aloqili.com
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

aloqili.com

سيرة نبوية - تاريخ القبائل - انساب العقلييين - انساب الهاشمين - انساب المزورين
 
السياسة الدوليةالرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 ابو الشهداء عباس العقاد

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
عمر




عدد المساهمات : 1369
تاريخ التسجيل : 28/09/2008

ابو الشهداء عباس العقاد Empty
مُساهمةموضوع: ابو الشهداء عباس العقاد   ابو الشهداء عباس العقاد Emptyالثلاثاء يناير 11, 2022 10:07 am

قدمة يسرني أن أقدم إلى حضرات القراء هذه الطبعة من كتاب «أبي الشهداء» ويعظم رجائي ٍ أن يصل إلى أيد كثرية غري التي وصل إليها في طبعاته السابقة، وأن يتحقق له من عموم الرسالة بهذه املثابة ما يتمناه كل مؤلف لكل كتاب يريد به رسالة من الرسالات. َّ ليس من عادتي أن أطلع في كتبي بعد الفراغ من طبعها، ويتفق أن تمضي السنوات ُلقي عليها نظرة لغري مراجعة عاجلة، فإذا حدث بعد ذلك أن أنظر فيها لتقديمها دون أن أ َّ إلى طبعة جديدة، أمكنني أن أشعر بها شعور القارئ الذي يطلع عليها لأول مرة، بعد أن شعرت بها شعور املؤلف الذي امتلأ بها، وأدارها في نفسه عدة مرات. وقد أستغرب منها ً أمورا كالتي يستغربها القراء الذين يحكمون على موضوعاتها حكم «الأجانب الغرباء». عجبًا! إن مشكلة الحياة الكبرى لم تتغري منذ ألف وثلاثمائة سنة، ولم تزل الحرب ُ على أشدها بني خدام أنفسهم وخدام العقائد والأمثلة العليا، ولم يزل الشهداء يصلونها ً نارا حامية من عبيد البطون والأكباد، ولم يزل «داؤنا العياء» كما قال أبو العلاء! كان هذا شعوري بكتاب أبي الشهداء حني قرأته من جديد؛ لتقديمه إلى هذه الطبعة. َّ مسكينة هذه الإنسانية! لا تزال في عطش شديد إلى دماء الشهداء؛ بل لعل العطش الشديد يزداد كلما ازدادت فيها آفات الأثرة والأنانية ونسيان املصلحة الخالدة في سبيل املصلحة الزائلة، أو لعل العطش الشديد إلى دماء الشهداء يزداد في هذا الزمن خاصة دون سائر ً الأزمنة الغابرة؛ لأنه الزمن الذي وجدت فيه الوحدة الإنسانية وجودا ماديٍّا فعليٍّا، وأصبح ِل ًزاما لها أن توجد في الضمري وفي الروح كما وجدت في الخريطة الجغرافية وفي برامج السفن والطيارات. الوحدة الإنسانية اليوم حقيقة واقعية عملية، ولكنها حقيقة واقعية عملية في كل شيء إلا في ضمري الإنسان وروح الإنسان. أبو الشهداء الحسني بن علي حقيقة واقعية في اشتباك املصالح التجارية، وفي اتصال الأخبار بني كل ناحية من الكرة الأرضية وناحية أخرى. حقيقة واقعية في أعصاب الكرة الأرضية — إذا صح هذا التعبري — فلا يضطرب عصب من أعصابها في أقصى املشرق حتى تتداعى له سائر الأعصاب في أقصى املغرب وفي أقصى الشمال والجنوب. حقيقة واقعية في كل شيء إلا في ضمري الإنسان وفي روح الإنسان، وهذا هو املهم والأهم إذا أريدت للإنسانية وحدة صحيحة صالحة جديرة بالدوام. ِ ولن توجد هذه الوحدة إلا إذا وجد الشهداء في سبيلها، فأنعم بمقدم «أبي الشهداء» من جديد إلى ضمائر فريق كبري من بني الإنسان، لعلهم يقدمون رسالته خطوة واحدة أو خطوات في سبيل اليقني والعمل الخالص لوجه الحق والكمال. نتفاءل أو لا نتفاءل. نتشاءم أو لا نتشاءم. ليست هذه هي املسألة؛ وإنما املسألة هي أن طريق التفاؤل معروف وطريق التشاؤم معروف، فلا تتحقق مصلحة الإنسانية إلا إذا عمل لها كل فرد من أفرادها، وهانت الشهادة ُ من أجلها على خَّد ِّ امها، وتقدم الصفوف من يُ ِقدم على الاستشهاد، ومن ورائه من يؤمن بالشهادة والشهداء. لا عظة ولا نصيحة، ولكنها حقيقة تقرر كما تقرر الحقائق الرياضية، فلا بقاء َ للإنسانية بغري العمل لها، ولا عمل لها إن لم ينس الفرد مصلحته؛ بل حياته في سبيلها. لا بقاء للإنسانية بغري الاستشهاد. وفي هذه الآونة التي تتردد فيها هذه الحقيقة في كل زاوية من زوايا الأرض نلتفت ً نحن أبناء العربية إلى ذكرى شهيدها الأكبر فنحني الرءوس إجلالا لأبي الشهداء. عباس محمود العقاد 8 الفصل الأول مزاجان تاريخيان طبائع الناس ْريَ ِحيَِّة والنخوة، ومزاج َ يتناوب طبائع الناس مزاجان متقابلان؛ مزاج يعمل أعماله للأَ يعمل أعماله للمنفعة والغنيمة. واملزاجان لا ينفصلان كل الانفصال. فقد تقترن الأريحية باملنفعة، وتقترن املنفعة بالأريحية، ولكنهما إذا اصطدما — ولا سيما في الأعمال الكبرية — لم يعسر عليك أن تفصل املزاجني وتعزل املعسكرين. فهذا َّ للأريحية حتى يجب املنفعة ويُ َّ خفيها، وهذا للمنفعة حتى يجب الأريحية ويخفيها، أو كذلك يتراءيان. وأصحاب املطالب الكبرى في التاريخ يعتمدون على هذا املزاج كما يعتمدون على ذاك؛ ِ فمنهم من يتوسل إلى الناس بما فيهم من الجشع والخ َّسة وقرب املأخذ وسهولة املسعى، بل والنجدة وركوب املخاطر ُّ َّ ومنهم من يتوسل إلى الناس بما فيهم من طموح إلى الن ونسيان الصغائر في سبيل العظائم. ولكل منهما سبيله إلى النفوس وأمله في النجاح على حسب الأوقات والبيئات. ُ ة من سنن الخلق التي لا تتبدل مع الأوقات ُ إلا أن الأريحية أخلد من املنفعة بسنَّ ُ والبيئات؛ لأن منفعة الإنسان و ِجَد ْت لفرد من الأفراد. أما الأريحية التي يتجاوز بها الإنسان منفعته: فقد وجدت للأمة كلها أو للنوع َّم يُكتب لها الدوام إذا اصطدمت بمنافع هذا الفرد أو ذاك. الإنساني كله؛ ومن ثَ ولقد يبدو من ظواهر الأمور أن الأمر على خلاف ما نقول؛ لأن الحريص على منفعته ُدًما إليها، فينال املنفعة التي لا ينالها صاحب الأريحية؛ لأنه يتركها إذا يبلغها، ويمضي قُ ُّل منها. َج َ اصطدمت بما هو أ أبو الشهداء الحسني بن علي وهذا صحيح مشهود لا مراء فيه. ً ولكن النجاح في الحركات التاريخية لن يسمى نجاحا إذا هو لم يتجاوز حياة فرد أو طائفة من الأفراد، فإذا قيل: إن حركة من الحركات التاريخية قد نجحت، فمغزى ذلك بداهة أن الأفراد القائمني بها يذهبون وهي الباقية بعد ذهابهم. ومن هنا يصح أن يقال: إن الأريحية أبقى وأنجح إذا هي اصطدمت باملنفعة الفردية؛ لأن ذهاب الفرد هنا أمر مفروغ منه بعد كل حساب، سواء أكان حساب الأريحيني أم حساب النفعيني. ُ وأصحاب الأريحية إذن أبعد ً نظرا من دهاة الطامعني والنهازين للفرص واملغانم ُ العاجلة؛ لأنهم خِلقُوا بفطرتهم على حساب أعمال تتجاوز حساب عمرهم القصري. فهم ُ — شعروا أو لم يشعروا — بعيدو النظر إلى عواقب الأمور، وإن خيِّل إلى الناس أنهم طائشون متهجمون. أما موقف املؤرخني في العطف على حركات التاريخ؛ فهو على ما نرى موقف مزاج ُ من هذين املزاجني، وليس بموقف سبيل من سبل البحث أو مذهب من مذاهب التفكري. فالذين يجنحون بمزاجهم إلى املنفعة يفهمون أعذار املنتفعني، وينكرون ملامتهم على ناقديهم. ً والذين يجنحون بمزاجهم إلى الأريحية يفهمون دوافع النخوة، ويحسبونها عذرا لأصحابها أقوى من غواية املنافع والأرزاق. ِ إلا أن الصواب هنا ظاهر جَّد الظهور ملن يريد أن يراه. الصواب أن العطف على جانب املنفعة عبث لا معنى له ولا حكمة فيه. وأن العطف على جانب الأريحية واجب يخشى على الناس من تركه وإهماله؛ إذ كان ً تركه مناقضا لصميم الفطرة التي من أجلها فطر الناس على الإعجاب بكل ما يستحق الإعجاب. ً فليس يخشى على الناس يوما أن ينسوا منافعهم ويقصروا في خدمة أنفسهم، سواء عطف عليها املؤرخون أو أعرضوا عنها ساخرين منكرين. ع إليها، وهي التي ولكنهم يخسرون الأريحية إذا فقدوها وفقدوا الإعجاب بها والتطلُّ خلقت ليعجب بها الناس؛ لأن حرص الإنسان على منفعته لا يغنيهم في حياتهم العامة أو في حياتهم الباقية، أما الأريحية التي يتجاوز بها الإنسان نفسه في سبيل معنًى من ٍ ل عال من الأمثلة العليا، فهي الخليقة النافعة للنوع الإنساني بأسره، وإن َ املعاني أو مثَ ٍ ل عال. َ جاز اختلافهم في كل معنى وفي كل مثَ 10 مزاجان تاريخيان صراع بني الأريحية واملنفعة في ماضيالشرق وحاضره كثري من الحركات التاريخية التي وقع الصدام فيها بني الأريحية واملنفعة على أكثر من غرض واحد. ولكننا لا نحسبنا مهتدين إلى نموذج لهذا الصدام أوضح في املبادئ، وأهدى إلى ً النتائج، وأبني عن خصائص املزاجني معا من النموذج الذي عرضه لنا التاريخ في النزاع بني الطالبيني والأمويني، ولا سيما النزاع بينهما على عهد الحسني بن علي، ويزيد بن معاوية. ً قلنا في كتابنا «عبقرية الإمام» ما فحواه أن الكفاح بني علي ومعاوية، لم يكن كفاحا ً بني رجلني أو بني عقلني وحيلتني. ولكنه كان على الحقيقة كفاحا بني الإمامة الدينية والدولة الدنيوية، وأن الأيام كانت أيام دولة دنيوية؛ فغلب الداعون إلى هذه الدولة من حزب معاوية، ولم يغلب الداعون إلى الإمام من حزب الإمام. ولو حاول معاوية ما حاوله عليٌّ لأخفق وما أفلح، ولو أراد عليٌّ أن يسلك غري مسلكه ملا أفاده ذلك شيئًا عند محبيه ولا عند مبغضيه. فإذا جاز لأحد أن يشك في هذا الرأي، وأن يرجع بنجاح معاوية إلى شيء من مزاياه الشخصية، فذلك غري جائز في الخلاف بني الحسني ويزيد، وكل ما يجوز هنا أن يقال: ُ إن أنصار الدولة الدنيوية غلبوا أنصار الإمامة على سنة الخلفاء الراشدين؛ لأن مطالب الإمامة غري مطالب الزمان. ط ً يزعم أن الصراع هنا كان صراعا بني رجلني أو بني عقلني وحيلتني، ما من أحد قَ ُّ ُ وإنما هو الصراع بني الإمامة وامللْك الدنيوي، أو بني الأريحية واملنفعة في جولتهما الأولى، ولم يكن ليزيد قط فضل كبري أو صغري بما قد بلغه من الفوز والغلبة. بل لا يمكن أن يتعلل أحد هنا بما يتعلل به أنصار املنافع عامة من «تقريره للنظام ُ وحفظه للأمن العام»؛ فإن يزيد لم يكن له فضل قط في قيام الدولة كما قامت على عهده وبعد عهده؛ وإنما كانت الدولة تتماسك برغبة الراغبني في بقائها لا بقدرة الأمري املشرف عليها، وقد حدث بعد موت يزيد أن بويع ابنه معاوية الثاني بالشام — وكان من الزاهدين َ اس إلى صلاة جامعة، وقال لهم: «أما بعد، فإني قد ضعفت عن في الحكم — فنادى النَّ أمركم، فابتغيت لكم مثل عمر بن الخطاب حني استخلفه أبو بكر فلم أجده، فابتغيت ستة مثل ستة الشورى فلم أجدهم، فأنتم أولى بأمركم فاختاروا له من أحببتم.» ثم أوى 1
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عمر




عدد المساهمات : 1369
تاريخ التسجيل : 28/09/2008

ابو الشهداء عباس العقاد Empty
مُساهمةموضوع: رد: ابو الشهداء عباس العقاد   ابو الشهداء عباس العقاد Emptyالثلاثاء يناير 11, 2022 10:10 am

أبو الشهداء الحسني بن علي إلى بيته، ومضت شئون الدولة على حالها حتى مات بعد ثلاثة أشهر، وله مع هذا منافس قوي كعبد الله بن الزبري بالحجاز. فلا وجه للمفاضة بني الحسني بن عليِّ ويزيد بن معاوية، ورأي معاوية وأعوانه في هذا أسبق من رأي الطالبيني وخصوم الأمويني. فقد ترددوا كثريًا قبل الجهر باختيار يزيد لولاية العهد وبيعة الخلافة بعد أبيه، ولم يستحسنوا ذلك قبل إزجائهم النصح إلى يزيد غري مرة بالإقلاع عن عيوبه وملاهيه، وملا أنكر بعض أولياء معاوية جرأة الحسني عليه في الخطاب، وأشاروا عليه أن يكتب له كتابًا «يصغر إليه نفسه»، قال: «وما عسيت أن أعيب ً ا؟ والله ما أرى للعيب فيه موضعا.» حسينً ِعلَّةٌ أخرى يتعلل بها املفاضلون بني عليٍّ ومعاوية، ولا موضع لها في املفاضلة بني َّم تَ وثَ ولديهما الحسني ويزيد، وتلك ما يزعمونه من غلبة معاوية على «عليٍّ» بحجته في الإقناع ونشاطه أو نشاط أصحابه في الدعوة السياسية. فهذه التعلة إن صلحت لتعليل نجاح معاوية، فما هي بصالحة لتعليل نجاح يزيد؛ لأن الذين انخدعوا أو تخادعوا للصيحة التي صاح بها معاوية في املطالبة بدم عثمان، َ كانوا يرددون هذه الصيحة، ويساعدهم على ترديدها حقد الثأر املزعوم، وسْورة العصبية ً املهتاجة، ثم يساعدهم على ترديدها في مبدأ الأمر أن معاوية لم يكن مجاهرا بطلب الخلافة ِّ ولا متعر ًضا ملزاحمة أحد على البيعة، وإنما كان يتشبث بمقتل عثمان واملطالبة بدمه، ولا ِّ يزيد في دعواه على ادعاء ولاية الدم وصلة القرابة. ولكن الصائحني بهذه الصيحة مع معاوية قد عاشوا حتى رأوا بأعينهم مبلغ الغرية ُ على تراث عثمان، وعلموا أن امللك هو الغرض املقصود من وراء تلك الفتن والأرزاء، وأن ُ معاوية لا يقنع بأن يملك لنفسه حتى يورث امللك ولده من بعده، وليس هو من أهل الرأي، ولا هو من أهل الصلاح، ولا هو ممن تتَّفق عليه آراء هؤلاء، ولكنه فتى عربيد يقضي ليله ونهاره بني الخمور والطنابري، ولا يفرغ من مجالس النساء والندمان إلا ليهرع إلى الصيد فيقضي فيه الأسبوع بعد الأسبوع بني الأديرة والبوادي والآجام، لا يبالي خلال ذلك ً تمهيد ُ ا مللك ولا تدريبً ً ا على حكم ولا استطلاعا لأحول الرعية الذين سيتولاهم بعد أبيه؛ ثقة بما صار إليه من التمهيد والتوطيد وما سوف يصري. فكل خلاف جاز في املفاضلة بني عليٍّ ومعاوية غري جائز في املفاضلة بني الحسني ُّ ويزيد، وإنما املوقف الحاسم بينهما، موقف الأريحية الصر ُّ اح في مواجهة املنفعة الصراح، 12 مزاجان تاريخيان وقد بلغ كلاهما من موقفه أقصى طرفيه وأبعد غايتيه، فانتصر الحسني بأشرف ما في النفس الإنسانية من غرية على الحق وكراهة للنفاق واملداراة، وانتصر يزيد بأرذل ما في َ النفس الإنسانية من جشع ومراء وخنوع لصَغار املتع والأهواء. أقام الحسني ليلته الأخرية بكربلاء، وهو لا ينتظر من عاقبته غري املوت العاجل بعد سويعات، فأذن لأصحابه أن يتفرقوا عنه تحت الليل إن كانوا يستحيون أن يفارقوه في ضوء النهار، فأبوا إلا أن يموتوا دونه، وقال له مسلم بن عوسجة الأسدي: «أنحن نتخلى عنك، ولم نعذر إلى الله في أداء حقك؟ أما والله لا أفارقك حتى أكسر في صدورهم رمحي وأضربهم بسيفي ما بقي قائمه بيدي، ولو لم يكن معي سلاحي لقذفتهم بالحجارة دونك حتى أموت معك.» وقد بر بقسمه وبقي ومات، ودنا منه حبيب بن مظاهر وهو يجود بنفسه، فقال له: «لولا أني أعلم أني في أثرك لاحق بك لأحببت أن توصيني حتى أحفظك بما أنت له أهل.» فقال وكان آخر ما قال: «أوصيك بهذا — رحمك الله — أن تموت دونه.» وأومأ بيده نحو الحسني. وقتل الحسني، وذهب الأمل في دولته ودولة الطالبيني من بعده إلى أجل بعيد، ولكنه كان يُشتم بالكلمة العوراء فيهون على الرجل من أصحاب الأريحية أن يموت ولا يصبر على سماع تلك الكلمة، أو يترك الجواب عليها. فلما نعي الحسني في الكوفة نادى واليها ابن زياد إلى الصلاة الجامعة، وصعد إلى املنبر، وخطب القوم فقال: «الحمد هلل الذي أظهر الحق وأهله، ونصر أمري املؤمنني يزيد بن معاوية وحزبه، وقتل الكذاب ابن الكذاب الحسني بن علي وشيعته.» فما أتمها حتى وثب له من جانب املسجد شيخ ضرير هو عبد الله بن عفيف الأزدي الذي ذهبت إحدى عينيه يوم الجمل، وذهبت عينه الأخرى يوم صفني، فصاح بالوالي غداة يوم انتصاره وزهوه: «يابن مرجانة! أتقتل أبناء النبيني، وتقوم على املنبر مقام الصديقني؟ وإنما الكذاب أنت وأبوك والذي ولاك وأبوه.» فما طلع عليه الصباح إلا وهو مصلوب. إلى هذا الأفق الأعلى من الأريحية والنخوة ارتفعت بالنفس الإنسانية نصرة الحسني. وإلى الأغوار املرذولة من الخسة والأثرة هبطت بالنفس الإنسانية نصرة يزيد. وحسبك من خسة ناصريه، أنهم كانوا يجزون بالحطام وهتك الأعراض على غزو «املدينة» النبوية واستباحة ذمارها فيسرعون إلى الجزاء، يسرعون إليه وليسوا هم بكافرين بالنبي الدفني في تلك املدينة، فيكون لهم عذر الإقدام على أمر لا يعتقدون فيه التحريم! 13 أبو الشهداء الحسني بن علي بل حسبك من خسة ناصريه أنهم كانوا يرعدون من مواجهة الحسني بالضرب في كربلاء؛ لاعتقادهم بكرامته وحقه، ثم ينتزعون لباسه ولباس نسائه فيما انتزعوه من أسلاب! ولو أنهم كانوا يكفرون بدينه وبرسالة جده، لكانوا في شرعة املروءة أقل خسة من ذاك. وتتقابل وسائل النجاح في املزاجني كما تتقابل املقاصد والغايات. ً فكان شعار معاوية وأشياعه: «إن هلل جنودا من العسل.» وهو يعني العسل الذي يُداف بالسم؛ ليخلي طريق النجاح من كل معترض فيها ولو كان من الأصدقاء، فكثرت روايات املؤرخني عن مقتل الحسن بن علي والأشتر النخعي بهؤلاء الجنود! وأعجب منها ما قيل عن مقتل عبد الرحمن بن خالد، وقد كان نصريًا ملعاوية في حروب الشام؛ فإنه قد ً مات مسموم ُ ا على ما اشتهر من الروايات لأنه ر ِّش َح للخلافة بعد معاوية دون يزيد، وعلم ذلك أقرباء عبد الرحمن بن خالد، فقتلوا طبيب معاوية «ابن أثال» الذي اتهموه بسمه في الدواء. ولو استباح الحسني وشيعته هذه الوسائل مرة واحدة، لكانوا وشيكني أن يبلغوا مقصدهم من قريب، فقد كان هانئ بن عروة شيخ كندة من أنصار الحسني وأبيه، وكانت كندة كلها تطيعه وتلبيه حتى قيل إنه «إذا صرخ لباه منهم ألف سيف». فزاره عبيد الله بن زياد — والي يزيد على الكوفة — ليعوده في بعض مرضه ويتألفه ويستميله إليه، وقيل: إن هانئًا عرض على مسلم بن عقيل بن أبي طالب أن يقتل عبيد الله بن زياد وهو عنده، وقيل: إن الذي عرض ذلك رجل من صحبة هانئ املقربني، فأبى مسلم ما عرضه ٍ هذا وذاك، وهو يومئذ ِطلبة ذلك الوالي، وجنوده قد تعقبوه وأهدروا دمه وأجزلوا الوعود ملن يسلمه أو يدل عليه، وقال: «إنَّا أهل بيت نكره الغدر.» ولو أنه بطش بابن زياد، لقد ٍ بطش يومئذ بأكبر أنصار يزيد. وليقل من شاء: إن قتل ابن زياد كان صوابً ً ا راجحا. ً وإن التحرج من قتله كان خطأ فادحا من وجهة السياسة أو من وجهة الأخلاق، فالذي لا يشك فيه أنه إن كان صوابًا فهو صواب سهل يستطيعه كثريون، وإن كان خطأ فهو الخطأ الصعب الذي لا يستطيعه إلا القليلون. َ كذلك يقول من يقول: إن الأريحية التي سَمت إليها طبائع أنصار الحسني، إنما هي أريحية الإيمان الذي يعتقد صاحبه أنه يموت في نصرة الحسني، فيذهب لساعته إلى جنات 14 مزاجان تاريخيان النعيم. فهؤلاء الذين يقولون هذا القول يجعلون املنفعة وحدها باعث الإنسان إلى جميع أعماله، حتى ما صدر منها عن عقيدة وإيمان، وينسون أن املنفعة وحدها لن تفسر لنا ً حتى الغرائز الحيوانية التي يصاب من جرائها الفرد طوع ً ا أو كرها في خدمة نوعه، بل ينسون أن أنصار يزيد لا يكرهون جنات النعيم ولا يكفرون بها، فلماذا لم يطلبوها كما طلبها أنصار الحسني؟ إنهم لم يطلبوها لأنهم منقادون لغواية أخرى، ولأنهم لا يملكون عزيمة الإيمان ونخوة العقيدة، ولا تلك القوة الخلقية التي يتغلبون بها على رهبة املوت؛ ق بالعيش والخنوع للمتعة القريبة، فلولا اختلاف الطبائع ُّ ويقدعون بها وساوس التعل ً لظهر شغف الناس جميع ُ ا بجنات النعيم على نحو واحد، ومضى الناس على سنَّة واحدة في الأريحية والفداء، ومرجع الأمر إذن في آخر املطاف إلى فرق واضح بني طبائع الأريحيني وطبائع النفعيني. وكذلك يقول من يقول: إن الأريحية في نفوس أنصار الحسني كانت أريحية أفراد يُقَ اس بالقمة معدودين ثبتوا معه، ولم يخذلوه إلى يومه الأخري. وينسى هؤلاء أن الارتفاع لَ الواحدة كما يقاس بالقمم الكثرية، وأن الغور ليُسبر في مكان واحد كما يسبر في كل مكان، وإنما تكون الندرة هنا أدل على جلالة املرتقَى الذي تطيقه النفس الواحدة أو الأنفس املعدودات، ولا تطيقه نفوس الأكثرين. فمدار الخلاف إذن في هذه الجولة التاريخية إنما هو الفارق الخالد بني مزاجني بارزين كائنً َ ا ما كان تفسري املفسرين للعقائد الروحية واملطامع السياسية، ولم يتلاق يَا عامة في النزاع بني الطالبيني والأمويني، ُ هذان املزاجان على تناحر وتناجز كما تلاقَ وخاصة في النزاع بني الحسني ويزيد. فحياة الحسني — رضي الله عنه — صفحة لا صفحة تماثلها في توضيح الفارق بني خصائص هذين املزاجني، وبيان ما لكل منهما من عدة للنجاح في كفاح الحياة، سواء نظرنا إلى الأمد البعيد أو قصرنا النظر على الأمد القريب.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عمر




