aloqili.com سيرة نبوية - تاريخ القبائل - انساب العقلييين - انساب الهاشمين - انساب المزورين |
|
| المنْشَأ وَالمَصَادِر تأليف الأستاذ إحسان إلهي ظهير | |
| | |
كاتب الموضوع | رسالة |
---|
الشيخ عودة الشيخ عودة
عدد المساهمات : 1748 تاريخ التسجيل : 28/09/2008 العمر : 74
| موضوع: المنْشَأ وَالمَصَادِر تأليف الأستاذ إحسان إلهي ظهير الإثنين نوفمبر 02, 2015 2:13 pm | |
|
إهـــداء ..
إلى شيخي الذي لا يرتضي أن يُذكرَ اسْمُه كَيلا يضيع أجْرُه يقاسمني همُومي وآلامي , ويقفُ وَرَائي في نوائِب الزّمان والحقِّ وَقفَةَ شَرِيفٍ وكريم . إنْ لَمْ تُعِنِي خيْــلُه وسِلاحُهُ فمتى أقُودُ إلى الأعَادِي عسْكَراً ؟ أهدي إليه هَذَا الكتابَ إحتراماً لشخصه , وحُبّاً لشمائِله ِ , وتقْديراً لمواقفه وَوَفَاءً لإخلاصه وإعتزازاً به .
المؤلف
مقدمة :
حمداً لله على النعمة الظاهرة والباطنة كما يليق بجلاله وجنابه , وصلاة وسلاما على رسوله خير النبيين وأشرف المرسلين , ومن تمسك بسنته , وعض عليها بالنواجذ , واهتدى بهديه من أصحاب من أصحابه وأهل بيته وأتباعه إلى يوم الدين . وبعد : فإنني قد إشتغلت بكتابي هذا منذ زمن غير قصير , أقدم عليه تاره وأتأخر عنه أخرى , متردداً بين الإحجام والإقدام .
ولكننا لما رأينا احتياج الناس إلى معرفة هذه الفئة من الناس وأفكارها و آرائها ومعتقداتها , وكونهم مترددين متذبذبين في تقييمها ووضعها في مكانها اللائق الصحيح , خرجنا من ترددنا وتذبذبنا خائفين من وعيد الله وتهديده : { وإن فريقاً منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون } . و { ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه } وقوله : { لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون } .
ويعلم الله أنه لم يكن هذا التحفظ للحفاظ على نفسي وعرضي ومالي لكونها مهددة من قبل الضالين, الغالين , والمبطلين المنتحلين , الذين اكتشفنا أمرهم وكشفناه للناس واهتدينا إلى خباياهم وخفاياهم فأظهرناها أمام الآخرين , وعرضنا صورتهم الحقيقية بإزالة نقاب التقية والتستر عن وجوههم , وإماطة اللثام عن أسرارهم وعقائدهم وتعاليمهم الأصلية الحقيقية , لأن نفسي وجسمي ومالي وعرضي جعلتها فداء لوجه ربي وابتغاء مرضاته : { إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين } .
فنفسي وعرضي ومالي فداء شريعته تعالى وسنة نبيه وصفيه , خير البرية :
فإن أبي ووالدتي وعرضي لعرض محمد منكم وقاء
وكان ذلك مسلك أحبائه ورفاقه وتلامذته , أصحابه الراشدين وآله الطاهرين والمتبعين لهم بإحسان :
فدت نفسي وما ملكت يميني فوارس صدقوا فيهم ظنوني
وإن التحفظ لم يكن حرصا على نفس وعرض ومال , فإن لكل شيء قدرا , وأن أجل الله لآت { ولكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون } { وكان أمر الله قدراً مقدوراً } و { كل نفس بما كسبت رهينة } .
كنت أظن أول الأمر أن بعض الغلاة هم الذين أساءوا إلى التصوف والصوفية , وأن الغلو والتطرف هو الذي جلب عليهم الطعن وأوقعهم في التشابه مع التشيع والشيعة , ولكنني وجدت كلما تعمقت في الموضوع , وتأملت في القوم ورسائلهم , وتوغلت في جماعتهم وطرقهم , وحققت في سيرهم وتراجمهم – أنه لا إعتدال عندهم كالشيعة تماما , فإن الإعتدال عندهم كالعنقاء في الطيور , والشيعي لا يكون شيعيا إلا حين يكون مغاليا متطرفاً , وكذلك الصوفي تماما , فمن لا يعتقد إتصاف الخلق بأوصاف الخالق , لا يمكن ان يكون صوفيا ووليا من أولياء الله . ومن الطرائف أن ظني ذلك كان يجعلني ويحثني على أن أسمي مجموعة الكتابة عن المتصوفة ( التصوف بين الإعتدال والتطرف ) ولكنني لما كتبت وجدت أن هذا الاسم لا يمكن أن يناسب تلك المجموعة من الناس لعدم وجود الاعتدال مع محاولتي أن أجده لأدافع عنهم وأجادل , وأبرر بعض مواقفهم , وأجد المعاذير للبعض الأخرى , ولكني بعد قراءتي الطويلة العميقة العريضة لكتب الصوفية ومؤلفات التصوف , وجدت نفسي , إما أن أجادل بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير , وأتبع كل شيطان مريد – ولا جعلني الله منهم – وإما أن أقول الحق ولا أخاف في الله لومة لائم , وأتقي الله وأكون مع الصادقين , جعلني الله منهم ورزقني الاستقامة والثبات عليه , .
أما بعد : فهذا كتاب جديد نقدمه إلى القراء في موضوع جديد وقديم , جديد حيث أنه يبحث عن التصوف والصوفية , وقديم لأنه من نفس السلسلة التي كتبنا عنها وعاهدنا الله عز وجل أن نكتب ونتحدث عنها , ونتكلم فيها , ونزنها بميزان الكتاب والسنة , ونضعها في معيار النقد والتجزئة والتحليل ما دمنا أحياء نستطيع الكتابة والخطابة , وما دام في أنا ملنا قدرة في إمساك القلم , وفي اللسان رمق للتفوه والتكلم , لنؤيد الحق وندعمه , ونعلي كلمته ونرفع علمه , ولنبطل الباطل ونرد عليه , ولندحض شبهاته ونفند مزاعمه .
وإننا كنا نقصد أول ما بدأنا في الكتابة عن التصوف أن نقدم دراستنا فيه بصورة كتاب متوسط الحجم لا يزيد على ثلاثمائة صفحة , ويشتمل على تاريخ التصوف , بدايته , منشأه ومولده , مصادره وتعاليمه , عقائده ونظامه , سلاسله وزعمائه وقادته , ولكننا رأينا بعد المضي في الكتابة أن الأمر يتطلب أكثر من كتاب , وعلى الأقل كتابين . الأول يشتمل على نشأة التصوف ومصادره , وقلّ من تطرق إليها بتفصيل , وكل الكتاب الذين بحثوا التصوف مروا عليها كعابر سبيل مع أن أهمية المصادر والمآخذ لطائفة وجماعة لا تقل عن أهمية تلك الجماعة وأفكارها , بل قد تزيد عليها بفارق كبير حيث إن المصادر والمآخذ كثيرا ما تحسم النزاع في معتقدات وعقائد , وتجعل تلك المعتقدات والعقائد تابعة لتلك المصادر .
وعلى هذا فقد فصلنا القول في ذلك , في كتاب مستقل نضعه اليوم بين أيدي الباحثين والقراء راجين أن ينال رضاهم , ولعلنا سددنا بذلك ثغرة كانت في احتياج لأن تسد ولو أنها تتطلب المزيد , كما أننا نظن أننا في بحثنا عن مصادر التصوف استطعنا أن نضع النقاط على الحروف , وخاصة بمقارنة النصوص والعبارات عند الأخذ بالنصوص والعبارات عند المأخوذ عنه , ومقارنة المقتبس بالمقتبس منه , من الكتب المعتمدة والمصادر الموثوق بها لدى الأطراف المعنية كلها , وخاصة في الباب الثالث عن التصوف والتشيع .
ومع إعترافنا بأننا قد سُبقنا إلى هذا البحث من قبل بعض الباحثين الذين كتبوا في هذا الموضوع سيجد القارئ ويلاحظ الباحث أننا أضفنا إليه أشياء واستدركنا عليهم أشياء كثيرة في مختصرنا هذا لم يتطرق واحد منهم إليها , مع المقارنة الواضحة , والمشابهة الصريحة , والموافقات الجليلة , والنصوص الكثيرة من كلا الطرفين بدون تصنع وتكلف واستنتاج بعيد واستشهاد شارد غريب , وأعرضنا عن الأشياء التي كان يمكن إيداعها وإيرادها في هذا المبحث , ولكن بالكلفة والإستنباط فاخترنا ما لا يسع أحد إنكاره .
فنحن إستدركنا على السابقين مباحث هي أكثر أهمية وأكبر وزنا وأعظم شأنا مما اشتركنا في إيرادها , ولم يذكروها البتة , من إشتراك الشيعة والصوفية في إجراء النبوة بعد محمد صلوات الله وسلامه عليه , ونزول الوحي , وإتيان الملائكة , وتكليم الله إياهم , وعدم خلو الأرض من شخص به ثبات الأرض ووجودها , وعدم قبول العبادة بدونه , وتفضيل الوصي على النبي و ونسخ الشريعة , ورفع التكاليف , وإباحة المحظورات وإتيان المنكرات وغيرها من المواضيع الهامة العديدة , فالحمد لله على ذلك .
وكذلك يجد القارئ في الباب الثاني من هذا الكتاب عند بحثنا عن المسيحية باعتبارها أحد المصادر الهامة للتصوف أننا قد انفردنا بإيراد نصوص مسيحية أصلية لمقارنتها بالنصوص الصوفية شهادة على الآخذ والمأخوذ عنه . وقد إخترنا في هذا المبحث مسلكا ذا أبعاد ثلاثة :
أولا : لا نكتفي بإيراد النص الصوفي بل نورد معه النص الذي يشابهه من الديانات الأخرى على خلاف ما تعوده الكتّاب الثقة منهم بأن القارئ والباحث يعرف ذلك , فليس بضروري أن يكون القارئ متخصصا في هذا الموضوع حتى يكون له إلمامة بنصوص تلك الديانات .
ثانيا : أوردنا تأييدات من قبل الباحثين والكتاب من المسلمين والمستشرقين الذين إشتغلوا في دراسة التصوف بإعتبارها شهادات خارجية بعد الشهادات الداخلية الناتجة من مقارنة النصوص نفسها .
وثالثا : جمع النصوص من المتصوفة المتقدمين والمتأخرين المشهورين بالأعتدال والموثوق لدى العامة , وكذلك نصوص الآخرين من المتصوفة غير المعتدلين وغير الغلاة أيضا .
وحاولنا أن تكون هذه النصوص من الكتب المختلفة والمتفاوتة زمنا ومنهجا كي يكون الموضوع شاملا وكاملا , وافيا شافيا قدر الإستطاعة , وعلة لم يجتمع هذا العدد من النصوص في مختصر آخر مثل مختصرنا هذا . فالحمد لله الذي بتوفيقه ومدده وتأييده تتم الأعمال وهو ولي الهداية والرشاد .
ويجدر بنا أن نذكر ههنا أن الكتاب الثاني سيشمل على عقائد وتعاليم صوفية كما يشمل هذا الكتاب على أصلها ومنشأها ومصادرها و وليس معنى هذا أن هذا الكتاب خال عن معتقداتهم , بل ان أعظم قسط منه يشمل على العقائد والمعتقدات وإننا لم نبحث عن مصادر التصوف ومآخذه تاريخيا وسردنا لذلك شهادات وتوثيقات , بل أوردنا فيما أوردنا عقائد القوم , الخاصة بهم , وتعاليمهم التي إمتازوا بها عن غيرهم , ثم ذكرنا عمن أخذوا هذه المعتقدات , وأقتبسوا هذه التعاليم , واحدة بعد واحدة على أنها شهادات داخلية , فعلى ذلك هذا الكتاب مع عنوانه ( المنشأ والمصادر ) لم يبحث في الحقيقة والأصل إلا العقائد والمعتقدات , بهذا لا يكون هذا الكتاب موضوعيا صرف , بل يؤدي رسالته لبيان حقيقة هذه العصابة من الناس وكنهها ولإرجاع الأمور إلى نصابها , ووضع الأشياء في محلها ومقاديرها , وذلك هو العدل .
والنقطة الأخرى التي أشرنا إليها قبل قليل , ونريد أن نركز عليها هي أننا ما بنينا حكمنا , ولا وضعنا احتجاجنا واستدلالنا إلا على المتصوفة المشهورين المعروفين , والموثوق بهم المعتدلين لدى الجميع , وذلك أيضا استشهادا , لا استدلالا , كما يلاحظ الباحث أننا لم نورد في كل هذا القسم من الحلاج , ولا من طائفته وجماعته رواية واحدة , لا استدلالا ولا استشهادا , كي لا يتهمنا متهم أننا اخترنا الغلاة ورواياتهم للحكم على التصوف , لأنه في رأينا كما قلنا آنفا لا إعتدال في التصوف ولدى المتصوفة , اللهم إلا الزهاد الأوائل فإنهم ليسوا منهم , ولا هؤلاء من أولئك .
فإن التصوف امر زائد وطارئ على الزهد , وله كيانه وهيئته , ونظامه وأصوله , قواعده وأسسه , كتبه ومؤلفاته ورسائله ومصنفاته , كما أن له رجالا وسدنة وزعماء وأعيانا .
فإن الزهد عبارة من ترجيح الآخرة على الدنيا , والتصوف اسم لترك الدنيا تماما . والزهد هو تجنب الحرام , والاقتصاد في الحلال , والتمتع بنعم الله بالكفاف , وإشراك الآخرين في آلاء الله ونعمه وخدمة الأهل والأخوان والخلان .
والتصوف تحريم الحلال , وترك الطيبات , والتهرب من الزواج ومعاشرة الأهل والإخوان , وتعذيب النفس بالتجوع والتعري والسهر .
فالزهد منهج وسلوك مبني على الكتاب و السنة , وليس التصوف كذلك , لذلك إحتيج لبيانه إلى ( التعرف لمذهب أهل التصوف ) و ( قواعد التصوف ) و ( الرسالة القشيرية ) و ( اللمع ) و( قوت القلوب ) و ( قواعد التصوف ) و ( عوارف المعارف ) وغيرها من الكتب , وسيأتي تفصيل ذلك في الكتاب القادم إن شاء الله .
فعندما نكتب نكتب عن هذا المذهب أي مذهب التصوف لا عن الزهد , لأن الزهد كما ورد في حديث الترمذي ( ليس الزهد بتحريم الحلال , ولا إضاعة المال ولكن الزهد أن تكون بما في يد الله أوثق بما في يدك , وأن تكون في ثواب المصيبة إذا أصبت أرغب منك فيها لو أنها بقيت لك ) لأن الله تعالى يقول : { لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم } .
وهذا الأمر أي عدم وجود الاعتدال في التصوف ينطبق على التشيع , وهذا هو القدر الآخر المشترك بينهما لأننا في بحثنا الطويل في التشيع لم نجد طائفة يمكن أن توصف بالاعتدال , فالغلو والتطرف من لوازم مذهب التشيع كما قاله الرجالي الشيعي المشهور , المامقاني في تنقيحه , فكذلك التصوف لا يعرف إلا الغلو والتطرف .
فالله أسأل أن يجعلنا أمة وسطا حقا ومن الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه , يتمسكون بكتاب ربهم وسنة نبيهم , ويعضون عليها بالنواجذ , ويدافعون عن حرمات الله وحرمات رسوله , وأعراض أصحاب محمد وأهل بيته , ويذبون عن المسلك القويم المستقيم ومنهج السلف الصالحين , ويردون كيد الضالين المنحرفين , ومكر المبطلين المنتحلين , لا يهابون جموعهم المتكاثرة , وأحزابهم المتكالبة , وفرقهم المعاضد بعضها بعضا , ويقولون للغاضبين الناقمين الحاسدين ما قاله أصفياء الله وأخياره { قُلِ ادْعُواْ شُرَكَاءكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلاَ تُنظِرُونِ 195 إِنَّ وَلِيِّـيَ اللّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ 196 } وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
إحسان إلهي ظهير ابتسام كاتيج – شادمان – لا هور فبراير 1986 الموافق جمادى الآخرة 1406هـ
| |
| | | الشيخ عودة الشيخ عودة
عدد المساهمات : 1748 تاريخ التسجيل : 28/09/2008 العمر : 74
| موضوع: رد: المنْشَأ وَالمَصَادِر تأليف الأستاذ إحسان إلهي ظهير الإثنين نوفمبر 02, 2015 2:15 pm | |
|
التّصَوّفُ نشأته , تَاِريخُه وَتَطَوّرَاته
الفصل الأول
إن الإسلام دين البساطة ودين الفطرة التي فطر الناس عليها , أنزله الله على قلب سيد الخلق لهداية البشر . { هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ 33 } .
وأمر سبحانه جل وعلا أن يتمسك به , ويقدمه إلى الناس ليعرفوه ويتمسكوا به بدورهم . وأنه عبارة عن الإقرار بوحدانية الله عز وجل لا شريك له , والشهادة بأن محمدا عبده ورسوله صلوات الله وسلامه عليه , وإقامة الصلوات الخمس , وإيتاء الزكاة بعد مرور عام على ملاك النصاب , وكذلك صوم شهر رمضان من اثني عشر شهرا , وحج البيت إن إستطاع إليه سبيلا , كما ورد في حديث جبريل عليه الصلاة والسلام أنه جاء يوما من الأيام يسأل النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام , فقال : ( الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله , وتقيم الصلاة , وتؤتي الزكاة , وتصوم رمضان , وتحج البيت إن إستطعت إليه سبيلا ) .
