فخرجوا حتى قدموا مكة، فلما اجمعوا لذلك من الأمر قام عبد المطلب يدعو الله، ثم قربوا عبد الله وعشراً من الإبل - وعبد المطلب في جوف الكعبة عند هبل يدعو الله - فخرج القدح على عبد اللله، فزادوا عشراً، فكانت الإبل عشرين، وقام عبد المطلب في مكانه ذلك يدعو الله، ثم ضربوا فخرج السهم على عبد الله، فزادوا عشراً من الإبل، فكانت ثلاثين، ثم لم يزالوا يضربون بالقداح ويخرج القدح على عبد الله، فكلما خرج عليه زادوا من الإبل عشراً؛ حتى ضربوا عشر مرات، وبلغت الإبل مائة، وعبد المطلب قائم يدعو، ثم ضربوا فخرج القدح على الإبل، فقالت قريش ومن حضر: قد انتهى رضى ربك يا عبد المطلب. فزعموا أن عبد المطلب قال: لا والله حتى أضرب عليه ثلاث مرات. فضربوا على الإبل وعلى عبد الله، وقام عبد المطلب يدعو فخرج القدح على الإبل، ثم عادوا الثانية وعبد المطلب قائم يدعو، ثم عادوا الثالثة فضربوا، فخرج القدح على الإبل فنحرت، ثم تركت لا يصد عنها إنسان ولا سبع.
ثم انصرف عبد المطلب آخذاً بيد ابنه عبد الله، فمر - فيما يزعمون - على امرأة من بنى أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر؛ يقال لها أم قتال بنت نوفل بن أسد بن عبد العزى، وهي أخت ورقة بن نوفل بن أسد، وهي عند الكعبة، فقالت له حين نظرت إليه إلى وجهه: أين تذهب يا عبد الله ؟ قال: مع أبي، قالت: لك عندي مثل الإبل التي نحرت عنك، وقع على الآن، قال: إن معي أبي ولا أستطيع خلافة ولا فراقه.
فخرج به عبد المطلب حتى أتى به وهب بن عبد مناف بن زهرة - ووهب يومئذ سيد بني زهرة سناً وشرفاً - فزوجه آمنة بنت وهب، وهي يومئذ أفضل امرأة في قريش نسباً وموضعاً، وهي لبرة بنت عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار بن قصي، ويرة لأم حبيب بنت أسد ابن عبد العزى بن قصي، وأم حبيب بنت أسد لبرة بنت عوف بن عبيد بن عويج بن عدي بن كعب بن لؤي. فزعموا أنه دخل عليها حين ملكها مكانه فوقع عليها، فحملت بمحمد صلى الله عليه وسلم. ثم خرج من عندها، حتى أتى المرأة التي عرضت عليهما عرضت، فقال لها: مالك لا تعرضين علي اليوم ما كنت عرضت علي بالأمس ؟ فقالت له: فارقك النور الذي كان معك بالأمس، فليس لي بك اليوم حاجة.
وقد كنت تسمع من أخيها ورقة ابن نوفل، وكان قد تنصر واتبع الكتب، حتى أدرك، فكان فيما طلب من ذلك أنه كائن لهذه الأمة نبي من بني إسماعيل.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق؛ عن أبيه إسحاق بن يسار؛ أنه حدث أن عبد الله إنما دخل على امرأة كانت له مع آمنة بنت وهب بن هبد مناف بن زهرة، وقد عمل في طين له، وبه آثار من الطين، فدعاها إلى نفسه، فأبطأت عليه لما رأت به من آثار الطين، فخرج من عندها، فتوضأ وغسل عنه ما كان به من ذلك، وعمد إلى آمنة فدخل عليها فأصابها، فحملت بمحمد صلى الله عليه وسلم، ثم مر بإمرأته تلك، فقال: هل لك ؟ فقالت: لا، مررنت بي وبين عينيك غرة، فدعوتني فأبيت، ودخلت على آمنة فذهبت بها. فزعموا أن امراته تلك كانت تحدث أنه مر بها وبين عينيه مثل غرة الفرس، قالت: فدعوته رجاء أن يكون بي، فأبى علي، ودخل على آمنة بنت وهب فأصابها؛ فحملت برسول الله صلى الله عليه وسلم.
