى الحيرة فهو أمير على الحيرة ؛ فإذا اجتمعتما بالحيرة إن شاء الله وقد فضضتما مسالح ما بين العرب وفارس وأمنتم أن يؤتى المسلمون من خلفهم فليم بالحيرة أحدكما، وليقتحم الآخر على القوم، وجالوهم عما في أيديهم، واستعينوا بالله واتقوه، وآثروا أمر الآخرة على الدنيا يجتمعا لكم ؛ ولا تؤثروا الدنيا فتسلبوهما. واحذروا ما حذركم الله بترك المعاصي ومعالجة التوبة ؛ وإياكم والإصرار وتأخير التوبة.
فأتى خالد على ما كان أمر به ، ونزل الحيرة، واستقام له ما بين الفلاليج إلى أسفل السواد، وفرق سواد الحيرة يومئذ على جرير بن عبد الله الحميري، وبشير بن الخصاصية، وخالد بن الواشمة، وابن ذي العنق، وأط وسويد وضرار ؛ وفرق سواد الأبلة على سويد بن مقرن، وحسحكة الحبطى، والحصين بن أبي الحر، وربيعة بن عسل، وأقر المسالح على ثغورهم، واستخلف على الحيرة القعقاع بن عمرو. وخرج خالد في عمل عياض ليقضي ما بينه ، وإغاثته، فسلك الفلوجة حتى نزل بكربلاء وعلى مسلحتها عاصم بن عمرو، وعلى مقدمة خالد الأقرع بم جابس ؛ لأن المثنى كان على ثغر من الثغور التي تلى المدائن ؛ فكانوا يغارون أهل فارس، وينتهون إلى شاطئ دجلة قبل خروج خالد من الحيرة وبعد خروجه في إغاثة عياض.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن أبي روق، عمن شهدهم بمثله، إلى أن قال: وأقام خالد على كربلاء أياماً، وشكاً إليه عبد الله بن وثيمة الذباب، فقال له خالد: اصبر فإني إنما أريد أن أستفرغ المسالح التي أمر بها عياض فنسكنها العرب، فتأمن جنود المسلمين أن يؤتوا ورأيه يعدل نجدة الأمة. وقال رجل من أشجع فيما حكى ابن وثيمة:
لقد حبست في كربلاء مطيتي ... وفي العين حتى عاد غثا سمنيها
إذا زحلت من مبرك رجعت له ... لعمر أبيها إنني لأهينها
ويمنعها من ماء كل شريعة ... رفاق من الذبان زرق عيونها
حديث الأنبار وهي ذات العيون وذكر كلواذى

كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وأصحابهما، قالوا: خرج خالد بن الوليد في تعبيته التي خرج فيها من الحيرة ، وعلى مقدمته الأقرع بن حابس فلما نزل الأقرع المنزل الذي يسلمه إلى الأنباء أنتج قوم من المسلمين إبلهم، فلم يستطيعوا العرجة ، ولم يجدوا بدا من الإقدام، ومعهم بنات مخاض ، تتبعهم. فلما نودى بالرحيل صروا الأمهات، واحتقبوا المنتوجات ؛ لأنها لم تطق السير ؛ فانتهوا ركبانا إلى الأنبار، وقد تحصن أهل الأنبار، وخندقوا عليهم، وأشرفوا من حصنهم، وعلى تلك الجنود شير زاد صاحب ساباط وكان أعقل أعجمي يومئذ من السور، وقالوا: صبح الأنبار شر ؛ جمل يحمل جميله وجمل تربه عوذ . فقال شيرزاد: ما يقولن؟ ففسر له، فقال: أما هؤلاء فقد قضوا على أنفسهم؛ وذلك أن القوم إذا القوم إذا قضوا على أنفسهم قضاء كاد يلزمهم ؛ والله لئن لم يكن خالد مجتازاً لأصالحنه ؛ فبيناهم كذلك قدم خالد على المقدمة، فأطاف بالخندق، وأنشب القتال ؛ وكان قليل الصبر عنه إذا رآه أو سمع به ؛ وتقدم إلى رماته، فأوصاهم وقال: إني أرى أقواماً لا علم لهم بالحرب، فارموا عيونهم ولا توخروا غيرها، فرموا رشقاً واحداً، ثم تابعوا ، ففقئ ألف عين يومئذ، فسميت تلك الوقعة ذات العيون ؛ وتصالح القوم: ذهبت عيون أهل الأنبار! فقال شيرزاد: ما يقولون؟ ففسر له ، فقال: آباذ آباذ . فراسل خالداً في الصلح على أمر لم يرضه خالد، فرد رسله، وأتى خالد أضيق مكان في الخندق برذابا الجيش فنحرها ؛ ثم رمى بها فيه فأفعمه ؛ ثم اقتحم الخندق والردايا جسورهم فاجتمع المسلمون والمشركون في الخندق. وأرز القوم إلى حصنهم، وراسل شيرازاذ خالداً في الصلح على ما أراد، فقبل منه على أن يخليه ويلحقه بمأمنه في جريدة خيل ، ليس معهم من المتاع والأموال شئ ؛ فخرج شيرزاذ، فلما قدم على بهمن جاذوبه، فأخبره الخبر لأمه ، فقال: إني كنت في قوم ليست لهم عقول، وأصلهم من العرب، فسمعتهم مقدمهم علينا يقضون على أنفسهم، وقلما قضى قوم على أنفسهم قضاء إلا وجب عليهم. ثم قاتلهم الجند، ففقئوا فيهم وفي أهل الأرض ألف عين ؛ فعرفت أن المسلمة أسلم . ولم اطمأن خالد بالأنبار والمسلمون، وأمن أهل الأنبار وظهروا، رآهم يكتبون بالعربية ويتعلمونها، فسألهم : فسألهم : ما انتم ؟ فقالوا: قوم من العرب، نزلنا إلى قوم من العرب قبلنا فكانت أوائلهم نزلوها أيام بختنصر حين أباح العرب ؛ ثم لم تزل عنها فقال: ممن تعلمتم الكتاب؟ فقالوا: تعلمنا الخجط من إياد وأنشدوه قول الشاعر:
قومي إياد لو أنهم أمم ... أو لو أقاموا فتهزل التعم
قوم لهم باحة العراق إذا ... ساروا جميعاً والخط والقلم
وصالح خالد من حولهم وبدأ بأهل البروازيخ ؛ وبعث إليه أهل كلواذى ليعقد لهم، فكاتبهم فكانوا عيبته من وراء دجلة. ثم إن أهل الأنبار وما حولها نقضوا فيما كان يكون بين المسلمين والمشركين من الدول ما خلا أهل البوازيخ، فإنهم ثبتوا كما نبت أهل بانقيا.
كتب إلى السرى ، عن شعيب، عن سيف، عن عبد العزيز يعني ابن سياه عن حبيب بن أبي ثابت، قال: ليس لأحد من أهل السواد عقد قبل الوقعة إلا بني صلوبا - وهم أهل الحيرة - وكلواذي، وقرى من قرى الفرات ثم غدروا حتى دعوا إلى الذمة بعد ما غدروا.
كتب إلى السرى ، عن شعيب عن سيف، عن محمد بن قيس، قاغل: قلت للشعبي: أخذ السواد عنوة؟ قال: نعم، وكل أرض إلا بعض القلاع والحصون، فإن بعضهم صالح به، وبعضهم غلب . فقلت: فهل لأهل السواد ذمة اعتقدوها قبل الهرب ؟ قال: لا، ولكنهم لما دعوا ورضوا بالخراج وأحذ منهم صاروا ذمة.
خبر عين التمر

كتب إلى السرى، عن شعيب عن سيف، عن محمد وطلحة والمهلب وزياد، قالوا: ولما فرغ خالد من النبار، واستحكمت له ، استخلف على الأنبار الزبرقانبن بدر، وقصد لعين التمر؛ وبها يومئذ مهران بن بهرام جوبين في جمع عظيم من العجم، وعقة بن أبي عقة في جمع عظيم من العرب من النمر وتغلب وإياد ومن لأفهم . فلما سمعوا بخالد قال عقة لمهران: إن العرب أعلم بقتال العرب، فدعنا وخالداً، قال : صدقت، لعمري لأنتم أعلم بقتال العرب، وإنكم لمثلنا في قتال العجم. فخدعه واتقى به، وقال : دونكمهم وإن احتجتم إلينا أعناكم. فملا مضى نحو خالد قالت له الأعاجم: ما حملك على أن تقول هذا القول لهذا الكلب! فقال: دعوني فإني لم أرد إلا ما ه خير لكم وشر لهم ؛ إنه قد جاءكم من قتل ملوككم، وفل حدكم، فاتقته بهم ؛ فإن كانت لهم على خالد فهي لكم ؛ وإن كانت الأخرى لم تبلغوا منهم حتى يهنوا، فنقاتلهم ونحن أقياء وهم مضعفون. فاعترفوا له بفضل الرأي، فلزم مهران العين، ونزل عقة لخالد على الطريق، وعلى ميمنته بجير بن فلان أحدبني عتبة بن سعد بن زهير، وعلى مسيرته الهذيل ابن عمران، وبين عقة على طريق الكرخ كالخفير. فقدم عليه خالد وهو في تعبئة جنده، فعبى خالده وقال لمجنبتيه : اكفونا ما عنده، فإني حامل ؛ ووكل بنفسه حوامي ، ثم يحمل وعقة يقيم صفوفه؛ فاحتضنه فأخذه أسيراً، وانهزم صفة من غير قتال، فأكثروا فيهم الأسر، وهرب بجير والهذيل، واتبعهم المسلمون. ولما جاء الخبر مهران هرب في حنده، وتركوا الحصن. ولما انتهت فلال عقة من العرب والعجم إلى الحصن اقتحموا واعتصموا به ؛ وأقبل خالد في الناس حتى ينزل على الحصن ومعه عقة أسير وعمرو بن الصعق، وهم يرجون أن يكون خالد كمن كان بغير من العرب، فلما رأوه يحاولهم سألوه الأمان، فأبى إلا على حكمه فسلسوا له به. فلما فتحوا دفعهم إلى المسلمين فصاروا مساكاً ، وأمر خالد بعقبة وكان خفير القوم فضربت عنقه ليؤنس الأسراء من الحياة، ولما رآه الأسراء مطروحاً على الجسر يئسوا من الحياة، ثم دعا بعمرو بن الصعق فضرب عنقه، وضرب أعناق أهل الحصن أجمعين. وسبى كل من حوى حصنهم، وغنم ما فيه، ووجد في بيعتهم أربعين غلاماً يتعلمون الإنجيل، عليهم باب مغلق ؛ فكسره عنهم ، وقال: ما أنتم؟ قالوا: رهن ؛ ففسمهم في أهل البلاء؛ منهم أبو زياد مولى ثقيف، ومنهم نصير أبو موسى بن نصير، ومنهم أبو عمرة جد عبد الله بن عبد الأعلى الشاعر، وسيرين أبو محمد بن سيرين ، وحريث ، وعلاثة. فصار أبو عمرة للمعنى، وحمران لعثمان. ومنهم عمير وأبو قيس ؛ فثبت على نسبه من موالى أهل الشأم القدماء، وكان نصير ينسب إلى بني يشمكر، وأبو عمرة إلى بني مرة ومنهم ابن أخت النمر.
كتب إلى السرى ، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وأبي سفيان طلحة بن عبد الرحمن والمهلب بن عقبة، قالوا: ولما قدم الوليد بن عقبة من عند خالد على أبي بكر رحمه الله بما بعث به إليه من الأخماس وجهه إلى عياض، وأمده به ، فقدم عليه الوليد، وعياض محاصرهموه ، وقد أخذوا عليه بالطريق، فقال له : الرأي في بعض الحالات خير من جند كثيف ؛ ابعث إلى خالد فاستمده. ففعل ؛ فقدم عليه رسوله غب وقعة العين مستغيثاً، فعجل إلى عياض بكتابه: من خالد إلى عياض إياك أريد.
لبث قليلا تأتك الحلائب
يحملن آساداً عليها القاشب
كتاب يتبعها كتائب
خبر دومة الجندلقالوا: ولما فرغ خالد من عين التمر حلف فيها عويم بن الكاهل الأسلمى، وخرج في تعبيته التي دخل فيها العين ؛ ولما بلغ أهل دومة مسير خالد إليهوم بعثوا إلى أحزابهم من بهراء وكلب وغسان وتنوخ والضجاعم، وقبل ما قد أتاهم وديعة في كلب بهراء ، ومسانده ابن وبرة بن رومانس، وآتاهم ابن الحدرجان في الضجاعم، وابن الأيهم في طوائف من غسان وتنوخ، فأشجوا عياضاً وشجوا به.
فلما بلغهم دنو خالد؛ وهم على رئيسين: أكيدر بن عبد الملك والجودى ابن ربيعة، اختلفوا، فقال أكيدر: أنا أعلم الناس بخالد؛ لا أحد أيمن طائراً منه، ولا أحد في حرب، ولا يرى وجه خالد قومن أبداً قلوا أو كثروا إلا انهزموا عنه ؛ فأطعوني وصالحوا القوم. فأبوا عليه، فقال: لن أمالئكم على حرب خالد، فشأنكم.

فخرج لطيته، وبلغ ذلك خالداً؛ فبعث عاصم بن عمرو معارضاً له، فأخذه فقال: إنما تلقبت الأمير خالداً؛ فلما أتى به خالداً أمر به فضربت عنقه، وأخذ ما كان معه من شئ، ومضى خالد حتى ينزل على أهل دومة، وعليهم الجودي بن ربيعة، ووديعة الكلبي، وابن رومانس الكلبي، وابن الأيهم وابن الحدرجان ؛ فجعل خالد دومة بين عسكره وعسكر عياض. وكان النصارى الذين أمدوا أهل دومة من العرب محيطين بحصن دومة ، ولم يحملهم الحصن، فلما اطمأن خالد خرج الجودي، فنهض بوديعة فزحفا لخالد، وخرج ابن الحدرجان وابن الأيهم إلى عياض ؛ فاقتتلوا ، فهزم الله الجودي ووديعة على يدي خحالد، وهزم عياض من يليه، وركبهم المسلمون ؛ فأما خالد فإنه أخذ الجودي أخذاً، وأخذ الأقرع بن حابس وديعة، وأرز بقية الناس إلى الحصن؛ فلم يحملهم؛ فلما امتلأ الحصن أغلق من في الحصن الحصن دون أصحابهم، فبثقوا حوله حرداء ؛ وقال عاصم بن عمرو : يا بني تميم ، حلفاؤكم كلب، آسوهم وأجيروهم؛فإنكم لا تقدرون لهم على مثلها، ففعلوا. وكان سبب نجاتهم يومئذ وصية عاصم بني تميم بهم، وأقبل خالد على الذين أرزوا إلى الحصن فقتلهم حتى سد بهم باب الحصن ، ودعا خالد بالجودي فضرب عنقه ؛ ودعا بالأسرى فضرب أعناقهم إلا أسارى كلب، فإن عاصماً والأقرع وبني تميم قالوا: قد آمناهم ؛ فأطلقهم لهم خالد، وقال : مالي ولكم! أتحفظون أمر الجاهلية وتضيعون أمر الإسلام ! فقال له عاصم: لا تحسدوهم العافية ؛ ولا يحوزهم الشيطان . ثم أطاف خالد بالباب ، فلم يزل عنه حتى اقتلعه ؛ واقتحموا عليهم، فقتلوا المقاتلة، وسبوا الشرخ ؛ فأقاموهم فيمن يزيد ؛ فاشترى خالد ابنة الجودي وكانت موصوفة، وأقام خالد بدومة ورد الأقرع إلى الأنبار.
ولما رجع خالد إلى الحيرة - وكان منها قريباً حيث يصيبحها - أخذ القعقاع أهل الحيرة بالتقليس ، فخرجوا يتلقونه وهم يقلسون؛ وجعل بعضهم يقول لبعض: مروا بنا فرج الشر! كتب إلى السرى، عن شعيب عن سيف، عن محمد وطلحة والمهلب، قالوا: وقد كان خالد أقام بدومة ، فظن الأعاجم به ؛ وكاتبهم عرب الجزيرة غضباً لعقة؛ فخرج، زرمهر من بغدادج ومعه روزيه يريدان الأنبار ؛ واتعدا حصيداً والخنافس، فكتب الزبرقان وهو على الأنبار إلى القعقاع بن عمرو وهو يومئذ خليفة خالد على الحيرة ؛ فبعث القعقاع أعبد بن فدكي السعدي وأمره بالحصيد، وبعث عروة بن الجعد البارقي وأمره بالخنافس، وقال لهما: رأيتما مقدماً فأقد ما. فخرجا فحالا بينهما وبين الريف، وأغلقاهما، وانتظر رزوبه وززرمهر بالمسلمين اجتماع من كاتبهما من ربيعة؛ وقد كانوا تكاتبوا واتعدوا ؛ فلما رجع خالد من دومة إلى الحيرة على الظهر وبلغه ذلك وقد عزم على مصادقة أهل المدائن، كره خلاف أبي بكر، وأن يتعلق عليه بشئ، فعجل القعقاع ابن عمرو وأبو ليلى بن فدكي إلى رزوبه وزمهير، فسبقاه إلى عين التمر، وقدم على خالد كتاب امرئ القيس الكلبي، أن الهذيل بن عمران قد عسكر بالمصيخ، ونزل ربيعة بن بجير بالثنى وبالبشر في عسكر غضباً لعقة، يريدان زرمهر وروزبه. فخرج خالد وعلى مقدمته الأقرع بن حابس، واستخلف على الحيرة عياضين غنم، وأخذ طريق القعقاع وأبى ليلى إلى الخنافس حتى قدم عليهما بالعين، فبعث القعقاع إلى حصيد، وأمره على الناس، وبعث أبا ليلى الخنافس، وقال: زجياهم ليجتمعوا ومن استأرهم؛ وغلا فواقعاهم. فأبيا إلا المقام خبر حصيد فلما رأى القعقاع أن زرمهر وروزبه لا يتحركان سار نحو حصيد، وعلى من مر به من العرب والعجم روزبه. ولما رأى روزبه أن القعقاع قد قصد له استمد زرمهر، فأمده بنفسه، واستخلف على عسكره المهبوذان، فالتقوا بحصيد، فاقتتلوا، فقتل الله العجم مقتله عظيمة، وقتل القعقاع زرمهر، وقتل روزبه ؛ قتله عصمة بن عبد الله أحد بني الحجارث بن كطريف، من بني ضبة، وكان عصمة من البررة - وكل فخذ هاجرت بأسرها تدعى البررة، وكل قوم هاججروا من بطن يدعون الخيرة - فكان المسلمون خيرة وبررة . وغنم المسلمون يوم حصيد عنائم كثيرة وأرز فلال حصيد إلى الخنافس فاجتمعوا بها.
الخنافس