عدد المساهمات : 1369
تاريخ التسجيل : 28/09/2008

ابو الشهداء عباس العقاد Empty
مُساهمةموضوع: رد: ابو الشهداء عباس العقاد   ابو الشهداء عباس العقاد Emptyالثلاثاء يناير 11, 2022 10:12 am

الفصل الثاني الخصومة ُ أسباب التنافس والخصومة قبل أن يقف الحسني ويزيد متناجزين، كانت الحوادث قد جمعت لهما أسباب التنافس والخصومة منذ أجيال، وكان هذا التنافس بينهما يرجع إلى كل سبب يوجب النفرة ِّ بني رجلني: من العصبية، إلى الترَات املوروثة، إلى السياسة، إلى العاطفة الشخصية، إلى اختلاف الخليقة والنشأة والتفكري. ً تنافس هاشم وأمية على الزعامة قبل أن يولد معاوية؛ فخرج أمية ناقما إلى الشام ً وبقي هاشم منفردا بزعامة بني عبد مناف في مكة، فكان هذا أول انقسام وتقسيم بني الأمويني والهاشميني: هؤلاء يعتصمون بالشام، وهؤلاء يعتصمون بالحجاز. ثم علا نجم «أبي سفيان بن حرب بن أمية» في الحجاز، فأصبحت له زعامة مرموقة إلى جانب الزعامة الهاشمية، فلما ظهرت الدعوة املحمدية أخذته الغرية على زعامته، فكان في طليعة املحاربني للدعوة الجديدة، وندرت غزوة من الغزوات لم تكن فيها لأبي سفيان إصبع ظاهرة في تأليب القبائل وجمع الأموال، وشاءت املصادفات زمنًا من الأزمان أن يظل وحده على زعامة قريش في حربها للنبي صلى الله عليه وسلم، فمات الوليد بن املغرية زعيم مخزوم، ودان زعماء تيم وبني عدي وغريهم من البطون القرشية الصغرية بالإسلام، وبقي أبو سفيان وحده على رأس الزعامة الجاهلية والزعامة الأموية في منازلة النبي ومن معه من املهاجرين والأنصار، وبلغ من تغلغل العداء في هذه الأسرة للنبي صلى الله عليه وسلم أن أبا لهب عمه كان أوحد أعمامه في الكيد له والتأليب عليه؛ وإنما جاءه هذا من بنائه بأم جميل بنت حرب، أخت أبي سفيان التي وصفها القرآن بأنها «حمالة الحطب»؛ كناية عن السعي في الشر وتأريث نار البغضاء. أبو الشهداء الحسني بن علي ثم فتحت مكة، فوقف أبو سفيان ينظر إلى جيش املسلمني، ويقول للعباس بن عبد ُ املطلب: «والله يا أبا الفضل لقد أصبح م ً لك ابن أخيك اليوم عظيما.» فلما قال العباس: «إنها النبوة.» قال: «نعم إذن!» وقد أسلم أبو سفيان وابنه معاوية عند فتح مكة، وكان إسلام بيته أعسر إسلام عرف بعد فتحها، فكانت زوجه هند بنت عتبة تصيح في القوم بعد إسلامه: «اقتلوا الخبيث الدنس الذي لا خري فيه، قبح من طليعة قوم، هلا قاتلتم ودفعتم عن أنفسكم وبلادكم!» وظل أبو سفيان إلى ما بعد إسلامه زمنًا يحسب غلبة الإسلام غلبة عليه، فنظر إلى النبي مرة، وهو باملسجد نظرة الحائر املتعجب وهو يقول لنفسه: «ليت شعري بأي شيء َخف عن النبي صلى الله عليه وسلم معنى هذه النظرة، وأقبل عليه حتى ضرب يده بني غلبني!» فلم يَ كتفيه، وقال له: «باهلل غلبتك يا أبا سفيان!» وكان في غزوة حنني يشهد املسلمني هزيمة الأولى فيقول: «ما أراهم يقفون دون البحر!» وقيل إنه كان في حروب الشام يهتف كلما تقدم الروم: «إيه بني الأصفر!» فإذا تراجعوا عاد فقال: «ويل لبني الأصفر!» وقد تألَّفه النبي صلى الله عليه وسلم ما استطاع قبل فتح مكة وبعد فتحها، فتزوج بنته أم حبيبة قبل ً الفتح، وجعل بيته بعد الفتح حرما «من دخله فهو آمن ومن أغلق عليه داره فهو آمن.» وأقامه على رأس املؤلفة قلوبهم الذين يزاد لهم في العطاء عسى أن يذهب ما في نفوسهم من الكراهة لغلبة الإسلام. ِرَم ومع هذا كان املسلمون يوجسون منه فلا ينظرون إليه ولا يقاعدونه، حتى بَ بذلك، وأحب أن يمسح ما بصدورهم من قبله؛ فتوسل إلى النبي أن يجعل معاوية كاتبًا بني يديه، وأن يأمره ليقاتل الكفار كما كان يقاتل املسلمني. َ بض النبي صلى الله عليه وسلم، ونجم الخلاف على مبايعة الخليفة بعده بني املهاجرين ثم قُ َّ والأنصار وبني بعض الصحابة من جهة أخرى. فاشرأب أبو سفيان إلى هذه الفتنة، وخيل إليه أنه مصيب بني فتوقها ثغرة ينفذ منها إلى السيادة على قريش، ثم السيادة من هذا الطريق على الأمة الإسلامية بأسرها. فدخل على «عليٍّ» والعباس، يثريهما ويعرض عليهما املعونة بما في وسعه من خيل ورجل، فنادى بهما: «يا عليُّ! وأنت يا عباس! ... 18 الخصومة ما بال هذا الأمر في أذل قبيلة من قريش وأقلها؟ والله لو شئت لأملأنها عليه — على أبي ً بكر — خيلا ً ورجلا، وآخذنها عليه من أقطارها.» ُّ وهو لا ريب لم يغضب لأن الخلافة قد فاتت بني هاشم، ولا كان يسره أن تصري ً الخلافة إليهم فتستقر فيهم قرارا لا طاقة له بتحويله، ولكنه أراد خلافًا يفتح الباب لزعامة أموية يملك بها زمام قريش والدولة العربية جمعاء. ْخ َف مقصده هذا على «عليٍّ ِ » رضي الله عنه، وقال له: «لا والله لا أريد أن تملأها فلم يَ ً عليه خيلا ً ورجلا ً ، ولولا أننا رأينا أبا بكر لذلك أهلا ما خليناه وإياها.» ً ثم أنبه قائلا: «يا أبا سفيان! إن املؤمنني قوم نصحة بعضهم لبعض، وإن املنافقني قوم غششة بعضهم لبعض، متخاونون وإن قربت ديارهم وأبدانهم.» وانقضت خلافة أبي بكر وخلافة عمر، والأمور تجري في مجراها الذي يأخذ على املطامع سبيلها، ويخيف أصحاب الفتن أن يبرزوا بها من جحورها. حتى قامت خلافة عثمان بن عفان فانتصر بها الأمويون أيما انتصار؛ لأنه رأس من رءوسهم وابن عم قريب لزعماء بيوتهم، وأصبحت الدولة الإسلامية أموية لا يطمع في خرياتها ولا ولاياتها إلا من كان من أمية أو من حزبها، فمروان بن الحكم وزير الخليفة الأكبر يغدق العطاء على الأقرباء ويحبسه عن سائر الناس، ومعاوية بن بي سفيان والي الشام يجتذب إليه الأقرباء والأولياء ومن يُرجى منهم العون ويُخشى منهم الخلاف. ِت ً ل عثمان — رضي الله عنه — كان املنتفعون بمناصب الدولة وأموالها جميعا فلما قُ َّ من الأمويني أو من صنائعهم املقربني، ومال السلطان إلى جانب أمية على كل جانب آخر من القرشيني وغري القرشيني. ِت َل علي بن ً لا جرم كان الصراع بعد ذلك صراعا معروف النهاية من مطلع البداية، فقُ أبي طالب غيلة، وخلصت الخلافة ملعاوية بن أبي سفيان. ٌ ثم بايع أناس َ من أهل العراق وفارس الحسن بن عليٍّ، فلم يستقم له أمرهم، وضاق ً صدره بجدالهم ومحالهم، وكان رجلا سكيتًا يكره املنازعة ويجنح إلى العزلة، فصالح َّ معاوية على شروط وفى له معاوية باملعجل منها والتوى عليه بمؤجلها، وزاد على ذلك َ كما تواتر في شتى الروايات أنه أغرى امرأته «جعدة بنت الأشعث» بسمه، ووعدها أن ِ يزوجها يزيد ويعطيها مائة ألف درهم، فوفى بوعد املال ولم يف بوعد الزواج. وقد أوصى الحسن — رضي الله عنه — أن يدفن عند قبر جده إلا أن تُخاف فتنة، فلما توفي أرادوا دفنه حيث أوصى، فقام مروان بن الحكم وجمع بني أمية وزمرتهم 19 أبو الشهداء الحسني بن علي ومنعوا مشيعيه. فأنكر الحسني عليهم منع سبط النبي أن يدفن إلى جوار جده، فقيل له: «إن أخاك قال إذا خفتم الفتنة ففي مقابر املسلمني سعة. وهذه فتنة.» فسكت على مضض. أهداف معاوية وقد كان معاوية ولا ريب ينوي أن يجعلها دولة أموية متعاقبة في ذريته من بعده، منذ تصدى للخلافة، وخلا له املجال من أقوى منافسيه، إلا أنه كان يتردد ويتكتم ولا يفضي ُّه وخاف أن يعجل عن قصده، فمهد لبيعة ِ بنيته إلى أقرب املقربني إليه، ثم كبرت سن ابنه يزيد بعض التمهيد، وتوسل إلى ذلك بما طاب له من وسيلة؛ فلباه أهل الشام وكتب بيعته إلى الآفاق، ثم همه أمر الحجاز فكتب إلى مروان بن الحكم عامله أن يجمع من قبله لأخذ البيعة منهم ليزيد، فأبى مروان وأغرى رءوس قريش بالإباء لأنه كان يتطلع إلى الخلافة بعد معاوية ويحسبه أقدر عليها من يزيد؛ ملا اشتهر به من نقص وعبث ... فعزله معاوية وولى سعيد بن العاص مكانه، فلم يجبه أحد إلى ما أراد، فكتب معاوية إلى عبد الله بن عباس، وعبد الله بن الزبري، وعبد الله بن جعفر، والحسني بن عليٍّ، وأمر عامله ً سعيدا أن يوصل كتبه إليهم ويبعث إليه بجواباتها، وقال لسعيد: «فهمت ما ذكرت من إبطاء الناس، وقد كتبت إلى رؤسائهم كتبًا فسلمها إليهم، ولتشد عزيمتك وتحسن نيتك، ً ا عظيما لا ٍّ ُ وعليك بالرفق، وانظر حسينًا خاصة فلا يناله منك مكروه، فإن له قرابةً وحق ينكره مسلم ولا مسلمة، وهو ليث عرين، ولست آمنك إن ساورته ألا تقوى عليه.» فأعيت سعيد بن العاص كل حيلة في إقناع وجهاء الناس وعامتهم بهذه البيعة البغيضة، وخف معاوية إلى مكة ومعه الجند وحقائب الأموال، ودعا بأولئك النفر، فقال لهم: «قد علمتم سريتي فيكم وصلتي لأرحامكم، يزيد أخوكم وابن عمكم، وأردت أن تقدموا يزيد ِّ باسم الخلافة، وتكونوا أنتم تعزلون وتؤمرون، وتجبون املال وتقسمونه.» َّ فأجاب عبد الله بن الزبري، وخريه بني أن يصنع كما صنع رسول الله إذ لم يستخلف ً أحدا، أو كما صنع أبو بكر إذ عهد إلى رجل ليس من بني أبيه، أو كما صنع عمر إذ جعل الأمر شورى في سته نفر ليس فيهم أحد من ولده ولا من بني أبيه. فقال معاوية مغضبًا: «هل عندك غري هذا؟» قال: «لا!» 20 الخصومة ً والتفت إلى الآخرين يسألهم قائلا: «فأنتم؟» فوافقوا ابن الزبري. ً فقال متوعدا: «أعذر من أنذر! إني كنت أخطب فيكم فيقوم إليَّ القائم منكم َّ فيكذبني على رءوس الناس فأحمل ذلك وأصفح، وإني قائم بمقالة، فأقسم باهلل لئن رد عليَّ أحدكم كلمة في مقامي هذا، لا ترجع إليه كلمة غريها حتى يسبقها السيف إلى رأسه، فلا يبقني رجل إلا على نفسه!» ثم أمر صاحب حرسه أن يقيم على رأس كل منهم رجلني مع كل واحد منهما سيف، وقال له: «إن ذهب رجل منهم يرد عليَّ كلمة بتصديق أو تكذيب، فليضرباه بسيفيهما.» ثم خرج بهم إلى املسجد ورقي املنبر، فحمد الله وأثنى عليه وقال: «هؤلاء الرهط سادة املسلمني وخيارهم لا يبرم أمر دونهم ولا يقضى إلا على مشورتهم، وإنهم قد رضوا وبايعوا ليزيد فبايعوه على اسم الله.» فبايع الناس. وهكذا كانت البيعة ليزيد في الحجاز. ومات معاوية وهو يعلم أن بيعة كهذه لا تجوز ولا تؤمن عقباها؛ فأوصى ابنه «أنه لا يخاف إلا هؤلاء من قريش: الحسني بن علي، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبري». َ قال: «فأما عبد الله بن عمر فرجل قد وقذته العبادة وإذا لم يبق أحد غريه بايعك، وأما الحسني بن علي فلا أظن أهل العراق تاركيه حتى يُخرجوه، فإن خرج عليك فظفرت ً ا عظيما، أما ابن الزبري فإنه خب ضب، فإذا ٍّ ً به فاصفح عنه، فإن له رحم َّ ا ماسةً وحق ِّ أمكنته فرصة وثب، فإن هو فعلها فقدرت عليه، فقطعه إربًا إربًا إلا أن يلتمس منك ًصلحا، فإن فعل فاقبل واحقن دماء قومك ما استطعت.» خلافة يزيد وآل الأمر على هذا النحو إلى يزيد في سنة ستني للهجرة، وهو بني الرابعة والثلاثني والخامسة والثلاثني، ولكنه دون أنداده في تجارب الأيام، وليس حوله من املشريين والنصحاء أمثال املغرية وزياد وعمرو بن العاص، وغريهم من القروم الذين كانوا حول ُ أبيه؛ فتهيب ما هو م ِقدم عليه، وكتب إلى عامله باملدينة الوليد بن عتبة بن أبي سفيان: ً ا شديدا ليست فيه أن «خذ حسينًا وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبري بالبيعة أخذً رخصة حتى يبايعوا، والسلام». 21 أبو الشهداء الحسني بن علي فبعث الوليد إلى مروان بن الحكم يستشريه، وكان مروان يريد الخلافة لنفسه، ولكنه علم بعد موت معاوية وقيام يزيد أن الأمر اليوم أمر بني أمية، فإن خرج منهم فقد خرج منهم أجمعني، فنصح للوليد نصيحة ذات وجهني: ظاهرها الشدة في الدعوة ليزيد، وباطنها السعي إلى الخلاص من يزيد ومنافسيه. فقال: «أرى أن تبعث الساعة إلى هؤلاء النفر فتدعوهم إلى البيعة، أما ابن عمر فلا أراه يرى القتال، ولكن عليك بالحسني وعبد الله بن الزبري، فإن بايعا وإلا فاضرب أعناقهما.» وضرب عنق الحسني وابن الزبري معناه الخلاص من أعظم املنافسني ليزيد، ثم الخلاص من زيد نفسه بإثارة النفوس وإيغار الصدور عليه! وقد ذهب رسول الوليد إلى الحسني وابن الزبري، فوجدهما في املسجد؛ فعلم الحسني ما يراد منه، وجمع طائفة من مواليه يحملون السلاح، وقال لهم وهو يدخل بيت الوليد: «إن دعوتكم أو سمعتم صوتي قد علا فاقتحموا عليَّ بأجمعكم، وإلا فلا تبرحوا حتى أخرج عليكم.» ٍّ فلما عرضوا عليه البيعة ليزيد قال: «أما البيعة فإن مثلي لا يعطي بيعته سرا، ولا ٍّ أراك تقنع بها مني سرا.» قال الوليد: «أجل!» قال الحسني: «فإذا خرجت إلى الناس فدعوتهم إلى البيعة دعوتنا معهم فكان الأمر ً واحدا.» ثم انصرف ومروان غاضب صامت لا يتكلم، وما هو إلا أن توارى الحسني حتى ِ صاح بالوليد: «عصيتني والله ً ! لا قدرت منه على مثلها أبدا حتى تكثر القتلى بينكم وبينه.» فأنكر الوليد لجاجته وقال له: «أتشري عليَّ َ بقتل الحسني! والله إن الذي يحاس ُب بدم الحسني يوم القيامة لخفيف امليزان عند الله.» وهكذا انتهت املنافسة بني بني أمية وبني هاشم إلى مفترق طريق لا سبيل فيه إلى توفيق، ولم تنقطع قط سلسلة هذه املنافسة منذ أجيال، وإن غلبها الإسلام في عهد النبوة، وفي عهد الصديق والفاروق. ً وكفى بالإسلام فضلا في هذا املجال أنه غلب العصبية بالعقيدة، فجعلها تابعة لها غري قادرة على الجهر بمخالفتها! ولكن العصبية املكبوحة عصبية موجودة غري معدومة. 
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عمر




عدد المساهمات : 1369
تاريخ التسجيل : 28/09/2008

ابو الشهداء عباس العقاد Empty
مُساهمةموضوع: رد: ابو الشهداء عباس العقاد   ابو الشهداء عباس العقاد Emptyالثلاثاء يناير 11, 2022 10:15 am