حدثني علي بن حرب الموصلي، قال: حدثنا محمد بن عمارة القرشي، قال : حدثنا الزنجي بن خالد، عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس، قال : لما خرج عبد المطلب بعبد الله ليزوجه، مر به على كاهنة من خثعم، يقال: لها فاطمة بنت مر، متهودة من أهل تبالة، قد قرأت الكتب، فرأت في وجهه نوراً، فقالت له: يافتى، هل لك لك أن تقع على الآن وأعطيك مائة من الإبل ؟ فقال:
أما الحرام فالممات دونه ... والحل لا حل فأستبينه
فكيف بالأمر الذي تبغينه
ثم قال: أنا مع أبي ولا أقدر أن أفارقه، فمضى به، فزوجه آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة، فأقام عنجها ثلاثاً ثم انصرف. فمر بالخثعمية فدعته نفسه إلى ما دعته إليه، فقال لها: هل لك فيما كنت أردت ؟ فقالت: يافتى، إنى والله ما أنا بصاحبة ريبة، ولكنى رأيت في وزجهك نوراً فأردت أن يكون في، وأبى وزالله إلا أن يجعله حيث أراد، فما صنعت بعدى ؟ قال: زوجني أبي آمنة بنت وهب، فأقمت عندها ثلاثاً؛ فأنشأت فاطمة بنت مر تقول:
إني رأيت مخيلةً لمعت ... فتلألأت بحناتم اقطر
فلمأتها نوراً يضيء له ... ما حوله كإضاءة البدر
فرجوتها فخراً أبوء به ... ما كل قادح زنده يوري
لله ما زهريةٌ سلبت ... ثوبيك ما استلبت وما تدري!؟
وقالت أيضاً:
بني هاشمٍ قد غادرت من أخيكم ... أمينة إذ للباه تعتركان
كما غادر المصباح عند خموده ... فتائل قد ميثت له بدهان
ومل كل ما يحوي الفتى من تلاده ... لعزمٍ ولا ما فاته لتوان
فأجمل إذا طالبت أمراً فإنه ... سيكفيكه جدان يعتلجان
سيكفيكه إما يدٌ مقفعلةٌ ... وإما يدٌ مبسوطةٌ ببنان
ولما حوت منه أمينة ما حوت ... حوت منه فخراً ما لذلك ثان
حدثني الحارث بن محمد، قال: حدثنا محمد بن سعد، قال: حدثنا محمد بن عمر قال: حدثنا معمر وغيره، عن الزهري، أن عبد الله بن عبد المطلب كان أجمل رجال قريش، فذكر لآمنة بنت وهب جماله وهيئته، وقيل لها: هل لك أن تزوجيه فتزوجته آمنة بنت وهب، فدخل بها، وعلقت برسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعثه أبوه إلى المدينة في ميرة يحمل لهم تمراً، فمات بالمدينة، فبعث عبد المطلب ابنه الحارث في طلبه حين أبطأ، فوجده قد مات.
قال الواقدي: هذا غلط، والمجتمع عليه عندنا في نكاح عبد الله بن عبد المطلب ما حدثنا به عبد الله بن جعفر الزهري، عن أمر بكر بنت المسور، أن عبد المطلب جاء بابنه عبد الله، فخطب على نفسه وعلى ابنه، فتزوجا في مجلس واحد، فتزوج عبد المطلب هالة بنت أهيب بن عبد مناف بن زهرة، وتزوج عبد الله ابن عبد المطلب آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة.
قال الحارث: قال ابن سعد: قال الواقدي: والثبت عندنا، ليس بين أصحابنا فيه اختلاف، أن عبد الله بن عبد المطلب أقبل من الشأم في عير لقريش، فنزل بالمدينة وهو مريض، فأقام بها حتى توفي، ودفن في دار النابغة - وقيل التابعة - في الدار الصغرى إذا دخلت الدار عن يسارك، ليس بين أصحابنا في هذا اختلاف.
؟
ابن عبد المطلب
وعبد المطلب اسمه شيبة، سمي بذلك؛ لأنه فيما حدثت عن هشام بن محمد، عن أبيه: كان في رأسه شيبة.