وسار أبو ليلى بن فدكى بمن معه ومن قدم عليه نحو الخنافس؛ وقد أرزت فلال حصيد إلى المهبوذان، فلما أحس المهبوذان بقدومهم هرب ومن معه وأرزوا إلى المصيخ، وبه الهذيل بن عمران، ولم يلق بالخنافس كيداً، وبعثوا إلى خالد بالخبر جميعاً.
مصيخ بني البرشاء قالوا: ولما انتهى الخبر إلى خالد بمصاب أهل الحصيد وهرب أهل الخنافس كتب إليهم، ووعد القعقاع وأبا ليلى وأعبد وعروة ليلة وساعة يجتمعون فيها إلى المصيخ - وهو بين حوران والقلت - وخرج خالد من العين قاصداً. للمصيخ على الإبل يجنب الخيل، فنزل الجناب فالبردان فالحنى، واستقل من الحنى ؛ فلما كان تلك الساعة من لييلة الموعد اتفقوا جميعاً بالمصيخ، فأغاروا على الهذيل ومن معه ومن أوى إليه؛ وهم نائمون من ثلاثة أوجه، فقتلوهم. وأفلت الهذيل في أناس قليل ؛ وامتلأ الفضاء قتلى، فما شبهوا بهم إلا غنما مصرعة ؛ وقد كان حر قوص بن النعمان قد محضهم النصح وأجاد الرأي ، فلم ينتفعوا بتحذيره، وقال حورقوص بن النعمان قبل الغار: ألا سقياني قبل خيل أبي بكر الأبيات. وكان حرقوص معرساً بأمرأة من بني هلال تدعى أم تغلب، فقتلت تلك الليلة، وعبادة بن البشر وامرؤ القيس بن بشر وقيس بن بشر ؛ وهؤلاء بنو الثورية من بني خلال. وأصاب جرير بن عبد الله يوم المصيخ من النمر عبد العزى بن أبي رهم بن قرواش أخاً أوس مناة من النمر، وكان معه ومع لبيد بن جرير كتاب من أبي بكر بإسلامهما، وبلغ أبا بكر قول عبد العزى وقد سماه عبد الله ليلة الغارة، وقال: سبحانك اللهم رب محمد فوداه وودى لبيداً - وكانا أصيبا في المعركة - وقال: أما إن ذلك ليس على إذ نازلً أهل الحرب؛ وأوصى بأولادهما ، وكان عمر يعتد على خالد بقتلهما إلى قتل مالك - يعني أبن نزيرة - فيقول أبو بكر: كذلك يلقى من ساكن أهل الحرب في ديارهم. وقال عبد العزى:
أقول إذ طريق الصباح بغارة: ... سبحانك اللهم رب محمد
سبحان ربي لا غله غيره ... رب البلاد ورب من يتورد
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن عطية، عن عدي بن حاتم، قال: أغرنا على أهل المصيخ، وإذا رجل يدعى بإسمه حروقوص ابن النعمان، من النمر ، وإذا حوله بنوه وامرأته، وبينهم جفنة من خمر ؛ وهم عليها عكوف يقولن له: ومن يشرب هذه الساعة وفي أعجاز الليل! فقال: اشربوا شرب وداع، فما أرى أن تشربوا خمراً بعدها، هذا خالد بالعين وجنوده بحصيد، وقد بلغه جمعنا وليس بتاركنا ؛ ثم قال:
ألا فاشربوا من قبل قاصمه الظهر ... بعيد انتفاخ القوم بالعكر الدثر
وقبل منايانا المصيبة بلقدر ... لحين لعمري لا يزيد ولا يحرى
فسبق إليه وهو في ذلك في بعض الخيل، فضرب رأسه، فإذا هو في جفنته، وأخذنا بناته وقتلنا بنيه.
الثنى والزميل

وقد نزل ربيعة بن بجير التغلبي الثنى والبشر غضباً لعقة، وواعد روزبه وزرمهر والهذيل. فلما أصاب خالد أهل المصيخ بما أصابهم به ، تقدم إلى القعقاع وإلى أبي ليلى، بأن يرتحلا أمامه، وواعدهما الليلة ليفتقروا فيها للغارة عليهم من ثلاثة أوجه؛ كما فعل بأهل المصيخ. ثم خرج خالد من المصيخ، فنزل حوران، ثم الرنق، ثم الحماة - وهي اليوم لبنى جنادة بن زهير من كلب - ثم الزميل ؛ وهو البشر والثنى معه - وهما اليوم شرقي الرصافة - فبدأ بالثنى، واجتمع هو وأصحابه، فبيته من ثلاثة أوجه بياتاً ومن أجتمع له إليه ، ومن تأشب لذلك من الشبان ؛ فجرودوا فيهم السيوف، فلم يفلت من ذلك الجيش مخبر، واستبى الشرخ، وبعث بخمس الله إلى أبي بكر مع النعمان بن عوف بن النعمان الشيباني، وقسم النهب والسبايا، فاشترى على بن أبي طالب عليه السلام بنت ربيعة ابن بجير التغلبي، فاتخذها؛ فولدت؛ له عمر ورقية ، وكان الهذيل حين نجا أوى إلى الزميل، إلى عتاب بن فلان؛ وهو بالبشر في عسكر ضخم ؛ فبيتهم بمثلها غارة شعواء من ثلاثة أوجه سبقت إليهم الخبر عن ربيعة، فقتل منهم مقتله عظيمة لم يقتلوا قبلها مثلها؛ وأصابوا منهم ما شاءوا وكانت على خالد يمين: ليبتغن تغلب في دارها؛ وقسم خالد فيئهم في الناس، وبعث بالأخماس إلى أبي بكر مع الصباح بن فلان المزني، وكانت في الأخماس ابنة مؤذن النمري ؛ وليلى بنت خالد ، وريحانة بنت الهذيل بن هبيرة. ثم عطف خالد من البشر إلى الرضاب ؛ وبها هلال بن عقة، وقد ارفض عنه أصحابه حين سمعوا بدنو خالد ؛ وانقشع عنها هلال فلم يلق كيداً بها.
حديث الفراض ثم قصد خالد بعد الرضاب وبغتته تغلب إلى الفراض، والفراض: تخوم الشأم والعراق والجزيرة - فأفطر بها رمضان في تلك السفرة التي اتصلت له فيها الغزوات والأيام، ونظمن نظماً أكثر فيهن الرجاز إلى ما كان قبل ذلك منهن.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة - وشاركهما عمرو بن محمد ؛ عن رجل من بني سعد، عن ظفر بن دهي - والمهلب بن عقبة، قالوا فلما اجتمع المسلمون بالفراض، حميت الروم واغتاظت، واستعانوات بمن يليهم من مسالح أهل فارس، وقد حملوا واغتاظت، واستعانوات بمن يليهم من مسالح أهل فارس، وقد حموا واغتاظوا واستمدوا تغلب وإياد والنمر ؛ فأمدوهم ؛ ثم ناهدوا خالداً ؛ حتى إذا صار الفرات بينهم ، قالوا: إما أن تعبروا إلينا وإما أن نعبر إليكم. قال: خالد: اعبروا أسفل منا. وذلك للنصف من ذي القعدة سنة اثني عشرة. فقالت الروم وفارس بعضهم لبعض: احتبوا ملككم ؛ هذا رجل بقاتل على دين ، وله عقل وعلم ، والله لينصرن ولنخلن. ثم لم ينتفعوا بذلك ؛ فعبروا أسفل من خالد ؛ فلما تتاتموا قالت الروم: امتازوا حتى نعرف اليوم ما كان من حسن أو قبيح ؛ من أينا يجئ ! ففعلوا، فاقتتلوا قتالاً شديداً طويلاً. ثم أن الله عز وجل هزمهم، وقال خالد للمسلمين: ألحوا علهيم ولا ترفهوا عنهم ؛ فجعل صاحب الخيل يحشر منهم الزمرة برماح أصحابه، فإذا جمعوهم قتلوهم، فقتل يوم الفراض في المعركة وفي الطلب مائة ألف، وأقام خالد على الفراض بعد الوقعة عشراَ، ثم أذن في القفل إلى الحيرة لخمس بقين من ذي القعدة ؛ وأمر عاصم بن عمرو أن يسير بهم ؛ وأمر شجرة بن الأعز أن يسوقهم، وأظهر خالد أنه في الساقة.
حجة خالد قال أبو جعفر: وخرج خالد حاجاً من الفراض لخمس بقين من ذي القعدة، مكتتماً بحجة، ومعه عدة من أصحابه ؛ يعتسف البلاد حتى أتى مكة بالسمت ، فتأتى له من ذلك ما لم يتأت لدليل ولا رئبال، فسار طريقاً من طريق أهل الجزيرة، لم ير طريق أعجب منه ؛ ولا أشد على صعوبته منه فكانت غيبته عن الجند يسيرة ؛ فما توافى إلى الحيرة آخرهم حتى وافاهم مع صاحب الساقة الذي وضعه. فقدما معاً ؛ وخالد وأصحابه محلقون ؛ لم يعلم بحجة إلا من أفضى إليه بذلك من الساقة، ولم يعلم أبو بكر رحمه الله بذلك إلا بعد ؛ فعتب عليه. وكانت عقوبته إياه أن صرفه إلى الشأم. وكان مسير خالد من الفراض أن استعرض البلاد متعسفاً متسمتاً، فقطع طريق الفراض ماء العنبري، ثم مثقباً، ثم أنتهى إلى ذات عرق، فشرق منها، فأسلمه إلى عرفات من الفراض، وسمى ذلك الطريق الصد ؛ ووافاه كتاب من أبي بكر منصرفه من حجة بالحيرة يأمره بالشأم ؛ يقاربه ويباعده.

قال أبو جعفر: قالوا: فوافى خالداً كتاب أبي بكر بالحيرة، منصرفه من حجة: أن سر حتى تأتي جموع المسلمين باليرموك، فإنهم قد شجوا وأشجوا ؛ وإياك أن تعود لمثل ما فعلت ؛ فإنه لم يشج الجموع من الناس بعون الله شجاك، ولم ينزع الشجي من الناس نزعك ؛ فليهنئك أبا سليمان النية والحظوة ؛ فأتمم يتمم الله لك ، ولا يدخلنك عجب فتخسر وتخذل، وإياك أن تدل بعمل، فإن الله له المن وهو ولي الجزاء.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن عبد الملك بن عطاء بن البكائيي، عن المقطع بن الهيثم البكائي، عن أبيه قال: كان أهل الأيام من أهل الكوفة يوعدون معاوية عند بعض الذي يبلغهم، ويقولون: ما شاء معاوية! نحن أصحاب ذات السلاسل. ويسمون ما بينها وبين الفراض ما يذكرون ما كان بعد احتقاراً لما كان بعد فيما كان قبل.
وحدثني عمر بن شبة، قال: حدثنا على بن محمد بالأسناد الذي قد مضى ذكره، أن خالد بن الوليد أتى الأنبار فصالحوه على الجلاء، ثم أعطوه شيئاً رضى به وأنه أغار على سوق بغداد من رستاق العال، وأنه وجه المثنى فأغار على سوق فيها جمع لقضاعه وبكر، فأصاب ما في السوق ، ثم سار إلى عين التمر، ففتحها عنوة، فقتل وسبي، وبعث بالسبي إلى أبي بكر، فكان أول سبي قدم المدينة من العجم ؛ وسار إلى دومة الجندل، فقتل أكيدر، وسبى ابنة الجودى، ورجع فأقام بالحيرة.
هذا كله سنة اثني عشرة.
وفيها تزوج عمر رحمه الله عاتكة بنت زيد.
وفيها مات أبو مرثد الغنوي.
وفيها مات أبو العاصى بن الربيع في ذي الحجة ؛ وأوصى إلى الوبير، وتزوج على عليه السلام ابنته وفيها اشترى عمر أسلم مولاه.
واختلف فيمن حج بالناس في هذه السنة، فقال بعضهم: حج بهم فيها أبو بكر رحمه الله ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد، قال حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب، مولى الحرقة، عن رجل من بني سهم، عن ابن ماجدة السهمي، أنه قال: حج أبو بكر في خلافته سنة اثنتي عشرة وقد عارمت غلاماً من أهلي، فغص بأذني فقطع منها - أو غضضت بأذنه فقطعت منها - فرفع شأننا إلى أبي بكر، فقال: اذهبوا بهما إلى عمر فلينظر، فإن كان الجارح قد بلغ فليقد مكنه. ادعوا لي حجاماً. قال : فلما ذكر الحجام، قال: أما أني قد سمعت النبي الله لها فيه، وقد نهينتها أن تجعله حجاماً أو قصابا أو صانغاً ؛ فاقتص منه.
وذكر الواقدي، عن عثمان بن محمد بن عبيد الله بن عبد الله بن عمر، عن أبي وجزة يزيد بن عبيد، عن أبيه، أن أبا بكر حج في سنة اثنتي عشرة واستخلف على المدينة عثمان بن عفان رحمه الله.
وقال بعضهم: حج بالناس سنة اثنتي عشرة عمر بن الخطاب.
ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن أبن إسحاق، قال: بعض الناس يقول: لم يحج أبو بكر في خلافته، وإنه بعث سنة اثنتي عشرة على الموسم عمر بن الخطاب، أو عبد الرحمن بن عوف.
ثم دخلت سنة ثلاث عشرة
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://arabelalekat.yoo7.com
الشيخ عودة
الشيخ عودة
الشيخ عودة



عدد المساهمات : 1748
تاريخ التسجيل : 28/09/2008
العمر : 73

كتاب : تاريخ الرسل والملوك المؤلف : الطبري - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: كتاب : تاريخ الرسل والملوك المؤلف : الطبري   كتاب : تاريخ الرسل والملوك المؤلف : الطبري - صفحة 2 Emptyالسبت ديسمبر 14, 2013 10:53 am

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
ففيها وجه أبو بكر رحمه الله الجيوش إلى الشأم بعد منصرفه من مكة إلى المدينة حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال لما قفل أبو بكر من الحج سنة اثنتي عشرة جهز الجيوش إلى اشأم، فبعث عمرو بن العاص قبل فلسين، فأخذ طريق المعرقة على أيلة، وبعث يزيد بن أبي سفيان وأبا عبيدة بن الجراح وشرحبيل ين حسنة - وهو أحد الغوث - وأمرهم أن يسلكوا التبوكية على البلقاء من علياء الشأم.
حدثني عمر بن شبة، عن على بن حمد بالأسناد الذي ذكرت قبل، عن شيوخه الذين مضى ذكرهم، قال: ثم وجه أبو بكر الجنود إلى الشأم أول سنة ثلاث عشرة، فأول لواء عقده لواء خالد بن سعيد بن العاص، ثم عزله قبل أن يسير، وولى يزيد بن أبي سفيان، فكان أول الأمراء الذين خرجوا إلى الشأم، وخرجوا في سبعة آلاف.