وكثريًا ما يفلت املكبوح من عنانه، وإن طالت به الرياضة والانقياد. فاتفق كثريًا في مساجلات شتَّى بني كبار الصحابة، أن بدرت إلى اللسان بوادر العصبية والنبي صلى الله عليه وسلم حاضر، فلما أشار عمر بقتل أبي سفيان — على خلاف رأي العباس في استبقائه وتألُّ ً فه — قال العباس: «مهلا يا عمر! فوالله لو كان من رجال بني عدي بن كعب ما قلت مثل هذا، ولكنك قد عرفت أنه من رجال عبد مناف.» وملا توثَّب أسيد بن حضري لضرب أعناق املفترين على السيدة عائشة، ثار به سعد بن عبادة وصاح به: «كذبت لعمر الله! ما تضرب أعناقهم، أما والله ما قلت هذا املقالة إلا أنك قد عرفت أنهم من الخزرج، ولو كانوا من قومك — الأوس — ما قلت هذا.» ِ ا فيقول: «اتق الله يا عليُّ، إن وليت شيئًا فلا وقد مات الفاروق وهو يوصي عليَّ تحملن بني هاشم على رقاب املسلمني.» ثم يلتفت إلى عثمان فيقول له: «اتق الله، إن وليت شيئًا فلا تحملن بني أمية على رقاب املسلمني.» ومن عجائب الحيل التي تحاول بها الغرائز الإنسانية أن تبقي وجودها وتمضي لطيَّتها، أن بني أمية انتفعوا من حرب الإسلام للعصبية في تعزيز عصبيتهم، فجعلوها حجة على بني هاشم أن النبوة لا تحصر الأمر فيهم، وأن الأنبياء لا يورثون. وإذا نهضت هذه الحجة على بني هاشم، فبنو أمية أقوى املنتفعني بها من بطون عبد مناف! وقد أوجبت الضرورة قبول املجاملة في هذه املنافسات فترة من الزمن على عهد معاوية بن أبي سفيان، فكان يلطف القول إلى أبناء عليٍّ ويواليهم بالهدايا واملجاملات، ص علي والغض من دعواه، فكان ُّ ٍّ ولكنه كان مضطر ٍّ ا إلى مجاملة آل علي ومضطرا إلى تنق ٍّ بذلك مضطر ٍ ا إلى النقيضني في آن. إنه ملك وبايع بامللك ليزيد وهو يعلم أنه غالب بالسلاح واملال، مغلوب بالسمعة والشعور، فكان الناس يفضلون عليٍّا عليه، وهو لا يملك أن يفاضله بقرابة النبي، ولا بالسابقة إلى الإسلام، ولا بالعراقة في قريش، فتجنب النسب والسابقة، وعمد إلى شخص عليٍّ في منازعات الخلافة؛ فاتهمه بتفرقة الكلمة بني املسلمني، وأمر بلعنه على املنابر عسى أن يضعف من تلك املكانة التي هو مغلوب بها، ويستبقي الدولة التي هو بها غالب، َّج ً في ذلك حتى قتل أناسا لم يطيعوه في لعن عليٍّ واتهامه، وأبى أن يجيب الحسن بن ولَ عليٍّ إلى شرطه الذي أراد به أن يرفع اللعن عن أبيه. وكان معاوية على حصافته يجهل ً أنه قد أضاع سمعة وشعورا من حيث حارب عليٍّا في مقام السمعة والشعور. 23 أبو الشهداء الحسني بن علي وإن مجاملة كهذه التي تحيي الرجل وتغض من قدر أبيه لهي أضعف مجاملة ً بني متلاقيني، فضلا عن خصمني متنافسني قد آل بهما التنافس بعد أجيال إلى مفترق الطريق. زواج الحسني وكأنما كانت هذه املنافسة املؤصلة الجذور لا تكفي قصاص التاريخ، فأضاف إليها أناس من ثقاتهم قصة منافسة أخرى هي وحدها كافية للنفرة بني قلبني متآلفني، وهي قصة زواج الحسني — رضي الله عنه — بزينب بنت إسحاق التي كان يهواها يزيد هوى أدنفه وأعياه. وكانت زينب هذه على ما قيل أشهر فتيات زمانها بالجمال، وكانت زوجة لعبد الله بن سلام القرشي والي العراق من قبل معاوية. فمرض يزيد بحبها وأخفى سره عن أهله، حتى استخرجه منه بعض خصيان القصر الذين يعينونه على شهواته، فلما علم أبوه سر مرضه أرسل في طلب عبد الله بن سلام، واستدعى إليه أبا هريرة وأبا الدرداء، فقال لهما: إن له ابنة يريد زواجها ولم ً يرض لها حليلا غري ابن سلام؛ ولدينه وفضله وشرفه ورغبة معاوية في تكريمه وتقريبه، َّ فخدع ابن سلام بما بلغه وفاتح معاوية في خطبة ابنته، فوكل معاوية الأمر إلى أبي هريرة ليبلِّغها ويستمع جوابها، فكان جوابها املتفق عليه بينها وبني أبيها أنها لا تكره ما اختاروه، ولكنها تخشى الضر وتشفق أن يسوقها إلى ما يغضب الله، فطلَّق ابن سلام َ وعده، فإذا هو يلويه به، ويقول بلسان ابنته إنها توجس من زوجته واستنجز معاويةَ رجل يطلِّق زوجته وهي ابنة عمه وأجمل نساء عصره. وقيل إن الحسني سمع بهذه املكيدة، فسأل أبا هريرة أن يذكره عند زينب خاطبًا، فصدع أبو هريرة بأمره، وقال لزينب: «إنك لا تعدمني طلابًا خريًا من عبد الله بن سلام.» قالت: «من؟» قال: «يزيد بن معاوية والحسني بن عليٍّ، وهما معروفان لديك بأحسن ما تبتغينه في الرجال.» ٍ قبَّله رسول الله، َ واستشارته في اختيار أيهما، فقال: «لا أختار فم ٍ أحد على فم تضعني شفتيك في موضع شفتيه.» فقالت: «لا أختار على الحسني بن عليٍّ ً أحدا، وهو ريحانة النبي، وسيد شباب أهل الجنة.» 24 الخصومة ً فقال معاوية متغيظا: َنِم عي َّ أم خال ُ د ر َّب ٍساع ِ لقاعد أ َّ ولم يلبث الحسني أن رد ً ها إلى زوجها قائلا: «ما أدخلتها في بيتي وتحت نكاحي رغبة في مالها ولا جمالها، ولكن أردت إحلالها لبعلها.» َّ فإن صحت هذه القصة وهي متواترة في تواريخ الثقات، فقد تم بها ما نقص من النفرة والخصومة بني الرجلني، وكان قيام يزيد على الخلافة يوم فصل في هذه الخصومة لا يقبل الإرجاء، وكان بينهما كما أ
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عمر




عدد المساهمات : 1369
تاريخ التسجيل : 28/09/2008

ابو الشهداء عباس العقاد Empty
مُساهمةموضوع: رد: ابو الشهداء عباس العقاد   ابو الشهداء عباس العقاد Emptyالثلاثاء يناير 11, 2022 10:18 am

الفصل الثالث الخصمان ُموازنة لخص املقريزي املنافسة التي بني الهاشميني والأمويني في بيتني فقال: عدبشمس دق ر أضمت لبني اه مش رحبًا يشيُب منا ه و اللُد ي ُ فابن ٍحرب ُ للمصطفى، وابن ٍدهن لعلي، وللحسيِن يزيُد ً وسنعرض في ختام هذا الفصل عرض ً ا موجزا لهذه املقابلة املتسلسلة بني أفراد الأسرتني لتحقيق الرأي فيها، ولكننا نجتزئ هنا باملقابلة بني الخصمني املتصاولني من ٍ وعبد شمس في شخصي الحسني ويزيد؛ فأيٍّا كان امليزان الذي يوزن به كل من هاشم الرجلني، فلا مراء البتة في خري الرجلني. وما من رجل فاز حيث ينبغي أن يخيب، كما قد فاز يزيد بن معاوية في حربه للحسني، وما اختصم رجلان كان أحدهما أوضح حقٍّ ً ا وأظهر فضلا من الحسني في خصومته ليزيد بن معاوية. واملوازنة بني هذين الخصمني هي في بعض وجوهها موازنة بني الهاشميني والأمويني من بداءة الخلاف بني الأسرتني، وهي موازنة حفظت كفتيها على وضعهما ح، إلا ظهرت فيه الخصال الأموية ٌّ زهاء سبعة قرون، فلم يظهر في هذه القرون أموي قُ املعهودة في القبيلة بأسرها، ولم يظهر في خلالها هاشمي قح، إلا رأيت فيه ملامح من تلك الخصال التي بلغت مثلها الأعلى في محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم. و أبو الشهداء الحسني بن علي ولكن الأسرتني تختلفان في الأخلاق والأمزجة وإن اتحدتا في الأرومة؛ فبنو هاشم في الأغلب الأعم مثاليون أريحيون ولا سيما أبناء فاطمة الزهراء، وبنو أمية في الأغلب الأعم عمليون نفعيون، ولا سيما الأصلاء منهم في عبد شمس من الآباء والأمهات. وتفسري هذا الاختلاف مع اتحاد الأرومة غري عسري؛ فإن الأخوين في البيت الواحد ً قد يختلفان في الأخلاق والأعمال، كما يختلف الغريبان من أمتني بعيدتني، تبعا لاختلاف سلسلة املرياث في الأصول والفروع، على ذلك النحو الذي يأذن أحيانًا باختلاف الألوان وامللامح في نسل واحد، تأخذ كل شعبة منه بناحية من نواحي الوراثة. ومن الثابت الذي لا نزاع فيه أن عبد املطلب وأمية كانا يختلفان حتى في الصورة والقامة وامللامح. وفي نسل أمية شبهة نشري إليها ولا نزيد، فهي محل الإشارة واملراجعة في هذا املقام. َّ دخل دغفل النسابة على معاوية فقال له: «من رأيت من عليه قريش؟» فقال: «رأيت عبد املطلب بن هاشم وأمية بن عبد شمس.» فقال: «صفهما لي.» فقال: «كان عبد املطلب أبيض، مديد القامة، حسن الوجه، في جبينه نور النبوة وعز امللك، يطيف به ْسُد ً غاب.» قال: «فصف أمية.» قال: «رأيته شيخا قصريًا، نحيف ُ عشرة من بنيه كأنهم أ ً الجسم ضريرا، يقوده عبده ذكوان.» فقال معاوية: «مه! ذاك ابنه أبو عمرو.» فقال ُ دغفل: «ذلك شيء قلتموه بعد وأحدثتموه. وأما الذي عرفت فهو الذي أخبرتك به.» ً وذكر الهيثم بن عدي في كتاب املثالب أن أبا عمرو بن أمية كان عبدا لأمية اسمه ذكوان فاستلحقه، ونقل أبو الفرج الأصفهاني — وهو من الأمويني — ما تقدم فلم يعرض له بتفنيد. ووضح الفرق بني بني هاشم وبني أمية في الخلائق واملناقب في الجاهلية قبل ِ الإسلام. فكان الهاشميون سر ً اعا إلى النجدة ونصرة الحق والتعاون عليه. ولم يكن بنو أمية كذلك، فتخلفوا عن حلف الفضول الذي نهض به بنو هاشم وحلفاؤهم، وهو الحلف الذي اتَّفق فيه نخبة من رؤساء قريش «ليكونُ َّن مع املظلوم حتى يؤدوا ُع َّن القوي من َّن أنفسهم بالتآسي في املعاش والتساهم في املال، وليمنَ ُ إليه حقه، وليأخذُ ظلم الضعيف والقاطن من عنف الغريب»، واتفقوا على هذا الحلف لأن العاص بن وائل اشترى بضاعة من رجل زبيدي ولواه بثمنها، فنصروا الرجل الغريب على القرشي وأعطوه حقه. 28 الخصمان وملا تنافر عبد املطلب وحرب بن أمية إلى نفيل بن عدي، قضى لعبد املطلب وقال لحرب: أبوك ُمعاهر وأبوه عف وذاد الفيل عن بلد الحرام يشري إلى فيل أبرهة الذي أغار به على مكة، وقال عن أمية إنه «معاهر»؛ لأنه ُ كان يتعرض للنساء، وقد ضرِ َب بالسيف مرة لأنه تعرض لامرأة من بني زهرة، وكان َّ له تصرف عجيب في علاقات الزواج والبنوة، فاستلحق عبده ذكوان وزوجه امرأته في ط صنع هذا الصنيع. حياته، ولم يعرف سيد من سادات الجاهلية قَ ُّ اختلاف النشأة وندع اختلاف الطبائع ومغامز النسب، ثم ننظر في اختلاف النشأة والعادة — مع اختلاف الخلقة الجسدية — فنرى أنهما صالحتان لتفسري الفارق بني أبناء هاشم وأبناء عبد شمس بعد جيلني أو ثلاثة أجيال. فقد كان بنو هاشم يعملون في الرئاسة الدينية، وبنو عبد شمس يعملون في ُ التجارة أو الرئاسة السياسية، وهما ما هما في الجاهلية من الربا واملماكسة والغبن والتطفيف والتزييف، فلا عجب أن يختلفا هذا الاختلاف بني أخلاق الصراحة وأخلاق املساومة، وبني وسائل الإيمان ووسائل الحيلة على النجاح. ويتفق كثريًا في الكهانات أن يتصف رؤساء الأديان بصفات الرياء والدهاء والعبث بأحلام الأغرار والجهلاء، ولكنهم يتصفون بهذه الصفة حني يعلمون الكذب فيما ِّ يمارسون من شعائر الكهانة ومظاهر العبادة، ويتخذونها صناعة يروجونها ملنفعتهم أو ملا يقدرون فيها من منفعة أولئك الأغرار والجهلاء. أما أبناء هاشم فلم يكونوا من طراز أولئك الكهان املشعوذين، ولا كانوا من ِّ املحتالني بالكهانة على خداع أنفسهم وخداع املؤمنني واملصدقني؛ بل كانوا يؤمنون بالبيت ورب البيت، وبلغ من إيمانهم بدينهم أن عبد املطلب جد النبي صلى الله عليه وسلم أوشك أن يذبح ابنه فدية لرب البيت؛ لأنه نذر «لئن عاش له عشرة بنني لينحرن أحدهم عند َّ الكعبة»، ولم يتحلل من نذره حتى استوثق من كلام العرافة بعد ر أبو الشهداء الحسني بن علي والأخلاق املثالية توائم الرئاسة الدينية التي يدين أصحابها بما يدعون إليه، فإن لم تكن في بني هاشم موروثة من معدن أصيل في الأسرة، فهي أشبه بسمت الرئاسة الدينية ا ً والعقيدة املتمكنة والشعائر املتبعة جيلا ُّ بعد جيل، وهي أخلق أن تزداد في الأسرة تمكنً بعد ظهور النبوة فيها، وأن يتلقاها بالوراثة والقدوة أسباط النبي وأقرب الناس إليه. وإنك لتنحدر مع أعقاب الذرية في الطالبيني — أبناء علي والزهراء — مائة سنة ٍ ومائتي سنة وأربعمائة سنة، ثم يبرز لك رجل من رجالها فيخيل إليك أن هذا الزمن ط بني الفرع وأصله في الخصال والعادات، كأنما هو بعد أيام الطويل لم يُبِْع ْد قَ ُّ معدودات لا بعد املئات وراء املئات من السنني، ولا تلبث أن تهتف عجبًا: إن هذه لصفات علوية لا شك فيها؛ لأنك تسمع الرجل منهم يتكلم ويجيب من يكلمه، وتراه يعمل ويجزي من عمل له، فلا تخطئ في كلامه ولا في عمله تلك الشجاعة والصراحة، ولا ذلك الذكاء والبلاغ املسكت، ولا تلك اللوازم التي اشتهر بها عليٌّ وآله وتجمعها في كلمتني اثنتني تدلان عليها أو في دلالة، وهما: «الفروسية والرياضة». ُ طبع صريح، ولسان فصيح، ومتانة في الأسر يستوي فيها الخلق والخلُق، ونخوة ِة املروءة والإباء. ُ لا تبالي ما يفوتها من النفع إذا هي استقامت على سنَّ فمن يحيى بن عمر، إلى علي بن أبي طالب، خمسة أو ستة أجيال. ولكن يحيى بن عمر يوصف لك، فإذا هو صورة مصغرة من صور علي بن أبي طالب على نحو من الأنحاء، فمن أوصافه التي وصفه بها الكاتب الأموي أبو الفرج الأصبهاني أنه كان ً «رجلا ً فارس ً ا، شجاع ً ا، شديد البدن، مجتمع القلب، بعيدا عن رهق الشباب وما يعاب به مثله». ً ومما روي عنه «أنه كان مقيما ببغداد، وكان له عمود حديد ثقيل يكون معه في منزله، وربما سخط على العبد أو الأمة من حشمه؛ فيلوي العمود في عنقه فلا يقدر أحد أن يحله عنه حتى يحله يحيى رضي الله عنه». َعرض عليه وملا ضايقه الأمراء وضنوا عليه بجرايته في بيت املال، كان يجوع ويُ الطعام فيأباه ويقول: «إن عشنا أكلنا.» ثم ثار وبلغت أنباء ثورته بغداد، فأقبلت عليهم الجموع املحشودة لقتاله، وأسرع إليه بعض الأعراب فصاح به: «أيها الرجل أنت مخدوع، هذه الخيل قد أقبلت.» فوثب َّ إلى متن فرسه فجال به، وحمل على قائد القوم فضربه ضربة بسيفه على وجهه، فولى ً منهزما وتبعه أصحابه، فجلس معهم ساعة وهو لا يبالي ما يكون.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عمر




عدد المساهمات : 1369
تاريخ التسجيل : 28/09/2008

ابو الشهداء عباس العقاد Empty
مُساهمةموضوع: رد: ابو الشهداء عباس العقاد   ابو الشهداء عباس العقاد Emptyالثلاثاء يناير 11, 2022 10:23 am

