السلطان والفوز بجوار المصطفى (صلّى الله عليه وآله) حتّى قتله المختار شرّ قتلة في ذي الحجّة سنة ست وستين ومعه ابنه حفص(2) , ولعذاب الله أشد .
لفت نظر
تقدّم في حديث ابن قولويه : إنّ سعد بن أبي وقاص اعترض على أمير المؤمنين لمّا قال : (( سلوني ... )) . ورواه الصدوق في الأمالي / 81 مجلس 28 ، والاستبعاد بأنّ سعداً لم يرد الكوفة موقوف على أن يكون هذا الخطاب بالكوفة , ولم تقُم قرينة على أمير المؤمنين لم يقل : (( سلوني ... )) إلاّ في الكوفة ؛ إذ من المحتمل أن يكون ذلك الاعتراض بعد خطبته (عليه السّلام) بالمدينة ؛ إمّا في أيّام خلافته أو في أيّام خلافة مَن تقدّمه .
ويؤيّد تكرّر هذا القول منه (عليه السّلام) حديث عباية الأسدي : كان أمير المؤمنين علي كثيراً ما يقول
( سلوني قبل أن تفقدوني ... ))(3) . ولعلّ حديث ابن قولويه : وكان عمر يدرج بين يديه ، يؤكد هذا الاحتمال ، أعني وقوع الخطاب والاعتراض في المدينة ، فإنه على هذا يكون عمر صغيراً ، حتّى على القول بولادته أيّام النبي ، واحتمال بعض العلماء أنّ تعيين الأب والابن في حديث ابن قولويه والصدوق من الراوي للمغروسية في الأذهان بأنّ عمر بن سعد قاتل الحسين ، فعيّن الأب والابن باجتهاده ، وحسبه الآخر رواية فدوّنها ورواها ، مبني على حصر الخطاب في الكوفة وليس له شاهد في الحديث والتاريخ .
ومما يشهد لتعدّد الواقعة ما يروى أنّ تميم بن أسامة بن زهير بن دريد التميمي اعترض على أمير المؤمنين (عليه السّلام) لمّا سمعه يقول : (( سلوني ... )) . فأخبره (عليه السّلام) بأنّ في
ـــــــــــــــــــ
(1) المصدر نفسه / 268 .
(2) تاريخ أبي الفداء 1 / 195 .
(3) أمالي الشيخ الطوسي / 37 .
الصفحة ( 103 )
بيته سخلاً يقتل الحسين ، وكان ابنه الحصين طفلاً صغيراً يرضع اللبن ، وعاش إلى أن صار على شرطة عبيد الله بن زياد ، وأخرجه إلى عمر بن سعد يأمره بمناجزة الحسين ، يتوعّده إن أخّر(1) .
وهناك رواية ثالثة تشهد بأنّ المعترض هو أنس النخعي ، فقال (عليه السّلام) : (( ... وإنّ في بيتك سخلاً يقتل ابن رسول الله )) . وكان ابنه سنان قاتل الحسين ، وهو يومئذ طفل يحبو(2) .
وهذه الروايات الحاكية لتعدّد المعترض تدلّ على تعدّد الخطاب من أمير المؤمنين ، فليس من البعيد أن يكون سعد في جملة هؤلاء .
وكيف كان فقد جاء في منتخب كنز العمال بهامش مسند أحمد 5 / 113 ، وتذكرة الخواص / 141 ، وابن الأثير في الكامل 4 / 94 ، ومثير الأحزان لابن نما / 25 : إنّ أمير المؤمنين لقى عمر بن سعد وقال : (( كيف بك يابن سعد إذا قمت مقاماً تُخيّر فيه بين الجنّة والنار فتختار النار ؟ )) .
ويزيد ابن الأثير : أنّ عبد الله بن شريك يقول : أدركت أصحاب الأردية المعلمة وأصحاب البرانس السود إذا مرّ بهم عمر بن سعد قالوا : هذا قاتل الحسين ، وذلك قبل أن يقتله . وكان عمر يقول للحسين (عليه السّلام) : يزعم السفهاء أنّي أقتلك ! فقال الحسين : (( ليسوا بسفهاء ))(3) .
وكانت ولادة عمر إمّا في أيّام النبي (صلّى الله عليه وآله) كما ارتآه ابن عساكر لرواية ابن إسحاق : إنّ أباه سعداً أرسل إلى الجزيرة جيشاً كان معهم ولده عمر وذلك في سنة (19) هـ .
واختار ابن معين : أنّ عمر بن سعد كان غلاماً حَدَث السّن سنة موت عمر بن الخطاب ؛ لحديث سيف : إنّ سعداً تزوّج يسرى بنت قيس بن أبي الكتم من كندة أيّام الردّة فولدت له عمر(4) .
وفي الرياض النظرة : اُمّه بنت قيس بن معدي كرب .
ـــــــــــــــــ
(1) نهج البلاغة 2 / 508 .
(2) شرح النهج لابن أبي الحديد 2 / 208 .
(3) تهذيب التهذيب 7 / 451 .
(4) الإصابة 3 / 184 .
الصفحة ( 104 )
في بيت هاني
كان هاني بن عروة بن نمران بن عمرو بن قعاص يغوث بن مخدش بن عصر بن غنم بن مالك بن عوف بن منبه بن عطيف المرادي العطيفي(1) من أشراف الكوفة(2) وقرّائها (3) ، وله منزلة في المصر ، ولبيته في العشيرة منعة(4) ، وله الزعامة الكبرى في مراد ؛ يركب في أربعة آلاف دارع وثمانية آلاف راجل ، فإذا تلاها أحلافها من كندة ركب في ثلاثين ألفاً(5) .
ولازم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب فاستفاد منه آداباً(6) ، وحضر معه في حروبه الثلاثة وأبلى بلاءً حسناً(7) ، وفي يوم الجمل كان يرتجز :
يا لكِ حربٍ حشّها جمالُها قـائدة يـنقصها ضلالُها هذا عليٌ حوله أقيالُها( |
وأدرك النبي(9) ، وله يوم قتله بضع وتسعون سنة(10) .
ــــــــــــــــــــ
(1) الإصابة ـ بترجمة عروة المرادي .
(2) الأخبار الطوال / 235 .
(3) الأغاني 14 / 95 .
(4) تاريخ الطبري 6 / 213 .
(5) مروج الذهب 2 / 89 .
(6) تاريخ ابن عساكر .
(7) ذخيرة الدارين / 278 .
(
مناقب ابن شهر آشوب 1 / 614 . (9) الإصابة ـ بترجمة هاني .
(10) الإصابة لابن حجر ـ بترجمته .
الصفحة ( 105 )
ولسيّدنا بحر العلوم الطباطبائي كلام ضاف في ترجمته في رجاله ، وقد أغرق نزعاً في إثبات جلالته والدفاع عنه ، والجواب عمّا قيل فيه ، وتابعه على رأيه السّديد السّيد المحقق الأعرجي في عدة الرجال ، وكل مَن تعرّض له من علماء الرجال ، ذكره مترحّماً ومترضّياً عليه ، وبالغ شيخنا الحجة الشيخ عبد الله المامقاني في تنقيح المقال بترجمته في مدحه والثناء عليه ، ووافقه المحقق الشيخ عباس القمي في نَفَس المهموم / 62 .
وذكر محمّد بن المشهدي من أعيان القرن السادس ، والشريف النقيب رضي الدين بن طاووس في مزاريهما زيارة خاصة تزار في مشهده ، وفيها وصفه بالعبد الصالح الناصح لله ولرسوله ولأمير المؤمنين والحسن والحسين (عليهم السّلام) ، والشهادة بأنه قُتل مظلوماً ، وأنه لقى الله تعالى وهو راضٍ عنه بما فعل ونصح ، وأنه بلغ درجة الشهداء السّعداء بما نصح لله تعالى ولرسوله (صلّى الله عليه وآله) مجتهداً , وبذل نفسه في ذات الله ومرضاته , ثمّ الترحّم عليه . ثمّ ذكرا بعد الزيارة صلواتها ودعاء الوداع ، وزاد ابن المشهدي تقبيل القبر .
وحيث إنهما ذكرا في مزاريهما أنّ ما أودعاه في كتابيهما على الوجه الذي ظهر لهما من الروايات يتجلّى لنا أنّ هاتيك الآداب مأثورة عن أهل بيت العصمة ، وجلالة هذين العلَمين تفيدنا القطع بعثورهما على أثر حاكم بذلك العمل الخاص ، حتّى لو لم ينصّا في الكتاب على ما حصل لديهما من جهة الرواية وإلاّ لتسرّب إلى نقلهما شبهة البدعة في الدين ، وهؤلاء الأعلام في المذهب لا يتورّطون في البدعة التي لا تقال عثرتها ؛ إذاً ففي قولهما الحجة البالغة .
ولو سلّمنا عدم الورود فلا أقلّ من أن يكون كلامهما في حقه كشهادة مَن تقدّم من علماء الرجال من أنّ الرجل متحلّي بتلكم الفضائل ، ولو كان لهما كتب في الرجال لاتخذها العلماء من الاُصول المسلّمة التي يعوّل عليها في هذا العلم ، إذ لم يقصر قولهما عن سائر الكتب في تمييز الرجال وبيان الممدوح والثقة منهم ، كما أنّ وقولهما في غير هذا العلم حجة قوية يركن إليه ويستشهد به .
ثمّ يكفينا في القناعة بفضل الرجل وجلالة مقامه عند آل الرسول ترحّم سيّد الشهداء عليه ؛ فإنه (عليه السّلام) لمّا نزل الثعلبية ممسياً اُخبر بقتل مسلم بن عقيل وهاني بن عروة ، وأنهما سُحبا من أرجلهما في الأسواق ، قال (عليه السّلام) : (( إنّا لله وإنّا إليه
الصفحة ( 106 )
راجعون . رحمة الله عليهما )) . ردّد ذلك مراراً(1) .
وإذا كان ترحّم الإمام الحجة ـ الواقف على نفسيّات الرجال ومقادير أعمالهم ـ على شخص يعدّ تزكية له وشهادة منه في نزاهته وطهارته ، وأنه مضى محمود الطريقة ، متبعاً للحنيفية البيضاء ، فأيّ رجل مثل هاني بن عروة يقرنه سيّد شباب أهل الجنة بنائبه الخاص وخليفته في ذلك المصر ، المثبت له في صكّ الولاية شرف الأخوّة له والوثاقة في الاُمور ، وأنه مفضّل عنده من أهل بيته ويترحّم عليه كما ترحّم على ابن عمّه وداعيته .
إنّ هذا الترحّم من أبي عبد الله الحسين (عليه السّلام) وشهادة اُولئك الأعلام تنم عن أنّ ابن عروة كان على أرفع منصّة من الإيمان ، ومن الراسخين في ولاء العترة الطاهرة . وإنّ ما قام به من إتمام البيعة لمسلم (عليه السّلام) في داره وجمع العتاد والأخذ بالتدابير اللازمة لحافز ديني وإيمان بأجر الرسالة المرغوب فيه لسيّد النبيين وخاتم الرُسل أجمع .
ولم يزل يلاقي في ذلك المحن والكوارث حتّى أُودي به شهيداً في سبيل نصرة ابن [ ابن ] عمّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، وهو الذي شارك شريك الأعور في التدبير لقمع جذور الفساد بقتل الدعي ابن مرجانة لكن القدر حال دون ما يريدون .
ومَن أمعن النظر في سيرته من كتب التواريخ والمقاتل ولا سيّما في رجال آية الله السّيد بحر العلوم الطباطبائي يزداد بصيرة فيما قلناه ، وهناك تعرف أنّ ما تشدّق به ابن أبي الحديد من حكاية أخذه البيعة ليزيد من الأقاصيص التي لا نعرف سندها ولا مَن جاء بها ، أراد به تشويه مقام هذا الرجل العظيم الناصح لأهل البيت حتّى آخر نفس لفظه ، ومما يزيد في وهنه إعراض أرباب الفن من المنقّبين في الآثار عن ذلك والقصة بمرأى منهم .
وكان السبب في انتقال مسلم إلى داره أنّه لمّا بلغه خطبة ابن زياد ووعيده ، وظهر له حال الناس ، وتفرّقهم من ابن زياد خاف أن يؤخذ غيلة ، فخرج من دار المختار بعد العتمة إلى هذا الزعيم الكبير ؛ لعلمه بمكانته في المصر وشرفه في العشيرة ، وأنه مهاب الجانب أكثر من المختار ، مع ولائه الصميم وعقيدته الراسخة ونصرته الصادقة ، فلاقاه هاني بكل ترحيب ، وعلم أنّ تشريف ابن عقيل محلّه يعود عليه بأسمى السعادتين ؛ إمّا حياة
ــــــــــــــــــ
(1) تاريخ الطبري 6 / 225 .
الصفحة ( 107 )
مع ابن المصطفى ، أو شهادة طيّبة ودرجات عالية مع النبي الأقدس .
وستعرف في الفصل الآتي من حفظ الجوار المراد من قوله لابن مرجانة آتيك بضيفي وجاري ... إلخ .
ونزل مع مسلم في دار هاني شريك(1) بن عبد الله(2) الأعور الحارثي الهمداني البصري ، وكان من كبار شيعة علي (عليه السّلام) بالبصرة ؛ جليل القدر من أصحابنا(3) شهد معه صفّين ، وقاتل مع عمار بن ياسر(4) ؛ ولشرفه وجاهه ولاّه معاوية كرمان(5) ، وكانت له مواصلة مع هاني .
ولشريك محاورة مع معاوية تنمّ عن قوّة جنان وذرب لسان ، وإنّ المال مهما تكثّر من معاوية لا يغويه فيخضع له ؛ دخل على معاوية وكان ذميماً ، فقال له معاوية : إنك لذميم والجميل خير من الذميم ، وإنك لشريك وليس لله شريك ، وإنك لأعور والصحيح خير من الأعور فكيف سدت قومك ؟
فقال له شريك : وإنك لمعاوية وما معاوية إلاّ كلبة عوت فاستعوت لها الكلاب ، وإنك ابن حرب والسّلم خير من الحرب ، وإنك ابن صخر والسهل خير الصخر ، وإنك ابن اُميّة واُميّة أمة صُغّرت فكيف صرت أمير المؤمنين ؟ وخرج منه يقول(6) :
أيشتمُني معاويةُ بنُ حربٍ وسيفي صارمٌ ومعي لساني
وحولي من بني يزنٍ ليوثٌ ضراغمةٌ تهشُّ إلى الطعانِ
يُـعيّر بـالدمامة من سفاهٍ وربّاتُ الخدورِ من الغواني
ذوات الحُسن والرئبال جُهمٌ شتيمٌ وجهه ماضي الجنانِ
مسلم لا يغدر
الفتك من الغدر ، ولا يوصم به مؤمن يعرف أنّ شريعة الإسلام جاءت لتحلية
ـــــــــــــــــ
(1) الإصابة ـ بترجمة هاني .
(2) أنساب الأشراف للبلاذري 4 / قسم ثاني .
(3) مثير الأحزان لابن نما / 14 .
(4) تاريخ الطبري 6 / 203 .
(5) النجوم الزاهرة لابن تغربردي 1 / 143 ، وابن الأثير 3 / 206 ، والأغاني 17 / 70 .
(6) ربيع الأبرار للزمخشري ـ في باب الأجوبة المسكتة .
الصفحة ( 108 )
النفوس بالفضائل ، وتخليتها عن الرذائل . ولم يرد الشارع لمَن اعتنق دينه القويم إلاّ أن يكونوا في الغارب والسّنام من كل فضيلة رابية ، فيسلكوا سبل السّلام في أعراق طاهرة ومآزر عفّة ، وقلوب نزيهة ، وجوارح مؤدّبة بآداب الله تعالى ، وجوانح ممرّتة بالقداسة .
وجاء في وصية رسول الله (صلّى الله عليه وآله) لأمير المؤمنين (عليه السّلام) : (( إيّاك والغدر بعهد الله والإخفار لذمّته ؛ فإنّ الله جعل عهده وذمّته أماناً أمضاه بين العباد برحمته . والصبر على ضيق ترجو انفراجه خير من غدرٍ تخاف أوزاره وتبعاته وسوء عاقبته(1) ؛ فإنّ كلَّ غادر يأتي يوم القيامة مائلاً شدقه(2) ، وله لواء يُعرف به فيُقال : هذه غدرة فلان ))(3) .
وقال أمير المؤمنين (عليه السّلام) : (( إِنَّ الْوَفَاءَ تَوْأَمُ الصِّدْقِ , وَلا أَعْلَمُ جُنَّةً أَوْقَى مِنْهُ ، وَمَا يَغْدِرُ مَنْ عَلِمَ كَيْفَ الْمَرْجِعُ . وَلَقَدْ أَصْبَحْنَا فِي زَمَانٍ قَدِ اتَّخَذَ أَكْثَرُ أَهْلِهِ الْغَدْرَ كَيْساً , وَنَسَبَهُمْ أَهْلُ الْجَهْلِ فِيهِ إِلَى حُسْنِ الْحِيلَةِ , مَا لَهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ ! قَدْ يَرَى الْحُوَّلُ الْقُلَّبُ وَجْهَ الْحِيلَةِ وَدُونَهَا مَانِعٌ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ وَنَهْيِهِ ؛ فَيَدَعُهَا رَأْيَ عَيْنٍ بَعْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا , وَيَنْتَهِزُ فُرْصَتَهَا مَنْ لا حَرِيجَةَ لَهُ فِي الدِّينِ ))(4) .
وقال على منبر الكوفة : (( أيها الناس ، لولا كراهيةُ الغدر لكنت أدهى الناس ؛ ألا إنّ لكلِّ غدرة فجرة ، ولكلِّ فجرة كفرة ، ألا وإنّ الغدر والفجور والخيانة في النار ))(5) .
والغدر لا يأتلف مع شيء من المآثر الفاضلة ؛ لأنه ينمّ عن خسّة في الطبع ودناءة في العنصر وعدم المبالاة بالنواميس الدينية ، والبخس لحقوق المسلمين ، ويشب منه تفريق الكلمة وملاشاة الاُلفة واحتدام البغضاء . وإنّ الشريعة المطهّرة حاولت ببيانها
ــــــــــــــــــ
(1) دعائم الإسلام للقاضي نعمان المصري .
(2) الوسائل 2 / 425 ـ عين الدولة .
(3) نهاية الأرب للنويري 3 / 371 .
(4) شرح النهج 1 / 216 .
(5) الوسائل 2 / 245 .
الصفحة ( 109 )
الأوفى بثّ روح التحابب بين الجامعة البشرية . والغادر يبغضه كلّ مَن مسّه غدره وكلّ مَن عرف شيئاً من ذلك . وكلّما اتّسعت الدائرة بمرور الزمن ازداد التباغض واشتدّت عوامله .
ومن هنا ضربوا المثل بغدرة آل الأشعث وقالوا : أعرق العرب في الغدر آل الأشعث ؛ فإنّ عبد الرحمن بن محمّد بن الأشعث غدر بأهل سجستان ، وغدر أبوه محمّد بأهل طبرستان ؛ فإنه عقد بينهم وبينه عهداً فغزاهم ، فأخذوا عليه الشعاب وقتلوا ابنه أبا بكر وفضحوه .
وغدر الأشعث ببني الحارث بن كعب وكان بينه وبينهم عهد فغزاهم ، وأسروه ففدى بمئتي قلوص ؛ فأدّى مئة وعجز عن البقية ، ولمّا أسلم أهدره الإسلام .
وغدر قيس أبو الأشعث ببني مراد ؛ فإنه كان بينه وبينهم عهد إلى أجل وآخره يوم الجمعة , فغزاهم يوم الجمعة ، قالوا له : لم ينتهِ الأجل . فكان جوابه : أنه لا يحلّ لي القتال يوم السبت ؛ لأنه يهودي ، فقتلوه وهزموا جيشه .
وغدر معد يكرب أبو قيس ببني مهرة وقد كان بينهم صلح فغزاهم غادراً بالعهد , فقتلوه وشقّوا بطنه وملؤوه حصى ، وقالوا : اشبع لا شبعت يابن بغايا ضرية(1) .
فالغدر ضامن العثرة ، قاطع ليد النصرة ، والغالب بالغدر مغلول , ولا عذر لغادر ، وفي ذلك يقول الشاعر(2) :
أخلقٌ بمَن رضي الخيانةَ شيمةً ألاّ يُـرى إلاّ صريعَ حوادثِ
ما زالت الأرزاءُ تُلحق بؤسها أبـداً بـغادر زمّـة أو ناكث
وكانت العرب تنصب الألوية في الأسواق الحافلة بالناس للتعريف بغدرة الغادر فتشهره ؛ ليتجنّبه الناس(3).
وغدرة خالد بن الوليد ببني جذيمة أعقبت ندماً ، وجرّت له الخزي حين تبرّأ النبي (صلّى الله عليه وآله) من فعلته وغدرته ؛ وذلك أنه (صلّى الله عليه وآله) أرسله لهم داعياً لا مقاتلاً ، وكانت بينه وبينهم إحنة ؛ فإنهم في الجاهليّة قتلوا عمّه الفاكهة ، فلمّا نزل على ماء لهم أخذوا السّلاح فرقاً منه ، فصاح بهم : ضعوا السّلاح ، فإن الناس أسلموا .
فلمّا وضعوا السّلاح آمنين
ــــــــــــــــــ
(1) المحبر لابن حبيب النسابة / 244 ، وشرح الصفدي على لاميّة العجم 2 / 201 ، ونهاية الأرب للنويري 3 / 373 .
(2) نهاية الأرب للنويري 3 / 372 .
(3) شرح الصفدي على لاميّة العجم 2 / 201 .
الصفحة ( 110 )
من غدر المسلم أمر جماعته فكتّفوهم ، وقتل منهم مقتلة عظيمة ، فلمّا بلغ رسول الله هذا المنكر ساءه ورفع يديه مبتهلاً إلى الله تعالى : (( اللّهمّ إنّي أبرأ إليك من فعل خالد )) . ثمّ أرسل أمير المؤمنين (عليه السّلام) ومعه مال ليؤدّي بني جذيمة حتّى ميلغة الكلب(1) .
على أنّ الغادر لا يرى للنفوس والأموال والأعراض المحترمة شرعاً حرمة ، فمتى ثارت فيه هذه الخصلة الخسيسة يكون من السهل عليه وأد النفوس ونهب الأموال والنيل من الأعراض ، وكلّه نقض لغرض المولى سبحانه ، فقد شاء لعباده أن يكونوا متحابّين ؛ ليقيموا عمد الحق ، ويرفعوا راية الهدى ، ويتمّ بهم الاجتماع والتعاون على مناجح الحياة من غير منافة بينهم .
وما ذكرناه من تبعات الغدر أعني النفاق والمباغتة والاغتيال لا تخلو من وصمة على المجتمع البشريّ ، كما توجب منقصة في مروءة الغادر ودرن ردائه والغمز في حسبه . وهذا في اُمراء المسلمين وولاة أمرهم أشدّ من غيرهم ؛ لكونهم مرموقون في النفسيّات الحميدة قبل أفراد الرعية .
وإنّ الاُمم تحتجّ بمَلَكات ولاتهم وغرائزهم وأعمالهم ، ويكون ما يتّصفون به من نواميس المذهب حجة لازمة ، فإذا تخلّوا الأمراء عن هذه الملكات عاد الطعن على المبدأ الديني ، فالواجب على أمير المسلمين ووالي شؤونهم أن يثابر على الشدائد مهما بلغت ، ويقاسي النكبات وإن تراكمت ، ولا يغدر ولا يفتك ؛ ليكون ذكره بريئاً من كلِّ وصمة .
على أنّ ولاة الاُمور حيث كانوا قدوة لجيلهم يكونون اُسوة لمَن يأتي بعدهم . فيعرف الناس في المستقبل الكشّاف الذي يميط الستار عن نواياهم الحسنة ، وأعمالهم الصالحة ، ومساعيهم المشكورة ، فاللازم على الوالي أن يرتكب خطّة تسير على أثره الرعية في غاياتهم المرموق إليها .
وإذا وضح هذا فلا يرتاب أحد في الغاية لمسلم بن عقيل (عليه السّلام) في جوابه لشريك لما لم يقتل ابن زياد ؛ وذلك أنّ شريك بن الأعور نزل في دار هاني بن عروة لمواصلة بينهما ، ولمّا مرض
ــــــــــــــــ
(1) صحيح البخاري 3 / 47 في كتاب المغازي ، والاستيعاب ـ بترجمة خالد ، وتاريخ الطبري 3 / 123 ، وكامل ابن الأثير 2 / 97 ـ حوادث سنة 8 .
الصفحة ( 111 )
أرسل إليه ابن زياد إنّي عائد لك ، فأخذ شريك يحرّض مسلم بن عقيل على الفتك بابن زياد , وقال له : إنّ غايتك وغاية شيعتك هلاكه ، فأقم في الخزانة حتّى إذا اطمأن عندي اخرج إليه واقتله ،وأنا أكفيك أمره بالكوفة مع العافية(1) .
وبينا هم على هذا إذ قيل : الأمير على الباب ، فدخل مسلم الخزانة ودخل عبيد الله ، فلمّا استبطأ شريك خروج مسلم أخذ عمامته من على رأسه ، ووضعها على الأرض ، ثمّ وضعها على رأسه ، فعل ذلك مراراً ونادى بصوت عال يسمع مسلماً :
مـا الانتظار بسلمى لا تُحيّوها حـيّوا سليمى وحيّوا مَن يُحيِّها
هل شربةٍ عذبةٍ اُسقى على ظمأٍ ولـو تلفتُ وكانت منيتي فيها
وإن تخشّيتَ من سلمى مراقبةً فـلستَ تأمنُ يوماً من دواهيها
وما زال يكرّره(2) وعينه رامقة إلى الخزانة ، ثمّ صاح بصوت رفيع : اسقونيها ولو كان فيها حتفي . فالتفت عبيد الله إلى هاني وقال : إنّ ابن عمّك يخلط في علّته ؟ فقال هاني : إنّ شريكاً يهجر منذ وقع في علّته ، وإنه ليتكلّم بما لا يعلم(3) .
فلمّا ذهب ابن زياد وخرج مسلم قال له شريك : ما منعك منه ؟! قال (عليه السّلام) : منعني خلّتان :
الأولى : حديث علي (عليه السّلام) عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) : (( إنّ الإيمان قيّد الفتك ، فلا يفتك مؤمن ))(4) .
والثانية : امرأة هاني ؛ فإنها تعلّقت بي وأقسمت عليّ بالله أن لا أفعل هذا في دارها , وبكت في وجهي .
فقال هاني : يا ويلها ! قتلتني وقتلت نفسها ، والذي فرّت منه وقعت فيه(5) .
ولبث شريك بعد ذلك ثلاثة أيّام ومات فصلّى عليه ابن زياد ، وُدفن
ـــــــــــــــــ
(1) مثير الأحزان / 14 .
(2) رياض المصائب / 60 .
(3) ابن نما / 14 .
(4) تاريخ الطبري 6 / 204 ، وابن الأثير 4 / 11 ، والأخبار الطوال / 236 ، وهذا الحديث تكرّر ذكره في الجوامع ، رواه أحمد بن حنبل في المسند 1 / 166 ، وفي منتخب كنز العمال بهامش المسند لأحمد 1 / 57 ، والجامع الصغير للسيوطي 1 / 123 ، وكنوز الحقائق بهامشه 1 / 95 ، ونصّ عليه من علمائنا ابن شهر آشوب في المناقب 2 / 318 ، والبحار في معاجز الصادق ج 11 ، وفي وقائع الأيّام عن الشهاب في الحكم والآداب .
(5) مثير الأحزان لابن نما / 14 .
الصفحة ( 112 )
بالثوية(1) .
ولما وضح لابن زياد أنّ شريكاً يحرّض على قتله قال : والله لا أصلّي على جنازة عراقي أبداً ، ولولا قبر زاد فيهم لنبشت شريكاً(2) .
إنّ القارئ جداً عليم بأنّ الاُمّة إذا بلغها عن ممثّل سيّد الشهداء مسلم بن عقيل بأنه آثر انتكاث الأمر عليه ، وقدّم تضحيته على الفتك بابن مرجانة ، فلم يقدم على اغتياله والغدر به ؛ تكريماً لنفسه القدسية عن ارتكاب هذه الخصلة الذميمة التي نهى الشارع الأقدس عن ارتكابها ، فلا يقال رسول الحسين وداعيته إلى مناهج الرشاد باغت صاحبه ، في حين لو أجهز عليه لقضى على فاجر فاسق ، ولكنه (عليه السّلام) ترك ذلك وعرض بنفسه للهلاك ؛ تعليماً للاُمّة على اتخاذ مقدسات الأحكام طريقاً لاحباً للفوز بالرضوان ، فلا يتجرّأ الناس على الملّة الحقّة ، ولا يباغت الرجل من دونه في غايات طفيفة تسف إليها الطبقات الواطئة .
فالاُمّة إذا بلغها أنّ هذا الداعي إلى الحقّ ضحّى نفسه ونفيسه دون الفتك والغدر ، وذهب ضحية السؤدد والخطر ، ضحية المجد والكرامة ، كان هذا دليلاً للتأسّي به ؛ فإنّ للشيعة نفوساً نزّاعة إلى اقتصاص أثر أهل البيت ، والاستنارة بضوء تعاليمهم ، ولا محالة تنعقد ضمائرهم على القيام بمثله أو ما يشبه كما تسعه نفوسهم وتنضح به آنيتهم .
فمسلم (عليه السّلام) كبقية رجالات أهل هذا البيت الرفيع ، أراد بفعله هذا وبقية أعماله أن يفيض على الاُمّة دروساً أخلاقية لا تعدوه الاُمّة في التجنّب عن رذيلة الفتك والغدر ، فتستفيد به كما استفادت من كل فرد من شهداء الطفِّ إباءً ونخوةً وحميةً دون القويم .
فهذه الكلمة (( الإيمان قيّد الفتك )) التي أفاضها عالم آل أبي طالب ، وخليفة الإمام الحجة في الدينيات أوقفتنا على سرّ من أسرار الشريعة وهو مبغوضية
ـــــــــــــــــ
(1) في المعجم مما استعجم 1 / 350 الثوية موضع وراء الحيرة كان سجناً بناه تبّع . وفي معجم البلدان 1 / 28 كان النعمان يحبس فيه ، فيُقال للمحبوس : ثوي ، فسمّي الموضع به ؛ وهو قريب من الكوفة ودفن فيه المغيرة وأبو موسى الأشعري وزياد ، وضبطها بالثاء المثلثة مفتوحة بعدها واو مكسورة , ثمّ ياء مشدّدة بعدها هاء ، وفي تاج العروس أنها كسُميّة .
(2) ابن الأثير 4 / 11 .