قال أبو جعفر: وكان سبب عزل أبي بكر خالد بن سعيد - فيما ذكر - ما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر ؛ أن خالد بن سعيد لما قدم من اليمن بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ ثم تربص ببيعته شهرين، يقول: قد أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم لم يعزلني حتى قبضه الله. وقد لقى على بن أبي طالب وعثمان بن عفان ؛ فقال: يا بني عبد مناف ؛ لقد طبتم نفساً عن أمركم يليه غيركم! فأما أبو بكر فلم يحفلها عليه ، وأما عمر فاضطغنها عليه. ثم بعث أبو بكر الجنود إلى الشأم، وكان أول من استعمل على ربع منها خالد بن سعيد، فأخذ عمر يقول: اتؤمره وقد صنع ما صنع وقال ما قال! فلم يزل بأبي بكر حتى عزله، وأمر يزيد بن أبي سفيان.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن مبشر بن فضيل، عن جبير بن صخر حارس النبي صلى الله عليه وسلم ؛ عن أبيه، قال: كان خالد بن سعيد بن العاصى باليمن زمن النبي صلى الله عليه وسلم ، وتوفي النبي صلى الله عليه وسلم وهو بها، وقدم بعد وفاته بشهر، وعليه جبة ديباج عليه جبته! أيلبس الحرير وهو في رجلنا في السلم مهجور! فمزقوا جبته، فقال خالد: يا أبا الحسن، يا بني عبد مناف، أغلبتم عليها! فقال على عليه السلام: أمغالبة ترى أم خلافة؟ قال: لا يغالب على هذا الأمر أولى منكم يا بني عبد مناف. وقال عمر لخالد: فض الله فاك! والله لا يزال كاذب يخوض فيما قلت ثم لا يضر إلا نفسه. فأبلغ عمر أبا بكر مقالته ؛ فلما عقد أبو بكر الألوية لقتال أهل الردة عقد له فيمن عقد، فنهاه عنه عمر الأرض مدل بها وخائض فيها، فلا تستنصر به . فلم يحتمل أبو بكر عليه، وجعله رداءاً بتيماء ؛ أطاع عمر في بعض أمره وعصاه في بعض.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف عن أبي إسحاق الشيباني، عن أبي عثمان، قالوا: أمر أبو بكر خالداً بأن ينزل تيماء، ففضل ردءاً حتى ينزل بتيماء ؛ وقد أمره أبو بكر ألا يبرحها، وأن يدعو من حوله بالإنضمام إليه، وألا تقبل إلا ممن لم يرتد، ولا يقاتل إلا من قتله؛ حتى يأتيه أمره. فأقام فاجتمع إليه جموع كثيرة ؛ وبلغ الروم عظم ذلك العسكر، فضربوا على العرب الضاحية البعوث بالشأم إليهم ؛ فكتب خالد بن سعيد إلى أبي بكر بذلك، وبنزول من استنفرت الروم ؛ ونفر إليهم من بهراء وكلب وسليح وتنوخ ولخم وجذام وغسان من دون زيزاء بثلاث ؛ فكتب إليه أبو بكر: أن أقدم ولا تحجم واستنصر الله ؛ فسار خالد، فلما دنا منهم تفرقوا وأعروا منزلهم ؛ فنزله ودخل عامة من كان تجمع له في الإسلام ؛ وكتب خالد إلى أبي بكر بذلك فكتب إليه أبو بكر: أقدم ولاتقتحمن حتى لا تؤتى من خلفك. فسار فيمن كان خرج معه من تيماء وفيمن لحق به من طرف الرمل ؛ حتى نزلوا فيما بين آبل وزيزاء والقسطل ؛ فسار إليه بطريق من بطارقة الروم، يدعى بدهان ؛ فهزمه وقتل جنده، وكتب بذلك إلى أبي بكر واستمده. وقدم على أبي بكر أوائل مستنفري اليمن ومن بين مكة واليمن ؛ وفيهم ذو الكلاع، وقدم عليه عكرمة قافلاً وغازياً فيمن كان معه من تهامة وعمان والبحرين والسرو. فكتب لهم أبو بكر إلى أمراء الصدقات أن يبدلوا من استبدل ؛ فكلهم استبدل ؛ فسمى ذلك الجيش جيش البدال. فقدموا على خالد بن عسيد؛ وعند ذلك اهتاج أبو بكر الشأم ، وعناه أمره. وقد كان أبو بكر رد عمرو بن العاص على عمالة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ولاها إياه م صدقات سعد هذيم، وعذرة ومن لفها من جذام، وحدس قبل ذهابه إلى عمان. فخرج إلى عمان وهو على عدة من عمله ؛ إذا هو رجع . فأ،جز له ذلك أبو بكر.
فكتب أبو بكر عند اهتياجه للشأم إلى عمرو: إني كنت قد رددتك على العمل الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ولاكه مرة ، وسماه لك أخرى ؛ مبعثك إلى عمان إنجازاً لمواعيد رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فقد وليته ثم وليته ؛ وقد أحببت - أبا عبد الله أن أفرغك لما هو خير لك في حياتك ومعادك منه ؛ إلا أن يكون الذي أنت فيه أحب إليك . فكتب إليه عمرو : إني سهم من سهام الإسلام، وأنت بعد الله الرامي بها، والجامع لها، فانظر أشدها وأخشاها وأفضلها فارم به شيئاً إن جاءك من ناحية من النواحي. وكتب إلى الوليد بن عقبة بنحو ذلك، فأجابه بإيثار الجهاد.

كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن سهل بن يوسف، عن القاسم بن محمد، قال: كتب أبو بكر إلى عمرو، وإلى الوليد بن عقبة - وكان على النصف من صدقات قضاعة - وقد كان أبو بكر شيعهما مبعثهما على الصدقة، وأوصى كل واحد منهما بوصية واحدة: اتق الله في السر والعلانية ؛ فإنه من يتق الله يجعل له مخرجاً، ويرزقه من حيث لا يحتسب ؛ ومن يتق الله بكفر عنه سيئاته ويعظم له أجراً . فإن تقوى الله خير ما تواصى به عباد الله ؛ إنك في سبيل من سبيل الله ؛ لا يسعك فيه الإذهان والتفريط والغفلة عما فيه قوام دينكم ، وعصمة أمركم، فلا تن ولا تفتر. وكتب إليهما: استخلفا على أعمالكما، واندبا من يليكما.
فولى عمرو على عليا قضاعة عمرو بن فلان العذري، وولى الوليد على ضاحية قضاعة مما يلي دومة امرأ القيس، وندبا الناس، فتتام إليهما بشر كثير، وانتظر أمر أبي بكر.
وقام أبو بكر في الناس خطيباً، فحمد الله وأثنى عليه وصلى على رسوله، وقال: ألا إن لكل أمر جوامع، فمن بلغها فهي حسبة ؛ ومن عمل لله كفاه اللهش. عليكم بالجد والقصد ؛ فإن القصد أبلغ؛ ألا أنه لا دين لأحد لا إيمان له، ولا أجر لمن لا حسبة له، ولا عمل لمن لا نية له. ألا وإن في كتاب الله من الثواب على الجهاد في سبيل الله لما ينبغي للمسلم أن يحب أن يخص به ؛ هي التجارة التي دل الله عليها، ونجى بها من الخزي ؛ وألحق بها الكرامة في الدنيا والآخرة.
فأمد عمراً ببعض من انتدب إلى من اجتمع إليه، وأمره على فلسطين، وأمره بطريق سماها له ؛ وكتب إلى الوليد وأمره بالأردن، وأمد ببعضهم. ودعا يزيد بن أبي سفيان، فأمره على جند عظيم ، هم جمهور من انتدب له ، وفي جنده سهيل بن عمرو وأشباهه من أهل مكة، وأمره على حمص وخرج معه وهما ماشيان والناس معهما وخلفهما، وأوصى كل واحد منهما.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن سهل، عن القاسم، ومبشر عن سالك، ويزيد بن أسيد الغساني عن خالد، وعبادة، قالوا: ولما قدم الوليد على خالد بن سعيد فسانده ، وقدمت جنود المسلمين الذين كان أبو بكر أمده بهم وسموا جيش البدال، وبلغه عن الأمراء وتوجههم إليه، اقتحم على الروم طلب الحظوة، وأعرى ظهره، وبادر الأمراء بقتال الروم، واستطرد له باهان فأرز هو ومن منه إلى دمشق ؛ واقتحم خالد في الجيش ومعه ذو الكلاع وعكرمة والوليد حتى ينزل مرج الصفر ؛ من بين الواقوصة ودمشق ؛ فانطوت مسالح باهان عليه، وأخذوا عليه الطريق ولا يشعر ، وزحف له باهان فوجد ابنه سعيد بن خالد يستمر في الناس، فقتلوهم. وأتى الخبر خالداً، فخرج هارباً في جريدة، فأفلت من أفلت من أصحابه على ظهور الخيل والإبل، وقد أجهضوا عن عسكرهم؛ ولم ينته بخالد بن سعيد الهزيمة عن ذي المروة، وأقام عكرمة في الناس ردءاً لهم ، فرد عنهم باهان وجنوده أن يطلبوه، وأقام من الشأم على قريب، وقد قدم شرحبيل بن حسنة وافداً من عند خالد بن الوليد، فندب معه الناس، ثم استعمله أبو بكر على عمل الوليد، وخرج معه يوصيه، فأتى شرحبيل على خالد، ففصل بأصحابه إلا القليل، واجتمع إلى أبي بكر أناس، فأمر عليهم معاوية، وأمره باللحاق بيزيد، فخرج معاوية حتى لحق بيزيد ؛ فلما مر بخالد فصل ببقية أصحابه.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن هشام بن عروة، عن أبيه: أن عمر بن الخطاب لم يزل يكلم أبا بكر في خالد بن الوليد وفي خالد ابن سعيد ؛ فأبى أن يعطيه في خالد بن الوليد، وقال: لا أشيم سيفاً سله الله على الكفار، وأطاعه في خالد بن سعيد بعد كا فعل فعلته. فأخذ عمرو طريق المعرفة ، وسلك أبو عبيدة طريقه، وأخذ يزيد طريق التبوكية ؛ وسلك شرحبيل طريقه، وسمى لهم أمصار الشأم، وعرف أن الروم ستشغلهم ؛ فأحب أن يصعد المصوب ويصوب المصعد ؛ لئلا يتوكلوا، فكان كما ظن وصاروا إلى ما أحب.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن عمرو، عن الشعبي، قال: لما قدم خالد بن سعيد ذا المروة، وأتى أبا بكر الخبر كتب إلى خالد: أقم مكانك ، فلعمري إنك مقدام محجام، نجاء من الغمرات، لا تخزوضها إلا إلى الحق، ولا تصبر عليه. ولما كان بعد؛ وأذن له في دخوله المدينة قال خالد: اعذرني، قال: كان عمر وعلى أعلم بخالد؛ ولو أطعتهما فيه اختشيته واتقيته!

كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن مبشر وسهل وأبي عثمان، عن خالد وعبادةة وأبي حارثة، قالوا: وأوعب القواد بالناس نحو الشأم وعكرمة ردء للناس، وبلغ الروم ذلك؛ فكتبوا إلى هرقل؛ وخرج هرقل حتى نزل بحمص، فاعد لهم الجنود، وعبى لهم العساكطر؛ وأراد اشتغال بعضهم عن بعض لكثرة حنده، وفضول رجاله؛ وأرسل إلى عمرو أخاه تذارق لأبيه وأمنه، فخرج نحوهم في تسعين ألفاً، وبعث من يسوقهم، حتى نزل صاحب الساقة ثنية جلق بأعلى فلسطين، وبعث جرحه بن توذار نحو يزيد بن أبي سفيان، فعسكر بإزائه ، وبعث الدراقص فاستقبل شرحبيل بن حسنة، وبعث الفيقار بن نسطوس في ستين ألفاً نحو أبي عبيدة؛ فهاجم المسلمون وجميع فرق المسلمين واحد وعشرون ألفاً؛ سوى عكرمة في ستة آلاف؛ ففزعوا جميعاً بالكتب وبالرسل إلى عمرو: أن ما الرأي ؟ فكاتبهم وراسلهم: إن الرأي الإجماع، وذلك أن مثلنا إذا اجتمع لم يغلب من قلة ؛ وإذا نحن تفرقنا لم يبق الرجل منا في عدد يقرن فيه لأحد ممن استقبلنا وأعد لنا لكل طائفة منا. فاتعدوا اليرموك ليجتمعوا به. وقد كتب إلى أبي بكر بمثل كا كاتبوا به عمراً ؛ فطلع عليهم كتابه بمثل رأى عمرو، بأن اجتمعوا عسكراً واحداً، وألقوا زحوف المشركين بزحف المسلمين، فإنكم أعوان الله؛ والله ناصر من نصرهن، وخاذل من كفره، ولن يؤتى مثلكم من قلة ؛ وإنما يؤتى العشرة آلاف والزيادة على العشرة آلاف إذا أتوا من تلقاء الذنوب ؛ فاحترسوا من الذنوب، واجتمعوا باليرموك متساندين وليصل كل رجل منكم بأصحابه.
وبلغ ذلك هرقل، فكتب إلى بطاقته: أن اجتمعوا لهم، وانزلوا بالروم منزلاً واسع العطن، واسع المطرد، ضيق المهرب؛ وعلى الناس التذارق وعلى المقدمة جرجة، وعلى مجنبتيه باهان والد راقص، وعلى الحرب الفيقار ؛ وأبشروا فإن باهان في الأثر مدد لكم. ففعلوا فنزلوا الواقوصة وهي على ضفة اليرموك، وصار الوادي خندقاً لهم؛ وهو لهب لا يدرك ؛ وإنما أراد باهان وأصحابه أن تستفيق الروم ويأنسوا بالمسلمين ؛ وترجع إليهم أفئتهم عن طيرتها.
وانتقل المسلمون عن عسكرهم الذي اجتمعوا به فنزل عليهم بحذائهم على كريقهم؛ وليس للروم طريق إلا عليهم . فقال عمرو: أيها الناس، أبشروا، حصرت والله الروم، وقلما جاء محصور بخير؟ فأقاموا بإزائهم وعلى ريقهم ؛ ومخرجهم صفر من سنة ثلاث عشرة وشهري ربيع، لا يقدون من الروم على شئ ؛ ولا يخلصون إليهم ؛ اللهب - وهو الواقصة - من ورائهم ، والخندق من أمامهم، ولا يخرجون خرجه إلا أديل المسلمون منهم ؛ حتى إذا سلخوا شهر ربيع الأول ؛ وقد استمدوا أبا بكر وأعلموه الشأن في صفر ؛ فكتب إلى خالد ليلحق بهم، وأمره أن يخلف على العراق المثنى ؛ فوافهاهم في ربيع.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وعمرو والمهلب، قالوا: ولما نزل المسلمون اليرموك، واستمدوا أبا بكر، قال: خالد لها فبعث إليه وهو بالعراق، وعزم عليه واستحثه في السير، فنفذ خالد لذلك فطلع عليهم خالد؛ وطلع باهان على الروم، وقد قدامه الشمامسة والرهبان والقسيسين ؛ يغرونهم ويخضضونهم على التقال ؛ ووافق قدوم خالد قدوم باهان، فخرج بهم باهان كالمقتدر ؛ فولى خالد قتاله، وقاتل الأمراء من بإزائهم ؛ فهزم باهان، وتتابع الروم على الهزيمة، فاقتحموا خندقهم ؛ وتيمنت الروم بباهان ؛ وفرح المسلمون بخالد وحرد المسلمون. وحرب المشركون وهم أربعون ومائتا ألف ؛ منهم ثمانون ألف مقيد، وأربعون ألفاً منهم مسلسل للموت، وأربعون ألفاً مربطوزن بالعمائم، وثمانون ألف فارس وثمانون ألف راجل، والمسلمون سبعة وعشرون ألفاً ممن كان مقيماً ؛ إلى أن قدم عليهم خالد في تسعة آلاف ؛ فصاروا ستة وثلاثين ألفاً.
ومرض أبو بكر رحمه الله في جمادى ا " لولى، وتوفى للنصف من جمادى الآخرة، قبل الفتح بعشر ليال.
خبر اليرموك قال أبو جعفر: وكان أبو بكر قد سمى لكل أمير من أمراء الشأم كورة ؛ فسمى لأبي عبيدة بن عبد الله بن الجراح حمص، وليزيد بن أبي سفيان دمشق ؛ ولشرحبيل بن حسنة الأردن، ولعمرو بن العاص ولعلقمة بن مجزز فلسطن، فلما فرغا منها نزل علقمة وسار إلى مصر. فلما شارفوا الششأم، دهم كل أمير منهم قوم كثير، فأجمع رأيهم أن يجتمعوا بمكان واحد، وأن يلقوا جمع المشركين بجمع المسلمين.

ولما رأى خالد أن المسلمين يقاتلون متساندين قال لهم: هل لكم يا معشر الرؤساء في أمر يعز الله به الدين، ولا يدخل عليكم معه ولا منه نقيصة ولا مكروه ! كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن أبي عثمان يزيد بن أسيد الغساني، عن خالد وعبادة، قالا: توافى إليها مع الأمراء والجنود الأربعة سبعة وعشرون ألفاً وثلاثة آلاف من فلال خالد بن سعيد، أمر عليهم أبو بكر معاوية وشرحبيل، وعشرة آلف من أمداد أهل العراق مع خالد ابن الوليد سوى ستة آلاف ثبتوا مع عكرمة ردءا بعد خالد بن سعيد؛ فكانوا ستة وأربيعن ألفاً، وكل قتالهم كان على تساند، كل جند وأميره ؛ لا يجمعهم أحد؛ حتى قدم عليهم خالد من العراق. وكان عسكر أبي عبيدة باليرموك مجاوراً لعسكر عمرو بن العاص، وعسكر شرجبيل مجاوراً لعسكر يزيد بن أبي سفيان ؛ فكان أبو عبيدة ربما صلى مع عمرو، وشرحبيل، وقدم خالد بن الوليد وهم على حالهم تلك؛ فعسكر على حدة ؛ فصلى بأهل العراق، ووافق خالد بن الوليدالمسلمين وهم متضايقون بمدد الروم ؛ عليهم باهان ووافق الروم وهم نشاط بمددهم ، فالتقوا فهزمهم الله حتى ألجأهم وأمدادهم إلى إلى الخنادق - والواقوصة أحد حدوده - فلزموا خندقهم عامة شهر يحضضهم القسيسون والشمامسة والرهبان وينعمون لهم النصرانية ؛ حتى استبصروا. فخرجوا للقتال الذي لم يكن بعده قتال مثله ، في جمادى الآخر.
فلما أحس المسلمون خروجهم، وأرادوا الخروج متساندة، سار فيهم خالد بن الوليد ؛ فحمد الله وأثنى عليه، وقال: إن هذا يوم من أيام الله، لا ينبغي فيه الفخر ولا البغي. أخلصوا جهادكم، وأريدوا الله بعملهم ؛ فإن هذا يوم له ما بعده ؛ ولا تقاتلوا قوماً على نظام وتعبية ؛ على تساند وانتشار ؛ فإن ذلك لا يحل ولا ينبغي. وإن من وراءكم لو يعلم علمكم حال بينكم وبين هذا ؛ فاعلموا فيما لم تؤمروا به بالذي ترون أنه الرأي من واليكم ومحبته، قالوا: فهات ، فما الرأي ؟ قال: إن أبا بكر لم يبعثنا إلا وهو يلاى أنا سنتياير، ولو علم بالذي كان ويكون ؛ لقد جمعطم . إن الذي أنتم فيه أشد على المسلمين مما قد غشيهم، وأنفع للمشركين من أمدادهم ؛ ولقد علمت أن الدنيا فرقت بينكم، فالله الله ، فقد أفرد كل رجل منكم ببلد من البلدان لا ينتقصه منه أن دان لأحد من أمراء الجنود، ولا يزيده عليه آن دانوا له. إن تأمير بعضكم لا ينقصكم عند الله ولا عند خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم . هلموا فإن هؤلاء تهيئوا، وهذا يوم له ما بعده، إن رددناهم إلى خندقهم اليوم لم نزل نردهم، وإن هزمونا لم نفلح بعدها. فهلموا فلنتعاور الإمارة، فليكن عليها بعضنا اليوم، والآخر غداً، والآخر بعد غد ؛ حتى يتأمر كلكم ، ودعونني أليكم اليوم .