وقيل له عبد المطلب: وذلك أن أباه هاشماً كان شخص في تجارة له إلى الشأم، فسلك طريق المدينة إليها، فلما قدم المدينة نزل - فيما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق. وفيما حدثت عن هشام ابن محمد عن أبيه. وفيما حدثني الحارث، عن محمد بن سعد، عن محمد بن عمر، ودخل حديث بعضهم في بعض، وبعضهم يزيد على بعض - على عمرو بن زيد بن لبيد الخزرجي، فرأى ابنته سلمى بنت عمرو - وأما ابن حميد فقال في حديثه عن سلمة، عن ابن إسحاق: سلمى بنت زيد بن عمرو - ابن لبيد بن حرام بن خداش بن جندب بن عدي بن النجار فأعجبته، فخطبها إلى أبيها عمرو، فأنكحه إياها، وشرط عليه ألا تلد ولداً إلا في أهلها، ثم مضى هاشم لوجهته قبل أن يبني بها، ثم انصرف راجعاً من الشأم، فبنى بها في أهلها بيثرب، فحملت منه. ثم ارتحل إلى مكة وحملها معه، فلما أثقلت ردها إلى أهلها، ومضى إلى الشأم فمات بها بغزة، فولدت له سلمى عبد المطلب، فمكث بيثرب سبع سنين أو ثماني سنين. ثم إن رجلاً من بني الحارث بن عبد مناة مر بيثرب، فإذا غلمان ينتضلون، فجعل شيبة إذا خسق قال: أنا ابن هاشم، أنا ابن سيد البطحاء، فقال له الحارثي: من أنت ؟ قال: أنا شيبة بن هاشم بن عبد مناف. فلما أتى الحارثي مكة، قال للمطلب وهو جالس في الحجر: يا أبا الحارث، تعلم أني وجدت غلماناً ينتضلون بيثرب، وفيهم غلام إذا خسق قال: أنا ابن هاشم، أنا ابن سيد البطحاء. فقال المطلب: والله لا أرجع إلى أهلي حتى آتي به، فقال له الحارثي: هذه ناقتي بالفناء فاركبها، فجلس المطلب عليها، فورد يثرب عشاء، حتى أتى بني عدي بن النجار، فإذا غلمان يضربون كرة بين ظهري المجلس، فعرف ابن أخيه فقال للقوم: أهذا ابن هاشم ؟ قالوا: نعم، هذا ابن أخيك، فإن كنت تريد أخذه فالساعة قبل أن تعلم به أمه فإنها إن علمت لم تدعه، وحلنا بينك وبينه. فدعاه فقال: يابن أخي، أنا عمك، وقد أردت الذهاب بك إلى قومك - وأناخ راحلته - فما كذب أن جلس على عجز الناقة، فانطلق به، ولم تعلم به أمه حتى كان الليل، فقامت تدعو بحربها على ابنها، فأخبرت أن عمه ذهب به، وقدم به المطلب ضحوة، والناس في مجالسهم، فجعلوا يقولون: من هذا وراءك ؟ فيقول: عبد لي، حتى أدخله منزله على امرأته خديجة بنت سعيد بن سهم، فقالت: من هذا ؟ قال: عبد لي، ثم خرج المطلب حتى أتى الحزورة، فاشترى حلة فألبسها شيبة، ثم خرج به حين كان العشي إلى مجلس بني عبد مناف، فجعل بعد ذلك يطوف في سكك مكة في تلك الحلة، فيقال: هذا عبد المطلب، لقوله: " هذا عبدي " حين سأله قومه، فقال المطلب:
عرفت شيبة والنجار قد جعلت ... أبناؤها حوله بالنبل تنتضل
وقد حدثني هذا الحديث على بن حرب الموصلي، قال: حدثنيأبو معن عيسى - من ولد كعب بن مالك - عن محمد بن أبي بكر الأنصاري، عن مشايخ ألأنصار، قالوا: تزوج هاشم بن عبد مناف امرأةً من بني عدي بن النجار، ذات شرف، تشرط على من خطبها المقام بدار قومها، فتزوجت بهاشم، فولدت له شيبة الحمد، فربي في أخواله مكرماً، فبينا هو يناضل فتيان الأنصار إذ أصاب خصله، فقال: أنا ابن هاشم. وسمعه رجل مجتاز، فلما قدم مكة، قال لعمه المطلب بن عبد مناف: قد مررت بدار بنى قيلة، فرأيت فتىً من صفته ومن صفته ... يناضل فتيانهم، فاعتزى إلى أخيك، وما ينبغي ترك مثله في الغربة. فرحل المطلب حتى ورد المدينة، فأراده على الرحلة، فقال: ذاك إلى الوالدة، فلم يزل بها حتى أذنت له، وأقبل به قد أردفه، فإذا لقيه اللاقي وقال: من هذا يا يا مطلب ؟ قال: عبد لي، فسمي عبد المطلب. فلما قدم مكة وقفه على ملك أبيه، وسلمه إليه، فعرض له نوفل بن عبد مناف في ركح له، فاغتصبه إياه، فمشى عبد المطلب إلى رجالات قومه، فسألهم النصرة على عمه، فقالوا: لسنا بداخلين بينك وبين عمك، فلما رأى ذلك كتب إلى أخواله يصف لهم حال نوفل، وكتب في كتابه:
أبلغ بنى النجار إن جئتهم ... أني منهم وابنهم والخميس
رأيتهم قوماً إذا جئتهم ... هووا لقائي وأحبوا حسيس
فإن عمي نوفلاً قد أبى ... إلا التي يغضي عليها الخسيس
قال: فخرجأبو أسعد بن عدس النجاري في ثمانين راكباً، حتى أتى الأبطح، وبلغ عبد المطلب، فخرج يتلقاه، فقال: المنزل يا خال ! فقال: أما حتى ألقى نوفلاً فلا. قال: تركته جالساً في الحجر في مشايخ قريش، فأقبل حتى وقف على رأسه، ثم استل سيفه، ثم قال: ورب هذه البنية؛ لتردن على ابن أختنا ركحه أو لأملأن منك السيف، قال: فإنى ورب هذه البنية أرد ركحه. فأشهد عليه من حضر، ثم قال: المنزل يا بن أختى، فأقام عنده ثلاثاً واعتمر، وأنشأ عبد المطلب يقول:
تأبى مازنٌ وبنو عديٍ ... ودينار بن تيم اللات ضيمي
وسادة مالك حتى تناهى ... ونكب بعد نوفل عن حريمي
بهم رد الإله علي ركحي ... وكانوا في التنسب دون قومي
وقال في ذلك سمرة بن عمير،أبو عمرو الكناني:
لعمري لأخوالٌ لشيبة قصرةً ... من أعمامه دنيا أبر وأوصل
أجابوا على بعدٍ دعاء ابن أختهم ... ولم يثنهم إذ جاوز الحق نوفل
جزى الله خيراً عصبةً خزرجيةً ... تواصوا على برٍ، وذو البر أفضل
قال: فلما رأى ذلك نوفل، حالف بنى عبد شمس كلها على بني هاشم. قال محمد بن أبي بكر: فحدثت بهذا الحديث موسى بن عيسى، فقال: يا بن أبي بكر، هذا شيء ترويه الأنصار تقرباً إلينا؛ إذ صير الله الدولة فينا ! عبد المطلب كان أعز في قومه من أن يحتاج إلى أن تركب بنو النجار من المدينة إليه .قالت: أصلح الله الأمير ! قد احتاج إلى نصرهم من كان خيراً من عبد المطلب. قال: وكان متكئاً فجلس مغضباً، وقال: من خير من عبد المطلب ! قلت: محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: صدقت، وعاد إلى مكانه، وقال لبنيه: اكتبوا هذا الحديث من ابن أبي بكر.
