موقف السلطة
كان النعمان بن بشير والياً على الكوفة وقد ولّاه معاوية عليها في أواخر أيامه وكان من مجرمي الغارات على المدن الآمنة الذين يرسلهم معاوية, أما تفسير موقفه وسلوكه المتجاهل تجاه حركة مسلم بن عقيل فهو يحتاج إلى موضوع مفصّل.
وقد كتب جواسيس الأمويين ليزيد بموقفه هذا ومنهم عمر بن سعد مما حدى به إلى عزله وتولية عبيد الله بن زياد الذي شدد من قبضته على الكوفة أول دخوله لها فاضطر مسلم لمغادرة دار المختار واللجوء إلى دار هانئ بن عروة المذحجي صاحب أمير المؤمنين كإجراء احترازي فقد كثف ابن زياد من جواسيسه لاقتفاء أثر مسلم ومعرفة مكانه حتى دله أحد الجواسيس على مكانه.
المؤمن لا يغدر
كان في بيت هانئ أحد زعماء الشيعة وهو شريك بن الحارث, وكان مريضاً فأراد ابن زياد زيارته لأنه يعلم مدى ما يتمتع به هذا الرجل من شعبية وتأثير في الكوفة فأراد أن يتفقد أحواله ومعرفة ما إذا كان على علاقة بمسلم بن عقيل أو معرفة مكانه كما أنه في دار هانئ الذي لا يقل عن شخصية شريك تأثيراً وهو زعيم مذحج وبطلها ومن أشراف الكوفة وشجعانها ومن وجوه الشيعة وكبارها.
وكان هانئ قد أوى مسلماً في داره فلما أرسل ابن زياد رسولاً إلى شريك يخبره بأنه قادم لزيارته في المساء اقترح شريك على مسلم قتل ابن زياد عند جلوسه لكن مسلماً لم يجبه ولما جاء ابن زياد وجلس كان شريك يرمز في قوله إلى خروج مسلم وقال في ذلك شعراً لكن مسلم لم يخرج ولما خرج ابن زياد عاتب شريك مسلماً على عدم خروجه وقتل ابن زياد فروى له مسلم حديث رسول الله (ص): الإيمان قيد الفتك ولا يفتك مؤمن
هانئ بن عروة
لما علم ابن زياد بمكان مسلم أرسل ثلاثة أشخاص لاستدعائه بحجة استبطائه عنه وأن الجفاء لا يحتمله ابن زياد خاصة وأن هانئاً من زعماء الكوفة وهؤلاء الأشخاص هم: حسان بن أسماء بن خارجة, ومحمد بن الأشعث, وصهر هانئ عمرو بن الحجاج الزبيدي, فلمّا ألحّوا على هانئ بالحضور جاء معهم فكشف ابن زياد عن أمر الجاسوس وعرض على هانئ تسليم مسلم لكن البطل المذحجي قال له: والله لو لم أكن وحدي ليس لي ناصر لما سلمته إليه أبدا حتى أموت دونه.
فغضب ابن زياد من هذا القول فأمر جلاوزته بتكتيفه و(استعرض وجهه بالقضيب فلم يزل يضرب أنفه وجبينه وخده حتى كسر أنفه وسيل الدماء على ثيابه ونثر لحم خديه وجبينه على لحيته حتى كسر القضيب) (24) ثم زجه في السجن
لم يتوقع هانئ أن يجرؤ ابن زياد على هذه الفعلة وهو زعيم أكبر قبيلة في الكوفة فكان يتوقع أن يهجم قومه على القصر ويستنقذوه من ابن زياد لكن ابن زياد كان قد أحكم خيوط مؤامرة دنيئة مع عمرو بن الحجاج الزبيدي.
المؤامرة الدنيئة
كان هانئ متزوجاً من أخت عمرو بن الحجاج وقد أرسل ابن زياد عمرو لاستدعاء هانئ ليضمن قدومه أولا وليقوم بمهمة أخرى, وهي أنه لما دخل هانئ على ابن زياد خرج عمرو ليكمل الجزء الثاني من مؤامرته حيث جمع قبيلة مذحج ووقف أمام القصر متظاهرا بأنه يريد تخليص هانئ من عبيد الله بن زياد فوقف وقال: أنا عمرو بن الحجاج وهذه فرسان مذحج وقد بلغهم أن صاحبهم قُتل فأعظموا ذلك !
يا لخسة هذا الوغد لقد تزعم هذه القبيلة مستغلاً غياب قائدها وقرابته منه فتحدّث باسمها فخان صهره وخانها.
وهنا يأتي دور الرجل الثالث في المؤامرة بعد ابن زياد وعمرو وهو شريح القاضي الذي أوعز إليه ابن زياد قائلاً:
(أدخل على صاحبهم فانظر إليه ثم اخرج فاعلمهم أنه حي لم يقتل وأنك قد رأيته)
فلما دخل شريح على هانئ وهو بتلك الحالة قال له هانئ:
(يا شريح إني لأظنها أصوات مذحج وشيعتي من المسلمين, إن دخل علي عشرة نفر أنقذوني, يا شريح إتق الله إنهم قاتلي).
لكن شريحاً تجاهل قول هانئ وقال له بعدم اكتراث: أراك حيّاً !
فحمّله هانئ أمانة وهي قوله: أخبر قومي إن انصرفوا قتلني .. ولكن أنى لمن باع دينه وضميره لبني أمية من إداء الأمانة فلما خرج شريح قال لابن زياد: قد رأيته حياً ورأيت أثراً سيئاً. فأسكته ابن زياد بقوله: وتنكر أن يعاقب الوالي رعيته أخرج إلى هؤلاء وأخبرهم كما أمرتك !
قام هذا القاضي الضال المضل بدوره وأطل من على القصر مخاطباً أكبر قبيلة في الكوفة: ما هذه الرعة السيئة .. الرجل حي وهكذا بكل بساطة سكتت هذه (الرعة) وعجّل الزبيدي بأمر انسحابها قائلا أما إذا لم يقتل فالحمد لله. لكي لا يبادر أحد بني مذحج بطلب الهجوم على القصر.
تحرك مسلم
بعد الانسحاب المخزي لمذحج وصلت أخبار هانئ إلى مسلم فأمر مناديه برفع شعار الثورة ووزع الألوية على أصحابه وتوجه نحو القصر فدخل ابن زياد القصر وأغلق أبوابه, وقد أشار عليه أحد أصحابه وهو كثير بن شهاب بقتال مسلم لكنه رفض جبناً وخوفاً من مواجهة مسلم ولجأ إلى حرب الإشاعات الجبانة بأن جيش الشام قادم !
وكلمة (جيش الشام) لها مدلول في أذهان أهل الكوفة فهي لا تعني القتل فحسب بل هتك الحرمات وقتل الأطفال كما أمر ابن زياد برفع راية أمان لكل من يترك مسلماً وينضم إليها فقال لهم: أشرفوا على الناس فمنوا أهل الطاعة الزيادة والكرامة وخوفوا أهل المعصية الحرمان والعقوبة وأعلموهم وصول جند الشام إليهم
فكان منادي ابن زياد ينادي من على القصر:
أيها الناس إلحقوا بأهليكم ولا تعجلوا الشر ولا تعرضوا أنفسكم للقتل فإن هذه جنود يزيد قد أقبلت وقد أعطى الله الأمير عهداً لئن أتممتم على حربه ولم تنصرفوا من عشيتكم أن يحرم ذريتكم العطاء ويفرق مقاتلتكم في مغازي أهل الشام على غير طمع وأن يأخذ البريء بالسقيم والشاهد بالغائب حتى لا يبقى له فيكم بقية من أهل المعصية إلا أذاقها وبال ما جرت أيديها.
وقد كان لهذه التهديدات أثرها في النفوس ووجدت صدىً وتجاوباً من قبل النفوس الخانعة والمريضة, وكان للمرأة دور في هذا التقاعس والتخاذل فكانت تتعلق بثياب زوجها أو أخيها أو ابنها فلا تتركه حتى يرجع إلى بيته ! وقد خدمت هذه الوسائل ابن زياد فكانت كل امرأة تقول لمن يخصها: (الناس يكفونك) وهكذا تفرّق الناس عن مسلم حتى صلى المغرب من ذلك اليوم وليس معه إلا ثلاثون رجلاً
وهذا العدد كان هو صفوة أهل الكوفة من الشيعة المخلصين المؤمنين, يقول الشيخ محمد علي عابدين: (نحن نعتقد أن في هذا العدد صفوة مؤمني الكوفة ونخبة رجال الحركة لتعذر تأخر غيرهم إلى هذا الوقت) (25)
ويقول عبد الواحد المظفر: هل أسلمه الخاصة وأهل الإخلاص عمداً وخذلاناً كابن عوسجة وابن مظاهر والشاكري والصائدي وأمثالهم ؟ هذا قدح فيهم ولا يجوز أن يتفوّه به مُتفوّه, فما السرّ في تركهم له ومفارقتهم إياه حتى أنه لم يصحبه أحد ليدله على الطريق أو يأويه في منزله ؟
ويجيب المظفر عن هذه الأسئلة بالقول: إن ثقاته المشار إليهم كانوا معه وغير مفارقين له ولا منصرفين عنه مع من انصرف من أهل الوهن وضعفاء اليقين ولكنه سلام الله عليه صرفهم عنه لأمرين.. ويتوسع المظفر في الحديث عن هذين الأمرين الذين مفادهما أنه خاف عليهم مصيراً مثل مصير هانئ بن عروة وهذا من شيمة العظماء وأخلاقهم العظيمة (26)
دار طوعة
بعد أن تأكد ابن زياد من انسحاب الناس إلى بيوتهم أمر بشن حملة للقبض على مسلم وشدد على ذلك وعرض جائزة مغرية لمن يلقي القبض عليه أو يدل على مكانه في الوقت الذي كان مسلم يسير في أزقة الكوفة, فتوقف عند دار وقفت ببابها امرأة تدعى طوعة فطلب منها ماء ثم أخبرها بمن يكون فآوته, لكن ابنها الشرير كان شرطياً عند ابن زياد وعند عودته في المساء عرف بأمر مسلم فأخبر ابن زياد الذي وجه قوة عسكرية إلى دار طوعة للقبض على مسلم.
جيش في فرد ...
هكذا كان مسلم عندما رأى الرجال يقتحمون الدار فقد جاءوا إلى الموت بأرجلهم فما إن اقتحموا الدار حتى شعروا كأن صاعقة نزلت على رؤوسهم من السماء أما المرأة فقد وقفت وهي مذهولة تنظر إلى هذا الإنسان الذي يواجه هذه الجماعات من الرجال بهذه البطولة والشجاعة المتفردة ولنترك للتاريخ أن يصور لنا تلك البسالة التي أذهلت التاريخ نفسه.
يقول الطبري: (واقتحموا عليه الدار فشد عليهم يضربهم بسيفه حتى أخرجهم من الدار، ثم عادوا إليه فشد عليهم كذلك). (27)
ويقول المسعودي: (فاقتحموا على مسلم الدار فثار عليهم بسيفه، وشد عليهم فأخرجهم من الدار، ثم حملوا عليه ثانية، فشد عليهم وأخرجهم أيضاً، فلما رأوا ذلك منه ــ أي عجزهم عن الوقوف أمامه ــ علوا ظهور البيوت فرموه بالحجارة وجعلوا يلهبون النار بأطراف القصب ثم يلقونها عليه من فوق البيوت فلما رأى ذلك، قال: أكل ما أرى من الأجلاب لقتل مسلم بن عقيل ؟ يا نفس اخرجي إلى الموت الذي ليس له محيص فخرج إليهم مصلتاً سيفه في السكة فقاتلهم). (28)
ويقول ابن أعثم الكوفي: (وخرج مسلم في وجوه القوم كأنه أسد مغضب فجعل يضاربهم بسيفه حتى قتل منهم جماعة).(29)
كان يهجم عليهم وهو يقول:
هو الموتُ فاصنعْ ويكَ ما أنتَ صانعُ *** فأنتَ لكأسِ الموتِ لا شكَّ جارعُ
فصبراً لأمـــــــــــــــرِ اللهِ جلَّ جلاله *** فحــــكمُ قضاءِ اللهِ في الخلقِ ذائعُ
لم يخطر في بال ابن الأشعث أن الرجال السبعين الأشداء الذين اختارهم لهذه المهمة سيفشلون وسينتهي أمرهم إلى موت بعضهم وفرار البعض أمام رجل واحد !!
رجل واحد حمل صفات الرجل الكامل من شجاعة وبأس ونجدة ومروءة ويقين.. رجل أعاد في أذهان أهل الكوفة شجاعة علي.
رأى ابن الأشعث أصحابه وهم ما بين قتيل وجريح ومهزوم فترك رجاله وذهب إلى القصر يطلب الامدادات وما إن وصل خبر الإمدادات إلى أسماع ابن زياد حتى اضطرب وفزع وشعر بنزوله عليه كأن القصر قد هوى على رأسه فنهض واقفاً وهو يرتعد غضباً وخوفاً وصاح في وجه ابن الأشعث:
ــ بعثناك إلى رجل واحد تأتينا به فثلم في أصحابك هذه الثلمة العظيمة ؟ (30)
ولكن ابن الأشعث لم يترك استهانة ابن زياد بقوله (رجل واحد) دون رد ليذكره بأنه لم يرسله إلى رجل عادي من الناس الأبرياء الذين يقبض عليهم ابن الأشعث على التهمة والظنة ويودعهم غياهب السجن فبين له من هو هذا الرجل الواحد فقال له:
ــ أتظن أنك بعثتني إلى بقال من بقالي الكوفة أو جرمقاني من جرامقة الحيرة ؟ أما تعلم أنك بعثتني إلى أسد ضرغام وسيف حسام في كف بطل همام !!
زاد رد ابن الأشعث من خوف ابن زياد وأدرك صعوبة المهمة أمام هذا البطل الطالبي فأرسل بالإمدادات على وجه السرعة وهو يزبد ويرعد لكنه لم ينس ما جبل عليه من الغدر فاقترح على ابن الأشعث قائلا:
ــ أعطه الأمان فإنك لن تقدر عليه إلا بالأمان ..
كان ابن الأشعث يعرف ما هو معنى الأمان عند ابن زياد إنه يعني الغدر فنظر إلى ابن زياد نظرة شيطانية وخرج مسرعاً مع عدة من الرجال..
رجع ابن الأشعث إلى حيث مسلم بن عقيل فرأى ذلك البطل وهو يجهز على كل من يتصدى له فخاف أن يكون مصير هؤلاء الرجال كسابقيهم ما دام هذا الرجل حاملاً سيفه وهو ينقض على من يواجهه كالأسد عندما ينقض على فريسته فلجأ إلى مكيدة شيطانه ابن زياد فعرض على مسلم الأمان فرد ابن عقيل على طلب الأمان بقوله:
أقســــــــمتُ لا أُقتل إلا حُرَّا *** وإن رأيتُ الموتَ شيئاً نكرا
كل امرئٍ يـــوماً ملاقٍ شرَّا *** ويخـــــــلطُ الباردَ سحناً مرَّا
رُدَّ شعـــاعُ الشمسِ فاستقرَّا *** أخافُ أن أخــــــدعَ أو أغَرَّا