فأمروه، وهم يرون أنها كخرجاتهم، وأن المر أطول مما صاروا إليه؛ فخرجت الروم في تعبية لم ير الرءون مثلها قط، وخرج خالد في تعبية لم تعبها العرب قبل ذلك ؛ فخرج في ستة وثلاثين كردوساً إلى الأربعين، وقال: إن عدوكم قد كثر وطغى، وليس من التعبية تعبية أكثر في رأي العين من الكراديس. فجعل القلب كراديس، وأقام فيه أبا عبيدة، وجعل الميمنة كراديس وعليها عمرو بن العاص وفيها شرحبيل بن حسنة. وجعل المسيرة كراديس وعليها يزيد بن أبي سفيان. وكان على كردوس من كراديس أهل العراق القعقاع بن عمرو، وعلى كردوس مذعور بن عدي، وعياض بن غنم على كردوس، وهاشم بن عتبة على كردوي، وزياد بن حنظلة على كردوس، وخالدفي كردوس؛ وعلى فالة خالد بن سعيد دحية بن خلفية على كردوس، وخالد في كردوس؛ وعلى فالة خالد بن سعيد دححية بن خليفة على كردوس، وأبو عبيدة على كردوس، وعكرمة على كردوس، وسهيل على كرودس وعبد الحمن بن خالد على كردوس - وهو يومئذ ابن ثماني عشرة سنة - وحبيب بن مسلمة على كردس، وصفوان بن أمية على كردوس، وسعيد بن خالد على كردوس، وأبو الأعور بن سفيان على كردوس، وابن ذي خالد على كردوس ؛ وفي الميمنة عمارة بن مخشي ابن خويلد على كردوس ؛ وشرحبيل على كردوس ومعه خالد بن سعيد، وعبد الله بن قيس على كردوس ؛ وعمرو بن عبسة على كردوس، والسمط ب الأسود على كردوس، وذو الكلاع على كردوس، ومعاوية بن حديج على آخر ؛ وجندب بن عمرو بن حممة على كردوس، وعمرو بن فلان على كردوس، وفي المسيرة يزيد بن أبي سفيان على كردوس، والزبير على كردوس، وحوشب ذو ظليم على كردوس، وقيس ين عمرو بن زيد بن عوف بن مبذول بن مازن بن صعصعة من هوازن - حليف لبنى النجار - على كردوس، وعصمة بن عبد الله - حليف لبني النجار من بني أسد - على كردوس، وضرار بن الأزور على كردوس، ومسروق بن فلان على كردوس وعتبة بن ربيعة بن بهز - حليف لبني عصمة - على كردوس، وجارية بن عبد الله الأشجعي - حليف لبني سلمة - على كردوس، وقباث على كردوس.
وكان القاضي أبو الدراداء، وكان القاص أبو سفيان بن حرب، وكان على الطلائع قباث بن أشيم ؛ وكان على الأقباض عبد الله بن مسعود.
كتب إلى السرى، عن شعيبن عن سيف، عن محمد وطلحة نحواً من حديث أبي عثمان ؛ وقالوا جميعاً: وكان القارئ المقداد. ومن السنة التي سن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد بدر أن تقرأ سورة الجهاد عند اللقاء ؛ ولم يزل الناس بعد ذلك على ذلك.
كتب إلى السري، عن شعيب، عنسيف، عن أبي عثمان يزيد بن أسيد الغساني، عن عبادة وخالد ؛ قالا: شهد اليرموك ألف من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم نحو من مائة من أهل بدر. قالا: وكان أبو سفيان يسير فيقف على الكراديس، فيقول: الله الله ! إنكم ذادة العرب، وأنصار الإسلام، وإنهم ذادة الروم وأنصار الشرك! اللهم إن هذا يوم من أيامك ؛ اللهم أنزل نصرك على عبادك! قالا: وقال رجل لخالد: ما أكثر الروم وأقل المسلمين! فقال خالد: وما أقل الروم وأكثر المسلمين! إنما الجنود بالنصر وتقل بالخذلان ؛ لا بعدد الرجال؛ والله لوددت أن الأشقر براء من توجيه ؛ وأنهم أضعفوا في العدد - وكان فرسه قد حفى في مسيره - قالا: فأمر خالد عكرمة والقعقاع، وكانا على مجنبتي القلب، فأنشبا القتال، وارتجز القعقاع وقال:
يا ليتني ألقاك في الطراد ... قبل اعترام الجحفل الوراد
وأنت في حلبتك الوارد وقال عكرمة: قد علمت بهنكة الجواري أني على مكرمة أحامي

فنشب القتال، والتحم الناس، وتطارد الفرسان ؛ فإنهم على ذلك إذ قدم البريد من المدينة ؛ فأخذته الخيول ؛ وسألوه الخبر ؛ فلم يخبرهم إلا بسلامة ؛ وأخبرهم عن أمداد ؛ وإنما جاء بموت أبي بكر رحمه الله وتأمير أبي عبيدة ؛ فأبلغوه خالداً، فأخبره خبراً أبي بكر؛ أسره إليه ، وأخبره بالذي أخبر به الجند. قال: أحسنت فقف، وأخذ الكتاب وجعله في منانته ؛ وخاف إن هو أظهر ذلك أن ينتشر له أمر الجند ؛ فوقف محمية بن زنيم مع خالد وهو الرسول ؛ وخرج جرجة حتى كان بين الصفين ونادي : ليخرج إلى خالد، فخرج إليه خالد وأقام أبا عبيدة مكانه، فوفقه بين الصفين ؛ حتىاختلف أعناق دابتيهما ، وقد أمن أحدهما صاحبه، فقال جرجة: يا خالد أصدقني ولا تكذبني فإن الحر لا يكذبني فإن الحر لا يكذب ولا تخادعني فإن الكريم لا يخادع المسترسل بالله ؛ هل أنزل الله على نبيكم سيفاً من السماء فأعطاكه. فلا تله على قوم إلا هزمتهم؟ قال: لا ، قال: فبم سميت سيف الله؟ قال: إن الله عز وجل بعث فينا نبيه صلى الله عليه وسلم ، فدعانا فنفرنا عنه ونأينا عنه جميعاً. ثم إن بعضنا صدقه وتابعه ؛ وبعضنا باعده وكذبه ؛ فكنت فيمن كذبة وباعده وقاتله. ثم أن الله أخذ بقلوبنا ونواصينا فهدانا به، فتابعناه. فقال : أنت سيف من سيوف الله سله الله على المشركين! ودعا لي بالنصر ؛ فسميت سيف الله بذلك ؛ فأنا من أشد المسلمين على المشركين. قال صدقني، ثم أعاد عليه جرجة: يا خالد، أخبرني إلا م تدعوني؟ قال: إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، والإقرار بما جاء به من عند الله، قال: فمن لم يجبكم؟ قال: فالجزية ونمنعهم، قال: فإن لم يعطيها ، قال: نؤذبه بحرب، ثم نقاتله، قال : فما منزلة الذي يدخل فيكم ويجيبكن إلى هذا المر اليوم؟ قال: منزلتنا واحدة فيما افترض الله علينا، شريفنا ووضيعنا، وأولنا وآخرنا. ثم أعاد عليه جرجة: هل لمن دخل فيكم اليوم يا خالد مثل مالكم من الأجر والذخر؟ قال: نعم، وأفضل؛ قال : وكيف يساويكم وقد سبقتموه؟ قال " إنا دخلنا في هذا الأمر، وبايعنا نبينا صلى الله عليه وسلم وهو حي بين أظهرنا، تأتيه أخبار السماء ويخبرنا بالكتب، ويرينا الآيات، وحق لمن رأى ما رأينا، ولم تسمعوا ما سمعنا من العجائب والحجج ؛ فمن دخل في هذا الأمر منكم بحقيقة ونية كان أفضل منا. قال جرجة: بالله لقد صدقتني ولم تخادعني ولم تألفني! قال : بالله ؛ لقد صدقتك وما بي إليك ولا إلى أحد منكم وحشة ؛ وإن الله لولي ما سألت عنه. فقال: صدقني ؛ وقلب الترس ومال مع خالد، وقال: علمني الإسلام، فمال به خالد إلى فسطاطه، فشن عليه قربة من ماء، ثم صلى ركعتين ؛ وحملت الروم مع انقلابه إلى خالد ؛ وهم يرون أنها منه حملة، فأزالوا المسلمين عن مواقفهم إلا المحامية، عليهم عكرمة والحارث بن هشام. وركب خالد ومعه جرجة والروم خلال المسلمين ؛ فتنادى الناس ، فثابوا ، وتراجعت الروم إلى مواقفهم، فزحف بهم خالد حتى تصافحوا بالسيوف، فضربفيهم خالد وجرجة من لدن ارتفاع النهار إلى جنوح الشمس للغرةوب، ثم أصيب جرجة ولم يصل صلاة سجد فيها إلا الركعتين اللتين أسلم عليهما، وصلى الناس الأولى والعصر إيماء، وتضعضع الروم، ونهد خالد بالقلب حتى كان بين خيلهم ورجلهم، وكان مقاتلهم واسع المطرد، ضيق المهرب ؛ فلما وجدت خيلهم مذهباً ذهبت وتركوا رجلهم في مصافهم ؛ وخرجت خيلهم تشتد بهم في الصحراء، وأخر الناس الصلاة حتى صلوا بعد الفتح. ولما رأى المسلمون خيل الروم توجهت للهرب، أفرحوا لها، ولم يحرجوها ؛ فذهبت فتفرقت في البلاد، وأقبل خالد والمسلمون على الرجل ففضوهم ؛ فكأنما هدم بهم حائط ؛ فاقتحموا في خندقهم، فاقتحمه عليهم فعمدوا إلى الواقوصة، حتى هوى فيها المقترنون وغيرهم، فمن صبر من المقترنين للقتال هوى به من خشعت نفسه فيهوى الواحد بالعشرة لا يطيقونه ؛ كلما هوى اثنان كانت البقية أضعف ، فتهافت في الواقوصة عشرون ومائة ألف ؛ ثمانون ألف مقترن وأربعون ألف مطلق ؛ سوى من قتل في المعركة من الخيل والرجل ؛ فكان سهم الفارس يومئذ ألفا وخمسمائة، وتجلل الفيقار وأشراف من أشراف الروم برانسهم، ثم جلسوا وقالوا: لا نحب أن نرى يوم السوء إذ لم نستطع أن نرى يوم السرور ؛ وإذا لم نستطع أن نمنع النصرانية ؛ فأصيبوا في تزملهم.

كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن أبي عثمان، عن خالد وعبادة ؛ قالا: أصبح خالد من تلك الليلة، وهو في رواق تذارق، لما دخل الخندق نزله وأحاطت به خيله، وقاتل الناس حتى أصبحوا.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن أبي عثمان الغساني، عن أبيه، قال: قال عكرمة بن أبي جهل يومئذ: قاتلت رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل موطن، وأفر منكم اليوم! ثم نادى: من يبايع على الموت؟ فبايعه الحارث بن هاشم وضرار بن الأزور في أربعمائة من وجوه المسلمين وفرسانهم ؛ فقاتلوا قدام فسطاط خالد حتى أثبتوا جميعاً جراحاً، وقتلوا إلا من برأ، ومنهم ضرار بن الأزور. قال: وأتى خالد بعدما أصبحواا بعكرمة جريحاً فوضع رأسه على فخذه، وبعمرو بن عكرمة فوضع رأسه على ساقه، وجعل يمسح عن وجههما، ويقطر في حلوقهما الماء، ويقول: كلا، زعم ابن الحنتمة أنا لا نستشهد! كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن أبي عميس، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن أبي أمامة - وكان شهد اليرموك هو وعبادة بن الصامت - أن النساء قاتلن يوم اليرموك في جولة، فخرج - ت جوريرية ابنة أبي سفيان في جولة، وكانت مع زوجها وأصيب بعد قتال شديد، وأصيبت يومئذ عين أبي سفيان، فأخرج السهم من عينه أبو حثمة.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن المستنير بن يزيد بن أرطأة بن جهيش، قال: كان الأشتر قد شهد اليرموك ولم يشهد القادسية ؛ فخرج يومئذ رجل من الروم، فقال: من يبارز؟ فخرج إليه الأشتر ؛ فاختلفا شربتين، فقال للرومي: خذها وأنا الغلام الإيادي فقال: الرومي: أكثر الله في قومي مثلك! أما والله لو أنك من قومي لآزرت الروم، فأما الآن فلا أعينهم ! كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن أبي عثمان وخالد: وكان ممن أصيب في الثلاثة الآلاف الذين أصيبوا يوم اليرموك عكرمة، وعمرو بن عكرمة، وسلمة بن هشام، وعمرو بن سعيد، وأبان بن سعيد - وأثبت خالد بن سعيد فلا يدري أين مات بعد - وجندب بن عمرو بن حممة الدوسي، والطفيل بن عمرو، وضرار بن الأزور أثبت فبقي وطليب بن عمير بن وهب من بني عبد قصي، وهبار بن سفيان، وهشام بن العاصي.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن عمرو بن ميمون، عن أبيه، قال: لقي خالداً مقدمة الشأم مغيثاً لأهل اليرموك رجل من روم العرب، فقال: يا خالد، إن الروم في جمع كثير ؛ مائتي ألف أو يزيدون ؛ فإن رأيت أن ترجع على حاميتك فافعل ؛ فقال خالد: أبا لروم تخوفني! والله لوددت أن الأشقر براء من توجيه، وأنهم أضعفوا ضعفهم، فهزمهم الله على يديه! كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن المستنير بن يزيد، عن أرطأة بن جهيش، قال : قال خالد يومئذ: المد لله الذي قضى على أبي بكر بالموت وكان أحب إلى من عمر، والحمد لله ولي عمر، وكان أبعض إلى من أبي بكر ثم ألزمني حبه! كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وعمرو بن ميمون، قالوا: وقد كان هرقل حج قبل مهزم خالد بن سعيد، فحج بيت المقدس، فبينا هو مقيم به أتاه الخبر بقرب الجنود منه، فجمع الروم، وقال: أرى من الرأي ألا تقاتلون هؤلاء القوم، وأن نصالحوهم ؛ فوالله لأن تعطوهم نصف ما أخرجت الشأم ؛ وتأخذوا نصفاً وتقر لكم جبال الروم ؛ خير لكم من أن يبلغوكم على الشأم، ويشاركوكم في جبال الروم ؛ فنخر أخوه ونخر ختنه ؛ وتصدع عنه من كان حوله ؛ فلما رآهم يعصونه ويردون عليه بعث أخاه، وأمر الأمراء ووجه إلى كل جند جنداً. فلما اجتمع المسلمون، أمرهم بمنزل واحد واسع جامع حصين، فنزلوا بالواقوصة، وخرج فنزل حمص، فلما بلغه أن خالداً قد طلع على سوى وانتسف أهله وأموالهم، وعمد إلى بصرى وافتتحها وأباح عذراء، قال لجلسائه: ألم أقل لكم لا تقاتلوهم ! فإنه لا قوام لكم مع هؤلاء القوم ؛ إن دينهم دين جديد يجدد لهم ثبارهم ، فلا يقوم لهم أحد حتى يبلى. فقالوا: قاتل عن دينك ولا تجبن الناس، واقض الذي عليك ؛ قال: وأي شئ أطلب إلا توفير دينكم!