أو كما ورد في حديث أعرابي جاء صلوات الله وسلامه عليه فقال له : ( دلني على عمل إذا عملته دخلت الجنة) . قال : ( تعبد الله ولا تشرك به شيئا , وتقيم الصلاة المكتوبة , وتؤتي الزكاة المفروضة , وتصوم رمضان ) , قال : ( والذي نفسي بيده لا أزيد على هذا شيئا ولا أنقص منه ) , فلما ولّى , قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا ) . أو بتعبير آخر أن الإسلام يعبّر عن التمسك بأوامر الله وأوامر رسوله صلى الله عليه وسلم , واجتناب ما نهى الله عنه ورسوله صلى الله عليه وسلم ,وقضاء حياة مثل ما قضاها رسول الله , واختيار الطرق والسنن التي اختارها أصحاب رسول الله صلوات الله وسلامه عليه كما أمر به الرب تبارك وتعالى في كلامه المحكم : { َأَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ 132 }
و { أَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ 20 }
و { َمَن يُشَاقِقِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ 13 } و { أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ 63 } و { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا }
{ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا 71 }
و { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا 21 }
و { وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ 15 } .
وأوامر الله ورسوله , وكذلك نواهي الله ونواهي رسوله موجودة محفوظة في الكتاب والسنة , والكتاب المنزل على سيد البشر وخاتم الأنبياء والرسل صلوات الله وسلامه عليه , المعبر عنه بالذكر الحكيم والفرقان الحميد والقرآن المجيد , الذي جعله الله شفاء وهدى ورحمة للمؤمنين , وسنة رسول الله المعبر عنها بالحكمة في قوله جل وعلا : { ويعلمكم الكتاب والحكمة } وبالحديث النبوي الشريف , ما ثبت عنه وصح من أقواله وأفعاله وتقريراته , الكتاب والسنة اللذين ذكرهما الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله حيث حرّض أمته , وحثهم على التمسك والتشبث بهما قائلا : ( تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما كتاب الله وسنة رسوله ) .
ثم ربّى أصحابه وتلامذته في ظلهما وضوئهما تربية نموذجية لكي يكونوا قدوة لمن يأتي بعدهم إلى يوم القيامة , ومثلا عليا لمن أراد أن يهتدي بهدي الله جل وعلا وهدى رسوله صلى الله عليه وسلم . فكانوا صورة حية لتعاليم الرب تبارك وتعالى وإرشادات رسوله صلى الله عليه وسلم متبعين مقتدين , غير مبتدعين محدثين , متقدمين بين يدي الله ورسوله , مبتغين مرضات الله , ومقتفين آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم مهتدين بهديه , سالكين بمسلكه , منتهجين منهجه , غير باغين ولا عادين , ولا مفرطين ولا مفرّطين في أمور دينهم ودنياهم : { أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده } .
وكان خيار هؤلاء كلهم - وكلهم خيار الخلق أجمعين – أصحاب بيعة الرضوان الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الموت وهم في الحديبية , فأنزل الله لهم البشرى برضوانه وجعل يده فوق أيديهم : { لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة } . و { إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم } . وفاقهم في المنزلة والشأن أهل بدر , الذين اطلع الله عليهم فقال : ( اعملوا ما شئتم فقد وجبت لكم الجنة ) .
وزاد على هؤلاء فضلا ومنقبة ومكانة من رفعهم الله بتبشيره إياهم بالجنة واحدا واحدا بالاسم والمسمى على لسان نبيهم الناطق بالوحي , الذي لا ينطق عن الهوى إن هو ألا وحي يوحى , الصادق المصدوق صلوات الله وسلامه عليه , العشرة المبشرة { لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة لا تبديل لكلمات الله , وذلك هو الفوز العظيم } . ولو أنه زادهم رفعة وعظمة من قال في حقهما سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه : ( خير الخلائق بعد نبي الله أبو بكر ثم عمر ) .
فمن أراد أن يرى الإسلام المتجسد في شخصهم , وذواتهم , وخلقهم , وعاداتهم , وأقوالهم , وأفعالهم , فلينظر إلى هؤلاء , فإنهم كانوا ممثلي الإسلام الصحيح , الكامل , غير المشوب بشوائب البدع والمحدثات , والخرافات والضلالاات التي لحقت الإسلام بعد أدوار وأطوار , فإنهم كانوا تلامذة المدرسة الإسلامية الأولى التي كان أستاذها والمعلم فيها سيد ولد آدم , المحفوظ بحفظ الله , والمعصوم بعصمة الله , والمؤيد بوحي الله , والهادي إلى الصراط المستقيم صلى الله عليه وسلم . ولأجل ذلك حصر الله رضاه والدخول في الجنة لمتبعيهم بإحسان لكل من يأتي بعدهم , { والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه } .
فهم أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون لأنهم هم الذين حبب إليهم الإيمان وكرَه إليهم الكفر والفسوق والعصيان وأولئك هم الراشدون .
وهم القدوة الحسنة والمحك والمعيار لمعرفة الحق من الباطل , والهدى من الزيغ والضلال . فكل عمل يخالف عملهم وكل قول يعارض قولهم , وكل طريق في الحياة يناهض طريقهم مردود مرفوض مطرود , لأنهم شاهدوا من رسول الله ما لم يشاهده غيرهم , وسمعوا من نبي الله ما لم يسمعه الآخرون , ورباهم من لم يرب هؤلاء , وتتلمذوا على من لم يتتلمذ عليه أولئك , فهم أشبه الناس في أقوالهم وأفعالهم , وأخلاقهم وعاداتهم , وعباداتهم ومعاملاتهم , ومعاشرتهم ومعاشهم برسول الله صلوات الله وسلامه عليه من غيرهم , فلذلك أُمر المؤمنون باتباعهم , وإلى ذلك أشار نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم في قوله ( ما أنا عليه وأصحابي ) حيث جعلهم معه على طريقة واحدة ومنهج واحد , ولم يُدخل في هذا الاختصاص أحد غيرهم ولم يخصهم بهذه المزية والفضيلة إلا بأمر من الله وإيعازه حيث أنزل عليه في محكم كتابه أن يقول : { قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني } .
| |
| | | الشيخ عودة الشيخ عودة
عدد المساهمات : 1748 تاريخ التسجيل : 28/09/2008 العمر : 74
| موضوع: رد: المنْشَأ وَالمَصَادِر تأليف الأستاذ إحسان إلهي ظهير الإثنين نوفمبر 02, 2015 2:16 pm | |
| تلامذته الراشدين و أوفيائه الصادقين , الهادين المهديين رضي الله عنهم أجمعين .
ففي ضوء الكتاب والسنة , وأسوة الرسول وسيرته , وعمل أصحابه وحياتهم توضع وتوزن أعمال المسلمين المتخلفين وأقوال من جاء بعدهم , فما وجد لها سند ودليل يحكم عليها بالصحة والصواب , قطع النظر عمن صدرت عنه , وممن وردت .
وما لم يعاضدها الكتاب ولم تناصرها السنة , ولم يوجد لها أثر في حياة الصحابة وأفعالهم يحكم عليها بالفساد والبطلان , سواء وردت من صغير أو كبير , تقي أو شقي , لأن ( أحسن الكتاب كتاب الله , وخير الأمور أوسطها , وشر الأمور محدثاتها , وكل محدثة بدعة , وكل بدعة ضلالة , وكل ضلالة في النار ) . وقال عليه الصلاة والسلام : ( من أحدث في أمرنا هذا ماليس منه فهو رد ) .
وإن المسلمين لملزمون أن يؤمنوا بأن الله لم يترك خيرا لأمة محمد صلى الله عليه وسلم إلا وقد بينه لرسوله صلى الله عليه وسلم , ولا شرا إلا وقد نبهه عليه , ثم رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكتم بيانه , ولم يقصّر في تبليغه إلى الناس , فأخبر الخلق بكل ما أخبر عن الله عز وجل لصلاحهم وفلاحهم , ولم يخصّ شخصا دون شخص { وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ } . وكان مأمورا من الله بأن يبلغ كل ما نزل إليه , قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ } .
وكما أن المسلمين مطالبون أيضا أن يؤمنوا بأن الدين قد كمل في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم , ولم يتوفه الله إلا بعد إتمام الإسلام { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا } .
ومن يعتقد أن شيئا من الدين لو صغيرا بقي ولم ينزله الله على نبيه , أو لم يبينه صلوات الله وسلامه عليه فإنه لا يؤمن بكمال الدين على رسوله صلى الله عليه وسلم , ولا تمام الإسلام في حياته , لأنه بدون هذا ينقص الدين ولا يكمل , وهذا معارض لقول الله عز وجل , ومناف لختم نبوة محمد صلوات الله عليه وسلامه عليه .
ويتضح بذلك جليا أنه لا بد من الأعتقاد أن كل شيء لا يوجد في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فليس من الدين - وهو محدث وبدعة وضلالة , وهذا هو الصحيح الثابت عن الله وعن رسوله – أما اعتقاد أنه من الدين وأن الدين لم يكمل بعج , فهذا هو عين الكفر والضلالة , وقائله ليس من المؤمنين والمسلمين بالإتفاق , فلا بد من أحد الأمرين , إما هذا أو ذلك , ولا يمكن الجمع بينهما { لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ } . و { هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } .
ومن هذا المنظور والرؤية نرى التصوف , وننظر في الصوفية , ونبحث في وقواعده وأصوله ونحقق أسسه ومبادئه , ومناهجه ومشاربه , هل لها أصل في القرآن والسنة , أو سند في خيار خلق الله أصحاب رسول الله الذين هم أولياء الله الحقيقيون الأولون من أمة محمد , الذين لا خوف عليهم ولاهم يحزنون .
{ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُولَـئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } و { الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ 20 يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ 21 خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ 22 }
و { فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } . فإن كان كذلك فعلى المؤمنين كافة الإقرار والتسليم , والتمسك والإلتزام , وليس لهم الخيار في الترك أو القبول , { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا } . وأيضا { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا } . وشمل قول الله عز وجل في الآية القرآنية الأخرى أصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم لكونهم قدوة متبعون بعد الله ورسوله حيث قال : { ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً } . وما لم يكن كذلك فتركه واجب , والألتفاف إليه حرام , يقطع النظر عمن قاله وعمل به . وبمثل ذلك قال الإمام أبو إسحاق الشاطبي في إعتصامه : ( والثاني : إن الشريعة جاءت كاملة لا تحتمل الزيادة ولا النقصان , لن الله تعالى قال فيها : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا } . وفي حديث العرباض بن سارية : وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة ذرفت منها الأعين ووجلت منها القلوب , فقلنا : يا رسول الله , إن هذه موعظة مودع فما تعهد إلينا ؟ قال : ( تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها , ولا يزيغ عنها إلا هالك , ومن يعش منكم فسيرى إختلافا كثيرا فعليكم بما عرفتم من سنتي و سنة الخلفاء الراشدين من بعدي ) الحديث . وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يمت حتى أتى ببيان جميع ما يحتاج إليه في أمر الدين والدنيا وهذا لا مخالف عليه من أهل السنة . فإذا كان كذلك , فالمبتدع إنما محصول قوله بلسان حاله أو مقاله : إن الشريعة لم تتم , وأنه بقي منها أشياء يجب أو يستحب استدراكها , لأنه لو كان معتقدا لكمالها وتمامها من كل وجه , لم يبتدع ولا استدرك عليها . وقائل هذا ضال عن الصراط المستقيم . قال ابن الماجشون : سمعت مالكا يقول : من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة فقد زعم أن محمد صلى الله عليه وسلم خان الرسالة , لأن الله يقول : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } فما لم يكن يومئذ دينا , فلا يكون اليوم دينا . والثالث : إن المبتدع معاند للشرع ومشاقٌ له , لأن الشارع قد عين المطلب العبد طرقاً خاصة على وجوه خاصة , وقصر الخلق عليها بالأمر والنهي والوعد والوعيد وأخبر أن الخير فيها , وأن الشر في تعدِّيها – إلى غير ذلك , لأن الله يعلم ونحن لا نعلم , وأنه إنما أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين . فالمبتدع رادٌ لهذا كله , فإنه يزعم أن ثمَّ طرقا أخر , ليس ما حصره الشارع بمحصور , ولا ماعينه بمتعين , كأن الشارع يعلم , ونحن أيضا نعلم . بل ربما يفهم من استدراكه الطرق على الشارع , أنه علم ما لم يعلمه الشارع . وهذا إن كان مقصودا للمبتدع فهو كفر بالشريعة والشارع , وإن كان غير مقصود , فهو ضلال مبين . وإلى هذا المعنى أشار عمر بن عبد العبد العزيز رضي الله عنه, إذ كتب له عديُّ بن أرطاه يستشيره في بعض القدرية , فكتب إليه . ( أما بعد فإني أوصيك بتقوى الله والاقتصاد في أمره واتِّباع سنة نبيه صلى الله عليه وسلم , وترك ما أحدث المحدثون فيما قد جرت سنته وكفوا مؤنته , فعليك بلزوم السنة , فإن السنة إنما سنّها من قد عرف ما في خلافها من الخطأ والزلل والحمق والتعمق , فارض لنفسك بما رضي به القوم لأنفسهم , فإنهم على علم وقفوا , وببصر نافذ , قد كفوا وهم كانوا على كشف الأمور أقوى , وبفضل كانوا فيه أحرى . فلئن قلتم : أمر حدث بعدهم , ما أحدثه بعدهم إلا من اتبع غير سننهم , ورغب بنفسه عنهم , إنهم لهم السابقون , فقد تكلموا منه ما يكفي , ووصفوا منه ما يشفي , فما دونهم مقصر , وما فوقهم محسر , لقد قصر عنهم آخرون فقلوا وأنهم بين ذلك لعلى هدى مستقيم ) . ثم ختم الكتاب بحكم مسئلته . فقوله : ( فإن السنة إنما سنها من قد عرف مافي خلافها ) فهو مقصود الأستشهاد . والرابع : إن المبتدع قد نزل نفسه منزلة المضاهي للشارع , لأن الشارع وضع الشرائع وألزم الخلق الجري على سنتها , وصار هو المنفرد بذلك , لأنه حكم بين الخلق فيما كانوا فيه يختلفون . وإلا فلو كان التشريع من مدركات الخلق لم تنزل الشرائع , ولم يبق الخلاف بين الناس . ولا احتيج إلى بعث الرسل عليهم السلام . هذا الذي ابتدع في دين الله قد صير نفسه نظيرا ومضاهيا , حيث شرع مع الشارع , وفتح للاختلاف باباً , ورد قصد الشارع في الانفراد بالتشريع وكفى بذلك ) . وبعد هذه التوطئة المختصرة والمهمة أيضا ننتقل إلى المقصود والمطلوب , وهو معرفة التصوف والصوفية , وجعل الشرع حاكما عليهما , وعرض آرائهما وأفكارهما عليه . وبالله التوفيق .
الفصل الثاني أصْلُ التّصَوّفِ وَاشْتقاقهِ قبل أن بحث في التصوف ونشأته وتاريخه نريد أن نذكر أصل اشتقاقه, من أين اشتق ؟ وكيف كان اشتقاقه ؟ واختلاف الباحثين فيه والصوفية أنفسهم أيضا , ولقد سئل الشبلي : لم سميت بهذا الاسم ؟ . فقال : ( هذا الاسم الذي أطلق عليهم اختلف في أصله وفي مصدر اشتقاقه ) . ولا زالوا مختلفين فيه حتى اليوم . فلقد نقل الطوسي أبو نصر السراج في كتابه الذي يعد أقدم مرجع صوفي , عن صوفي أنه قال : ( كان في الأصل صفوي , فاستثقل ذلك , فقيل : صوفي – وبمثل ذلك نقل عن أبي الحسن الكناد : هو مأخوذ من الصفاء ) . وينقل الكلاباذي أبو بكر محمد الصوفي المشهور عن الصوفية أقوالا عديدة في أصل هذه الكلمة واشتقاقها , فقال : قالت طائفة : إنما سميت الصوفية صوفية لصفاء أسرارها , ونقاء آثارها . وقال بشر بن الحارث : الصوفي من صفت لله معاملته , فصفت له من الله عز وجل كرامته . وقال قوم : إنما سموا صوفية لأنهم في الصف الأول بين يدي الله عز وجل بارتفاع هممهم إليه , وإقبالهم عليه , ووقوفهم بسائرهم بين يديه . وقال قوم : إنما سموا صوفية لقرب أوصافهم من أوصاف أهل الصفة , الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقال قوم : إنما سموا صوفية للبسهم الصوف . وأما من نسبهم إلى الصفة والصوف فإنه عبّر عن ظاهر أحوالهم , وذلك أنهم قوم قد تركوا الدنيا , فخرجوا عن الأوطان , وهجروا الأخدان , وساحوا في البلاد , وأجاعوا الأكباد , وأعروا الأجساد , لم يأخذوا من الدنيا إلا من الدنيا إلا ما لا يجوز تركه , من ستر عورة , وسد جوعة . فلخروجهم عن الأوطان سموا غرباء . ولكثرة أسفارهم سموا سياحين . ومن سياحتهم في البراري وإيوائهم إلى الكهوف عند الضرورات سماهم بعض أهل الديار ( شكفتية ) والشكفت بلغتهم : الغار والكهف . وأهل الشام سموهم ( جوعية ) لأنهم إنما ينالون من الطعام قدر ما يقيم الصلب للضرورة , كما قال النبي صلى الله عليه وسلم ( بحسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه ) . وقال السري السقطي , ووصفهم فقال : أكلهم أكل المرضى , ونومهم نوم الغرقى , وكلامهم كلام الخرقى . ومن تخيلهم عن الأملاك سموا فقراء . قيل لبعضهم : من الصوفي ؟ قال : الذي لا يَملك و لا يُملك . يعني لا يسترقه الطمع . وقال آخر : هو الذي لا يملك شيئا , وإن ملكه بذله . ومن لبسهم وزيّهم سموا صوفية , لأنهم لم يلبسوا لحظوظ النفس ما لان مسه , وحسن منظره , وإنما لبسوا لستر العورة , فتجزَّوا بالخشن من الشعر , والغليظ من الصوف . ثم هذه كلها أحوال أهل الصفة , الذين كانوا غرباء فقراء مهاجرين , أخرجوا من ديارهم وأموالهم , ووصفهم أبو هريرة و فضالة بن عبيد فقالا : يخرون من الجوع حتى تحسبهم الأعراب مجانين . وكان لباسهم الصوف , حتى إن كان بعضهم يعرق فيه فيوجد منه رائحة الضأن إذا أصابه المطر . هذا وصف بعضهم لهم , حتى قال عيينة بن حصن للنبي صلى الله عليه وسلم : إنه ليؤذيني هؤلاء أما يؤذيك ريحهم ؟ . ثم الصوف لباس الأنبياء , وزي الأولياء . وقال أبو موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( إنه مرَّ بالصخرة من الروحاء سبعون نبيا حفاة عليهم العباء يؤمون البيت العتيق ) . وقال الحسن البصري : كان عيسى عليه السلام يلبس الشعر , ويأكل من الشجرة , ويبيت حيث أمسى . وقال أبو موسى : كان النبي صلى الله عليه وسلم يلبس الصوف , ويركب الحمار , ويأتي مدعاة الضعيف . وقال الحسن البصري : لقد أدركت سبعين بدرياً ما كان لباسهم إلا الصوف . فلما كانت هذه الطائفة بصفة أهل الصفة فيما ذكرنا , ولبسهم وزيهم زي أهلها , سموا صُفية وصوفية .
ومن نسبهم إلى إلى الصفة والصف الأول فإنه عبر عن أسرارهم وبواطنهم , وذلك أن من ترك الدنيا وزهد فيها وأعرض عنها , صفَّى الله سره , ونور قلبه . قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إذا دخل النور في القلب انشرح وانفسح ) , قيل : وما علامة ذلك يا رسول الله ؟ قال : ( التجافي عن دار الغرور , و الإنابة إلى دار الخلود , والاستعداد للموت قبل نزوله ) .
فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن من تجافى عن الدنيا نور الله قلبه . وقال حارثة حين سأله النبي صلى الله عليه وسلم : ما حقيقة إيمانك ؟ قال : عزفت بنفسي عن الدنيا , فأظمأت نهاري , وأسهرت ليلي , وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزا , وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون , وإلى أهل النار يتعادون . فأخبر أنه لما عزف عن الدنيا نور الله قلبه , فكان ما غاب عنه بمنزلة ما يشاهده . وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( من أحب أن ينظر إلى عبد نور الله قلبه فلينظر إلى حارثة , فأخبر أنه منوّر القلب .
وسميت هذه الطائفة نورية لهذه الأوصاف .
وهذا أيضا من أوصاف أهل الصفة , قال الله تعالى : { فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} . والتطهر بالظواهر عن الأنجاس , وبالبواطن عن الأهجاس .
وقال الله تعالى : { رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله } . ثم لصفاء أسرارهم تصدق فراستهم .
قال أبو أمامة الباهلي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله ) | |
| | | الشيخ عودة الشيخ عودة
عدد المساهمات : 1748 تاريخ التسجيل : 28/09/2008 العمر : 74
| موضوع: رد: المنْشَأ وَالمَصَادِر تأليف الأستاذ إحسان إلهي ظهير الإثنين نوفمبر 02, 2015 2:18 pm | |
| . وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه : ألقى في روعي أن ذا بطن بنت خارجة , فكان كما قال . وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن الحق لينطق على لسان عمر ) . وقال أبو أويس القرني لهرم بن حيان حين سلم عليه : وعليك السلام يا هرم بن حيان , ولم يكن رآه قبل ذلك , ثم قال له : عرف روحي روحك . وقال أبو عبد الله الأنطاكي : إذا جالستم أهل الصدق فجالسوهم بالصدق فإنهم جواسيس القلوب يدخلون في أسراركم ويخرجون من هممكم . ثم من كان بهذه الصفة من صفوة سره وطهارة قلبه ونور صدره فهو في الصف الأول , لأن هذه أوصاف السابقين .
قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفا بغير حساب ) ثم وصفهم وقال : ( الذين لا يرقون و لا يسترقون , ولا يكوون ولا يكتوون , وعلى ربهم يتوكلون ) . فلصفاء أسرارهم , وشرح صدورهم , وضياء قلوبهم : صحت معارفهم بالله , فلم يرجعوا إلى الأسباب ثقة بالله عز وجل , وتوكلا عليه , ورضا بقضائه .
فقد إجتمعت هذه الأوصاف كلها , ومعاني هذه الأسماء كلها في أسامي القوم وألقابهم , وصحت هذه العبارات وقربت هذه المآخذ . وإن كانت هذه الألفاظ متغيرة في الظاهر , فإن المعاني متفقة لأنها إن أخذت من الصفاء والصفوة كانت صوفية. وإن أضيفت إلى الصف أو الصفة كانت صَفيّة أو صُفيّة , ويجوز أن يكون تقديم الواو على الفاء في لفظ الصفية أو الصُّفية إنما كانت من تداول الألسن . وإن جعل مأخذه من الصوف : استقام اللفظ , وصحت العبارة من حيث اللغة . وجميع المعاني كلها من التخلي عن الدنيا وعزوف النفس عنها وترك الأوطان ولزوم الأسفار , ومنع النفوس حظوظها , وصفاء المعاملات , وصفوة الأسرار , وانشراح الصدور وصفة للسباق .
وقال بندار بن الحسين : الصوفي من اختاره الحق لنفسه فصافاه , وعن نفسه برأه , ولم يرده إلى تعمّل وتكلف بدعوى .
وصوفي على زنة عوفي , أي عافاه الله فعوفي وكوفي , أي كافاه الله فكوفي , وجوزي , أي جازاه الله , ففعل الله به ظاهر في اسمه والله المتفرد به ) . هذا ما تخبط به الكلاباذي من الخلط والغلط قطع النظر عن ضعف أكثر الروايات التي ساقها وسردها .
ويكتب من الصوفية المتقدمين أبو العباس أحمد بن زروق في كتابه قواعد التصوف : وقد كثرت الأقوال في اشتقاق التصوف , وأمسى ذلك بالحقيقة خمسة . الأول : قول من قال : من الصوفة , لأنه مع الله كالصوفة المطروحة لا تدبير له . الثاني : أنه من صوفة القفا , للينها , فالصوفي هيّن ليّن كهي . الثالث : أنه من الصفة , إذ جعلته اتصاف بالمحاسن وترك الأوصاف المذمومة . الرابع : أنه من الصفاء , وصحح هذا القول حتى قال أبو الفتح البستي رحمه الله :
تنازع النــــاس في الصوفي واختلفوا وظنه البعض مشتقا من الصــــوف ولست أمنح هذا الاســـم غيــــر فتــى صافي فصوفي حتى سمى الصوفي
الخامس : أنه منقول من الصفة لأن صاحبه تابع لأهلها فيما أثبت الله لهم من الوصف حيث قال تعالى : { يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } . وهذا هو الأصل الذي يرجع إليه كل قول فيه ) .
وقال أبو نعيم الأصبهاني المتوفى 430هـ في حليته : أبو نعيم الأصبهاني المتوفى 430هـ في حليته : واشتقاقة من حيث الحقائق التي أوجبت اللغة فإنه تفعل من أحد أربعة أشياء , من الصوفانة , وهي بقلة رعناء قصيرة , أو من صوفة وهي قبيلة كانت في الدهر الأول تجيز الحاج وتخدم الكعبة , أو من صوفة القفاء وهي الشعرات النابتة في متأخره , أو من الصوف المعروف على ظهور الضأن ) .
وقال مرجحا كونه مأخوذا من الصفاء : ( اشتقاقه عند أهل الإشارات والمنبئين عنه بالعبارات من الصفاء والوفاء ) . وذهب إلى هذا الرأي فريد الدين العطار المتوفى 586 هـ تقريبا نقلا عن بشر الحافي .
وكذلك الصوفي الهندي الملقب بكنج شكر المتوفى 669 هـ . ولكن السهروردي الذي فصل القول في هذا يرى رأيا آخر , وهو أنه مشتق من الصوف ولبسه , فإليكم ما قاله في كتاب ( عوارف المعارف ) في الباب السادس تحت عنوان : ذكر تسميتهم بهذا الاسم : ( أخبرنا الشيخ أبو زرعة طاهر بن محمد بن طاهر , وقال أخبرني والدي , قال أخبرنا أبو علي الشافعي بمكة حرسها الله تعالى , قال أخبرنا أحمد بن إبراهيم , قال أخبرنا أبو جعفر محمد بن إبراهيم , قال : أخبرنا أبو عبد الله المخزومي , قال حدثنا سفيان عن مسلم عن أنس بن مالك , قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجيب دعوة العبد ويركب الحمار ويلبس الصوف , فمن هذا الوجه ذهب قوم إلى أنهم سموا صوفية نسبة لهم إلى ظاهر اللبسة , لأنهم اختاروا لبس الصوف لكونه أرفق ولكونه كان لباس الأنبياء عليهم السلام .
وروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( مر بالصخرة من الروحاء سبعون نبيا حفاة عليهم العباء يؤمون البيت الحرام ) .
وقيل : إن عيسى عليه السلام كان يلبس الصوف والشعر , ويأكل من الشجر ويبيت حيث أمسى . وقال الحسن البصري رضي الله عنه : لقد أدركت سبعين بدريا كان لباسهم الصوف , ووصفهم أبو هريرة وفضالة بن عبيد فقالا : كانوا يخرون من الجوع حتى يحسبهم الأعراب مجانين , وكان لباسهم الصوف حتى إن بعضهم كان يعرق في ثوبه فيوجد منه رائحة الضأن إذا أصابه الغيث . وقال بعضهم : إنه ليؤذيني ريح هؤلاء , أما يؤذيك ريحهم يا رسول الله صلى عليه وسلم بذلك , فكان اختيارهم للبس الصوف لتركهم زينة الدنيا , وقناعتهم بسد الجوعة وستر العورة , واستغراقهم في أمر الآخرة , فلم يتفرغوا لملاذ النفوس وراحاتها , لشدة شغلهم بخدمة مولاهم , وانصراف هممهم إلى أمر الآخرة , وهذا الاختيار يلائم ويناسب من حيث الاشتقاق , لأنه يقال ( تصوف ) إذا لبس الصوف , كما يقال ( تقمص ) إذا لبس القميص .
ولما كان حالهم بين سير وطير لتقلبهم في الأحوال وارتقائهم من عال إلى أعلى منه , لا يفيدهم وصف ولا يحسبهم نعت , وأبواب المزيد علماً وحالاً عليهم مفتوحة , وبواطنهم معدن الحقائق ومجمع العلوم , فلما تعذر تقيدهم لتنوع وجدانهم وتجنس مزيدهم , نسبوا إلى ظاهر اللبسة . وكان ذلك أبين في الأشارة إليهم , وأدعى إلى حصر وصفهم , لأن لبس الصوف كان غالبا على المتقدمين من سلفهم , وأيضا لأن حالهم حال المقربين كما سبق ذكره , ولما كان الإعتزاء إلى القرب وعظم الإشارة إلى قرب الله تعالى أمر صعب يعز كشفه والإشارة إليه .. وقعت الإشارة إلى زيهم سترا لحالهم وغيرة على عزيز مقامهم أن تكثر الإشارة إليه وتتداوله الألسنة , فكان هذا أقرب إلى الأدب , والأدب في الظاهر والباطن والقول والفعل عماد أهل الصوفية .
وفيه معنى آخر : وهو أن نسبتهم إلى اللبسة تنبئ عن تقللهم من الدنيا وزهدهم فيما تدعو النفس إليه بالهوى من الملبوس الناعم , حتى إن المبتدئ المريد الذي يؤثر طريقهم ويحب الدخول في أمرهم يوطن نفسه على التقشف والتقلل , ويعلم أن المأكول أيضا من جنس الملبوس فيدخل في طريقهم على بصيرة , وهذا أمر مفهوم معلوم عند المبتدئ , والإشارة إلى شيء من حالهم في تسميتهم بهذا أنفع وأولى , وأيضا غير هذا المعنى مما يقال إنهم سموا صوفية لذلك يتضمن دعوى وإذا قيل سموا صوفية للبسهم الصوف كان أبعد من الدعوى , وكل ما كان أبعد من الدعوى كان أليق بحالهم , وأيضا لأن لبس الصوف حكم ظاهر على الظاهر من أمرهم , ونسبتهم من أمر آخر من حال أو مقام أمر باطن , والحكم بالظاهر أوفق وأولى , فالقول بأنهم سموا صوفية للبسهم الصوف أليق وأقرب إلى التواضع , ويقرب أن يقال : لما أثاروا الذبول والخمول والتواضع والإنكار والتخفي والتواري , كانوا كالخرقة الملقاة والصوفية المرمية التي لا يرغب فيها ولا يلتفت إليها , فيقال ( صوفي ) نسبة إلى الصوفة , كما يقال ( كوفي ) نسبة إلى الكوفة , وهذا ما ذكره بعض أهل العلم , والمعنى المقصود به قريب ويلائم الإشتقاق , ولم يزل لبس الصوف اختيار الصالحين والزهاد والمنشقين والعباد .
أخبرنا أبو زرعة طاهر عن أبيه , قال أخبرنا عبد الرزاق بن عبد الكريم , قال أخبرنا أبو الحسن محمد بن محمد , قال حدثنا أبو علي بن إسماعيل بن محمد , قال حدثنا الحسن بن عرفة , قال حدثنا خلف بن خليفة عن حميد بن الأعرج عن عبد الله بن الحارث عن عبد الله بن مسعود رضي الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يوم كلم الله تعالى موسى عليه السلام كان عليه جبة صوف وسراويل صوف وكمه من صوف ونعلاه من جلد حمار غير مذكى .
وقيل : سموا صوفية لأنهم في الصف الأول بين يدي الله عز وجل بارتفاع هممهم وإقبالهم على الله تعالى بقلوبهم ووقوفهم بسرائرهم بين يديه . وقيل : كان هذا الاسم في الأصل صفوي , فاستثقل ذلك وجعل صوفيا . وقيل سموا صوفية نسبة إلى الصفة التي كانت لفقراء المهاجرين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم , الذين قال الله تعالى فيهم { للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض } الآية , وهذا وإن كان لا يستقيم من حيث الاشتقاق اللغوي ولكنه صحيح من حيث المعنى , لأن الصوفية يشاكل حالهم حال أولئك لكونهم مجتمعين متآلفين متصاحبين لله وفي الله , كأصحاب الصفة , وكانوا نحوا من أربعمائة رجل لم تكن لهم مساكن بالمدينة ولا عشائر , جمعوا أنفسهم في المسجد كاجتماع الصوفية قديما وحديثا في الزوايا والربط , وكانوا لا يرجعون إلى زرع ولا ضرع ولا إلى تجارة , كانوا يحتطبون ويرضخون النوى بالنهار , وبالليل يشتغلون بالعبادة وتعلم القرآن ( تلاوته ) وكان رسول الله صلى اله عليه وسلم يواسيهم ويحث الناس على مواساتهم ويجلس معهم ويأكل معهم , وفيهم نزل قوله تعالى : { وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } وقوله تعالى : { وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ } ونزل في ابن مكتوم قوله تعالى : { عَبَسَ وَتَوَلَّى (1)أَن جَاءهُ الْأَعْمَى } وكان من أهل الصفة , فعوقب النبي صلى الله عليه وسلم لأجلة , وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صافحهم لا ينزع يده من أيدهم , وكان يفرقهم على أهل الجدة والسعة يبعث مع كل واحد ثلاثة ومع الآخر أربعة , وكان سعد بن معاذ يحمل إلى بيته منهم ثمانين يطعمهم . وقال أبو هريرة رضي الله عنه : لقد رأيت سبعين من أهل الصفة يصلون في ثوب واحد , منهم من لايبلغ ركبتيه , فإذا ركع أحدهم قبض بيديه مخافة أن تبدو عورته . وقال بعض أهل الصفة : جئنا جماعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقلنا يا رسول الله أحرق بطوننا التمر فسمع بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فصعد المنبر ثم قال : ما بال أقوام يقولون أحرق بطوننا التمر , أما علمتم أن هذا التمر هو طعام أهل المدينة وقد واسونا به وواسيناكم مما واسونا به , والذي نفس محمد بيده إن منذ شهرين لم يرتفع من بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم دخان للخبز , وليس لهم إلا الأسودان الماء والتمر . أخبرنا الشيخ أبو الفتوح محمد بن عبد الباقي في كتابه , قال : أخبرنا الشيخ أبو بكر بن زكريا الطريثيثي قال أخبرنا الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي , قال حدثنا محمد بن محمد ابن سعيد الأنماطي , قال حدثنا الحسن بن يحى بن سلام , قال حدثنا محمد ابن علي الترمذي , قال حدثني سعيد بن حاتم البلخي , قال حدثنا سهل بن أسلم عن خلاد بن محمد عن أبي عبد الرحمن السكري عن يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهم قال : وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً على أهل الصفة فرأى فقرهم وجهدهم وطيب قلوبهم فقال ( أبشروا يا أصحاب الصفة فمن بقي منكم على النعت الذي أنتم عليه اليوم راضيا بما هو فيه فإنه من رفقائي يوم القيامة ) . وقيل : كان منهم طائفة بخراسان يأوون إلى الكهوف والمغارات ولا يسكنون القرى والمدى , ويسمونهم في خراسان شكفتية , ( لأن شكفت) اسم الغار , ينسبونهم إلى المأوى والمستقر وأهل الشام يسمونهم جوعية , والله تعالى ذكر في القرآن طوائف الخير والصلاح فسمى قوما أبرارا وآخرين مقربين , ومنهم الصابرون والصادقون , والذاكرون , والمحبون , واسم الصوفي مشتمل على جميع المتفرق في هذه الأسماء المذكورة , وهذا الاسم لم يكن في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم , وقيل كان في زمن التابعين . ونقل عن الحسن البصري رحمة الل عليه أنه قال : رأيت صوفيا في الطواف فأعطيته شيئا فلم يأخذه وقال معي أربع دوانيق يكفيني ما معي ويشيد هذا ما روى عن سفيان أنه قال لولا أبو هاشم الصوفي ما عرفت دقيق الرياء . وهذا يدل على أن هذا الاسم كان يعرف قديما وقيل لم يعرف هذا الاسم إلى المائتين من الهجرة العربية ) . | |
| | | الشيخ عودة الشيخ عودة
عدد المساهمات : 1748 تاريخ التسجيل : 28/09/2008 العمر : 74
| موضوع: رد: المنْشَأ وَالمَصَادِر تأليف الأستاذ إحسان إلهي ظهير الإثنين نوفمبر 02, 2015 2:20 pm | |
| ورجح الرأي الأخير أبو المفاخر يحيى الباخرزي . ونجم الدين كبرى رجح كون كلمة التصوف مشتقة من الصوف , وأضاف ( بأن أول من لبس الصوف آدم وحواء , لأنهما أول ما نزلا في الدنيا كانا عريانين , فنزل جبريل بالخروف فأخذا منه الصوف , فغزلت حواء ونسجه آدم ولبساه , وكذلك موسى عليه السلام لبس الصوف , وأن يحيى وزكريا ونبينا محمدا صلى الله عليه وسلم أيضا كانوا يلبسون الصوف . ونسبة الصوفي إلى الصوف , وإذا ألبس الصوف طلب من نفسه حقه , لأن الصوف مركب من الأحرف الثلاثة : الصاد , والواو , والفاء , فيطلب من الصاد العبر والصلابة والصدق والصلاة , ويطلب من الواو الوفاء والوجد , وبالفاء الفرج والفرح ) .
ومن الطرائف أن نجم الدين كبرى هذا زاد على الآخرين حيث بين ألوان الصوف الذي يلبسه الصوفية على اختلاف أوصافهم وأحوالهم فقال : ( إن الذي قهر نفسه وقتلها بسيف المجاهدة والمكابدة , وجلس في مآتم النفس , عليه أن يلبس الصوف الأسود , وإن كان تائبا عن المخالفات وغسل ملبوس عمره بصابون الإنابة والرياضة . ونقى صحيفة قلبه عن ذكر الغير فعليه الصوف الأبيض , وإن كان من الذين اجتازوا العالم السفلي , ووصل العالم العلوي بهمته فعليه أن يلبس الصوف الأزرق , لأنه لون السماء ) .
ويترشح أيضا من كلام أبي طالب المكي في قوته بأنه أيضا من الذين يرحجون اشتقاقه من الصوف , حيث يورد رواية مكذوبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( البسوا الصوف , وشمروا , وكلوا في أنصاف البطون تدخلوا في ملكوت السماء ) .
ولكن القشيري أبا القاسم عبد الكريم رد على هذا الرأي وذاك , حيث قال في رسالته : ( فأما قول من قال : إنه من الصوف , ولهذا يقال : تصوّف إذا لبس الصوف كما يقال : تقمص إذا لبس القميص , فذلك وجه . ولكن القوم لم يختصوا بلبس الصوف . ومن قال : أنهم منسوبون إلى صفة مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم , فالنسبة إلى الصفة لا تجيء على نحو الصوفي .
ومن قال : أنه مشتق من الصفاء , فاشتقاق الصوفي من الصفاء بعيد في مقتضى اللغة . ومن قال : أنه مشتق من الصف , فكأنهم في الصف الأول بقلوبهم فالمعنى صحيح , ولكن اللغة لا تقتضي هذه النسبة إلى الصف ) .
وأما الصوفي الفارسي عبد الرحمن الجامي المتوفى 898 هـ فلقد ذكر في نفحاته أنه مأخوذ من الأستصفاء , مستدلا بكلام الصوفي المشهور عبد الله بن خفيف أنه قال : الصوفي من استصفاه الحق لنفسه توددا ) .
وقريبا من ذلك قال قبله صوفي فارسي آخر , وهو عبد العزيز بن محمد النسفي : إن التصوف مأخوذ من الصفوة . ولقد ذكر في أصل التصوف واشتقاقه أقوال أخرى , منها ما ذكرها الإمام أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزي , والإمام ابن تيمية , عند ذكرهما التصوف والصوفية , واللفظ الأول : ( قد ذهب قوم إلى أن التصوف منسوب إلى أهل الصفة . وإنما ذهبوا إلى هذا لأنهم رأوا أهل الصفة على ما ذكرنا من صفة صوفة في الإنقطاع إلى الله عز وجل وملازمة الفقر فإن أهل الصفة كانوا فقراء يقدمون على رسول الله صلى الله عليه وسلم ومالهم أهل ولا مال فبنيت لهم صفة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل أهل الصفة . والحديث بإسناد عن الحسن . قال بنيت صفة لضعفاء المسلمين فجعل المسلمون يوصلون إليها ما استطاعوا من خير . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيهم فيقول : السلام عليكم يا أهل الصفة . فيقولون : وعليك السلام يا رسول الله . فيقول كيف أصبحتم . فيقولون بخير يا رسول الله . وبإسناد عن نعيم بن المجمر عن أبيه عن أبي ذر قال كنت من أهل الصفة وكنا إذا أمسينا حضرنا باب رسول الله صلى الله عليه وسلم , فيأمر كل رجل فينصرف برجل فيبقى من بقى من أهل الصفة عشرة أو أقل فيؤثرنا النبي صلى الله عليه وسلم بعشائه فنتعشى فإذا فرغنا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم . ناموا في المسجد .
قال المصنف : وهؤلاء القوم إنما قعدوا في المسجد ضرورة . وإنما أكلوا الصدقة ضرورة . فلما فتح الله على المسلمين استغنوا عن تلك الحال وخرجوا , ونسبة الصوفي إلى أهل الصفة غلط لأنه لو كان كذلك لقيل صفي , وقد ذهب إلى أنه من الصوفانة وهي بقلة رعناء قصيرة . فنسبوا إليها لاجتزائهم بنبات الصحراء وهذه أيضا غلط لأنه لو نسبوا أليها لقيل صوفاني . وقال آخرون هو منسوب إلى صوفة القفا . وهي الشهرات النابتة في مؤخرة كأن الصوفي عطف به إلى الحق وصرفه عن الخلق ) . وقيل : أن أصل التصوف منسوب إلى صوفة , فيقول ابن الجوزي : قال أبو محمد عبد الغني بن سعيد الحافظ : قال : سألت وليد بن القاسم : إلى أي شيء ينسب الصوفي .
فقال : كان قوم في الجاهلية يقال لهم صوفة , انقطعوا إلى الله عز وجل , وقنطوا الكعبة , فمن تشبه بهم فهم الصوفية , قال عبد الغني : فهؤلاء المعروفون بصوفة ولد الغوث بن مر بن أخي تميم بن مر ) .
وبمثل ذلك ذكره أهل اللغة والمعاجم .
وهناك البعض الآخرون من المتقدمين والحديثين أدلوا بدلوهم , وأبدوا رأيهم في هذا , فمن المتقدمين البيروني أبو الريحان المتوفى سنة 440 هـ , الذي نسب التصوف إلى سوفيا اليونانية , معناها الحكمة , فلقد لخص كلامه صادق نشأت نقلا عن كتابه ( ذكر ما للهند من مقولة مقبولة أو مرذولة ) , وهذا نصه :
( إن قدماء اليونان أي الحكماء السبعة مثل سولن الأثيني وطاليس المالطي كانوا يعتقدون قبل تهذيب الفلسفة بعقيدة الهنود , بأن الأشياء إنما هي شيء واحد وكانوا يقولون ليس للأنسان فضل على الجماد والنبات إلا بسبب القرب إلى العلة الأولية في الرتبة , وكان بعضهم يعتقد أن الوجود الحقيقي هو العلة الأولى نفسها لأنها غنية بذاتها وما سواها محتاج في الوجود إلى الغير فوجودها في حكم الخيال والحق هو الواحد الأول فقط , ويقول في أعقاب هذا التفصيل . وهذا رأي السوفية وهم الحكماء , فإن ( سوف ) باليونانية ( الحكمة ) وبها سمي الفيلسوف ( بيلا سوبا ) أي محب الحكمة , ولما ذهب في الإسلام قوم إلى قريب من رأيهم سموا باسمهم , ولم يعرف بعضهم اللقب فنسبهم للتوكل إلى الصفة وأنهم أصحابها في عصر النبي صلى الله عليه وسلم , ثم صحف بعد ذلك فصير في صوف التيوس وعدل أبو الفتح البستي عن ذلك أحسن عدول في قوله :
تنازع الناس في الصوفي واختلوا قـدما وظنوه مشتـــقا من الصوفي ولســـــت أنحل هذا الاسـم غير فتى صافي فصوفي حتى لقب الصوفي
وكذلك ذهبوا إلى أن الموجود شيء واحد وأن العلة الأولى تتراءى فيه بصور مختلفة وتحل قوتها في أبعاضه بأحوال متباينة توجب التغاير مع الاتحاد , فكان فيهم من يقول أن المنصرف بكليته إلى العلة الأولى متشبها بها على غاية إمكانه يتحد بها عند ترك الوسائل وخلع العلائق والعوائق وهذه أراء يذهب إليها الصوفية لتشابه الموضوع وكانوا في ألأنفس والأرواح أنها قائمة بذواتها قبل التجسد بالأبدان معدودة مجندة تتعارف وتتناكر ) .
وبهذا القول قال فون هامر المستشرق الألماني , وعبد العزيز إسلامبولي , ومحمد لطفي جمعه من الحديثين . بسبب المشابهة الصوتية بين كلمة ( صوفي ) والكلمة اليونانية ( صوفيا ) , وكذلك لوجه الشبه الموجود بين كلمة ( تصوف ) , ( تيوصوفيا ) , وأن كلمتي صوفي وتصوف أخذتا من الكلمتين اليونانيتين ( سوفيا ) و (وتيوسوفيا ) إلا أن نولدكه أثبت خطأ هذا الزعم كما كما أيده في ذلك نيكلسون , وما سينيون , وبالاضافة إلى البراهين القوية الأخرى التي أقامها نولدكه , فإنه يدلل على أن ( س) اليونانية نقلت إلى العربية كما هي سينا , لا صادا كما أنه لا يوجد في اللغة الآرامية كلمة تعد واسطة لانتقال سوفيا إلى الصوفي ) .
فهذا هو الاختلاف الواقع في أصل لفظة التصوف واشتقاقها , ولذلك اضطر الصوفي القديم علىّ الهجويري المتوفى سنة 465 هـ إلى أن يقول : ( إن اشتقاق هذا الاسم لا يصح من مقتضى اللغة في أي معنى , لأن هذا الاسم أعظم من أن يكون له جنس ليشتق منه ) .
وبمثل ذلك قال القشيري في رسالته : ( ليس يشهد لهذا الاسم من حيث العربية قياس ولا اشتقاق ) . كما أنه مما لاشك فيه أنه لا يصح ولا يستقيم اشتقاقه من حيث اللغة إلا من الصوف , ولو أنه هو اختيار الكثيرين من الصوفية وغيرهم كالطوسي , وأبي طالب المكي , والسهروردي وأبي المفاخر يحيى باخرزي , وابن تيمية , وابن خلدون من المتقدمين .
والاستاذ مصطفى عبد الرزاق , والدكتور زكي مبارك , والدكتور عبد الحليم محمود , والدكتور قاسم غني , ومن المستشرقين مرجليوس , ونيكلسون , وماسينيون , ونولدكه وغيرهم من المتأخرين , مع انكار ذلك من أعلام الصوفية وأقطابها كما مر سابقا . ومن الطرائف أن الدكتور زكي مبارك استشهد القشيرية على ردّ من جعل اشتقاق التصوف من الصفاء بالقشيري , واستند إلى قوله قائلا : ( وقد استبعد ذلك القشيري وهو من أقطاب الصوفية ) . مع أنه هو نفسه يورد بعد أسطر من هذا الإستشهاد والاستناد رأيه في الموضوع بأن التصوف مأخوذ من الصوف , مع أن القشيري ردّ على هذا كما ردّ على ذلك .
وأطرف من ذلك أن السراج الطوسي من متقدمي الصوفية هو الآخر من يرجح نسبة التصوف إلى الصوف كما مر سابقا , ولكنه نفسه يرد كلامه حيث يذكر عن يحيى بن معاذ الرازي أنه كان يلبس الصوف والخلقان في ابتداء أمره , ثم كان في آخر عمره يلبس الخز اللين ... وأن أبا حفص النيسابوري كان يلبس قميصا خزا وثيابا فاخره , ثم ذكر : وآداب الفقراء في اللباس أن يكونوا مع الوقت إذا وجدوا الصوف أو اللبدة أو المرقعة لبسوا , وإذا وجدوا غير ذلك لبسوا ) .
هذا ومثل هذا كثير في كتب الآخرين من الصوفية المتقدمين منهم والمتأخرين . ولا بأس بنقل عبارات مختصرة عن مصطفى عبد الرزاق حيث يقول : أما أصل هذا التعبير فالأقاويل فيه كثيرة : فمن مرجح أنه لفظ جامد غير مشتق كالقشيري . ومن قائل : أنه مشتق من الصفاء أو الصفو . ومن قائل : أن اللفظ مأخوذ من الصوف لأن لباس الصوف كان يكثر في الزهاد . وقال قائلون : إن الصوفية نسبة إلى الصفة التي ينسب إليها كثير من الصحابة .... لكن النسبة إلى الصفة لا تجيء على الصوفي , بل على الصفي .
وثم أقوال ضعيفة أخرى , كالقول بأن الصوفي نسبة إلى الصف الأول , لأنهم في الصف الأول بقلوبهم من حيث المحاضرة والمناجاة .
وكالقول بأنهم منسوبون إلى صوفة القفا . أو منسوبون إلى صوفة بن مروان .
وأرجح الأقوال وأقربها إلى العقل مذهب القائلين بأن الصوفي نسبة إلى الصوف , وأن المتصوف مأخوذ منه أيضا , فيقال : تصوف إذا لبس الصوف ) .
وأظن أن هذا الذي أوقع أحد الكتاب في التصوف في بحار الحيرة , وجعله مضطرا إلى أن يردد بعد ملاحظة هذه الاختلافات الكثيرة في أصل كلمة التصوف واشتقاقها , ونقل أقوالهم فيه .
( هذا معناه أن الصوفية يوصدون الباب حتى أمام من يسألهم عن معنى اسمهم .. وهذا دليل على أمر من أمور ثلاثة , وأما أن التصوف سر , وأما أنه أمر خلافي بحت , وأما أنه متعدد الجوانب كالفن الغني , وسوف نترك للقارئ أن يجد الجواب بنفسه ) .
الفصل الثالث تعْرِيفُ التصَوّفِ
ولا يقل اختلاف الصوفية في اختلاف تعريف التصوف عن اختلافهم في أصله واشتقاقه , بل ازدادوا تعارضا وتناقضا فيه كثيرا , ولقد ذكر صوفي فارسي قطب الدين أبو المظفر منصور بن أردشير السنجي المروزي المتوفى سنة 491 هـ أكثر من عشرين تعريفا . وكذلك السراج الطوسي . والكلاباذي . والسهروردي . وابن عجيبة الحسني . وأما القشيري فلقد ذكر في رسالته أكثر من خمسين تعريفا من الصوفية المتقدمين . كما ذكر المستشرق نيكلسون ثمانية وسبعين تعريفا .
وليس معنى ذلك أن هذا العدد هو الأخير في تعريف التصوف , بل ذكر السراج في لمعة أن تعريفاته تتجاوز مائة تعريف . وقال السهر وردي : ( وأقوال المشائخ في ماهية التصوف تزيد على ألف قول ) .
وقال الحامدي : ( الأقوال المأثورة في التصوف قيل : أنها زهاء ألفين ) .
