وقوله تعالى:{ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ الله أتقاكم } :"تعليل للنهي عن التفاخر بالأنساب المستفاد من الكلام بطريق الاستئناف الحقيقي كأنه قيل : إن الأكرم عند الله تعالى والأرفع منزلة لديه عز وجل في الآخرة والدنيا هو الأتقى فإن فاخرتم ففاخروا بالتقوى". انظر:تفسير الألوسي (ج 19 / ص 290).
والفخر مما عرف عن العرب في الجاهلية فجاء الإسلام فلم يحرمه وإنما جعل له حدا وضابطا وهذا مما ينبغي أن نلتفت إليه في هذا المقال حتى لا نخلط أخلاق الأسلام بأخلاق الجاهلية. فالنبي صلى الله عليه وسلم لخص رسالته في هذه الكلمات:" إنما بعثت لأتمم مكارم ( و في رواية صالح ) الأخلاق " . والحديث في سلسلة الأحاديث الصحيحة( 1/ 8 ). وصححه الشيخ الألباني في الأدب المفرد(1 / 104).
بل إنأكرم الخلق صلى الله عليه وسلم كما في حديث البراء بن عازب رضي الله عنه قال : "في يوم حنين كان أبو سفيان بن الحارث آخذا بعنان بغلته يعني بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما غشيه المشركون نزل فجعل يقول " أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب "
قال : فما رئي من الناس يومئذ أشد منه" . متفق عليه.
قال أهل العلم و من فوائد هذا الحديث: "جواز الفخر والندابة عند القتال". انظر:شرح ابن بطال على صحيح البخاري(ج 9 / ص 88).
وقالوا أيضا:" كيف قال النبي صلى الله عليه وسلم : أنا ابن عبد المطلب ؟ فانتسب إلى جده دون أبيه.. ؟ فالجواب أنه صلى الله عليه وسلم كانت شهرته بجده أكثر ، لأن أباه عبدالله توفي شابا في حياة أبيه عبد المطلب قبل اشتهار عبد الله ، وكان عبد المطلب مشهورا شهرة ظاهرة شائعة ، وكان سيد أهل مكة ، وكان كثير من الناس يدعون النبي صلى الله عليه وسلم ابن عبد المطلب ينسبونه إلى جده لشهرته". انظر:شرح النووي على مسلم(ج 6 / ص 230).
ويقول صاحب كتاب"المحاضرات في اللغة و الأدب:"إذا علم تفضيل النسب والحسب في باب النبوءة فهما في غيرها كذلك كالعلم والصلاح والهداية والزهد والورع والملك والنجدة والجود وغير ذلك من كل ما يحتسب به ويصير به من عرف به عيناً من أعيان عشيرته أو قبيلته أو عمارته أو بلده أو جيله ويشرف به من انتسب إليه، ولم يخل الله تعالى قوماً من سيد. وبسادة الناس تنتظم أمورهم، فهم خلفاء الله في عباده بالحكم التصريفي، ولذلك إذا فقدوا أو فقدت الأهلية منهم اختل الأمر كما قال الشاعر:
لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ... ولا سِراة إذا جهالهم سادوا
الإنسان قد يفتخر بنسبه على ما مرّ، وقد يفتخر بنفسه أي بالخصال التي اتصف بها والدرجات التي نالها من الدين والدنيا، والأول هو الفخر " العظامي لأنه افتخار بالعظام والرفات، والثاني هو الفخر " العصامي. وهو مأخوذ من عصام صاحب النعمان، وكان يقول:
نفس عصام سودت عصاما --- وعلمته الكرّ والإقدامافكل ما جاءه السؤدد من تلقاء نفسه فهو مثل عصام هذا، ففخره عصامي.