ولما نزلت جنود المسلمين اليرموك، بعث إليهم المسلمون: إنا نريد كلام أميركم وملاقاته ؛ فدعونا نأته ونكلمه، فأبلغوه فأذن لهم. فأتاه أبو عبيدة ويزيد بن أبي سفيان كالرسول، والحارث بن هشام وضرار بن الأزور وأبو جندل بن سهيل ؛ ومع أخي الملك يومئذ ثلاثون رواقاً في عسكره وثلاثون سرادقاً، كلها من ديباج ؛ فلما انتهوا إليها أبوا أن يدخلوا عليه فيها، وقالوا: لا نستحل الحرير فابرز لنا . فبرز إلى فرش ممهدة وبلغ ذلك هرقل، فقال: ألم أقل لكم إ ولم يتأت بينهم وبين المسلمين صلح، فرجع أبو عبيدة وأصحابه واتعدوا، فكان القتال ؛تى جاء الفتح.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن مطرح، عن القاسم، عن أبي أمامة وأبي عثمان، عن يزيد بن سنان، عن رجال من أهل الشأم ومن أشياخهم ؛ قالوا: لما كان اليوم الذي تأمر فيه خالد، هزم الله الروم مع الليل، وصعد المسلمون العقبة، وأصابوا ما في العسكر، وقتل الله صناديدهم ورءوسهم وفرسانهم، وقتل الله أخاً هرقل، وأخذ التذارق، وانتهت الهزيمة إلى هرقل وهو دون مدينة حمص، فارتحل فجعل حمص بينه وبينهم، وأمر عليها أميراً وخلفه فيها، كما كان أمر على دمشق، وأتبع المسلمون الروم حين هزموهم خيولاً يثفنونهم . ولما صار إلى أبي عبيدة الأمر بعد الهزيمة ؛ نادى بالرحيل، وارتحل المسلمون بزحفهم حتى وضعوا عساكرهم بمرج الصفر. قال أبو أمامة: فبعث طليعة من مرج الصفر، معي فارسان ؛ حتى دخلت الغوطة فجستها بين أبياتها وشجراتها، فقال أحد صاحبي: قد بلغت حيث أمرت فانصرف لا تهلكنا، فقلت: قف مكانك حتى تصبح أو آتيك. فسرت حتى دفعت إلى باب المدينة ؛ وليس في الأرض أحد ظاهر، فنزعت لجام فرسي وعلقت عليها مخلاتها، وركزت رمحي، ثم وضعت رأسي فلم أشعر إلا بالمفتاح يحرك عند الباب ليفتح ؛ فقمت فصليت الغداة ، ثم ركبت فرسي، فحملت عليه، فطعنت البواب فقتله، ثم انكفأت راجعاً؛ وخرجوا يطلبونني، فجعلوا يكفون عني مخافة أن يكون لي كمين، فدفعت إلى صاحبي الأدنى الذي أمرته أن يقف، فلما رأوه قالوا: هذا كمين انتهى إلى كمينه. فانصرفوا وسرت أنا وصاحبي، حتى دفعنا إلى صاحبنا الثاني، فسرنا حتى انتهينا إلى المسلمين ؛ وقد عزم أبو عبيدة ألا يبرح حتى يأتيه رأى عمر وأمره ؛ فأتاه فرحلوا حتى نزلوا على دمشق، وخلف باليرموك بشير بن كعب بن أبي الحميري في خيل.
كتب إلى السرى عن شعيب، عن سيف، عن عبد الله بن سعيد عن أبي سعيد، قال: قباث: كنت في الوفد بفتح اليرموك، وقد أصبنا خيراً ونفلاً كثيراً، فمر بنا الدليل على ماء رجل قد كنت اتبعته في الجاهلية حين أدركت وآنست من نفسي لأصيب منه ؛ كنت دللت عليه، فأتيته فأخبرته، فقال: قد أصيب، فإذا ريبال من ريابلة العرب قد كان يأكل في اليوم عجز جزور بأدمها ومقدار ذلك منغير الغجز ما يفضل عنه إلا ما يقوتني. وكان يغير على الحي ويدعني قريباً، ويقول: إذا مر بك راجز يرتجز بكذا وكذا، فأنا ذلك ؛ فشل معي . فمكثت بذلك حتى أقطعني قطيعاً من مال، وأتيت به أهلي ؛ فهو أول مال أصبته. ثم إني رأست قومي ؛ وبلغت مبلغ رجال العرب، فلما مر بنا على ذلك الماء عرفته، فسألت عن بيته فلم يعرفوه، وقالوا: هو حي، فأتيتت ببنين استفادهم بعدي، فأخبرتهم خبري، فقالوا: اغد علينا غداً، فإنه أقرب ما يكون إلى ما تحب بالغداة، فغاديتهم فأدخلت عليه، فأخرج من خدره ؛ فأجلس لي، فلم أزل أذكره حتى ذكر، وتسمع وجعل يطرب للحديث ويستطعمنيه، وكال مجلسنا وثقلنا على صبيانهم ؛ ففرقوه ببعض ما كان يفرق منه ليدخل خدره، فوافق ذلك عقله، فقال: قد كنت وما أفزع! فقلت أجل، فأعطيته ولم أدع أحداً من أهله إلا أصبته بمعروف ثم ارتحلت.
كتب إلى السرى، عن سيف، عن أبي سعيد المقبري، قال: قال مروان بن الحكم لقباث: أانت منى ، وأنا أقدم منه، قال: فما أبعد ذكرك؟ قال: حثى الفيل لسنة. قال: وما أعجب ما رأيت؟ قال: رجل من قضاعة ؛ إني لما أدركت وآنست من نفسي سألت عن رجل أكون معه وأصيب منه، فدللت عليه.... واقتص هذا الحديث.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن صالح بن كيسان، أن أبا بكر رحمه الله حين سار القوم خرج مع يزيد بن أبي سفيان يوصيه، وأبو بكر يمشي ويزيد راكب، فلما فرغ من وصيته قال: أقرئك السلام، وأستودعك الله. ثم انصرف ومضى يزيد، فأخذ التبوكية ثم تبعه شرحبيل بن حسنة ثم يأبو عبيدة بن الجراح مدداً لهما على ربع، فسلكوا ذلك الطريق، وخرج عمرو بن العاص حتى نزل بغمر العربات، ونزلت الروم بثنية جلق بأعلى فلسطين في سبعين ألفاً، عليهم تذارق أخو هرقل لأبيه وأمه. فكتب عمرو بن العاص ؛ وهو بمرج الصفر من أرض الشأم في يوم مطير يستمطر فيه ؛ فتعاوى عليه أعلاج الروم، فقتلوه، وقد كان عمرو بن العاص كتب إلى أبي بكر يذكر له أمر الروم ويستمده.
قال أبو جعفر: وأما أبو يزيد، فحدثني عن علي بن محمد بالإسناد الذي قد ذكرت قبل ؛ أن أبا بكر رحمه الله وجه بعد خروج يزيد بن أبي سفيان موجهاً إلى الشأم بأيام، شرحبيل بن حسنة - قال: وهو شرحبيل بن عبد الله بن المطاع بن عمرو، من كندة، ويقال من الأزد - فسار في سبعة آلاف، ثم أبا عبيدة بن الجراح في سبعة آلاف، فنزل يزيد البلقاء، ونزل شرحبيل الأردن - ويقال بصرى - ونزل أبو عبيدة الجابية، ثم أمدهم بعمرو بن العاص، فنزل بغمر العربات، ثم رغب الناس في الجهاد ؛ فكانوا يأتون المدينة فيوجههم أبو بكر إلى الشأمفمنهم من يصير مع أبي عبيدة، ومنهم من يصير مع يزيد، يصير كل قوم مع من أحبوا.
قالوا: فأول صلح كان بالشأم صلح مآب؛ وهي فسطاط ليست بمدينة ، مر أبو عبيدة بهم في طريقه، وهي قرية من البلقاء، فقاتلوه، ثم سألوه الصلح فصالحهم . واجتمع الروم جمعاً بالعربة من أرض فلسطين ؛ فوجه إليهم يزيد بن أبي سفيان أبا أمامة الباهلي ؛ ففض ذلك الجمع قالوا: فأول حرب كانت بالشأم بعد سرية أسامة بالعربة. ثم أتوا الدائية - ويقال الدائن - فهزمهم أبو أمامة الباهلي، وقتل بطريقاً منهم . ثم كانت مرج الصفر، استشهد فيها خالد بن سعيد بن العاص، أتاهم أدرنجار في أربعة آلاف وهم غارون، فاستشهد خالد وعدة من المسلمين.
قال أبو جعفر: وقيل إن المقتول في هذه الغزوة كان ابناً لخالد بن سعيد، وإن خالداً انحاز حين قتل ابنه، فوجه أبو بكر خالد بن الوليد أميراً على الأمراء الذين بالشأم، ضمهم إليه ؛ فشخص خالد من الحيرة في ربيع الآخر سنة ثلاث عشرة في ثمانمائة - ويقال في خمسمائة - واستخلف على عمله المثنى بن حارثة، فلقيه عدو بصندوداء، فظفر بهم، وخلف بها ابن حرام الأنصار ؛ ولقى جمعاً بالمصيخ والحصيد، عليهم ربيعة بن بجير التغلبي، فهزمهم وسبى وغنم، وسار ففوز من قراقر إلى سوى ؛ فأغار على أهل سوى ؛ واكتسح أموالهم، وقتل حرقوص ابن النعمان البهراني، ثم أتى أرك فصالحوه، وأتى تدمر فتحصنوا ، ثم صالحوه ؛ ثم أتى القريتين، فقاتلهم فظفر بهم وغنم، وأتى حوارين ؛ فقاتلهم فهزمهم وقتل وسبى، وأتى قصم فصالحه بنو مشجعة من قضاعة، وأتى مرج راهط، فأغار على غسان في يوم فصحهم فقتل وسبى، ووجه بسرين أبى ارطاة وحبيب بن مسلمة إلى الغوطة، فأتوا كنيسة فسبوا الرجال والنساء، وساقوا العيال إلى خالد.
قال: فوافى خالداً كتاب أبي بكر بالحيرة منصرفة من حجه: أن سر حتى تأتى جموع المسلمين باليرموك، فإنهم قد شجوا وأشجوا ، وإياك أن تعود لمثل ما فعلت، فإنه لم يشج الجموع من الناس بعون الله شجاك، ولم ينزع الشجي من الناس نزعك فليهنئك أبا سليمان النية والحظوة ؛ فأتمم يتمم الله لك، ولا يدخلنك عجب فتخسر وتخذل ؛ وإياك أن تدل بعمل، فإن الله عز وجل له المن، وهو ولي الجزاء.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن عبد الملك بن عطاء، عن الهيثم البكائي، قال: كان أهل الأيام من أهل الكوفة يوعدون معاوية عند بعض الذي يبلغهم، ويقولن: ما شاء معاوية! نحن أصحاب ذات السلاسل، ويسمون ما بينهما وبين الفراض ؛ ما يذكرون ماكان بعد ؛ احتقاراً لكا كان بعد فيما كان قبل.

كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن عمرو بن محمد، عن إسحاق بن إبراهيم، عن ظفر بن دهى ، ومحمد بن عبد الله عن أبي عثمان، وطلحة عن المغيرة، والمهلب بن عقبة عن عبد الرحمن بن سياه الأحمري، قالوا: كان أبو بكر قد وجه خالد بن سعيد بن العاص إلى الشأم حيث وجه خالد بن الوليد إلى العراق، وأوصاه بمثل الذي أوصى به خالداً . وإن خالد بن سعيد سار حتى نزل على الشأم ولم يقتحك ؛ واستجلب الناس فعز ، فهابته الروم، فأحجموا عنه، فلم يصبر على أمر أبي بكر ولكن توردها فاستطردت له الروم، حتى أوردوه الصفر، ثم تعطفوا عليه بعد ما أمن ؛ فوافقوا ابنة سعيد بن خالد مسمطراً ؛ فقتلوه هو ومن معه، وأتى الخبر خالداً، فخرج هارباً حتى يأتي البر، فينزل منزلاً، واجتمعت الروم إلى اليرموك ؛ فنزلوا به، وقالوا: والله لنشعلن أبا بكر في نفسه عن تورد بلادنا بخيوله.
وكتب خالد بن سعيد إلى أبي بكر بالذي كان، فكتب أبو بكر إلى عمرو ابن العاص - وكان بلاد قضاعة - بالسير إلى اليرموك، ففعل . وبعث أبا عبيدة بن الجراح ويزيد بن أبي سفيان، وأمر كل واحد منهما بالغارة، وألا توغلوا حتى لا يكون وراءكم أحد من عدوكم.
وقدم عليه شرحبيل بن حسنة بفتح من فتوح خالد، فسرحه نحو الشأم في جند، وسمى لكل رجل من أمراء الأجناد كورة من كور الشأم ؛ فتوافروا باليرموك، فلما رأت الروم توافيهم، ندموا على الذي ظهر منهم، ونسوا الذي كانوا يتوعدون به أبا بكر، واهتموا وهمتهم أنفسهم، وأشجوهم وشجوا بهم، ثم نزلوا الواقصة. وقال أبو بكر: والله لأنسين الروم وساوس الشيطان بخالد بن الوليد، فكتب إليه بهذا الكتاب الذي فوق هذا الحديث، وأمره أن يستخلف المثنى بن حارثة على العراق في نصف الناس، فإذا فتح الله على المسلمين الشأم، فارجع إلى عملك بالعراق. وبعث خالد بالخماس إلا ما نفل منها مع عمير بن سعد الأنصاري وبمسيرة إلى الشأم. ودعا خالد الأدلة، فارتحل من الحيرة شائراً إلى دومة، ثم طعن في البر إلى قراقر، ثم قال: كيف لي بطريق أخرج فيه من وراء جموع الروم! فإن استقبلتها حبستني عن غياث المسلمين، فكلهم قال : لا نعرف إلا طريقاً لا يحمل الجيوش، يأخذ الفذ الراكب، فإياك أن تغرر بالمسلمين. فعزم عليهم ولم يجبه إلى ذلك إلا رافع بن عميرة على تهيب شديد ، فقام فيهم، فقال: لا يختلفن هديكم، ولا يضعفن يقينكم، واعلموا أم المعونة تأتي على قدر النية ، والأحر على قدر الحسبة ؛ وإن المسلم لا ينبغي له أن يكترث بشئ يقع فيه مع معونة الله له، فقالوا : أنت رجل قد جمع الله لك الخير ، فشأنك. فطابقوه ونووا واحتسبوا، واشتهوا مثل الذي خيل بقدر ما يستقيها، فظمأ كل قائد من الإبل الشرف الجلال ما يكتفيبه، ثم سقوها العلل بعد النهل ؛ ثم صروا آذن الإبل وكعموها، وخلوا أدبارها، ثم ركبوا من قراقر مفوزين إلى سوى - وهي على جانبيها الآخر مما يلي الشأم - فلما ساروا يوماً افتظوا لكل عدة من الخيل عشراً من تلك الإبل فمزجوا ما في كروشها بما كان من الألبان، ثن سقوا الخيل، وشربوا للشفعة جرعاً، ففعلوا ذلك أربعة أيام.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن عبيد الله بن محفز ابن ثعلبة ؛ عمن حدثة من بكر بن وائل، أن محرز بن حريش المحاربي قال لخالد: اجعل كوكب الصبح على حاجبك اليمن، ثم أمه تفض إلى سوى ؛ فكان أدلهم.
قال أبو جعفر الطبري: وشاركهم محمد وطلحة، قالوا: لما نزل بسوى وخشى أن يفضحهم حر الشمس، نادى هالد رافعاً: ما عندك؟ قال: خير، أدركتم الري ، وأنتم على الماء! وشجعهم وهو متحير أرمد، وقال: أيها الماس، انظروا علمين كأنهما ثديان. فأتوا عليهما وقالوا: علمان، فقام عليهما فقال: اضربوا يمنة ويسرة - لعوسجة كعقدة الرجل - فوجدوا جذمها، فقالوا: جذم ولا نرى شجرة، فقال: احتفروا حيث شئتم، فاسشتثاروا وأحساء رواء، فقال رافع: أيها الأمير، والله ما وردت هذا الماء منذ ثلاثين سنة، وما وردته إلا مرة وأنا غلام مع أبي. فاستعدوا ثم أغاروا والقوم لا يرون أن جيشاً يقطع إليهم.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن عمرو بن محمد، عن إسحاق بن أبراهيم، عن ظفر بن دهى، قال: فأغار بنا خالد من سوى على مصيخ بهراء بالقصواني - ماء من المياه - فصبح المصيخ والنمر ؛ وإنهم لغارون، وإن رفقة لتشرب في وجه الصبح، وساقيهم يغنيهم، ويقول:

ألا صبحاني قبل جيش أبي بكر فضربت عنقه، فاختلط دمه بخمره.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن عمرو بن محمد بإسنادهالذي تقدم ذكره، قال: ولما بلغ غسان خروج خالد على سوى وانتسافها، وغارته على مسيخ بهراء وانتسافها، فاجتمعوا بمرج واهط، وبلغ ذلك خالداً، وقد خلف ثغور الروم وجنودها مما يلي العراق، فصار بينهم وبين اليرموك، صمد لهم ؛ فخرج من سوى بعد مارجع إليها بسبي بهراء، فنزل الرمانتين - علمين على الطريق - ثم نزل الكثب ؛ حتى صار إلى دمشق ، ثم مرج الصفر، فلقى عليه غسام وعليهم الحارث بن الأيهم، فانتسف عسكرهم وعيالاتهم. ونزل بالمرج أياماً، وبعث إلى أبي بكر بالأخماس مع بلال بن الحارث المزني، ثم خرج من المرج حتى ينزل قناة بصرى ؛ فكانت أول مدينة افتتحت بالشأم على يدي خالد فيمن معه من جنود العراق، وخرج منها، فوافى المسلمين بالواقوصة، فنازلهم بها في تسعة آلاف.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة والمهلب، قالوا: ولما رجع خالد من حجة وافاه كتاب أبي بكر بالخروج في شطر الناس، وأن يخلف على الشطر الباقي المثنى بن حارثة، وقال: لا تأخذن نجداً إلا خلفت له نجداً، فإذا فتح الله عليكم فارد هم إلى العراق، وأنت معهم، ثم أنت على عملك ؛ وأحضر خالد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم واستأثر بهم على المثنى، وترك للمثنى أعدادهم من أهل القناعة ممن لم يكن له صحبة، ثم نظر فيمن بقي، فاختلج من كان قدم على النبي صلى الله عليه وسلم وافداً أو غير وافد، وترك للمثنى أعدادهم من أهل القناعة ؛ ثم قسم الجند نصفين، فقال المثنى: والله لا أقيم إلا على إنفاذ أمر أبي بكر كله في استصحاب نصف الصحابة أو بع النصف ؛ وبالله ماأرجو النصر إلا بهم، فأنى تعريني منهم! فلما رأى ذلك خالد بعدما تلكأ عليه أعاضه منهم حتى رضى، وكان فيمن أعاضه منهم فرات بن حيان العجلي، وبشير بن الخصاصية والحارث بن حسان الذهليان، ومعبد بن أم معبد الأسلمى، وعبد الله بن أبي أوفى الأسلمى؛ والحارث بن بلال المزنى، وعاصم بن عمرو التميمي ؛ حتى إذا رضى المثنى وأخذ حاجته، انجذب خالد فمضى لوجهه وشيعه المثنى إلى قراقر، ثم رجع إلى الحيرة في المحرم ، فأقام في سلطانه، ووضع في المسلحة التي كان فيها على السيل أخاه، ومكان ضرار بن الخطاب عتيبة بن النهاس، ومكان ضرار بن الأزور مسعوداً أخاه الآخر، وسد أماكن كل من خرج من الأمراء برجال أمثالهم من أهل الغناء، ووضع مذعور بن عدي في بعض تلك الأماكن، واستقام أهل فارس - على رأس سنة من مقدم خالد الحيرة ؛ بعد خروج خالد بقليل ؛ وذلك في سنة ثلاث عشرة - على شهر براز بن أرشير بن شهريار ممن يناسب إلى كسرى، ثم إلى سابور. فوجه إلى المثنى جنداً عظيماً عليهم هرمز جاذويه في عشرة آلاف، ومعه فيل، وكتب المسالح إلى المثنى بإقباله، فخرج المثنى من الحيرة نحوه، وضم إليه المسالح، وجعل على مجنبتيه المعنى ومسعوداً ابني حارثة، وأقام له ببابل، وأقبل هرمز جاذويه، وعلى مجنبتيه الكوكبد والخر كبذ. وكتب إلى المثنى: من شهر براز إلى المثنى ؛ إني قد بعثت إليك جنداً من وخش أهل فارس ، إنما هم رعاة الدحاج والخنازير ؛ ولست أقاتلك إلا بهم فأجابه المثنى: من المثنى إلى شهر براز ؛ إنما أنت أحد رجلين: إما باغ فذلك شر لك وخير لنا، وإما كاذب فأعظم الكذابين عقوبة وفضيحة عند الله في الناس الملوك. وأما الذي يدلنا عليه الرأى ؛ فإنكم إنما اضطررتم إليهم ؛ فالخمد لله الذي رد كيدطمك إلى رعاة الدجاج والخنازير. فجزع أهل فارس من كتابه، وقالوا: إنما أتى شهر براز من شؤم مولده ولؤم منشئه - وكان يسكن ميسان - وبعض البلدان شين على من يسكنه. وقالوا له : جرأت علينا عدونا بالذي كتبت به إليهم ؛ فإذا كاتبت أحداً فاستشر. فالتقوا ببابل، فاقتتلوا بعدوة الصراة الدنيا على الطريق الأول قتالاً شديداً.
ثم إن المثنى وناساً من المسلمين اعتوروا الفيل - وقد كان يفرق بين الصفوف والكراديس - فأصابوا مقتله، فقتلوه وهزموا أهل فارس، واتبعهم المسلمون يقتلون ، حتى جازوا بهم مسالحهم، فأقاموا فيها، وتتبع الطلب الفالة ؛ حتى انتهوا إلى المدائن ؛ وفي ذلك يقول عبدة بن الطبيب السعدي، وكان عبدة قد هاجر لمهاجر حليلة له حتى شهد وقعة بابل ؛ فلما آيسته رجع إلى البادية، فقال:
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://arabelalekat.yoo7.com
الشيخ عودة
الشيخ عودة
الشيخ عودة



عدد المساهمات : 1748
تاريخ التسجيل : 28/09/2008
العمر : 73

كتاب : تاريخ الرسل والملوك المؤلف : الطبري - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: كتاب : تاريخ الرسل والملوك المؤلف : الطبري   كتاب : تاريخ الرسل والملوك المؤلف : الطبري - صفحة 2 Emptyالسبت ديسمبر 14, 2013 10:54 am

هل حبل خولة بعد البين موصول ... أم أنت عنها بعيد الدار مشغول!
وللأحبة أيام تذكرها ... والمنوى قبل يوم البين تأويل
حلت خويلة في حي عهدتهم ... دون المدائن فيها الديك والفيل
يقارعون رءوس العجم ضاحية ... منهم فوارس، لا عزل ولا ميل
القصيدة. وقال الفرزدق يعدد بيوتات بكر بن وائل وذكر المثنى وقتله الفيل:
وبيت المثنى قاتل الفيل عنوة ... ببابل إذا في فارس ملك بابل
ومات شهر براز منهزم هرمز جاذويه.
واختلف أهل فارس، وبقي ما دون دجلة وبرس من السواد في يدي المثنى والمسلمين.
ثم إن أهل فارس اجتمعوا بعد شهر براز على دخت زنان ابنة كسرى ؛ فلم ينقذ لها أمر فخلعت.
وملك سابور بن شهر براز. قالوا: ولما ملك سابور بن شهر براز قام بأمره الفر خزاذ بن البنوان، فسأله أن يزوجه آزرميدخت ابنة كسرى، ففعل، فغضبت من ذلك، وقالت: يا بن عم، أتزوجني عبدي!قال: استحي من هذا الكلام ولا تعيديه على ، فإنه زوجك، فبعثت إلى سياوخش الرازي - وكان من فتاك الأعاجم - فشكت إليه الذي تخاف، فقال لها: إن كنت كارهة لهذا فلا تعاوديه فيه، وأرسلى إليه وقولي له: فليقل له فليأتك ؛ فأنا أكفيكه. ففعلت وفعل؛ واستعد سياوخش، فلما كان ليلة العرس أقبل الفرخزاذ حتى دخل، فثار به سياوخش فقتله ومن معه، ثم نهد بها معه إلى سابور، فحضرته ثم دخلوا عليه فقتلوخه. وملكت آزر ميدخت بنت كسرى، وتشاغلوا بذلك ؛ وأبطأ خبر أبي بكر على المسليمن فخلف المثنى على المسلمين بشير بن الخصاصية، ووضع مكانه في المسالح سعيد بن مرة العجلي ؛ وخرج المثنى نحو أبي بكر ليخبره خبر المسلمين والمشركين، وليستأذنه في الإستعانة بمن قد ظهرت توبته وندمه من أهل الردة ممن يستطعمه الغزو ، وليخبره أنه لم يخلف أحداً أنشط إلى قتال فارس وحربها ومعونة المهاجرين منهم. فقدم المدينة وأبو بكر مريض، وقد كان مرض أبو بكر بعد مخرج خالد إلى الشأم - مرضته التي مات فيها - بأشهر ؛ فقدم المثنى وقد أشفى، وعقد لعمر، فأخبر الخبر، فقال: على بعمر، فجاء فقال له : اسمع يا عمر ما أقول لك، ثم اعمل به ؛ إني لأرجو أن أموت من يومي هذا - وذلك يوم الإثنين - فإن أنامت فلا تمسين حتى تندب الناس مع المثنى، وإن تأخرت إلى الليل فلا تصبحن حتى تندب الناس مع المثنى ، ولا تشغلنكم مصيبة وإن عظمت عن أمر دينكم، ووصية ربكم ؛ وقد رأيتني متوفى رسول الله صلى الله عليه وسلم وما صنعت، ولم يصب الخلق بمثله ؛ وبالله لو أني أنى عن أمر رسوله لخذلنا ولعاقبنا، فاضطرمت المدينة ناراً. وإن فتح الله على أمراء الشأم فاردد أصحاب خالد إلى العراق، فإنهم أهله وولادة أمره وحده وأهل الضراوة منهم والجراءة عليهم.
ومات أبو بكر رحمه الله مع الليل، فدفنه عمر ليلاً، وصلى عليه في المسجد، وندب الناس مع المثنى بعدما سوى على أبي بكر، وقال عمر: كان أبو بكر قد علم أنه يسوءني أن أؤمر خالداً على حرب العراق حين أمرني بصرف أصحابي، وترك ذكره.
قال أبو جعفر: وإلى آزر ميخت انتهى شأن أبي بكر، وأحد شقي السواد في سلطانه، ثم مات وتشاغل أهل فارس فيما بينهم عن إزالة المسلمين عن السواد، فيما بين ملك أبي بكر إلى قيام عمر ورجوع المثنى مع أبي عبيد إلى العراق، والجمهور من جند أهل العراق بالحيرة، والمسالح بالسيب، والغازات تنتهي بهم إلى شاطئ دجلة، ودجلة حجاز بين العرب والعجم.
فهذا حديث العراق في إمارة أبي بكر من مبتدئه إلى منهاه.

رجع الحديث إلى حديث أبن إسحاق . وكتب أبو بكر إلى خالد وهو بالحيرة، يأمره أن يمد أهل الشأم بمن معه من أهل القوة ، ويخرج فيهم، ويستخلف على ضعفه الناس رجلاً منهم ؛ فلما أتى خالداً كتاب أبي بكر بذلك، قال خالد: هذا عمل الأعسير بن أم شملة - يعني عمر بن الخطاب - حسدني أن يكون فتح العراق على يدي. فسار خالد بأهل القوة من الناس ورد الضعفاء والنساء إلى المدينة ؛ مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأمر عليهم عمير بن سعد الأنصاري، واستخلف خالد على من أسلم بالعراق من ربيعة وغيرهم المثنى بن حارثة الشيباني. ثم سار حتى نزل على عين التمر، فأغار على أهلها، فأصاب منهم، ورابط حصناً بها فيه مقاتلة كان كسرى وضعهم فيه حتى استنزلهم، فضرب أعناقهم، وسبى من عين التمر ومن أبناء تلك المرابطة سبايا كثيرة فبعث بها إلى أبي بكر ؛ فكان من تلك السبايا أبو عمرة مولى شبان ؛ وهو أبو عبد الأعلى بن أبي عمرة، وأبو عبيدة مولى المعلى، من الأنصار من بني زريق، وأبو عبد الله مولى زهرة، وخير مولى أبي داود الأنصاري ثم أحد بني مازن بن النجار، ويسار وهو جد محمد بن إسحاق مولى قيس بن مخرومة بن المطلب بن عبد مناف، وأفلح مولى أبي أيوب الأنصاري ثم أحد بني مالك بن النجار، وحمران بن أبان مولى عثمان بن عفان. وقتل خالد بن الوليد هلال بن عقة ابن بشر النمري وصلبة بعين التمر، ثم أراد السير مفوزا من قراقر - وهو ماء لكلب إلى سوى ، وهو ماء لبهران بينهما خمس ليال - فلم يهتد خالد الطريق، فالتمس دليلاً، فدل على رافع بن عميرة الطائي ؛ فقال له خالد: انطلق، بالناس فقال له رافع: إنك لن تطيق ذلك بالخيل والأثقال ؛ والله إن الراكب المفرد ليخافها على نفسه وما يسلطها إلا مغرراً؛ إنها لخمس ليال جياد لا يصاب فيها ماء مع مضلتها، فقال له خالد: ويحك! إنه والله إن لي بد من ذلك، إنه قد أتتني من الأمير عزمة بذلك فمر بأمرك . قال : استكبروا من الماء ؛ من استطاع منكم أن يصر أذن ناقته على ماء فليفعل ؛ فإنها المهالك إلا ما دفع الله؛ ابغني عشرين جزوراً عظاماً سماناً مسان . فأتاه بهن خالد، فعمد إليهن رافع فظمأهن، حتى إذا أجهدهن عطشاً أوردهن فشربن حتى إذا تملأن عمد إليهن، فقطع مشافرهن، ثم كعمهن لئلا يجتررن، ثم أخلى أدبارهن.
ثم قال لخالد: سر؛ فسار خالد معه مغذاً بالخيول والأثقال ؛ فكلما نزل منزلاً افتظ أربعاً من تلك الشوارف ؛ فأخذ كا في أكراشها، فسقاه الخيل؛ ثم شرب الناس مما حملوا معهم من الماء ؛ فلما خشي خالد على أصحابه في آخر يوم من المفاز قال لرافع بن عميرة وهو أرمد: ويحك يا رافع! ما عندك؟ قال أدركت الري إن شاء الله فلما دنا من العلمين، قال للناس: انظروا هل ترون شجيرة من عوسج كقعدة الرجل ؟ قالوا: ما نراها. قال: إنا لله وإنا إليه راجعون!هلكتم والله إذاًي وهلكت ؛ لا أباكم!انظروا فطلبوا فوجودها قد قطعت وبقيت منها بقية، فلما فحفروا فاستخرجوا عيناً، فشربوا حتى روى الناس، فاتصلت بعد ذلك لخالد المنازل، فقال رافع: والله ما وردت هذا الماء قط إلا مرة واحدة، وردته مع أبي وأنا غلام، فقال شاعر من المسلمين:
لله عيناً رافع أنى اهتدى ... فوز من قراقر إلى سوى!
خماً إذا ما سارها الجيش بكى ... ما سارها قبلك إني يرى
فلما انتهى خالد إلى سوى، أغار على أهله - وهم بهراء - قبيل الصبح، وناس منهم يشربون خمراً لهم في جفنة قد اجتمعوا عليها، ومغنيهم يقول:
ألا عللاني قبل جيش أبي بكر ... لعل منايانا قريب وما ندري
ألا عللاني بالزجاج وكررا ... على كميتاللون صافية تجري
ألا عللاني من سلافة قهوة ... تسلى هموم النفس من جيد الخمر
أظن خيول المسلمين وخالداً ... ستطرقكم قبل الصباح من البشر
فهل لكم في السيرقبل قتالهم ... وقبل خروج المعصرات من الخدر

فيزعمون أن مغنيهم ذلك قتل تحت الغارة، فسال دمه في تلك الجفنة. ثم سار خالد على وجهه ذلك، حتى أغار على غسان بمرج راهط، ثم سار حتى نزل على قناة بصرى، وعليها عيدة بن الجراح وشرحبيل بن حسنة ويزيد بن أبي سفيان ؛ فاجتمعوا عليها، فرابطواها حتى صالحت بصرى على الجزية،وفتحها الله على المسلمين، فكانت أول مدينة من مدائن الشأم فتحت في خلافة أبي بكر. ثم ساروا جميعاً إلى فلسطين مدداً لعمرو العاص ، وعمرو مقيم بالعربان من غور فلسطين، وسمعت الروم بهم، فانكشفوا عن جلق إلى أجنادين ؛ وعليهم تذارق أخو هرقل لأبيه وأمه - وأجنادين بلد بين الرملة وبين جبرين من أرض فلسطين - وسار عمرو بن العاص حين سمع بأبي عبيدة بن الجراح وشرحبيل بن حسنة ويزيد بن أبي سفيان حتى لقيهم، فاجتمعوا بأجنادين ؛ حتى عسكروا عليهم.
حدثنا بن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة بن الزبير، أنه قال: كان على الروم رجل منهم يقال له القبقلار ؛ وكان هرقل استخلفه على أمراء الشأم حين سار إلى القسطنطينية، وإليه انصرف تذارق بمن معه من الروم.قأما علماء الشأم فيزعمون أنما كان على الروم تذارق. والله أعلم.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة، قال: تدانى العسكران بعث القبقلا رجلاً عربياً - قال: فحدثت أن ذلك الرجل رجل من قضاعة، من تزيد بن حيدان، يقال له ابم هزارف - فقال: ادخل في هؤلاء القوم فأقم فيهم يوماً وليلة، ثم ائتني بخبرهم. قال: فدخل في الناس رجل عربي لا ينكر ؛ فأقام فيهم يوماً وليلة، ثن يأتاه فقال له: ما وراءك؟ قال: بالليل رهبان، وبالنهار فرسان، ولو سرق ابن ملكهم قطعوا يده، ولو زنى رجم ؛ لإقامة الحق فيهم. فقال له القبقلار: لئن كنت صدقتني لبطن الأرض خير من لقاء هؤلاء على ظهرها ، ولوددت أن حظى من الله أن يخلى بيني وبينهم، فلا ينصرني عليهم، ولا ينصرهم على. قال:ثم تزحف الناس، فاقتتلوا، فلما رأى القبقلار ما رأى من قتال المسلمين ؛ قال للروم: لفوا رأسي بثوب، قالوا له: لم ؟ قال: يوم البئيس، لا أحب أن أراه! ما رأيت في الدنيا يوماً أشد من هذا! قال فاحتز المسلمون رأسه، وإنه لملفف.
وكانت وقعة أجنادين في سنة ثلاث عشرة لليلتين بقيتا من جمادى الأولى. وقتل يومئذ من المسلمين جماعة ؛ منهم سلمة بن هشام بن المغيرة، وهبار بن الأسود بن عبد الأسد، ونعيم بن عبد الله النحام، وهشام بن العاصي بم وائل، وجماعة أخر من قريش. قال: ولم يسم لنا من الأنصار أحد أصيب بها.
وفيها توفي أبو بكر لثمان ليال بقين - أو سبع بقين - من جمادى الآخر.
رجع الحديثإلى حديث أبي يزيد، عن على بن محمد بإسناده الذي قد مضى ذكره. قال: وأني خالد دمشق فجمعله صاحب بصرى، حصنهم ؛ وطلبوا الصلح، فصالحهم على كل رأس دينار في كل عام وجريب حنطة. ثم رجع العدو للمسلمين، فتوافت جنود المسلمين والروم بأجنادين، فالتقوا يوم السبت لليلتين بقيتا من جمادى الأولى سنة ثلاث عشرة ؛ فظهر المسلمون، ثم رجع هرقل للمسلمين، فالتقوا بالواقوصة فقاتلوهم ؛ وقاتلهم العدو، وجاءتهم وفاة أبي بكر وهم مصافون وولاية أبي عبيدة، وكانت هذه الوقعة في رجب.
ذكر مرض أبي بكر ووفاتهحدثني أبو زيد ؛ عن على بن محمد، بإسناده الذي قد مضى ذكره ؛ قالوا: توفى أبو بكر وهو ابن ثلاث وستين سنة في جمادى الآخرة يوم الإثنين لثمان بقين منه. قالوا: وكان سبب وفاته أن اليهود سمته في أرزة، ويقال في جذيذة، وتناول معه الحارث بن كلدة منها، ثم كف وقال لأبي بكر: أكلتطعاماً مسموما ً سم سنة. فمات بعد سنة، ومرض خمسة عشر يوماً، فقيل له: لو أرسلت إلى الطبيب! فقال: قد رآني، قالوا فما قال لك؟ إني أفعل ما أشاء.
قال أبو جعفر : ومات عتاب بن أسيد بمكة في اليوم الذي مات فيه أبو بكر - وكانا سما جميعاً - ثم مات عتاب بمكة.

وقال غير من ذكرت في سبب مرض أبي بكر الذي توفي فيه، ما حدثني الحادث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثني أسامة بن يزيد الليثي، عن محمد بن حمزة، عن عمرو، عن أبيه قال . وأخبرنا محمد بن عبد الله، عن الزهري، عن عروة عن عائشة، قال. وأخبرنا عمر بن عمران بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، عن عمر بن الحسين مولى آل مظعون، عن طلحة بن عبد الله بن عبد الرحمن ابن أبي بكر، قالوا: كان أول ما بدأ مرض أبي بكر به بارداً فحم خمسة عشر يوماً لا يخرد إلى الصلاة ؛ وكان يأمر عمر بن الخطاب أن يصلي بالناس ؛ ويدخل الناس يعودونه ؛ وهو يثقل كل يوم، وهو نازل داره التي قطع رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاه دار عثمان بن عفان اليوم، وكان عثمان ألزمهم في مرضه ؛ وتوفى أبو بكر مسى ليلة الثلاثاء ؛ لثمال ليال بقين من جمادى الآخر سنة ثلاث عشرة من الهجرة. وكانت خلافته سنتين وثلاثة أشهر وعشر ليال. قال: وكان أبو معشر يقول: كانت خلافته سنتين وأربعة أشهر إلا أربع ليال، فتوفى سن النبي صلى الله عليه وسلم ، وكان أبو ولد بعد الفيل بثلاث سنين .
حدثنا ابن حميد، قال حدثنا جرير، عن يحيى بن يعيد، قال: قال سعيد بن المسيب: استكمل أبو بكر بخلافته سن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتوفى وهو بسن النبي صلى الله عليه وسلم .
حدثنا أبو كريب، قال حدثنا أبو نعيم، عن يونس بن إسحاق، عن أبي السفر، عن عامر، عن جرير، قال كنت عند معاوية فقال: توفى النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثلاث وستين سنة، وتوفى أبو بكر وهو ابن ثلاث وستين سنة، وقتل عمر وهو ابن ثلاث وستين سنة.
وحدثنا أبو الأحوص، عن أبي إسحاق، عن عامر بن سعد ، عن جرير، قال: قال معاوية: قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثلاث وستين، وقتل عمر وهو ابن ثلاث وستين، وتوفى أبو بكر وهو ابن ثلاث وستين.
وقال على بن محمد في خبره الذي ذكرت عنه: كانت ولاية أبي بكر سنتين وثلاثة أشهر وعشرين يوماً، ويقال: عشرة أيام.
ذكر الخبر عمن غسله والكفن الذي كفن فيه أبو بكر ومن صلى عليه والوقت الذي صلى عليه فيه والوقت الذي توفى فيه حدثني الحارث، عن أبن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثني مالك بن أبي الرحال ، عن أبيه، عن عائشة، قالت: توفى أبو بكر رحمه الله بين المغرب والعشاء.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يحيى بن واضح، عن محمد بن عبد الله، عن غطاء وابن أبي نليكة، أن أسماء بنت عميس، قالت: قال لي أبو بكر: غسليني، قلت: لا أطيق ذلك، قال : يعينك عبد الرحمن ابن أبي بكر، يصب الماء.
حدثني الحارث، عن محمد بن سعد، قال: أخبرنا معاذ بن معاذ ومحمد بن عبد الله الأنصاري، قالا: حدثنا الأشعث، عن عبد الواحد بن صبرة، عن القاسم بن محمد. قال ابن سعد: قال محمد بن عمر: وهذا الحديث وهل ؛ وإنما كان لمحمدج يوم توفي أبو بكر ثلاث سنين .
حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة، سألها أبو بكر ؛ كم كفن النبي صلى الله عليه وسلم ؟قالت: في ثلاثة أثواب، قال: اغسلوا ثوبي هذين - وكانا ممشقين - وابتاعوا لي ثوباً آخر. قلت: يا أبه، إنا موسرون، قال: أي بنية، الحي أحق بالجديد من الميت، وإنما هما للمهلة والصديد.
حدثني العباس بن الوليد، قال: أخبرنا أبي قال: حدثنا الأوزاعي ؛ قال: حدثني عبد الرحمن بن القاسم ؛ أن أبا بكر توفى عشاء بعد ما غابت الشمس ليلة الثلاثاء، ودفن ليلاً ليلة الثلاثاء.
حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا غنام عن هشام، عن أبيه أن أبا بكر مات ليلة الثلاثاء ودفن ليلاً.
حدثني أبو زيد، عن على بن محمد بإسناده الذي قد مضى ذكريه، أن أبا بكر حمل على السرير الذي حمل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وصلى عليه عمر في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ودخل قبره عمر ، وعثمان ؛ وطلحة ؛ وعبد الرحمن بن أبي بكر ؛ وأراد عبد الله أن يدخل قبره، فقال له عمر: كفيت.

قال أبو جعفر: وكان أوصى - فيما حدثني الحارث، عن ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثنا أبو بكر بن عبد الله بن أبي سبرة، عن عمر بن عبد الله - يعني ابن عروة - أنه سمع عروة والقاسم بن محمد يقولان: أوصى أبو بكر عائشة أن يدفن إلى جنب النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما توفي حفر له، وجعل رأسه عند كتفى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وألصقوا اللحد يلحد النبي صلى الله عليه وسلم فقير هنالك .
قال الحارث: حدثني ابن سعد، قال: وأخبرنا محمد بن عمر، يقال: حدثني ابن عثمان، عن عامر بن عبد الله بن الزبير، جعل رأس أبي بكر عند كتفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ورأس عمر عند حقوى أبي بكر .
حدثني على بن مسلم الكوسي، قال: حدثنا ابن أبي فديك، قال: أخبرني عمرو بن عثمان بن هانئ، عن القاسم بن محمد، قال: دخلت على عائشة رضى الله تعالى عنها، فقلت: يا أمه، اكشفى لي عن قبر النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه ؛ فكشفت لي عن ثلاثة قبور، لا مشرفة ولا لاطئة، مبطوحة ببطحاء العرصة الحمراء ؛ قال: فرأيت قبر النبي صلى الله عليه وسلم مقدماً وقبر أبي بكر عند رأسه، وعمر رأسه عند رجل النبي صلى الله عليه وسلم .
حدثني الحارث، عن ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثنا أبو بكر بن عبد الله بن أبي سبرة، عن عمرو بن أبي عمرو، عن المطلب بن عبد الله بن حنطب، قال: جعل قبر أبي بكر مثل قبر النبي صلى الله عليه وسلم مسطحاً ؛ ورش عليه الماء، وأقامت عليه عائشة النوح .
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنا يونس بن يزيد عن ابن شهاب ؛ قال: حدثني سعيد بن المسيب، قال: لما توفى أبو بكر رحمه الله أقامت عليه عائشة النوح، فأقبل عمر بن الخطاب حتى قام ببابها، فنهاهن عن البكاء على أبي بكر، فأبين أن ينتهين، فقال عمر لهشام بن الوليد: ادخل فأخرج إلى ابنة أبي قحافة ؛ أخت أبي بكر، فقالت عائشة لهشام حين سمعت ذلك من عمر: إني أحرج عليك بيتي. فقال عمر لهشام : ادخل فقد أذنت لك، فدخل هشام فأخرج أم فروة أخت أبي بكر إلى عمر، فعلاها بالدرة، فضربها ضربات، فتفرق النوح حين سمعوا ذلك.
وتمثل في مرضه - فيما حدثني أبو زيد، عن علي ابن محمد بإسناده - الذي توفى فيه:
وكل ذي إبل موروث ... وكل ذي سلب مسلوب
وكل ذي غيبة يئوب ... وغائب الموت لا يئوب
وكان آخر ما تكلم به، رب (توفى مسلماً وألحقني بالصالحين).
ذكر الخبر عن صفة جسم أبي بكر رحمه الله حدثني الحارث، عن ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال حدثنا شعيب بن طلحة بن عبد الله بم عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، عن أبيه، عن عائشة، رضى الله تعالى عنها، أنها نظرت إلى رجل من العرب مر وهي في هودجها، فقالت: ما رأيت رجلاً أشبه بأبي بكر من هذا، فقلنا لها: صفي أبا بكر، فقالت: رجل أبيض نفيف العارضين، أجنأ لا يستمسك إزاره، يسترخي عن حقويه ، معروق الوجه، غائر العينين، ناتئ الجبهة، عاري الأشاجع .
وأما على بن محمد ؛ فإنه قال في حديثه الذي ذكرت إسناده قبل: إنه كان أبيض يخالطه صفرة، حسن القامة، نحيفاً أجنأ، رقيقاً عتيقاً، أقنى، معروق الوجه، غائر العينين، حمش الساقين، ممحوص الفخذين، يخضب بالحناء والكتم.
وكان أبو قحافة حين توفي حياً بمكة، فلما نعي إليه قال: رزء جليل! ذكر نسب أبي واسمه وما كان يعرف به حدثني أبو زيد، قال: حديثنا على بن محمد بإسناده الذي قد مضى ذكره، أنهم أجمعوا على أن إسم أبي بكر عبد الله، وأنه إنما قيل له عتيق عن عتقه قال: قال بعضهم: قيل له ذلك ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال له : أنت عتيق من النار.
حدثني الحارث، عن ابن سعد، عن محمد بن عمر، قال: حدثنا إسحاق بن يحيى بن طلحة، عن معاوية بن إسحاق، عن أبيه، عن عائشة، أنها سئلت: لم سمى أبو بكر عتيقاً؟ فقالت: نظر إليه النبي صلى الله عليه وسلم يوماً، فقال: هذا عتيق الله من النار .
واسم أبيه عثمان، وكنيته أبو قحافة، قال: فأبو بكر عبد الله بن عثمان ابن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤى ابن غالب بن فهر بن مالك، وأمه أم الخير بنت صخر بن عامر بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة.

وقال الواقدي: اسمه عبد الله بن أبي قحافة - وإسمه عثمان - بن عامر. وأمه أم الخير، واسمها بنت صخر بن عامر بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة.
وأما هشام، فإنه قال - فيما حدثت عنه - إن اسم أبي بكر عتيق ابن عثمان بن عامر.
وحدثني يونس، قال أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني ابن لهيعة، عن عمارة بن غزية، قال: سألت عبد الرحمن بن القاسم عن اسم أبي بكر الصديق، فقال: عتيق ؛ وكانوا إخوة ثلاثة بني أبي قحافة: عتيق ومعتق وعتيق.
ذكر أسماء نساء أبي بكر الصديق رحمه الله حدث على بن محمد، عمن حدثه ومن ذكرت من شيوخه، قال: تزوج أبو بكر في الجاهلية قتيلة - ووافقه على ذلك الواقدي زالكلبي - قالوا: وهي قتيلة ابنة عبد العزى بن عبد بن أسعد بن جابر بن مالك بن حسل بن عامر بن لؤي، فولدت له عبد الله أسماء. وتزوج أيضاً في الجاهلية أم رومان بنت عامر بن عمير بن ذهل بن دهمان بن الحارث بن غنم بن مالك بن كنانة - وقال بعضهم : هي أم رومان بنت عامر بن عويمر بن عبد شمس بن عتاب بن أذنية بن سبيع بن دهمان بن الحارث بن غنم بن مالك بن كنانة - فولدت له عبد الرحمن وعائشة فكل هؤلاء الأربعة من أولاده، ولدوا من زوجتيه اللتين سميناهما في الجاهلية.
وتزوج في الإسلام أسماء بنت عميس؛ وكانت قبله عندج جعفر بن أبي طالب ؛ وهي أسماء بنت عميس بن معد بن تيم بن الحارث بن كعب بن مالك بن قحافة بن عامر بم ربيعة بن عامر بن مالك بن نسر بن وهب الله بن شهران بن عفرس بن حلف بن أفتل - وهو خثعم - فولدت له محمد بن أبي بكر.
وتزوج أيضاً فيالإسلام حبيبة بنت خارجة بن زيد بن أبي زهير ؛ من بني الحارث بن الخروج ؛ وكانت نشأ حين توفى أبو بكر ؛ فولدت له بعد وفاته جارية سميت أم كلثوم.
ذكر أسماء قضاته وكتابه وعماله على الصدقات حدثنا محمد بن عبد الله المخزمي، قال: حدثنا أبو الفتح نصر بن المغيرة، قال قال سفيان - وذكره عم مسعر: لما ولى أبو بكر ؛ قال أبو عبيدة: أنا أكفيك المال - يعني الجزاء - وقال عمر: أنا أكفيك القضاء : فمكث عمر سنة لا يأتيه رجلان.
وقال علي بن محمد عن الذين سميت: قال بعضهم: جعل أبو بكر عمر قاضياً في خلافته، فمكث سنة لم يخاصم إليه أحد.
قال: قالوا: كان يكتب له زيد بن ثابت، ويكتب له الأخبار عثمان بن عفان رضى الله عنه، وكان يكتب له من حضر.
وقالوا: كان عامله على مكة عتاب بن أسيد، وعلى الطائف عثمان بن أبي العاصي، وعلى صنعاء المهاجر بن أبي أمية، وعلى حضرموت زياد بن لبيد، وعلى خولان يعلى بن أمية ؛ وعلى زبيد ورمع أبو موسى الأشعري، وعلى الجند معاذ بن جبل، وعلى البحرين العلاء بن الحضرمي. وبعث جرير بن عبد الله إلى نجران، وبعث بعبد الله بن ثمر ؛ أحد بني الغوث إلى ناحية جرش، وبعث عياض بن غنم الفهري إلى دومة الجندل ؛ وكان بالشأم أبو عبيدة وشرحبيل بن حسنة، ويزيد بن أبي سفيان، وعمرو بن العاص ؛ كل رجل منهم على جند، وعليهم خالد بن الوليد.
قال أبو جعفر: وكان رضى الله عنه سخياً ليناً، عالماً بأنساب العرب ؛ وفيه يقول خفاف بن ندبة - وندبة أمه، وأبوه عمير بن الحارث - في مرثبته أبا بكر:
أبلج ذو عرف وذو منكر ... مقسم المعروف رحب الفناء
للمجد في منزله بادياً ... حوض رفيع لم يخنه الإزاء
والله لا يدرك أيامه ... ذو مئزر حاف ولا ذو رداء
من يسع كي يدرك ايامه ... يجتهد الشد بأرض فضاء
وكان - فيما ذكر الحارث، عن ابن سعد، عن عمرو بن الهيثم أبي قطن ؛ قال : حدثنا الربيع عن حيان الصائغ، قال : كان نقش خاتم أبي بكر رحمه الله: نعم القادر الله.
قالوا: ولم يعش أبو قحافة بعد أبي بكر إلا ستة أشهر وأياماً ؛ وتوفى في المحرم سنة أربع عشرة بمكة ؛ وهو ابن سبع وتسعين سنة.
ذكر استخلافه عمر بن الخطابوعقد أبو بكر في مرضته التي توفى فيها لعمر بن الخطاب عقد الخلافة من بعده.

