عبد الرحمن بن علي بن خلف، الفارسكوري، المصري، العلامة زين الدين. ولد سنة خمس وخمسين وسبعمائة، وأخذ الفقه عن الشيخين جمال الدين الإسنوي وسراج الدين البلقيني وغيرهما. قال الحافظ شهاب الدين ابن حجر فيما كتبه إلي: أجاد الخط، ومهر في الفنون، وطلب الحديث بنفسه، فقرأ الكثير، وكتب بخطه وسمع، وعمل شرحا على شرح ابن دقيق العيد للعمدة في أربعة مجلدات، أجاد فيه، وكان له حظ من عبادة ومروءة، وسعي في قضاء حوائج من يقصده، ولا سيما أهل الحجاز، وكان مقلا، ثم قرر في تدريس المنصورية ونظر الظاهرية وتدريسها في سنة ثلاث وثمانمائة، فباشر ذلك أحسن مباشرة، وعمرت الظاهرية في أيامه، وقد جاور في مكة عاما، وما في القاهرة في رجب سنة ثمان وثمانمائة.
عبد الرحمن بن محمد بن إبراهيم بن لاجين، الرشيدي، زين الدين ابن شمس الدين بن العلامة برهان الدين، الموقت. ولد سنة إحدى وأربعين وسبعمائة، وانتفع على جماعة، وسمع في دمشق من جماعة وحدث، وكان عنده علم بالميقات، وولي رئاسة المؤذنين، وكان يخطب في جامع أمير حسين ظاهر القاهرة. قال الحافظ شهاب الدين بن حجى: وكان بارعا في الحساب والفارئض والميقات، وشرح الجعبرية والشنهية والياسمينية في الجبر والمقابلة، وله مجاميع حسنة انتهى. وقد وقفت على شرحه لفرائض عبد العزيز الأشنهي، وفيه أوهام عجيبة، صادرة عن عدم تأمل. توفي في القاهرة في جمادى الأولى سنة ثلاث وثمانمائة.
عبد الرحمن بن محمد بن علي بن عبد الواحد بن يوسف بن عبد الرحيم، المغربي الأصل المصري، الشيخ العالم الصالح زين الدين أبو هريرة ابن أبي أمامة بن النقاش. ولد في ذي الحجة سنة سبع بتقديم السين وأربعين وسبعمائة، وأسمع من جماعة. قال صاحبه الحافظ شهاب الدين ابن حجر أمتع الله ببقائه: حفظ المنهاج، ودرس بعد وفاة أبيه في جهاته، واشتهر بالديانة والأمانة وصدق اللهجة، وجودة الرأي، والصدع بالحق والصرامة، ثم ولي الخطابة في الجامع الطولوني، فكان يعلن في خطبته بعدم الظلم، وينكر ما يشاهده، أو يسمع به من الوقائع، وجرت له في ذلك خطوب مع الترك والقبط، وهو مع ذلك معظم عندهم. وكان مقتصدا في ملبسه، متفضلا على المساكين ممن ينسب إلى السنة، كثير الإقامة في منزله، مقبلا على شأنه، عارفا بأمر دينه ودنياه، يكتسب غالبا من الزراعة ومن كرى العقار، ويبر أصحابه، ويقوم بحقوقهم مع محبة الحديث وأهله، وكثرة الحج والمجاورة، وكان بيننا مودة. مات في ذي الحجة سنة تسع بتقديم التاء عشرة وثمانمائة، ودفن عند باب القارفة على قارعة الطريق بوصية منه، ليترحم عليه كل من مر به. ثم بنيت له هناك مصطبة، وجعل على قبره صندوق خشب، ودفن في جنبيه جماعة رحمه الله تعالى.
(1/195)
عبد الرجيم بن الحسين بن عبد الرحمن بن أبي بكر بن إبراهيم، الحافظ الكبير، الميد، المتقن، المحرر، الناقد، محدث الديار المصرية، ذو التصانيف المفيدة، زين الدين أبو الفضل، العراقي الأصل، الكردي، نزيل القاهرة. ولد في جمادى الأولى سنة خمس وعشرين وسبعمائة، وحفظ التنبيه وعدة كتب. واشتغل في الفقه والقراءات، وسمع في غضون طلبه للعلم من جماعة وأخذ عن الشيخ برهان الدين الرشيدي وشهاب الدين النحوي السمين. وولع بتخريج أحاديث الإحياء، ورافق الزيلعي الحنفي في تخريجه أحاديث الكشاف وأحاديث الهداية فكانا يتعاونا. وكان مفرط الذكاء، فأشار عليه القاضي عز الدين بن جماعة بطلب الحديث لما رآه مكبا على تحصيله، وعرفه الطريق في ذلك، فطلبه على وجهه من سنة اثنتين وأربعين، وسمع من جماعة في القاهرة، ثم أكثر الترحال إلى الشام والحجاز، وهم بالتوجه إلى بغداد، فتر عزمه، وسمع في حلب وحماه وحمص وبعلبك وطرابلس وغيرها. وسمع في الإسكندرية، وأراد التوجه إلى تونس، فلم يتفق له ذلك، وأخذ علم الحديث عن الشيخ علاء الدين بن التركماني الحنفي، وأخذ الفقه عن العلامة جمال الدين الإسنوي والعماد البلبيسي وغيرهما. وخرج أربعين حديثا متباينة البلاد، وأخذ عنه ابنه الشيخ ولي الدين، والشيخ نور الدين الهيثمي، وبرهان الدين الأبناسي، وكمال الدين الدميري، وزين الدين الفارسكوري، وجمال الدين بن ظهيرة، وشهاب الدين بن حجر، وبرهان الدين العجمي الحلبي، ودرس في الكاملية والفاضلية. قال الحافظ شهاب الدين بن حجر أمتع اله ببقائه: لكن لم يكملها رأيتها بخطه وقد زادت على الثلاثين، ثم أقبل على التصنيف فنظم علوم الديث لابن الصلاح، ثم شرحه، وعمل نكتا على ابن الصلاح، وشرع في تكملة شرح الترمذي تذييلا على ابن سيد الناس، فكت منه نحو عشرة مجلدات إلى دون ثلثي الجامع. وخرج أحاديث الإحياء وبيض منه قدر مجلدين، ولو كمل لكان في ستة مع أن مسودته فيها كاملة بخطه، ثم اختصر هذا في مجلد سماه المغني. وله نظم غريب القرآن، ونظم السيرة النبوية فيألف بيت، ونظم المنهاج البيضاوي. واستدرك على المهمات في الفقه كتابا سماه تتمات المهمات، وعمل الوفيات ذيلا على ذيل أبي الحسين بن أيبك. وعقد مجلس الإملاء في كل ثلاثاء غالبا، فأملى أكثر من أربعمائة مجلس من حفظه كثيرة الفائدة، وولي قضاء المدينة النبوية سنة ثمان وثمانين، فأقام بها نحو ثلاث سنين. قال الحافظ شهاب الدين بن حجى: كان محدث الديار المصرية، انتهت إليه معرفة علم الحديث وكتب وجمع وصنف، وخرج أحاديث الإحياء. وولي في القاهرة مشيخة الحديث في عدة مواضع، ثم علت سنة، ودرس في القاهرة بالفاضلية وغيرها، وكان حسن الوجه والشبيه. وقال صاحبه الحافظ شهاب الدين بن حجر أمتع الله ببقائه: صار المنظور إليه في هذا الفن وقد وصفه بحافظ العصر الشيخ جمال الدين الإسنوي، ذكره ذلك في البطقات في ترجمة ابن سيد الناس، وفي المهمات أيضا. وكان شيوخ العصر يبالغون في الثناء عليه بالمعرفة كالسبكي والعلائي وعز الدين بن جماعة وابن كثير. وكان مع ذكائه سريع الحفظ جدا. أخبرني أنه حفظ من الإلمام في يوم واحد أربعمائة سطر، وأنه حفظ نصف الحاوي في الفقه في خمسة عشر يوما أو اثني عشر الشك منيز وذكر جملة من محاسنه ومآثره. وكان لا يترك قيام الليل، وإذا صلى الصبح ذكر الله في مجلسه حتى تطلع الشمس، ويصلي الضحى. ولم أر في جميع مشايخي أحسن صلاة منه. مات بعد خروجه من الحمام في شعبان سنة ست وثمانمائة رمه الله تعالى، ودفن في تربة خارج باب البرقية. قال رفيقه الشيخ نور الدين الهيثمي: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم، وعيسى عليه الصلاة والسلام عن يمينه، والشيخ زين الدين العراقي عن يساره.(1/196)
عبد اللطيف بن أحمد، الفوي المصري ثم الحلبي، سراج الدين. ولد سنة أربعين وسبعمائة تقريبا، واشغتل في القاهرة على الشيخين جمال الدين الإسنوي وشمس الدين الكلائي وغيرهما، ثم قدم دمشق وصحب القاضي فتح الدين ابن الشهيد والقاضي ولي الدين بن أبي البقاء، ثم دخل حلب، فقطنها وشغل الناس فيها في الجامع الكبير وولي قضاء العسكر، ثم صرف عنه، ثم ولي تدريس الظاهرية فتوزع في نصفها، قال الحافظ شهاب الدين ابن جحى عند ذكر قدومه دمشق: وعنده معرفة بالأدب والشعر، ثم توجه إلى حلب وأقام فهيا ودرس، وكان معدودا من علمائها. وقال الحافظ شهاب الدين ابن حجر أمتع الله ببقائه: كان ماهرا في الفرائض، مشاركا في غيرها، سريع الإدراك، كثير الاشتغال، قوي التصرف. له نظم ونثر، ولم يزل مقيما في حلب إلى أن خرج منها وقدم دمشق في أواخر المحرم سنة إحدى وثمانمائة، وتوجه إلى القاهرة، فقتل في خان غباغب ولم يعرف قاتله، وقيل: إنه تقبع في حلب.
عثمان بن إبراهيم بن أحمد، الشيخ فخر الدين البرماوي المصري. ولد سنة بضع وستين وسبعمائة. اشتغل بالفقه والحديث والعربية حتى مهر فيها، ولازم الشيخ فخر الدين إمام جامع الأزهر في القراءات حتى نبغ، واشتقر بعد شيخه المذكور في درس القراءات في الظاهرية الجديدة. وولي مشيخة الإقراء أيضا في الشيخونية. وسمع الكثير، واستملي بعض مجالس من أمالي العراقي، وناب في الحكم عن القاضي جلال الدين، وباشر قراءة البخاري عليه في القلعة. مات فجأة في شعبان سنة ست عشرة وثمانمائة، خرج من الحمام فمات.
علي بن أحمد، اليماني، المعروف بالأزرق، من أهل أبيات حسين. قال الحافظ شهاب الدين بن حجر أمتع الله ببقائه: كان كثير العناية بالفقه، مشهورا بالذكاء، جمع كتابا كبيرا وانتفع به أهل تلك البلاد، مات في سنة تسع بتقديم التاء وثمانمائة.
علي بن محمد بن يحيى، الصرخدي، الشيخ علاء الدين، نزيل حلب. تفقه وسمع الحديث على المزي وغير، ثم قطن حلب، وكان يبحث مع الأذرعي كثيرا ويلازم منزله، ولا يكتب على الفتوى إلا نادرا، ودرس آخرا في جامع تغري بردى. مات في فتنة التتار في سنة ثلاث وثمانمائة.(1/197)
عمر بن رسلان بن نصير بن صالح بن شهاب بن عبد الخالق بن عبد الحق، الشيخ الفقيه المحدث، الحافظ المفسر، الأصولي المتكلم، النحوي اللغوي، المنطقي الجدلي، الخلافي النظار، شيخ الإسلام، بقية المجتهدين، منقطع القرين، فريد الدهر، أعجوبة الزمان، سراج الدين أبو حفص، الكناني العسقلاني الصل، البلقيني المولد، المصري. مولده في شعبان سنة أربع وعشرين وسبعمائة في بلقينة من قرى مصر الغريبة، وحفظ القرآن وهو ابن سبع سنين في بلده، وحفظ الشاطبية، والمحرر للرافعي، والكافية الشافية لابن مالك، ومختصر ابن الحاجب، وقدم القاهرة سنة ست وثلاثين، واجتمع بالقاضي جلال الدين القزويني والشيخ تقي الدين السبكي، وأثنيا عليه مع صغر سنه، ثم قدمها في سنة ثمان وثلاثين وقد ناهز الاحتلام مستوطنا، ودرس الفقه على الشيخ نجم الدين الأسواني وابن عدلان وزين الدين الكتناني وشمس الدين بن التاج، وحضر عند الشيخ تقي الدين السبكي وبحث معه في الفقه. وأخذ الأصول عن الشيخ شمس الدين الأصفهاني، وأجازه بالإفتاء. وأخذ النحو والأدب عن الشيخ أبي حيان، وتخرج على غيرهم من مشايخ العصر، وسمع البخاري من الشيخ جمال الدين بن شاهد الجيش، ومسلم من القاضي شمس الدين ابن القماح، وسمع بقية الكتب الستة وغيرها من المسانيد وغيرها من جماعة. وأجاز له من دمشق الحافظان المزي والذهبي، وابن الجوزي وابن نباتة وابن الخباز وغيرهم، واشتهر اسمه وعلا ذكره، وظهرت فضائله، وبهرت فوائده، واجتمعت الطلبة للاشتغال عليه بكرة وعشيا. قال ولده القاضي جلال الدين: وكان يلقى الحاوي في الأيام اليسيرة، ووصل في ذلك إلى أنه ألقاه في جامع الأزهر في ثمانية أيام. وحج في سنة أربعين مع والده، واجتمع بالشيخ صلاح الدين العلائي في القدس، ثم حج في سنة تسع وأربعين، ثم صاهر ابن عقيل في سنة اثنتين وخمسين، وناب عنه لما ولي القضاء تلك المدة اليسيرة، وولي تدريس الزاوية بعد وفاة ابن عقيل. وكان قبل ذلك قد ولي تدريس الحجازية فإن واقفتها عمرتها لأجله. ثم ولي قضاء الشام سنة سبع وستين، فباشره مدة يسيرة، ثم استعفى وعاد إلى القاهرة، وولي تدريس الملكية بعد وفاة الإسنوي، وتدريس جامع طولون بعد وفاة أبي السبكي، وقضاء العسكر بعد ابن السبكي، وكان قد ولي قبل سفره إلى الشام إفتاء دار العدل في سنة خمس وستين رفيقا لبهاء الدين السبكي وهو أول شيء وليه من المناصب. وولي تدريس الألجهية من واقفها، وولي تدريس الشافعي رضي الله عنه بعد عزل ابن جماعة. فلما عاد ابن جماعة عوضه تدريس الفقه في جامع طولون، ودرس في الظاهرية البرقوقية وولي درس لتفسير ومشيخة الميعاد فيها، ثم نزل عن بعض وظائفه لولديه، واستمر بيده الزاوية والضاهرية إلى حين وفاته، أقام مدرسا في الزاوية ستة وثلاثين سنة يقرر فيها مذهب الشافعي على أعظم وجه وأكمله، وظهر له الأتباع والأصحاب، وصار هو الإمام المشار إليه، والمعول في الإشكال والفتاوى عليه، وأتته الفتاوي من الأقطار البعيدة، ورحل الناس من الأقطار النائية للقراءة عليه، وخضع له كل من ينسب إلى علم من العلوم الشرعية، وغيرها. وخرج له الحافظ ابن حجر أربعين حديثا عن أربعين شيخا، وخرج له الحافظ ولي الدين ابن العراقي مائة حديث من عواليه وأبداله، وقد أثنى عليه علماء عصره طبقة بعد طبقة من قبل الخمسين إلى حسن وفاته. وكان الشيخ شمس الدين الأصفهاني كثير التعظيم له، وأجازه الشيخ أبو حيان، وكتب له في إجازته ما لم يكتب لأحد قبله، وسنه إذ ذاك دون العشرين. وكان القاضي عز الدين ابن جماعة يعظمه، ويبالغ في تعظيمه جدا، وكتب له ابن عقيل على بعض تصانيفه: أحق الناس بالفتوى في زمانه. وقال له أيضا: لم لا تكتب على سيبويه شرحا؟ هذا مع اتفاق الناس في ذلك الزمان على أن ابن عقيل هو المرجوع إليه في علم النحو. وذكر له ولده القاضي جلال الدين ترجمة في مجلدة مشتملة على مناقبه، وفوائدة، وأنشد قول القائل:
وليس يصح في الأذهان شيء ... إذا احتاج النهار إلى دليل(1/198)
قال: وقد ختم القرآن العظيم بميعاده، وأتى فيه من الوعظ ما يكون إن شاء الله تعالى، تعالى شيئا لإسعاده. وكان من العلوم بحيث يقضى له في كل علم بالجمع، وكان كثير الصدقة، طارحا للتكلف، قائما في الحق، ناصرا للسنة، قامعا لأهل البدعة، مبطلا للمكوس والمظالم، معظما عند الملوك. أبطل في دولة الشرف مكس الملاهي. وأبطل في دولة المنصور مكس القراريط. وكان مكس القراريط كثير البشاعة جدا. وعرض عليه الملك المنصور أيام طشتمر قضاء الديار المصرية فامتنع غاية الامتناع. وقال الحافظ شهاب الدين ابن حجى: طلب العلم في صغره، وحصل الفقه والنحو والفرائض، وشارك في الأصول وغيره، وفاق الأقران في الفقه، ثم أقبل على الحديث، وحفظ متونه، وحفظ رجاله، فحفظ من ذلك شيئا كثيرا. وكان في الجملة أحفظ الناس لمذهب الشافعي، واشتهر بذلك، وطبقة شيوخه موجودون، وبعد صيته. ثم قدم علينا قاضيا بالشام، وهو إذ ذاك كهل، فبهر الناس بحفظه وحسن عبارته، وخضع له الشيوخ في ذلك الوقت، واعترفوا بفضله، ثم رجع إلى بلده، وبنى مدرسة في القاهرة، وأثرى وكثر ماله، وتصدى للفتوى والإشغال. وكان معول الناس في ذلك عليه، ورحلوا إليه، وكثرت طلبته في البلاد، وأفتوا ودرسوا، وصاروا شيوخ بلادهم في أيامه. وكان صحيح الحفظ، قليل النسيان، ثم صار له اختيارات يفتي فيها. وله نظم كثير متوسط في الحكم والمواعظ ونحو ذلك. وبه تصانيف كثيرة لم تتم، يصنف قطعا ثم يتركها، وقلمه لا يشبه لسانه. وقال الحافظ شهاب الدين بن حجر بعد ذكر ابتداء أمر الشيخ: وصار معظما عند الأكابر، كثير السمعة عند العامة، وتصدى لتتبع الشيخ جمال الدين الإسنوي في خطابه حتى كان يتوقى الإفتاء هيبة له، وعول الناس عليه في الإفتاء، فكان يتصدى لذلك من بعد صلاة العصر إلى المغرب غالبا، ولا يفتر غالبا من الأشغال إما مطالعة وإما تصنيفا وإما إقراء، وكان عظيم المروءة، جميل المودة، كثير الاحتمال، كثير المباسطة مع مهابته. وكان يعمل مجلس الوعظ، ويجمع عنده الفقراء والصلحاء، ويحصل له خشوع وخضوع، وشهد جمع جم بأنه العالم الذي على رأس القرن. وممن رأيت خطه بذلك في حقه شيخنا الحافظ أبو الفضل العراقي. وقال الحافظ برهان الدين سبط ابن العجمي سألني الشيخ شهاب الدين الأذرعي عن مولد الشيخ سراج الدين البلقيني فذكرته له، فقال: أنا أصلح أن أكون والده. ثم ذكر لي أنه لم ير أحفظ منه لنصوص الشافعي انتهى. توفي في ذي القعدة سنة خمس وثمانمائة، ودفن في مدرسته التي أنشأها في درب بهاء الدين. رثاه تلميذه الإمام الحافظ أبو الفضل أحمد بن حجر بقصيدة ظنانة ومن تصانيفه كتاب محاسن الاصطلاح وتضمين كتاب ابن الصلاح في علوم الحديث، كتاب تصحيح المنهاج أكمل منه الربع الأخير في خمسة أجزاء، وكتب من ربع النكاح تقدير جزء ونصف، الكشاف على الكشاف وصل فيه إلى أثناء سورة البقرة في ثلاثة مجلدات ضخمة، وشرح البخاري كتب منه نحو خمسين كراسا على أحاديث يسيرة إلى أثناء الإيمان، ومواضع مفرقة، سماه بالفيض الباري على صحيح البخاري، التدريب في الفقه كتب منه إلى الرضاع، والتأديب مختصر التدريب كتب منه النصف، ومنهج الأصلين أكمل منه أصل الدين، وكتب منه قريبا من نصف أصول الفقه، كتاب المنصوص والمنقول عن الشافعي في الأصول، كتب منه قطعة صالحة، ترتيب الأم على الأبواب وقد أكمله ولكن بقي منه بقايا، والفوائد المحضة على الشرح والروضة، كتب منه أجزاء مفرقة، الملمات برد المهمات، كتب منه أجزاء مفرقة، الينبوع في إكمال المجموع، كتب منه أجزاء من النكاح، العرف الشذي على جامع الترمذي، كتب منه قطعة صالحة، والسبب في عدم إكماله لغالب مصنفاته اشتغاله بالإشغال، والتدريس، والتحديث، والإفتاء.
عمر بن عبد الله بن عمر بن داود، الشيخ زين الدين ابن الشيخ جمال الدين، الكفري الدمشقي. كان فقيها فاضلا في الفقه، موصوفا باستحضار الروضة، وأذن له بالفتوى، وتصدر في الجامع الأموي. وعرض عليه نيابة القضاء فامتنع. وكان يرجع إلى دين، وعنده قوة نفس. قتل في أواخر ربيع الآخر أو أوائل جمادى الأولى سنة ثلاث وثمانمائة على يد التتار في قرية بيت أيما. وكان قد خرج إليها هاربا.(1/199)
عمر بن علي بن أحمد بن محمد بن عبد الله، الشيخ الإمام العالم العلامة، عمدة المصنفين، سراج الدين الدين أبو حفص الأنصاري، الأندلسي الأصل، المصري، المعروف بابن الملقن. كان أبوه نحويا معروفا بالتقدم في ذلك، ومات وولده صغير، فرباه زوج أمه الشيخ عيسى المغربي الملقن، فعرف به. ولد في ربيع الأول سنة ثلاث وعشرين وسبعمائة. أخذ عن الإسنوي ولازمه، وعن غيره من شيوخ العصر، وسمع الحديث الكثير، حتى انه ذكر مرة أنه سمع ألف جزء حديثية، ودخل دمشق سنة سبعين طالبا للحديث. وصنف قديما في حياة شيخه، واشتهر بشرح المنهاج الكبير له، ووقف عليه الأذرعي، واستفاد منه، واعترضه في مواضع، وقد مات الأذرعي قبله بدهر، ودرس وأفتى، وصنف التصانيف الكثيرة في أنواع العلوم، واشتهرت في حياته، ونقلت إلى البلاد، ونفع الله تعالى بها. وأولى علومه الحديث، وناب في الحكم، ثم سعى في القضاء على مستخلفه ابن أبي البقاء. وجرى له في ذلك كائنة مشهورة، قال الحافظ شهاب الدين بن حجر أمتع الله ببقائه: وتخرج في الحديث بزين الدين الرحبي، وعلاء الدين مغلطاي، وكتب عنهما الكثير، وأكثر من تحصيل الأجزاء، وسماع الكتب الكبار. وعني بالفقه، فأخذ عن شيوخ عصره، ومهر في الفنون. وكان في أول أمره ذكيا فطنا. رأيت خطوط فضلاء ذلك العصر في طبقات السماع توصفه بالحفظ ونحوه من الصفات العلمية، ولكن لما رأيناه لم يكن في الاستحضار ولا في التصرف بذاك، فكأنه لما طال عمره استروح، وغلبت عليه الكتابة، فوقف ذهنه، واعتنى بالتصنيف، فشرح كثيرا من الكتب المشهورة كالمنهاج والتنبيه والحاوي، فله على كل واحد منها عدة تصانيف. يشرح الكتاب شرحا كبيرا ووسطا وصغيرا، ويفرد لغاته وأدلته وتصحيحه ونحو ذلك. ومن محاسن تصانيفه شرح الحاوي، رأيت منه نسخة، كتبت عنه في حدود سنة خمسين، وشرح البخاري في عشرين مجلدة، وعمله في نصفه الأول أقوى من عمله في نصفه الآخر. وقد ذكر أن بينهما مدة عشرين سنة، ثم شرح زوائد مسلم ثم زوائد أبي داود ثم زوائد الترمذي ثم زوائد النسائي ثم زوائد ابن ماجة كذا رأيت بخطه. ولكن لم يوجد ذلك بعده، لأن كتبه احترقت قبل موته بقليل، وزاح فيها من الكتب النفيسة الموقوفة وغير الموقوفة شيء كثير. وصنف في كل فن، فشح الألفية في العربية، ومنهاج البيضاوي، مختصر ابن الحاجب وعمل الأشباه والنظائر وجمع في الفقه كتابا سماه الكافي أكثر فيه من النقول الغريبة. واشتهر اسمه، وطار صيته، ورغب الناس في تصانيفه، لكثرة فوائدها وبسطها، وجودة ترتيبها. وكانت كتابته أكثر من استحضاره. فلما دخل الشام فاتحوه في كثير من مشكلات تصانيفه فلم يكن له بذلك شعور، ولا أجاب عن شيء منه، فقالوا في حقه. ناسخ كثير الغلط، وقد تغير قبل موته فحجبه ولده إلى أن مات. وقال الحافظ شهاب الدين بن حجى تغمده الله برحمته: صنف في أيام شيخه الإسنوي قديما شرح المنهاج، ثم صنف تخريج أحاديث الرافعي، ورد علينا دمشق في سنة سبعين طالبا لسماع الحديث، فاعتنى به القاضي تاج الدين لما ورد عليه، وكتب له على مؤلفه، وأرسله إلى الشيخ عماد الدين بن كثير فكتب له أيضا. وإنما استعان بكتاب القاضي عز الدين بن جماعة، ثم كتب بعد ذلك كتبا عديدة. والمصريون ينسبونه إلى سرقة تصانيفه، فإنه ما كان يتحضر شيئا، ولا يحقق علما، ويؤلف المؤلفات الكثيرة على معنى النسخ من كتب الناس. وقال غيره: كان فريد الدهر في كثرة التواليف وحسنها، وعبارته حسنة. وكان منقطعا عن الناس جدا. وكان من أعذب الناس ألفاظا، وأحسنهم خلقا، وأجملهم صورة، كثير المروءة والإحسان والتواضع، وكان موسعا عليه، كثير الكتب جدا، ثم احترق غالبها قبل موته. توفي في ربيع الأول سنة أربع وثمانمائة، ويدفن في حوس الصوفية خارج باب النصر. ومن العجائب أن المشايخ الثلاثة هو والبلقيني والعراقي كانوا أعجوبة هذا العصر على رأس القرن: الشيخ في التوسع في معرفة مذهب الشافعي، وابن الملقن في كثرة التصانيف، والعراقي في معرفة الحديث وفنونه. وكل من الثلاثة ولد قبل الآخر بسنة ومات قبله بسنة. ومن تصانيفه تخريج أحاديث الرافعي سماه البدر المنير في ستى مجلدات، واختصره في نحو عشره سماه الخلاصة، ثم اختصره في تصنيف لطيف وسماه المنتقى، وتخريج أحاديث المهذب وتخريج أحاديث الوسيط(1/200)
شرح العمدة سماه الإعلام بفوائد عمدة الأحكام وهو من أحسن مصنفاته، تلخيص مسند الإمام أحمد وصحيح ابن حبان، الاعتراض على مستدرك الحاكم، الإشراف على أطراف الكتب الستة، المقنع في علوم الحديث، مختصر دلائل النبوة، عمدة المحتاج إلى كتاب المنهاج في ثمانية مجلدات، والعجالة شرح مختصر في ثلاثة مجلدات، الاعتراض على المنهاج مجلد، شرح التنبيه الكبير شرح ثاني متوسط نحو الزنكلوني، وآخر صغير، والأمنية على أسلوب نكت النشائي وطبقات المحدثين وطبقات الشافعية وطبقات القراء وطبقات الصوفية وتاريخ دولة الترك وشرح الحاوي في ثلاثة مجلدات، ونكت عليه جزء، وشرح المنهاج البيضاوي وغاية السول في خصائث الرسول صلى الله عليه وسلم، وغير ذلك. وقال بعضهم: بلغت مصنفاته نحو ثلاثمائة مصنف. واختصر تهذيب الكمال للمزي ورجال الكتب الستة الزائدة على ذلك مسند أحمد وصحيحي ابن خزيمة وابن حبان ومستدرك الحاكم والدار قطني والبيهقي. ح العمدة سماه الإعلام بفوائد عمدة الأحكام وهو من أحسن مصنفاته، تلخيص مسند الإمام أحمد وصحيح ابن حبان، الاعتراض على مستدرك الحاكم، الإشراف على أطراف الكتب الستة، المقنع في علوم الحديث، مختصر دلائل النبوة، عمدة المحتاج إلى كتاب المنهاج في ثمانية مجلدات، والعجالة شرح مختصر في ثلاثة مجلدات، الاعتراض على المنهاج مجلد، شرح التنبيه الكبير شرح ثاني متوسط نحو الزنكلوني، وآخر صغير، والأمنية على أسلوب نكت النشائي وطبقات المحدثين وطبقات الشافعية وطبقات القراء وطبقات الصوفية وتاريخ دولة الترك وشرح الحاوي في ثلاثة مجلدات، ونكت عليه جزء، وشرح المنهاج البيضاوي وغاية السول في خصائث الرسول صلى الله عليه وسلم، وغير ذلك. وقال بعضهم: بلغت مصنفاته نحو ثلاثمائة مصنف. واختصر تهذيب الكمال للمزي ورجال الكتب الستة الزائدة على ذلك مسند أحمد وصحيحي ابن خزيمة وابن حبان ومستدرك الحاكم والدار قطني والبيهقي. 3
محمد بن إبراهيم بن إسحاق بن إبراهيم بن عبد الرحمن، قاضي القضاة صدر الدين أبو المعالي السلمي، المناوي، المصري. مولده في شهر رمضان سنة اثنتين وأربعين وسبعمائة، وأبوه حينئذ ينوب عن القاضي عز الدين بن جماعة، ونشأ في سعادة وحفظ التنبيه، وسمع الحديث من جماعة، وجمع له الحافظ أبو زرعة مشيخة في خمسة أجزاء. وناب في الحكم وهو شاب، ودرس وأفتى، وولي إفتاء دار العدل وتدريس الشيخونية والمنصورية، ثم ولي قاء القاهرة استقلالا أربع مرات نحو خمس سنين في مدة إحدى عشرة سنة ونصف. قال الحافظ شهاب الدين بن حجر امتع الله ببقائه: وكتب شيئا على جامع المختصرات، وخرج أحاديث المصابيح، وتكلم على مواضع منه، وحدث، وحضرت بعض المجالسين عليه. وكان كثير التودد إلى الناس، مهابا، شهما، معظما عند الخاص والعام. له صورة كبيرة، وحشمة بالغلة، وكلمة نافذة، ويسار ظاهر. وكان منذ نشأ يسلك طريق برهان الدين بن جماعة في التعاظم، ثم ألان جانبه بعد الاستقلال. وكانت له عناية بتحصيل الكتب النيسة فحصل منها شيئا كثيرا، عرفت بعده. وكان يهاب الملك الظاهر، فلما مات أمن على نفسه. وتحقق انهم لا يقدمون على عزله، لما تقرر له في القلوب من المهابة، فسافر مع العسكر إلى قتال تنم فازدادت حرمته، وعظم فوق ما في نفسه، ثم سافر معهم إلى قتال اللنك فانعكس الأمر وأسر وأهين جدا، وسافروا به وهو في قيد، فغرق في نهر الزاب في شوال سنة ثلاث وثمانمائة بعد أن قاسى أهوالا. ومن العجائب أنه كان يهاب ركوب البحر، فكان لا يتوجه إلى منزلهم في الروضة بجانب المقياس أيام زيادة النيل خشية من ركوب البحر، فاتفق أنه لم يمت إلا غريقا رحمه الله تعالى.(1/201)
محمد بن أبي بكر بن عبد العزيز بن محمد بن إبراهيم بن سعد الله بن جماعة، الشيخ الإمام العلامة المحقق المفنن، الجامع بين أشتات العلوم، فريد العصر، عز الدين أبو عبد الله بن الشيخ شرف الدين بن قاضي القضاة عز الدين بن قاضي القضاة بدر الدين. كالناني، الحموي الأصل، المصري، شيخ الديار المصرية في العلوم العقلية. ولد في ذي القعدة سنة تسع وأربعين وسبعمائة بطريق ينبع، وأحضر إلى أبي الفتح الميدومي وأبي الحسن القرمي وأبي عبد الله البياني، وسمع على جده، وأجاز له جماعة من شيوخ مصر والشام باستدعاء الحافظ زين الدين العراقي، وحبب إليه الاشتغال فأكب عليه، ولم يلتفت إلى شيء من الأشياء إلا إليه، فمهر في النحو والمعاني والبيان والمنطق، وتوغل في الكلام والطب والتشريح. وكان آية من الآيات في معرفة العلوم الأدبية والعقلية والأصلين، وأخذ عنه غالب أهل مصر. قال الشيخ جمال الدين الطيماني رحمه الله تعالى: إنه كان يقرأ عليه، ويسمع دروسه، وكان إذ ذاك نحو خمسين درسا في اليوم والليلة في دقائق العلوم. قال: وكان يستحضر الكفاية لابن الرفعة، ومع ذلك فليس هو ممن يشار إليه في علم الفقه. وقال الحافظ شهاب الدين بن حجر أمتع الله ببقائه فيما كتب به إلي: إنه فاق الأقران بذكائه، وقوة حافظته، وحسن تقريره، وتصدى للأشغال، فكان لا يمل مع اطراح التكلف وعدم الحرص والتقنع باليسير. وصنف التصانيف الكثيرة المبسوطة والمختصرة، منها شرح جمع الجوامع، وحاشية على العضد. وقد جمع تصانيفه في نحو من عشرين فنا، ورتبها، وهي تزيد على مائتي مصنف، ضاع أكثرها بأيدي الطلبة. ولم يكن يقرئ كتابا إلا ويكتب عليه حاشية. وما سمع أحد شيخا في عصره يقرر أحسن من تقريره. وقد صنف في العروض وفنون الأدب، ولم يكن له ملكة في النظم ولا في حسن الاختصار.
وكان من علو همته لا ينظر شيئا إلا وأحب أن يقف على أصله ويشارك فيه، حتى أن له تصنيفا في الرمل، وفي لعب الرمح والنشاب وتركيب النقط. وبالجملة فكان من العوم بحيث يقضي له في كل علم بالجميع. وبلغني أنه كان يتحرى أن لا يكون إلا على طهارة، ولا يمكن أحدا عنده من الغيبة مع ما هو فيه من ممازحة الطلبة ومفاكهتهم، والتواضع المفرط. مات في شهر ربيع الآخر سنة تسع عشرة وثمانمائة شهيدا بالطاعون ولم يخلف بعده مثله.
محمد بن أحمد بن خليل الغراقي بفتح الغين المعجمة وتشديد الراء وبعد الألف قاف، نسبة إلى بعض قرى الديار المصرية، الشيخ شمس الدين. ولد قبل الستين وسبعمائة، وقدم القاهرة، وأخذ عن الشيخين جمال الدين الإسنوي وسراج الدين البلقنين وغيرهما، ولازم الاشتغال إلى أن برع. قال الحافظ شهاب الدين بن حجر أمتع الله ببقائه: انتهت إليه الرئاسة في معرفة الفرائض، وقصده الطلبة لذلك، حتى صار غالبهم الآن من طلبته. وكان منتصبا للأشغال في الجامع الأزهر مع الدين والخير وحسن السمت والتواضع والصبر على الطلبة. ةباشر الإمامة في الجامع المذكور نيابة. وكان قد سمع الحديث من القاضي عز الدين بن جماعة وغيره، وحدث قليلا انتهى وقال غيره: كان كثير النفع، يلازم تلاوة القرآن. قيل: إنه كان يختم في كل يوم وليلة ختمة، وإنه حج وجاور. وكان يعتمر كل يوم أربع عمر. توفي في شعبان سنة ست عشرة وثمانمائة.
محمد بن أحمد بن علي بن سليمان، المعري ثم الحلبي، الشيخ بدر الدين بن الركن. ولد سنة بضع وثلاثين وسبعمائة، وتفقه بزين الدين الفارسي وتاج الدين بن الدريهم. وأخذ عن القاضي تاج الدين السبكي. وكتب بخطه شيئا كثيرا، وهو متقن لكنه ضعيف. وخطب في جامع حلب مدة، وأنشأ خطبا في مجلده، وجمع كتابا سماه روض الأفكار في الحكايات والأخبار في مجلد، فيه فوائد وغرائب. وكان له نظم ونثر وإيثار مع حدة خلق، أخذ عنه الحلبيون. ومات في فتنة التتار سنة ثلاث وثمانمائة.(1/202)
محمد بن إسماعيل بن علي، الشيخ الإمام العلامة، شيخ القدس وعالم تلك النواحي، شمس الدين أبو عبد الله بن الشيخ العلامة شيخ الشافعية في القدس تقي الدين، القلقشندي. ولد سنة خمس واربعين وسبعمائة، وأسمع على أبي الفتح الميدومي، وأخذ عن أبيه، وجده لأمه الحافظ صلاح الدين العلائي. قال الحافظ شهاب الدين بن حجر أمتع الله ببقائه: اشتغل ومهر وساد حتى صار شيخ القدس في الفتوى والتدريس، وسمعت منه. وما في شهر رجب سنة تسع بتقديم التاء وثمانمائة في القدس، ودفن في مقبرة ماملا عند والده وأخيه في الحوش المقابل لزاوية القلندرية وتربة بهادر. أخوه هو الشيخ برهان الدين لا أحفظ وقت وفاته. وقد حكى لي الحافظ شهاب الدين بن حجى تغمده الله برحمته: أنه قدم دمشق أيام ابن جماعة وحضر الدروس. قال: فجاء عليه أنه يحفظ جملة كتب وعجيب كيف لم يعتن بوقت وفاته وتحرير ترجمته.
محمد بن عبد الله بن أبي بكر القليوبي، الشيخ شمس الدين. قال الحافظ شهاب الدين بن حجر امتع الله ببقائه: اشتغل وتقدم، ومهر وفضل، وشغل الناس واشتهر بالدين والخير، وكان متقللا. فلما كان في أواخر عمره قرر في مشيخة الناصرية في سرياقوس فصلح حاله. وكان متواضعا، لين الجانب، صحب الشيخ ولي الدين الملوي وتأدب بآدابه. مات في جمادى الأولى سنة اثنتين عشرة وثمانمائة.
محمد بن عبد الله بن ظهيرة بن أحمد بن عطية بن ظهيرة بن مروزق بن محمد بن سليمان بن علي بن عليان بن قاسم، القرشي، المخزومي، المكي، القاضي العالم قاضي مكة وخطيبها، وفقيه الحجاز ومفتيه وحافظه، جمال الدين أبو حامد. ولد ليلة عيد الفطر سنة إحدى وخمسين وسبعمائة، وسمع على الشيخ خليل المالكي، وعلى الشيخ عبد الله اليافعي، وعلى القاضي عز الدين بن جماعة. ورحل إلى القاهرة ودمشق وحلب والإسكندرية وغيرها. وسمع من جماعة كثيرين، وتفقه في مكة بقاضيها أبي الفضل النويري، وفي دمشق والقاهرة على قاضيهما أبي البقاء السبكي، وفي دمشق على عماد الدين الحسباني، وفي حلب على الشيخ شهاب الدين الأذرعي، وأخذ عن الشيخ سراج الدين البلقيني، وأجازه بأربعة علوم: الحديث والفقه وأصوله والعربية، وعن الشيخ سراج الدين ابن القن، وأجازه بالفتوى والتدريس. وأفتى، وتصدى للتدريس نحو أربعين سنة، ثم ولي قضاء مكة من سنة ست وثمانمائة إلى أن مات إلا أنه صرف مرارا وأعيد، ومات وهو على القضاء. قال الحافظ شهاب الدين بن حجر أمتع الله ببقائه: اشتغل بالفقه والفنون، وعني بالحديث، فرحل فيه مرارا إلى دمشق وحلب ومصر والقدس، وحصل الأجزاء وفوائد الشيوخ، وكتب بحطه الدقيق الحسن كثيرا، وأثبت أسماء من سمع منه، وثبته كثير، وتصدى للإفادة قديما، واستمر على ذلك مع الدين والخير والصبر على الطلبة. وكان كتب شيئا على الحاوي، وخرج له الحافظ صلاح الدين الأقفهسي معجما جيدا، وحدث بالكثير. وكان كثير الأوراد، حسن السمت، ظاهر الوقار، قليل الكلام فيما لا يعنيه. وقال الحافظ تقي الدين الفاسي فيما أخبرني به: كان بارعا في الفقه والنحو، مشاركا في الأصول، وغير ذلك، حافظا لأسماء الرواة، عارفا بالعالي والنازل، وغير ذلك من متعلقات الحديث. ويستحضر كثيرا من شرح مسلم فيما يتعلق بغريب الحديث والفقه. وكان حسن السيرة في قضائه، ذا حظ من العبادة والخير. وقد أذن له في الإفتاء عماد الدين الحسباني، والشيخ سراج الدين البلقيني، والشيخ سراج الدين بن الملقن. وأخذ علم الحديث عن الحافظ زين الدين بن العراقي. وكتب على الحاوي من البيع إلى الوصايا، ذكر فيه فروعا كثيرة، وجمع جزءا فيما يتعلق بزمز، ونظم قواعد الإعبارب لابن هشام، وله شعر كثير حسن. توفي في رمضان سنة سبع بتقديم السين عشرة وثمانمائة في مكة.
محمد بن علي بن يعقوب، النابلسي ثم الحلبي، الشيخ شمس الدين، ولد سنة بضع وخمسين وسبعمائة، وحفظ التنبيه، ثم حفظ المنهاج، ثم حفظ التمييز، وشرع في حفظ الحاوي، وحفظ الشاطبية، والتسهيل، ومختصر بن الحاجب ومنهاج البيضاوي وغير ذلك، وتفقه ومهر ودرس، وكان يكرر على محفوظاته، قال بعض المتأخرين: كان سريع الإدراك، محافظا على الطهارة، شديد الورع، سليم اللسان، صحيح العقيدة، لا أعلم في حلب أحدا على طريقته. توفي في ربيع الآخر سنة إحدى وثمانمائة.(1/203)
محمد بن علي، الشيخ شمس الدين المصري، المعروف بابن القطان. ولد سنة ثلاثين وسبعمائة. وكان أبوه قطانا داخل باب زويلة، فنشأ ولده هذا في طلب العلم، ولازم الشيخ بهاء الدين بن عقيل فتقدم عنده، ولما بنى بدر الدين الجزولي مدرسته على شاطئ النيل، قرره فيها إماما، وابن عقيل مدرسا، وتزوج شمس الدين ابنة بهاء الدين. وقرأ في الأصول على عماد الدين الإسنائي، والعربية على الشيخ شمس الدين بن الصائغ. قال الحافظ شهاب الدين بن حجر أمتع الله ببقائه في الوفيات التي كتبها لي: طلب العلم وجد إلى أن وجد، ومهر في الفقه والعربية وفي القراءات، وصنف فيها، وعلق على الألفية شرحا، ورأيت بخطه شرح الحاوي لشيخنا بن المقلن في مجلدين، كتبه عن مؤلفه في سنة خمسين، ودرس في عدة أماكن وأفتى، وكان قد انفرد في مصر بذلك حتى كان كثير من الرؤساء يقدمه على كثير من المشايخ لقوة ذهنه وكثرة استحضاره. ثم ناب في الحكم بآخره عن القاضي جلال الدين. ومات على ذلك في شوال سنة ثلاث عشرة وثمانمائة. وهو أول شيخ اشتغلت عليه. وكان أبي قد جعله أحد الأوصياء، فتصرف تصرفا عجيبا سامحه الله تعالى.
محمد بن محمد بن الخضر بن شمرى، الزبيري الأسدي العيزري، الشيخ شمس الدين، نزيل غزة. ولد في ربيع الآخر سنة أربع وعشرين وسبعمائة. اشتغل في القاهرة فأخذ عن الشيخ شمس الدين بن عدلان وبرهان الدين الحكري وغيرهما، وانتقل إلى غزة سنة أربع وأربعين فقطنها وارتحل إلى دمشق، فأخذ عن الشيخ بهاء الدين الإخميمي والقطب التحتاني والشيخ عماد الدين بن كثير، والقاضي تاج الدين عن مواضع في جمع الجوامع، أجابه عنها، وسماها منع الموانع. وكتب إلي أنه علق على الشرح الكبير، ونظم أرجوزة في العربية، وغير ذلك، وصار المشار إليه في العلم ببلاد غزة انتهى. وقد وقفت له على مصنفات كثيرة بخطه في علوم متعددة، منها مختصر القوت وقفت على الربع الأخير منه، وعبارته عقدة. وشرح جمع الجوامع للسبكي، ووقفت بخطه على اعتراضات له على فتوى للشيخ سراج الدين البلقيني، وقد وقف عليها القاضي جلال الدين ابن الشيخ فرد ما قاله، وأرسله إليه فعاد، واعترض ما قاله القاضي جلال الدين، وقد وقفت له على كراسة جمع فيها ترجمة لنفسه، وعدد فيها تصانيفه، وهي كثيرة، منها الظهير على فقه الشرح الكبير في خمسة مجلدات، وكنز المحتاج إلى إيضاح المنهاج والسراج الوهاج في حل المنهاج، وأوضح المسالك في المناسك، وأسنى المقاصد في القواعد، وشرح المختصر لابن حاجب وشرح الألفية، وشرح الحاجبية. توفي في ذي الحجة سنة ثمان وثمانمائة.(1/204)
محمد بن محمد بن عبد البر بن يحيى بن علي بن تمام، قاضي القضاة بدر الدين أبو عبد الله بن قاضي القضاة بهاء الدين أبي البقاء بن القاضي سديد الدين بن القاضي صدر الدين، الأنصاري، الخزرجي السبكي. مولده في شعبان سنة إحدى وأربعين وسبعمائة، وسمع من جماعة، وأخذ عن والده وغيره من علماء العصر، وفضل في عدة فنون، وأشغل ودرس وأفتى، وحدث في مصر والشام وغيرهما. ودرس في دمشق في الأتابكية والرواحية وغيرهما. وناب عن والده في القضاء في القاهرة وباشر عدة وظائف. وولي مشيخة الحديث في القبة المنصورية. ولما انتقل والده إلى قضاء الشام، ولي عوضه تدريس الشافعي والمنصورية، ثم ولي القضاء عوضا عن ابن جماعة في شعبان سنة تسع وسبعين عقب قتل الأشرف، وكثر القول فيه لكونه ولي بمال بذله. وأعيطت قبة الشافعي للبلقيني، والمنصورية للقرمي، فباشر سنة ونحو أربعة أشهر، ثم عزل وأعيد ابن جماعة، واستمر بطالا، ليس بيده وظيفة أزيد من ثلاث سنين، ثم أعيد إلى القضاء في صفر سنة أربع وثمانين، فباشر خمس سنين ونحو خمسة أشهر، ثم عزل. فلما توفي ابن جماعة ولي خطابة الجامع الأموي، وتدريس الغزالية، ثم صرف في رجب سنة إحدى وتسعين، ثم ولي القضاء في القاهرة مرتين عن القاضي صدر الدين المناوي، وعزل في المرتين به. ومدة مباشرته في ولاياته الأربع ثمان سنين ونصف في مدة ثمانية عشر سنة، وولي في آخر وقت تدريس الشافعي، واستمرت بيده إلى أن مات. وكان لينا في مباشرته، وفي لسانه رخاوة. وكان ولده جلال الدين غالبا على أمره فمقته الناس. قال الحافظ شهاب الدين بن حجر أمتع الله ببقائه: اشتغل في الفقه وغيره، فمهر وكان لين الجانب، قليل المهابة، بخيلا بالوظائف، حسن الخلق، كثير الفكاهة، منصفا في البحث. وكان أعظم ما يعاب به تمكينة ولده جلال الدين من أمور. توفي في شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وثمانمائة، ودفن خارج باب النصر.
محمد بن موسى بن عيسى، الدميري المصري، كمال الدين. ولد في حدود الخمسين، وتكسب بالخياطة، ثم خدم الشيخ بهاء الدين السبكي وأخذ عنه وعن الشيخ جمال الدين الإسنوي. ولما صنف الإسنوي التمهيد مدح الإسنوي بأبيات، فكتب له الشيخ جمال الدين الإسنوي، وأثنى عليه ثناء كثيرا. وتخرج ومهر في الفنون، وقال الشعر، وولي تدريس الحديث بالقبة الركنية، بالقرب من باب النصر، وحج مرارا، وجاور، وتكلم على الناس في جامع الظاهر بالحسينية. وكان ذا حظ من العبادة والتلاوة، لا يفتر لسانه غالبا عنهما، وله شرح المنهاج في أربعة مجلدات، ضمنه فوائد كثيرة، خارجة عن الفقه، والديباجية في شرح سنن ابن ماجه في أربعة مجلدات، وجمع كتابا سماه حياة الحيوان، أجاد فيه: ذكر فيه جملا من الفوائد الطبية والخواص والأدبية والحديثية وغير ذلك. وله خطب مدونة جمعية ووعظية. قال الحافظ شهاب الدين ابن حجر في المعجم: وكان له حظ من العبادة تلاوة وصياما ومجاورة في مكة والمدينة. واشتهرت عنه كرامات، وأخبار بأمور مغيبات يسندها إلى المنامات تارة، وإلى بعض الشيوخ أخرى، وغالب الناس يعتقد أنه يقصد بذلك الستر. توفي في جمادى الأولى سنة ثمان وثمانمائة.(1/205)
محمد بن يعقوب بن محمد بن إبراهيم بن محمد بن أبي بكر بن إدريس ابن فضل الله، الشيرازي، الفيروزابادي، القاضي مجد الدين أبو الطاهر. إمام عصره في اللغة، كان يرفع نسبه إلى الشيخ أبي إسحاق صاحب التنبيه، ويقول: إن جده فضل الله ولد الشيخ أبي إسحاق، ولا يبالي بما يشاع بين الناس أن الشيخ لم يتزوج فضلا عن أن يعقب. ولد في سنة تسع وعشرين بكارزين من أعمال شيراز، وتفقه ببلاده، وطلب الحديث، وسمع من الشيوخ، ومهر في اللغة، وهو شاب. وسمع من جماعة وقدم الشام بعد الخمسين، إما سنة خمس، أو في السنة التي بعدها، وسمع فيها الحديث، ودخل القدس وسمع من الحافظ صلاح الدين العلائي، ثم دخل مصر ويمنع فيها، وقدم مكة، وسمع فيها، ولقي جماعة من الفضلاء، وأخذ عنهم، وأخذوا عنه. واشتهرت فضائله، وكتب الناس تصانيفه. وذكره الصفدي في تذكرته، وعظمه، وكتب عنه بيتين في سنة سبع وخمسين في دمشق. وجال في البلاد الشمالية والشرقية، ودخل الروم ثم الهند. وله مجاورة في الحرمين. وكان كثير الكتب جدا، ولا يافر إلا وهي معه في عدة أعدال على عدة جمال، ويفتحها في غالب المنازل ويطالع فيها، واتفق أنه قدم اليمن بعد التسعين من الهند عقب وفاة القاضي جمال الدين الريمي شارح التنبيه، فقرره الملك الأشرف إسماعيل في القضاء بالبلاد اليمنية، فلم يزل ذلك باسمه إلى أن مات، وكان قد جاور في غضون ذلك في مكة مرارا، ثم يرجع، وكان الأشرف يكرمه كثيرا. قال الحافظ شهاب الدين بن حجر أمتع الله ببقائه: أخذ عن القاضي تقي الدين السبكي، وعن ولده تاج الدين، وعن القاضي عز الدين ابن جماعة، وفي شيوخه كثرة. وقد خرج له الحافظ شمس الدين محمد بن موسى المراكشي ثم المكي مشيخة عن جمع كثير من شيوخه. وأما معرفته باللغة، وأطلاعه على نوادرها فأمر مستفيض، وكان يقول: ما كنت أنام حتى أحفظ كذا كذا سطرا ذكرها. وكان يعاب بالسهو في العبارة إلا أنا ما جربنا عليه في نقله شيئا. توفي بزبيد في شوال سنة سبع بتقديم السين عشرة وثمانمائة، ودفن في تربة الشيخ إسماعيل الجبرتي. وهو آخر من مات من الرؤساء الذين انفرد كل منهم بفن فاق فيه أقرانه على رأس القرن الثامن، وهم الشيخ سراج الدين البلقيني في الفقه على مذهب الشافعي، والشيخ زين الدين العراقي في الحديث، والشيخ سراج الدين بن الملقن في كثرة التصانيف في فني الفقه والحديث، والشيخ شمس الدين الغماري في العربية، والشيخ أبو عبد الله بن عرفة في فقه المالكية. وفي سار العلوم بالمغرب، والشيخ مجد الدين الشيرازي في اللغة. وذكر له الحافظ برهان الدين في مشيخته ترجمة طويلة وقال: كان في اللغة بحر علم لا يكدره الدلاء، وألف فيها تواليف حسنة، قال: وكان معظما عند الملوك، أعطاه تيمورلنك خمسة آلاف دينار، ومع ذلك فإنه كان قليل المال لسعة نفقاته. وكان سريع الحفظ، يحكى عنه انه كان يقول: ما كنت أنام حتى أحفظ مائتي سطر. وعد تصانيفه وهي بضع وأربعون مصنفا. ومن تصانيفه: القاموس المحيط في اللغة، بالغ في اختصاره وتحريره وميز ما زاده على الصحاح بالحمرة، وهو شيء كثير جدا، لعله لو جرد كان قدر الصحاح، إلا أنه محذوف الشواهد، وشرع في شرح مطول على البخاري ملأه بغرائب المنقولات ونوادر اللغات، كمل منه ربع العبادات في عشرين مجلدا. وشوارق الأسرار في شرح مشارق الأنوار أربعة مجلدات. وصنف للإشراف كتابا سماه الإصعاد إلى رتبة الاجتهاد في أربعة أسفار. وصنف لولده الناصر كتابا سماه تسهيل الوصول إلى الأحاديث الزائدة على جامع الأصول أربعة مجلدات، وبضائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز مجلدان، وشرح عدة الأحكام مجلدان، وكتاب المرقاة الأرفعية في طبقات الشافعية، وكتاب المرافة الرقية في طبقات الحنفية. وألف كتابا على المجمل لابن فارس. أخذ عليه فيه ألف مكان، ومع هذا كان يثني على صاحبه ابن فارس.(1/206)