ن ِت َل بعد ذلك، اتهم الناس صاحبه الهيضم العجلي أنه كان وملا تكاثرت عليه الجموع وقُ ً مدسوسا عليه، وأنه غرر به لينكص عنه عند احتدام القتال، فأقسم الرجل بالطلاق إنه لم يكن له في الهزيمة صنع مدبر. قال: «وإنما كان يحيى يحمل وحده ويرجع، فنهيته َع في وسط عن ذلك فلم يقبَ ُ ل، وحمل مرة كما كان يفعل، فبصرت عيني به وقد صرِ ِت َل انصرفت بأصحابي.» عسكرهم، فلما رأيته قُ ويحيى الشهيد هذا هو الذي قال ابن الرومي جيميته املشهورة في وصف قتاله ومقتله، وهي طويلة، منها قوله يخاطب أمراء زمانه: فلو شهد الهيا ج بقلب أبيكم غداة الْتقى الجمعان والخيل تم ُ عج1 َّد هاربًا لأعطى يد العاني أو ارتَ 2 المهيُج كما ارتد بالقاع الظليم ولكنه ما زال يغشى بنحره شابالحرب حتى قال ذو الجهل: أه ُ وج وحاشى له من تلكُم غير أنه أبى خطة الأمر الذي هو أسمُج وأين به عن ذاك؟ لا أين، إنه إليه بعرقيه الزكيين مح ُ رج كأنى به كالليِث يحمي عرينه وأشباله لا يزدهيه المهجهُج أبو الشهداء الحسني بن علي وقد أصاب ابن الرومي الوصف والتعليل، فما كان كل من يحيى ولا أسلافه من قبله إلا عليٍّا صغريًا يتأسى بعليٍّ الكبري، أو غصنًا زاكيًا يخرج من دوحته الكبرى، «والغصن من حيث يخرج» كما قال، ولولا قوة هذه الطبائع في أساس الأسرة الطالبية ملا انحدرت على هذه الصورة الواضحة بعد ستة أجيال، فنحن نرى يحيى بن عمر بعد هذه الأجيال — وهو بعموده الحديدي وجرأته التي لا تتزعزع ويقينه الذي لا يلوي به الإغراء والوعيد — كأنما هو نسخة أخرى من جده الكبري الذي يحمل باب خيبر وقد أعيا حمله الرجال، د ً وقد تهيبه مئات الأبطال، ويتوسط الصفوف حاسرا وقد برزوا له ُ وينهد لعمرو بن وٍّ ِبش َّكِة القتال ودروع النزال. ولم يكن لبني أمية — على نقيض هذا — نصيب ملحوظ من الخلائق املثالية والشمائل الدينية، ولا كان ظهور النبوة في أسرة منافسة لأسرتهم من شأنه أن يعزز مناقبها فيهم كما يعتز بها أبناء بيتها وفروع أرومتها؛ بل لعله كان من شأنه أن يجنح بهم من طرف خفي إلى صفات تقابل تلك الصفات، ومزايا تعوض لهم ما فاتهم من تلك املزايا، فتمكنت فيهم قبل ظهور النبوة وبعدها خلائقهم العملية التي دربتهم عليها املساومات التجارية، وراضهم عليها مراس املطامع السياسية، فاشتهر أناس من رءوسهم بمحاسن هذه الخلائق ومعائبها على السواء، وشاعت عنهم صفات الحلم والصبر والحنكة والدهاء كما شاعت عنهم صفات املراوغة والجشع والإقبال على الترف ومناعم الحياة. ولقد تقابل الحسني بن علي ويزيد بن معاوية في تمثيل الأسرتني، كما تقابلا في كثري من الخلائق والحظوظ، ولكنهما تفاوتا في تمثيل أسرتيهما كما تفاوتا في غري ذلك من ً وجوه الخلاف بينهما، فكان الحسني بن علي نموذجا لأفضل املزايا الهاشمية ولم يكن ً يزيد بن معاوية نموذجا لأفضل املزايا الأموية؛ بل كان فيه الكثري من عيوب أسرته، ولم يكن له من مناقبها املحمودة إلا القليل. ِّ وليس بنا هنا أن نفصل القول في أحوال كل من الرجلني وخصائص كل من النموذجني، ولكننا نجتزئ منهما بما يملأ الكفتني في هذا امليزان، وهو ميزان الأريحية والنفعية في حادث كبري من حوادث التاريخ العربي يندر نظريه في جميع التواريخ. 32 الخصمان مكانة الحسني وإذا كانت املعركة كلها هي معركة الأريحية والنفعية، فاملزيَّة الأولى التي ينبغي توكيدها ُ هنا للحسني بن عليٍّ — رضي الله عنه — هي مزية نسبه الشريف ومكانه من محبة النبي صلى الله عليه وسلم. ِّ إن املؤرخ الذي يكتب هذا الحادث قد يكون عربيٍّ ً ا مسلما أو يكون من غري العرب ً واملسلمني، وقد يؤمن بمحمد أو ينكر محمدا وغريه من الأنبياء، ولكنه يخطئ دلالة الحوادث التاريخية إذا استخف بهذه املزية التي قلنا إنها أحق مزايا الحسني بالتوكيد في الصراع بينه وبني يزيد. فليس املهم أن يؤمن املؤرخون بقيمة ذلك النسب الشريف في نفوسهم أو قيمته ِّ في علوم العلماء وأفكار املفكرين، ولكنما املهم أن أتباع يزيد كانوا يؤمنون بحق ذلك النسب الشريف في الرعاية واملحبة، وأنهم مع هذا غلبتهم منافعهم على شعورهم فكانوا من حزب يزيد ولم يكونوا من حزب الحسني. فلولا هذه املزية في الحسني ملا وضح الصراع بني الأريحية والنفعية عند الفريقني، ولا كان املصطرعون هنا وهناك من مزاجني مختلفني، ولا كان للمعركة كلها تلك الدلالة التي كشفت النفس الإنسانية في جانبني منها قويني، يتنازعان حوادث الأمم والأفراد من زمان بعيد، وسيظلان على نزاعهما هذا إلى زمان بعيد. ولقد كان الحسني بن عليٍّ بهذه املزية أحب إنسان إلى قلوب املسلمني، وأجدر إنسان أن تنعطف إليه القلوب. كان النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي سماه، وسمى من قبله أخاه. قال عليٌّ رضي الله عنه: ملا ُولَِد الحسن سميته حربًا، فجاء رسول الله فقال: «أروني ابني، ما سميتموه؟» قلت: «حرب!» فقال: «بل هو حسن.» فلما ولد الحسني سميته حربًا، فجاء رسول الله فقال: «أروني ابني، ما سميتموه؟» قلت: «حرب!» فقال: «بل هو حسني.» وذهب إلى الحسني وإخوته كل ما في فؤاد النبي صلى الله عليه وسلم من محبة البنني، وهو مشوق الفؤاد إلى الذرية من نسله. فكان — عليه السلام — لا يطيق أذاهما، ولا يحب أن يستمع إلى بكاء منهما في طفولتهما، على كثرة ما يبكي الأطفال الصغار، وخرج من ً بيت عائشة يوما، فمر على بيت فاطمة فسمع حسينًا يبكي، فقال: «ألم تعلمي أن بكاءه يؤذيني؟» 33 أبو الشهداء الحسني بن علي َّ وكان يقول لها: «ادعي إلي ابني.» فيشمهما ويضمهما إليه، ولا يبرح حتى يُضحكهما ويتركهما ضاحكني. وروى أبو هريرة أنه كان عليه السلام يدلع لسانه للحسني، فريى الصبي حمرة لسانه فيهش إليه، وكان عيينة بن بدر، شهده في بعض هذه املجالس فقال متعجبًا: «يصنع هذا بهذا؟ فوالله إن لي الولد ما قبلته قط!» قال عليه السلام: «من لا يرحم، لا يُرحم!» َّ ا، فوضعه ثم كبر وخرج ليلة في إحدى صلاتي العشاء وهو حامل حسنًا أو حسينً للصلاة فأطال سجدة الصلاة. قال راوي الحديث: «فرفعت رأسي فإذا الصبي على ظهر رسول الله وهو ساجد فرجعت إلى سجودي، فلما قضى الصلاة قيل يا رسول الله: إنك سجدت بني ظهري صلاتك سجدة أطلتها حتى ظننا أنه قد حدث أمر أو أنه يوحى إليك.» قال: «كل ذلك لم يكن، ولكن ابني ارتحلني فكرهت أن أعجله.» وقام عليه السلام يخطب املسلمني، فجاء الحسن والحسني وعليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران، فنزل عليه السلام من املنبر، فحملهما ووضعهما بني يديه نَةٌ﴾ نظرت إلى هذين الصبيني يمشيان ُك ْم ِفتْ ْوَلادُ َ ْمَوالُ ُك ْم َوأ َ َما أ ثم قال: «صدق الله! ﴿إِنَّ ويعثران، فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما.» ِبيَُّه كما يحب املؤمنون ولا يوجد مسلم في العصر القديم أو العصر الحديث يحب نَ أنبياءهم، ثم يصغر عنده حساب هذا الحنان الذي غمر به قلبه الكريم سبطيه وأحب الناس إليه. فبهذا الحنان النبوي قد أصبح الحسني في عداد تلك الشخوص الرمزية التي تتخذ منها الأمم وامللل عنوانًا للحب، أو عنوانًا للفخر، أو عنوانًا للألم والفداء. فإذا بها محبوب كل فرد ومفخرته، وموضع عطفه وإشفاقه، كأنما تمت إليه وحده بصلة القرابة أو بصلة املودة. وقد بلغ الحسني بهذا الحنان — مع الزمن — مبلغه من تلك املكانة الرمزية فأوشك بعض واصفيه أن يُلحقه في حمله وولادته ورضاعه بمواليد املعجزات. فقال بعضهم: «لم يولد مولود لستة أشهر وعاش إلا الحسني وعيسى ابن مريم.» وقال آخرون: إنه — رضي الله عنه — لم ترضعه أمه ولم ترضعه أنثى «واعتلَّت فاطمة ملا ولدت الحسني وجف لبنها، فطلب رسول الله مرضعة فلم يجد، فكان يأتيه فيلقمه ً ا يغذيه، ففعل ذلك أربعني يوما وليلة، إبهامه فيمصه، ويجعل الله في إبهام رسوله رزقً فأنبت الله — سبحانه وتعالى — لحمه من لحم رسول الله.» 34 الخصمان ُوروي عنه غري ذلك كثري من الأساطري التي تحيط بها الأمم تلك الشخوص الرمزية ً التي تعزها وتغليها فتلتمس لها مولدا غري املولد املألوف، والنشأة املعهودة، وتلحقها أو توشك أن تلحقها بالخوارق واملعجزات. ً ولقد كانت حقيقة الحسني الشخصية كفؤا لتلك الصورة الرمزية التي نسجتها حوله الأجيال املتعاقبة قبل أن يرى منه أبناء جيله غري تلك الحقيقة. َ فكان ملء العني والقلب في خلق وخلق، وفي أدب وسرية، وكانت فيه م َش ِابُه من َجِّدِه وأبيه، إلا أنه كان في شدته أقرب إلى أبيه. قال علي — رضي الله عنه — مشريًا إلى الحسن: «إن ابني هذا سيخرج من هذا الأمر، وأشبه أهلي بي الحسني.» واتفق بعض الثقات على أن «الغالب على الحسن الحلم والأناة كالنبي، وعلى الحسني الشدة كعليٍّ». صفات الحسني وقد تعلَّم في صباه خري ما يتعلمه أبناء زمانه من فنون العلم والأدب والفروسية، وإليه ِّ يرفع كثري من املتصو ِّ فة وحكماء الدين نصوصهم التي يعولون عليها ويردونها إلى عليِّ بن أبي طالب رضي الله عنه. وقد أوتي ملكة الخطابة من طلاقة لسان وحسن بيان وغنة صوت وجمال إيماء، َجل قوله في توديع أبي ذر وقد أخرجه عثمان من املدينة بعد أن أخرجه ومن كلامه املرتَ معاوية من الشام: «يا عماه! إن الله قادر على أن يغري ما قد ترى، والله كل يوم في َّ شأن، وقد منعك القوم دنياهم ومنعتهم دينك، وما أغناك عما منعوك وأحوجهم إلى ما منعتهم! فاسأل الله الصبر والنصر، واستعذْ به من الجشع والجزع، فإن الصبر من الدين والكرم، وإن الجشع لا يقدم رزقً ً ا والجزع لا يؤخر أجلا.» ٍ وكان يومئذ في نحو الثلاثني من عمره فكأنما أودع هذه الكلمات شعار حياته كاملة منذ أدرك الدنيا إلى أن فارقها في مصرع كربلاء. وتواترت الروايات بقوله الشعر في أغراض الحكمة وبعض املناسبات البيتية، ومن ذلك هذه الأبيات: َ اغن عن المخلوق بالخ ِ الق تَ غن
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عمر




عدد المساهمات : 1369
تاريخ التسجيل : 28/09/2008

ابو الشهداء عباس العقاد Empty
مُساهمةموضوع: رد: ابو الشهداء عباس العقاد   ابو الشهداء عباس العقاد Emptyالثلاثاء يناير 11, 2022 10:26 am

أبو الشهداء الحسني بن علي ِ واسترزق الرحمن من فضلِه فليس غر ي اله ل م ِ ن رازق اثق من ظن أن الناس يغو نهن فليس بر الحمن بو ال ِ ومنه هذان البيتان في زوجته وابنته: لعمرك إنني لأح ً ب دار ُ ا تكون بها سكينة والرباب أحبهما وأبذل َّلك مالي وليس لعاتب عندي عتُ اب وهما — سواء صحت نسبتهما إليه أو لم تصح — معبران عن خلقه في بيته وبني أهله، فقد كان من أشد الآباء حدبًا على الأبناء وأشد الأزواج عطفً ا على النساء، ومن ِك َر ْت في البيتني السابقني خطبها أشراف وفاء زوجاته بعد مماته أن الرباب هذه التي ذُ ً قريش بعد مقتله فقالت: «ما كنت لأتخذ حما بعد رسول الله» وبقيت سنة لا يظلها سقف حتى فنيت وماتت، وهي لا تفتر عن بكائه والحزن عليه. خلق كريم َّ وقد سن ُ الحسني ملن بعده سنَّة في آداب الأسرة تليق بالبيت الذي نشأ فيه، ووكل إليه أن يرعى له حقه، ويوجب على الناس مهابته وتوقريه، فهو على فضله وذكائه وشجاعته ورجحانه على أخيه الحسن في مناقب كثرية ومآثر عدة كان يستمع إلى رأي الحسن ولا َ يسوءُه باملراجعة أو املخالفة. فلما ه َّم الحسن بالتسليم ملعاوية كان ذلك على غري رضى من الحسني. فلم يوافقه وأشار عليه بالقتال، فغضب الحسن وقال له: «والله لقد هممت أن أسجنك في بيت وأطني عليك بابه، حتى أقضي بشأني هذا وأفرغ منه ثم أخرجك.» فلم يراجعه الحسني بعدها وآثر الطاعة والسكوت. َ ومن رعايته لسنن الأسرة ووصايا الأبوة أنه ركبه ديٌْن فساومه معاوية بمائتي ٍ ألف دينار أو بمبلغ جسيم من املال على عني «أبي نيزر» فأبى أن يبيعها مع حاجته إلى بعض ما عرض عليه؛ لأن أباه تصدق بمائها لفقراء املدينة، ولو أنه باعها لوقفها معاوية على أولئك الفقراء. َ وقد أخذ نفسه بسْمت الوقار في الخصمان فقال: «إذا دخلت مسجد رسول الله فرأيت حلقة فيها قوم كأن رءوسهم الطري، فتلك ً حلقة أبي عبد الله مؤتزرا إلى أنصاف ساقيه.» ولم يذكر عنه قط أنه كان يواجه الناس بتخطئة وهو يعلمهم ويبصرهم بشئون دينهم، إلا أن تكون مكابرة أو لجاجة فله في جواب ذلك أشباه تلك القوارص التي كانت تؤثَر عن أبيه. وما لم تكن مكابرة أو لجاجة فهو يحتال على تصحيح الخطأ حيلة لا غضاضة فيها على املخطئني. فمن آدابه وآداب أخيه في ذلك أنهما رأيًا أعرابيٍّا يخفف الوضوء والصلاة فلم يشاءا أن يجبهاه بغلطه، وقالا له: «نحن شابان وأنت شيخ ربما تكون أعلم بأمر الوضوء والصلاة منا، فنتوضأ ونصلي عندك، فإن كان عندنا قصور تعلمنا.» فتنبه الشيخ إلى ً غلطه دون أن يأنف من تنبيههما إليه، ومر يوما بمساكني يأكلون فدعوه إلى الطعام على عادة العرب، فنزل وأكل معهم ثم قال لهم: «قد أجبتكم فأجيبوني.» ودعاهم إلى الغداء في بيته. ورويت الغرائب في اختبار حذقه بالفقه واللغة كما رويت أمثال هذه الغرائب في امتحان قدرة أبيه عليهما السلام. فقيل: إن أعرابيٍّا دخل املسجد الحرام فوقف على الحسن — َّ رضي الله عنه — وحوله حلقة من مريديه فسأل عنه، فقال ملا عرفوه به: «إياه أردت. جئت لأطارحه الكلام، وأسأله عن عويص العربية.» فقال له بعض جلسائه: «إن كنت جئت لهذا فابدأ بذلك الشاب.» وأومأ إلى الحسني عليه السلام، فلما سلم على الحسني وسأله عن حاجته قال: «إني جئتك من الهرقل والجعلل والأيتم والهمهم.» فتبسم الحسني وقال: يا أعرابي! لقد تكلمت بكلام ما يعقله إلا العاملون. ً فأجابه الأعرابي قائلا يريد الإغراب: وأقول أكثر من هذا، فهل أنت مجيبي على قدر كلامي؟ ثم أذن له الحسني فأنشد أبياتًا تسعة، منها: هفا قلبي إلى اللهو و أبو الشهداء الحسني بن علي ً فأجابه الحسني مرتجلا بتسعة أبيات في معناها ومن وزنها، يقول منها: فما رسم شجاني قد محت آيات رسمه ي سفور درجت ذيلـ ي نـ فيوبغاء قاعهي هنوف رمجف تترى على تلبد ي وثبه ي إلى آخر الأبيات، ثم فسر له ما أراد من الهرقل وهو ملك الروم، والجعلل وهو قصار النخل، والأيتم وهو بعض النبات، والهمهم وهو القليب الغزير املاء، وفي هذا الكلمات أوصاف البلاد التي جاء منها وإشارة إليها. ً فقال الأعرابي: «ما رأيت كاليوم أحسن من هذا الغلام كلاما، وأذرب لسانًا، ولا أفصح منه منطقً ا.» وتلك رواية من روايات على منوالها، إن لم تنبئ بما وقع فهي منبئة بما تداوله الناس من شهرة الحسني في صباه الباكر بالعلم والفصاحة. ولخبرته بالكلام وشهرته بالفصاحة، كان الشعراء يرتادونه وبهم من الطمع في ِ ْ إصغائه أكبر من طمعهم في عطائه، ولكنه على هذا كان يجري معهم على شرعة ذوي ُرُه ْم على نفسه في ْؤثِ الأقدار والأخطار من أنداده، فيبذل لهم الجوائز ما وسعه البذل، ويُ خصاصة الحال. وقد لامه أخوه الحسن في ذلك، فكتب إليه: «إن خري املال ما وقي به العرض.» إلا أنه في الواقع لم يكن يعطي لوقاية العرض وكفى، ولكنه كان يعطي من قصده من ذوي الحاجات ولا يخيب رجاءً ملن استعان به على مروءة. وفاء وشجاعة وقد اشتهر مع الجود بصفتني من أكرم الصفات الإنسانية وأليقهما ببيته وشرفه، وهما: الوفاء والشجاعة. فمن وفائه أنه أبى الخروج على معاوية بعد وفاة أخيه الحسن؛ لأنه عاهد معاوية ً على املساملة، وقال لأنصاره الذين حرضوه على خلع معاوية إن بينه وبني الرجل عهدا ً وعقد ً ا لا يجوز له نقضه حتى تمضي املدة، وكان معاوية يعلم وفاءه وجوده معا، فقال ً لصحبه يوما وقد أرسل الهدايا إلى وجوه املدينة من كسى وطيب وصلات: «إن شئتم أنبأناكم بما الخصمان ِت َل مع أبيه بصفني بقي من حضره ولا ينتظر غائبًا، وأما الحسني: فيبدأ بأيتام من قُ فإن بقي شيء نحر به الجزر وسقى به اللبن.» وشجاعة الحسني صفة لا تستغرب منه؛ لأنها «الشيء من معدنه» كما قيل، وهي ِ فضيلة ورثها عن الآباء وأورثها الأبناء بعده، وقد شهد الحروب في إفريقية الشمالية ً وطبرستان والقسطنطينية، وحضر مع أبيه وقائعه جميعا من الجمل إلى صفني، وليس في بني الإنسان من هو أشجع قلبًا ممن أقدم على ما أقدم عليه الحسني في يوم كربلاء. وقد تربَّى للشجاعة كما تلقاها في الدم بالوراثة، فتعلم فنون الفروسية كركوب الخيل واملصارعة والعدو من صباه، ولم تفته ألعاب الرياضة التي تتم بها مرانة الجسم على الحركة والنشاط، منها لعبة تشبه «الجولف» عند الأوروبيني كانوا يسمونها املداحي: جميع مدحاة، وهي أحجار أمثال القرصة يحفرون في الأرض حفريةً ويرسلون تلك الأحجار، فمن وقع حجره في الحفرية فهو غالب. أما عاداته في معيشته: فكان ملاكها لطف الحس وجمال الذوق والقصد في تناول كل مباح. كان يحب الطيب والبخور، ويأنق للزهر والريحان. وروى أنس بن مالك أنه كان عنده فدخلت عليه جارية بيدها طاقة من ريحان فحيته بها. فقال لها: «أنت حرة لوجه الله تعالى.» فسأله أنس متعجبًا: «جارية تجيئك ِحيٍَّة ِم بتَ ُ ا حيِّيتُ َ بطاقة ريحان فتعتقها؟!» قال: «كذلك أدبنا الله. قال تبارك وتعالى: ﴿وإِذَ د َوها﴾ وكان أحسن منها عتقها.» ُّ ْو ُر َ َها أ ْح َس َن ِمنْ َ ِ وا بأ ُّ َحي فَ وكان يميل للفكاهة ويأنس في أوقات راحته لأحاديث أشعب وأضاحيكه، ولكنه على شيوع الترف في عصره لم يكن يقارب منه إلا ما كان يجمل بمثله؛ حتى تحدث املتحدثون أنه لا يعرف رائحة الشراب. وكانت له صلوات يؤديها غري الصلوات الخمس، وأيام من الشهر يصومها غري ً أيام رمضان، ولا يفوته الحج عاما إلا لضرورة. ً وقد عاش سبعا وخمسني سنة بالحساب الهجري، وله من الأعداء من يصدقون ِ ويكذبون. فلم يعبْه أحد منهم بمعابة، ولم يملك أحد منهم أن ينكر ما ذاع من فضله، حتى حار معاوية بعيبه حني استعظم جلساؤه خطاب الحسني له، واقترحوا عليه أن يكتب إليه بما يصغره في نفسه، فقال: إنه كان يجد ما يقوله في عليٍّ، ولكن لا يجد ما يقوله في حسني. تلك جملة القول في سرية أحد الخصمني. 39 أبو الشهداء الحسني بن علي ُخلُق يزيد ويقف خصمه أمامه موقف املقابلة واملناقضة لا موقف املقارنة واملعادلة في معظم خلائقه وعاداته وملَ َكاته وأعماله. فيزيد بن معاوية عريق النسب في بني عبد مناف ثم في قريش، ولكن الأصدقاء والخصوم واملادحني والقادحني متفقون على وصف الخلائق التي اشتهر بها أبناء هذا الفرع من عبد مناف. وأشهرها الأثَرة، وأحمد ما يحمد منها أنها تنفع الناس من طريق النفع لأصحابها، وندر من وجوه الأمويني في الجاهلية أو الإسلام من اشتهر بخصلة ً تجلب إلى صاحبها ضررا أو مشقة في سبيل نفع الناس. وبيت أبي سفيان بيت سيادة مرعية لا مراء فيها. ولكن الحقيقة التي ينبغي أن نذكرها في هذا املقال أن معاوية بن أبي سفيان لم يكن لريث شيئًا من هذه السيادة التي كان قوامها كله وفرة املال؛ لأن أبا سفيان على ما يظهر قد أضاع ماله في حروب الإسلام، ولم يكن له من الوفر ما يبقى على كثرة الوارث، ُّ وروي أن امرأة استشارت النبي صلى الله عليه وسلم في التزوج بمعاوية فقال لها: «إنه صعلوك!» ُ كذلك ينبغي أن نذكر حقيقة أخرى في هذا املقام، وهي أن معاوية لم يكن من كتَّاب ُ الوحي كما أشاع خَّدام دولته بعد صدر الإسلام، ولكنه كان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم في عامة الحوائج وفي إثبات ما يُجبى من الصدقات وما يقسم في أربابها، ولم يسمع عن ثقة قط أنه كتب للنبي شيئًا من آيات القرآن الكريم. وعرفت ملعاوية خصال محمودة من خصال الجد والسيادة كالوقار والحلم والصبر ُ والدهاء، ولكنه على هذا كان لا يملك حلمه في فلتات تميد بامللك الراسخ، ومنها قتله َ حجر بن عدي وستة من أصحابه؛ لأنهم كانوا ينكرون س َّب عليٍّ وشيعته، فما زال بقية ً حياته يندم على هذه الفعلة ويقول: «ما قتلت أحد َ ا إلا وأنا أعرف فيم قتلته ما خلا ً حجرا فإني لا أعرف بأي ذنب قتلته.» وأم يزيد هي ميسون بنت مجدل الكلبية من كرائم بني كلب املعرقات في النسب، وهي التي كرهت العيش مع معاوية في دمشق، وقالت تتشوق إلى عيش البادية: ُ بس عب ٍ اءة وتَّر ق عين َّ ي أحب إلي ِ من لبس الشفوف لَلُ وبيت تخفق 
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عمر