وقد حدثت هذا الحديث في أمر عبد المطلب وعمه نوفل بن عبد مناف، عن هشام بن محمد، عن أبيه، قال: حدثنا زياد بن علاقة التغلبي - وكان قد أدرك الجاهليه - قال: كان سبب بدء الحلف الذي كان بين بنى هاشم وخزاعة الذي افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم بسببه مكة، وقال: لتنصب هذه السحابة بنصر بني كعب؛ أن نوفل بن عبد مناف - وكان آخر من بقي من بني عبد مناف - ظلم عبد االمطلب بن هاشم بن عبد مناف على أركاح له - وهي الساحات - وكانت أم عبد المطلب سلمى بنت عمرو النجارية من الخزرج، قال: فتنصف عبد المطلب عمه، فلم ينصفه، فكتب إلى أخواله:
يا طول ليلى لأحزاني وأشغالي ... هل من رسولٍ إلى النجار أخوالي !
ينبي عدياً وديناراً ومازنها ... ومالكاً عصمة الجيران عن حالي
قد كنت فيكم ولا أخشى ظلامة ذي ... ظلمٍ عزيزاً منيعاً ناعم البال
حتى ارتحلت إلى قومي وأزعجني ... عن ذاك مطلبٌ عمي بترحال
وكنت ما كان حياُ ناعماً جذلاً ... أمشي العرضنة سحاباً لأذيالي
فغاب مطلبٌ في قعر مظلمةٍ ... وقام نوفل كي يعدو على مالي
أأن أرى رجلاً غابت عمومته ... وغاب أخواله عنه بلا وال
أنحى عليه ولم يحفظ له رحماً ... ما أمنع المرء بين العم والخال !
فاستنفروا وامنعوا ضيم ابن أختكم ... لا تخذلوه وما أنتم بخذال
ما مثلكم في بني قحطان قاطبةً ... حيٌ لجارٍ وإنعام وإفضال
أنتم ليانٌ لمن لانت عريكته ... سلمٌ لكم وسمام الأبلخ الغالي
قال: فقدم عليه منهم ثمانون راكباً، فأناخوا بفناء الكعبة، فلما رآهم نوفل بن عبد مناف، قال لهم: أنعموا صباحاً ! فقالوا له: لا نعم صباحك أيها الرجل ! أنصف ابن أختنا من ظلامته. قال: أفعل بالحب لكم والكرامة؛ فرد عليه الأركاح وأنصفه.
قال: فانصرفوا عنه إلى بلادهم. قال: فدعا ذلك عبد المطلب إلى الحلف، فدعا عبد المطلب بسر بن عمروٍ وورقاء بن فلان ورجلاً من رجالات خزاعة، فدخلوا الكعبة وكتبوا كتاباً.
وكان إلى عبد المطلب بعد مهلك عمه المطلب بن عبد مناف ما كان إلى من قبله من بني عبد مناف من أمر السقاية والرفادة، وشرف في قومه، وعظم فيهم خطره، فلم يكن يعدل به منهم أحد، وهوالذي كشف عن زمزم، بئر إسماعيل بن إبراهيم، واستخرج ما كان فيها مدفوناً؛ وذلك غزالان من ذهب، كانت جرهم دفنتهما - فيما ذكر - حين أخرجت من مكة، وأسيافٌ قلعية، وأدراع، فجعل الأسياف باباً للكعبة، وضرب في الباب الغزالين صفائح من ذهب، فكان أول ذهب حليته - فيما قيل - الكعبة. وكانت كنية عبد المطلب أبا الحارث، كني بذلك لأن الأكبر من ولده الذكور كان اسمه الحارث، وهو شيبة.
ابن هاشمواسم هاشم عمرو؛ وإنما قيل له هاشم، لأنه أول من هشم الثريد لقومه بمكه وأطعمه، وله يقول مطرود بن كعب الخزاعي - وقال ابن الكلني: إنما قاله ابن الزبعري:
عمرو الذي هشم الثريد لقومه ... ورجال مكة مسنتون عجاف
ذكر أن قومه من قريش، كانت أصابتهم لزبة وقحط، فرحل إلى فلسطين، فاشترى منها الدقيق، فقدم به مكة، فأمر به فخبز له ونحر جزوراً، ثم اتخذ لقومه مرقة ثريد بذلك الخبز.
وذكر أن هاشماً هو أول من سن الرحلتين لقريش: رحلة الشتاء والصيف.
وحدثت عن هشام بن محمد، عن ابيه، قال: كان هاشم، وعبد شمس - وهو أكبر ولد عبد مناف، والمطلب - وكان أصغرهم - أمهم عاتكة بنت مرة السلمية؛ ونوفل - وأمه واقدة - بني عبد مناف، فسادوا بعد أبيهم جميعاً، وكان يقال لهم المجبرون، قال: ولهم يقال:
يأيها الرجل المحول رحله ... ألا نزلت بآل عبد مناف !
فكانوا أول من أخذ لقريش العصم، فانتشروا من الحرم، أخذ لهم هاشم حبلاً من ملوك الشأم الروم وغسان، وأخذ لهم عبد شمس حبلا من النجاشي الأكبر، فاختلفوا بذلك السبب إلى أرض الحبشة، وأخذ لهم نوفل حبلاً من ألأكاسرة، فاختلفوا بذلك السبب إلى العراق وأرض فارس، وأخذ لهم المطلب حبلاً من ملوك حمير، فاختلفوا بذلك السبب إلى اليمن، فجبر الله بهم قريشاً، فسموا المجبرين.
وقيل: إن عبد شمس وهاشماً توأمان، وأن أحدهما ولد قبل صاحبه، وإصبع له ملتصقة بجبهة صاحبه، فنحيت عنها فسال من ذلك دم، فتطير من ذلك، فقيل: تكون بينهما دماء. وولي هاشم بعد أبيه عبد مناف السقاية والرفادة.
حدثني الحارث، قال: حدثنا محمد بن سعد، قال: أخبرنا هشام ابن محمد، قال: حدثني معروف بن الخربوذ المكي، قال: حدثني رجل من آل عدي بن الخيار بن عدي بن نوفل بن عبد مناف عن أبيه، قال: وقال وهب بن عبد قصي في ذلك - يعنى في إطعام هاشم قومه الثريد:
تحمل هاشمٌ ما ضاق عنه ... وأعيا أن يقوم به ابن بيض
أتاهم بالغرائز متأقاتٍ ... من أرض الشأم بالبر النفيض
فأوسع أهل مكة من هشيمٍ ... وشاب الخبز باللحم الغريض
فظل القوم بين مكللاتٍ ... من الشيزى وحائرها يفيض
قال :فحسده أمية بن عبد شمس بن عبد مناف - وكان ذا مال - فتكلف أن يصنع صنيع هاشم، فعجز عنه، فشمت به ناس من قريش فغضب، ونال من هاشم، ودعاه إلى المنافرة، فكره هاشم ذلك لسنه وقدره، ولم تدعه قريش وأحفظوه، قال: فإني أنافرك على خمسين ناقة سود الحدق، تنحرها ببطن مكة، والجلاء عن مكة عشر سنين. فرضي بذلك أمية، وجعلا بينهما الكاهن الخزاعي، فنفر هاشماً عليه، فأخذ هاشم الإبل فنحرها وأطعمها من حضره، وخرج أمية إلى الشام، فأقام بها عشر سنين، فكانت هذه أول عداوة وقعت بين هاشم وأمية.
حدثني الحارث قال: حدثنا محمد بن سعد، قال: أخبرنا هشام ابن محمد، قال: أخبرني رجل من بني كنانة، يقال له ابن أبي صالح، ورجل من أهل الرقة مولى بني أسد، وكان عالماً، قالا: تنافر عبد المطلب ابن هاشم وحرب بن أمية إلى النجاشي الحبشي، فأبى أن ينفر بينهما، فجعل بينهما نفيل بن عبد العزى بن رياح بن عبد الله بن قرط بن رزاح بن عدي ابن كعب، فقال لحرب: يا أبا عمرو، أتنافر رجلاً هو أطول منك قامة، وأعظم منك هامة، وأوسم منك وسامة، وأقل منك لامة، وأكثر منك ولداً، وأجزل منك صفداً، وأطول منك مذوداً !. فنفره عليه. فقال حرب: إن من انتكاث الزمان أن جعلناك حكماً ! فكان أول من مات من ولد عبد مناف ابنه هاشم، مات بغزة من أرض الشأم، ثم مات عبد شمس بمكة فقبر بأجياد، ثم مات نوفل بسلمان من طريق العراق، ثم مات المطلب بردمان من أرض اليمن، وكانت الرفادة والسقاية بعد هاشم إلى أخيه المطلب.
