وحدّثني محمد بن إسماعيل، قال: حدّثني ابن أبي مليكة مولى عبد الله ابن جعفر، قال: أرسل محمد إلى إسماعيل بن عبد الله بن جعفر - وقد كان بلغ عمراً - فدعاه محمد حين خرج إلى البيعة، فقال: يا بن أخي، أنت والله مقتول، فكيف أبايعك! فارتدع الناس عنه قليلاً، وكان بنو معاوية قد أسرعوا إلى محمد، فأتته حمادة بنت معاوية، فقالت: يا عمّ، إن أخوتي قد أسرعوا إلى ابن خالهم، وإنك إن قلت هذه المقالة ثبّطت عنه الناس، فيقتل ابن خالي وإخوتي. قال: فأبى الشيخ إلاّ النهي عنه؛ فيقال: إنّ حمّادة عدت عليه فقتلته؛ فأراد محمد الصلاة عليه، فوثب عليه عبد الله بن إسماعيل، فقال: تأمر بقتل أبي ثم تصلي عليه! فنحّاه الحرس، وصلى عليه محمد.
قال: وحدّثني عيسى، قال: حدّثني أبي، قال: أتيَ محمد بعبيد الله ابن الحسيين بن عليّ بن الحسين بن عليّ مغمضاً عينيه، فقال: إن عليّ يميناً إن رأيته لأقتللنّه. فقال عيسى بن زيد: دعني أضرب عنقه، فكفّه عنه محمد.
قال: وحدّثني أيوب بن عمر، قال: حدّثني محمد بن معن، قال: حدّثني محمد بن خال القسريّ، قال: لما ظهر محمد وأنا في حبس ابن حيّان أطلقنيي؛ فلما سمعت دعوته التي دعا إليها على المنبر، قلت: هذه دعوة حقّ؛ والله لأبلينّ الله فيها بلاء حسناً، فقلت: يا أمير المؤمنين، إنك قد خرجت في هذا البلد؛ والله لو وقف على نقب من أنقابه مات أهله جوعاً وعطشاً؛ فانهض معي؛ فإنما هي عشر حتى أضربه بمائة ألف سيف. فأبى عليّ؛ فإني لعنده يوماً إذ قال لي: ما وجدنا من حرّ المتاع شيئاً أجود من شيء وجدناه عند ابن أبي فروة، ختن أبي الخصيب - وكان انتهبه - قال: فقلت: ألا أراك قد أبصرت حرّ المتاع! فكتبت إلى أمير المؤمنين فأخبرته بقلة من معه، فعطف عليّ، فحبسني حتى أطلقني عيسى بن موسى بعد قتله إياه.
قال: وحدّثني سعيد بن عبد الحميد بن جعفر، قال: حدّثني أختي بريكة بنت عبد الحمييد، عن أبيها، قال: إني لعند محمد يوماً ورجله في حجري؛ إذ دخل عليه خوّات بن بكير بن خوّات بن جبير، فسلم عليه، فردّ عليه سلاماً ليس بالقويّ، ثم دخل عليه شابٌ من قريش، فسلّم عليه فأحسن الردّ عليه، فقلت: ما تدع عصبيّتك بعد! قال: وما ذلك؟ قلت: دخل عليك سيد الأنصار فسلم فرددت عليه رداً ضعيفاً، ودخل عليك صعلوك من صعاليك قريش فسلّم فاحتفلت في الردّ عليه! فقال: ما فعلت ذاك؛ ولكنّك تفقدت مني ما لا يتفقد أحد من أحد.
قال: وحدّثني عبد الله بن إسحاق بن القاسم، قال: استعمل محمد الحسن بن معاوية بن عبد الله بن جعفر على مكة، ووجّه معه القاسم بن إسحاق واستعمله على اليمن.
قال: وحدثني محمد بن إسماعيل عن أهله، أن محمداً استعمل القاسم ابن إسحاق على اليمن وموسى بن عبد الله على الشأم، يدعوان إلهي؛ فقُتل قبل أن يصلا.
قال: وحدّثني أزهر بن سعيد، قال: استعمل محمد حين ظهر عبد العزيز ابن الدراورديّ على السلاح.
قال: وأخبرني محمد بن يحيى ومحمد بن الحسن بن زبالة وغيرهما، قالوا: لما ظهر محمد، قال ابن هرمة - وقد أنشد بعضهم ما لم ينشد غيره لأبي جعفر:
غلبت على الخلافة من تمنّى ... ومنّاه المضلّ بها الضّلول
فأهلك نفسه سفهاً وجبناً ... ولم يقسم له منها فتيل
ووازره ذوو طمع فكانوا ... غثاء السيل يجمعه السيول
دعوا إبليس إذ كذبوا وجاروا ... فلم يصرخهم المغوي الخذول
وكانوا أهل طاعته فولّى ... وسار وراءه منهم قبيل
وهم لم يقصروا فيها بحقّ ... على أثر المضلّ ولم يطيلوا
وما الناس احتبوك بها ولكن ... حباك بذلك الملك الجليل
تراث محمد لكم وكنتم ... أصول الحقّ إذ نفي الأصول
قال: وحدّثني محمود بن معمر بن أبي الشدائد الفزاريّ وموهوب بن رشيد ابن حيان الكلابي، قال: قال أبو الشدائد لما ظهر محمد وتوجّه إليه عيسى:
أتتك النجائب والمقربات ... بعيسى بن موسى فلا تعجل
قال: وحدّثني عيسى، قال: كان محمد آدم شديد الأدمة، أدلم جسيماً عظيمياً؛ وكان يلقب القاريّ من أدمته، حتى كان أبو جعفر يدعوه محمّماً.
قال: وحدّثني عيسى، قال: حدّثني إبراهيم بن زياد بن عنبسة، قال: ما رأيت محمداً رقيَ المنبر قطّ إلا سمعت بقعقعة من تحته؛ وإني لبمكاني ذلك.
قال: وحدّثني عبد الله بن عمر بن حبيب، قال: حدّثني من حضر محمداً على المنبر يخطب؛ فاعترض بلغم في حلقه فتنحنح، فذهب ثم عاد فتنحنح، فذهب ثم عاد فتنحنح، ثم عاد فتنحنح ثم نظر فلم ير موضعاً؛ فرمى بنخامته سقف المسجد فألصقها به.
قال: وحدّثني عبد الله بن نافع، قال: حدّثني إبراهيم بن عليّ من آل أبي رافع، قال: كان محمد تمتاماً، فرأيته على المنبر يتلجلج الكلام في صدره، فيضرب بيده على صدره، ويستخرج الكلام.
قال: وحدّثني عيسى، قال: حدّثني أبي، قال: دخل عيسى بن موسى يوماً على أبي جعفر، فقال: سرّك الله يا أمير المؤمنين! قال: فيم؟ قال: ابتعت وجه دار عبد الله بن جعفر من بني معاوية؛ حسن ويزيد وصالح، قال: أتفرح! أما والله ما باعوها إلاّ ليثبوا عليك بثمنها.
قال: وحدّثني محمد بن يحيى، قال: حدّثني عبد العزيز بن عمران عن محمد بن عبد العزيز عن عبد الله بن الربيع بن عبيد الله بن عبد المدان بن عبيد الله، قال: خرج محمد بالمدينة، وقد خطّ المنصور مدينته بغداد بالقصب، فسار إلى الكوفة وسرت معه، فصيّح بي فلحقته، فسمت طويلاً ثم قال: يا بن الربيع، خرج محمد، قلت: أين؟ قال: بالمدينة، قلت: هلك والله وأهلك؛ خرج والله في غير عدد ولا رجال يا أمير المؤمنين؛ ألا أحدّثك حديثاً حدّثنيه سعيد بن عمرو بن جعدة المخزوميّ؟ قال: كنت مع مروان يوم الزّاب واقفاً فقال: يا سعيد، من هذا الذي قاتلني في هذه الخيل؟ قلتُ: عبد الله ابن عليّ بن عبد الله بن عباس، قال: أيهم هو؟ عرّفه، قلت: نعم، رجل أصفر حسن الوجه رقيق الذراعين، رجل دخل عليك يشتم عبد الله بن معاوية حين هزم؛ قال: قد عرفته، والله لوددت أن عليّ بن أبي طالب يقاتلني مكانه؛ إن عليّاً وولده لا حظّ لهم في هذا الأمر؛ وهذا رجل من بني هاشم وابن عمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن عباس، معه ريح الشأم ونصر الشأم. يا بن جعدة، تدري ما حملني على أن عقدت لعبد الله وعبيد الله ابني مروان، وتركت عبد الملك وهو أكبر من عبيد الله؟ قلت: لا، قال: وجدت الذي يلي هذا الأمر عبد الله؛ وكان عبيد الله أقرب إلى عبد الله من عبد الملك؛ فعقدت له. فقال: أنشدك الله! أحدّثك هذا ابن جعدة! قلت: ابنة سفيان بن معاوية طالق البتّة إن لم يكن حدّثني ما حدثتك.
قال عمر: وحدّثني محمد بن يحيى، قال: حدّثني الحارث بن إسحاق، قال: خرج إلى أبي جعفر في الليلة التي ظهر فيها محمد رجل من آل أويس ابن أبي سرح من بني عامر بن لؤيّ، فسار تسعاً من المدينة، فقدم ليلاً، فقام على أبواب المدينة، فصاح حتى نذر به، فأدخل، فقال له الربيع: ما حاجتك هذه الساعة وأمير المؤمنين نائم! قال: لا بدّ لي منه، قال: أعلمنا نعلمه، فأبى، فدخل الرّبيع عليه فأعلمه، فقال: سله عن حاجته ثم أعلمني؛ قال: قد أبى الرّجل إلا مشافهتك. فأذن له، فدخل عليه، فقال: يا أمير المؤمنين، خرج محمد بن عبد الله بالمدينة، قال: قتلته والله إن كنت صادقاً! أخبرني من معه؟ فسمّى له من خرج معه من وجوه أهل المدينة وأهل بيته، قال: أنت رأيته وعاينته؟ قال: أنا رأيته وعاينته وكلمته على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً. فأدخله أبو جعفر بيتاً، فلما أصبح جاءه رسول لسعيد بن دينار؛ غلام عيسى بن موسى كان يلي أموال عيسى بالمدينة، فأخبره بأمر محمد، وتواترت عليه أخباره، فأخرج الأويسيّ فقال: لأوطئنّ الرجال عقبيك ولأغنينّك؛ وأمر له بتسعة آلاف، لكلّ ليلة سارها ألفاً.
قال: وحدّثني ابن أبي حرب، قال: لما بلغ أبا جعفر ظهوره أشفق منه؛ فجعل الحارث المنجّم يقول له: يا أمير المؤمنين، ما يجزعك منه! فوالله لو ملك الأرض ما لبث إلا تسعين يوماً.
قال: وحدّثني سهل بن عقيل بن إسماعيل، عن أبيه، قال: لما بلغ أبا جعفر خبره بادر إلى الكوفة، وقال: أنا أبو جعفر؛ استخرجت الثعلب من جحره.
قال: وحدّثني عبد الملك بن سليمان، عن حبيب بن مرزوق، قال: حدّثني تسنيم بن اعلحواريّ، قال: لما ظهر محمد وإبراهيم ابنا عبد الله، أرسل أبو جعفر إلى عبد الله بن عليّ وهو محبوس عنده: إنّ هذا الرجل قد خرج؛ فإن كان عندك رأي فأشر به علينا - وكان ذا رأي عندهم - فقال: إنّ المحبوس محبوس الرأي، فأخرجني حتى يخرج رأيي؛ فأرسل إليه أبو جعفر: لو جاءني حتى يضرب بابي ما أخرجتك؛ وأنا خير لك منه، وهو ملك أهل بيتك فأرسل إليه عبد الله: ارتحل الساعة حتى تأتيَ الكوفة، فاجثم على أكبادهم؛ فإنهم شيعة أهل هذا البيت وأنصارهم، ثم احففها بالمسالح؛ فمن خرج منها إلى وجه من الوجوه أو أتاها من وجه من الوجوه فاضرب عنقه؛ وابعث إلى سلم بن قتيبة ينحدر عليك - وكان بالرّيّ - واكتب إلى أهل الشأم فمرهم أن يحملوا إليك من أهل البأس والنجدة ما يحمل البريد، فأحسن جوائزهم، ووجّههم مع سلم. ففعل.
قال: وحدّثني العباس بن سفيان بن يحيى بن زياد، قال: سمعت أشياخنا يقولون: لما ظهر محمد ظهر وعبد الله بن عليّ محبوس، فقال أبو جعفر لإخوته: إن هذا الأحمق لا يزال يطلع له الرأي الجيّد في الحرب؛ فادخلوا عليه فشاوروه ولا تعلموه أني أمرتكم. فدخلوا عليه، فلما رآهم قال: لأمر ما جئتم؛ ما جاء بكم جميعاً وقد هجرتموني منذ دهر! قالوا: استأذنّا أمير المؤمنين فأذن لنا، قال: ليس هذا بشيء؛ فما الخبر؟ قالوا: خرج ابن عبد الله، قال: فما ترون ابن سلامة صانعاً؟ يعني أبا جعفر - قالوا: لا ندري والله، قال: إنّ البخل قد قتله، فمروه فليخرج الأموال، فليعط الأجناد، فإن غلب فما أوشك أن يعود إليه ماله، وإن غلب لم يقدم صاحبه على درهم واحد.
قال: وحدّثني عبد الملك بن شيبان، قال: أخبرني زيد مولى مسمع بن عبد الملك، قال: لما ظهر محمد دعا أبو جعفر عيسى بن موسى، فقال له: قد ظهر محمد فسر إليه، قال: يا أمير المؤمنين؛ هؤلاء عمومتك حولك، فادعهم فشاورهم، قال: فأين قول ابن هرمة:
ترون أمرأً لا يمحض القوم سرّه ... ولا ينتجي الأذنين فيما يحاول
إذا ما أتى شيئاً مضى كالذي أبى ... وإن قال إني فاعل فهو فاعل
قال: وحدّثني محمد بن يحيى، قال: نسخت هذه الرسائل من محمد ابن بشير؛ وكان بشير ييصححها؛ وحدّثنيها أبو عبد الرحمن من كتّاب أهل العراق والحكم بن صدقة بن نزار، وسمعت ابن أبي حرب يصحّحُها؛ ويزعم أن رسالة محمد لما وردت على أبي جعفر، قال أبو أيوب: دعني أجبه عليها، فقال أبو جعفر: لا بل أنا أجيبه عنها؛ إذ تقارعنا على الأحساب فدعني وإيّاه.
قالوا: لما بلغ أبا جعفر المنصور ظهور محمد بن عبد الله المدينة كتب إليه: بسم الله الرحمن الرحيم. من عبد الله عبد الله أمير المؤمنين، إلى محمد بن عبد الله: " إنّما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا أو يصلّبوا أو تقطّع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزيٌ في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أنّ الله غفور رحيم " ولك عليّ عهد الله وميثاقه وذمّته وذمّة رسوله صلى الله عليه وسلم إن تبت ورجعت من قبل أن أقدر عليك أن أؤمنك وجميع ولدك وإخوتك وأهل بيتك ومن اتّبعكم على دمائكم وأموالكم، وأسوّغك ما أصبت من دم أو مال، وأعطيك ألف ألف درهم، وما سألت من الحوائج، وأنزلك من البلاد حيث شئت، وأن أطلق من في حبسي من أهل بيتك، وأن أؤمّن كلّ من جاءك وبايعك واتبعك، أو دخل معك في شيء من أمرك، ثم لا أتبع أحداً منهم بشيء كان منه أبداً. فإن أردت أن تتوثّق لنفسك، فوجّه إليّ من أحببت يأخذ لك من الأمان والعهد والميثاق ما تثق به.
وكتب على العنوان: من عبد الله عبد الله أمير المؤمنين إلى محمد بن عبد الله.
فكتب إليه محمد بن عبد الله:
بسم الله الرحمن الرحيم. من عبد الله المهديّ محمد بن عبد الله إلى عبد الله بن محمد: " طسم تلك آيات الكتاب المبين نتلو عليك من نبإ موسى وفرعون بالحق لقوم يؤمنون إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعاً يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمّة ونجعلهم الوارثين ونمكّن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون " . وأنا أعرض عليك من الأمان مثل الذي عرضت عليّ، فإنّ الحقّ حقّنا؛ وإنما ادّعيتم هذا الأمر بنا، وخرجتم له بشيعتنا، وحظيتم بفضلنا؛ وإنّ أبانا عليّاً كان الوصيّ وكان الإمام؛ فكيف ورثتم ولايته وولده أحياء! ثم قد علمت أنه لم يطلب هذا الأمر أحد له مثل نسبنا وشرفنا وحالنا وشرف آبائنا؛ لسنا من أبناء اللعناء ولا الطرداء ولا الطلقاء، وليس يمتّ أحد من بني هاشم بمثل الذي نمت به من القرابة والسابقة والفضل؛ وإنا بنو أمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة بنت عمرو في الجاهليّة ونبو بنته فاطمة في الإسلام دونك. إن الله اختارنا واختار لنا؛ فوالدنا من النبيين محمد صلى الله عليه وسلم، ومن السلف أوّلهم إسلاماً عليّ، ومن الأزواج أفضلهنّ خديجة الطاهرة، وأوّل من صلّى القبلة، ومن البنات خيرهنّ فاطمة سيدة نساء أهل الجنة، ومن المولودين في الإسلام حسن وحسين سيّدا شباب أهل الجنة؛ وإنّ هاشماً ولد علياً مرتين؛ وإن عبد المطلب ولد حسناً مرتين وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولدني مرّتين من قبل حسن وحسين؛ وإني أوسط بني هاشم نسباً، وأصرحهم أباًن لم تعرّق فيّ العجم، ولم تنازع فيّ أمهات الأولاد؛ فما زال الله يختار لي الآباء والأمهات في الجاهلية والإسلام حتى اختار لي في النار؛ فأنا ابن أرفع الناس درجةً في الجنة، وأهونهم عذاباً في النار، وأنا ابن خير الأخيار، وابن خير الأشرار، وابن خير أهل الجنة وابن خير أهل النار. ولك الله عليّ إن دخلت في طاعتي، وأجبت دعوتي أن أؤمنك على نفسك ومالك؛ وعلى كل أمر أحدثته؛ إلا حداً من حدود الله أو حقاً لمسلم أو معاهد؛ فقد علمت ما يلزمك من ذلك، وأنا أولى بالأمر منك وأوفى بالعهد؛ لأنك أعطيتني من العهد والأمان ما أعطيته رجالاً قبلي؛ فأيّ الأمانات تعطيني! أمان ابن هبيرة، أم أمان عمّك عبد الله بن عليّ، أم أمان أبي مسلم! فكتب إليه أبو جعفر: بسم الله الرحمن الرحيم. أما بعد، فقد بلغني كلامك، وقرأت كتابك، فإذا جلّ فخرك بقرابة النساء؛ لتضلّ به الجفاة والغوغاء؛ ولم يجعل الله النساء كالعمومة والآباء، ولا كالعصبة والأولياء؛ لأن الله جعل العمّ أباً، وبدأ به في كتابه على الوالدة الدنيا. ولو كان اختيار الله لهنّ على قدر قرابتهنّ كانت آمنة أقربهنّ رحماً، وأعظمهن حقاً؛ وأوّل من يدخل الجنة غداً؛ ولكن اختيار الله لخلقه على علمه لما مضى منهم، واصطفائه لهم.
وأما ما ذكرت من فاطمة أمّ أبي طالب وولادتها؛ فإن الله لم يرزق أحداً من ولدها الإسلام لا بنتاً ولا ابناً؛ ولو أن أحداً رزق الإسلام بالقرابة رزقه عبد الله أولاهم بكلّ خير في الدنيا والآخرة؛ وكلنّ الأمر لله يختار لدينه من يشاء؛ قال: الله عزّ وجلّ: " إنك لا تهدي من أحببت ولكنّ الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين " ؛ ولقد بعث الله محمداً عليه السلام وله عمومة أربعة، فأنزل الله عز وجل: " وأنذر عشيرتك الأقربين " . فأنذرهم ودعاهم، فأجاب اثنان أحدهما أبي، وأبى اثنان أحدهما أبوك؛ فقطع الله ولايتهما منه؛ ولم يجعل بينه وبينهما إلاًّ ولا ذزّةً ولا ميراثاً. وزعمت أنك ابن أخفّ أهل النار عذاباً وابن خير الأشرار؛ وليس في الكفر بالله صغير، ولا في عذاب الله خفيف ولا يسير؛ وليس في الشرّ خيار؛ ولا ينبغي لمؤمن يؤمن بالله أن يفخر بالنار، وسترد فتعلم: " وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون " .
وأما ما فخرت به من فاطمة أمّ عليّ وأنّ هاشماً ولده مرتين، ومن فاطمة أمّ حسن، وأن عبد المطلب ولده مرتين؛ وأن النبيّ صلى الله عليه وسلم ولدك مرتين؛ فخير الأوّلين والآخرين رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يلده هاشم إلاّ مرةً ولا عبد المطلب إلا مرّة.
وزعمت أنك أوسط بني هاشم نسباً، وأصرحهم أماً وأباً؛ وأنه لم تلدك العجم ولم تعرق فيك أمّهات الأولاد؛ فقد رأيتك فخرت على بني هاشم طراً؛ فانظر ويحك أين أنت من الله غداً! فإنك قد تعدّيت طورك، وفخرت على من هو خير منك نفساً وأباً وأولاً وآخراً، إبراهيم بن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى والد ولده؛ وما خيار بني أبيك خاصّة وأهل الفضل منهم إلاّ بنو أمهات أولاد، وما ولد فيكم بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل من علي ابن حسين؛ وهو لأمّ ولد؛ ولهو خير من جدّك حسن بن حسن؛ وما كان فيكم بعده مثل ابنه محمد بن عليّ، وجدّته أمّ ولد؛ ولهو خير من أبيك، ولا مثل ابنه جعفر وجدّته أمّ ولد؛ ولهو خير منك.
وأما قولك: إنكم بنو رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإن الله تعالى يقول في كتابه: " ما كان محمد أبا أحد من رجالكم " ، ولكنكم بنو ابنته؛ وإنها لقرابة قريبة؛ ولكنها لا تحوز الميراث، ولا ترث الولاية، ولا تجوز لها الإمامة؛ فكيف تورث بها! ولقد طلبها أبوك بكلّ وجه فأخرجها نهاراً، ومرّضها سراً، ودفنها ليلاً؛ فأبى الناس إلا الشيخين وتفضيلهما؛ ولقد جاءت السنّة التي لا اختلاف فيها بين المسلمين أن الجدّ أبا الأم والخال والخالة لا يرثون.
وأما ما فخرت به من عليّ وسابقته، فقد حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم الوفاة، فأمر غيره بالصّلاة، ثم أخذ الناس رجلاً بعد رجل فلم يأخذوه؛ وكان في الستّة فتركوه كلهم دفعاً له عنها، ولم يروا له حقاً فيها؛ أما عبد الرحمن فقدّم عليه عثمان، وقتل عثمان وهو له متّهم، وقاتله طلحة والزبير، وأبى سعد بيعته، وأغلق دونه بابه، ثم بايع معاوية بعده. ثم طلبها بكلّ وجه وقاتل عليها، وتفرّق عنه أصحابه، وشكّ فيه شيعته قبل الحكومة، ثم حكّم حكمين رضي بهما، وأعطاهما عهده وميثاقه، فاجتمعا على خلعه. ثم كان حسن فباعها من معاوية بخرق ودراهم ولحق بالحجاز؛ وأسلم شيعته بيد معاوية ودفع الأمر إلى غير أهله؛ وأخذ مالاً من غير ولائه ولا حلّه؛ فإن كان لكم فيها شيء فقد بعتموه وأخذتم ثمنه. ثم خرج عمّك حسين بن عليّ على ابن مرجانة، فكان الناس معه عليه حتى قتلوه، وأتوا برأسه إليه، ثم خرجتم على بني أميّة، فقتلوكم وصلّبوكم على جذوع النخل، وأحرقوكم بالنيران، ونفوكم من البلدان؛ حتى قتل يحيى بن زيد بخراسان؛ وقتلوا رجالكم وأسروا الصبية والنساء، وحملوهم بلا وطاء في المحافل كالسبّي المجلوب إلى الشأم؛ حتى خرجنا عليهم فطلبنا بثأركم، وأدركنا بدمائكم وأورثناكم أرضهم وديارهم، وسنينا سلفكم وفضّلناه، فاتخذت ذلك علينا حجة.
وظننت أنا إنما ذكرنا أباك وفضّلناه للتقدمة منّا له على حمزة والعباس وجعفر؛ وليس ذلك كما ظننت؛ ولكن خرج هؤلاء من الدنيا سالمين، متسلّماً منهم، مجتمعاً عليهم بالفضل، وابتُلي أبوك بالقتال والحرب؛ وكانت بنو أميّة تلعنه كما تلعن الكفرة في الصلاة المكتوبة، فاحتجبنا له، وذكّرناهم فضله، وعنّفناهم وظلّمناهم بما نالوا منه. ولقد علمت أن مكرمتنا في الجاهلية سقاية الحجيج الأعظم، وولاية زمزم؛ فصارت للعباس من بين إخوته؛ فنازعنا فيها أبوك، فقضى لنا عليه عمر، فلم نزل نليها في الجاهلية والإسلام؛ ولقد قحط أهل المدينة فلم يتوسل عمر إلى ربّه ولم يتقرّب إليه إلا بأبينا، حتى نعشهم الله وسقاهم الغيث، وأبوك حاضر لم يتوسّل به؛ ولقد علمت أنه لم يبق أحد من بني عبد المطلب بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم غيره؛ فكان وراثه من عمومته، ثم طلب هذا الأمر غير واحد من بني هاشم فلم ينله إلا ولده؛ فالسقاية سقايته وميراث النبيّ له، والخلافة في ولده، فلم يبق شرف ولا فضل في جاهلية ولا إسلام في دنيا ولا آخرة إلاّ والعباس وارثه ومورّثه.
وأما ما ذكرت من بدر؛ فإن الإسلام جاء والعباس يمون أبا طالب وعياله، وينفق عليهم للأزمة التي أصابته؛ ولولا أنّ العباس أخرج إلى بدر كارهاً لمات طالب وعقيل جوعاً، وللحساجفان عتبة وشيبة؛ ولكنه كان عقيلاً يوم بدر؛ فكيف تفخر علينا وقد علناكم في الكفر، وفديناكم من الأسر، وحزنا عليكم مكارم الآباء، وورثنا دونكم خاتم الأنبياء، وطلبنا بثأركم فأدركنا منه ما عجزتم عنه؛ ولم تدركوا لأنفسكم! والسلام عليك ورحمة الله.
قال عمر بن شبّة: حدّثني محمد بن يحيى، قال: حدّثني الحارث بن إسحاق، قال: أجمع ابن القسريّ على الغدر بمحمد، فقال له: يا أمير المؤمنين، ابعث موسى بن عبد الله ومعه رزاماً مولايَ إلى الشأم يدعوان إليك. فبعثهما فخرج رزام بموسى إلى الشأم، وظهر محمد على أن القسريّ كتب إلى أبي جعفر في أمره، فحبسه في نفر ممن كان معه في دار ابن هشام التي في قبلة مصلى الجنائز - وهي اليوم لفرج الخصيّ - وورد رزام بموسى الشأم، ثم انسلّ منه، فذهب إلى أبي جعفر، فكتب موسى إلى محمد: إني أخبرك أني لقيت الشأم وأهله، فكان أحسنهم قولاً الذي قال: والله لقد مملنا البلاء، وضقنا به ذرعاً؛ حتى ما فينا لهذا الأمر موضع، ولا لنا به حاجة؛ ومنهم طائفة تحلف: لئن أصبحنا من ليلتنا أو مسّينا من غد ليرفعنّ أمرنا وليدلنّ علينا؛ فكتب إليك وقد غيبت وجهي، وخفت على نفسي. قال الحارث: ويقال إنّ موسى ورزاماً وعبد الله بن جعفر بن عبد الرحمن بن المسور توجهوا إلى الشأم في جماعة؛ فلما ساروا بتيماء، تخلّف رزام ليشتري لهم زاداً، فركب إلى العراق، ورجع موسى وأصحابه إلى المدينة.
قال: وحدّثني عيسى، قال: حدّثني موسى بن عبد الله ببغداد ورزام معنا، قال: بعثني محمد ورزاماً في رجال معنا إلى الشأم، لندعو له؛ فإنا لبدومة الجندل؛ إذ أصابنا حرّ شديد؛ فنزلنا عن رواحلنا نغتسل في غدير، فاستلّ رزام سيفه، ثم وقف على رأسي، وقال: يا موسى، أرأيت لو ضربت عنقك ثم مضيت برأسك إلى أبي جعفر؛ أيكون أحد عنده في منزلتي! قال: قلت: لا تدع هزلك يا أبا قيس! شم سيفك غفر الله لك. قال: فشام سيفه، فركبنا. قال عيسى: فرجع موسى قبل أن يصل إلى الشأم، فأتى البصرة هو وعثمان بن محمد، فدلّ عليهما، فأخذا.
قال: وحدّثني عبد الله بن نافع بن ثابت بن عبد الله بن الزّبير، قال: حدّثني أخي عبد الله بن نافع الأكبر، قال: لما ظهر محمد لم يأته أبي نافع ابن ثابت، فأرسل إليه، فأتاه وهو في دار مروان، فقال: يا أبا عبد الله، لم أرك جئتنا! قال: ليس فيّ ما تريد، فألحّ عليه محمد؛ حتى قال: البس السلاح يتأسّ بك غيرك، فقال: أيها الرجل؛ إني والله ما أراك في شيء؛ خرجت في بلد ليس فيه مال ولا رجال ولا كراع ولا سلاح؛ وما أنا بمهلك نفسي معك، ولا معين على دمي. قال: انصرف؛ فلا شيء فيك بعد هذا. قال: فمكث يختلف إلى المسجد إلى أن قتل محمد، فلم يصلّ في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم قتل إلا نافع وحده.
ووجّه محمد بن عبد الله لما ظهر - فيما ذكر عمر عن أزهر بن سعيد بن نافع - الحسن بن معاوية إلى مكة عاملاً عليها، ومعه العباس بن القاسم - رجل من آل أبي لهب - فلم يشعر بهم السريّ بن عبد الله حتى دنوا من مكة فخرج إليهم، فقال له مولاه: ما رأيك؟ قد دنونا منهم، قال: انهزموا على بركة الله، وموعدكم بئر ميمون. فانهزموا؛ ودخلها الحسن بن معاوية. وخرج الحسين بن صخر - رجل من آل أويس - من ليلته، فسار إلى أبي جعفر تسعاً فأخبره فقال: قد أنصف القارة من راماها، وأجازه بثلثمائة درهم.
قال: وحدّثني أيوب بن عمر، قال: حدّثني محمد بن صالح بن معاوية، قال: حدّثني أبي، قال: كنت عند محمد حين عقد للحسن بن معاوية على مكة، فقال له الحسن: أرأيت إن التحم القتال بيننا وبينهم، ما ترى في السريّ؟ قال: يا حسن، إن السريّ لم يزل مجتنباً لما كرهنا، كارهاً للذي صنع أبو جعفر؛ فإن ظفرت به فلا تقتله؛