ونختار من هذه التعريفات الكثيرة بعضها نموذجا للقراء والباحثين , فينقل السراج الطوسي أن الجنيد سئل عن التصوف , فقال : ( أن تكون مع الله تعالى بلا علاقه ) . وقال سمنون في جواب سائل سأله : أن لا تملك شيئا ولا يمكلك شيء . وقيل لأبي الحسين أحمد بن محمد النوري : من الصوفي ؟ , فقال : من سمع السماع وآثر بالأسباب . وينقل القشيري عن الجنيد أنه قال : ( التصوف عقدة لا صلح فيها ). وأيضا : هم أهل بيت واحد لا يدخل فيه غيرهم . وعن أبي حمزة البغدادي أنه قال : علامة الصوفي الصادق أن يفتقر بعد الغنى , ويذل بعد العز , ويخفى بعد الشهرة . وعن الشبلي أنه قال : التصوف برقة محرقة . وعنه أنه قال : التصوف هو العصمة عن رؤية الكون .
| |
| | | الشيخ عودة الشيخ عودة
عدد المساهمات : 1748 تاريخ التسجيل : 28/09/2008 العمر : 74
| موضوع: رد: المنْشَأ وَالمَصَادِر تأليف الأستاذ إحسان إلهي ظهير الإثنين نوفمبر 02, 2015 2:22 pm | |
| هو وحداني الذات لا يقبله أحد , ولا يقبل أحدا ) .
ونقل محمد بن إبراهيم النفزي الرندي عن أحد الصوفية : ( أن الصوفي من كان دمه هدرا , وملكه مباحا ) . وذكر السلمي عن أبي محمد المرتعش النيسابوري أنه سئل عن التصوف , فقال الاشكال والتلبيس والكتمان . وذكر عن أبي الحسين النوري أنه قال : ( التصوف ترك كل حظ النفس ) .
ونقل الكلاباذي وعبد السلام الأسمر الفيتوري عن الجنيد أنه سئل عن التصوف , فقال : تصفية القلب من موافقة البرية , ومفارقة الأخلاق الطبيعية , وإخماد الصفات البشرية , ومجانبة الدواعي النفسانية , ومنازلة الصفات الروحانية , والتعلق بالعلوم الحقيقية .
وذكر عن سهل بن عبد الله التستري أنه سأله رجل : من أصحب من طوائف الناس ؟. فقال : عليك بالصوفية , فإنهم لا يستكثرون , ولا يستنكرون شيئا , ولكل فعل عندهم تأويل , فهم يعذرونك على كل حال . وعن يوسف بن الحسين أنه قال : سألت ذا النون : من أصحب ؟ فقال : من لا يملك , ولا ينكر عليك حالا من أحوالك , ولا يتغير بتغيرك وإن كان عظيما , فانك أحوج ما تكون إليه أشد ما كنت تغيرا ) .
وذكر الهجويري أن الصوفي هو الفاني عن نفسه , والباقي بالحق قد تحرر من قبضة الطبائع , واتصل بحقيقة الحقائق .
ونقل عن الجنيد أنه قال : التصوف نعت أقيم العبد فيه , قيل : نعت للعبد أو نعت للحق ؟ . فقال نعت الحق حقيقة , ونعت العبد رسما .
وعن الشبلي أنه قال : التصوف شرك لأنه صيانة القلب عن الغير , ولا غير ) .
وذكر عبد الرحمن الجامي أن الصوفي هو الخارج عن النعوت والرسوم . ونقل عن أبي العباس النهاوندي أنه قال : التصوف بدايته الفقر ) . وذكر العطار عن أبي الحسن الخرقاني أنه قال : ( أن التصوف عبارة عن الجسم الميت والقلب المعدوم والروح المحرقة . وأنه قال : إن الخلق كله مخلوق , والصوفي غير مخلوق , لأنه معدوم و, أو أن الصوفي من عالم الأمر , لا من عالم الخلق ) .
ونقل العطار أيضا عن الجنيد أنه قال : ( الصوفي هو الذي سلم قلبه كقلب إبراهيم من حب الدنيا , وصار بمنزلة الحامل لأوامر الله , وتسليمه تسليم إسماعيل , وحزنه حزن داوود , وفقره فقر عيسى , وصبره صبر أيوب , وشوقه شوق موسى وقت المناجاه , وإخلاصه إخلاص محمد ) . وقال الصوفي الهندي فريد الدين الملقب بكنج شكر : ( إن التصوف أن لا يبقى في ملكك شيء , ولا يبقى وجودك في مكان . وقال : إن أهل التصوف يقيمون صلواتهم على العرش يوميا . وقال : إن الصوفي من لا يخفى على قلبه شيء ) .
فهذه هي تعريفات التصوف والصوفية لدى أعلام الصوفية وأقطابهم أنفسهم , ونقلناهم من كتبهم , تضاربت فيها أراء القوم , وتعارضت فيها أقوالهم , لا جمع بينهما ولا وفاق رغم ما ادعاه بعض المتأخرين , وحاولوا التوفيق ولكن دونه خرط القتاد , لأن كل تعريف مستقل عن التعريف الآخر , وحتى التعريفات العديدة التي صدرت عن شخص واحد تباعد بعضها عن بعض كل البعد وهذا التباعد ظاهر جليّ لكل من نظر فيها وقرأها تأمل وتدبر , وتحقق وتعمق .
ويجدر الإشارة ههنا إلى أن تعريفات التصوف المتعددة التي ذكرناها واخترناها من تعريفات كثيرة جدا تنبئ صراحة عن حقيقة إدعاء علاقة التصوف بالإسلام , وكونه روحه وعصارته . الأمر الذي سوف يفصل الكلام فيه , في الأبواب القادمة إن شاء الله تعالى .
الفصل الرابع بَدْءُ التّصَوّفِ وَظهُوره
إن الناس اختلفوا في بدء ظهور هذه الكلمة واستعمالها كاختلافهم في أصله وتعريفه , فذكر ابن تيمية وسبقه ابن الجوزي وابن خلدون في هذا أن لفظ الصوفية لم يكن مشهورا في القرون الثلاثة الأولى , وإنما اشتهر التكلم به بعد ذلك , وقد نقل التكلم به عن غير واحد من الأئمة والشيوخ كالإمام أحمد بن حنبل , وأبي سليمان الداراني وغيرهما , وقد روى عن سفيان الثوري أنه تكلم به , وبعضهم يذكر ذلك عن الحسن البصري .
وقال السراج الطوسي في الباب الذي خصصه للرد على من قال : لم نسمع بذكر الصوفية في القديم وهو إسم مستحدث : يقول في هذا الباب : ( إن سأل سائل فقال : لم نسمع بذكر الصوفية في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم أجمعين , ولا فيمن كان بعدهم , ولا نعرف إلا العبّاد والزُّهاد والسيَّاحين والفقراء , وما قيل لأحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : صوفي , فنقول وبالله التوفيق .
الصحبة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لها حرمة , وتخصيص من شمله ذلك , فلا يجوز أن يعلق عليه اسم على أنه أشرف من الصحبة , وذلك لشرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وحرمته , ألا ترى أنهم أئمة الزهاد والعباد والمتوكلين والفقراء والراضين والصابرين والمختبين , وغير ذلك , وما نالوا جميع ما نالوا إلا ببركة الصحبة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم , فلما نسبوا إلى الصحبة والتي هي أجل الأحوال استحال أن يفضلوا بفضيلة غير الصحبة التي هي أجل الأحوال وبالله التوفيق .
وأما قول القائل : إنه اسم محدث أحدثه البغداديون , فمحال , لأن في وقت الحسن البصري رحمه الله كان يعرف هذا الاسم , وكان الحسن قد أدرك جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم , وقد رُوي عنه أنه قال : رأيت صوفيا في الطواف فأعطيته شيئا فلم يأخذه وقال : معي أربعة دوانيق يكفيني ما معي . وروي عن سفيان الثوري رحمه الله أنه قال : لولا أبو هاشم الصوفي ما عرفت دقيق الرياء , وقد ذكر الكتاب الذي جُمع فيه أخبار مكة عن محمد بن إسحاق بن يسار , وعن غيره يذكر فيه حديثاً : أنه قبل الإسلام قد خلت مكة في وقت من الأوقات , حتى كان لا يطوف بالبيت أحد , وكان يجيء من بلد بعيد رجل صوفي فيطوف بالبيت وينصرف , فإن صح ذلك فإنه يدل على أنه قبل الإسلام كان يعرف هذا الاسم , وكان يُنسب إليه أهل الفضل والصلاح , والله أعلم ) .
وبمثل ذلك قال السهروردي : ( وهذا الاسم لم يكن في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم , وقيل : كان في زمن التابعين – ثم نقل عن الحسن البصري وما نقلناه عن الطوسي أيضا – ثم قال : وقيل : لم يعرف هذا الاسم إلى المائتين من الهجرة العربية ) .
وصرح عبد الرحمن الجامي : ( أن أبا هاشم الكوفي أول من دعى بالصوفي , ولم يسم أحد قبله بهذا الاسم , كما أن أول خانقاه بني للصوفية هو ذلك الذي في رملة الشام , والسبب في ذلك أن الأمير النصراني كان قد ذهب للقنص فشاهد فشاهد شخصين من هذه الطائفة الصوفية سنح له لقاؤهما وقد احتضن أحدهما الآخر وجلسا هناك , وتناولا معا كل ما كان معهما من طعام , ثم سارا لشأنهما , فسرّ الأمير النصراني من معاملتهما وأخلاقهما , فاستدعى أحدهما , وقال له : من هو ذاك ؟ قال : لا أعرفه , قال : وما صلتك به ؟ . قال : لا شيء . قال : فمن كان ؟ . قال : لا أدري , فقال الأمير : فما هذه الألفة التي كانت بينكما ؟ . فقال الدرويش : إن هذه طريقتنا , قال : هل لكم من مكان تأوون إليه ؟ . قال : لا , قال : فإني أقيم لكما محلا تأويان إليه , فبنى لهما هذه الخانقاه في الرملة ) .
وأما القشيري فقال : اشتهر هذا الاسم لهؤلاء الأكابر قبل المائتين من الهجرة ) .
وأما الهجويري فلقد ذكر أن التصوف كان موجودا في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم , وباسمه , واستدل بحديث موضوع مكذوب على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( من سمع صوت أهل التصوف فلا يؤمن على دعائهم كتب عند الله من الغافلين ) .
مع أنه نفسه كتب في نفس الباب في آخره شارحا كلام أبي الحسن البوشنجي ( التصوف اليوم اسم بلا حقيقة , وقد كان من قبل حقيقة بلا اسم ) فكتب تحته موضحا :
( يعني أن هذا الاسم لم يكن موجودا وقت الصحابة والسلف , وكان المعنى موجودا في كل منهم , والآن يوجد الاسم , ولا يوجد المعنى ) .
وأما المستشرقون الذين كتبوا عن التصوف , ويعدون من موالي الصوفية وأنصارهم , فمنهم نيكلسون فإنه يرى مثل ما يراه الجامي أن لفظة التصوف أطلقت أول ما أطلقت على أبي هاشم الكوفي المتوفى سنة 150 ه . ولكن المستشرق الفرنسي المشهور ما سينيون يرى غير ذلك , فيقول :
ورد لفظ الصوفي لأول مرة في التاريخ في النصف الثاني من القرن الثامن الميلادي إذ نعت به جابر بن حيان , وهو صاحب كيمياء شيعي من أهل الكوفة , له في الزهد مذهب خاص , وأبو هاشم الكوفي الصوفي المشهور .
أما صيغة الجمع ( الصوفية ) التي ظهرت عام 189 هـ ( 814 م ) في خبر فتنة قامت بالأسكندرية فكانت تدل قرابة ذلك العهد على مذهب من مذاهب التصوف الإسلامي يكاد يكون شيعيا نشأ في الكوفة , وكان عبدك الصوفي آخر أئمته , وهو من القائلين بأن الإمامة بالإرث والتعيين , وكان لا يأكل اللحم , وتوفى ببغداد حوالي عام 210 هـ .
وإذن فكلمة صوفي كانت أول أمرها مقصورة على الكوفة ) .
وقال أيضا : صاحب عزلة بغدادي , وهو أول من لقب بالصوفي , وكان هذا اللفظ يومئذ يدل على بعض زهاد الشيعة بالكوفة , وعلى رهط من الثائرين بالأسكندرية , وقد يعدّ من الزنادقة بسبب إمتناعه عن أكل اللحم , ويريد الأستاذ أول من لقب بالصوفي في بغداد كما يؤخذ مما نقله عن الهمذاني , ونصه : ( ولم يكن السالكون لطرق الله في الأعصار السالفة والقرون الأولى يعرفون باسم المتصوفة , وإنما الصوفي لفظ أشتهر في القرن الثالث , وأول من سمي ببغداد بهذا الاسم عبدك الصوفي , وهو من كبار المشائخ وقدمائهم , وكان قبل بشر بن الحارث الحافي والسري بن المفلس السقطي ) .
والجدير بالذكر أن هؤلاء الثلاثة الذين يقال عنهم بأنهم أول من سمّو بهذا الاسم , وتلقبوا بهذا اللقب مطعونون في مذاهبهم وعقائدهم , ورمى كل واحد منهم بالفسق والفجور وحتى الزندقة , وخاصة جابر بن حيان , وعبدك كما سيأتي ذلك مفصلا في محله من الكتاب إن شاء الله .
وقد سبق كلام شيخ الاسلام ابن تيمية حيث قال : ( إن لفظ الصوفية لم يكن مشهورا في القرون الثلاثة , وإنما اشتهر التكلم به بعد ذلك ) .
وبمثل ذلك قال ابن خلدون . فخلاصة الكلام أن الجميع متفقون على حداثة هذا الاسم , وعدم وجوده في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه والسلف الصالحين .
نعم, كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أزهد خلق الله في الدنيا وزخارفها , وأصحابه على سيرته وطريقته , يعدّون الدنيا وما فيها لهوا ولعبا , زائلة فانية , والأموال والأولاد فتنة ابتلي المؤمنون بها , فلم يكونوا يجعلون أكبر همهم إلا ابتغاء مرضاة الله , يرجون لقاءه وثوابه , ويخافون غضبه وعقابه , آخذين من الدنيا ما أباح الله لهم أخذه , ومجتنبين عنها ما نهى الله عنه , سالكين مسلك الاعتدال , منتهجين منهج المقتصد , غير باغين ولا عادين , مفرطين ولا متطرفين , وعلى رأسهم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم الخلفاء الراشدون , وبقية العشرة المبشرة , ثم البدريون , ثم أصحاب بيعة الرضوان , ثم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار , ثم عامة الأصحاب , على ترتيب الأفضلية كما مرّ سابقا في الفصل الأول من هذا الباب . وتبعهم في ذلك التابعون لهم بإحسان , واتباع التابعين , أصحاب خير القرون , المشهود لهم بالخير والفضيلة , ولم يكن لهؤلاء كلهم في غير رسول الله أسوة ولا قدوة , الذي قال فيه جل وعلا : { أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى 6 وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى 7 وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى 8 فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ 9 وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ 10 وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ 11 } والذي إذا وجد طعاما فأكل وشكر , وإذا لم يجد فرضي وصبر , وأحب لبس الثياب البيض , واكتسب جبّة رومية , ونهى عن التصدق بأكثر من ثلث المال , وأمر بحفظ حقوق النفس والأهل والولد , ونهى عن تعذيب النفس و اتعاب الجسد والبدن , وحرّص متبعيه على طلب الحلال , وطلب الحسنات في الدنيا والآخرة , ومنع الله تعالى من التعنت والتطرف في ترك الدنيا وطيباتها في آيات كثيرة في القرآن الكريم , سنوردها في موضعها من الكلام إن شاء الله . | |
| | | الشيخ عودة الشيخ عودة
عدد المساهمات : 1748 تاريخ التسجيل : 28/09/2008 العمر : 74
| موضوع: رد: المنْشَأ وَالمَصَادِر تأليف الأستاذ إحسان إلهي ظهير الإثنين نوفمبر 02, 2015 2:25 pm | |
| .
ثم خلف من بعدهم خلف فتطرفوا , وذهبوا بعيدا في نعيم الدنيا وزخارفها , وفتحت عليهم أبواب الترف والرخاء , ودرّت عليهم الأرض والسماء , وأقبلت عليهم الدنيا بكنوزها وخزائنها , وفتحت عليهم الآفاق فانغمسوا في زخارفها وملذاتها , وبخاصة العرب الفاتحون الغزاة , والغالبون الظاهرون , فحصل ردّ الفعل , وفي نفوس المغلوبين المغزوين والمقهورين , من الموالي والفرس والمفلسين وأصحاب النفوس الضعيفة المتوانية خاصة , فهربوا عن الحياة ومناضلتها , وجدّها وكدّها , ولجأوا إلى الخانقاوات والتكايا والزوايا والرباطات , فرارا من المبارزة والمناضلة , وصبغوا هذا الفرار والانهزام وردّ الفعل صبغة دينية , ولون قداسة وطهارة , وتنزه وقرابة , كما كان هنالك أسباب ودوافع ومؤثرات أخرى , وكذلك أيدي خفية دفعتهم إلى تكوين فلسفة جديدة للحياة , وطراز آخر من المشرب والمسلك , وأسلوب جديد للعيش والمعاش , فظهر التصوف بصورة مذهب مخصوص , وبطائفة مخصوصة اعتنقه قوم , وسلكه أشخاص ساذجون بدون تفكير كثير , وتدبر عميق كمسلك الزهد , ووسيلة التقرب إلى الله , غير عارفين بالأسس التي قام عليها هذا المشرب , والقواعد التي أسس عليها هذا المذهب , بسذاجة فطرية , وطيبة طبيعية , كما تستر بقناعه , وتنقب بنقابه بعض آخرون لهدم الإسلام وكيانه , وإدخال اليهودية والمسيحية في الإسلام , وأفكارهما من جانب , والزرادشتية والمجوسية والشعوبية من جانب آخر , وكذلك الهندوكية والبوذية والفلسفة اليونانية الأفلاطونية من ناحية أخرى , وتقويض أركان الإسلام وإلغاء تعاليم سيد الرسل صلى الله عليه وسلم , ونسخ الإسلام وإبطال شريعته بنعرة وحدة الوجود , ووحدة الأديان , وإجراء النبوة , وترجيح من يسمى بالولي على أنبياء الله ورسله , ومخالفة العلم , والتفريق بين الشريعة والحقيقة , وترويج الحكايات والأباطيل والأساطير , باسم الكرامات والخوارق وغير ذلك من الخلافات والترهات .
فلم يظهر التصوف مذهبا ومشربا , ولم يرج مصطلحاته الخاصة به , وكتبه , ومواجيده وأناشيده , تعاليمه وضوابطه , أصوله وقواعده , وفلسفته , ورجاله وأصحابه إلا في القرن الثالث من الهجرة وما بعده .
وبذلك يقول ابن الجوزي في كتابه تلبيس إبليس : ( كانت النسبة في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الأيمان والإسلام . فيقال : مسلم ومؤمن , ثم حدث اسم زاهد وعابد , ثم نشأ أقوام تعلقوا بالزهد والتعبد , فتخلوا عن الدنيا , وانقطعوا إلى العبادة , واتخذوا في ذلك طريقة تفردوا بها , وأخلاقا تخلقوا بها , ثم قال : وهذا الاسم ظهر للقوم قبل سنة مائتين , ولما أظهره أوائلهم تكلموا فيه , وعبروا عن صفته بعبارات كثيرة , وحاصلها أن التصوف عندهم رياضة النفس , ومجاهدة الطبع بردّه عن الأخلاق الرذيلة , وجعله على الأخلاق الجميلة من الزهد والحلم والصبر والإخلاص والصدق إلى غير ذلك من الخصال الحسنة التي تكسب المدائح في الدنيا والثواب في الأخرى ... وعلى هذا كان أوائل القوم , فلبّس عليهم إبليس في أشياء , ثم لبس على بعدهم من تابعيهم فكلما مضى قرن زاد طمعه في القرن التالي فزاد تلبيسه عليهم إلى أن تمكن من المتأخرين غاية التمكن . وكان أصل تلبيسه عليهم أنه صدهم عن العلم وأراهم أن المقصود العمل فلما أطفأ مصباح العلم عندهم تخبطوا في الظلمات . فمنهم من أراه أن المقصود من ذلك ترك الدنيا في الجملة فرفضوا مايصلح أبدانهم . وشبهوا المال بالعقارب , ونسوا أنه خلق للمصالح وبالغوا في الحمل على النفوس حتى أنه كان فيهم من لا يضطجع وهؤلاء كانت مقاصدهم حسنة غير أنهم على غير الجادة . وفيهم من كان لقلة علمه يعمل بما يقع إليه من الأحاديث الموضوعة وهو لا يدري .
ثم جاء أقوام فتكلموا لهم في الجوع والفقر والوسواس والخطرات وصنفوا في ذلك مثل الحارث المحاسبي . وجاء آخرون فهذبوا مذهب التصوف وأفردوه بصفات ميزوه بها من الاختصاص بالمرقعة والسماع والوجد والرقص والتصفيق وتميزوا بزيادة النظافة والطهارة . ثم مازال الأمر ينمى والأشياخ يضعون لهم أوضاعا ويتكلمون بواقعاتهم . ويتفق بعدهم عن العلماء لا بل رؤيتهم ما هم فيه أوفى العلوم حتى سموه العلم الباطن وجعلوا علم الشريعة العلم الظاهر . ومنهم من خرج به الجوع إلى الخيالات الفاسدة فادعى عشق الحق والهيمان فيه فكأنهم تخايلوا شخصا مستحسن الصورة فهاموا به . وهؤلاء بين الكفر والبدعة ثم تشعبت بأقوام منهم الطرق . ففسدت عقائدهم . فمن هؤلاء من قال بالحلول ومنهم من قال بالإتحاد . وما زال إبليس يخبطهم بفنون البدع حتى جعلوا لأنفسهم سننا وجاء أبو عبد الرحمن السلمي فصنف لهم كتاب السنن وجمع لهم حقائق التفسير فذكر عنهم فيه العجب في تفسيرهم القرآن بما يقع لهم من غير إسناد ذلك إلى أصل من أصول العلم . وإنما حملوه على مذاهبهم . والعجب من ورعهم في الطعام وانبساطهم في القرآن . وقد أخبرنا أبو منصور عبد الرحمن القزاز , قال : أخبرنا أبو بكر الخطيب قال : قال لي محمد بن يوسف القطان النيسابوري قال كان أبو عبد الرحمن السلمي غير ثقة ولم يكن سمع من الأصم إلا شيئا يسيراً فلما مات الحاكم أبو عبد الله بن البيع حدث عن الأصم بتاريخ يحيى بن معين وبأشياء كثيرة سواه . وكان يضع للصوفية الأحاديث . وصنف لهم أبو نصر السراج كتابا سماه لمع الصوفية ذكر فيه من الاعتقاد القبيح والكلام المرذول ما سنذكر منه جملة إن شاء الله تعالى . وصنف لهم أبو طالب المكي قوت القلوب فذكر فيه الأحاديث الباطلة ومالا يستند فيه من أصل من صلوات الأيام والليالي وغير ذلك من الموضوع وذكر فيه الاعتقاد الفاسد . وردد فيه قول – قال بعض الكاشفين – وهذا كلام فارغ وذكر فيه عن بعض الصوفية إن الله عز وجل يتجلى في الدنيا لأوليائه . أخبرنا أبو منصور القزاز أخبرنا أبو بكر الخطيب قال : قال أبو طاهر محمد بن العلاف , قال : دخل أبو طالب المكي إلى البصرة بعد وفاة أبي الحسين بن سالم فانتمى إلى مقالته وقدم بغداد فاجتمع الناس عليه في مجلس الوعظ فخلط في كلامه فحفظ عنه أنه قال : ليس على المخلوق أضر من الخالق . فبدعة الناس وهجروه فامتنع من الكلام على الناس بعد ذلك قال الخطيب : وصنف أبو طالب المكي كتابا سماه قوت القلوب على لسان الصوفية وذكر فيه أشياء منكرة مستبشعة في الصفات .
وجاء أبو نعيم الأصبهاني فصنف لهم كتاب الحلية . وذكر في حدود التصوف أشياء منكرة قبيحة ولم يستح أن يذكر في الصوفية أبابكر وعمر وعثمان وعلياً وسادات الصحابة رضي الله عنهم . فذكر عنهم فيه العجب وذكر منهم شريحاً القاضي والحسن البصري وسفيان الثوري وأحمد بن حنبل وكذلك ذكر السلمي في طبقات الصوفية الفضيل وإبراهيم وإبراهيم بن أدهم ومعروفاً الكرخي وجعلهم من الصوفية بأن أشار إلى أنهم من الزهاد .
فالتصوف مذهب معروف يزيد على الزهد ويدل على الفرق بينهما . أن الزهد لم يذمه أحد وقد ذموا التصوف على ما سيأتي ذكره وصنف لهم عبد الكريم بن هوازن القشيري كتاب الرسالة فذكر فيها العجائب من الكلام في الفناء والبقاء , والقبض , والبسط , والوقت , والحال , والوجد والوجود , والجمع و والتفرقة , والصحو والسكر , والذوق , والشرب , والمحو , والإثبات , والتجلي , والمحاضرة والمكاشفة , واللوائح والطوالع , واللوامع , والتكوين , والتمكين والشريعة , والحقيقة . إلى غير ذلك من التخليط الذي ليس بشيء وتفسيره وأعجب منه , وجاء محمد بن طاهر المقدسي فصنف لهم صفوة التصوف فذكر فيه أشياء يستحي العاقل من ذكرها سنذكر منها ما يصلح ذكره في مواضعه إن شاء الله تعالى .
وكان شيخنا أبو الفضل بن ناصر الحافظ يقول : كان ابن طاهر يذهب مذهب الإباحة : قال وصنف كتاباً في جواز النظر إلى المراد أورد فيه حكاية عن يحيى بن معين قال : رأيت جارية بمصر مليحة صلى الله عليها . فقيل له تصلي عليها فقال صلى الله عليها وعلى كل مليح . قال شيخنا ابن ناصر , وليس ابن طاهر بمن يحتج به , وجاء أبو حامد الغزالي فصنف لهم كتاب الإحياء على طريقة القوم وملأه بالأحاديث الباطلة وهو لا يعلم بطلانها وتكلم في علم المكاشفة وخرج عن قانون الفقه , وقال أن المراد بالكوكب والشمس والقمر اللواتي رآهن إبراهيم صلوات الله عليه أنوار هي حجب الله عز وجل ولم يرد هذه المعروفات . وهذا من جنس كلام الباطنية . وقال في كتابه المفصح بالأحوال . إن الصوفية في يقظتهم يشاهدون الملائكة وأرواح الأنبياء ويسمعون منهم أصواتا ويقتبسون منهم فوائد ثم يترقى الحال من مشاهدة الصورة إلى درجات يضيق عنها نطاق النطق ) . فهكذا كوّن هذا المذهب , وصار مستقلا بمبادئه وآرائه , وله مصادره ومراجعه , وتعاليمه ورسومه . وإلى هنا نأتي إلى آخر هذا الباب .
البَابُ الثاني مَصَادِرُ التّصوُّفِ وَمَآخِذُهُ
إن أمر التصوف كله مختلف فيه , فكما أختلف في أصله واشتقاقه , وحده وتعريفه , بدئه وظهوره , وفي أول من تسمى به وتلقب به , كذلك اختلف في منبعه ومأخذه , ومصدره ومرجعه , فتشعبت الآراء وتنوعت الأقوال , وتعددت الأفكار , فقال قائل : إنه إسلامي بحت في أشكاله وصوره , ومبادئه ومناهجه , وأصوله وقواعده , وأغراضه ومقاصده , حتى في ألفاظه وعباراته , وفلسفته وتعاليمه , ومواجيده وأناشيده , ومصطلحاته ومدلولاته , وهذا هو إدعاء الصوفية ومن والاهم , وناصرهم , ودافع عنهم .
وقال قوم : لا علاقه له بالإسلام إطلاقا , قريبة ولا بعيدة في اليوم الذي نشأ فيه , ولابعد ماتطور , وهو أجنبي عنه كاسمه , فلذلك لا يفتش عن مصادره ومآخذه في القرآن والسنة وإرشاداتهما , بل يبحث عنها في الفكر الأجنبي , وهو رأي أكثر السلفيين ومن نهج منهجهم وسلك مسلكهم وكذلك الفقهاء والمتكلمين من أهل السنة من المتقدمين , والأكثرية الساحقه من المستشرقين , والكثير من الباحثين والمفكرين المتحررين من الجمود وعصبية التقليد , من المتأخرين .
وقالت طائفة : إنه اسم للزهد المتطور بعد القرون المشهود لها بالخير كردّ فعل لزخرفة المدينة وزينتها التي انفتحت أبوابها على المسلمين بعد الغزوات والفتوحات وانغماسهم في ترف الدنيا ونعيمها , ثم حصلت فيه التطورات , ودخلت أفكار أجنبية والفلسفات غير الإسلامية وذهب إلى هذا الرأي ابن تيمية والشوكاني من السلفيين وغيرهم من بعض أعلام أهل السنة , حتى الصوفية أنفسهم وبعض المستشرقين .
وقال الآخرون : إن التصوف وليد الأفكار المختلطة من الإسلام واليهودية والمسيحية ومن المانوية والمجوسية والمزدكية , وكذلك الهندوكية والبوذية , وقبل كل ذلك من الفلسفة اليونانية وآراء الأفلاطونية الحديثية , وتمسك بهذا الرأي بعض الكتّاب في الصوفية من المسلمين وغير المسلمين .
فهذه هي خلاصة الاختلاف والآراء المختلفة في أصل التصوف ومأخذه , ننقاشها في هذا الباب , وندعم رأينا الذي نراه من بين هذه الآراء المتعددة , بالأدلة والشواهد , الخارجية منها والداخلية , فنقول : إن أفضل طريق للحكم على طائفة معينة وفئة خاصة من الناس هو الحكم المبني على آرائه وأفكاره التي نقلوها في كتبهم المتعمدة والرسائل الموثوق بها لديهم بذكر النصوص والعبارات التي يبني عليها الحكم , ويؤسس عليها الرأي ولا يعتمد على أقوال الآخرين ونقول الناقلين , اللهم إلا للاستشهاد على صحة استنباط الحكم وإستنتاج النتيجة .
وهذه الطريقة ولو أنها طريقة وعرة شائكة , صعبة مستعصبة , وقل من يختارها ويسلكها , ولكنها هي الطريقة الصحيحة المستقيمة التي يقتضيها العدل والإنصاف .
وعلى ذلك عندما نتعمق في تعاليم الصوفية الأوائل والأواخر , وأقاويلهم المنقولة منهم , والمأثورة في كتب الصوفية , القديمة والحديثة نفسها , نرى بونا شاسعا بينهما وبين تعاليم القرآن والسنة , وكذلك لا نرى جذورها وبذورها في سيرة سيد الخلق محمد صلوات الله وسلامه عليه وأصحابه الكرام البررة خيار خلق الله وصفوة الكون , بل بعكس ذلك نراها مأخوذة مقتبسة من الرهبنة المسيحية , والبرهمة الهندوكية , وتنسك اليهودية , وزهد البوذية , والفكر الشعوبي الإيراني المجوسي عند الأوائل , والغنوصية اليونانية والأفلاطونية الحديثة لدى الذين جاءوا من بعدهم , وتدل على ذلك تعريفات القوم للتصوف , التي نقلناها عن كبارهم فيما سبق . وكما تنطق وتشهد تعاليمهم التي هي بمثابة الأسس للتصوف , والضوابط لمن يدخل في طريقتهم .
فنبدأ أولا بإبراهيم بن أدهم , وهو من الطبقة الأولى وأئمة التصوف الأوائل , وكثيراً ما تبدأ كتب طبقات الصوفية بذكره واسمه , ولا يخلوا كتاب من كتب التصوف وسيرته .
ومما يذكر بيانا لشأنه الرفيع ومكانته السامية أنه كان من أبناء الملوك وملكا لبلخ , وتزوج من امرأته جميلة , وله ولد , ولكنه ترك الملك والزوجة والأولاد , وكل من كان يملكه , للنداء الغيبي , أو للقاء الخضر الذي لقنه ذلك , مثل ما ترك بوذا ملكه وزوجته , وأبنه وملاذ الدنيا وزخارفها طبقا بطبق , وحذو القذة بالقذة , خلافا لتعاليم الإسلام وأسوة الرسول وسيرة الصحابة , ولا يوجد له أي مثال في الكتاب ولا في السنة , ولا من السلف الصالح ومع ذلك يبجّل الصوفية ذكره , ولذلك يجعلونه قدوة يقتدى , ومثالا يحتذى , ويفتخرون بذكره وأحواله , مع أن أحواله تلك ليست إلا ناطقة بالبوذية المنسوخة الممسوخة التي لم ينزل الله بها من سلطان . فنود أن نورد تلك الحكاية الصوفية الباطلة , من التصوف القديم الأصيل , ومن الصوفي الذي يعدّ من الأعلام والأقطاب مقارنة بقصة بوذا , المنقولة من الكتب البوذية , ولبيان أنها تشتمل على ترهات وأكاذيب فاحشة مكشوفة تنطق بكونها مختلفة موضوعة مكذوبة , وننقل هذه القصة من تذكرة صوفية قديمة ( تذكرة الأولياء ) لفريد اليدن العطار , مقتبسين ترجمتها العربية من صادق نشأت :
( إن إبراهيم بن أدهم كان ملكا لبلخ , وتحت إمرته عالم , وكانوا يحملون أربعين سيفا من الذهب وأربعين عمودا من الذهب من أمامه ومن خلفه , وكان نائما ذات ليلة على السرير , فتحرك سقف البيت ليلا , كأنما يمشي أحد على السطح , فنادى : من هذا .. ؟ فقال : صديق فقدت بعيرا أبحث عنه على هذا السقف , فقال : أيها الجاهل , أتبحث عن البعير فوق السطح ...؟ فقال له : وأنت أيها الغافل تطلب الوصول إلى الله في ثياب حريرية وأنت نائم على سرير من ذهب ...؟ فوقعت الهيبة في نفسه من هذا الكلام , واندلعت في قلبه نار , فلم يستطع النوم حتى الصباح , وعندما أشرق الصبح ذهب إلى الإيوان وجلس على السرير متحيرا مفكرا حزينا , ووقف أركان الدولة كل في مكانه واصطف الغلمان وأذنوا إذنا عاما , فدخل رجل مهيب من الباب بحيث لم يكن لأي أحد من الخدم أو الحشم الجرأة على أن يقول له من أنت , ولم ينبسوا ببنت شفه , وتقدم الرجل حتى واجه سرير إبراهيم , فقال له : ماذا تريد ..؟ قال : أنزل في هذا الرباط , قال : ليس هذا برباط , إنما هو قصري , وإنك لمجنون , فقال : لمن كان هذا القصر قبل هذا ؟ قال : كان لأبي , قال وقبل ذلك , قال : كان ملكا لجدي ... وقبل ذلك ؟ قال : ملكا لفلان , قال : أو ليس الرباط هو ما يحل به أحد و يغادره الآخر .. ؟ قال هذا و اختفى , وكان هو الخضر عليه السلام , فازدادت حرقة روح إبراهيم ولوعته , وازداد ألمه حدة نتيجة لهذه الحال , وازدادت هذه الحال من واحد إلى مائة ضعف , إذ أنه رأى أنه قد اجتمع ما شاهده نهارا مع ما وقع ليلا ولم يعرف مما سمع , ولم يعلم ماذا رأى اليوم , فقال : أسرجوا الجواد لأني أريد الذهاب للصيد , فقد حدث لي اليوم شيء لست أدري ما هو , فيا إلهي إلى أين تنتهي هذه الحال ... ؟ فأسرجوا له جوادا , وتوجه للصيد , فكان يتجول في البرية دهشا بحيث لم يعرف ماذا يفعل , فأنفصل عن جيشه وهو في تلك الحال من الدهش , فسمع صوتا في الطريق يقول له : انتبه , فانتبه , ولم يصغ إليه , وذهب وجاءه هذا النداء للمرة ثانية , فلم يعره سمعا للمرة الثالثة نفس ذلك النداء , فأبعد نفسه عنه , وسمع للمرة الرابعة من يقول : ( انتبه قبل أن تنبه ) ففقد صوابه تماما وفجأة ظهرت غزالة فشغل نفسه بها , فأخذت الغزالة تخاطبه قائلة : إنهم بعثوني لصيدك , وإنك لن تستطيع صيدي , ألهذا خلقت ؟ أو بهذا أمرت ؟ إنك خلقت للذي للذي تعمله وليس لك عمل آخر , فقال إبراهيم : ترى ما هذه الحال ....؟ وأشاح بوجهه عن الغزالة , فأرتفع نفس ذلك الصوت الذي قد سمعه من الغزالة من قربوس السرج , فوقر في نفسه الخوف والفزع وأزداد كشفا , وحيث أن الحق تعالى أراد أن يتم الأمر ارتفع ذلك الصوت ثلاث مرات أخر من حلقة جيبه , وبلغ ذلك الكشف هنا حد الكمال , وأنفتح عليه الملكوت ونزل , وحصل له اليقين , فابتلت الملابس والجواد من ماء عينيه , وتاب توبة نصوحا , وانتحى ناحية من الطريق , فرأى راعيا يرتدي لبادا , وقد وضع قلنسوة من اللباد على رأسه , وأمامه الأغنام وأخذ منه اللباد ولبسه ووضع قلنسوة اللباد على رأسه وطفق يسير راجلا في الجبال والبراري هائما على وجهه ينوح من ذنوبه , ثم غادر المكان إلى أن بلغ نيسابور , فأخذ يبحث عن زاوية خالية يتعبد فيها حتى وصل إلى ذلك الغار المعروف واعتكف فيه تسعة أعوام .
ومن ذا الذي يعلم ما كان يفعله هناك في الليل والنهار , إنه ينبغي أن يكون رجلا عظيما ذا مادة واسعة حتى يستطيع الإقامة في مثل ذلك المكان , وصعد إبراهيم يوم خميس إلى ظاهر الغار وجمع حزمة حطب واتجه في الصباح إلى نيسابور حيث باعها , وصلى الجمعة واشترى بثمن الحطب خبزا , وأعطى نصفه لفقير وتناول النصف الآخر , وأتخذ منه إفطاره وداوم صيامه حتى الأسبوع التالي , وبعد أن وقف الناس على شأنه هرب من الغار وتوجه إلى مكة , وقيل أنه بقي أربعة عشر عاما يطوي البادية حيث كان يصلي ويتضرع طوال الطريق حتى أشرف على مكة , وروي أنه كان له طفل رضيع عند مغادرته بلخ , ولما أيفع طلب من أمه أباه , فقصت له الأم الحال قائلة : إن أباك قد تاه , ونقل عنه أنه قال : عندما كنت أسير في البادية متوكلا , ولم أتناول شيئا مدة ثلاثة أيام جاءني إبليس وقال : أنت ملك , وتركت هذه النعمة لتذهب جائعا إلى الحج ...؟ لقد كان بمقدورك الحج بعز وجلال حتى لا يصيبك كل هذا الأذى , قال : عندما سمعت هذا الكلام منه رفعت صوتي وقلت : إلهي !! سلطت العدو على الصديق حتى يحرقني فأغثني حتى أستطيع قطع هذه البادية بعونك , فسمعت صوتا يقول : يا إبراهيم ! ألق ما في جيبك حتى تكشف ما هو في الغيب فمددت يدي إلى جيبي فوجدت أربعة دوانيق فضية كانت قد بقيت منسية , ولما رميتها جفل إبليس مني وظهرت قوة من الغيب ) . | |
| | | الشيخ عودة الشيخ عودة
عدد المساهمات : 1748 تاريخ التسجيل : 28/09/2008 العمر : 74
| موضوع: رد: المنْشَأ وَالمَصَادِر تأليف الأستاذ إحسان إلهي ظهير الإثنين نوفمبر 02, 2015 2:26 pm | |
| . وفي ( حلية الأولياء ) للأصبهاني . وفي ( الرسالة ) للقشيري . وفي ( جمهرة الأولياء ) للمنوفي الحسيني . وفي ( نفحات الأنس ) للجامي . وفي ( طبقات الأولياء ) لابن الملقن المتوفى 804 هـ . وفي ( الطبقات الكبرى ) للشعراني .
فهذه هي قصة إبراهيم بن أدهم , وفيها ما فيها من ترك الأهل والزوج والولد بدون جريمة إرتكبوها , وإثم اقترفوه , خلافا لأوامر القرآن وإرشادات الرسول صلى الله عليه وسلم , المشهورة المعروفة شبها ببوذا , وهاهي خلاصة قصته :
( وكانت قبيلة ساكياس تقطن في شمال بنارس , وهي التي ولد فيها أواسط القرن السادس قبل الميلاد , وقد مات في سنة 478 قبل الميلاد بعد أن عمر ثمانين عاما . وتزوج بوذا في سن التاسعة عشرة ابنة عمه , وكان في رغد وسعادة . وبينما كان يسير يوما إلى الصيد وهو في التاسعة والعشرين شاهد رجلا قد بلغ من كبر سنه منتهى الضعف والعجز , ورأى في وقت آخر شخصا مبتلى بمرض استعصى علاجه ويحتمل الآلام وبعد مدة أخرى تأثر واشمأز لرؤية منظرا كريها لجثة في حالة من الفساد , وكان خادمه وصاحبه الوفي المسمى ( جانا ) يذكره وينبهه في كل هذه الحالات ويقول له : ( هذا هو مصير حياة البشر ) وشاهد بوذا أحد النساك يمر عليه وهو في منتهى الراحة والأبهة والكرامة فسأل جانا ما حال هذا الرجل .. ؟ فحكى له جانا تفصيلا عن أخلاق الزهاد الذين أعرضوا عن كل شيء وعن أحوالهم , وقال له : إن هؤلاء الجماعة في سير وأرتحال دائم وهم يعلمون الناس أثناء سياحتهم ورحلاتهم تعاليم هامة بالقول والعمل . والخلاصة أنه برغم إختلاف الروايات لا شك في أن ذهن هذا الأمير الشاب قد أخذ يضطرب تدريجيا وينفر من الحياة وضوضائها .
ووفد عليه رسول يوما في أثناء أزماعه العودة من النزهة وبشره بميلاد ولد هو أول مولود له , فقال بوذا لنفسه في تلك الحالة النفسية المضطربه دون أن يشعر : ( ما هي ذي رابطة جديدة تربطني بالدنيا ) . والخلاصة أنه عاد إلى المدينة بينما كان المطربون يلتفون حوله . فطرب ورقص في تلك الليلة أقاربه وذوو رحمه فرحا بالمولود الجديد . لكن بوذا كان من الامتعاض والاضطراب بحيث لم يكترث بتلك الأوضاع أبدا . وأخيرا نهض من فراشه في آخر الليل كمن التهمت النار داره وأوعز إلى جانا أن يحضر له الفرس ومد رأسه في هذه الأثناء إلى غرفة زوجته وولده الوحيد من غير أن يوقظهما وعلى العتبة أخذ على نفسه عهدا ألا يعود إلى داره ما لم يصبح ( بوذا ) أي ( حكيما مستنيرا ) وقال : ( أذهب لأعود إليكم معلما وهاديا لا زوجا ووالدا ) والخلاصة أنه خرج مع جانا وهام في البراري , وفي هذه اللحظة ظهر في السماء ( مارا ) أي الوسواس الكبير ( إبليس أو النفس الأمارة ) ووعده بالملك والعز في الدنيا بأسرها لكي يرجع عن عزمه لكنه لم يقع في شرك الوسوسة . فسار بوذا قليلا في تلك الليلة على شاطئ النهر ثم وهب لجانا جوهره وملابسه الفاخره وأعاده ومكث سبعة أيام بلياليها في غابة ثم التحق إلتحق بخدمة برهمي يدعى ( الارا ) كان في تلك البقعة وأختار بعد ذلك صحبة برهمي آخر يسمى ( أودراكا ) وتعلم من هذين الرجلين حكمة وعلوم الهند كلها , ولكن قلبه لم يستقر بعد فذهب إلى غابة كانت في أحد الجبال , وهناك صحب خمسة من التلاميذ الذين كانوا يحيطون به ومارس التوبة والرياضات الشاقة ست سنين حتى اشتهر في تلك الناحية , فاعتزم لهذا أن يهجر ذلك المكان ولما قام ليذهب سقط على الأرض لشدة ضعفه وعجزه , وغاب عن وعيه بحيث ظن تلاميذه أنه فارق الحياة , ولكنه عاد إلى رشده فترك الرياضات الشاقة منذ ذلك الحين وأخذ يأكل طعامه بانتظام , ولما رأى التلاميذ الخمسة الذين كانوا في صحبته أنه مل من الرياضة نفضوا أيديهم من إحترامه وتركوه وذهبوا بنارس .
أما بوذا فإنه ترك ملذات الدنيا وثروتها والمقام فيها حتى ينال الضمير والطمأنينة عن طريق التعلم والفلسفة وحكمة الآخرين فلم يستطع أن ينال بتلك الرياضة والتوبة طمأنينة القلب التي كان يصبوا إليها والحاصل أنه بقي حيران في أمره ذاهلا وفي نفس ذلك اليوم الذي تفرق فيه عن تلامذته مكث بوذا تحت شجرة يتأمل ويفكر في نفسه , ماذا يعمل ... ؟ وأي طريق يتبع .. ؟ وهاجمته وساوس كثيرة وتاقت نفسه إلى الزوجة والولد والجاه والثروة والترف والنعيم , واستمر هذا الكفاح والجهاد مع النفس حتى غروب الشمس . ونتيجة لهذا الكفاح اتصل ( بنير فانا ) وتأكد لديه أنه أصبح ( بوذا) أي أنه نال الإشراق واستنار , وحينئذ نال بوذا ما كان يصبو إليه من الراحة والطمأنينة . لذلك عزم أن يمارس الإرشاد . وأن يعرض رغبته على الآخرين , وكان بوذا وقتئذ في الخامسة والثلاثين من عمره فقصد في بادئ الأمر أستاذيه ( الارا ) و ( أودراكا ) ولكنه علم بعد , بأنهما قد توفيا , فذهب إلى تلامذته الخمسة من بنارس وأرشدهم وجعلهم من أتباعه , وآمن به أبوه وأمه وزوجته كذلك , ثم أمر زمرة من خواص مريديه أن يقوموا بإرشاد الناس ) .
فهذه هي خلاصة قصة بوذا , وهي عين ما ذكره الصوفية عن إبراهيم بن أدهم ابن الأمير البلخي الذي طلق الدنيا وتزيّا بزيّ الدراويش , وبلغ درجة أكابر الصوفية برياضته الطويلة , وتلك صورة طبق لأصل لما كانوا قد سمعوه عن حياة بوذا .
ثم علّق عليه الدكتور قاسم غني الباحث الإيراني بقوله :
( وحدس ( جولدزيهر ) يمكن أن يكون صحيحا وهو من الأحتمالات القريبة من الواقع , وقد شوهدت لها نظائر كثيرة – إلى أن قال - : وإذا ما قارن أحد بين قصة بوذا كما وردت في مدونات البوذيين بقصة إبراهيم بن أدهم ذات الطابع الأسطوري , الواردة في كتب تراجم العارفين مثل ( حلية الأولياء ) للأصفهاني , و ( تذكرة الأولياء ) للشيخ العطار وجد شبها عجيبا بين تلك القصتين يستلف نظرة ) .
هذا وهناك أقوال لإبراهيم بن أدهم وغيره من كبار الصوفية وأقطابهم في الزواج والأولاد تخبر بجلاء عن مواردها ومنابعها , فها هي تلك الأقوال من أهم كتب الصوفية : ينقل الطوسي والعطار عن إبراهيم بن أدهم أنه قال : ( إذا تزوج الفقير فمثله مثل رجل قد ركب السفينة , فإذا ولد له ولد قد غرق ) .
ونقل السهروردي عنه أنه قال : ( من تعود أفخاذ النساء لا يفلح ) . ونقل أبو طالب المكي - وهو من أعلام الصوفية البارزين وأئمتهم المتوفى سنة 386 هـ – عن قطب من أقطاب الصوفية الأوائل عن أبي سليمان الداراني المتوفى سنة 215 هـ : ( من تزوج فقد ركن إلى الدنيا ) . ونقل السهروردي في ( عوارفه ) الذي هو أشهر كتاب في التصوف عن أبي سليمان الداراني أيضا أنه قال : ( ما رأيت أحدا من أصحابنا تزوج فثبت على مرتبته ) .
ونقل المكي عن سيد الطائفة الجنيد البغدادي أنه قال : ( أحب للمريد المبتدي أن لا يشغل قلبه بالتزوج ) .
كما نقل عن بشر بن الحارث أنه قيل له : ( إن الناس يتكلمون فيك , فقال : وما عسى يقولون ؟ قيل : يقولون : إنك تارك السنة يعنون النكاح . فقال : قل لهم : إني مشغول بالفرض عن السنة , وقال مرة : ما يمنعني من ذلك إلا آية في كتاب الله تعالى قوله : { ولهن مثل الذي عليهن } , و لعسى أن لا أقوم بذلك , وكان يقول : لو كنت أعول دجاجة لخفت أن أكون جلاداً على الجسر هذا . يقوله في سنة عشرين ومائتين والحلال والنساء أحمد عاقبة , فكيف بوقتنا هذا ؟ فالأفضل للمريد في مثل زماننا هذا ترك التزويج ) .
ويقول السهروردي : ( التزوج انحطاط من العزيمة إلى الرخص , وجوع من الترمح إلى النقص , وتقيدا بالأولاد والأزواج , ودوران حول مظان الاعوجاج , والتفاف إلى الدينا بعد الزهادة , وانعطاف على الهوى بمقتضى الطبيعة والعادة ) . ثم نقل حديثا مكذوبا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( خيركم بعد المائتين رجل خفيف الحاذ , قيل : يا رسول الله وما خفيف الحاذ ؟ . قال : الذي لا أهل له ولا ولد . وقال بعض الفقراء - لما قيل له : تزوج - : أنا إلى أن أطلق نفسي أحوج مني إلى التزوج ) .
وصوفي آخر محمد بن إبراهيم النفزي الرندي المتوفى سنة 792 هـ ينقل عن صوفي قديم آخر , وهو سهل بن عبد الله التستري أنه قال : ( إياكم والاستمتاع بالنساء , والميل إليهن , فإن النساء مبعّدات من الحكمة , قريبات من الشيطان , وهي مصايده وحظه من بني آدم , فمن عطف إليهن بكليته فقد عطف على حظ الشيطان , ومن حاد عنهن يئس منه , وما مال الشيطان إلى أحد كميله إلى من استرق بالنساء , وإن الشر معهن حيث كنّ , فإذا رأيتم في وقتكم من قدركن إليهن فايأسوا منه .
قيل له : فحديث النبي صلى الله عليه وسلم : حبّب إليّ من دنياكم ثلاث , فذكر النساء ؟ . فقال : النبي صلى الله عليه وسلم معصوم , وقد بلّغكم ما كان فيه معهن , هي عدوّة الرجل ظاهرا وباطنا , إن ظهرت له لمحبة أهلكته , وإن أضمر تهاله , وإن الله عز وجل جعلهن فتنة , فنعوذ بالله من فتنتهن ) .
ونقل عن صوفي آخر حذيفة المرعشي المتوفى 207 هـ أنه قال :
( كان ينبغي للرجل لو خيّر بين أن يضرب عنقه , وبين أن يتزوج امرأة في الفتنة لاختار ضرب العنق على تزويج امرأة في الفتنة ) . ونقل ابن الملقن سراج الدين أبو حفص عمر علي المصري المتوفى 804 هـ في كتابه عن أحد كبار الصوفية : ( ما تزوج أحد من أصحابنا إلا تغير ) . ونقل الشعراني عن رباح بن عمرو القيسي - من الصوفية الأوائل - أنه قال : لا يبلغ الرجل إلى منازل الصديقين حتى يترك زوجته كأنها أرملة , وأولاده كأنهم أيتام , ويأوي إلى منازل الكلاب .