عدد المساهمات : 1369
تاريخ التسجيل : 28/09/2008

ابو الشهداء عباس العقاد Empty
مُساهمةموضوع: رد: ابو الشهداء عباس العقاد   ابو الشهداء عباس العقاد Emptyالثلاثاء يناير 11, 2022 10:29 am

ومن هذه الأبيات قولها: وخرق من بني عمي فقير أحب َّ إلي نم علج عنِ يف! ً فأرسلها وابنها يزيد إلى باديتها، فنشأ يزيد مع أمه بعيدا عن أبيه. وقد أفاد من هذه النشأة البدوية بعض أشياء تنفع الأقوياء، ولكنها على ما هو مألوف ِضريُ ُهم وتُجهز على ما بقي من العزيمة فيهم. في أعقاب السلالات القوية تُ فكان ما استفاد من بادية بني كلب بلاغة الفصحى، وحب الصيد، وركوب الخيل، ورياضة الحيوانات ولا سيما الكلاب. وهذه صفات في الرجل القوي تزينه وتشحذ قواه، ولكنها في أعقاب السلالات — أو عكارة البيت كما يقال بني العامة — مدعاة إلى الإغراق في اللهو والولع بالفراغ؛ لأنها ً هي عنده كل شيء وليست مددا لغريها من كبار الهمم وعظائم الهموم. وهكذا انقلبت تلك الصفات في يزيد من املزية إلى النقيصة؛ فكان كلفه بالشعر الفصيح مغريًا له بمعاشرة الشعراء والندماء في مجالس الشراب، وكان ولعه بالصيد ً شاغلا يحجبه عن شواغل امللك والسياسة، وكانت رياضته للحيوانات مهزلة تُلحقه َّ بأصحاب البطالة من القر َّ ادين والفهادين، فكان له قرد يدعوه «أبا قيس» يلبسه الحرير ويطرز لباسه بالذهب والفضة، ويحضره مجالس الشراب، ويُركبه أتانًا في السباق، ويحرص على أن يراه سابقً ا مجليٍّا على الجياد، وفي ذلك يقول يزيد كما جاء في بعض الروايات: تمسك ا أبقيس بفل ض عنانا ه فليس عليها إن سقطت ضمُ ان َلا من رأى القرد الذي سبقت به جياد أمير المؤمنين أتُ ان أ َّمة حني قال فيما نسب إليه: «والله ما ً وقد يكون عبد الله بن حنظلة مبالغ َ ا في املذَ َرم ً ى بالحجارة من السماء. إن رجلا ينكح الأمهات خرجنا على يزيد حتى خفنا أن نُ ِ والبنات والأخوات ويشرب الخمر ويدع الصلاة، والله لو لم يكن معي أحد من الناس لأبليت الله فيه بلاءً حسنًا.» ولكن الروايات لم تُجمع على شيء كإجماعها على إدم أبو الشهداء الحسني بن علي ا إصابة الكبد من إدمان الشراب والإفراط في اللَّذَّات. ولا يعقل أن يكون هذا كله اختلاقً ً واختراعا من الأعداء؛ لأن الناس لم يختلقوا مثل ذلك على أبيه أو على عمرو بن العاص، ُ وهما بغيضان أشد البغض إلى أعداء الأمويني، ولأن الذين حاولوا ستره من خَّدام دولته لم يحاولوا الثناء على مناقب فيه تحل عندهم محل مساوئه وعيوبه، كأن الاجتراء على مثل هذا الثناء من وراء الحسبان. ُّف في يزيد من هزال في البنية أو سقم اعتراه كذلك السقم الذي ولم يكن هذا التخل يعتري أحيانً ً ا بقايا السلالات التي تهم بالانقراض والدثور، ولكنه كان هزالا في الأخلاق ً وسقما في الطويَّة، قعد به عن العظائم مع وثوق بنيانه وضخامة جثمانه واتصافه ببعض الصفات الجسدية التي تزيد في وجاهة الأمراء كالوسامة وارتفاع القامة، وقد أصيب في صباه بمرض خطري — وهو الجدري — بقيت آثاره في وجهه إلى آخر عمره، ولكنه مرض كان يشيع في البادية، ولم يكن من دأبه أن يَ ُقعد بكل من أصيب به عن الطموح والكفاح. ً وعلى فرط ولعه بالطراد حني يكون الطراد لهو ً ا وفراغا، كانت همته الوانية تفتر به عن ً الطراد حني تتسابق إليه عزائم الفرسان في ميادين القتال، ولو كان دفاعا عن دينه ودنياه. َّ فلما سري أبوه جيش سفيان بن عوف إلى القسطنطينية لغزو الروم ودفاعهم عن َ بلاد الإسلام — أو بلاد الدولة الأموية — تثاقل وتمارض حتى رحل الجيش، وشارع ِحن في طريقه ببلاء املرض والجوع، فقال يزيد: بعد ذلك أنه امتُ ما إن أبالي بما لاقت جو معُم ه ِ بالفرقدونة من حمى ومن موم إذا اتكأت على الأنماط رمتق فًا بر دي مران عندي أم كلو ثِم فأقسم أبوه حني بلغه هذان البيتان ليلحقن بالجيش ليدرأ عنه عار النكول والشماتة بجيش املسلمني بعد شيوع مقاله في خلواته. من أعجب عجائب املناقضة التي تمت في كل شيء بني الحسني ويزيد أن يزيد لم يختص بمزية محمودة تقابل نظائرها من مزايا الحسني، حتى في تلك الخصال التي ِّ تأتي بها الخصمان فلما تنازعا البيعة كان الحسني في السابعة والخمسني مكتمل القوة ناضج العقل وافي املعرفة بالعلم والتجربة، كان يزيد في نحو الرابعة والثلاثني لم يمارس من شئون الرعاة ولا الرعية ما ينفعه بني هؤلاء أو هؤلاء. ومزية السن هذه قد يطول فيها الأخذ والرد بني أبناء العصور الحديثة، ولكنها كانت تقطع القول في أمة العرب حيث نشأ الأسلاف والأخلاف على طاعة الشيوخ ورعاية الأعمار. وهذا على أن السابعة والخمسني ليست بالسن التي تعلو بصاحبها في الكبر حتى تسلبه مزية الفتوة ومضاء العزيمة. كذلك لا يقال إن «الوراثة املشروعة» في املمالك كان لها شأن يرجح بيزيد على الحسني في ميزان العروبة والإسلام. فقد كان توريث معاوية ابنه على غري وصية ً معروفة من السلف بدعة هرقلية كما سماها املسلمون في ذلك الزمان، ولم يكن معقولا أن العرب في صدر الإسلام يُوجبون طاعة يزيد لأنه ابن معاوية، وهم لم يوجبوا طاعة آل النبي في أمر الخلافة لأنهم قرابة محمد صلى الله عليه وسلم. فقد شاءت عجائب التاريخ إذن أن تقيم بني ذينك الخصمني قضية تتضح فيها ط في أمثالها من القضايا، وقد وجب أن ينخذل النزعة النفعية على نحو لم تتضحه قَ ُّ يزيد كل الخذلان لولا النزعة النفعية التي أعانته وهو غري صالح لأن يستعني بها بغري أعوان من بطانته وأهله، ولئن كان في تلك النزعة النفعية مسحة تشوبها من غري معدنها الوضيع لتكونن هي عصبية القبيلة من بني أمية، وهي هنا نزعة مواربة تعارض الإيمان الصريح ولا تسلم من الختل والتلبيس. لهذا شك بعض الناس في إسلام ذلك الجيل من الأمويني، وهو لا شك لا نرتضيه من وجهة الدلائل التاريخية املتفق عليها. فقد يخطر لنا الشك في صدق دين أبي سفيان؛ لأن أخباره في الإسلام تحتمل التأويلني، ولكن معاوية كان يؤدي الفرائض، ويتبرَّك بتراث النبي، ويوصي أن تُدفن معه أظافره التي حفظها إلى يوم وفاته. وليس بيسري علينا أن نفهم كيف ينشأ معاوية الثاني على تلك التقوى وذلك الصلاح وهو ناشئ في بيت مدخول الإسلام، يتصارح أهله أحيانًا بما ينم على الكفر به أو التردد فيه. ثَرة، ثم الخرق في السياسة، ثم التمادي في الخرق مع استثارة العناد إنما هي الأَ والعداء، وفي تلك الأثرة ولواحقها ما ينشئ املقابلة من أحد طرفيها في هذه الخصومة، ويتم املناظرة في شتى بواعثها بني ذينك الخصمني الخالد، ونعني بهما ها املثالية والواقعية، وما الحسني واليزيد إلا املثالان الشاخصان مهما للعيان
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عمر




عدد المساهمات : 1369
تاريخ التسجيل : 28/09/2008

ابو الشهداء عباس العقاد Empty
مُساهمةموضوع: رد: ابو الشهداء عباس العقاد   ابو الشهداء عباس العقاد Emptyالثلاثاء يناير 11, 2022 10:34 am

الفصل الرابع أعوان الفريقين رجال املعسكريْن كان الحسني في طريقه إلى الكوفة — يوم دعاه شيعته إليها — يسأل من يلقاهم عن أحوال الناس، فينبئونه عن موقفهم بينه وبني بني أمية، وقلما اختلفوا في الجواب. َ سأل الفرزدق وهو خارج من مكة — والفرزدق مشهور بالتشيُّع لآل البيت — فقال له: «قلوب الناس معك وسيوفهم مع بني أمية، والقضاء ينزل من السماء، والله يفعل ما يشاء.» ْع ِظَم ْت ُ رشوتهم ومِلئَ ْت ُ وقال له مجمع بن عبيد العامري: «أما أشراف الناس فقد أ لْب واحد عليك، وأما سائر الناس بعدهم فإن قلوبهم تهوي إليك َ غرائرهم، فهم أ ً وسيوفهم غدا مشهورة عليك.» ً وقد أصاب الفرزدق وأصاب مجمع بن عبيد، فإن الناس جميعا كانوا بأهوائهم وأفئدتهم مع الحسني بن عليٍّ ُ ما لم تكن لهم منفعة موصولة بملك بني أمية، فهم إذن عليه بالسيوف التي تشهرها الأيدي دون القلوب. ْع ِظَم ْت لهم من بعدها الوعود والآمال، فعلموا ُ ْع ِظَمِت الرشوة» للرؤساء، وأ ُ وقد «أ أن دوام نعمتهم من دوام ملك بني أمية. ِ فأما الرؤساء الذين كانت لهم مكانتهم بمعزل عن امللك القائم، فقد كانوا ينصرون حسينًا ولا ينصرون الأمويني، أو كانوا يصانعون الأمويني، ولا يبلغون باملصانعة أن يشهروا الحرب على الحسني. ومن هؤلاء هانئ بن عروة من كبار الزعماء في قبائل كندة، وشريك بن الأعور، وسليمان بن صرد الخزاعي، وكلاهما من ذوي الشرف والدين. أبو الشهداء الحسني بن علي بل كان من العاملني لبني أمية من يَ ِخُزُه ضمريه إذا بلغ العداء للحسني أشده، ُ فيترك معسكر بني أمية ليلوذ باملعسكر الذي كِت َب عليه املوت والبلاء. كما فعل الحر بن يزيد الرياحي في كربلاء، وقد رأى القوم يهمون بقتل الحسني ولا يقنعون بحصاره. فسأل عمر بن سعد قائد الجيش: «أمقاتل أنت هذا الرجل؟» فلما قال: «نعم.» ترك ُ الجيش الأموي وذهب يقترب من الحسني حتى داناه فقال له: «جِعلْ ُت فداك يا بن رسول الله. أنا صاحبك حبستك عن الرجوع وجعجعت بك في هذا املكان، وما ظننت أن القوم يردون عليك ما عرضته عليهم، ووالله لو علمت أنهم ينتهون بك إلى ما أرى ما َّ ركبت مثل الذي ركبت، وإني تائب إلى الله مما صنعت، فهل ترى لي من توبة؟» ِت َل، وآخر كلمة على فقبل الحسني توبته وجعل الرجل يقاتل من ساعتها حتى قُ َ لسانه فاه بها: «السلام عليك يا أبا عبد الله!» فمجمل ما يقال على التحقيق أنه لم يكن في معسكر يزيد رجل يعينه على الحسني إلا وهو طامع في مال، مستميت في طمعه استماتة من يهدر الحرمات، ولا يبالي بشيء منها في سبيل الحطام. ولقد كان ملعاوية مشريون من ذوي الرأي كعمرو بن العاص، واملغرية بن شعبة، وزيادة بن أبيه، وأضرابهم من أولئك الدهاة الذين يسميهم التاريخ أنصار دول وبناة عروش. وكان لهم من سمعة معاوية وذرائعه شعار يدارون به املطامع، ويتحللون من التأثيم. ً لكن هؤلاء بادوا جميع َ ا في حياة معاوية، ولم يبق ليزيد مشري واحد ممن نسميهم بأنصار الدول وبناة العروش، وإنما بقيت له شرذمة على غراره أصدق ما توصف به ِم ُروا بقتله ويقبضون الأجر فرحني. ُ أنها شرذمة جلادين، يقتلون من أ فكان أعوان معاوية ساسة وذوي مشورة. وكان أعوان يزيد جلادين وكلاب طراد في صيد كبري. وكانوا في خلائقهم البدنية على املثال الذي يعهد في هذه الطغمة من الناس، ونعني ُّ به مثال املسخاء املشوهني، أولئك الذين تمتلئ صدورهم بالحقد على أبناء آدم ولا سيما ُ من كان منهم على سواء الخلُق وحسن الأحدوثة، فإذا بهم يفرغون حقدهم في عدائه ٍ وإن لم ينتفعوا بأجر أو غنيمة، فإذا انتفعوا بالأجر والغنيمة فذلك هو حقد الضراوة الذي لا تعرف له حدود. 46 أعوان الفريقني ً وشر هؤلاء جميعا هم شمر بن ذي الجوشن، ومسلم بن عقبة، وعبيد الله بن زياد. ويلحق بزمرتهم على مثال قريب من مثالهم عمر بن سعد بن أبي قاص. فشمر بن ذي الجوشن كان أبرص كريه املنظر قبيح الصورة، وكان يصطنع املذهب الخارجي؛ ليجعله حجة يحارب بها عليٍّا وأبناءه، ولكنه لا يتخذه حجة ليحارب بها معاوية وأبناءه. كأنه يتخذ الدين حجة للحقد، ثم ينسى الدين والحقد في حضرة املال. ومسلم بن عقبة مخلوق مسمم الطبيعة في مسلاخ إنسان. «وكان أعور أمغر ثائر الرأس، كأنما يقلع رجليه من وحل إذا مشى». ٍ وقد بلغ من ضراوته بالشر وهو شيخ فان مريض، أنه أباح املدينة في حرم النبي ً صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام، واستعرض أهلها بالسيف جزرا كما يجزر القصاب الغنم حتى ساخت الأقدام في الدم، وقتل أبناء املهاجرين والأنصار وذرية أهل بدر، وأخذ البيعة ليزيد بن ن لأمري املؤمنني! ٌّ ٌ معاوية على كل من استبقاه من الصحابة والتابعني على أنه عبد ِق وانطلق جنده في املدينة إلى جوار قبر النبي يأخذون الأموال ويفسقون بالنساء، حتى بلغ القتلى في تقدير الزهري سبعمائة من وجوه الناس وعشرة آلاف من املوالي. ثم كتب إلى يزيد يصف له ما فعل وصف الظافر املتهلل، فقال بعد كلام طويل: «فأدخلنا الخيل عليهم، فما صليت الظهر — أصلح الله أمري املؤمنني — إلا في مسجدهم! بعد القتل الذريع والانتهاب العظيم، وأوقعنا بهم السيوف، وقتلنا من أشرف لنا منهم، واتبعنا مدبرهم، وأجهزنا على جريحهم، وانتهبناها ثلاثًا كما قال أمري املؤمنني — أعز الله نصره — وجعلت دور بني الشهيد عثمان بن عفان في حرز وأمان، والحمد هلل الذي ْو ً ا وقديما ما طغوا. َ شفا صدري من قتل أهل الخلاف القديم والنفاق العظيم، فطاملا عتَ أكتب هذا إلى أمري املؤمنني وأنا في منزل سعيد بن العاص مدنفً ً ا مريضا ما أراني إلا ملا بي. فما كنت أبالي متى مت بعد يومي هذا.» وكل هذا الحقد املتأجج في هذه الطوية العفنة إنما هو الحقد في طبائع املسخاء ُ الشائهني، يوهم نفسه أنه الحقد من ثأر عثمان أو من خروج قوم على ملك يزيد. ً وكان عبيد الله بن زياد متهم النسب في قريش؛ لأن أباه زيادا كان مجهول الأب فكانوا يسمونه زياد ابن أبيه. ثم ألحقه معاوية بأبي سفيان؛ لأن أبا سفيان ذكر بعد نبوغ زياد أنه كان قد سكر بالطائف ليلة فالتمس بغيٍّا فجاءوه بجارية تُدعى سمية، فقالت له بعد مولد زياد إنها حملت به في تلك الليلة. 47 أبو الشهداء الحسني بن علي وكانت أم عبيد الله جارية مجوسية تُدعى مرجانة فكانوا يعريونه بها وينسبونه إليها، ومن عوارض املسخ فيه — وهي عوارض لها في نفوس العرب دخلة تورث الضغن واملهانة — أنه كان ألكن اللسان لا يقيم نطاق الحروف العربية. فكان إذا عاب الحروري من الخوارج، قال: «هروري» فيضحك سامعوه، وأراد ً مرة أن يقول أشهروا سيوفكم، فقال: افتحوا سيوفكم. فهجاه يزيد بن مفرغ قائلا: ويوم فتحت سيفك من بعيد أضَ عت ولك أمرك للضياع ولم يكن أهون لديه من قطع الأيدي والأرجل والأمر بالقتل في ساعة الغضب لشبهة ولغري شبهة. ففي ذلك يقول مسلم بن عقيل وهو صادق مؤيد بالأمثال واملثلات: «ويقتل النفس التي حرم الله قتلها على الغضب والعداوة وسوء الظن، وهو يلهو ويلعب كأنه لم يصنع شيئًا.» وقد كانت هذه الضراوة على أعنفها وأسوئها يوم تصدى عبيد الله بن زياد ملنازلة الحسني؛ لأنه كان يومئذ في شرة الشباب لم يتجاوز الثامنة والعشرين، وكان يزيد ُّ يبغضه ويبغض أباه؛ لأنه كان قد نصح ملعاوية بالتمهل في الدعوة إلى بيعة يزيد، فكان َّم ً حريصا على دفع الشبهة والغلو في إثبات الولاء للعهد الجديد. عبيد الله من ثَ ِتِهم وتكوينهم هذا املسخ من أعوان يزيد بن معاوية، ِ والذين لم يمسخوا في جِبلَّ كان الطمع في املناصب والأموال واللذات قد بلغ بهم يبلغه املسخ من تحويل الطبائع وطمس البصائر ومغالطة النفوس في الحقائق. ومن هذا القبيل، عمر بن سعد بن أبي وقاص الذي أطاع عبيد الله بن زياد في وقعة كربلاء، ولم يعدل بتلك الوقعة عن نهايتها املشئومة، وقد كان العدول بها عن تلك النهاية في يديه. فقد أغرى عمر بن سعد بولاية الري، وهي درة التاج في ملك الأكاسرة الأقدمني. وكان يتطلع إليها منذ فتحها أبوه القائد النبيل العزوف، وينسب إليه أنه قال وهو يراود نفسه على مقاتلة الحسني: وفاله ل ما أدري وإني لحر ائ أفر ك في أمري على خر ط ِين أأترك ملك الري والري منيتي أم ار أعوان الفريقني فإن لم تكن هذه الأبيات من لسانه فهي ولا شك من لسان حاله؛ لأنها تسجل الواقع الذي لا شبهة فيه. ْخ ُل من غلظة في الطبع ً ومن الواقع الذي لا شبهة فيه أيضا، أن عمر بن سعد هذا لم يَ على غري ضرورة ولا استفزاز، فهو الذي ساق نساء الحسني بعد مقتله على طريق جثث ِ القتلى التي لم تزل مطروحة بالعراء؛ فصحن وقد ملحنها على جانب الطريق صيحة أسالت الدمع من عيون رجاله، وهم ممن قاتل الحسني وذويه. ُ هؤلاء وأمثالهم لا يسمون ساسة ملك ولا تسمى مهنتهم تدعيم سلطان، ولكنهم يسمون جلادين متنمرين يطيعون ما في قلوبهم من غلظة وحقد، ويطيعون ما في أيديهم من أموال ووعود، وتسمى مهمتهم مذبحة طائشة لا يبالي من يسفك فيها الدماء أي غرض يصيب. ومنذ قضي على يزيد بن معاوية أن يكون هؤلاء وأمثالهم أعوانًا له في ملكه، قُضي عليه من ساعتها أن يكون علاجه ملسألة الحسني علاج الجلادين الذين لا يعرفون غري سفك الدماء، والذين يسفكون كل دم أجروا عليه. َ وهكذا كان ليزيد أعوان إذا بلغ أحدهم حَّدُه في معونته فهو جلاد مبذول السيف والسوط في سبيل املال. َ وكان للحسني أعوان إذا بلغ أحدهم حَّدُه في معونته فهو شهيد يبذل الدنيا كلها في سبيل الروح. وهي إذن حرب جلادين وشهداء.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عمر




عدد المساهمات : 1369
تاريخ التسجيل : 28/09/2008

ابو الشهداء عباس العقاد Empty
مُساهمةموضوع: رد: ابو الشهداء عباس العقاد   ابو الشهداء عباس العقاد Emptyالثلاثاء يناير 11, 2022 10:37 am

