وكان أول من فعل ذلك أبو الخطاب محمد بن أبي زينب مولى بني أسيد وأبو شاكر ميمون بن ديصان وغيرهما فألقوا إلى كل من وثقوا به أن لكل شيء من العبادات باطنا وأن الله لم يوجب على أوليائه ومن عرف من الأئمة والأبواب صلاة ولا زكاة ولا غير ذلك ولا حرم عليهم شيئا وأباحوا لهم نكاح الأمهات والأخوات وقالوا: هذه قيود للعامة وهي ساقطة عن الخاصة وكانوا يظهرون التشيع لآل النبي صلى الله عليه وسلم ليستروا أمرهم ويستميلوا العامة.
وتفرق أصحابهم في البلاد وأظهروا الزهد والعبادة يغرون الناس بذلك وهم على خلافه فقتل أبو الخطاب وجماعة من أصحابه بالكوفة وكان أصحابه قالوا له: إنا نخاف الجند فقال لهم: إن أسلحتهم لا تعمل فيكم.
فلما ابتدأوا في ضرب أعناقهم قال له أصحابه: ألم تقل إن سيوفهم لا تعمل فينا فقال: إذا كان قد بدا الله فما حيلتي وتفرقت هذه الطائفة في البلاد وتعلموا الشعبذة والنأرنجيات والنجوم والكيمياء فهم يحتالون على كل قوم بما ينفق عليهم وعلى العامة بإظهار الزهد.
ونشأ لابن ديصان ابن يقال له أبو عبد الله القداح علمه الحيل وأطلعه على أسرار هذه النحلة فحذق وتقدم.
وكان بنواحي أصبهان رجل يعرف بمحمد بن الحسين ويلقب بدندان يتولى تلك المواضع وكان يبغض العرب ويجمع مساويهم فسار إليه القداح وعرفه من ذلك ما زاد به محله وأشار إليه أن لا يظهر ما في نفسه ويكتمه ويظهر التشيع والطعن على الصحابة فاستحسن قوله وأعطاه مالا ينفقه على الدعاة إلى هذا المذهب فسير دعاته إلى كور الأهواز والبصرة والكوفة والطالقان وخراسان وسلمية من أرض حمص.
وتوفي القداح ودندان فقام من بعد القداح ابنه أحمد وصحبه انسان يقال له أبو القاسم رستم بن الحسين بن فرج بن حوشب بن زاذان النجار من أهل الكوفة وألقى إليه مذهبه فقبله وسيره إلى اليمن وأمره بلزوم العبادة والزهد ودعا الناس إلى المهدي وأنه خارج في هذا الزمان فنزل بعد بقرب قوم من الشيعة يعرفون ببني موسى فأظهر أمره وقرب أمر المهدي وأمرهم بالاستكثار من الخيل والسلاح.
واتصلت أخباره بالشيعة الذين بالعراق فساروا إليه وكثر جمعهم وعظم بأسهم وأغاروا على من جاورهم وسبوا وجبوا الأموال وأرسل إلى من بالكوفة من ولد القداح هدايا عظيمة.
وأوفدوا إلى المغرب رجلين: أحدهما الحلواني والآخر أبو سفيان وقالوا لهما: إن المغرب أرض بور فاذهبا فأحرثا حتى يجيء صاحب البذر.
فسارا ونزل أحدهما بأرض كتامة فمالت قلوب أهل تلك النواحي إليهما وحملوا إليهما الأموال والتحف فأقاما سنين كثيرة وماتا وكان من إرسال أبي عبد الله الشيعي إلى المغرب ما كان.
فلما توفي عبد الله بن ميمون القداح ادعى ولده أنه من ولد عقيل بن أبي طالب وهم مع هذا يسترون أمرهم ويخفون أشخاصهم.
وكان ولده أحمد هو المشار إليه منهم فتوفي وخلف ولده محمداً ثم توفي محمد وخلف أحمد والحسين فسار الحسين إلى سلمية وله بها ودائع من جهة جده عبد الله القداح ووكلاء وغلمان.