وذكر أنه لما أراد العقد له دعا عبد الرحمن بن عوف ؛ فيما ذكر ابن سعد، عن الواقدي، عن ابن سبرة، عن عبد المجيد بن سهيل ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ؛ قال: لما نزل بأبي بكر رحمه الله الوفاة دعا عبد الرحمن بن عوف، فقال: أخبرني عن عمر، فقال: يا خليفة رسول الله، هو والله أفضل من رأيك فيه من رجل ؛ ولكن فيه غلطة. فقال أبو بكر: ذلك لأنه يراني رقيقاً، ولو أفضى الأمر إليه لترك كثيراً مما هو عليه. ويا أبا محمد قد رمقته، فرأيتني إذا غضبت على الرجل في الشئ أراني الرضا عنه، وإذا لنت له أراني الشدة عليه؛ لا تذكر يا أبا محمد مما قلت لك شيئاً، قال: نعم. ثم دعا عثمان بن عفان، قال: يا أبا عبد الله، أخبرني عن عمر، قال: أنت أخبر به، فقال أبو بكر: على ذاك يا أبا عبد الله ! قال اللهم علمني به أن سريرته خير من علانيته ؛ وأن يس فينا مثله. قال أبو بكر رحمه الله: رحمك الله يا أبا عبد الله ، لا تذكر مما ذكرت لك شيئاً، قال أفعل ، فقال له أبو بكر: لو تركته ما وعدتتك، وما أدري لعله تاركه، والخيرة له ألا يلي من أموركم شيئاً، ولوددت أني كنت خلواً من أموركم ؛ وأني كنت فيمن مضى من سلفكم ؛ يا أبا عبد الله، لا تذكرون مما قلت لك من أمر عمر، ولا مما دعوتك له شيئاً .
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يحيى بن واضح، قال: حدثنا يونس بن عمرو، عن أبي السفر، قال : أشرف أبو بكر على الماس من كنيفه وأسماء ابنة عميس ممسكته، موشومة اليدين، وهو يقول: أترضون بمن أستخلف عليكم؟ فإني والله ما ألوت من جهد الرأي ، ولا وليت ذا قرابة، وإني قد استخلف عمر بن الخطاب، فاسمعوا له وأطيعوا، فقالوا: سمعنا وأطعنا.
حدثني عثمان بن يحيى، عن عثمان القرقساني، قال: حدثنا سفيان بن عيينة، عن اسماعيل، عن قيس، قال: رأيت عمر بن الخطاب وهو يجلس والناس معه، وبيده جريدة، وهو يقول: أيها الناس، اسمعوا وأطيعوا قول خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ إنه يقول: إني لم آلكم نصحاً. قال: ومعه مولى لأبي بكر يقال له: شديد، معه الصحيفة التي فيها استخلاف عمر.
قال أبو جعفر: وقال الواقدي: حدثني ابراهيم بن أبي النضر، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث، قال: دعا أبو بكر عثمان خالياً، فقال: اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم . هذا ما عهد أبو بكر بن أبي قحافة إلى المسلمين ؛ أما بعد. قال: ثم أغمى عليه، فذهب عنه، فكتب عثمان: أما بعد ؛ إني قد استخلف عليكم عمر بن الخطاب، ولم آلكم خيراً منه، ثم أفاق أبو بكر، فقال: اقرأ على، فقرأ عليه، فكبر أبو بكر ، وقال: أراك خفت أن يختلف الناس إن افتلتت نفسي في غشيتى! قال: نعم، قال: جزاك الله خيراً عن الإسلام وأهله، وأقرها أبو بكر رضى الله عنه من هذا الموضع.
حدثنا يونس بن عبد الأعلى، قال: حدثنا يحيى بن عبد الله بن بكير، قال: حدثنا الليث بن سعد، قال: حدثنا علوان، عن صالح بن كيسان، عن عمر بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبيه، أنه دخل على أبي بكر الصديق رضى الله تعالى عنه في مرضه الذي توفى فيه ؛ فأصابه مهتماً، فقال له عبد الرحمن: أصبحت والحمد لله بارئاً! فقال أبو بكر رضى الله عنه: أتراه؟ قال: نعم، قال: إني وليت أمركم خيركم في نفسي؛ فكلكم ورم أنفه من ذلك، يريد أن يكون الأمر لخ دونه،؛ ورأيتم الدنيا قد أقبلت ولما تقبل، وهي مقبلة حتى تتخذوا ستور الحرير ومنضائد الديباج، وتألموا الإضطجاع على الصوف الأذري ؛ كما يألم أحدكم أن ينام على حسك ؛ والله لأن يقدم أحدكم فتضرب عنقه في غير حد خير له من أن يخوض في غمرة الدنيا وأنتم أول ضال بالناس غداً، فتصدونهم عن الطريق يميناً وشمالاً. يا هادي الطريق، إنما هو الفجر أو البجر ، فقلت له : خفض عليك رحمك الله ؛ فإن هذا يهيضك في أمرك. إنما الناس في أمرك بين رجلين: إما رجل رأى ما رأيت فهو معك، وإما رجل خالفك فهو مشير عليك وصاحبك كما تحب ؛ ولا نعلمك أردت إلا خيراً، ولم تزل صالحاً مصلحاً، وأنك لا تأسى على شئ من الدنيا .

قال أبو بكر رضى الله عنه: أجل، إني لا آسي على شئ من الدنيا إلا على ثلاث فعلتهن وددت أني تركتهن، وثلاث تركتهن وددت أنى فعلتهن ؛ وثلاث وددت أنى سألت عنهن رسول الله صلى الله عليه وسلم . فأما الثلاث اللاتي وددت أنى تركتهن ؛ فوددت أنى لم أكشف بيت فاطمة عن شئ. وإن كانوا قد غلقوه على الحرب، ووددت أني لم أكن حرقت الفجاءة السلمى، وأني كنت قتلته سريحاً أو خليته نجيحاً. ووددت أنى يوم سقيفة بني ساعدة كنت قذفت الأمر في عنق أحد الرجلين - يريد عمر وأبا عبيدة - فكان أحدهما أميراً ؛ وكنت وزيراً. وأما اللاتي تركتهن ؛ فوددت أنى يوم أتيت بالأشعث بن قيس أسيراً كنت ضربت عنقه، فإنه تخيل إلى أنه لا يرى شراً إلا أعان عليه. ووددت أنى حين سيرت خالد بن الوليد إلى أهل الردة ؛ كنت أقمت بذي القصة ؛ فإن ظفر المسلمون ظفروا، وإن هزموا كنت بصدد لقاء أو مدداًز ووددت أنى كنت إذا وجهت خالد بن الوليد إلى الشأم كنت وجهت عمر بن الخطاب إلى العراق ؛ فكنت قد بسطت يدي كليتهما في سبيل الله - ومد يديه - ووددت أنى كنت سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم : لمم هذا الأمر؟ فلا ينازعه أحد ؛ ووددت أنى كنت سألته: هل للأنصار في هذا الأمر نصيب؟ ووددت أنى كنت سألته عن ميراث ابنة الأخ والعمة ؛ فإن في نفسي منهما شيئاً.
قال لي يونس: قال لنا يحيى: ثم قدم علينا علوان بعد وفاة الليث، فسألته عن هذا الحديث، فحدثني به كما حدثني الليث بن سعد، وسألته عن اسم أبيه، فأخبرني أنه علوان بن داود.
وحدثني محمد بن إسماعيل المرادي، قال: حدثنا عبد الله بن صالح المصري، قال حدثني الليث، عن علوان بن صالح، عن صالح بن كيسان، عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف ؛ أن أبا بكر الصديق رضى الله عنه، قال - ثم ذكر نحوه، ولم يقل فيه: عن أبيه.

قال أبو جعفر: وكان أبو بكر قبل أن يشتغل بأمور المسلمين تاجراً، وكان منزله بالسنخ، ثم تحول إلى المدينة. فحدثني الحارث ، قال: حدثنا بن سعيد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثنا أبو بكر بن عبد الله بن أبي سبرة، عن مروان بن أبي سعيد بن المعلى، قال: سمعت سعيد بن المسيب. قال: وأخبرنا موسى بن محمد بن أبراهيم، عن أبيه، عن عبد الرحمن بن صبيحة التيميمي، عن أبيه، قال. وأخبرنا عبيد الله بن عمر، عن نافع عن ابن عمر، قال: وأخبرنا محمد بن عبد الله، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، قال: وأخبرنا أبو قدامة عثمان بن محمد، عن أبي وجزة، عن أبيه ؛ قال. وغير هؤلاء أيضاً قد حدثني ببعضه ، فدخل حديث بعضهم في حديث بعض، قالوا: قالت عائشة: كان منزل أبي بالسنح عند زوجته حبيبة ابنة خارجة بن زيد بن أبي زهير من بني الحارث ابن الخزرج، وكان قد حجر عليه حجرة من سعف ؛ فما زاد على ذلك حتى تحول إلى منزلة بالمدينة ؛ فأقام هنالك بالسنح بعدما بويع له ستة أشهر، يغدو على رجليه إلى المدينة فيصلى الصلوات بالناس، فإذا صلى العشاء ؛ رجع إلى أهله بالسنح ؛ فكان إذا حضر صلى بالناس وإذا لم يحضر صلى بهم عمر بن الخطاب. قال: فكان يقيم يوم الجمعة صدر النهار بالسنح يصبغ رأسه ولحيته ثم يروح لقدر الجمعة، فيجمع بالناس. وكان رجلاً تاجراً، فكان يغدو كل يوم إلى السوق، فيبيع ويبتاع ؛ وكانت له قطعة غنم تروح عليه ؛ وربما خرج هو بنفسه فيها ؛ وربما كفيها فرعيت له، وكان يحلب للحي أغنامهم، فلما بويع له بالخلافة قالت جارية من الحي: الآن لا تحلب لنا منائح دارنا، فسمعها أبو بكر، فقال: بلى لعمري لأحلبنها لكم ؛ وإني لأرجو ألا يغيرني ما دخلت فيه عن خلق كنت عليه. فكان يحلب لهم، فربما قال للجارية من الحي: يا جارية أتحبينأن أرعى لك، أو أصرح؟ فربما قالت: ارع، وربما قالت: صرح ؛ فأي ذلك قالته فعل ؛ فمكث كذلك بالسنح ستة أشهر ؛ ثم نزل إلى المدينة، فأقام بها، ونظر في أمره، فقال: لا والله، ما تصلح أمور الناس التجارة، وما يصلحهم. فترك التجارة واستنفق من مال المسلمين ما يصلحه ويصلح عياله يوماً بيوم، ويحج ويعتمر. وكان الذي فرضوا له في كل سنة ستة آلاف درهم ؛ فلما حضرته الوفاة، قال: ردوا ما عندنا من مال المسلمين ؛ فإ،ي لا أصيب من هذا المال شيئاً، وإن أرضى التي بمكان كذا وكذا للمسلمين بما أصيب من أموالهم ؛ فدفع ذلك إلى عمر، ولقوحاً وعبداً صقيلاً، وقطيفة ما تساوى خمسة دراهم ؛ فقال عمر: لقد أتعب من بعده.
وقال على بن محمد - فيما حدثني أبو زيد عنه في حديثه عن القوم الذين ذكرت روايته عنهم - قال أبو بكر: انظروا كم أنفقت منذ وليت من بيت المال فاقضوه عني. فوجدوا مبلغه ثمانية آلاف درهم في ولايته.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن الزهري، عن القاسم بن محمد، عن أسماء ابنة عميس، قالت " دخل طلحة بن عبيد الله على أبي بكر، فقال: استخلفت على الناس عمر، وقد رأيت ما يلقى الناس منه وأنت معه ؛ فكيف به إذا خلا بهم! وأنت لاق ربك فسئلك عن رعيتك. فقال أبو بكر - وكان مضطجعاً: أجلسوني، فأجلسوه، فقال لطلحة: أبا لله تفرقني - أو أبالله تخوفني - إذا لقيت الله ربي فساءلني قلت: استخلفت على أهلك خير أهلك.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن عبد الرحمن بن الحصين بمثل ذلك.
قال أبو جعفر: قد تقدم ذكرنا وقت عقد أبي بكر لعمر بن الخطاب الخلافة، ووقت وفاة أبي بكر، وأن عمر صلى عليه، وأنه دفن ليلة وفاته قبل أن يصبح الناس، فأصبح عمر صبيحة تلك الليلة، فكان أول ما عمل وقال - فيما ذكر - ما حدثنا أبة كريب، قال: حدثنا أبو بكر بن عياش، عن الأعمش، عن جامع بن شداد، عن أبيه؛ قال: لما استخلف عمر صعد المنبر، فقال: إني فائل كلمات فأمنوا عليهن، فكان أول منطق نطق به حين استخلف - فيما حدثني أبو السائب، قال: حدثنا ابن فضيل، عن ضرار ، عن حصين المرى، قال: قال عمر: إنما مثل العرب مثل جمل أنف اتبع قائدة، فلينظر قائده حيث يقود ؛ وأما أنا فورب الكعبة لأحملنهم على الطريق.

حدثنا عمر، قال: حدثني على، عن عيسى بن يزيد، عن صالح بن كيسان، قال: كان أول كتاب كتبه عمر حين ولى إلى أبي عبيدة يوليه على جند خالد:أوصيك بتقوى الله الذي يبقى ويفنى ما سواه ؛ الذي هدانا من الضلالة، وأخرجنا من الظلمات إلى النور. وقد استعملتك على جند خالد بن الوليد، فقم بأمرهم الذي يحق عليك، لا تقدم المسلمين إلى هلكه رجاء غنيمة؛ ولا تنزلهم منزلاً قبل أن تستريده لهم ؛ وتعلم كيف مأتاه ؛ ولا تبعث سرية إلا في كثف من الناس ؛ وإيامك وإلقاء المسلمين في الهلكة، وقد أبلاك الله بي وأبلاني بك ؛ فغمض بصرك عن الدنيا، وأله قبلك عنها ؛ وإياك أن تهلكك كما أهلكت من كان قبلك، فقد رأيت مصارعهم.
ذكر غزوة فحل وفتح دمشقحدثني عمر، عن علي بن محمد، بإسناده، عن النفر الذين ذكرت روايتهم عنهم في أول ذكرى أمر أبي بكر ؛ أنهم قالوا: قدم بوفاة أبي بكر إلى الشأم شداد بن أوس بن ثابت الأنصارى ومحمية بن جزء، ويرفأ ؛ فكتموا الخبر الناس حتى ظفر المسلمون - وكانوا بالياقوصة يقاتلون عدوهم من الروم ؛ وذلك في رجب - فأخبروا أبا عبيدة بوفاة أبي بكر وولايته حرب الشأم، وضم عمر إليه الأمراء، وعزل خالد بن الوليد.
فحدثنا ابن حميد، قال: حدثناي سلمة، عن ابن إسحاق، قال: لما فرغ المسلمون من أجنادين ساروا إلى يفحل من أرض الأردن؛ وقد اجتمعت فيها رافضة الروم ، والمسلمون على أمرائهم وخالد على مقدمة الناس. فلما نزلت الروم بيسان بثقوا أنهارها ؛ وهي أرض سبخة، فكانت وحلاً، ونزلوا فحلاً - وبيسان بين فلسطين وبين الأردن - فلما غشيها المسلمون ولم يعلمون بما صنعت الروم، وحلت خيولهم، ولقوا فيها عناء ، ثم سلمهم الله - وسميت بيسان ذات الردغة لما لقى المسلمون فيها - ثم نهضوا إلى الروم وهم بفحل ؛ فاقتتلوا فهزمت الروم، ودخل المسلمون فحلاً ولحقت وافضة الروم بدمشق ؛ فكانت فحل في ذي القعدة سنة ثلاث عشرة، على ستة أشهر من خلافة عمر. وأقام تلك الحجة للناس عبد الرحمن بن عوف. ثم ساروا إلى دمشق وخالد على مقدمة الناس ؛ وقد اجتمعت الروم إلى رجل منهم يقال له باهان بدمشق - وقد كان عمر عزل خالد بن الوليد واستعمل أبا عبيدة على جميع الناس - فالتقى المسلمون والروم فيما حول دمشق، فاقتتلوا قتالاً شديداً، ثم هزم الله الروم، وأصاب منهم المسلمون، ودخلت الروم دكشق ؛ فغلقوا أبوابها وجثم المسلمون عليها فرابطوها حتى فتحت دمشق، وأعطوا الجزية، وقد قدم الكتاب على أبي عبيدة بإمارته وعزل خالد، فاستحيا أبو عبيدة أن يقرئ خالداً الكتاب حتى فتحت دمشق لحق باهان - صاحب الروم الذي قاتل المسلمين - بهرقل. وكان فتح دمشق دمشق في سنة أربع عشرة في رجب، وأظهر أبو عبيدة إمارته وعزل خالد ؛ وقد كان المسلمون، التقوا هم والروم ببلد يقال له عين فحل بين فلسطين والأردن، فاقتتلوا به قتالاً شديداً، ثم لحقت الروم بدمشق.
وأما سيف - فيما ذكر السرى، عن شعيب، عنه عن أبي عثمان، عن خالد وعبادة - فإنه ذكر في خبره أن البريد قدم على المسلمين من المدينة بموت أبي بكر وتأمير أبي عبيدة؛ وهم باليرموك ؛ وقد إلتحم القتال بينهم وبين الروم. وقص من خبر اليرموك وخبر اليرموك ؛ وخبر دمشق غير الذي اقتصه ابن إسحاق ؛ وأنا ذاكمر بعض الذي اقتص من ذلك: كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن محمد، عن أبي عثمان، عن أبي سعيد، قال: لما قام عمر رضى عن خالد بن سعيد والوليد بن عقبة فأذن لهما بدخول المدينة، وكان أبو بكر قد منعهما لفرتهما التي فراها وردهما إلى الشام، وقال: ليبلغني غناء أبلكما بلاء ؛ فانضما إلى أي أمرائنا أحببتما ؛ فلحقا بالناس فأبليا وأغنيا.
خبر دمشق من رواية سيف:
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://arabelalekat.yoo7.com
 
كتاب : تاريخ الرسل والملوك المؤلف : الطبري
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 2 من اصل 7انتقل الى الصفحة : الصفحة السابقة  1, 2, 3, 4, 5, 6, 7  الصفحة التالية
 مواضيع مماثلة
-
» تاريخ الطبري
» كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير
» كتاب:بغية المرتاد في الرد على المتفلسفة والقرامطة والباطنية المؤلف : شيخ الإسلام ابن تيمية
» كتاب: تاريخ أبي الفداء (نسخة منقحة)
» كتاب بغية الطلب في تاريخ حلب : لابن العديم

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
aloqili.com :: منتدي الكتب التاريخية-
انتقل الى: