كتاب:بغية المرتاد في الرد على المتفلسفة والقرامطة والباطنية
المؤلف : شيخ الإسلام ابن تيمية
علمه فأنت به ثابت من حيثية تغايره وعلمه إياه وهو التعيين وبه هو موجود من حيثية أن علمه عين ذاته وهي أن لا تعيين وأنت العين من حيث أنت صورة في العلم لا من حيث إطلاق العلم فهذا يتضمن أن الأشياء التي جعلها موجودة ووحودها عين الحق هي علم الحق
وليس هذا قول أهل السنة الذين يقولون إن الأشياء ثابتة في علم الله قبل وجودها ليست ثابتة في الخارج فإن هؤلاء لا يقولون إن الأشياء الموجودة عين علمه ولا يقولون إن الأشياء المحسوسة بعد وجودها هي كما كانت في العلم بل يقولون إن الله علمها وقدرها قبل أن تكون والمخلوق قد يعلم أشياء قبل أن تكون كما نعلم نحن ما وصف لنا من أشراط الساعة وصفة القيامة وغير ذلك قبل أن يكون ومن المعلوم أن علمنا بذلك ليس هو من جنس الحقيقة الموجودة في الخارج فإنا إذا علمنا الماء والنار لم يكن في قلوبنا ماء ونار ولكن علمه بذلك يطابقه مطابقة العلم المعلوم ثم اللفظ يطابق العلم مطابقة اللفظ المعنى ثم الخط يطابق اللفط وهذه المراتب الأربع المشهودة هي الوجود العيني والعلمي واللفظي والرسمي وجود في الأعيان وفي الأذهان وفي اللسان وفي البنان وقد تشبه هذه المطابقة مطابقة الصورة التي في المرآة للوجه ومطابقة النقش الذي في الشمعة والطين لنقش الخاتم الذي يطبع ذلك له
وليس هو أيضا قول من يقول إن المعدوم شيء ثابت في الخارج مستغن عن الله فإنه قد قال وأنت لا به لا شيء وهذا يخالف فيه ابن عربي والصواب معه فيه وإن كان أضل من وجه آخر بل قوله لون آخر
فإنه جعل علمه بالأشياء عين الأشياء إذ جعل لا وجود معه إلا لعلمه بذلك الشيء وجعل نفس الأشياء علمه ولهذا أثبت التغاير من وجه وعدمه من وجه وقال فأنت به ثابت من حيثية متغايرة ومن حيثية أن علمه عين ذاته
وهذا الثاني يشبه قول الفلاسفة الذين يقولون إنه عاقل ومعقول وعقل وأن ذلك واحد
ويقال إن أبا الهذيل العلاف يقرب إلى مذهبهم
وفساد هذا القول معلوم قد بسط في غير هذا الموضع لكن هو لما التزم أن يكون وجود الأشياء غي ماهيتها وهو عندهم عين وجود الأشياء ولا
بد من إثبات مغايرة الأشياء واستقبح أن يجعل الأشياء ثابتة في الأعيان جعلها عين علمه فوقع في شر مما فر منه حيث جعل نفس الأشياء الثابتة في الخارج عين علمه وهذا من جنس قوله أنه عين وجود الأشياء وهو في الحقيقة تعطيل لنفسه ولعلمه إذ جعل وجوده وجود الأشياء وعلمه هو الأشياء ثم يقول إن علمه عين ذاته فهذه ثلاث عظائم
ثم قال فإن عرفته في كل شيء عين كل شيء إلا الصورة المعينة لم تجهله في صورة أصلا ولم تكن فيمن يتجلى له في غير الصورة التي يعرفها وسيعود منه حتى يتجلى له في الصورة التي يعرفها فيتبعه وهذا وإن كان من السعداء فهو بعيد من أهل العلم بالله جدا وأي معرفة لمن يعرف المطلق مقيدا بصورة ما فهذا إلى الجهل أقرب منه إلى العلم غير أن بركة الإيمان وسعادته شملته فتنعم في الجنة من وراء غيب الإيمان ويشفع له النبي والذي صدقه فرفعت له الحجب وقتا ما فتنعم بالمشاهدة حسب حاله وعلى قدر نصيبه من رسوخه في الإيمان وأخذه بنصيبه من مقام الإحسان فإذا هو كأنه يراه لا أنه يراه وأين هذا المقام من مقام من رآه منذ عرفه في كل شيء عين كل
شيء سوى تقييد الشيء وتعينه بأنه هذا فإنه لا يجوز إليه الإشارة لأنه لم تقيده صورة قط فمن عرفه كما قلنا ورآه في كل شيء لم ينسه قط ولم ينسحب عليه من عقاب الآية شيء وهي قوله تعالى نسوا الله فنسيهم حاشاهم من ذلك بل ذكروه دائما فذكرهم ورأوه في كل شيء ومع كل شيء فشاهدهم كذلك وشهد لهم بالكمال
قلت وهذا الكلام الذي ذكره من تجليه تارة في غير الصورة التي يعرفها المتجلي له حتى يتعوذ منه وما ذكره من أن هذه الحال ناقصة أخذه من كلام ابن عربي وابن عربي يحتج في ذلك بالحديث المأثور في ذلك فإن ابن عربي كان أعلم بالحديث والتصوف من هذا وإن كان كلاهما من أبعد الناس عن معرفة الحديث والتصوف المشروع بل هما أقل الناس معرفة بالكتاب والسنة وآثار سلف الأمة وابن سبعين أعلم بالفلسفة من ابن عربي
وأما الكلام فكلاهما يأخذه من مشكاة واحدة من مشكاة صاحب الإرشاد وأتباعه كالرازي فإن ابن عربي ذكر في أول الفتوحات المكية ثلاث عقائد ورمز إلى الرابعة وذكر العقيدة التي في كلام صاحب الإرشاد مجردة ثم ذكرها مع الدليل الكلامي الذي ذكره ثم انتقل إلى عقيدة فلسفية أبعد عن اعتقاد أهل الإثبات ثم رمز إلى هذا التوحيد الذي أفصح به في الفصوص وعاد قولهم إلى تحقيق التعطيل الذي هو حقيقة قول فرعون وكان نقلهم لكلام المتكلمة والمتفلسفة من كلام الرازي في المحصل وغيره وهو يذكر أن ذلك حصل له بالكشف حتى كان القاضي بهاء الدين ابن الزكي يذكر أنه كان يقع بينه وبين والده منازعة في كلامه إذ كان من الغلاة فيه المعظمين لأمره حتى حدثني محي الدين بن
المصري وكان من أخص أصحابه أنه قال في معرض كلام له أفضل الخلق عندي بعد رسول الله علي وفاطمة والحسن والحسين ومحي الدين ابن عربي وكان يقول إن كلامه حصل له على طريق الكشف قال فوجدت نسخة من المحصل بخطه رخيصة جدا فجئت بها إلى والدي وقلت نسخ المحصل فلولا شدة رغبته في معرفة كلام هذا الرجل لما كان كتبها بخطه أو كلاما نحو هذا
وأما ابن سبعين فأصل مادته من كلام صاحب الإرشاد وإن أظهر تنقصه ونحوه من الكلام ومن كلام ابن رشد الحفيد ويبالغ في تعظيم ابن الصائع الشهير بابن باجة وذويه في الفلسفة وسلك طريقة الشوذية في
التحقيق وأخذ من كلام أبن عربي وسلك طريقا في تحقيقهم مغايرا لطريق غيره وإن كان مشاركا لهم في الأكثر وهما وأمثالهما يستمدان كثيرا مما سلكه أبو حامد في التصوف المخلوط بالفلسفة ولعل هذا من أقوى الأسباب في سلوكهم هذا الطريق
وأبو حامد مادته الكلامية من كلام شيخه في الإرشاد والشامل ونحوهما مضموما إلى ما تلقاه من القاضي أبي بكر الباقلاني لكنه في أصول الفقه سلك في الغالب مذهب ابن الباقلاني مذهب الواقفة وتصويب المجتهدين ونحو ذلك وضم إلى ذلك ما أخذه من كلام أبي زيد الدبوسي وغيره في القياس ونحوه وأما في الكلام فطريقته طريقة شيخه دون القاضي أبي بكر وشيخه في أصول الفقه يميل إلى مذهب الشافعي وطريقة الفقهاء التي هي أصوب من طريقة الواقفة
ومادة أبي حامد في الفلسفة من كلام ابن سينا ولهذا يقال أبو حامد أمرضه الشفاء ومن كلام أصحاب رسائل إخوان الصفا ورسائل أبي حيان التوحيدي ونحو ذلك وأما في التصوف وهو أجل علومه وبه نبل فأكثر مادته من كلام الشيخ أبي طالب المكي الذي يذكره في المنجيات في الصبر والشكر والرجاء والخوف والمحبة والإخلاص فإن عامته مأخوذ من كلام أبي طالب المكي لكن كان أبو طالب أشد وأعلى
وما يذكره في ربع المهلكات فأخذ غالبه من كلام الحارث المحاسبي
في الرعاية كالذي يذكره في ذم الحسد والعجب والفخر والرياء والكبر ونحو ذلك
وأما شيخه أبو المعالي فمادته الكلامية أكثرها من كلام القاضي أبي بكر ونحوه واستمد من كلام أبي هاشم الجبائي على مختارات له وكان قد فسر الكلام على أبي قاسم الأسكاف عن أبي إسحاق الإسفرائيني ولكن القاضي هو عندهم أولى
ولقد خرج عن طريقة القاضي وذويه في مواضع إلى طريقة المعتزلة وأما كلام أبي الحسن نفسه فلم يكن يستمد منه وإنما ينقل كلامه مما يحكيه عنه الناس
والرازي مادته الكلامية من كلام أبي المعالي والشهرستاني فإن الشهرستاني أخذه عن الأنصاري النيسابوري عن أبي المعالي وله مادة قوية من كلام أبي الحسين البصري وسلك طريقته في أصول الفقه كثيرا وهي أقرب إلى طريقة الفقهاء من طريقة الواقفة
وفي الفلسفة مادته من كلام ابن سينا والشهرستاني أيضا ونحوهما وأما التصوف فكان فيه ضعيفا كما كان ضعيفا في الفقه
ولهذا يوجد في كلام هذا وأبي حامد ونحوهما من الفلسفة ما لا يوجد في كلام أبي المعالي وذويه
ويوجد في كلام هذا وأبي حامد ونحوهما من الفلسفة ما لا يوجد في كلام أبي المعالي وذويه
ويوجد في كلام هذا وابي المعالي وأبي حامد من مذهب النفاة المعتزلة ما لا يوجد في كلام أبي الحسن الأشعري وقدماء أصحابه ويوجد في كلام أبي الحسن من النفي الذي أخذه من المعتزلة ما لا يوجد في كلام أبي محمد بن كلاب الذي أخذ أبو الحسن طريقه ويوجد في كلام ابن كلاب من النفي الذي قارب فيه المعتزلة ما لا يوجد في كلام أهل الحديث والسنة والسلف والأئمة وإذا كان الغلط شبرا صار في الأتباع ذراعا ثم باعا حتى آل هذا المآل فالسعيد من لزم السنة
فصل
ومن تدبر الحديث وألفاظه على أنه حجة على هؤلاء الإتحادية الجهمية لا لهم وأنه مبطل لمذهبهم مع أنهم يجعلونه عمدتهم في دعواهم ظهوره في كل صورة من الصور المشهودة في الدنيا والآخرة حتى في الجمادات والقاذورات
والحديث مستفيض بل متواتر عن النبي وهو حديث طويل فيه قواعد من أمور الإيمان بالله وباليوم الآخر أخرجاه في الصحيحين من غير وجه من
حديث الزهري عن سعيد بن المسيب وعطاء بن يزيد عن أبي هريرة وأبي سعيد
وأخرجاه أيضا من حديث زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد ورواه مسلم عن جابر موقوفا كالمرفوع وهو معروف من حديث ابن مسعود وغيره ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة أن أناسا قالوا لرسول الله يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة
فقال رسول الله هل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر قالوا لا يا رسول الله قال هل تضارون في رؤية الشمس ليس دونها سحاب قالوا لا قال فإنكم ترونه كذلك يجمع الله الناس يوم القيامة فيقول من كان يعبد
شيئا فليتبعه فيتبع من كان يعبد الشمس الشمس ويتبع من كان يعبد القمر القمر ويتبع من كان يعبد الطواغيت الطواغيت وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها فيأتيهم الله تبارك وتعالى في صورة غير صورته التي يعرفون فيقول أنا ربكم فيقولون نعوذ بالله منك هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا فإذا جاء ربنا عرفناه فيأتيهم الله في صورته التي يعرفون فيقول أنا ربكم فيقولون أنت ربنا فيتبعونه ويضرب الصراط بين ظهري جهنم فأكون أنا وأمتي أول من يجز ولا يتكلم يومئذ إلا الرسل ودعوى الرسل يومئذ اللهم سلم اللهم سلم وفي جهنم كلاليب مثل شوك السعدان هل رأيتم شوك السعدان قالوا نعم يا رسول الله قال فإنها مثل شوك السعدان غير أنه لا يعلم قدر عظمها إلا الله تخطف الناس بأعمالهم فمنهم الموبق بعمله ومنهم المخردل أو المجازي حتى ينجي حتى إذا فرغ الله من القضاء بين العباد وأراد أن يخرج برحمته من أراد من أهل النار أمر الملائكة أن يخرجوا من النار من كان لا يشرك بالله شيئا ممن أراد أن يرحمه ممن كان يقول لا إله إلا الله فيعرفونهم في النار يعرفونهم بأثر السجود تأكل النار ابن آدم إلا اثر السجود حرم الله على النار أن تأكل أثر السجود فيخرجون من النار وقد امتحشوا فيصب عليهم ماء الحياة فينبتون
وفي لفظ البخاري منه كما تنبت الحبة في حميل السيل ثم يفرغ الله من القضاء بين العباد ويبقى رجل مقبل بوجهه على النار وهو آخر أهل الجنة دخولا إلى الجنة فيقول أي رب أصرف وجهي عن النار فإنه قد قشبني ريحها وأحرقني ذكاؤها فيدعوا الله ما شاء أن يدعوه ثم يقول الله تبارك وتعالى هل عسيت أن فعلت ذلك بك أن تسأل غيره فيقول لا يا رب لا أسألك غيره ويعطي ربه من عهود ومواثيق ما شاء الله فيصرف الله وجهه عن النار فإذا اقبل على الجنة ورآها سكت ما شاء الله أن يسكت ثم يقول أي رب قدمني إلى باب الجنة فيقول الله له أليس قد أعطيت عهودك ومواثيقك أن لا تسألني غير الذي أعطيتك ويلك يا ابن آدم ما أغدرك فيقول أي رب ويدعو الله حتى يقول له فهل عسيت أن أعطيتك ذلك أن تسأل غيره فيقول لا وعزتك فيعطي ربه ما شاء من عهود ومواثيق فيقدمه إلى باب الجنة فإذا قام على باب الجنة انفهقت له الجنة فرأى ما فيها من الخير والسرور فيسكت ما شاء الله أن يسكت ثم يقول أي رب
أدخلني الجنة فيقول الله له أليس قد أعطيت عهودك ومواثيقك أن لا تسأل غير ما أعطيتك ويلك يا ابن آدم ما أغدرك فيقول أي رب لا أكون أشقى خلقك فلا يزال يدعو الله حتى يضحك الله تبارك تعالى منه فإذا ضحك الله منه قال أدخل الجنة فإذا دخلها قال الله له تمنه فيسأل ربه ويتمنى حتى أن الله ليذكره من كذا ومن كذا حتى إذا انقطعت به الأماني قال الله ذلك لك ومثله معه
قال عطاء بن يزيد وأبو سعيد الخدري مع أبي هريرة لا يرد عليه من حديثه شيئا حتى إذا حدث أبو هريرة أن الله قال لذلك الرجل ومثله معه
قال أبو سعيد وعشرة أمثاله معه يا أبا هريرة
قال أبو هريرة ما حفظت إلا قوله ذلك لك ومثله معه
قال أبو سعيد أشهد أني حفظت من رسول الله قوله ذلك لك وعشرة أمثاله
قال أبو هريرة وذلك الرجل آخر أهل الجنة دخولا الجنة
وهذا الحديث من أصح حديث على وجه الأرض معروف من حديث
ابن شهاب الزهري أحفظ الأمة للسنة في زمانه كان عنده عن سعيد بن المسيب أفضل التابعين وعن عطاء بن يزيد الليثي عن أبي هريرة فكان تارة يحدث به عنهما وتارة عن أحدهما كما هو عادة الزهري في أحاديث كثيرة
وهذا الذي ذكرنا رواية إبراهيم بن سعد عنه عن عطاء بن يزيد ومنه رواه مسلم كما ذكر وعطف عليه رواية شعيب عنه عن سعيد بن المسيب وعطاء قال وساق الحديث بمثل معنى حديث إبراهيم وأما البخاري فرواه من حديث شعيب عن الزهري عنهما مرتين ورواه من حديث إبراهيم بن سعد أيضا الذي ساقه مسلم
ورواه من حديث معمر أيضا عن الزهري عن عطاء
وفي الصحيحين أيضا من حديث زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري أن ناسا في زمن رسول الله قالوا لرسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة قال رسول الله نعم هل تضارون في رؤية الشمس بالظهيرة صحوا ليس معها سحاب قالوا لا يا رسول الله قال وهل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر صحوا ليس فيها سحاب قالوا لا يا رسول الله قال ما تضارون في رؤية الله تبارك وتعالى يوم القيامة إلا كما تضارون في رؤية أحدهما إذا كان يوم القيامة أذن مؤذن ليتبع كل أمة ما كانت تعبد ولا يبقى أحد كان يعبد غير الله من الأصنام والأنصاب إلا يتساقطون في النار حتى إذا لم يبق إلا من كان يعبد الله من بر وفاجر وغير أهل الكتاب فتدعي اليهود فيقال لهم ما كنتم تعبدون قالوا كنا نعبد عزيز ابن الله فيقال كذبتم ما اتخذ الله من صاحبة ولا ولد فماذا تبغون قالوا عطشنا يا رب فاسقنا فيشار إليهم ألا تردون فيحشرون إلى النار كأنها سراب يحطم بعضها بعضا فيتساقطون في النار ثم
تدعى النصارى فيقال لهم ما كنتم تعبدون قالوا كنا نعبد المسيح بن الله فيقال لهم كذبتم ما اتخذ الله من صاحبة ولا ولد فيقال لهم ماذا تبغون فيقولون عطشنا يا ربنا فاسقنا فيشار إليهم ألا تردون فيحشرون إلى النار كأنها سراب يحطم بعضها بعضا فيتساقطون في النار حتى إذا لم يبق إلا من كان يعبد الله من بر وفاجر أتاهم رب العالمين في أدنى صورة من التي رأوه فيها قال ما تنتظرون فيتبع كل أمة ما كانت تعبد قالوا يا ربنا فارقنا الناس في الدنيا أفقر ما كنا إليهم ولم نصاحبهم فيقول أنا ربكم فيقولون نعوذ بالله منك لا نشرك بالله شيئا مرتين أو ثلاثا حتى أن بعضهم ليكان أن ينقلب فيقول هل بينكم وبينه آية فتعرفونه فيقولون نعم فيكشف عن ساق فلا يبقى من كان يسجد لله تعالى من تلقاء نفسه إلا أذن الله له بالسجود ولا يبقى من كان يسجد اتقاء ورياء إلا جعل الله ظهره طبقة واحدة كلما أراد أن يسجد خر على قفاه ثم يرفعون رؤوسهم وقد تحول في صورته التي رأوه فيها أول مرة فقال أنا ربكم فيقولون أنت ربنا ثم يضرب الجسر على جهنم وتحل الشفاعة ويقولون اللهم سلم سلم قيل يا رسول الله وما الجسر قال دحض مزلة فيه خطا طيف وكلاليب
وحسك تكون فيها شوكة يقال له السعدان فيمر المؤمنون كطرف العين وكالبرق وكالريح وكالطير وكأجاود الخيل والركبان فناج مسلم ومخدوش مرسل ومكدوس في نار جهنم حتى إذا خلص المؤمنون من النار فوالذي نفسي بيده ما من أحد منكم بأشد منا شدة الله في استقصاء الحق من المؤمنين لله يوم القيامة لإخوانهم الذين في النار يقولون ربما كانوا يصومون معنا ويصلون ويحجون فيقال لهم اخرجوا من عرفتم فتحرم صورهم على النار فيخرجون خلقا كثيرا قد أخذت النار إلى نصف ساقيه وإلى ركبتيه ثم يقولون ربنا ما بقي فيها أحد ممن أمرتنا به فيقول ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من خير فأخرجوه فيخرجون خلقا كثيرا ثم يقولون ربما لم نذر فيها أحد ممن أمرتنا ثم يقول أرجوا فمن وجدتم في قلبه نصف دينار فأخرجوه فيخرجون خلقا كثيرا ثم يقولون ربنا لم نذر فيها ممن أمرتنا أحدا ثم يقول ارجعوا فأخرجوا من وجدتم في قلبه مثقال ذرة من خير فيخرجون خلقا كثيرا ثم يقولون ربنا لم نذر فيها خيرا
وكان أبو سعيد يقول إن لم تصدقوني بهذا الحديث فاقرؤا إن شئتم إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما فيقول الله عز و جل شفعت الملائكة وشفعت النبيون وشفع المؤمنون ولم يبق إلا أرحم الراحمين فيقبض قبضة من النار فيخرج قوما
لم يعملوا خيرا قط قد عادوا حمما فيلقيهم في نهر في افواه الجنة يقال له نهر الحياة فيخرجون كما تخرج الحبة في حميل السيل ألا ترونها تكون إلى الحجر أو إلى الشجر ما يكون إلى الشمس أصيفر وأخيضر وما يكون منها إلى الظل فيكون أبيض فقالوا يا رسول الله كأنك كنت ترعى بالبادية قال فيخرجون كاللؤلؤ في رقابهم الخواتم تعرفهم أهل الجنة هؤلاء عتقاء الله تعالى الذين أدخلهم الله الجنة بغير عمل عملوه ولا خير قدموه ثم يقول أدخلوا الجنة فما رأيتموه فهو لكم فيقولون ربنا أعطيتنا ما لم تعط أحدا من العالمين فيقول لكم عندي أفضل من هذا فيقولون يا ربنا أي شيء أفضل من هذا فيقول رضائي فلا أسخط عليكم بعده أبدا وهذا سياق مسلم من حديث حفص بن ميسرة عن زيد بن أسلم ثم أتبعه برواية الليث بن سعد عن خالد بن يزيد عن سعيد بن أبي هلال عن زيد بن
أسلم قال نحو حديث حفص بن ميسرة وزاد بعد قوله بغير عمل عملوه ولا خير قدموه فيقال لهم لكم ما رأيتم ومثله معه
قال أبو سعيد بلغني أن الجسر أدق من الشعرة وأحد من السيف وليس في حديث الليث فيقولون ربنا أعطيتنا ما لم تعط أحدا من العالمين
ثم رواه من حديث هشام بن سعد قال حدثنا زيد بن أسلم نحو حديث حفص وقد زاد ونقص شيئا
وأخرجه البخاري من حديث زيد أيضا
وفي صحيح مسلم من حديث ابن جريج أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يسأل عن الورود فقال نجيء نحن يوم القيامة عن كذا وكذا
قلت صوابه على تلخيص كما جاء مفسرا أظن أن ذلك فوق الناس
قال فتدعى الأمم بأوثانها وما كانت تعبد الأول فالأول ثم يأتينا ربنا بعد ذلك فيقول ما تنتظرون فيقولون ننتظر ربنا فيقول أنا ربكم فيقولون حتى ننظر إليك فيتجلى لهم يضحك قال فينطلق بهم ويتبعونه ويعطى كل إنسان منهم منافق أو مؤمن نورا ثم يتبعونه وعلى جسر جهنم كلاليب أو حسك تأخذ من شاء الله ثم يطفىء نور المنافقين ثم ينجو المؤمنون فتنجو أول زمرة وجوههم كالقمر ليلة البدر سبعون ألفا لا يحاسبون ثم الذين يلونهم كأضوإ نجم في السماء ثم كذلك ثم تحل الشفاعة ويشفعون حتى يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة فيجعلون بفناء الجنة ويجعلون أهل الجنة يرشون عليهم الماء حتى ينبتوا نبات الشيء في السيل وتذهب حراقه ثم يسأل حتى يجعل له الدنيا وعشرة أمثالها معها
فهذه الأحاديث ونحوها اعتمدها هؤلاء الجهمية الإتحادية في قولهم أن الله يظهر في الصور كلها ويجعلونه ظاهرا في كل صورة من حيوان ونبات ومعدن وغير ذلك ليظهر في الصور كلها إذ هو الوجود كله عندهم وعندهم أن ذاته لا ترى بحال كما قال صاحب الفصوص في الحكمة الياسية
قال العقل إذا تجرد لنفسه من حيث أخذه العلوم عن نظره كانت معرفته بالله على التنزيه لا على التشبيه وإذا أعطاه الله المعرفة بالتجلي كملت معرفته بالله فنزه في موضع وشبه في موضع فرأى سريان الحق في الصور الطبيعية العنصرية وما بقيت له صورة إلا ويرى عين الحق عينها وهذه المعرفة التامة التي جاءت بها الشرائع المنزلة من عند الله وحكمت بهذه المعرفة الأوهام كلها ولذلك كانت الأوهام أقوى سلطانا مما في هذه النشأة من العقول لأن العاقل لو بلغ ما بلغ في عقله لم يخل عن حكم الوهم عليه والتصور فيما عقل فالوهم هو السلطان الأعظم في هذه الصورة الكاملة الإنسانية وبه جاءت الشرائع المنزلة فشبهت ونزهت شبهت في التنزيه بالوهم ونزهت في التشبيه بالعقل فارتبط الكل بالكل فلم يتمكن أن يخلو تنزيه عن تشبيه ولا تشبيه عن تنزيه قال تعالى ليس كمثله شيء فنزه وهو السميع البصير فشبه وهي أعظم آية أنزلت في التنزيه ومع ذلك لم تخل عن التشبيه بالكاف وهو أعلم
العلماء بنفسه وما عبر عن نفسه إلا بما ذكرناه ثم قال سبحان ربك رب العزة عما يصفون وما يصفونه إلا بما تعطيه عقولهم فنزه نفسه عن تنزيههم إذ حددوه بذلك التنزيه وذلك لقصور العقول عن إدراك مثل هذا ثم جاءت الشرائع كلها بما تحكم به الأوهام فلم يخل الحق عن صفة يظهر فيها كذا قالت وبذا جاءت الرسل فعملت الأمم على ذلك فأعطاها الحق التجلي فلحقت بالرسل وراثة فنطقت بما نطقت به رسل الله وبعد أن تتصور هذا فترخى الستور وتدلى الحجاب على عين المنتقد والمعتقد والصور وإن كانت من بعض صور ما تجلى فيها الحق ولكن قد أمرنا بالستر ليظهر تفاضل استعداد الصور وأن المتجلي في صور بحكم استعداد تلك الصورة فينسب إليه ما تعطيه حقيقتها ولوازمها لا بد من ذلك إلى أن قال قال الله تعالى وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان إذ لا يكون مجيبا إلا إذا كان من يدعوه وإن كان عين الداعي المجيب فلا خلاف في اختلاف الصور فهما صورتان بلا مثل وتلك الصور كلها كالأعضاء لزيد فمعلوم أن زيدا حقيقة واحدة
مشخصة وإن يده ليست صورة رجله ولا رأسه ولا عينه ولا حاجبه فهذا تكثير الواحد المكثر بالصور الواحد بالعين وكالإنسان واحد بالعين فلا شك أن عمرا ما هو زيد ولا خالد ولا جعفر وأن أشخاص هذه العين الواحدة لا تتناهى وجودا فهو وإن كان واحدا بالعين فهو كثير بالصور والأشخاص وقد علمت قطعا إن كنت مؤمنا أن الحق عينه يتجلى في القيامة في صورة فيعرف ثم يتحول في صورة فينكر ثم يتحول عنها في صورة فيعرف وهو هو المتجلي وليس غيره في كل صورة ومعلوم أن هذه الصورة ما هي تلك الصورة الأخرى فكأن العين الواحدة قامت مقام المرآة فإذا نظر الناظر فيها إلى صورة معتقدة في الله عرفه فأقر به وإذا اتفق أن يرى فيها معتقد غيره أنكره كما يرى في المرآة صورته وصورة غيره فالمرآة عين واحدة والصور كثيرة في عين الرائي
وهذا الحديث يبين فساد مذهبهم بضد ما توهموه من وجوه
أحدها أن ناسا سألوا رسول الله هل يرون ربهم يوم القيامة ولم يسألوه عن رؤيته في الدنيا فإن هذا كان معلوما عندهم أنهم لا يرونه في الدنيا وقد أخبرهم النبي بذلك كما روي ذلك عن النبي من وجوه
منها ما رواه مسلم في صحيحه من حديث يونس وصالح عن ابن شهاب أن سالم بن عبد الله أخبره أن عبد الله بن عمر أخبره أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه انطلق مع رسول الله في رهط من أصحابه قبل ابن صياد حتى وجده يلعب مع الصبيان عند أطم بني مغالة وقد قارب ابن صياد يومئذ الحلم فلم يشعر حتى ضرب النبي ظهره بيده ثم قال رسول الله لابن صياد أتشهد أني رسول الله فنظر إليه ابن صياد
فقال أشهد أنك رسول الأميين فقال ابن صياد لرسول الله أتشهد أني رسوله الله فرضه رسول الله وقال آمنت بالله وبرسله ثم قال له رسول الله ماذا ترى فقال ابن صياد يأتيني صادق وكاذب فقال له رسول الله خلط عليك الأمر ثم قال له رسول الله إني قد خبأت لك خبأ فقال ابن صياد هو الدخ فقال له رسول الله اخسأ فلن تعدو قدرك فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه ذرني يا رسول الله أضرب عنقه فقال له رسول الله إن يكن هو فلن تسلط عليه وإن لم يكن هو فلا خير لك في قتله وقال سالم بن عبد الله سمعت عبد الله بن عمر يقول انطلق بعد ذلك رسول الله وأبي بن كعب إلى النخل التي فيها ابن صياد حتى إذا دخل رسول الله النخل طفق يتقي بجذوع النخل وهو يختل أن يسمع من ابن صياد شيئا قبل أن يراه ابن صياد فرآه رسول الله وهو مضطجع على فراش في قطيفة له فيها زمزمة فرأت أم ابن صياد رسول الله وهو يتقي بجذوع النخل فقالت لابن صياد يا صاف هو اسم ابن صياد هذا محمد فسار ابن صياد فقال رسول الله لو تركته بين
قال سالم قال عبد الله بن عمر فقام رسول الله في الناس فأثنى على الله بما هو أهله ثم ذكر الدجال فقال إني لأنذركموه ما من نبي إلا وقد أنذره قومه لقد أنذره نوح ولكن أقول لكم قولا لم يقله نبي لقومه تعلموا إنه أعور وأن الله ليس بأعور
قال ابن شهاب وأخبرني عمر بن ثابت الأنصاري أنه أخبر بعض أصحاب رسول الله أن رسول الله قال يوم حذر الناس الدجال أنه مكتوب بين عينيه كافر يقرؤه من كره عمله أو يقرؤه كل مؤمن وقال تعلمون أنه لن يرى أحد منكم ربه حتى يموت
وقد روي هذا المعنى من وجوه أخر عن النبي ففرق النبي بين ما قبل الموت وما بعده وأخبر أنه لن يراه أحد قبل الممات في سياق بيانه لهم أن الدجال ليس هو الله كما ذكر لهم أنه أعور وأن ربهم ليس بأعور وذكر لهم مع ذلك أنهم لا يرون ربهم في الدنيا ليعلموا أن كل ما يرى في الدنيا ليس هو الله وهذا يرفع قول بعض الجهال المتقرمطة من هؤلاء أنه لن يرى ربه حتى يموت أي تموت نفسه وهواه فإن هذا وإن لم يكن هو مدلول اللفظ ولا يحتمله مثل هذا اللفظ فلو كان حقا لم يصح أن يكون دليلا لهم
على أن الدجال ليس هو ربهم فإنه إذا جوز عند موت هوى النفس أن يرى بعينه الله لم يصح حينئذ أن يكون ينفي عن كل مرئي بالعين في الدنيا أنه الله
واعلم أن الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين وأهل السنة من جميع الطوائف متفقون على أن المؤمنين يرون ربهم في الآخرة عيانا كما يرون الشمس والقمر كما تواترت بذلك الأحاديث عن النبي ومتفقون على أنه لا يراه أحد بعينه في الدنيا كما ذكر أبو بكر الخلال في كتاب السنة عن حنبل عن إسحاق بن حنبل قال سمعت أبا عبد الله يعني أحمد بن حنبل يقول إن الله لا يرى في الدنيا ويرى في الآخرة ثبت في القرآن وفي السنة وعن أصحاب رسول الله والتابعين
وأما رؤية النبي وتنازع عائشة وابن عباس فقد بسطنا الكلام فيه في غير هذا الموضع وبينا أن الثابت عن ابن عباس ثم عن الإمام أحمد هو شيء واحد وهو إما إطلاق الرؤية وإما تقييدها بالفؤاد وأما التقييد بأنه رآه بعينه فلم يثبت لا عن ابن عباس ولا عن أحمد بن حنبل ونحوهما
وأما الأحاديث التي يرويها بعض الناس في أن النبي رأى ربه بالطواف أو بعرفة أو في بعض سكك المدينة فكلها كذب موضوعة باتفاق أهل العلم
وتنازع المتأخرون المنتسبون إلى السنة في الكفار هل يحجبون عنه في الآخرة مطلقا أو يرونه ثم يحجبون على ثلاثة أقوال
فقال طوائف من أهل الكلام والفقه وغيرهم من أصحاب مالك لا يرونه بحال وقالت طائفة منهم أبو الحسن بن سالم وغيره بل يرونه ثم يحجب عنهم كما يدل على ذلك أحاديث معروفة
وقال أبو بكر بن خزيمة بل يراه المنافقون من هذه الأمة دون غيرهم
وقد بسطنا الكلام على ذلك في غير هذا الموضع
وأما من سوى أهل السنة فلهم قولان متطرفان
أحدهما وهو قول الجهمية ومن وافقهم من المعتزلة والمتفلسفة وغيرهم أنه لا يرى بحال بل رؤيته ممتنعة عندهم
والثاني قول بعض المتكلمين وبعض جهال الصوفية أنه يرى في الدنيا وقد ذكر ذلك أبو طالب المكي عن بعض الصوفية ورد عليه
وكذلك حكاه الأشعري في المقالات عن طائفة منهم
ومن الناس من يجعل للأشعري نفسه في هذه المسألة قولين وبعض أصحابه جوزوا وقوع ذلك
وليس النزاع في إمكان ذلك وقدرة الله عليه فإن هذا لا نزاع فيه بين مثبتي الرؤية وإنما النزاع هل يقع ذلك في الدنيا فمن أصحابه من يسوغ وقوعه بحسب ما تدعو إليه الدواعي وقد يحصل ذلك لبعض الناس وهذا باطل مخالف للنصوص ولإجماع السلف والأئمة بل نفاة الرؤية مع كونهم مبطلين أجل من هؤلاء وهؤلاء أقرب إلى الشرك منهم وأما هؤلاء الاتحادية فهم يجمعون بين النفي العام والإثبات العام فعندهم أن ذاته لا يمكن أن ترى بحال وليس لها اسم ولا صفة ولا نعت إذ هو الوجود المطلق الذي لا يتعين وهو من هذه الجهة لا يرى ولا اسم له ويقولون إنه يظهر في الصور كلها وهذا عندهم هو الوجود الأسمى لا الذاتي ومن هذه الجهة فهو يرى في كل شيء ويتجلى في كل موجود لكنه لايمكن أن ترى نفسه بل تارة يقولون كما يقول ابن عربي ترى الأشياء فيه وتارة يقولون يرى هو في الأشياء وهو تجليه في الصور
وتارة يقولون كما يقول ابن سبعين عين ما ترى ذات لا ترى وذات لا ترى عين ما ترى وهم جميعا يحتجون بالحديث وهم مضطربون لأن ما جعلوه هو الذات عدم محض إذ المطلق لا وجود له في الخارج مطلقا بلا ريب فلم يبق إلا ما سموه مظاهر ومجالي فيكون الخالق عين المخلوقات لا سواها وهم معترفون بالحيرة والتناقض مع ما هم فيه من التعطيل والجحود
وقد تقدم قول صاحب الفصوص في الفص الشيثي وأن المتجلي
له لا يرى إلا صورته في مرآة الحق ولا رأى الحق ولا يمكن أن يراه مع علمه أنه ما رأى صورته إلا فيه كالمرآة في الشاهد ترى الصورة فيها وهي لا ترى مع علمك أنك ما رأيت الصورة إلا فيها
وزعم أنك إذا ذقت هذا ذقت الغاية التي ليس فوقها غاية في حق المخلوق فلا تطمع ولا تتعب نفسك في أن تترقى في أعلى من هذه الدرج فما هو ثم أصلا وهذا تصريح بامتناع الرؤية وهو حقيقة قولهم إذ هم من غلاة الجهمية ثم مع ذلك يجعلونه نفس الموجودات كما يقول صاحب الفصوص ومن أسمائه الحسنى العلي على من وما ثم إلا هو أو عن ماذا وما هو إلا هو فعلوه لنفسه وهو من حيث الوجود عين الموجودات فالمسمى محدثات هي العلية لنفسها وليست إلا هو وكذلك ابن سبعين يقول فعين ما ترى ذات لا ترى وذات لا ترى عين ما ترى
واعلم أن طائفة ممن يثبت الرؤية من أصحاب الأشعري بل وبعض المنتسبين إلى الإمام أحمد يفسرون الرؤية بنحو تفسير الجهمية كالمريسي والمعتزلة فيقولون هي زيادة علم وانكشاف بحيث نعلم ضرورة ما كان يعلم نظرا وهؤلاء يجعلونها من جنس العلم
وأرفع منهم من يجعلها مع تعلقها بالعين وكونها مشروطة بوجود المرئي من هذا النمط فيقول هي مجرد خلق إدراك في العين وأنه لا حجاب إلا المانع المضاد لها في محل الرؤية فإذا أزيل حصلت الرؤية كما أنه لا مانع من العلم إلا الجهل المضاد فإذا زال حصلت الرؤية ولضرار وحفص الفرد والنجار في نفس الرؤية أقوال قريبة من هذا ليس هذا موضعها وكل ذلك فرارا مما أخبر به الرسول من الرؤية
العيانية وهو قد أفصح بها غاية الإفصاح وأوضحها غاية الإيضاح وبين لهم أعظم رؤية يعرفونها وأنه يرونه كذلك فزالت الشبهة
وقد ناظرت غير واحد من هؤلاء من نفاة الرؤية ومحرفيها من شيعي ومعتزلي وغيرهما وذكرت لهم الشبهة التي تذكرها نفاة الرؤية فقلت هي كلها مبنية على مقدمتين
إحداهما أن الرؤية تستلزم كذا وكذا كالمقابلة والتحيز وغيرهما
والثاني أن هذه اللوازم منتفية عن الله تعالى فكل ما يذكره هؤلاء فأحد الأمرين فيه لازم إما أن لا يكون لازما بل يمكن الرؤية مع عدمه وهذا المسلك سلكه الأشعري وطوائف كالقاضي أحيانا وابن عقيل وغيرهم لكن أكثر العقلاء يقولون إن من ذلك ما هو معلوم الفساد بالضرورة
وإما أن يكون لازما فلا يكون محالا فليس في العقل ولا في السمع ما يحيله بل إذا قدر أنه لازم للرؤية فهو حق لأن الرؤية حق قد علم ذلك بالإضطرار عن خير البرية أهل العلم بالأخبار النبوية
وهؤلاء الاتحادية لما فهموا قول هؤلاء الذين لا حقيقة للرؤية عندهم إلا زوال حجاب في الإنسان كالآفة التي فيه المانعة من الرؤية قالوا إنه يمكن زوال هذا الحجاب فتحصل المشاهدة وضموا ذلك إلى بقية أصولهم الفاسدة من أنه لي مباينا لعباده بل هو الوجود المطلق فقالوا يرى