وبقي ببغداد من أولاد القداح أبو الشلعلع وكان الحسين يدعى أنه الوصي وصاحب الأمر والدعاة باليمن المغرب يكاتبونه واتفق أنه جرى بحضرته حديث النساء بسلمية فوصفوا له امرأة رجل يهودي حداد مات عنها زوجها وهي في غاية الحسن ولها ولد من الحداد يماثلها في الجمال فأحبها وحسن موقعها منه وأحب ولدها وأدبه وعلمه فتعلم العلم وصارت له نفس عظيمة وهمة كبيرة فمن العلماء من أهل هذه الدعوة من يقول إن الإمام الذي كان بسلمية وهو الحسين مات ولم يكن له ولد فعهد إلى ابن اليهودي الحداد وهو عبيد الله وعلمه أسرار الدعوة من قول وفعل وأين الدعاة وأعطاه الأموال والعلامات وتقدم إلى أصحابه بطاعته وخدمته وأنه الإمام والوصي وزوجه ابنة عمه أبي الشلعلع وجعل لنفسه نسبا وهو: عبيد الله بن الحسين بن علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب.
وبعض الناس يقول: إن عبيد الله هذا من ولد القداح.
وقال أي ابن الأثير: هذه الأقوال فيها ما فيها فيا ليت شعري ما الذي حمل أبا عبد الله الشيعي وغيره ممن قام في إظهار هذه الدعوة حتى يخرجوا الأمر من أنفسهم ويسلموه إلى ولد يهودي! وهل يسامح نفسه بهذا الأمر من يعتقده دينا يثاب عليه! قال: فلما عهد الحسين إلى عبيد الله قال له: إنك ستهاجر بعدي هجرة بعيدة وتلقى محنا شديدة فتوفي الحسين وقام بعده عبيد الله وانتشرت دعوته وأرسل إليه أبو عبد الله رجالا من كتامة من المغرب ليخبروه بما فتح الله عليه وأنهم ينتظرونه.
وشاع خبر عند الناس أيام المكتفي فطلب فهرب هو وولده أبو القاسم الذي ولي بعده وتلقب بالقائم وهو يومئذ غلام وخرج معه خاصته ومواليه يريد المغرب وذلك أيام زيادة الله بن الأغلب.
قال المؤلف رحمة الله عليه وأما المحضر فنسخته هذا ما شهد به الشهود أن معد بن إسماعيل بن عبد الرحمن بن سعيد ينسب إلى ديصان بن سعيد الذي تنسب إليه الديصانية.
وأن هذا الناجم بمصر هو منصور بن نزار المتلقب بالحاكم حكم الله عليه بالبوار والخزي والدمار ابن معد بن إسماعيل بن عبد الرحمن بن سعيد لا أسعده الله .
وأن من تقدمه من سلفه من الأرجاس الأنجاس عليهم لعنة الله ولعنة اللاعنين أدعياء خوارج لا نسب لهم في ولد علي بن أبي طالب رضي الله عنه : وأن ما ادعوه من الانتساب إليه زور وباطل.
وأن هذا الناجم في مصر هو وسلفه كفار فساق زنادقة ملحدون معطلون وللإسلام جاحدون أباحوا الفروج وأحلوا الخمور وسبوا الأنبياء وادعوا الربوبية.
وفي آخره: وكتب في شهر ربيع الآخر سنة اثنتين وأربعمائة.
وقال ابن خلدون في كتاب العبر:
ومن الأخبار الواهية ما يذهب إليه الكثير من المؤرخين في العبيديين خلفاء الشيعة بالقيروان والقاهرة من نفيهم عن أهل البيت صلوات الله عليهم والطعن في نسبهم إلى إسماعيل الإمام بن جعفر الصادق يعتمدون في ذلك على أحاديث لفقت للمستضعفين من خلفاء بني العباس تزلفاً إليهم بالقدح فيمن ناصبهم وتفننا في الشمات بعدوهم حسب ما تذكر بعض هذه الأحاديث في أخبارهم ويغفلون عن التفطن لشواهد الواقعات وأدلة الأحوال التي اقتضت خلاف ذلك من تكذيب دعواهم والرد عليهم فإنهم متفقون في حديثهم عن مبدأ دولة الشيعة أن أبا عبد الله المحتسب لما دعا بكتامة للرضى من آل محمد واشتهر خبره وعلم تحويمه على عبيد الله المهدي وابنه أبي القاسم خشياً على أنفسهما فهرا من المشرق محل الخلافة واجتازا بمصر.
وأنهما خرجا من الاسكندرية في زي التجار ونمى خبرهما إلى عيسى النوشري عامل مصر فسرح في طلبهما الخيالة حتى إذا أدركا خفي حالهما على تابعهما بما لبسوا من الشارة والزي فأقبلوا إلى المغرب.
وأن المعتضد أوعز إلى الأغالبة أمراء إفريقية بالقيروان وبني مدرار أمراء سجلماسة بأخذ الآفاق عليهما وإذكاء العيون في طلبهما فعثر اليسع صاحب سجلماسة ابن آل مدرار على خفي مكانهما ببلده واعتقلهما مرضاة للخليفة.
ثم كان بعد ذلك ما كان من ظهور دعوتهم بإفريقية والمغرب ثم باليمن ثم بالاسكندرية ثم بمصر والشام والحجاز وقاسموا بني العباس في ممالك الإسلام شق الأبلمة وكادوا يلجون عليهم مواطنهم ويديلون من أمرهم.
ولقد أظهر دعوتهم ببغداد وعراقها الأمير البساسيري من موالي الديلم المتغلبين على خلفاء بني العباس في مغاضبة جرت بينه وبين أمراء العجم وخطب لهم على منابرها حولا كاملا.
وما زال بنو العباس يغصون بمكانهم ودولتهم وملوك بني أميه وراء البحر ينادون بالويل والحرب منهم.
وكيف يقع هذا كله لدعي في النسب يكذب في انتحال الأمر! واعتبر حال القرمطي إذ كان دعيا في انتسابه كيف تلاشت دعوته وتفرق اتباعه وظهر سريعا على خبثهم ومكرهم فساءت عاقبتهم وذاقوا وبال أمرهم ولو كان أمر العبيدين كذلك لعرف ولو بعد مهلة.
فمهما تكن عند امرىءٍ من خليقةٍ ** وإن خالها تخفى على الناس تعلم
فقد اتصلت دولتهم نحوا من مائتين وسبعين سنة وملكوا مقام إبراهيم ومصلاه وموطن الرسول ومدفنه وموقف الحجيج ومهبط الملائكة ثم انقرض أمرهم وشيعتهم في ذلك كله على أتم ما كانوا عليه من الطاعة لهم والحب فيهم واعتقادهم بنسب الإمام إسماعيل بن جعفر الصادق.
ولقد خرجوا مرارا بعد ذهاب الدولة ودروس أثرها داعين إلى بدعتهم هاتفين بأسماء صبيان من أعقابهم يزعمون استحقاقهم للخلافة ويذهبون إلى تعيينهم بالوصية ممن سلف قبلهم من الأئمة ولو ارتابوا في نسبهم لما ركبوا أعناق الأخطار في الانتصار لهم فصاحب البدعة لا يلبس في أمره ولا يشبه في بدعته ولا يكذب نفسه فيما ينتحله.
والعجب في القاضي أبي بكر الباقلاني شيخ النظار من المتكلمين يجنح إلى هذه المقالة المرجوحة ويرى هذا الرأي الضعيف:
فإن كان ذلك لما كانوا عليه من الإلحاد في الدين والتعمق في الرافضية فليس ذلك بدافع في صدد بدعتهم وليس إثبات منتسبهم بالذي يغنى عنهم من الله شيئاً في كفرهم وقد قال تعالى لنوح عليه السلام في شأن ابنه: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّه عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ به عِلْمٌ}. وقال صلى الله عليه وسلم لفاطمة يعظها: يا فاطمة: اعملي: "فلن أغنى عنك من الله شيئاً"