وقول العرجي العثماني:
أضاعوني وأي فتى أضاعوا ... ليوم كريهة وسِدادِ ثغر
كأني لم أكن فيهم وسيطاً ... ولم تك نسبتي في آل عمروقال الشاعر الفرزدق:
أولئك آبائي فجئني بمثلهم ... إذا جمعتنا يا جرير المجامعُوقال شاعر آخر:
إذا المرء لم يدنَس من اللؤم عرضُه ... فكل رداء يرتديهِ جميلُ
وإن هو لم يحمل على النفس ضيمها ... فليس إلى حسن الثناء سبيل
تعيرنا أنا قليل عديدنا ... فقلت لها: إن الكرام قليل
وما ضر من كانت بقاياه مثلنا ... شباب تسامى للعلا وكهول
تسيل على حد الظبّات نفوسنا ... وليست على غير السيوف تسيل
وإنا لقوم ما نرى القتل سُبّة ... إذا ما رأته عامر وسَلولإلى أن قال:
وننكر إن شئنا على الناس قولهم ... ولا ينكرون القول حين نقول
سلي إن جهلت الناس عنا وعنهم ... وليس سواء عالم وجهول
فإن بيني الديّان قُطْبٌ لقومهم ... تدور رحاهم حولهم وتجولومثل هذا النمط من الكلام فيه افتخار بالنفس وبالآباء أيضاً لأن المقصود أنهم على هذا الوصف كابراً عن كابر وقول الفرزدق:
أنا الذائد الحامي الذّمار وإنما ... يدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي.ثم يشير صاحب كتاب:"محاضرات في الأدب":" كثير من الناس لا يلتفتون إلى النسب ولا يقيمون للمفتخر به وزناً كما قال الحريري صاحب المقامات المشهور:
لعمرك ما الإنسان إلاّ ابن يومه ... على ما بدا من حاله لا ابن أمسه
وما الفخر بالعظم الرّميم وإنما ... فخار الذي يبغي الفخار بنفسهوقال الآخر:
كن ابن من شئت واتخذ أدباً ... يغنيك محمدة عن النسب
إن الفتى من يقول: هأنذا ... ليس الفتى من يقول: كان أبي"ثم يخلص صحاب الكتاب إلى الترجيح في هذه المسألة فيقول:" والحق أن كرم النسب فضيلة قال تعالى وكان أبُوهُما صَالِحاً). سورة الكهف.
وقال صلى الله عليه وسلم في بنت حاتم الطائي أشهر العرب في الكرم: " إنَّ أبَاهَا كَانَ يُحِب مَكَارِمَ الأخْلاق " .
ووصفُ الإنسان وسعيُه هو الشأنُ، والنسبُ زيادة، فإلغاء النسب رأساً جور، والاقتصار عليه عجز، والصواب ما قال عامر بن الطفيل:
وإني وإن كنت ابن سيد عامر ... وفي السر منها والصريح المهذب
فما سودتني عامر من وراثة ... أبى الله أن أسمو بأم ولا أب
ولكنني أحمي حماها وأتّقي ... أذاها وأرمي من رماها بمنكبيفقوله: " وإن كنت ابن سيد عامر " تعريض بالنسب وإعلام بمكانته منه، وقوله: " أبى الله أن أسمو بأم ولا أب أي فقط دون شيء يكون مني ليوافق ما قبله فمراده أني لا أكتفي بالنسب وأخلو عن استحصال الحمد وابتناء المجد.
ومثل هذا قول الشاعر:
لسنا وإن أحسابُنا كرمت ... يوماً على الأحساب نتكل
نبني كما كانت أوائلنا ... تبني ونفعل مثل ما فعلواوقال الآخر:
أنا الفارس الحامي حقيقة وائل ... كما كان يحمي عن حقائقها أبي
وقال زهير بن أبي سلمى الشاعر الجاهلي المعروف:
وما يكُ من خير أتوه فإنما ... توارثه آباء آبائهم قبل
وهل يُنبتُ الخطِّيُّ إلاّ وشيجه ... وتغرس إلاّ في منابتها النخلوقال الملك الراضي من ملوك بني العباس:
لا تعذلي كرمي على الإسراف ... ربح المحامد متجر الأشراف
أجري كآبائي الخلائف سابقاً ... وأشيد ما قد أسَّسَتْ أسلافي
إني من القوم الذين أكفّهم ... معتادة الإخلاف والإتلاف".
وهذه دعوة لكل من ينتسب لرجل صالح أوسيد أو كريم أو شجاع أو غير ذلك من مكارم الأخلاق ألا يكون غاية ما يفعله الفخر بمآثر الآباء والأجداد دون أن تكون له همة في طلب معالي الأمور والسعي في تحصيلها.
ومن البر لآبائنا وأجدادنا أن نتحدث عن مكارمهم, و في نظري من المهم جدا أن يكون على جانبين:
الأول: من الناحية العلمية النظرية. بذكر ما عرف عنهم من مكارم الأخلاق, بحسب الاستفاضة والشهرة التي يتناقلها الناس. وهذا من لسان الصدق وجميل الأثر الذي يتمناه الصالحون, كما قال إمام الموحدين إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام (وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ (84). من سورة الشعراء.
ويعطاه أولياء الله المتقون. كما قال الله تعالى{ وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا } : قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"يعني الثناء الحسن". انظر:تفسير ابن كثير - (ج 5 / ص 237).
وما خلده الأولون من مكارم الأخلاق, وتجارب الحياة, جدير بالمنصف أن يوقف عليها الآخرين وهو يتكلم في حياة الأولين, فكيف إذا كانوا من المسلمين؟!!, فلعدم مبالاة بعض الناس إما لجهلهم أو لخطأ في تصورهم للحق في هذه المسألة ضاعت قصص ومواقف وأحداث جديرة بأن تكتب وتدون؟!.