الفصل الخامس خروج الحسين الحسني في مكة م منذ قيامه على امللُك إلا أن يظفر ببيعة الحسني َ عمل يزيد بوصية أبيه، فلم يكن له هٌّ وعبد الله بن الزبري في مقدمة النفر الذين أنكروا العهد له في حياة معاوية. ٍ وكان الوليد بن عقبة بن أبي سفيان والي معاوية يومئذ على املدينة، فلما جاءه ً ا شديدا ليس فيه رخصة» كتاب يزيد بنعي أبيه، وأن يأخذ أولئك النفر بالبيعة «أخذً دعا إليه بمروان بن الحكم، فأشار عليه بمشورته التي جمعت بني الإخلاص وسوء النية، وفحواها أن يبعث إلى الحسني وابن الزبري، فإن بايعا وإلا ضرب عنقيهما! وحدث بني الحسني والوليد ما تقدمت الإشارة إليه في محضر مروان؛ إذ عاد َّ الحسني إلى بيته، وقد عول على ترك املدينة إلى مكة كما تركها ابن الزبري من قبله، ُ فخرج منها لليلتني بقيتا من شهر رجب سنة ستني للهجرة، ومعه ج ُّل أهل بيته وإخوته وبنو أخيه، ولزم في مسريه إلى مكة الطريق الأعظم فلم يتنكبه كما فعل ابن الزبري مخافة الطلب من ورائه. فصحت في الرجلني فراسة معاوية في هذا الأمر الصغري، كما صحت في غريه من كبار الأمور. ُ وانصرف الناس في مكة إلى الحسني عن كل م ِطالب بالخلافة غريه، ومنهم ابن الزبري، فكان ابن الزبري يطوف بالكعبة كل يوم ويتردد عليه في صباحه ومسائه، يتعرف ِم َي إليه من آراء الناس في الحجاز، والعراق، وسائر الأقطار الإسلامية. رأيه وما نُ فلبث الحسني في مكة أربعة أشهر على هذه الحال، يتلقى بني آونة وآونة دعوات املسلمني إلى الظهور وطلب البيعة، ولا سيما أهل الكوفة وما جاورها؛ فقد كتبوا إليه يقولون: إن هنالك مائة ألف ينصرونك. وألحوا في الكتابة يستعجلونه الظهور. أبو الشهداء الحسني بن علي وتردد الحسني طوال هذه الأشهر فيما يفعل بهذه الدعوات املتتابعات، فبدا له أن َّ يتمهل حتى يتبني جلية القوم ويستطلع طلعهم من قريب. وآثر أن يرسل إليهم ابن عمه مسلم بن عقيل بن أبي طالب يمهد له طريق البيعة ٍّ إن رأى فيها محلا لتمهيد، وكتب إلى رؤساء أهل الكوفة قبل ذلك كتابًا يقول فيه: «أما بعد، فقد أتتني كتبكم وفهمت ما ذكرتم من محبتكم لقدومي عليكم، وقد بعثت إليكم أخي وابن عمي وثقتي من أهل بيتي مسلم بن عقيل، وأمرته أن يكتب إليَّ بحالكم وأمركم ورأيكم، فإن كتب إليَّ ِ أنه قد أجمع رأي ملئكم وذوي الفضل والح َجى منكم على مثل ما قدمت عليَّ ً به رسلكم وقرأت في كتبكم، أقدم عليكم وشيكا إن شاء الله، فلعمري ما الإمام إلا العامل بالكتاب، والآخذ بالقسط، والدائن بالحق، والحابس نفسه على ذات الله، والسلام.» َ ثم بلغ الحسني ً أن مسلما قد نزل الكوفة، فاجتمع على بيعته للحسني اثنا عشر ألفً ا، وقيل: ثمانية عشر ألفً ا؛ فرأى أن يبادر إليه قبل أن يتفرق هذا الشمل ويطول عليهم عهد الانتظار واملراجعة، فظهر عزمه هذا ملشرييه من خاصته وأهل بيته فاختلفوا في مشورتهم عليه بني موافق ومثبط وناصح باملسري إلى جهة غري جهة العراق. ُ وكان أخوه محمد ابن الحنفية يرى — وهو بعد في املدينة — أن يبعث رسله إلى الأمصار ويدعوهم إلى مبايعته قبل قتال يزيد فإن أجمعوا على بيعته فذاك، وإن اجتمع رأيهم على غريه «لم ينقض الله بذلك دينه ولا عقله». وكان عبد الله بن الزبري يقول له: «إن شئت أن تقيم بالحجاز آزرناك ونصحنا لك وبايعناك، وإن لم تشأ البيعة بالحجاز توليني أنا البيعة فتطاع ولا تعصى.» ويزعم كثري من املؤرخني أن ابن الزبري كان متهم النصيحة للحسني، ومن هؤلاء املؤرخني أبو الفرج الأصبهاني. قال: «إن عبد الله بن الزبري لم يكن شيء أثقل عليه من ً مكان الحسني بالحجاز، ولا أحب إليه من خروجه إلى العراق طمعا في الوثوب بالحجاز؛ لأن ذلك لا يتم له إلا بعد خروج الحسني، فلقيه وقال له: «على أي شيء عزمت يا أبا عبد الله؟» فأخبره برأيه في إتيان الكوفة، وأعلمه بما بعث به مع مسلم بن عقيل، فقال الزبري: َّ «فما يحبسك؟ فوالله لو كان لي مثل شيعتك بالعراق ما تلومت في شيء.» 52 خروج الحسني ولعل أنصح الناس له في هذه املسألة كان عبد الله بن عباس؛ ملا بينهما من القرابة، وما عرف به ابن عباس من الدهاء. سأله: إن الناس أرجفوا أنك سائر إلى العراق، فما أنت صانع؟ َّ قال: قد أجمعت السري في أحد يومي هذين. فأعاذه ابن عباس باهلل من ذلك، وقال له: إني أتخوف عليك في هذا الوجه الهلاك، ِ إن أهل العراق قوم غدر، أقم بهذا البلد فإنك سيد أهل الحجاز، فإن كان أهل العراق ِ ن تخرج فسر إلى َ يريدونك كما زعموا فلينفوا عدوهم ثم أقدم عليهم، فإن أبيت إلا أ اليمن، فإن بها حصونًا وشعابًا ولأبيك بها شيعة. فقال له الحسني: يابن العم! إني أعلم أنك ناصح مشفق، ولكني قد أزمعت وأجمعت على املسري. ً قال ابن عباس: إن كنت لابد فاعلا ً ، فلا تخرج أحدا من ولدك ولا حرمك ولا ِت َل ابن عفان. نسائك، فخليق أن تُقتل وهم ينظرون إليك كما قُ السفر إلى العراق وخرج في الثامن من ذي الحجة لا ينتظر العيد بمكة؛ لأن أخبار البيعة بالكوفة حفزته إلى التعجيل بالسفر قبل فوات الأوان. وكان مسلم بن عقيل قد نزل بالكوفة، فأقبل عليه الناس ألوفًا ألوفًا يبايعون الحسني على يديه، وبلغوا ثمانية عشر ألفً ا في تقدير ابن كثري، وثلاثني ألفً ا في تقدير ابن قتيبة. ُ وهال الأمر َ النعمان بن بشري — والي الكوفة — فحار فيما يصنع بمسلم وأتباعه ً وهم يزدادون يوم ِ ا بعد يوم، فصعد املنبر وخطب الناس معلنًا أنه لا يقاتل إلا من قاتله ولا يثِب إلا على من وثب عليه. وتسابق أنصار بني أمية إلى يزيد ينقلون إليه ما يجري بالكوفة، فأشار عليه سرجون الرومي مولى أبيه أن يعزل النعمان ويولي الكوفة عبيد الله بن زياد، مضمومة إلى البصرة التي كان يتولاها في ذلك الحني. وقدم عبيد الله إلى الكوفة فكان أول ما عمل بها أن جمع إليه عرفاء املدينة — أي مشايخ أحيائها — فأمرهم أن يكتبوا له أسماء الغرباء ومن في أحيائهم من «طلبة أمري 53 أبو الشهداء الحسني بن علي املؤمنني والحرورية وأهل الريب» وأنذرهم: «أيما عريف وجد في عرافته من بغية أمري ِغيَ ْت ِ تلك الع َرافة من العطاء». لْ ُ ُ املؤمنني أحد لم يرفعه إليه، صِل َب على باب داره، وأ والتمس وجوه املدينة من شيعة الحسني يترضاهم ويستخرج خفاياهم. فسأل َّعمن تخلف منهم عن لقائه وعلى رأسهم هانئ بن عروة، فقيل له: إنه مريض لا يبرح داره، وكان يتعلل باملرض تجنبًا للقائه والسلام عليه. فذهب عبيد الله إليه يعوده ويتلطف إليه، وجاء في بعض الروايات أنه قد أشري على مسلم بن عقيل بقتله وهو في بيت هانئ، فأبى أن يغتاله وهو آمن في بيت مريض يعوده. وقال ابن كثري ما فحواه أنهم أشاروا على مسلم بن عقيل بقتله وهو في دار شريك بن الأعور، وقد علم شريك أن عبيد الله سيعوده؛ فبعث إلى هانئ بن عروة يقول له: «ابعث مسلم بن عقيل يكون في داري ليقتل عبيد الله إذا جاء يعودني.» فتحني مسلم عن قتله، وسأله شريك: «ما منعك أن تقتله؟» قال: «بلغني حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الإيمان قيد الفتك، لا يفتك مؤمن.» وكرهت أن أقتله في بيتك.» قال شريك: «أما لو قتلته لجلست في الثغر لا يستعدي به أحد، ولكفيتك أمر ً البصرة، ولكنت تقتله ظامل ً ا فاجرا.» ثم مات شريك بعد ثلاثة أيام. ُ وتضطرب الأقاويل في وقائع هذه الأيام؛ لتلاحِقها وكثرتها وكثرة رواتها والعاملني فيها، ولكن الشائع من تلك الأقاويل ينبئنا عن عنَت شديد لقيه عبيد الله بن زياد في مغالبة ً مسلم وشيعته، وأنه هرب مرة من املسجد؛ لأن الناس بصروا بمسلم مقبلا فتصايحوا بعبيد الله فاعتصم بقصره وأغلق عليه أبوابه. واجتمع إلى مسلم أربعة آلاف من حزبه، فأمر من ينادي في الناس بشعار الشيعة: َّ «يا منصور! أمت.» ثم تقدم إلى قصر الإمارة في تعبئة كتعبئة الجيش. من الشرَط وعشرون من أهل الكوفة، فخامر ُّ ً ولم يكن في القصر إلا ثلاثون رجلا اليأس عبيد الله وظن أنه هالك قبل أن يدركه الغوث من مولاه، ولكنه تحيل بما في وسع املستميت من حيلة هي على أية حال أجدى وأسلم له من التسليم، فأنفذ أنصاره إلى كل صوب في املدينة يعدون ويتوعدون. وانطلق هؤلاء الأنصار يُرجفون بقرب وصول املدد الزاخر من يزيد، وينذرون الناس بقطع العطاء، وأخذ البريء باملذنب والغائب بالشاهد، ويبذلون املال ملن يرشى باملال، والوعد ملن يقنع بالوعد إلى حني. 54
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عمر




عدد المساهمات : 1369
تاريخ التسجيل : 28/09/2008

ابو الشهداء عباس العقاد Empty
مُساهمةموضوع: رد: ابو الشهداء عباس العقاد   ابو الشهداء عباس العقاد Emptyالثلاثاء يناير 11, 2022 10:39 am

مقتل مسلم بن عقيل وتوسلوا بكل وسيلة تبلغ بهم ما أرادوا من تخذيل الناس عن مسلم بن عقيل حتى كانوا يرسلون الزوجة وراء زوجها والأم وراء ولدها والأخ وراء أخيه، فيتعلقون بهم ُ حتى يقفلوا إلى دورهم أو يدخلوا بهم في زمرة عبيد الله. فلما غربت شمس ذلك اليوم، نظر مسلم حوله فإذا هو في خمسمائة من أولئك الآلاف الأربعة، ثم صلى املغرب فلم يكن وراءه في الصلاة غري ثلاثني تسللوا من حوله ً تحت الظلام، وبقي وحيدا في املسجد لا يجد معه من يدله على منزل يأوي إليه. َّ وتسمع عبيد الله من القصر حني سكنت الجلبة، وسأل أصحابه أن يشرفوا لريوا ً من بقي من تلك الجموع؛ فلم يروا أحدا ولم يسمعوا صوتًا. فخيل إليهم أنها مكيدة حرب وأن القوم رابضون تحت الظلال، فأدلى القناديل واملشاعل حتى اطمأن إلى خلو املسجد وتفرق مسلم وأتباعه، فدعا إلى الصلاة الجامعة وأمر املنادين في أرجاء الكوفة: «ألا برئت الذمة من رجل من الشرطة والعرفاء واملناكب — رءوس العرفاء — واملقاتلة، صلى العشاء إلا في املسجد.» وأقام الحراس خلفه وهو يصلي بمن أجابوه وقد امتلأ بهم املسجد، فخطبهم بعد ً الفراغ من صلاته قائلا ْ : «برئت ذمة الله من رجل وجدنا ابن عقيل في داره.» وصاح في رئيس شرطته: «يا حصني بن نمري! ثكلتك أمك إن ضاع باب سكة من سكك الكوفة وخرج هذا الرجل ولم تأتني به، وقد سلطتك على دور أهل الكوفة فابعث ً مراصد على أفواه السكك، وأصبح غد ُ ا فاستبرئ الدور وج ْس خلالها حتى تأتيني بهذا الرجل.» َ وما هي إلا سويعات حتى جيء بابن عقيل وقد دافع الشرط عن نفسه ما استطاع، ً ووصل إلى القصر جريح ً ا مجهدا ظمآن فأهوى إلى قُلة عند الباب فيها ماء بارد، فقال له أحد أصحاب عبيد الله: «أتراها ما أبردها! والله لا تذوق منها قطرة حتى تذوق الجحيم في نار جهنم!» وأنكر عمر بن حريث هذه الفظاعة من الرجل، فجاءه بقُ لة عليها منديل ومعها قدح فصب منها في القدح وأدناه منه، فإذا هو ينفث الدم في القدح كلما رفعه للشرب منه حتى امتلأ وسقطت فيه ثنيتاه، فحمد الله وقال: «لو كان لي من الرزق املقسوم لشربته.» 55 أبو الشهداء الحسني بن علي وأدخلوه على عبيد الله، فنظر إلى جلسائه وفيهم عمر بن سعد بن أبي وقاص، فناشده القرابة ليسمعن منه وصية ينفذها بعد موته، فأبى أن يصغي إليه! ثم أذن له َ عبيد الله فقام معه، فقال مسلم: «إن عَليَّ بالكوفة دينًا استدنته، سبعمائة درهم، فبع سيفي ودرعي فاقضها عني، وابعث إلى الحسني من يرده، فإني قد كتبت إليه أعلمه أن ً الناس معه ولا أراه إلا مقبلا.» فعاد عمر إلى عبيد الله فأفشى له السر الذي ناجاه به وأوصاه أن يكتمه، ثم دعا َ عبيد الله بالحَرِ ِّسي الذي قاومه مسلم وضربه على رأسه — واسمه بكري بن حمران — ً فأسلم مسلما إليه وقال له: لتكن أنت الذي تضرب عنقه. وصعدوا به إلى أعلى القصر فأشرفوا به على الجموع املحيطة به وضربوا عنقه، ِرسل برأسه إلى يزيد مع رءوس ُ فسقط رأسه إلى الرحبة وألقيت جثته إلى الناس. ثم أ سراة في املدينة كان مسلم يأوي إليهم أول مقدمه إليها، ومنهم هانئ بن عروة الذي تقدمت الإشارة إليه. طلائع الفشل كان مقتل مسلم بن عقيل في التاسع من ذي الحجة ليلة العيد، وكان خروج الحسني من مكة قبل ذلك بيوم واحد، فلم يسمع بمقتله إلا وهو في آخر الطريق. وملا شارف العراق أحب أن يستوثق مرة أخرى قبل دخوله، فكتب إلى أهل الكوفة كتابًا مع قيس بن سهر الصيداوي يخبرهم بمقدمه ويحضهم على الجد والتساند، فوافى قيس القادسية وقد رصد فيها شرط عبيد الله فاعتقلوه وأشخصوه إليه. فأمره عبيد الله أن يصعد القصر فيسب «الكذاب بن الكذاب الحسني بن عليٍّ» وينهى الناس أن يطيعوه. فصعد قيس وقال: «أيها الناس، إن هذا الحسني بن عليٍّ خري خلق الله، ابن فاطمة بنت رسول الله، وأنا رسوله إليكم! وقد فارقته بالحاجز فأجيبوه، والعنوا عبيد الله بن زياد وأباه.» فما كان منهم إلا أن قذفوا به من حالق، فمات. وحدث مثل هذا مع عبد الله بن يقطر، فأبى أن يلعن الحسني، ولعن عبيد الله بن زياد، فألقوا به من شرفات القصر إلى الأرض فاندكت عظامه ولم يمت، فذبحوه. 56 خروج الحسني ً وجعل الحسني كلما سأل قادما من العراق أنبأه بمقتل رسول من رسله أو داعية من دعاته، فأشار عليه بعض صحبه بالرجوع، وقال له غريهم: «ما أنت مثل مسلم بن عقيل، ولو قدمت الكوفة لكان الناس إليك أسرع.» ووثب بنو عقيل فأقسموا لا يبرحون حتى يدركوا ثأرهم أو يذوقوا ما ذاق مسلم. ً ولم ير الحسني بعد ذلك أن يصحب معه أحدا إلا على بصرية من أمره وما هو لاقيه إن تقدم ولم ينصرف لشأنه، فخطب الرهط الذين صحبوه وقال لهم: «وقد خذلنا شيعتنا، فمن أحب منكم أن ينصرف فلينصرف، ليس عليه منا ذمام.» ً فتفرقوا إلا أهل بيته وقليلا ممن تبعوه في الطريق. الحسني والحر بن يزيد والتقى الركب عند جبل ذي حسم بطلائع جيش عبيد الله يقودها الحر بن يزيد التميمي بوعي في ألف فارس، أمروا بأن لا يدعوا الحسني حتى يقدموا به على عبيد الله في َ الريْ ُّ الكوفة. فأمر الحسني مؤذنه بالأذان لصلاة الظهر، وخطب أصحابه وأصحاب الحر بن يزيد فقال: ِدم علينا فليس أيها الناس، إني لم آتكم حتى أتتني كتبكم ورسلكم أن أقْ لنا إمام؛ لعل الله يجمعنا بك على الهدى والحق. فقد جئتكم، فإن تعطوني ما أطمئن إليه من عهودكم ومواثيقكم أقدم مصركم، وإن لم تفعلوا أو كنتم لقدومي كارهني انصرفت عنكم إلى املكان الذي أقبلت منه. فلم يجبه أحد. فقال للمؤذن: أقم الصلاة! وسأل الحر: أتريد أن تصلي أنت بأصحابك وأصلي بأصحابي؟ ً فقال الحر: بل نصلي جميعا بصلاتك. ثم تياسر الحسني إلى طريق العذيب، فبلغها وفرسان عبيد الله يلازمونه، ويصرون على أخذه إلى أمريهم، وصده عن وجهته حيثما اتجه غري وجهتهم، فأقبل عليهم يعظهم وهم يصغون إليه، فقال:
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عمر




عدد المساهمات : 1369
تاريخ التسجيل : 28/09/2008

ابو الشهداء عباس العقاد Empty
مُساهمةموضوع: رد: ابو الشهداء عباس العقاد   ابو الشهداء عباس العقاد Emptyالثلاثاء يناير 11, 2022 10:42 am

أبو الشهداء الحسني بن علي ا مستحلا لحرم ٍّ ً ا جائر أيها الناس! إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من رأى سلطانً الله مخالفً ا لسنة رسول الله يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يغري ٍّ ا على الله أن يدخله مدخله.» ألا وإن هؤلاء ما عليه بفعل ولا قول كان حق قد لزموا طاعة الشيطان، وتركوا طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد، وعطلوا الحدود، واستأثروا بالغي، وأحلوا حرام الله وحرموا حلاله، وأنا أحق من غريي، وقد أتتني كتبكم ورسلكم ببيعتكم وأنكم لا تسلمونني ولا تخذلونني، فإن بقيتم على بيعتكم تصيبوا رشدكم، وأنا الحسني بن علىٍّ وابن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، نفسي مع أنفسكم وأهلي من أهلكم، فلكم فيَّ أسوة. وإن لم تفعلوا ونقضتم عهدي، وخلعتم بيعتي، فلعمري ما هي لكم بنكري، واملغرور من اغتر بكم، فحظكم أخطأتم، ونصيبكم ضيعتم. ومن نكث فإنما ينكث على نفسه وسيغني الله عنكم، والسلام. َّ فأنصت الحر بن يزيد وأصحابه، ثم توجه إليه يحذره العاقبة، وينبئه: «لئن قاتلت لتُقتلن!» فصاح به الحسني: أباملوت تخوفني! ما أدرى ما أقول لك، ولكني أقول كما قال َّ أخو الأوس لابن عمر وهو يريد نصرة رسول الله، فخوفه ابن عمر وأنذره أنه ملقتول فأنشد: سأمضي وما بالموت عار على الفتى إذا ام نوى خًر يا وجد اه مسَم لا وآسى ر الجال الصالحين بنفسه وخالف مثب ً ورا وفار َق مجرَما ك ذلا أن تعيش وترغا م ٍّ لَم كفى ب ُ فإن عشتمل أندم، وإن متمل أ ِ ان ينظر بعضهما إلى بعض كلما مال الحسني نحو البادية أسرع الحر َ ثم سار الر ْكبَ بن يزيد فرده نحو الكوفة. حتى نزلا بنينوى، فإذا راكب مقبل عليه بالسلاح، يحيي َج ْع ِجع الحر ولا يحيي الحسني، ثم أسلم الحر كتابًا من عبيد الله يقول فيه: «أما بعد؛ فَ بالحسني حتى يبلغك كتابي ويقدم عليك رسولي، فلا تنزله إلا بالعراء في غري حصن وعلى غري ماء. وقد أمرت رسولي أن يلزمك فلا يفارقك حتى يأتيني بإنفاذك أمري، والسلام.» فلما بدا من الحر بن يزيد أنه يريد أن ينفذ أمر عبيد خروج الحسني ِ لا يكون والله بعد ما ترون إلا ما هو أشد منه، يابن رسول الله! إن قتال هؤلاء أهون ِ ا من بعدهم ما لا قبَ َّ ل لنا به، فهلم علينا من قتال من يأتينا بعدهم، فلعمري ليأتينَّ نناجز هؤلاء. فأعرض الحسني عن مشورته وقال: إني أكره أن أبدأهم بقتال. عمر بن سعد ِبي بأرض همذان، فجمع َ وكان الديلم قد ثاروا على يزيد بن معاوية، واستولوا على د ْستَ ً لهم عبيد الله بن زياد جيشا عدته أربعة آلاف فارس بقيادة عمر بن سعد بن وقاص الذي يذكر الديلم اسم أبيه — سعد — فاتح بلادهم، وقد وعد بولاية الري بعد قمع الثورة الديلمية، فلما قدم الحسني إلى العراق قال عبيد الله لعمر: نفرغ من الحسني ثم تسري إلى عملك. فاستعفاه، وعلم عبيد الله موطن هواه فقال له: نعم نعفيك على أن ترد إلينا عهدنا. فاستمهله حتى يراجع نصحاءه، فنصح له ابن أخته حمزة بن املغرية بن شعبة — وهو من أكبر أعوان معاوية — ألا يقبل مقاتلة الحسني، وقال له: والله لأن تخرج من دنياك ومالك وسلطان الأرض لو كان لك، خري من أن تلقى الله بدم الحسني. وبات ليلته يقلب وجوه رأيه، حتى إذا أصبح ذهب إلى ابن زياد، فاقترح عليه أن يبعث إلى الحسني من أشراف الكوفة من ليس يغني في الحرب عنهم، فأبى ابن زياد إلا أن يسري إلى الحسني أو ينزل عن ولاية الري، فسار على مضض وجنوده متثاقلون ِّ متحر ِ جون، إلا زعانف املرتزقة الذين ليس لهم من خلاق. ً وكان جنود الجيش يتسللون منه ويتخلفون بالكوفة، فندب عبيد الله رجلا من أعوانه — هو سعد بن عبد الرحمن املنقري — ليطوف بها ويأتيه بمن تخلَّف عن املسري لقتال الحسني، وضرب عنق رجل جيء به وقيل: إنه من املتخلفني. فأسرع بقيتهم إلى املسري. ً وقد أدرك الجيش الحسني وهو بكربلاء، على نحو خمسة وعشرين ميلا إلى الشمال الغربي من الكوفة، نزل بها في الثاني من املحرم سنة إحدى وستني. وخلا الجو في الكوفة لرجلني اثنني يسابق كلاهما صاحبه في اللؤم وسوء الطوية، وينفردان بتصريف الأمر في قضية الحسني دون مراجعة من ذي سلطان، وهما عبيد الله بن زياد، وشمر بن ذي الجوشن. 59 أبو الشهداء الحسني بن علي عبيد الله املغموز النسب الذي لا يشغله شيء، كما يشغله التشفي لنسبه املغموز ُ من رجل هو — بلا مراء — أعرق العرب نسبًا في الجاهلية والإسلام، فليس أشهى إليه من فرصة ينزل فيها ذلك الرجل على حكمه، ويشعره فيها بذله ورغمه. شمر بن ذي الجوشن شمر بن ذي الجوشن الأبرص الكريه الذي يمضه من الحسني ما يمض كل لئيم مشنوء من كل كريم محبوب وسيم. وكان كلاهما يفهم لؤم صاحبه، ويعطيه فيه حقه وعذره، فهما في هذه الخلة متناصحان متفاهمان! ولم يكن أيسر من حل قضية الحسني على وجه يرضي يزيد، ويمهد له الولاء في ُ قلوب املسلمني ولو إلى حني، لولا ذلك الضغن املمتزج بالخليقة الذي هو كس ْكِر املخمور لا موضع معه لرأي مصيب، ولا لتفكري في عاقبة بعيدة أو قريبة. فالحسني في أيديهم ليس أيسر عليهم من اعتقاله وإبقائه بأعينهم في مكان ينال فيه الكرامة ولا يتحفز لثورة. لكنهما لم يفكرا في أيسر شيء، ولا أنفع شيء للدولة التي يخدمانها، وإنما فكرا في م غري إرغام الحسني وإشهاد َ النسب املغموز والصورة املمسوخة، فلم يكن لهما من ه ٍّ الدنيا كلها على إرغامه. تلقى ابن زياد من عمر بن سعد كتابًا يقول فيه إن الحسني «أعطاني أن يرجع إلى املكان الذي أقبل منه أو أن نسريه إلى أي ثغر من الثغور شئنا، أو أن يأتي يزيد فيضع يده في يده». والذي نراه نحن من مراجعة الحوادث والأسانيد أن الحسني ربما اقترح الذهاب ِب َل ذلك إلى يزيد لريى رأيه، ولكنه لم يعدهم أن يبايعه أو يضع يده في يده؛ لأنه لو قَ لبايع في مكانه، واستطاع عمر بن سعد أن يذهب به إلى وجهته، ولأن أصحاب الحسني ْوا ما جاء في ذلك الكتاب، ومنهم عقبة بن سمعان حيث في خروجه إلى العراق قد نَفَ كان يقول: «صحبت الحسني من املدينة إلى مكة ومن مكة إلى العراق، ولم أفارقه حتى ِت َل، وسمعت جميع مخاطباته إلى الناس إلى يوم قتله، فوالله ما أعطاهم ما يزعمون قُ من أن يضع يده في يد يزيد، ولا أن يسريوه إلى ثغر من الثغور»، ولكنه قال: «دعوني أرجع إلى املكان الذي أقبلت منه أو دعوني أذهب في هذه الأرض العريضة حتى ننظر إلى ما يصري إليه أمر الناس.» 60 خروج الحسني َّ ولعل عمر بن سعد قد تجو ً ز في نقل كلام الحسني عمدا؛ ليأذنوا له في حمله إلى يزيد فيلقي عن كاهله مقاتلته وما تجر إليه من سوء القالة ووخز الضمري، أو لعل الأعوان الأمويني قد أشاعوا عن الحسني اعتزامه للمبايعة ليلزموا بالبيعة أصحابه من بعده، ويسقطوا حجتهم في مناهضة الدولة الأموية. وأيٍّا كانت الحقيقة في هذه الدعوى فهي تكبر مأثمة عبيد الله وشمر ولا تنقص منها، ولقد كانا على العهد بمثليهما؛ كلاهما كفيل أن يحول بني صاحبه وبني خالجة ِطَر عليه، فلا يصدر منهما إلا ما يوائم لئيمني من الكرم تخامره أو تغالب اللؤم الذي فُ لا يتفقان على خري. وكأنما جنح عبيد الله إلى شيء من الهوادة حني جاءه كتاب عمر بن سعد، فابتدره شمر ينهاه، ويجنح إلى الشدة والاعتساف، فقال له: أتقبل هذا منه وقد نزل بأرضك وإلى جنبك! والله لئن رحل من بلادك ولم يضع يده في يدك ليكونن أولى بالقوة والعزة، ولتكونن أولى بالضعف والعجز؛ فلا تعطه هذه املنزلة، ولكن لينزل على حكمك هو وأصحابه، فإن عاقبت كنت ولي العقوبة، وإن عفوت كان ذلك لك. ثم أراد أن يوقع بعمر ويتهمه عند عبيد الله؛ ليخلفه في القيادة، ثم يخلفه في الولاية، فذكر لعبيد الله أن الحسني وعمر يتحدثان عامة الليل بني املعسكرين. فعدل عبيد الله إلى رأي شمر وأنفذه بأمر منه أن يضرب عنق عمر إن هو تردد في إكراه الحسني على املسري إلى الكوفة أو مقاتلته حتى يقتل. وكتب إلى عمر يقول له: أما بعد ... فإني لم أبعثك إلى الحسني لتكف عنه ولا لتمنيه السلامة والبقاء ً ولا لتطاوله ولا لتعتذر عنه ولا لتقعد له عندي شافعا. انظر فإن نزل بَ ْوا َ الحسني وأصحابه على الحكم واستسلموا فابعث بهم إليَّ ً مسلما، وإن أ ِت َل فازحف إليهم حتى تقتلهم وتمثل بهم، فإنهم لذلك مستحقون. فإن قُ الحسني فأوطئ الخيل صدره وظهره فإنه عاق مشاق قاطع ظلوم. فإن أنت مضيت لأمرنا جزيناك جزاء السامع املطيع، وإن أنت أبيت فاعتزل جندنا َوخ ِّل بني شمر بن ذي الجوشن وبني العسكر، والسلام. وختمت مأساة كربلاء كلها بعد أيام معدودات. ولكنها أيام بقيت لها جريرة لم يحمدها طالب منفعة ولا طالب مروءة، ومضت مئات السنني وهي لا تمحو آثار تلك الأيام في تاريخ الشرق والإسلام. 61
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عمر




عدد المساهمات : 1369
تاريخ التسجيل : 28/09/2008

ابو الشهداء عباس العقاد Empty
مُساهمةموضوع: رد: ابو الشهداء عباس العقاد   ابو الشهداء عباس العقاد Emptyالثلاثاء يناير 11, 2022 10:45 am

الفصل السادس هل أصاب؟ خطأ الشهداء خروج الحسني من مكة إلى العراق حركة لا يسهل الحكم عليها بمقياس الحوادث اليومية؛ لأنها حركة من أندر حركات التاريخ في باب الدعوة الدينية أو الدعوة السياسية. لا تتكرر كل يوم، ولا يقوم بها كل رجل، ولا يأتي الصواب فيها — إن أصابت — من نحو واحد ينحصر القول فيه، ولا يأتي الخطأ فيها — إن أخطأت — من سبب واحد ا يمتنع الاختلاف عليه. وقد يكون العرف فيها بني أصوب الصواب وأخطأ الخطأ فرقً صغريًا من فعل املصادفة والتوفيق، فهو خليق أن يذهب إلى النقيضني. هي حركة لا يأتي بها إلا رجال خلقوا لأمثالها فلا تخطر لغريهم على بال؛ لأنها تعلو على حكم الواقع القريب الذي يتوخاه في مقاصده سالك الطريق اللاحب والدرب املطروق. ةٌ يقدم عليها الرجال أفذاذ، من اللغو أن ندينهم بما يعمله رجال ذَّ هي حركة فَ من غري هذا املعدن وعلى غري هذه الوترية؛ لأنهم يحسون ويفهمون، ويطلبون غري الذي يحسه ويفهمه ويطلبه أولئك الرجال. هي ليست ضربة مغامر من مغامري السياسة، ولا صفقة مساوم من مساومي ِّ التجارة، ولا وسيلة متوسل ينزل على حكم الدنيا أو تنزل الدنيا على حكمه، ولكنها وسيلة من يدين نفسه ويدين الدنيا برأي من الآراء هو مؤمن به ومؤمن بوجوب إيمان ِ ان عنده فواته باملوت أو ِ الناس به دون غريه. فإن قبلته الدنيا قبلها وإن لم تقبله فسيَّ فواته بالحياة، بل لعل فواته باملوت أشهى إليه. هي حركة لا تقاس إذن بمقياس املغامرات ولا الصفقات، ولكنها تقاس بمقياسها الذي لا يتكرر ولا يُستعاد على الطلب من كل رجل أو في كل أوان. أبو الشهداء الحسني بن علي ولا ننسى أن السنني الستني التي انقضت بعد حركة الحسني، قد انقضت في ظل دولة تقوم على تخطئته في كل شيء، وتصويب مقاتليه في كل شيء. إن القول بصواب الحسني معناه القول ببطلان تلك الدولة، والتماس العذر له معناه ٍ إلقاء الذنب عليها. وليس بخاف على أحد كيف ينسى الحياء وتبتذل القرائح أحيانًا في تنزيه السلطان القائم وتأثيم السلطان الذاهب. فليس الحكم على صواب الحسني أو على خطئه إذن بالأمر الذي يُرجع فيه إلى أولئك الصنائع املتزلِّفني الذين يرهبون سيف الدولة القائمة، ويغنمون من عطائها، ولا لصنائع مثلهم يرهبون بعد ذلك سيفً ا غري ذلك السيف، ويغنمون من عطاءٍ غري ذلك العطاء. إنما الحكم في صواب الحسني وخطئه لأمرين لا يختلفان باختلاف الزمان وأصحاب السلطان، وهما البواعث النفسية التي تدور على طبيعة الإنسان الباقية، والنتائج املقررة التي مثلت للعيان باتفاق الأقوال. وبكل من هذين املقياسني القويني حركة الحسني في خروجه على يزيد بن معاوية، فنقول إنه قد أصاب. أصاب إذا نظرنا إلى بواعثه النفسية التي تهيمن عليه، ولا يتخيل العقل أن تهيمن عليه بواعث غريها. وأصاب إذا نظرنا إلى نتائج الحركة كلها نظرة واسعة، لا يستطيع أن يجادل فيها ِة الواقع واملصلحة، أو من يأخذ الأمور بسنة النجدة واملروءة. ُ من يأخذ الأمور بسنَّ فما هي بواعث النفسية التي قامت بنفس الحسني يوم دعي في املدينة بعد موت معاوية ملبايعة ابنه يزيد؟ هي بواعث تدعوه كلها أن يفعل ما فعل، ولا تدعو مثله إلى صنيع غري ذلك الصنيع، وخري لبني الإنسان ألف مرة أن يكون فيهم خلق كخلق الحسني الذي أغضب يزيد بن معاوية، من أن يكون جميع بني الإنسان على ذلك الخلق الذي يرضى به يزيد. فأول ما ينبغي أن نذكره لفهم البواعث النفسية التي خامرت نفس الحسني في تلك املحنة الأليمة، أن بيعة يزيد لم تكن بالبيعة املستقرة ولا بالبيعة التي يُضمن لها ٍ الدوام في تقدير صحيح. فهي بيعة نشأت في مهد الدس والتمليق، ولم يجسر معاوية عليها حتى شجعه عليها من له مصلحة ملحة في ذلك التشجيع. 64 هل أصاب؟ كان املغرية بن شعبة واليً َ ا ملعاوية على الكوفة، ثم ه َّم بعزله وإسناد ولايته إلى سعيد بن العاص جريً ُّ ا على عادته في إضعاف الولاة قبل تمكِنِهم، وضرب فريق منهم بفريق حتى يعينه بعضهم على بعض ولا يتفقوا عليه. فلما أحس املغرية نية معاوية، قدم ِّ الشام ودخل على يزيد وقال له كاملستفهم املتعجب: لا أدري ما يمنع أمري املؤمنني أن يعقد لك البيعة؟! َّ ولم يكن يزيد نفسه يصدق أنه أهل لها، أو أن بيعته مما يتم بني املسلمني على هينة. فقال للمغرية: أوترى ذلك يتم؟ فأراه املغرية أنه ليس بالعسري، إذا أراده أبوه. وأخبر يزيد أباه بما قال املغرية، فعلم هذا أن فرصته سانحة، وأنه سيبادل معاوية رشوة آجلة برشوة عاجلة. يرشوه بإعانته على بيعة يزيد، ويأخذ منه الرشوة ببقائه على ولاية الكوفة إلى أن يقضي في أمر هذه البيعة، وله في التمهيد لها نصيب. َّ فلما لقي معاوية سأله هذا عما أخبره به يزيد، فأعاده عليه وهو يزخرفه له بما يرضيه. قال: قد رأيت ما كان من سفك الدماء والاختلاف بعد عثمان، وفي يزيد منك خلف فاعقد له، فإن حدث بك حادث كان كهفً ا للناس وخلفً ا منك، ولا تسفك دماء ولا تكون فتنة. فسأله معاوية وهو يتهيب ويتأنى: ومن لي بذلك؟ قال: أكفيك أهل الكوفة، ويكفيك زياد أهل البصرة، وليس بعد هذين املصرين أحد يخالفك. فرده معاوية إلى عمله كما كان يتمنى، وأوصاه ومن معه ألا يتعجلوا بإظهار هذه النية. ثم استشار زياد بن أبي سفيان، فأطلع هذا بعض خاصته على الأمر وهو يقول: ُ إن أمري املؤمنني، يتخوف نفرة الناس ويرجو طاعتهم. ويزيد صاحب رسلة وتهاون َ مع ما قد أولع به من الصيد. فالق ِّ أمري املؤمنني وأد إليه فعلات يزيد وقل له رويدك ً بالأمر، فأحرى أن يتم لك ولا تعجل فإن درك ِ ا في تأخري خري من فوت في عجلة. فأشار عليه صاحبه «ألا يفسد على معاوية رأيه ولا يبغضه في ابنه»، وعرض عليه أن يلقى يزيد فيخبره أن أمري املؤمنني كتب إليك يستشريك في البيعة له، وأنك تتخوف خلاف الناس لهنات ينقمونها عليه، وأنك ترى له ترك ما ينقم عليه؛ لتستحكم له الحجة على الناس. 65 أبو الشهداء الحسني بن علي َّ وقالوا: إن يزيد كف َّ عن كثري مما كان يصنع بعد هذه النصيحة، وإن معاوية أخذ برأي زياد في التؤدة فلم يجهر بعقد البيعة حتى مات زياد. وقد أحس معاوية الامتعاض من بيته قبل أن يحسه من الغرباء عنه. فكانت امرأته «فاختة» بنت قرطة بن حبيب بن عبد شمس تكره بيعة يزيد، وتود لو أثر ٍّ بالبيعة ابنها عبد الله، فقالت له: ما أشار به عليك املغرية؟ أراد أن يجعل لك عدوا من نفسك يتمنى هلاكك كل يوم. واشتدت نقمة مروان بن الحكم — وهو أقرب الأقرباء إلى معاوية — حني بلغته دعوة العهد ليزيد فأبى أن يأخذ العهد له من أهل املدينة، وكتب إلى معاوية: «إن قومك قد أبوا إجابتك إلى بيعتك.» فعزله معاوية من ولاية املدينة وولاها سعيد بن العاص. فأوشك مروان أن يثور، ويعلن الخروج، وذهب إلى أخواله من بني كنانة فنصروه بْلُ َك في يدك وسيفُك في قرابك. فمن رميته بنا أصبناه، ومن ضربته وقالوا له: نحن نَ قطعناه ... الرأي رأيك، ونحن طوع يمينك. ثم أقبل مروان في وفد منهم كثري إلى دمشق، فذهب إلى قصر معاوية وقد أذن للناس، فمنعه الحاجب؛ لكثرة من رأى معه فضربوه واقتحموا الباب. ودخل مروان وهم معه حتى سلم على معاوية وأغلظ له القول. فخاف معاوية هذا الجمع من وجوه َّ قومه، وترضى مروان ما استطاع، وجعل له ألف دينار كل شهر ومائة ملن كان معه من أهل بيته. ولم يكن مروان وحده بالغاضب بني بني أمية من بيعة يزيد، بل كان سعيد بن عثمان بن عفان يرى أنه أحق منه بالخلافة؛ لأنه ابن عثمان الذي تذرع معاوية إلى الخلافة باسمه. فقال ملعاوية: يا أمري املؤمنني، علام تبايع ليزيد وتتركني! فوالله لتعلم أن أبي َ خري من أبيه وأمي خري من أمه، وأنك إنما نلت َ ما نلت بأبي. ا هاشا: يابن أخي، أما قولك إن أباك خري من ٍّ َّ فسر ً ى معاوية عنه، وقال له ضاحك ِّ أبيه، فيوم من عثمان خري من معاوية، وأما قولك إن أمك خري من أمه، ففضل قرشية ِّ على كلبية فضل بني ُ ، وأما أن أكون نلت ما أنا فيه بأبيك فإنما امللك يؤتيه الله من يشاء. قتل أبوك رحمه الله فتواكلته بنو العاص وقامت فيه بنو حرب، فنحن أعظم بذلك منَّة ً ا من يزيد فوالله ما أحب أن داري مملوءة رجالا مثلك بيزيد، عليك، وأما أن تكون خريً ُعطك. وولاه خراسان. ولكن دعني من هذا القول وسلني أ 66 هل أصاب؟ ً فكان أكبر بني أمية أعظمهم أملا في الخلافة بعد معاوية، وكان بغضهم لبيعة يزيد على قدر أملهم فيها، وهؤلاء — وإن جمعتهم مصلحة الأسرة فترة من الزمن — ِ لم تكن منافستهم هذه ليزيد بالعلامة التي تؤذن بالبقاء وتبشره بالضمان والقرار. ُّ وعلى هذا النحو ولدت بيعة يزيد بني التوجس واملساومة والإكراه. وبهذه الجفوة قوبلت بني أخلص الأعوان وأقرب القرباء. ً وظهر من اللحظات الأولى، أن املغرية بن شعبة كان سمسار ِ ا يصافق على ما لا َّ يملك؛ فقد ضمن الكوفة والبصرة ومنع الخلاف في غريهما، فإذا الكوفة أول من كره ْرِجئُ الأمر، ويوصي بالتمهل فيه، فلا بيعة يزيد، وإذا البصرة تتلكأ في الجواب وواليها يُ يقدم عليه معاوية في حياته، وإذا أطراف الدولة من ناحية همذان تثور، وإذا بالحجاز يستعصي على بني أمية سنوات، وإذا باليمن ليس فيها نصري للأمويني، ولو وجدت ً خارجا يعلن الثورة عليهم لكانت ثورتها كثورة الحجاز. بل يجوز أن يقال — مما ظهر في حركة الحسني كل الظهور — إن الشام نفسها ِ لم تنطو على رجل يؤمن بحق يزيد وبطلان دعوى الحسني. فقد كانوا يتحرجون من ُّل قبل لقائه، إلا أن يُ َّهدد بقطع الأرزاق حرب الحسني، ويتسلل من استطاع منهم التسل وقطع الرقاب. َد َّل مما تقدم على اضطراب َ والحوادث التي تلت حركة الحسني إلى ختام عهد يزيد أ عهده وقلة ضمانه؛ لأن الأحداث والنذر لم تزل تتوالى بقية حياته وبعد موته بسنني. ونحن اليوم نعلم من التاريخ كيف انتهت هذه الحوادث والنذر في عهد يزيد أو بعد عهده، فيخيَّل إلينا أن عواقبها لم تكن تحتمل الشك ولم يكن بها من خفاء، ولكن الذين استقبلوها كانوا خلقاء ألا يروا فيها طوالع ملك تعنو له الرءوس ويرجى له طول البقاء. بواعث الخروج نعم، كانت هناك ندحة عن الخروج لو كان يزيد في الخلافة رضى املسلمني من العقل ْوا على اختياره والخلق وسلامة التدبري وعزة املوئل والدولة، وكان املسلمون قد توافَ لحبهم إياه، وتعظيمهم لعقله وخلقه، واطمئنانهم إلى سياسته، واعتمادهم على صلاحه وإصلاحه. ً ولكنه على نقيض ذلك، كان كما علمنا رجلا ً هازلا في أحوج الدول إلى الجد، لا يُرجى له صلاح ولا يرجى منه إصلاح. وكان اختياره لولاية العهد مساومة مكشوفة، 67 
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عمر




عدد المساهمات : 1369
تاريخ التسجيل : 28/09/2008

ابو الشهداء عباس العقاد Empty
مُساهمةموضوع: رد: ابو الشهداء عباس العقاد   ابو الشهداء عباس العقاد Emptyالثلاثاء يناير 11, 2022 10:48 am

قبض كل مساهم فيها ثمن رضاه ومعونته جهرة وعلانية من املال أو الولاية أو املصانعة، ولو قبضوا مثل هذا الثمن ليبايعوا وليٍّ ٍّ ا للعهد شر َّ ا من يزيد ملا همهم أن ِّ يبايعوه وإن تعطلت حدود الدين وتقَّوضت معالم الأخلاق. وأعجب شيء أن يطلب إلى الحسني بن علي أن يبايع مثل هذا الرجل ويزكيه أمام املسلمني، ويشهد له عندهم أنه نعم الخليفة املأمول، صاحب الحق في الخلافة وصاحب القدرة عليه. ولا مناص للحسني من خصلتني: هذه، أو الخروج! لأنهم لن يتركوه بمعزل عن الأمر لا له ولا عليه. َ إن بعض املؤرخني من املستشرقني وضعاف الفهم من الشرقيني ينسْون هذه الحقيقة ولا يولونها نصيبها من الرجحان في كف امليزان. وكان خليقً ا بهؤلاء أن يذكروا أن مسألة العقيدة الدينية في نفس الحسني لم تكن ً مسألة مزاج أو مساومة، وأنه كان رجلا يؤمن أقوى الإيمان بأحكام الإسلام، ويعتقد أشد الاعتقاد أن تعطيل حدود الدين هو أكبر بلاء يحيق به وبأهله وبالأمة العربية قاطبة في حاضرها ومصريها؛ لأنه مسلم ولأنه سبط محمد، فمن كان إسلامه هداية نفس فالإسلام عند الحسني هداية نفس وشرف بيت. وقد لبث بنو أمية بعد مصرعه ستني سنة يسبُّونه ويسبون أباه على املنابر، ولم يجسر أحد منهم قط على املساس بورعه وتقواه ورعايته لأحكام الدين في أصغر صغرية ٍّ يباشرها املرء سرا أو علانية، وحاولوا أن يعيبوه بشيء غري خروجه على دولتهم فقصرت َجَر ً اء دون ذلك. فكيف يواجه مثل هذا الرجل خطرا على ألسنتهم وألسنة الصنائع والأُ الدين في رأس الدولة وعرش الخلافة مواجهة الهوادة واملشايعة والتأمني؟ وكيف يُسام أن يرشح للإمامة من لا شفاعة له ولا كفاية فيه إلا أنه ابن أبيه؟ لقد كان أبوه معاوية على كفاءة ووقار وحنكة ودراية بشئون امللك والرئاسة، وكان له مع هذا نصحاء ومشريون أولو براعة وأحلام تكبح من السلطان ما جمح وتقيم ما انحرف وتملي له فيما عجز عنه، وهذا ابنه القائم في مقامه لا كفاءة ولا وقار ٍّ ا على شر أو موافقً ا على ضلالة. فما عسى أن ولا نصحاء ولا مشريون، إلا من كان عونً ً تكون الشهادة له بالصلاح للإمامة إلا تغريرا بالناس وقناعة بالسلامة أو الأجر املبذول على هذا التغرير؟ ِثَر عنه من الوفاء ُ ثم هي خطوة لا رجعة بعدها إذا أقدم عليها الحسني بما أ وصدق السريرة. فإذا بايع يزيد فقد وفى له بقية حياته كما وفى ملعاوية بما عاهده 68 هل أصاب؟ عليه، ولا سيما حني يبايع يزيد على علم بكل نقيصة فيه قد يتعلل بها املتعلِّل لنقض البيعة وانتحال أسباب الخروج. ُفملك يزيد لم يقُم على شيء واحد يرضاه الحسني لدينه أو لشرفه أو للأمة ُ الإسلامية، ومن طلب منه أن ينصر هذا امل ُ لك فإنما يطلب منه أن ينصر م ً لكا ينكر كل َ دعواه، ولا يحمد له حالة من الأحوال، ولا تنس بعد هذا كله أن هذا امللك كان يقرر دعائمه في أذهان الناس بالغض من الحسني في سمعة أبيه وكرامة شيعته ومريديه. فكانوا يسبون عليٍّا على املنابر وينعتونه بالكذب واملروق والعصيان، وكانوا يتحرون أنصاره حيث كانوا فيقهرونهم على سبه والنيل منه بمشهد من الناس، وإلا أصابهم العنت والعذاب، وشهروا في الأسواق بالصلب والهوان. فمجاراة هذه الأمور كلها في مفتتح ُم ُ لك جديد معناه أنها سنَّةٌ قد وجبت واستقرت الجيل بعد الجيل بغري أمل في التغيري َّر ُ هذه السنة في مفتتح هذا امللك الجديد فقد ضعف أمله، وضعف أمل قَ َ والتبديل. فمن أ ً أنصاره فيه يوما بعد يوم، وازداد مع الزمن ضعفً ا كما ازدادت حجة خصومه قوة عليه. هذه هي البواعث النفسية التي كانت تجيش في صدر الحسني يوم دعاه أولياء بن أمية إلى مبايعة يزيد والنزول عن كل حق له ولأبنائه ولأسرته في إمامة املسلمني، كائنً ً ا من كان القائم بالأمر وبالغا ما بلغ من قلة الصلاح وبطلان الحجة. وهي بواعث ح عليه في اتخاذ طريق واحد من طريقني لا معدل ِل ُّ لا تثنيه عن الخروج، ولا تزال تُ ً عنهما، وهما الخروج إن كان لابد خارجا في وقت من الأوقات، أو التسليم بما ليست ترضاه له مروءة ولا يرضاه له إيمان. مصرع وانتصار أما نتائج الحركة كلها — إذا نظرنا إليها نظرة واسعة — فهي أنجح للقضية التي كان ينصرها من مبايعة يزيد. فقد صرع الحسني عام خروجه، ولحق به يزيد بعد ذلك بأقل من أربع سنوات. ِ ولم تنقض ست سنوات على مصرع الحسني حتى حاق الجزاء بكل رجل أصابه في كربلاء، فلم يكد يسلم منهم أحد من القتل والتنكيل مع سوء السمعة ووسواس الضمري. ولم تعمر دولة بني أمية بعدها عمر رجل واحد مديد الأجل، فلم يتم لها بعد يِّ ٌف وستون سنة! وكان مصرع الحسني هو الداء القاتل الذي سكن مصرع الحسني نَ 69 أبو الشهداء الحسني بن علي ا في جثمانها حتى قضى عليها، وأصبحت ثارات الحسني نداء كل دولة تفتح لها طريقً إلى الأسماع والقلوب. ُ ولإصابة هذه الحركة في نتائجها الواسعة دخل في روع بعض املؤرخني أنها تدبريٌ َّ من الحسني رضي الله عنه، توخاه منذ اللحظة الأولى وعلم موعد النصر فيه؛ فلم يخامره الشك في مقتله ذلك العام، ولا في عاقبة هذه الفعلة التي ستحيق لا محالة بقاتليه بعد أعوام. فقال ماريني الأملاني في كتابه (السياسة الإسلامية): «إن حركة الحسني في خروجه َ على يزيد إنما كانت عزمة قلب كبري ع َّز عليه الإذعان وعز عليه النصر العاجل، فخرج بأهله وذويه ذلك الخروج الذي يبلغ به النصر الآجل بعد موته، ويحيي به قضية مخذولة ليس لها بغري ذلك حياة.» فإن لم يكن رأي الكاتب حقٍّ ا كله، فبعضه على الأقل حق لا شك فيه، ويصدق ذلك ِ — في رأينا — على حركة الحسني بعد أن حيل بينه وبني الذهاب لوجهه الذي يرتضيه، فآثر املوت كيفما كان ولم يجهل ما يحيق ببني أمية من جراء قتله ... فهو بالغ منهم بانتصارهم عليه ما لم يكن ليبلغه بالنجاة من وقعة كربلاء. ِّ وقد جرى ذكر املوت على لسان الحسني من خطوته الأولى، وهو يتهيأ للرحيل، ويودع ْ أصحابه في الحجاز. فقال لهم: «إن املوت حق على ولد آدم.» ولم يخ َف عليه أنه يركب الخطة التي لا يبالي راكبها ما يصيبه من ذلك القضاء. لكنه لم يكن ييأس من إقناع الناس والتفافهم به منذ خطوته الأولى. ولم يعقد بَ ْوا عليه أن ينصرف إلى أي منصرف قبل َ عزمه على ملاقاة املوت حتى ساموه الرغم، وأ التسليم املبني — مسوقًا على الكره منه — إلى عبيد الله بن زياد. وتتباين آراء املتأخرين خاصة في خروج الحسني بنسائه وأبنائه، أكان هو الأحزم والأكرم أم كان الأحزم والأكرم أن يخرج بمفرده حتى يرى ما يكون من استجابة الناس له أو إعراضهم عنه وضعفهم في تأييده. وليس للمتأخرين أن يقضوا في مسألة كهذه بعقولهم وعاداتهم؛ لأنها مسألة يُقضى فيها بحكم العقل العربي وعاداته في أشباه هذه املواقف. وقد كان اصطحاب النساء َّ والأبناء عادة عربية في البعوث التي يتصد ً ى لها املرء متعمد ً ا القتال دون غريه فضلا عن البعوث التي قد تشتبك في القتال، وقد تنتهي بسلام كبعثة الحسني.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عمر




عدد المساهمات : 1369
تاريخ التسجيل : 28/09/2008

ابو الشهداء عباس العقاد Empty
مُساهمةموضوع: رد: ابو الشهداء عباس العقاد   ابو الشهداء عباس العقاد Emptyالثلاثاء يناير 11, 2022 10:50 am

هل أصاب؟ فكان املقاتلون في وقعة ذي قار يصطحبون حلائلهم وذراريهم، ويقطعون وضن ً الرواحل — أي أحزمتها — قبل خوض املعركة، وكان املسلمون واملشركون معا يصطحبون الحلائل والذراري في غزوات النبي صلى الله عليه وسلم، وكان مع املسلمني في حرب الروم صفوة نساء قريش وعقائل بيوتاتها، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يصطحب زوجة أو أكثر من زوجة في غزواته وحروبه، وحكم الواحدة هنا حكم الكثريات، وهي عادة عربية عريقة يقصدون بها الإشهاد على غاية العزم وصدق النية فيما هم مقبلون عليه، وفي معلقة ابن كلثوم إشارة مجملة إلى معنى هذه العادة العربية من قديم عصورها حيث يقول: على آثارانبيض حسان نحاذر أن تقسم أو تهونا يقن ت جيادنا ويقن ل لسم ت بو علتنا إذا مل تمنو عان وقد كان الحسني — رضي الله عنه — يندب الناس لجهاد يخوضونه إن قضي عليهم أن يخوضوه فلا يبالون ما يصيبهم في أنفسهم وفي أبنائهم وأموالهم؛ لأنهم يطلبون به ما هو أعز على املؤمن من النفس والولد واملال، فليس من املروءة أن يندبهم لأمر ولا يكون قدوة لهم فيه. وكان على الحسني — وقد أزمع الخروج — أن يجمع له أقوى حجة في يديه، ويجمع على خصومه أقوى حجة تنقلب عليهم، إذا غلبوه وأخفق في مسعاته، فيكون أقوى ما يكون وهو منتصر، ويكونون أبغض ما يكونون وهو مخذول. واملسلم الذي ينصر الحسني لنسبه الشريف أولى أن ينصره غاية نصره وهو بني أهله وعشريته، وإلا فما هو بناصره على الإطلاق، وتنقلب الآية في حالة الخذلان، فينال املنتصر من البغضاء والنقمة على قدر انتصاره الذي يوشك أن ينقلب عليه. صواب الشهداء وجملة ما يقال أن خروج الحسني من الحجاز إلى العراق كان حركة قوية لها بواعثها النفسية التي تنهض بمثله، ولا يسهل عليه أن يكبتها أو يحيد بها عن مجراها. َّ وإنها قد وصلت إلى نتائجها الفعالة من حيث هي قضية عامة تتجاوز الأفراد إلى الأعقاب أبو الشهداء الحسني بن علي إنما يبدو الخطأ في هذه الحركة حني ننظر إليها من زاوية واحدة ضيقة املجال ُ راض بأساليب املعيشة اليومية، ويدور قريبة املرمى، وهي زاوية العمل الفردي الذي يُ على النفع العاجل للقائمني به والداعني إليه. ٍ فحركة الحسني لم تكن مسددة الأسباب ملنفعة الحسني بكل ثمن وحيثما كانت الوسيلة. وعلة ذلك ظاهرة قريبة، وهي أن الحسني — رضي الله عنه — طلب الخلافة بشروطها التي يرضاها، ولم يطلبها غنيمة يحرص عليها مهما تكلفه من ثمن، ومهما تتطلب من وسيلة. وهنا غلطة الشهداء. بل قل: هنا صواب الشهداء. ومن هو الشهيد إن لم يكن هو الرجل الذي يُصاب، ويعلم أنه يصاب؛ لأن الواقع يخذله، ولا يجري معه إلى مرماه؟ ومن هو الشهيد إن لم يكن هو الرجل الذي «يكلف الأيام ضد طباعها» ويصدق الخري في طبيعة الإنسان، والخري عزيز والدنيا به شحيحة؟ منذ القدم، أخطأ الشهداء هذا الخطأ، ولو أصابوا فيه؛ ملا كانوا شهداء، ولا شرفت الدنيا بفضيلة الشهادة. فالحسني — رضي الله عنه — قد طلب خلافة الراشدين حيث لا تتسنى خلافة الراشدين، أو حيث تتسنى الدولة الدنيوية التي يضن بها أصحابها، ويتكالبون عليها، ويتوسلون إليها بوسائلها. ٍّ فكانت عنايته بالدعوة والإقناع أعظم جدا من عنايته بالتنظيم والإلزام. نزل رسوله الأول مسلم بن عقيل بالكوفة صفر اليدين من املال حتى احتاج فيها أن يقترض سبعمائة درهم هي التي أوصى بردها إلى أصحابها قبل قتله. وتلك عقبة من العقبات التي تعوق الدعوات الكبار، ولكنها على هذا لم تكن بالعقبة العصية التذليل. فلو أنه قد طلب املال من وسائله الدنيوية أو السياسة، ملا استعصى عليه أن يأخذ ً منه ما يكفيه. فلعله كان ميسورا له بعد أن تجمع حوله الأنصار، وبايع الحسني على يديه ثلاثون ألفً ا كما جاء في بعض الروايات. ففي تلك اللحظة لعله كان يستطيع أن يحيط بقصر الوالي الأموي، ويستولي عليه، وينشئ الحكومة الحسينية فيه. ثم لعله 72 هل أصاب؟ كان يستطيع بعد ذلك أن يوجه الدعاة إلى أطراف الدولة الشرقية ليلتقى البيعة، ويقيم الولاة، ويحشد الأجناد. فإذا كان هذا فاته حتى خف الأمويون لدرء الخطر عنهم وبعثوا إلى الكوفة بعبيد الله بن زياد، فقد سيق عبيد الله هذا في يوم من الأيام إلى يديه، وكان في وسعه أن يبطش به، ويستوي على كرسيه، ويحرم يزيد بن معاوية نصريًا من أعنف أنصاره. ِّ وقد فاته هذا؛ لأن شريعة الخلافة لا تبيحه في رأيه، أو لأنه اعتقد أن الحق بني ِّ وأن الباطل بني؛ فلا حاجة به بعد التمييز بينهما إلى فتكة الغدر كما سماها، ولا محل عنده لإهدار الدماء، وهو ينعي على الدولة القائمة أنها تهدر الدماء بالشبهات. ولقد رأى مسلم أن حق صاحبه في الخلافة قائم على شيء واحد، وهو إقبال الناس إليه طائعني، ومبايعتهم إياه مختارين. فأما وقد تفرقوا عنه رهبة من السلطان أو ضعفً ا في اليقني، فالرأي عنده أن يكتب إلى صاحبه يعلمه بانفضاض الناس عنه، ويثنيه عن القدوم، ولا حق له عليهم بعد ذلك حتى يثوبوا إليه. ٍ وقيام الخلافة على هذا الاختيار عقيدة لا نفهمها نحن الآن، ولكن قد يفهمها يومئذ من كان على مقربة من عهد النبوة وعهد الصديق والفاروق. فقد كان الصراع بني الحسني ويزيد أول تجربة من قبيلها بعد عهد النبوة وعهد الخلفاء الأولني. لم يكن الصراع بني عليٍّ ومعاوية على هذا الوضوح الذي لا شبهة فيه بني الحق والباطل وبني الفضيلة والنقيصة. لكنه في بيعة الحسني كان قد وضح وضوح الصبح لذي عينني. وكان ذلك كما قلنا أول تجربة من قبيلها بعد عهد الفداء في سبيل العقيدة والإيمان، بعد العهد الذي كان الرجل فيه يخرج من ماله، وينفصل من ذويه، ويتجرد لحرب أبيه أخيه وبنيه إن خالفوه في أمر الإسلام، بعد العهد الذي كان القليل فيه من املسلمني يصدون الكثري من املشركني وفي أيديهم السلاح والعتاد ومن ورائهم املعاقل والأزواد، بعد العهد الذي تغري فيه الناس، وخيل إلى من كان يعهدهم على غري تلك الحال أنهم متغريون. 73 أبو الشهداء الحسني بن علي الناس عبيد الدنيا فكيف ينخذل الحسني وينتصر يزيد في عالم شهد النبوة وشهد الخلافة على سنة الراشدين؟ إن كلمة واحدة قالها الحسني في ساعة يأسه تشف عن مبلغ يقينه بوجوب الحق، وعجبه من أن يكون الأمر غري ما وجب، وذلك حيث قال: «الناس عبيد الدنيا، والدين لعق على ألسنتهم يحوطونه ما درت به معائشهم، فإذا محصوا بالبلاء قل الديانون.» إن الطبائع الأرضية لا تنخدع في صلاح الناس، ولا تعجب هذا العجب؛ لأنها لا تخرج من نطاقها املحدود، ولا تصدق ما وراءه من الآمال والوعود. إنها لا تضل عن طريق املنفعة؛ لأنها لا تعرف غريها من طريق، إنها تؤثر القنديل الخافت في يدها على الكوكب اللامع في السماء، لا لأنها لا ترى الكوكب اللامع في السماء؛ بل لأنها ترى القنديل والكوكب فتعلم أن هذا قريب وأن ذاك جد بعيد. إنها لا تنخدع بالسراب؛ لأنها لا تخرج من عقر دارها، ولا تشعر بظمأ الفؤاد، ولا تنظر إلى السراب. ولكن طبيعة الشهداء غري طبيعة املساومة على البيع والشراء. طبيعة املساومة موكلة بالحرص على الهنات. وطبيعة الشهادة موكلة ببذل الحياة ملا هو أدوم من الحياة. وشتان طبيعة وطبيعة، وشتان خطأ الشهداء وخطأ املساومني. وليست موازين املساومة باملوازين الفذة التي يصلح عليها أمر بني الإنسان، فإن بني الإنسان ما بهم عن غنى قط عن الذين يخطئون؛ لأنهم أرفع من املصيبني، وأنهم لهم الشهداء. وإنهم لعلى صواب في املدى البعيد، وإن كانوا على خطأ في املدى القريب، مدى الأجواف واملعدات والجلود لا مدى الأرواح والأخلاد. من هؤلاء كان الحسني — رضي الله عنه — بل هو أبو الشهداء، وينبوع شهادة متعاقبة لا يقرن بها ينبوع في تاريخ البشر أجمعني. فلا جرم يصيب في املدى البعيد، ويخطئ في املدى القريب، مدى املنفعة التي تناله هو في معيشة يومه، وهو املدى الذي لا يأسف عليها ولا ينص الركاب إليه. 74 
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
ابو الشهداء عباس العقاد
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
aloqili.com :: منتدي مسلم بن عقيل-
انتقل الى: