عند كراتشكوفسكي
مدخل:
يطلق اسم السودان على الأقاليم شبه الصحراوية من إفريقية التي انتشر فيها الإسلام. وتمتد جنوبي الصحراء الكبرى ومصر، أي من المحيط الأطلنطي في الغرب إلى الحدود الغربية للحبشة في الشرق. وتساير حدودها الجنوبية بصفة خاصة خط عرض 10 شمالا. وتنقسم هذه الأقاليم إلى ثلاثة أقسام: (1) السودان الغربي ويشمل حوض السنغال ونهر غامبيا والمجرى الأعلى لنهر فولتا والحوض الأوسط لنهر النيجر؛ (2) السودان الأوسط، ويشمل حوض تشاد؛ (3) السودان الشرقي ويشمل الحوض الأعلى والأوسط لنهر النيل وهو الذي تناقشه موضوعة مشاركتنا هذه.
تعريف تاريخي بمناطق النوبة والبجة:
أول من ذكر مروي في التاريخ هو هيرودوتس المؤرخ اليوناني الشهير الذي عاش في القرن الخامس للمسيح، قال: "وفوق جزيرة الفنتين تبتدئ بلاد أثيوبيا فيتعذر السفر في المراكب مسيرة أربعين يوما بسبب كثرة الصخور في طريق النيل، وبعد ذلك تركب قاربا وتسافر مسيرة اثنتي عشر يوما فتصل إلى مدينة كبيرة اسمها مروي قيل إنها عاصمة أثيوبيا". ثم ذكرها كثيرون غيره من مؤرخي اليونان والرومان.
وذكر أسترابو: (54 ق.م – 24 ب.م) أن الأثيوبيين فوق أصوان كانوا في أيامه أربع قبائل مختلفة: التروقلوديته، والبلامس (والمشهور أنهم البجة)، والنوبة، والمقباري. فسكن البلامس والمقباري في الصحراء الشرقية شمالي مروي إلى جهة حدود مصر في مكان الأوايو والمازايو، وكانوا تحت حكم الأثيوبيين. وسكن التروقلوديته في الصحراء الشرقية فكان حدهم الشمالي بيرينيس (راس بناس)، والغربي النيل. وظن بعضهم أنهم هاجروا إلى هذه الجهة من جزيرة العرب بعد افتتاح بطليموس يورجيتس لأثيوبيا. وسكن النوبة على النيل. وذكر غير أسترابو من المؤرخين وجود قبيلة الأشتيفاجي على شطوط البحر الأحمر.
ولكن لم يشتهر في تاريخ أثيوبيا بعد أن دالت دولة مروي إلا النوبة والبجة الذين ما زالوا إلى الآن مقيمين في الأماكن المار ذكرها.
وقد انتظم للنوبة ملك في تلمس (كلابشة) وكان بينهم وبين البجة وقائع معدودة، فترى على جدران هيكل كلابشة كتابة باليونانية مفادها: أن الملك سلكو ملك النوبة وكل الأثيوبيين انتصر على البجة في عدة وقائع.
وذكر فوبسكوس أن بروس النائب الروماني الذي تولى مصر من سنة 276 إلى سنة 284 ب.م غزا البجة في صحراء ثيبة فقهرهم وأرسل منهم أسرى إلى رومية.
وكانت المحرقة آخر حدود مصر الجنوبية في أيام الرومان كما كانت في أيام اليونان. فرأى الإمبراطور ديوقليشيان (284–232 ب.م) أن خراج البلاد التي بين المحرقة وأصوان لا يفي بنفقات العساكر اللازمة لجمعه فلا فائدة من حفظها فأقطعها للنوبة، وأعاد الحدود المصرية إلى أصوان، فقوَّى حامية الفنتين وعقد مع النوبة معاهدة جديدة، وجعل للنوبة والبجة جعلا معلوما من المال يدفع لهم كل سنة على شرط أن يكف البجة عن غزو الحدود المصرية، وأنهم إذا لم يمتنعوا عنه من أنفسهم منعتهم النوبة بالقوة.
وأسكن بعضهم في جزيرة الفنتين وسمح لهم بالصلاة في الهياكل مع الرومانيين وسمح لكهنتهم بالإقامة في الهياكل مع كهنة الرومانيين فوفوا بالعهود إلى أيام الإمبراطور مارشيان، ثم نكثوا بها وغزوا بلاد مصر العليا فغنموا وأسروا وعادوا إلى بلادهم فهاجمهم الجنرال مكسيمينوس الروماني قائد ثيبة فقهرهم جميعا، أي النوبة والبجة معا، وذلك سنة 451 ب.م فطلبوا الصلح على أن لا يدخلوا مصر ما دام هذا القائد على ثيبة، أما مكسيمينوس فلم يرض أن يكون بينه وبينهم صلح حتى يرجعوا السرى ويدفعوا قيمة ما غنموه من مصر ويجعلوا بعض كبارهم رهنا ففعلوا فعقد معهم صلحا لمائة سنة. وبذلك أخذت حدود بلادهم في الاختلاط بين أن تكون الجنوب المصري أو الشمال السوداني حتى تاريخ متأخر وربما حاضر.
وقد ورد في جغرافية وتاريخ السودان حول تعريفهما المعاصر
النوبة:
النوبة: وهم المعرفون في مصر (بالبرابرة) فقد انحصروا في وادي النيل بين الشلال الأول والرابع وهم خليط من ثلاثة أجناس: النوبة الأصليون والعرب والأتراك. أما النوبة فهم كالبجة من بقايا الشعوب التي تألفت منها المملكة الأثيوبية القديمة وقد اختلف في أصلهم فمنهم من قال إنهم والبجه من أصل واحد، ومنهم من ألحقهم بالنوبة السود الذين إلى جنوبي كردوفان ولكل من الفريقين أقوال تخمينية لا محل لذكرها هنا. وهم الآن نفر قليل يزيد عددهم عن أربعمائة رجل (هذه المعلومة جلية الخطأ، إلا إن كان يقصد أربعمائة ألفا) وأما العرب فهم الذين استوطنوا البلاد بعد الإسلام وهم القسم الأكبر. وأما الأتراك فهم الذين استوطنوها بعد أن فتحها السلطان سليم الفاتح سنة 1520م وهم أقل من العرب وأكثر من النوبة. وقد كان النوبة الأصليون قديما على الوثنية كالبجة فلما انتشرت النصرانية في مصر امتدت إليهم فاعتنقوها سنة 545م وبقوا إلى أن تغلب العرب المسلمون سنة 1318م فاعتنقوا الإسلام مضطرين، ولكنهم بقوا محافظين على لغتهم واتخذ العرب الفاتحون لغة النوبة ونسوا لغتهم وكذلك فعل الأتراك. ولم يزالوا جميعهم يتكلمون لغة النوبة بلهجتين مختلفتين فلأهل المحس وسكوت لهجة، ولأهل دنقلة في جنوبيهم والكنوز في شماليهم لهجة أخرى. ومن مخالطتهم العرب ترى أكثرهم يتكلمون العربية لكن رطانة الأعجمية ظاهرة في كلامهم. وكل من هذه الأجناس الثلاثة محافظ على جنسيته ويفتخر بالانتماء إليها وأما في داخلية السودان فهم يعرفون بأسماء بلادهم أي:
(الدناقلة) وهم سكان النيل بين الشلال الثالث والرابع وهم قبائل مختلفة أشهرها قبيلة الأشراف التي تدعي النسبة إلى آل البيت ومنهم محمد أحمد المهدي المشهور. وقام منهم قديما ملوك في الدفار ودنقلة العجوز والخندق وجزيرة أرقو ولا تزال ذريتهم فيها إلى اليوم.
(والمحس) وبلادهم بين الشلال الثالث وجبل دوشه وهم يدعون النسبة إلى عبيد بن كعب العباسي ويقولون إنهم كانوا عند مجيئهم إلى دار المحس سبعين ألفا. وقد كان لهم قبل الفتوح المصري ملك في جبل ساسي لا تزال ذريته مقيمة هناك إلى اليوم.
(وأهل سكوت) ويسكنون بين جبل دوشه والشلال الثاني عند حلفا.
(وأهل حلفا والدر) وهم بين حلفا والسبوع وأكثرهم من ذرية الأتراك.
(والكنوز) قيل جاءوا من نجد والعراق وسكنوا بين السبوع والشلال الأول.
وقد يطلق عليهم جميعا اسم الدناقلة. وهم في بلادهم يتعاطون الزراعة وحياكة الدمور ويقتنون البقر والضأن والخيل، فإذا خرجوا منها إلى مصر كان صغارهم مساحي أحذية وكبارهم بوابين وخدما وسياسا، وإذا ذهبوا إلى داخل السودان كانوا تجارا وكتبة وفقهاء ونجارين يبنون المراكب. وقد اشتهروا في مصر بالنظافة وفي السودان بالمكر والخديعة. ومن أمثال عرب السودان (الدنقلاوي شيطان مجلد بجلد إنسان).
البجة:
البجة: ويقال لهم النجاة والبيجة فهم بادية الصحراء الشرقية بين النيل والبحر الأحمر ومن بقايا الشعوب التي تألفت منها مملكة أثيوبيا القديمة ويظن أنهم من سلالة أولاد كوش بن حام الذين هاجروا إلى السودان بعد الطوفان، كما ظن في شبه السود وسواء صح هذا الظن في هذين الشعبين أو لم يصح، فمن الثابت المقطوع به والمؤيد بالقرائن التاريخية والطبيعية أنهما من سلالة غير سلالة السود وأنهما أقدم الشعوب في إفريقيا بعد السود، ولم ينشؤوا فيها بل هاجروا إليها من آسيا عن طريق مصر أو البحر الأحمر من عهد بعيد. وبقي البجة على الوثنية إلى أن كان الإسلام في جزيرة العرب وهاجر إليهم العرب المسلمون في القرن الأول للهجرة فعلموهم الإسلام فانتحلوه على ضعف لكنهم ما زالوا على لغتهم البيجاوية وحالهم الأولى من البداوة والهمجية وهم يشبهون عرب البادية في الملامح والعادات إلا أنهم أشد سمرة وأشكس أخلاقا، وقنيتهم الإبل والغنم والمعزى، وهم منقسمون إلى قبائل جسيمة في كل قبيلة عدة عمائر وبطون وأفخاذ وفصائل وهي:
(العبابدة) وينقسمون إلى أربع عمائر تعرف بالبدنات وهي العشابات وهم منتشرون في الصحراء بين قنا وكورسكو ومركز شيخهم أصوان ومن آبارهم الشهيرة أحيمر وأنقات وأبرق. والمليكاب بين دراو وبربر وأشهر آبارهم آبار المرات ومركز شيخهم دراو شمالي أصوان. والفقراء وهم متفرقون في شرقي النيل وغربيه بين قنا وكورسكو ومركز شيخهم الرمادي قرب أدفو والعبودين مع الشناتير شرقي النيل بين قنا وكورسكو ومركز شيخهم السيالة شمالي كورسكو وأكثرهم تابع لمصر وهم يخالطون الحضر على النيل فيأتون أسوان على الخصوص بما عندهم من الإبل والفحم والسنا وغيرها ويرجعون إلى صحرائهم بالغلال والبضائع. وفي تقاليدهم أنهم قوم الزبير بن العوام وهو أحد القواد الأربعة الذين أرسلهم عمر بن الخطاب نجدة لعمرو بن العاص إذ كان محاصرا للمقوقس على جبل المقطم بمصر وأرسل معهم كتابا يقول فيه (إني قد أنفذت إليك أربعة آلاف على كل ألف منهم رجل بمقام ألف). ولعل قوم الزبير بن العوام اختلطوا بهم فكانوا رؤوسهم.
(والبشاريين) أو البشارية وهم ثلاث فرق على البحر الأحمر من القصير فصاعدا جنوبا إلى حدود سواكن وفرقة على نهر الأتبرة وفرقة في جزيرة عتباي بينهما وفي كل فرقة عدة بدنات مشهورة.
(والأمرأر) وهم قبيلة جسيمة في طريق بربربين سواكن وبئر أرباب وينقسمون إلى بدنات شتى أهمها الموسياب وهم شيوخ القبيلة ومركزهم أرياب.
(والهدندوه) وهم أقوى قبائل البجة وأوفرهم عددا، قيل إنهم يبلغون نصف مليون نفس أو أكثر ويسكنون الصحراء الواقعة بين خور بركة والأتبرة وطريق بربر وسواكن وينقسمون إلى بدنات شتى ذكروا منها 30 بدنة أهمها الويل الياب وهم شيوخ القبيلة ومركزهم فلك إلى الشمال من كسلا قيل إن اسمهم مشتق من (هدا) بمعنى أسود و(أندوه) بمعنى القبيلة، ومعناه القبيلة السوداء ومنهم من فسره بغير ذلك.
(أو الحلانقة) ومركزهم كسلا وهم أضداد الهدندوة وموالون للحكومة.
(وبنو عامر) وهم في شرق خور بركة من عقيق إلى سنهيت، وقد قامت فيهم قديما مملكة خضعت لسنار وهم أميل إلى السكينة من كل قبائل البجة. وتمتاز إبلهم بطول سنامها حتى إن سنام البعير يبلغ طوله مترا أو نحوه. وهم منقسمون إلى 16 بدنة أو أكثر أشهرها النابتاب وهم رؤوسهم وينتسبون للجعليين. ومنهم فصيلة تعرف بالبجة أي باسم الجنس كله وأخرى تعرف بالخاسة وهما محتقرتان عند عرب السودان ومن أمثالهم (البجه والخاس أرخص الناس).
(والحباب) وهم في شرق بني عامر ويمتدون من رأس قصار إلى مصوع وهم وبنو عامر مشتركون الآن بين حكومة السودان وحكومة الإرثريا.
مناح ثلاثة:
يقف هذا التناول على التعريف بالأثر العربي (المصدر) المذكور عند كراتشكوفسكي كخطوة أولى؛ ثم يقوم بطرح مستوى الثقة والحصحصة من خلال قراءة ونظرة كراتشكوفسكي التي تأتي عادة مدعمة بقراءات غيره من الباحثين القدماء والمستشرقين. كما نقوم بتوضيح الخارطة التي يغطيها الأثر بخصوص موضوعتنا فقط. إذ أن هذه المدارسة كانت في أساسه أطروحة لمعرفة الكتابات التي أتت على ذكر هؤلاء الأقوام ومناطقهم وتاريخ صراعهم وعيشهم عبر التاريخ. وهو أشبه ما يكون بالجردية التي قام بها كراتشكوفسكي نفسه من خلال استدراكه الذي نظمه في إثر كتاب الأب لويس شيخو اليسوعي، حول موضوع (المخطوطات العربية لكتبة النصرانية في المكاتب البطرسبرجية)؛ فهو يقول بعد استدراكه الذي جاء كدائرة معارف مهولة ومترامية الحيازة: "وفيما ذكرنا من المخطوطات دليل كاف على ما لخزائننا من الأهمية في عالم العربية. ولنا وطيد الرجاء أن يتحفنا يوما ما أصحاب البحث والتنقيب بعنايتهم كما فعلوا ذلك بمكاتب رومية، وباريز، ولوندرا، وبرلين وغيرها".
كما نشير إلى أننا سنضع الأعمال والأسماء في سياق تسلسلها التاريخي والمعرفي مع الاقتصاد في البيانات حول هذه الأسماء إلا في حالة الأسماء غير الشهيرة.
وردت المصادر الآتية لدى كراتشكوفسكي ونحن نقوم هنا بإيرادها، وإن مع بعض التوجيه للمادة والتنقية الضروريتان للتركيز على موضوعنا، وكذلك بتقسيمها.
المصدر:
1. اليعقوبي: أبو العباس أحمد بن يعقوب بن جعفر بن وهب بن واضح الكاتب اليعقوبي. مؤلفه (كتاب البلدان)؛ والمقدرة وفاته بتاريخ 897 أو 905.
يذكر كراتشكوفسكي أن كتاب اليعقوبي توافر في مخطوطة قام بترحيلها مخلينسكي A.Mukhlinski ( 1808 – 1877) الأستاذ بجامعة بطرسبرغ إلى ميونخ وموجودة هناك حتى تاريخ اليوم. وثمة مخطوطة أخرى كان يمتلكها المستشرق ف. كرت F. kern (1874-1921) وانتهت إلى المكتبة الملكية البروسية ولم تدرس حتى الآن. ويرجع تاريخ تأليف الكتاب إلى حوالي سنة (278هـ: 891، أي ربما قبل قليل من وفاة المؤلف التي حدثت عام) 482هـ: 897) أو عام (292هـ: 905).
الخارطة:
قام اليعقوبي بوصف الحدود الأصلية لبلاد النوبة ولم يتعرض لمناطق البجة أو أنحاء أخرى من السودان.
أصالته بالنسبة لكراتشكوفسكي:
(أ) سبق لليعقوبي أن وعد بأنه سيؤلف كتابا يراعي فيه الدقة والانضباط العلمي الشديدين، ويعلق كراتشكوفسكي بقوله: "وفى اليعقوبي بوعده فخرج الكتاب وفقا لمقاله، إذ التزم فيه المؤلف بدقة الخطة التي وضعها في تبويب مادته. غير أن العرض العام للكتاب يخرج عن حد التناسق بعض الشيء، فقد أسهب المؤلف في وصف بغداد وسامرا بحيث أخذ ذلك ربع الكتاب تقريبا".
(ب) التزم اليعقوبي في كتابه بالمنهج في الوصف أي حسب الجهات الأصلية الأربعة، فالقطاع الأول شمل الكلام عن إيران وتركستان وأفغانستان مع فصول مخصصة لحكام خراسان وسجستان؛ والثاني يشمل غربي العراق وغربي وجنوبي الجزيرة العربية؛ والثالث يشمل العراق الجنوبية والشرقية وشرقي الجزيرة العربية والهند والصين؛ أما الرابع فبيزنطة ومصر والنوبة وشمال إفريقيا. والقسمان الثالث والرابع من الكتاب مفقودان في المخطوطة؛ وثمة عشر صفحات من المخطوطة اهترأت بصورة ضاعت معها خاتمة وصفه للبصرة ووصفه لبلاد العرب الشرقية وخوزستان وفارس والهند وجميع الشمال وبداية الغرب.
(ج) يؤكد كراتشكوفسكي أنه من المستحيل إنكار النزعة التجديدية في طريقة التقسيم على أساس الولايات التي اتخذها اليعقوبي. كما يرى أن طرق المواصلات قد نالت اهتماما كافيا من اليعقوبي، بالرغم من أنه لم يضبط المراحل بنفس دقة ابن خرداذبه. ويرى أن اهتمام اليعقوبي يتجه بالذات إلى الجانب الإحصائي الطوبوغرافي، وأيضا يولي عناية كبرى للخراج؛ ولكن كتابه في الإجمال يحفل كذلك بمسائل الإثنوغرافيا والصناعة والفنون.
(د) يورد كراتشكوفسكي اعترافات عدد من الباحثين بأمانة اليعقوبي العلمية وتفرده بمعلومات وافية لا توجد في المصادر الأخرى. ويمثل وصفه للخطط التاريخية لبغداد وسامرا أهمية منقطعة النظير كما يرى كراتشكوفسكي. ويشير إلى أن اليعقوبي ترك وصفا لإفريقيا قبل انفصالها مباشرة عن بقية أراضي الخلافة على يد الفاطميين، وأورد أخبارا قيمة عن الأندلس من بينها خبر إغارة النورمان عليها في سنة 844 حيث ترد في صدد ذلك عبارة اليعقوبي التي اشتهرت بالتالي وهي (الذين يقال لهم الروس)، وهو الأمر الذي يرد إليه كراتشكوفسكي اشتهار اسم اليعقوبي في الدوائر العلمية وظهور عدد من الأبحاث حول هذا.
(هـ) يرى أن كتاب اليعقوبي من الناحية الأدبية يمتاز على كتاب ابن خرداذبه بصورة قاطعة رغما من أنه قصد به نفس الوسط من القراء الذين كتب من أجلهم ابن خرداذبه. ويبين عدم اكتراث اليعقوبي لأي نظرية جغرافية، فقد كان كل همه إعطاء لوحة عامة للبلدان لمن يريدون الإلمام السريع بها. أما قراؤه فينقسمون إلى قسمين: المطلعون والراغبون في المعرفة، أو موظفو الدولة العديدون الذين كانوا يبتغون تعريف أنفسهم ببلد أو آخر قبل الذهاب إليه. ولا يعرض الطرق عرضا جافا على طراز ابن خرداذبه. ويقترب مؤلفه أكثر من النمط المتأخر (لكتاب المسالك والممالك) كما عرفته المدرسة الكلاسيكية في القرن العاشر. بالإضافة إلى هذا فإن أسلوب اليعقوبي علمي مبسط وسهل المأخذ. وتستشعر نزعة المؤلف إلى التحليل العقلي من خلال الكتاب وبنائه. كما يحسب للكتاب أيضا خلوه من أي أثر للعجائب Mirabilia التي افتتن بها المؤلفون الآخرون.
2. ابن الفقيه الهمداني: أحمد. مؤلفه (كتاب البلدان) الذي وضع حوالي عام (290هـ: 903).
لا يعرف عنه الكثير، ويورد كراتشكوفسكي ما ذكره عنه ابن النديم صاحب (الفهرست)، في نهاية القرن العاشر، أنه كان من أهل الأدب وأن اسمه أحمد؛ وأغلب الظن أنه من مدينة همدان Hamadan بإيران وكان خبيرا بالرواية والأدب وله كتاب آخر عن الشعراء معروف من عنوانه فقط.
أما مؤلفه الجغرافي فقد كان في الأصل ضخم الحجم يشتمل على خمسة أجزاء في حوالي ألفي صفحة كما يذكر، ولكنه معروف فقط في مختصره الذي عمله علي الشيرزي في عام (413هـ: 1022)، أي بعد حوالي مائة عام من تاريخ تأليف الكتاب. ونقل ياقوت الحموي عن مسودة الكتاب الأصلية شذرات كبيرة. أما المقدسي فيقف من الكتاب موقف الحذر؛ إذ يقول عنه: "ورأيت كتابا صنفه ابن الفقيه الهمداني في خمس مجلدات سلك طريقة أخرى ولم يذكر غير المدائن العظمى وأدخل فيه فنونا من العلوم، مرة يزهد في الدنيا ودفعة يرغب فيها ووقتا يبكي وساعة يضحك ويلهو. وأما كتاب الأمصار للجاحظ فصغير، وكتاب ابن الفقيه في معناه غير أنه أكثر حشوا وحكايات، واحتجا بأنا إنما أدخلنا خلال كتبنا ما أدخلنا ليتفرج فيها الناظر إذا مل. وربكا كنت أنظر في كتاب ابن الفقيه فأقع في حكايات وفنون إنشاء أين كنت من البلدان ولم أستحسن أنا هذا".
الخارطة:
تناول بلاد النوبة الواسعة والحبش والبجة؛ أي الخريطة الشمالية والشرقية للسودان.
أصالته بالنسبة لكراتشكوفسكي:
أ. يقر كراتشكوفسكي نقد المقدسي الموجه لابن الفقيه بقوله: "الحق إلى جانب المقدسي، إذ أن ارتباط أسلوب ابن الفقيه بأسلوب الجاحظ أمر غير مشكوك فيه وغلبة هذا الأسلوب لديه شيء واضح للجميع؛ وليس كتابه إذا حكمنا من مختصره مصنفا جغرافيا بالمعنى الدقيق للكلمة، بل مجموعة أدبية عن بلاد العالم الإسلامي تذخر بكمية كبيرة من الشعر والقصص. وهو عبارة عن نخبة مختارة من الطرائف الأدبية من أجل القارئ العام تمس الجغرافيا أو الأسماء الجغرافية إلا من بعيد".
ب. يرى أن مصادر ابن الفقيه متنوعة بشكل كبير وأحيانا يقتطف قطعا كبيرة من مصادر مثل: الجاحظ، وابن خرداذبه، والتاجر سليمان، والبلاذري وربما الجيهاني أيضا. كما يؤكد كراتشكوفسكي أن المقدسي محق أيضا من ناحية أخرى وهي اتهامه لابن الفقيه بالافتقار إلى خطة يسير عليها في مؤلفه، وأيضا ميله للحشو والاستطراد.
ج. يضيف كراتشكوفسكي أنه بالرغم من أن كتاب ابن الفقيه لا يرقى إلى مصاف عدد من مؤلفات معاصريه في ميدان الجغرافيا إلا أنه من وجهة نظر تاريخ الحضارة يقف أحيانا على مستوى أعلى إذ يقدم لنا لوحة معبرة للنزعات والاتجاهات الأدبية للمجتمع العربي المثقف في نهاية القرن التاسع.
3 / ابن سليم الأسواني. مؤلفه (كتاب أخبار النوبة والمقرة وعلوة والبجة والنيل). والذي كانت رحلته إلى بلاد النوبة حوالي عام (365هـ: 975).
الخارطة:
لعلها واضحة من عنوان الكتاب؛ فالمؤلف قد ركز مادة كتابه في الحديث عن النوبة والمقرة وعلوة والبجة والنيل. فبالإضافة لوقوفه هو بنفسه على بلاد البجة والنوبة، وقد تناولها في كامل وضعيتها الجغرافية. وربما يعود ذلك لكونه تقريبا من منطقة لا تفصلها إلا كيلومترات عن مناطق النوبة والبجة.
ولذلك يرى كراتشكوفسكي أن رحلة ابن سليم تمثل أهمية جوهرية في التنقل جنوبا؛ إلى بلاد النوبة حوالي عام (563هـ: 975). ويورد أنه كان قد بعث به القائد الفاطمي جوهر الصقلي إلى ملك النوبة في مهمة دبلوماسية وضع خلالها كتابه (كتاب أخبار النوبة والمقرة وعلوة والبجة والنيل). ويعترف للكتاب بأنه حوى وصفا دقيقا لكل النواحي التي رآها ابن سليم ولسكان تلك المنطقة. والمعروف أن هذا الكتاب ليس محفوظا إلا في شذرات منه لدى المقريزي وابن إياس. ويثبت كراتشكوفسكي أن وصف ابن سليم للنيل جاء من الدقة بمكان بالرغم من أنه قد خضع أحيانا لتأثير الرواية المنقولة التي تستتر وراء الملاحظة المباشرة. ويخلص كراتشكوفسكي إلى أن هذا الوصف يكاد يكون هو الوصف الوحيد في الأدب العربي للعصور الوسطى الذي يبين لنا المدى الذي وصلت إليه معرفة العرب بالمجرى الأعلى للنيل. ويتأسف كراتشكوفسكي على أن رواية ابن سليم لم يكن لها أي تأثير على المصنفات الجغرافية التالية. ويستدل بوصف الإدريسي لمجرى النيل الأعلى ويخلص منه بكونه يدل دلالة واضحة على مدى النقص الذي كان يعانيه الإدريسي في المصادر الموجودة تحت يده، أي لو كان يعرف كتاب ابن سليم لاختلفت الأمور جدا.
أصالته بالنسبة لكراتشكوفسكي:
أ. يثبت كراتشكوفسكي أن ابن سليم الأسواني لم يكن المثال الوحيد للكاتب المغمور الذي أسدل عليه النسيان ستاره في الأدب الجغرافي للقرن العاشر، فالكثير من المؤلفين الكبار لسبب أو لآخر لاقوا نفس المصير. ثم يخوض في حديث طويل بهذا الصدد وبكون القرن العاشر يعتبر القرن الأكثر إهدارا للمؤلفين والكتب. وربما هذا يعود لكون القرن العاشر هو عصر الازدهار الخلاق للأدب الجغرافي العربي وظهور المدارس الجديدة فيه.
ب. ويرى أن ابن سليم مثل مصدرا أساسيا لكتاب كبار من أمثال المقريزي وابن إياس.
4 / أبو القاسم ابن حوقل. من مدينة نصيبين بالجزيرة. مؤلفه (كتاب المسالك والممالك) وأيضا بتسميته الأخرى (كتاب صورة الأرض). بدأ تجواله من بغداد في رمضان عام (133هـ: مايو 943).
يحيط بمسودات كتاب هذا الرجل الكثير من اللبس، ويجيء في العادة حاملا عنوان (كتاب المسالك والممالك) بالرغم من تداول تسمية أخرى وهي (كتاب صورة الأرض). وقد رفع ابن حوقل المسودة الأولى من مصنفه إلى سيف الدولة الحمداني (توفي عام 356هـ: 967). وترجع المسودة الثانية من المؤلف إلى حوالي عام (367هـ: 977). وقد قام كرامرس Kramers بنشر طبعة ثانية لأقدم مخطوطة لابن حوقل وهي مخطوطة استنبول، التي يرجع تاريخها إلى عام (479هـ: 1086) أي بعد مائة عام من تأليف الكتاب. ولعبت طبعة كرامرس هذه دورا تمهيديا جيدا بالنسبة للطبعة الأولى (edition princeps) التي أخرجها دي خويه.
الخارطة:
تناول ابن حوقل منطقة النوبة بشكل مفصل وشرق السودان المتاخم للحبشة. كما أعطى خارطة لعلاقاتهم القديمة بالرومان والشوام والمصريين عبر بحر القلزم.
أصالته بالنسبة لكراتشكوفسكي:
أ. يرى أنه ترسم خطى السابقين له في تنظيم كتابه، كما يؤكد كراتشكوفسكي صحة زعم ابن حوقل بمقابلته للإصطخري من خلال التعديل الذي أجراه على كتابه ويؤكد أن مادة الكتاب نفسها معروضة عرضا دقيقا مفصلا مع توضيح لبعض النقاط الجوهرية.