موقف ابن تيمية من التصوف والصوفية
ومنهجه في الحكم عليهم
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
إنِ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران:102].
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً ﴾ [النساء:1].
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً ﴾ [الأحزاب:70-71].
أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرُ الْهُدَى هُدَى مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ ـ وَشَرُّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ [وحدهم المديرون لديهم صلاحيات معاينة هذا الرابط].
أهمية البحث:يعد شيخ الإسلام من أعلام المنهج السلفي، والذي أحسب أن منهج السلف قد توطدت دعائمه على يديه، خاصة مع تصانيفه الوافرة في تأصيل مذهب السلف و نصرته والرد على مخالفيه، إضافة إلى تصانيفه التي تشعبت في شتى ميادين العلوم الإسلامية، من عقيدة وفقه وأصول وتفسير وتصوف وغيرها من العلوم.
ومن خلال ما انتشر عن شيخ الإسلام بوصفه من آخر أعلام المنهج السلفي أنه من أكثر الناس عداء للتصوف والصوفية على العموم، وأن ذلك ظاهر من خلال أنه قد شن الحرب عليهم وعرض بدعهم ورد عليها، إلا أن هذا التعميم قد يتعارض نوعا ما إلى ما جاء عن شيخ الإسلام من مواقف تجاه أئمة التصوف الأوائل، وتصنيفه في أصول التصوف كتبا كالتحفة العراقية، والاستقامة وغير ذلك من الرسائل الموجودة في مجموع الفتاوى.
ومن هنا كانت النقطة البحثية المراد معالجتها هو الرد على الأسئلة التالية:
ما هو موقف شيخ الإسلام من التصوف والصوفية من خلال تراثه؟ وما هو منهجهم في الحكم عليهم؟ وما السبب في سوء الفهم لكلام شيخ الإسلام والسبيل لتصحيح هذا الفهم؟
الدراسات السابقة التي تم الاطلاع عليها:من الدراسات السابقة التي وقفت عليها ما يلي:
1- التصوف فى تراث ابن تيمية، للدكتور الطبلاوى محمود سعد: وفي هذه الرسالة قام الدكتور بعرض الموافقات بين عقيدة أوائل الصوفية وشيخ الإسلام، وبيان وحدة العقيدة والمنهج بينهما في أصول الإيمان خاصة، فيلجأ لأقوال شيخ الإسلام في المسائل في كتبه، ويذكر آراءهم من كتبه وكتبهم، وهي من الرسائل النافعة جدا.
2- ابن تيمية والتصوف، مؤلف للأستاذ الدكتور مصطفى حلمي، وهي تعرض موقف شيخ الإسلام من الصوفية عموما، ويفرق الشيخ بين أوائل الصوفية ومتأخريهم، ويعرض بعض قضايا التصوف.
3- موقف ابن تيمية من الصوفية، رسالة دكتوراة بجامعة الإمام محمد بن سعود، للدكتور محمد بن عبد الرحمن العريفي.
4- موقف ابن تيمية من التصوف والصوفية، رسالة ماجستير بكلية الدعوة وأصول الدين بجامعة أم القرى، الدكتور أحمد بن محمد بناني.
وهاتان الرسالتان الأخيرتان تتعرضان بتوسع لكتاب الأستاذ الدكتور مصطفى حلمي، إلا أنهما يغلب عليهما الطابع النقدي، والتعرض لأواخر الصوفية أكثر من الأوائل.
عرض موجز للدراسة ومشتملاتهايشتمل البحث على الفصول التالية:
• المقدمة.
• الفصل الأول: موقف ابن تيمية من نشأة التصوف وأصوله وضوابطه.• الفصل الثاني: موقف شيخ الإسلام من أعلام التصوف وعلومهم.• الفصل الثالث: المنهج الذي سلكه شيخ الإسلام في الحكم على الصوفية.• الفصل الرابع: أسباب الخطأ في فهم موقف شيخ الإسلام من الصوفية.• الخاتمة.أسأل الله أن أكون قد وفقت في عرض هذه القضية، ومناقشتها علمياً بما يفيد، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الفصل الأول
موقف ابن تيمية من نشأة التصوف وأصوله وضوابطه
أولا: موقف شيخ الإسلام من اصطلاح التصوف والصوفية من حيث السنة والبدعةلم يكن شيخ الإسلام ممن يؤثر عنه القول ببدعية لفظ الصوفية كما يجنح إلى ذلك كثير من متأخري أهل السنة، فقد قال شيخ الإسلام أن هذا اللفظ لم يكن مشهورا في القرون الثلاثة، وإنما اشتهر التكلم به بعد ذلك، ونُقِلَ التكلم به عن غير واحد من الأئمة والشيوخ كالإمام أحمد وأبي سليمان الداراني وغيرهما، كما رُوِيَ عن سفيان الثوري أنه تكلم به وبعضهم يذكر ذلك عن الحسن البصري وتنازعوا في "المعنى" الذي أضيف إليه الصوفي –فإنه من أسماء النسب كالقرشي، والمدني وأمثال ذلك[وحدهم المديرون لديهم صلاحيات معاينة هذا الرابط]، وهذه الدقة في قول شيخ الإسلام توضح قاعدة التفريق بين شهرة المصطلح وبين وجوده، فالوجود غير الشهرة.
وهنا يجب الإشارة أن القول ببدعية هذا الاصطلاح أقل ما يوصف به السطحية، لأن الاصطلاح لا يقف عند القرون الثلاثة المفضلة، فهذه القرون الثلاثة المفضلة المشهور لها بالخيرية لما كانت عليها من منهج وعقيدة، والمشاحة ليست في الاصطلاح، وإنما فيما تحمله من معانٍ، فالاصطلاح إنما يكون من باب التصنيف لا التعبد، وما نشأت اصطلاحات المسلمين إلا في أوقات متأخرة عن عهد النبوة، ولم يقل أحد ببدعيتها.
كما أنه يمكن إلزام من قال أن مطلق اللفظ بدعة إلزامه بتبديع السلف الذين تداولوا المصطلح بينهم، فليس بصواب تبديع كل لفظ لم يأت في هذه القرون المفضلة، فكلام شيخ الإسلام يشير إلى تداول اللفظ ووجوده عند الإمام أحمد والحسن البصري والفضيل والجنيد وغيرهم من أوائل الصوفية، فهم من أئمة السلف، ومن أهل القرون الثلاثة المفضلة، وإقرارهم لوجود الاصطلاح حجة على من أنكره، فلا يمكن تجزءة مذهب السلف بقبول بعضه دون بعض.
وقد ساهم شيخ الإسلام بوضع اصطلاحٍ كان في النفس منه شيء قبل الشروع في هذا البحث، ألا وهو صوفية أهل السنة والحديث، حيث ذكر هذا المصطلح ووصف به الصوفية المتقدمين كالفُضيل وإبراهيم بن أدهم وأبي سليمان الداراني ومعروف الكَرْخي وأمثالهم قال عنهم: " صوفية أهل السنة والحديث"، وذلك لأنهم في اعتقادهم وعملهم يؤمنون بما أخبر به الرسول ويَمْتَثلون أمره[وحدهم المديرون لديهم صلاحيات معاينة هذا الرابط]، وهذا القول منه يؤكد أنه كأحد أعلام المنهج السلفي لا ينكر الاصطلاح في ذاته، إذ لا مشاحة في ذاته، وإنما فيما يحمله من معانٍ وآراء، فالحكم يدور معها.
ثانيا: الأسماء المختلفة للصوفية واشتقاق المصطلح عند شيخ الإسلام ونسبته:ومما يؤكد عناية شيخ الإسلام بالمعنى المراد من الاصطلاح، فقد تتبع الأسماء التي تسمى بها الزهاد الأوائل، وذكر أنه كان لهم أسماء عدة تختلف باختلاف مكانهم، فكانوا يسمون بالشام "الجوعية"، وبالبصرة " الفقرية " و " الفكرية "، ويسمون بخراسان " المغاربة " ويسمون أيضا " الصوفية والفقراء "[وحدهم المديرون لديهم صلاحيات معاينة هذا الرابط]، وهذا التعدد في الأسماء يدل على أن انتشار صورا المنهج الصوفي في بقاع الإسلام، مما يدل على أصالة نزعة الزهد لدى المسلمين، كما يدل على أن الأحكام التي تأتي من أحد العلماء كما ورد عن الشافعي في صوفية العراق، إنما تتصل بأهل هذا المصر فحسب، إلا إن صرح بأن ذلك أصل للطائفة ككل.
وحينما عرض شيخ الإسلام مذاهب شتى في اشتقاق التصوف والصوفية ذكر محاولة النسبة إلى صوفة بن مر، والصفاء، والصف المقدم، وأهل الصفة، إلا أن ما ارتضاه هو النسبة للباس الظاهر حيث قال: "واسم الصوفية هو نسبة إلى لباس الصوف، هذا هو الصحيح"[وحدهم المديرون لديهم صلاحيات معاينة هذا الرابط]، وبين أن الصوفية لم يلزموا أحدا بلباس الصوف، وإنما نسبوا إليه لأنه كان ظاهر حالهم[وحدهم المديرون لديهم صلاحيات معاينة هذا الرابط].
ومما يلفت النظر انشغال شيخ الإسلام إلى حد تتبع اصطلاحاته وأوصاف أهله ونشأته، وهو إن دل فإنما يدل على التحقيق في المسائل، وعدم التعجل في إصدار الأحكام، وطول النفس العلمي في التتبع، لأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، وهذا منهج سلفي أصيل ليت من ينتسب إليه أن يتتبعه، ولا يسيء إليه بتعجله.
كما نرى فقه شيخ الإسلام في حكمه على الصوفية الأوائل بالبدعة لأنهم لبسوا الصوف، وفسر أنهم قد لبسوه عفوا لا قصدا للتدين باللباس، وأنهم لم يلزموا أحدا بلباسهم، وهذا يخرجهم من طائل البدع التي جاء بها المتأخرون، فهم لم يتخذوا هذا اللباس دينا، وإنما كان يأخذه أحدهم تخشنا وزهدا في طلب المزيد للدنيا، فيكفيه ما يستر عورته فحسب.
ثالثا: تحقيق الشيخ نسبة التصوف إلى أهل الصفة ونفي معنى الانقطاع عن الدنيا للعبادةوإذا كان أهل كل مذهب يحاولون إثبات أصالة مذهبهم، فلا شك أنهم يحاولون أن يعودوا بمذهبهم إلى المنبع الأول، عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- وصحابته، وإثبات ما هم عليه للنبي، ومن كان معه من الأصحاب، فحينما حاول البعض أن ينسب للتصوف أنه انقطاع للعبادة عن الدنيا، واحتجوا بأهل الصفة، جاء شيخ الإسلام فأوضح خطأ نسبة التصوف إلى أهل الصفة، وأن إقامتهم بمؤخرة المسجد للتعبد كان عرضا لا قصدا، فالصفة مكان يأوي إليه فقراء المسلمين ممن ليس له أهل ولا مكان يأوي إليه، فكان المهاجرون من مكة وغيرهم يهاجرون إلى المدينة، فلما من له أهل من الأنصار ينزل عليهم [وحدهم المديرون لديهم صلاحيات معاينة هذا الرابط].
كما ذكر أن فقراء المسلمين من أهل الصفة وغيرهم كانو يكتسبون عند إمكان الاكتساب، وأما إذا أحصروا في سبيل الله عن الكسب فكانوا يقدمون ما هو أقرب إلى الله ورسوله، وكان أهل الصفة ضيوف الإسلام يبعث إليهم النبي -صلى الله عليه وسلم- بما يكون عنده فإن الغالب كان عليهم الحاجة لا يقوم ما يقدرون عليه من الكسب بما يحتاجون إليه من الرزق [وحدهم المديرون لديهم صلاحيات معاينة هذا الرابط].
كما ذكر شيخ الإسلام استحالة تركهم الحياة للتعبد ثم يسألون الناس أموالهم، فهذا مخالف للتعاليم التي تلقومه من النبي -صلى الله عليه وسلم- حيث أدبهم بترك المسألة مطلقا، حتى كان السوط يسقط من يد أحدهم فلا يقول لأحد: ناولني إياه، واستدلوا بقول النبي -صلى الله عليه وسلم- : "من سأل الناس وله ما يغنيه جاءت مسألته خدوشا أو خموشا أو كدوشا في وجهه" ومثل قوله: "لأن يأخذ أحدكم حبله فيذهب فيحتطب خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه".[وحدهم المديرون لديهم صلاحيات معاينة هذا الرابط]
وليس معنى نفي التصوف لأهل الصفة أنه نفي للتصوف، وإنما هو نفي لفهم التصوف على أنه تفرغ للعبادة فحسب مع محاولة للبحث عن مستند شرعي قوي يمتد للأوائل أنهم انقطعوا عن الدنيا وجلسوا في الزوايا، وإنما المستند الشرعي مستمدا من القرآن والسنة القولية والعملية، وإقرار النبي -صلى الله عليه وسلم-لبعض صحابته على فعلهم.
رابعا: محاولة شيخ الإسلام لتعريف التصوف والملاحظات عليهحينما أراد شيخ الإسلام أن يعرف التصوف كعلم، ذكر بعض المعاني التي تدور حوله، ثم ذكر ما يذهب إليه من خلال ما يعرفه من علومهم وما يعرفه من نواياهم، فعرف شيخ الإسلام التصوف بأنه حقائق وأحوال معروفة للوصول تهدف في نهاية الطريق إلى صفاء النفس من أجل الوصول لمرتبة الصديقية، وقيل أنه مشتق من "صفا من الكدر وامتلأ من الفكر واستوى عنده الذهب والحجر"، وقيل أنه:"كتمان المعاني وترك الدعاوى"، وهذه المرتبة –الصديقية- هي ما تلي مقام النبوة[وحدهم المديرون لديهم صلاحيات معاينة هذا الرابط].
والملاحظات على محاولة شيخ الإسلام لتعريف التصوف اشتماله ثلااثة أمور:
الأمر الأول: هو شق الغاية، وهو البحث عن مرتبة الصديقية التي تلي مرتبة النبوة، وهو اعتراف بالمنهج الصحيح للصوفية الأوائل بعدم القول بعلو منزلة الأولياء على الأنبياء.
الأمر الثاني: وهو الشق الوصفي للصوفي، وهو الزهد في الدنيا، والاتصاف بالأخلاق، والفناء الشرعي.
الأمر الثالث: وهو ما يختص بالحكم، فإنه لم يحكم على التصوف أو الصوفية بالبدعة في قول أو فعل من خلال التعريف، ويؤكد ذلك تعليقه بعد عرض هذه الآراء بعد أن عرض اختلاف الناس في التصوف والصوفية بين من ذمهم مطلقا وقال أنهم مبتدعون خارجون عن السنة، وبين طائفة غلت فيهم وادعوا أنهم أفضل الخلق وأكملهم بعد الأنبياء، ثم بين أن الصواب أنهم مجتهدون في طاعة الله كما اجتهد غيرهم، فمنهم السابق وفيهم المقتصد، ومنهم من يجتهد فيخطئ وفيهم من يذنب فيتوب أو لا يتوب، ومنهم من هو ظالم لنفسه عاص لربه، وأنه قد انتسب إليهم طوائف من أهل البدع والزندقة؛ ولكن عند المحققين من أهل التصوف ليسوا منهم: كالحلاج مثلا؛ فإن أكثر مشايخ الطريق أنكروه وأخرجوه عن الطريق. كالجنيد وغيره.[وحدهم المديرون لديهم صلاحيات معاينة هذا الرابط]
وليس هذا الفهم عن شيخ الإسلام فهما خاصا، فقد انتقل هذا الفهم من الشيخ إلى التلميذ، فقد قال عنهم ابن القيم:" وما أحسن ما قال أبو أحمد الشيرازى: كان الصوفية يسخرون من الشيطان، والآن الشيطان يسخر منهم"[وحدهم المديرون لديهم صلاحيات معاينة هذا الرابط]، والمعنى أنه كان يفرق بين الأوائل والمتأخرين، وكان يستدل بقولهم في الاعتقاد كما في قصة احتجاج قول أبي جعفر الهمداني الصوفي على الإمام الجويني في قضية العلو حتى صرخ أبو المعالي ولطم على رأسه وقال: حيرني الهمداني حيرني الهمداني[وحدهم المديرون لديهم صلاحيات معاينة هذا الرابط].
خامسا: دلالة لفظ الصوفية عند شيخ الإسلام أنه صار مجملا يجب التحقيق عند إطلاقهومما ذهب إليه شيخ الإسلام أن لفظ التصوف قد صار لفظًا مجملاً، يدخل فيه من هو صِدِّيق ومن هو زنديق، فمن صَدَّق الرسولَ فيما أخبر وأطاعه فيما أمر صار صدِّيقًا، ومن أعرض عن خبره وأمره حتى أخبر بنقيض ما أَخْبرَ وأمَرَ بخلاف ما أَمَر صار زنديقًا، وهذا حال أهل البدع الذي ينتسبون إلى الصوفية كالقائلين بوحدة الوجود ويسمون ذلك تصوفًا، فإنهم ليسوا من الصوفية الحقيقيين[وحدهم المديرون لديهم صلاحيات معاينة هذا الرابط] أهل الزهد والورع، وإنما دخلاء عليهم، لذلك وجب معرفة قصد المتكلم الذي يحاول الانتماء للتصوف، أهو على تصوف المتقدمين أم المتأخرين؟.
سادسا: مراتب الصوفية عند ابن تيميةفي بيان شيخ الإسلام لمراتب الصوفية أنهم ثلاث مراتب: صوفية حقائق، وصوفية أرزاق، وصوفية رسم.
الأولى: صوفية الحقائق، وهم أهل الزهد والوارع.
الثانية: صوفية الأرزاق، وأما صوفية الأرزاق فهم الذين تم عمل الأوقاف لهم، ولم يشترط لهم العلماء أن يكونوا من أهل الحقائق لأنهم قليلون، فضلا عن أن أهل الحقائق لا يلتزمون بالتواجد في هذه الأوقاف.
الثالثة: صوفية الرسم، وهم الذين اقتصروا على اللباس والآداب الوضعية، فهؤلاء بمنزلة الذي يقتصر على زي أهل العلم وأهل الجهاد ونوع ما من أقوالهم وأعمالهم بحيث يظن الجاهل حقيقة أمره أنه منهم وليس منهم.[وحدهم المديرون لديهم صلاحيات معاينة هذا الرابط]
وكما هو واضح: فإن شيخ الإسلام يفرق بين هذه المراتب بعضها البعض، فأعلاها المرتبة الأولى وهم أهل الحقائق، وأدناها أهل الرسم الذين يحاولون التشبه بأهل الحقائق، أهل الزهد والأخلاق، وليسوا منهم.
كما أن الواضح من كلام شيخ الإسلام أنه يقر الصنفين الأول والثاني دون الثالث، وإقراره للصنف الثاني ليس معناه جواز ترك العمل والعكوف للعبادة فحسب، فقد رد هذا المبدأ حينما نفى أن يكون أصل الصوفية هم أهل الصفة كما مر معنا.
سابعا: أنواع التصوف عند ابن تيمية من حيث الاعتقاد:تعرض شيخ الإسلام لعقيدة الصوفية، فذكر منهم من كان على عقيدة السلف كالفضيل بن عياض والجنيد بن محمد وسهل بن عبد الله التستري وعمرو بن عثمان المكي وأبو عبد الله محمد بن خفيف الشيرازي، ثم بين أنه حينما ظهر التفلسف في المتصوفة المتأخرين فصارت المتصوفة تارة على طريقة صوفية أهل الحديث وهم خيارهم وأعلامهم، وتارة على اعتقاد صوفية وتارة على اعتقاد صوفية أهل الكلام فهؤلاء دونهم وتارة على اعتقاد صوفية الفلاسفة[وحدهم المديرون لديهم صلاحيات معاينة هذا الرابط].
ويقول شيخ الإسلام التفريق في بين التصوف والفلسفة: "وأما ابن عربي وابن سبعين وغيرهما ونحوهما فحقائقهم فلسفية غيَّروا عبارتها وأخرجوها في قالب التصوف أخذوا مُخَّ الفلسفة فَكَسوه لِحاءَ الشريعة. "[وحدهم المديرون لديهم صلاحيات معاينة هذا الرابط]، ولا يكتفي بذلك في كلامه على ابن عربي وابن سبعين، بل يصفهما بأنهما من ملاحدة الصوفية، وذلك لقولهم بالحلول والإتحاد[وحدهم المديرون لديهم صلاحيات معاينة هذا الرابط].
وبذلك يكون تقسيم شيخ الإسلام للصوفية أنهم ثلاثة أنواع:
الأولى: صوفية أهل الحديث، وهم الصوفية الأوائل كالجنيد والفضيل، وبالطبع فهم من تلقوا عن النبي -صلى الله عليه وسلم-وصحابته.
الثانية: صوفية أهل الكلام، كالغزالي.
الثالثة: صوفية الفلاسفة، كالحلاج وابن عربي، والتلمساني.
واستدراكا على ما لم يراه شيخ الإسلام بعد تقدم الزمان صار هناك نوعا رابعا وهو الصوفية الطرقية التي تكثر في العالم الإسلامي، وهي غالبا ما تستقي من الأنواع السابقة، إلا أنها تضيف بدعا إليها في باب التعبد، وقد تصل للشركيات المخرجة من ملة الإسلام.
ثامنا: قول الشيخ في الأصل الذي يرجع إليه التصوف في الدين:ذهب شيخ الإسلام إلى أن الزهد والعبادة هما أصل التصوف لأن أهل البصرة كانوا أهل عبادة، وأنهم إنما نسبوا إلى اللبسة الظاهرة وهي لباس الصوف فقيل في أحدهم: " صوفي "، إلا أن هذا اللباس كان زهدا منهم في الدنيا، ولما يلزموا به أحدا، ولا علقوا الأمر به، وإنما أضيفوا إليه لكونه ظاهر حالهم[وحدهم المديرون لديهم صلاحيات معاينة هذا الرابط]، ويوضح شيخ الإسلام أن من الصوفية من كان مشتغلا بالعلم والفقه كما كان منشغلا بالعبادة.
ووضح شيخ الإسلام أن "الزهد " المشروع ترك ما لا ينفع في الدار الآخرة وأما كل ما يستعين به العبد على طاعة الله فليس تركه من الزهد المشروع بل ترك الفضول التي تشغل عن طاعة الله ورسوله هو المشروع. وكذلك في أثناء المائة الثانية صاروا يعبرون عن ذلك بلفظ " الصوفي "؛ لأن لبس الصوف يكثر في الزهاد ومن قال إن الصوفي نسبة إلى الصفة أو الصفا أو الصف الأول أو صوفة بن بشر بن أد بن طانجة أو صوفة القفا ؛ فهؤلاء أكفر من اليهود والنصارى.[وحدهم المديرون لديهم صلاحيات معاينة هذا الرابط]
ومعنى أن الصوف يكثر في الزهاد أنه يلبسه الزهاد وغيرهم، كما أن من الزهاد من لا يلبسه ويعتبره من الرياء، وقد ورد ذلك في أقوال أكابر الصوفية في النقد الذاتي للتصوف.
تاسعا: كلام الشيخ في تقيد علم الصوفية بالكتاب والسنة،كان شيخ الإسلام دائما ما يذكر تقيد علم الصوفية بالكتاب والسنة، وكان يستشهد بكلام الشيخ أبي سليمان الداراني في عدم قبول ما يقع في قلبه إلا بشاهدين هما الكتاب والسنة، وكان يستشهد بقول أبي القاسم الجنيد رحمه الله عليه أن علم الصوفية مقيد بالكتاب والسنة، فمن لم يقرأ القرآن ويكتب الحديث، لا يصلح له أن يتكلم في التصوف ولا يقتدى به، وينقل عن أبي عثمان النيسابوري قوله أن من أمر السنة على نفسه قولا وفعلا، نطق بالحكمة، ومن أمر الهوى على نفسه قولا وفعلا، نطق بالبدعة، لأن الله تعالى يقول في كلامه القديم: ﴿ وإن تطيعوه تهتدوا ﴾. وقول أبو عمر بن نجيد: كل وجد لا يشهد له الكتاب والسنة فهو باطل.[وحدهم المديرون لديهم صلاحيات معاينة هذا الرابط]
فليس كل من انتسب للتصوف صار قوله هو قول الصوفية، فما كان موافقا للكتاب والسنة فهو مقبول، وإلا فهو مردود، لأن الهداية كلها في نصوص الوحي، فالمعتبر عن العارفين بالله المذكوريين في كون معيار الولاية الشرعية هو لزوم الكتاب والسنة، لذلك أبان شيخ الإسلام أن الصوفية المعيارية هي ما تقيدت بالكتاب والسنة، والمراد بالمعيارية ما يقاس عليه غيرها، والتي تؤدي لمنهج السلف، وأن من خالف ذلك فهو ضال زنديق ليس من أهل الطريق، لأنه ما من سالك للطريق يستغنى عما أخبر به النبي -صلى الله عليه وسلم- أو يخالفه في أمره[وحدهم المديرون لديهم صلاحيات معاينة هذا الرابط]، ومن زعم حصول العلم بغير هذا الطريق فهو عندهم ضال زنديق، لأنه لا يجوز قط أن يستغني سالك عن اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم[وحدهم المديرون لديهم صلاحيات معاينة هذا الرابط].
وقد نقل شيخ الإسلام أمر الصوفية بالعلم، والحكم بزندقة من أنكر سبيله، فإن كبار ْمَشَايِخ الصُّوفِيَّة أوصوا به[وحدهم المديرون لديهم صلاحيات معاينة هذا الرابط]، اتفقوا على وجوب تعلم العلم الشرعي والنظر والاعتبار بما في المخلوقات من الآيات، وأنهم أعظم تجردًا من أهل الكلام والفقه.
وقد أنكر شيخ الإسلام قول بعضهم أن مجرد ترك الشهوات والتجرد المحض يوجب معرفة الحقائق من معرفة ما جاءت به الرسل ومن غير نظر في ذلك وتدبر فهذا ليس طريق القوم الذين لهم في الأمة لسان صدق ولهذا وصيتهم بالعلم الشرعي والمحافظة عليه في الأصول الخبرية وفي الأعمال أعظم من أن يذكر هنا[وحدهم المديرون لديهم صلاحيات معاينة هذا الرابط].
وقد ذكر شيخ الإسلام عن السري السقطي أن واحداً منهم دخل عليه فلما رأى عنده محبرة وقلما خرج ولم يجلس عنده، ولهذا أوصى سهل التستري الصوفية ألا يفارقوا المحبرة والأوراق لطلب العلك، لأن مفارقتهم زندقة، وذكر الشيخ قول الجنيد: علمنا هذا مبني على الكتاب والسنة فمن لم يقرأ القرآن ويكتب الحديث لا يقتدى به في هذا الشأن[وحدهم المديرون لديهم صلاحيات معاينة هذا الرابط].
عاشرا: كلام الشيخ أن العبرة ليست بالغنى والفقر والتعليق عليهوضح شيخ الإسلام أن الكتاب والسنة قد دلا على أن التفاضل بين المؤمنين إنما يكون بالإيمان والتقوى، لا الغنى والفقر، فقد كان في الأنبياء والسابقين من الأغنياء من هو أفضل من أكثر الفقراء وكان فيهم من الفقراء من هو أفضل من أكثر الأغنياء، والكاملون يقومون بالمقامين فيقومون بالشكر والصبر على التمام، وذلك كحال نبينا صلى الله عليه وسلم أصحابه، لكن قد يكون الفقر لبعض الناس أنفع من الغنى والغنى أنفع لآخرين كما تكون الصحة لبعضهم أنفع.[وحدهم المديرون لديهم صلاحيات معاينة هذا الرابط]
والظاهر أن هذا الكلام كان قديما لشيخ الإسلام قبل اطلاعه على المصطلح الصوفي وأخذه في الاعتبار حسبما سيأتي في القواعد المعتبرة في الحكم على الصوفية والمتصوفة، حيث فهم المراد من الفقر في المصطلح الصوفي وأنه الافتقار إلى الله، وهو ما تم إثباته في اعتبار المعجم الصوفي عند الحديث عن الصوفية في بيان منهج شيخ الإسلام في الحكم عليهم.
وهو كلام يوافق ما ورد من سيرة الصحابة، فقد كان أغناهم أزهدهم، وقد رأينا الخلفاء الراشدين الأربعة، قد بشرهم النبي -صلى الله عليه وسلم- بالجنة، وكان الثلاثة الأوائل منهم أهل مال، إلا أن هذا المال لم يتملكهم، بل كانوا يؤثرون الآخرة، فيقدمون المال في الدنيا زهدا فيها، وإعلاء لراية الدين.
الفصل الثاني
موقف شيخ الإسلام من أعلام التصوف وعلومهم
الموقف الأول: توثيق المتقدمين وتجريح المتأخرين من الصوفيةكان من منهج شيخ الإسلام التفريق بين متقدمي الصوفية ومتأخريهم، فالمتقدمين منهم أهل علم وورع وتقوى، بخلاف المتأخرين الذين أدخلوا الفلسفة في التصوف وحاولوا الجمع بيتهما، فكان شيخ الإسلام دائما ما يذكر المتقدمين ويترضى عنهم، ويذكر المتأخرين ويتبرأ منهم، وذكر أنه وإن ادعى أحد الصوفية أن ابن عربي واحد منهم، فهو من صوفية الملاحدة الفلاسفة، وليس من صوفية أهل العلم فضلا عن أن يكون من مشايخ أهل الكتاب والسنة كالفضيل بن عياض، وإبراهيم بن أدهم، وأبي سليمان الداراني، ومعروف الكرخي، والجنيد، وسهل بن عبد الله التستري وأمثالهم، وحينما ذكر هؤلاء العلماء قال: "رضوان الله عليهم أجمعين"[وحدهم المديرون لديهم صلاحيات معاينة هذا الرابط]، وهذا دليل على رضى شيخ الإسلام عن عقيدة الأوائل، وعدم رميهم بالبدعة، أو تعميم الأحكام مثلما شاع في المناهضين للتصوف جملة وتفصيلا.
وكان موقف شيخ الإسلام من توثيق متقدمي الصوفية مما أثار دهشة الشيخ محمد جميل غازي حينما قدم لكتاب شيخ الإسلام "الصوفية والفقراء"، فاستنكر أشياء عليه كقوله أنهم يريدون مقام الصديقية [وحدهم المديرون لديهم صلاحيات معاينة هذا الرابط]، وراح يعمم في الأحكام ويكيل لهم الأوصاف بالزندقة، والقول بالحلول والاتحاد، ووصفهم بأنهم أهل المروق والفرقة والبدعة.
ورغم إنصاف شيخ الإسلام للمتقدمين، إلا أنه كان شديدا في الإنكار على المتأخرين، فقد كان مناهضا لابن سبعين وأمثاله ممن يكسون كلامهم بعبارات الصوفية والصوفية العارفون يعلمون أنهم كفار وإن شيوخ الصوفية الكبار كالفضيل وإبراهيم بن أدهم وأبي سليمان الداراني وعمرو بن عثمان الشبلي والجنيد وسهل بن عبد الله التستري وأبي عبد الله محمد بن خفيف الشيرازي كانوا من أعظم الناس تكفيرا لهؤلاء.[وحدهم المديرون لديهم صلاحيات معاينة هذا الرابط]
كما كان شيخ الإسلام يذكر جوانب من تعظيم الصوفية الأوائل للشعائر بخلاف المتأخرين الذين حاولوا التحلل من الواجبات واستحلوا المحرمات كالتلمساني، وأظهر أن مذهب الأوائل يخللف هذا المذهب وأنهم كانو أعظمهم نكيراً عليه وعلى أهله، فكان علماء الصوفية المشهورين كالفضيل وأبي سليمان الداراني والجنيد وسهل بن عبد الله التستري وعمر بن عثمان المكي وأبي عثمان النيسابوري وابن خفيف الشيرازي ويحيى بن معاذ الرازي وأمثالهم من الكلام في إثبات الصفات والذم للجهمية والحلولية مالا يتسع هذا الموضع.[وحدهم المديرون لديهم صلاحيات معاينة هذا الرابط]
والإنصاف مع المخالف لا يعني التمييع، وهذه القاعدة موجهة لمن يحاول الذب عن عقيدة السلف، وذلك بالشدة على أهل البدع، فبالرغم من أن الشدة على أهل البدع أمر محمود في الدين لأنه من الجهاد باللسان، لكن شتان ثم شتان بين تتبع المسائل ودراستها والتحقيق فيها، وبين من سلك مسلك الحكام المجملة، فكلام شيخ الإسلام في مدح الصوفية ليس معناه إذابة الفوارق بين الصوفية ككل، وبين أهل السنة، وهذا ما يستغله بعض متأخري الصوفية حينما يستدلون بأقوال شيخ الإسلام في الصوفية المتقدمين على أنه مدح للصوفية ككل، بل للأوائل منهم الذين كانوا على عقيدة السلف الصالح.
الموقف الثاني: بيان شيخ الإسلام في موافقة عقيدة الصوفية الأوائل لعقيدة السلف:كان شيخ الإسلام كثيرا ما يذكر أعلام التصوف المتقدمين، ويثني عليهم، ويبين موافقتهم لعقيدة السلف ومخالفتهم لطريقة من جاء بعدهم من الفرق، وكان يستشهد بأقوالهم في أن من لم يوافق عقيدة السلف لا يستحق أن يكون وليا لله، ويستدل على ذلك بقول أبي محمد عبد القادر بن عبد الله الجيلي حينما سئل: "هل كان لله ولي على غير اعتقاد أحمد بن حنبل؟"، فقال: " مَا كَانَ وَلَا يكون "[وحدهم المديرون لديهم صلاحيات معاينة هذا الرابط].
وكان شيخ الإسلام مدافعا عن عقيدة الصوفية الأوائل، ويشهد لهم بالعلم والفضل، من ذلك أنه ذب عنهم ورد على من شنع عليهم في مسألة نفي الصفات الإلهية، فقال أن شيوخ الصوفية المشهورون عند الأمة كالجنيد وسهل بن عبد الله التستري وعمرو بن عثمان المنكي وأبي العباس بن عطاء بل مثل أبي طالب المكي وأبي عبد الرحمن السلمي وأمثال هؤلاء محال أن يكونوا كالجهمية في سلب الصفات[وحدهم المديرون لديهم صلاحيات معاينة هذا الرابط].
وقد بين شيخ الإسلام أن عقيدة الصوفية التي صنفها القشيري توافق كثيرا من اعتقاد الأشعرية الذي غالبه مُوَافق لأصول السّلف، إلا أن الثابت عن أكابر الصوفية كالفضيل وأبي سليمان الداراني ومعروف الكرخي والجنيد وسهل بن عبد الله التستري يوافق ما كان عليه السلف، وقد جمع أَبُو بكر مُحَمَّد بن إِسْحَاق الْكلاباذى كتاب التعرف لمذاهب التصوف الذي هو أصوب وَأقرب إِلَى مَذْهَب سلف الْأمة.[وحدهم المديرون لديهم صلاحيات معاينة هذا الرابط]
وكان شيخ الإسلام يحتج بعقيدتهم في علو الله على عرشه، فذكر موقف الشيخ الصوفي أبي جعفر الهمداني مع أبي المعالي الْجُوَيْنِيّ وَهُوَ يَقُول كَانَ الله وَلَا عرش وَهُوَ على مَا عَلَيْهِ كَانَ، فَقَالَ الهمذاني: يا شيخ دَعْنَا من ذكر الْعَرْش أخبرنَا عَن هَذِه الضَّرُورَة الَّتِي نجدها فِي قُلُوبنَا فَإِنَّهُ مَا قَالَ عَارِف قطّ يَا الله إِلَّا وجد من قلبه ضروره بِطَلَب الْعُلُوّ وَلَا يلْتَفت يمنة ولايسرة فكيف ندفع هذه الضَّرُورة عن قلوبنا قال فصرخ أبو المعالى ولطم على رأسه وَقَالَ حيرني الهمدانى حيرني الْهَمدَانِي. [وحدهم المديرون لديهم صلاحيات معاينة هذا الرابط]
كما نقل عن الإمام العارف معمر بن أحمد الأصبهاني حيث وصفه بمفتي الصوفية العارفين[وحدهم المديرون لديهم صلاحيات معاينة هذا الرابط] وشيخ الصوفية في أواخر المائة الرابعة قوله حينما أراد أن يوصي أصحابه فأوصاهم بما عليه أهل السنة والجماعة، أصحاب العقيدة النقية قائلا: "أَحْبَبْت أَن أوصى أَصْحَابِي بِوَصِيَّة من السّنة وموعظة من الْحِكْمَة وَأجْمع مَا كَانَ عَلَيْهِ أهل الحَدِيث والأثر وَأهل الْمعرفَة والتصوف من الْمُتَقَدِّمين والمتأخرين قَالَ فِيهَا اوإن الله اسْتَوَى على عَرْشه بِلَا كَيفَ وَلَا تَشْبِيه وَلَا تَأْوِيل والاستواء مَعْقُول والكيف فِيهِ مَجْهُول وَأَنه عز وَجل مستو على عَرْشه بَائِن من خلقه والخلق بائنون مِنْهُ بِلَا حُلُول وَلَا ممازجة وَلَا اخْتِلَاط وَلَا ملاصقة لِأَنَّهُ الْفَرد الْبَائِن من الْخلق الْوَاحِد الْغَنِيّ عَن الْخلق وَأَن الله سميع بَصِير عليم خَبِير يتَكَلَّم ويرضى ويسخط ويضحك ويعجب ويتجلى لِعِبَادِهِ يَوْم الْقِيَامَة ضَاحِكا وَينزل كل لَيْلَة إِلَى سَمَاء الدُّنْيَا كَيفَ شَاءَ "[وحدهم المديرون لديهم صلاحيات معاينة هذا الرابط].
ونقل الشيخ اتفاق الصوفية وأهل الحديث على نفي التجسيم والتعرض للتركيب في حق الله فقال أنهم لا يتعرضون للتركيب والتجسيم، والتبعيض وكل الألفاظ المبتدعة لا بنفي ولا إثبات، وأنهم ينزهون الله عما نزه عنه نفسه، وهم متفقون على أنه لا يمكن تفريقه ولا تجزئته. بمعنى انفصال شيء منه عن شيء، وأن هذا القول مأثور عن سلف الأمة وعليه أئمة الفقهاء وأئمة الحديث، وأئمة الصوفية، وأهل الاتباع المحض من الحنبلية[وحدهم المديرون لديهم صلاحيات معاينة هذا الرابط].
كما أن شيخ الإسلام كان يستدل بفهمهم في مسألة المحبة أنها المحبة الحقيقية التي تشمل الواجبات والمستحبات الظاهرة، وأن هذِه الْمحبَّة حق كَمَا نطق بهَا الْكتاب وَالسّنة، وأن العقيدة الصحيحة التي عليها سلف الْأمة وأئمتها وَأهل السّنة والْحَدِيث وَجَمِيع مَشَايِخ الدّين وأئمة التصوف أَن الله مَحْبُوب لذاته محبَّة حَقِيقَة بل هِيَ أكمل محبَّة[وحدهم المديرون لديهم صلاحيات معاينة هذا الرابط].
وجملة هذه العقائد التي ذكرها شيخ الإسلام عن الصوفية توافق العقيدة السلفية النقية التي أقرها علماء السلف في مصنفاتهم، وهو الإيمان بالله وبما ورد عن الله بمراد الله دون تحريف أو تأويل أو تشبيه أو تعطيل، والإيمان بصفات الله الذاتية والفعلية ومباينة الله لخلقه، وعلوه على عرشه وغير ذلك كثير مما لم يتسع المقام لذكره في هذا المقام.
الموقف الثالث: اعتراف شيخ الإسلام بصيانة أئمة الصوفية الأوائل طريقتهم من البدع بالعلم:حينما أراد شيخ الإسلام بيان صيانة الصوفية الأوائل مذهبهم من البدع والمحدثات استدل بقول القشيرى رَحمَه الله: "اعلموا أَن شُيُوخ هَذِه الطَّائِفَة بنوا قَوَاعِد أَمرهم على أصُول صَحِيحَة فِي التَّوْحِيد صانوا بهَا عقائدهم عَن الْبدع ودانوا بِمَا وجدوا عَلَيْهِ من السّلف وَأهل السّنة من تَوْحِيد لَيْسَ فِيهِ تَمْثِيل وَلَا تَعْطِيل"، ثم علق شيخ الإسلام على قول القشيري بأنه كلام أئمة السلف والصوفية[وحدهم المديرون لديهم صلاحيات معاينة هذا الرابط]، وهذا دليل على أن هذه الأمور من المجمع عليها.
وليس ذلك هو مناط الصيانة للمذهب فحسب، وإنما كان العلم المقتضي للصراط المستقيم وعدم الحيد عنه، لذلك أشار شيخ الإسلام إلى أن منهج الصوفية الأوائل هو اتباع العلم المشروع، وذلك بخلاف المنحرفين المغرضين المعرضين عن العلم والعمل، وهؤلاء هم المنحرفون الموافقين لعقيدة اليهود والنصارى[وحدهم المديرون لديهم صلاحيات معاينة هذا الرابط]، وقد ذكرنا طرفا منه في الفصل السابق في بيان ضبط علم الصوفية الأوائل بالكتاب والسنة.
وحينما أراد شيخ الإسلام الرد على متأخري الصوفية الذين وقع فيهم القول بالحلول والاتحاد ذكر قول الجنيد:" أول مَا يحْتَاج إِلَيْهِ العَبْد من عقد الْحِكْمَة معرفَة الْمَصْنُوع صانعه والمحدث كَيفَ كَانَ إحداثه فَيعرف صفة الْخَالِق من الْمَخْلُوق وَالْقَدِيم من الْمُحدث"، ثم علق شيخ الإسلام على هذا الكلام بأنه كلام حسن، في التمييز بين الخالق والمخلوق حتى لا يقع السالك في الطريق الصوفي في الحلول والاتحاد، وأن هذا هو سبيل أهل الطريق الصوفي، ومن لم يكن كذلك فليس منهم[وحدهم المديرون لديهم صلاحيات معاينة هذا الرابط]، وذلك إشارة لمن لم يسلك مذهبهم من المتأخرين ممن قال بالحلول والاتحاد.
وكان شيخ الإسلام دائما ما يستدل على المتأخرين بمذهب ومنهج المتقدمين، من ذلك عرضه لخطأ منهج المتأخرين في القدر، فقد وضح أنه من أراد النجاة من أهل الطريق الصوفي فعليه بمنهج المتقدمين من أئمة الصوفية، إلى أن قال: "فمن سلك مسلك الجنيد، من أهل التصوف والمعرفة، كان قد اهتدى ونجا وسعد، ومن لم يسلك في القدر مسلكه، بل سوى بين الجميع، لزمه ألا يفرق بين الحسنات والسيئات، وبين الأنبياء والفساق"[وحدهم المديرون لديهم صلاحيات معاينة هذا الرابط]