ابن عبد منافواسمه المغيرة - وكان يقال له القمر من جماله وحسنه، وكان قصي يقول - فيما زعموا - : ولد لي أربعة، فسميت اثنين بصنمي، وواحداً بداري، وواحداً بنفسي؛ وهم عبد مناف وعبد العزى ابنا قصي - وعبد العزى والد أسد - وعبد الدار بن قصي، وعبد قصي بن قصي - درج ولده - وبرة بنت قصي؛ أمهم جميعاً حبَّى بنت حليل بن حبشية بن سلول بن كعب بن عمرو بن خزاعة.
وحدثت عن هشام بن محمد، عن أبيه، قال: وكان يقال لعبد مناف القمر، واسمه المغيرة، وكانت أمه حبَّى دفعته إلى مناف - وكان أعظم أصنام مكة - تديناً بذلك، فغلب عليه عبد مناف، وهو كما قيل له:
كانت قريشٌ بيضةً فتفلقت ... فالمح خالصةٌ لعبد مناف
ابن قصيوقصي اسمه زيد؛ وإنما قيل له قصي، لأن أباه كلاب بن مرة كان تزوج أم قصي فاطمة بنت سعد بن سيل - واسم سيل خير - بن حمالة بن عوف بن غنم بن عامر الجادر، بن عمرو بن جعثمة بن يشكر، من أزدشنوءة حلفاء في بني الديل، فولدت لكلاب زهرة وزيداً، فهلك كلاب وزيد صغير، وقد شب زهرة وكبر، فقدم ربيعة بن حرام بن ضنة بن عبد بن كبير ابن عذرة بن سعد بن زيد، أحد قضاعة، فتزوج - فيما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن اسحاق. وحدثت عن هشام بن محمد عن أبيه - فاطمة أم زهرة وقصي - وزهرة رجل قد بلغ، وقصي فطيم أو قريب من ذلك - فاحتملها إلى بلاده من أرض بني عذرة، من أشراف الشأم، فاحتملت معها قصياً لصغره، وتخلف زهرة في قومه، فولدت فاطمة بنت سعد بن سيل لربيعة بن حرام رزاح بن ربيعة، فكان أخاه لأمه، وكان لربيعة بن حرام ثلاثة نفر من امرأة أخرى؛ وهم حنّ بن ربيعة، ومحمود بن ربيعة، وجلهمة بن ربيعة. وشب زيد في حجر ربيعة، فسمي زيد قصياً لبعد داره عن دار قومه، ولم يبرح زهرة مكة، فبينا قصي بن كلاب بأرض قضاعة لا ينتمي - فيما يزعمون - إلا إلى ربيعة بن حرام، إذ كان بينه وبين رجل من قضاعة شيء - وقد بلغ قصي، وكان رجلاً شاباً - فأنبه القضاعي بالغربة وقال له: ألا تلحق بقومك ونسبك فإنك لست منا ! فرجع قصي إلى أمه، وقد وجد في نفسه مما قال القضاعي، فسألها عما قال له ذلك الرجل، فقالت له: أنت والله يا بني أكرم منه نفساً ووالداً، أنت ابن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة القرشي، وقومك بمكة عند البيت الحرام، وفيما حوله. فأجمع قصيٌّ الخروج إلى قومه واللحوق بهم، وكره الغربة بأرض قضاعة، فقالت له أمه: يا بني لا تعجل بالخروج حتى يدخل عليك الشهر الحرام، فتخرج في حاج العرب، فإني أخشى عليك أن يصيبك بعض البأس، فأقام قصي حتى إذا دخل الشهر الحرام، خرج حاج قضاعة، فخرج فيهم حتى قدم مكة، فلما فرغ من الحج أقام بها، وكان رجلاً جليداً نسيباً، فخطب إلى حليل بن حبشية الخزاعي ابنته حبىَّ بنت حليل ،فعرف حليل النسب ورغب فيه، فزوجه - وحليل يومئذ فيما يزعمون - يلي الكعبة وأمر مكة.