وكتب صوفي قديم آخر , وهو أبو الحسن علي الهجويري المتوفى قريبا سنة 465 هـ قصة غريبة في العزلة والتجرد نقلا عن إبراهيم الخواص أنه قال : ( وصلت إلى قرية بقصد زيارة عظيم كان هنالك , ولما ذهبت إلى داره رأيت بيتا نظيفا مثل معبد الأولياء , وقد جعل في زاويتين من البيت محرابين , وجلس في أحدهما شيخ , وفي الآخر عجوز نظيفة وضيئة , وقد ضعف كلاهما من كثرة العبادة , فأظهر السرور بقدومي , وبقيت هنالك ثلاثة أيام , ولما أردت العودة سألت الشيخ : من تكون لك تلك العفيفة ؟ قال : هي من ناحية ابنه عمي , ومن ناحية أخرى زوجي , فقلت : رأيتكما خلال هذه الأيام الثلاثة كالغربيين تماما في الصحبة , قال : نعم , منذ خمسة وستين عاما ونحن كذلك فسألته عن سبب ذلك , فقال : إعلم إننا كنا عاشقين لأحدنا الآخر في الصغر , ولم يكن أبوها يعطيها لي لأن محبتنا صارت معروفة , فتحملت ذلك حتى توفى أبوها , وكان والدي عمها , فزوجها لي , فلما كانت الليلة الأولى من تلاقينا قالت لي : أنت تعلم أية نعمة أنعمها الله علينا إذ أوصل كلامنا إلى الآخر , وأفرغ قلبينا من القيود والآفات السيئة , فقلت : نعم , قالت : فلنمنع أنفسنا الليلة عن هوى النفس , وندس على مرادنا , ونعبد الله شكراً على هذه النعمة , فقلت : هذا صواب , وقالت هذا نفسه في الليلة التالية . وقلت أنا في الليلة الثالثة : لقد أدينا الشكر ليلتين من أجلك , فلنقض ليلتين أيضا في العبادة من أجلي . وقد تمت الآن خمسة وستون عاما لم يمس أحدنا الآخر , ونحن نقضي كل العمر في شكر النعمة ) .
وقال بعد نقلها ونقل أشياء أخرى : ( وفي الجملة : إن أول فتنة قدرت على آدم في الجنة كان أصلها امرأة . وأول فتنة ظهرت في الدنيا - أي فتنة هابيل وقابيل - كانت أيضا بسبب امرأة . وحين أراد الله تبارك وتعالى أن يعذب إثنين من الملائكة جعل سبب ذلك امرأة . وهن جميعا إلى يومنا هذا سبب جميع الفتن الدينية والدنيوية , لقوله عليه السلام : ( ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء ) , فإذا كانت فتنتهن بهذا القدر في الظاهر , فكيف تكون في الباطن ؟ وأنا علي بن عثمان الجلابي , من بعد أن حفظني الحق تعالى من آفة الزواج أحد عشر عاما , قدر أن وقعت في الفتنة , وصار ظاهري وباطني أسير الصفة التي كانوا عليها معي , دون أن تكون هنالك رؤية , وقد استغرقت في ذلك عاما , بحيث كان يفسد على ديني , إلى أن بعث الحق تعالى بكمال فضله وتمام لطفه عصمته لاستقبال قلبي المسكين , ومنَّ عليّ بالخلاص برحمته , والحمد لله على جزيل نعمائه .
وفي الجملة فإن قاعدة هذا الطريق وضعت على التجريد , وعندما جاء التزويج اختلف أمرهم , ولا يوجد أي عساكر الشهوة إلا ويمكن إخماد ناره بالاجتهاد , لأن الآفة التي تنشأ منك تكون آلة دفعها معك أيضا , ولا يلزم الغير حتى تزول عنك تلك الصفة .
وزوال الشهوة يكون بشيئين : واحد يدخل تحت دائرة التكلف , وواحد يخرج عن دائرة الكسب والمجاهدة , فما يدخل في تكلف الآدمي ومقدوره هو الجوع , وأما ما يخرج من التكلف الهمم , وتنشر المحبة سلطانها في أجزاء الجسد , وتعزل كل الحواس عن أوصافهم , وتجذب كل العبد , وتغني عنه الهزل .
وإن الحمد بن حماد السرخسي , الذي كان رفيقي في ما وراء النهر , رجلا محتشما , قيل له : أبك حاجة إلى التزويج , قال : لا , قالوا : لم ؟ قال : إنني في حالي إما أن أكون غائبا عن نفسي , وإما أن أكون حاضرا بنفسي . وحين أكون غائبا لا أفكر في الكونين , وحين أكون حاضرا فإنني أجعل نفسي بحيث إذا وجدت رغيفا تعتبر أنها وجدت ألفا من الحور . فانشغال القلب بكل ما تريده يكون عظيما , فتنبه ) .
وذكر السراج الطوسي أيضا قصة صوفي تزوج من امرأة فبقيت عنده ثلاثين سنة وهي بكر . وذكر العطار عن عبد الله بن خفيف الصوفي المشهور أنه تزوج أربعمائة امرأة ولكنه لم يجامع واحدة منهن . وهل لسائل أن يسأل : ما الغرض الذي كان من نكاحه إياهن ؟ . والشعراني أيضا عن صوفي آخر ياقوت العرشي أنه تزوج ابنة شيخه أبي العباس المرسي فمكثت عنده ثماني عشرة سنة لا يقربها حياء من والدها ومنها , وفارقها بالموت وهي بكر .
ونقل عن الشعراني أيضا عن أحد المتقدمين من الصوفية مطرف بن عبد الله الشغير المتوفى سنة 207 هـ أنه قال : ( من ترك النساء والطعام فلابد له من ظهور كرامة ) .
ونقل أيضا في كتابه ( تنبيه المغتربين ) من أحد الصوفية أنه قال : من تزوج فقد أدخل الدنيا بيته ... فاحذروا من التزويج .
وينقل ابن الجوزي عن أبي حامد الغزالي أنه قال : ( ينبغي أن لا يشغل المريد نفسه بالتزويج , فإنه يشغله عن السلوك ويأنس بالزوجة , ومن أنس بغير الله شغل عن الله تعالى ) . هذا ومثل هذا كثير . ولقد بوب الصوفية في كتبهم أبوابا مستقلة في مدح العزوبة وذم التزويج , وهذا الأمر لا يحتاج إلى بيان أنه لم يأخذه المتصوفة إلا من رهبان النصارى ونساك المسيحية الذين ألزموا أنفسهم التبتل , خلافا لفطرة الله التي فطر الناس عليها .
تقليدا لهم واتباعا لسنتهم , واقتداء لمسالكهم ومشاربهم , مخالفبن أوامر الله وأوامر رسوله صلى الله عليه وسلم الناسخ لجميع الشرائع والأديان , المبعوث بمكارم الأخلاق وفضائل العادات , فالله يأمر المؤمنين في محكم كتابه بنكاح النساء مثنى وثلاث ورباع وعند الخوف من عدم العدل بواحدة , فيقول جل من قائل : { وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ } . وقال { وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } . وجعل الزواج سببا لحصول السكون والطمأنينة حيث قال عز وجل : { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } ورسوله صلوات الله وسلامه عليه يحذر المعرضين عنه في حديث طويل أورده البخاري ومسلم من حديث أنس من حديث أنس رضي الله عنه أنه قال : ( إن نفراً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سألوا أزواج النبي عليه السلام عن عمله في السر فأخبرهم فقال بعضهم : لا آكل اللحم , وقال بعضهم : لا أتزوج النساء , وقال بعضهم : لا أنام على فراش , وقال بعضهم : أصوم ولا أفطر , فحمد الله النبي عليه الصلاة والسلام وأثنى عليه , ثم قال : ما بال أقوام قالوا كذا وكذا , لكني أصلي وأنام وأصوم وأفطر وأتزوج النساء . فمن رغب عن سنتي فليس مني ) . وقال : ( تزوجوا الولود الودود فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة ) . وقال عليه الصلاة والسلام : ( حبب إلى من الدنيا الطيب والنساء , وجعلت قرة عيني في الصلاة ) . وعن أبي ذر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( وفي بضع أحدكم صدقة , قالوا: يأتي أحدنا شهوته ويكون فيها له أجر ؟ . قال : أفرأيتم لو وضعه في حرام , هل عليه وزر ؟ قالوا : نعم . قال : فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر ) .
وما أحسن ما قال إمام أهل السنة والجماعة أحمد بن حنبل رحمة الله عليه : ( ليس العزوبة من أمر الإسلام في شيء , النبي عليه الصلاة والسلام تزوج أربع عشرة امرأة ومات عن تسع , ثم قال : لو كان بشر بن الحارث تزوج قد تم أمره كله , لو ترك الناس النكاح لم يغزوا ولم يحجوا ولم يكن كذا , وقد كان النبي عليه الصلاة والسلام يصبح وما عنده شيء , وكان يختار النكاح ويحث عليه , وينهى عن التبتل , فمن رغب عن عمل النبي عليه الصلاة والسلام فهو على غير الحق . ويعقوب عليه السلام في حزنه قد تزوج وولد له . والنبي عليه الصلاة والسلام قال : ( حبب إلى النساء ) ) .
فهذه هي تعاليم شريعة الإسلام المستقاة من أصلين أساسيين لشرع الله الكتاب والسنة . وتلك هي أقوال الصوفية , التي لم يأخذوها من هذا المورد العذب , والمنهل الصافي , بل أخذوها من الكهنة والبوذية كما مر ذلك , ونساك الجينية , ورهبان المسيحية . وأمر أولئك في هذا الباب مشهور ومعروف لا يحتاج إلى كثير من البيان , ولكن لإقامة البرهان ننقل بعض آيات من إنجيل , فقال المسيح : ( ويوجد خصيان خصوا أنفسهم لأجل ملكوت السماوات , من استطاع أن يقبل فليقبل ) .
ويقول رسول المسيحيين في رسالته إلى أهل كورنتوس : ( وأما من جهة الأمور التي كتبتم عنها فحسن للرجل أن لا يمس امرأة ) .
وكذلك يقول : ( أقول لغير المتزوجين والأرامل : إنه حسن لهم إذا لبثوا كما أنا ) . ويقول : ( فأريد أن تكونوا بلاهم . يهتم فيما للرب كيف يرضى الرب . وأما المتزوج فيهتم في ما للعالم كيف يرضى امرأته . إن بين الزوجة والعذراء فرقا . غير المتزوجة تهتم في ما للرب لتكون مقدمة جدا وروحا . وأما المتزوجة فتهتم في ما للعالم كيف ترضى رجلها . هذا أقوله لخيركم ليس لكي ألقى عليكم وهقا , بل لأجل اللياقة والمثابرة للرب من دون ارتباك . ولكن إن كان يظن أنه يعمل بدون لياقه نحو عذرائه إذا تجاوزت الوقت , وهكذا لزم أن يصبر فليفعل ما يريد . إنه لا يخطئ فيتزوجا . وأما من أقام راسخا في قلبه وليس له سلطان على إرادته , وقد عزم على هذا في قلبه أن يحفظ عذراء فحسنا يفعل . إذن من زوج فحسنا يفعل . ومن لا يزوج يفعل أحسن ) .
| |
| | | الشيخ عودة الشيخ عودة
عدد المساهمات : 1748 تاريخ التسجيل : 28/09/2008 العمر : 74
| موضوع: رد: المنْشَأ وَالمَصَادِر تأليف الأستاذ إحسان إلهي ظهير الإثنين نوفمبر 02, 2015 2:28 pm | |
| هذه هي تعاليم المسيحية , المنقولة منهم تجاه الزواج , ومن هذه التعاليم تأثر وليّ من أولياء المسيحية اوريغن ( ORIGEN ) الذي يعدونه أحد القديسين , العائش ما بين 185 و 254 , وجبَّ ذكره .
والجدير بالذكر أن أحد المتصوفة أتى بمثل هذا العمل , وفعل فعلته فيه كما ذكر الشعراني أن عبد الرحمن المجذوب : ( كان رضي الله عنه من الأولياء الأكابر , وكان سيدي على الخواص رضي الله عنه يقول : ما رأيت قط أحدا من أرباب الأحوال دخل مصر إلا ونقص حاله إلا الشيخ عبد الرحمن المجذوب , وكان مقطوع الذكر قطعه بنفسه أوائل جذبه ) . وصوفي هندي آخر أيضا فعل ذلك .
وكتب هينس ( HANS ) ( أن المسيحيين القدامى كانوا يعدون ترك الزواج من الأمور الواجبة والمحببة إلى الله , والمقربة إلى ملكوته ) .
ومن خصائص المسيحية وتعاليمها ترك الدنيا , والتجرد عن المال , والتجوع , وتعري الأجساد والأعراض عن زينة الحياة , المباحة , وتحريم الطيبات باسم الانقطاع إلى الآخرة , ورهبانية ابتدعوها , وتعذيب النفس . فلقد ورد في الأناجيل عن المسيح أنه قال : ( لا تكنزوا كنوزا على الأرض , حيث يفسد السوس والصدأ , وحيث ينقب السارقون ويسرقون . بل اكنزوا لكم كنوزا في السماء حيث لا يفسد سوس ولا صدأ , وحيث لا ينقب سارقون ولا يسرقون . لأنه حيث يكون كنزك هناك يكون قلبك أيضا ) .
ونقل عنه أيضا أنه قال : ( لا يقدر أحد أن يخدم سيدين . لأنه إما أن يبغض الواحد ويجب الآخر , أو يلازم الواحد ويحتقر الآخر . لا تقدرون أن تخدموا الله والمال . لذلك أقول لكم : لا تهتموا لحياتكم بما تأكلون وبما تشربون . ولا لأجسامكم بما تلبسون . أليست الحياة أفضل من الطعام , والجسد أفضل من اللباس . أنظروا إلى طيور السماء أنها لا تزرع ولا تحصد ولا تجمع إلى مخازن , وأبوكم السماوي يقوتها . ألستم أنتم بالحري أفضل منها ومن منكم إذا اهتم يقدر أن يزيد على قامته ذراعا واحدة , ولماذا تهتمون باللباس , تأملوا زنابق الحقل كيف تنمو لا تتعب ولا تغزل , ولكن أقول لكم : إنه ولا سليمان في كل مجده كان يلبس كواحدة منها , فإن كان عشب الحقل الذي يوجد اليوم ويطرح غدا في التنور يلبسه الله هكذا , أفليس بالحري جدا يلبسكم أنتم قليلي الإيمان , فلا تهتموا قائلين : ماذا نأكل , أو ماذا نلبس , فإن هذه كلها تطلبها الأمم . لأن أباكم السماوي يعلم أنكم تحتاجون إلى هذه كلها , لكن اطلبوا أولا ملكوت الله وبره , وهذه كلها تزداد لكم . فلا تهتموا للغد , لأن الغد يهتم بما لنفسه . يكفي اليوم شره ) .
وورد في هذا الإنجيل أيضا ( أن شابا تقدم إلى المسيح وقال له : أيها المعلم الصالح أي صلاح أعمل به لتكون لي الحياة الأبدية ؟ . فأجابه المسيح ببعض الأجوبة ثم قال له : إن أردت أن تكون كاملا فأذهب وبع أملاكك , وأعط الفقراء فيكون لك كنز في السماء وتعال اتبعني . فلما سمع الشاب الكلمة مضى حزينا , لأنه كان ذا أموال كثيرة . فقال يسوع لتلاميذه : الحق أقول لكم , إنه يعسر أن يدخل غني إلى ملكوت السماوات , وأقول لكم أيضا : إن مرور جمل من ثقب إبره أيسر من أن يدخل غني إلى ملكوت الله ) .
وقال أيضا : ( وكل من ترك بيوتا أو اخوة أو أخوات أو أبا أو أما أو امرأة أو أولاداً أو حقولا من أجل اسمي يأخذ مائة ضعف , ويرث الحياة الأبدية ) .
ونقل عنه أيضا أنه قال : ( لا تكنزوا ذهبا ولا فضة ولا نحاسا في مناطقكم , ولا مزودا للطريق , ولا ثوبين , ولا أحذية , ولا عصا ) . وليس هذا فحسب , بل نقل عنه لوقا في إنجيله أنه جاءه جموع كثيرة سائرين معه , فالتفت إليهم وقال : ( إن كان أحد يأتي إلي ولا يبغض أباه وأمه وامرأته وأولاده واخوته وإخوانه حتى نفسه أيضا فلا يقدر أن يكون لي تلميذا ) .
وقال أيضا : ( فكذلك كل واحد منكم لا يترك جميع أمواله لا يقدر أن يكون لي تلميذا ) .
وبمثل ذلك نقل متى في إنجيله : ( لما رأى يسوع جموعا كثيرة حوله أمر بالذهاب إلى العبر , فتقدم كاتب وقال له : يا معلم , أتبعك أينما تمضي . فقال له يسوع : للثعالب أوجرة , ولطيور السماء أوكار . وأما ابن الإنسان فليس له أين يسند رأسه . وقال له آخر من تلاميذه : يا سيد , ائذن لي أمضي أولا وأدفن أبي . فقال له يسوع : اتبعني , ودع الموتى يدفنون موتاهم ) .
هذا ومثل هذا كثير في الأناجيل وأعمال الرسل وغيرها من الكتب المسيحية , وعلى هذه التعاليم أسسوا نظام الرهبنة , أي التجرد عن علائق الدنيا ومتطلباتها وحاجاتها . وزادوا عليها تعذيب النفس , وتحمل المشاق والآلام , تعمقا في التجرد , ومغالاة في تجنب الدنيا , واحتقارا لزخارفها , كما أن هنالك أسبابا أخرى لاختيار الرهبنة , فقد ذكر علماء المسيحية الكثيرون وكتابها وباحثوها . وجمع هذه الأقاويل والمقولات ول ديورانت في موسوعته الكبرى ( قصة الحضارة ) , فيقول : ( لما أن أصبحت الكنيسة منظمة تحكم الملايين من بني الإنسان , ولم تعد كما كانت جماعة من المتعبدين الخاشعين , أخذت تنظر إلى الإنسان وما فيه من ضعف نظرة أكثر عطفا من نظرتها السابقة , ولا ترى ضيراً من أن يستمتع الناس بملاذ الحياة الدنيا , وأن تشاركهم أحيانا في هذا الاستمتاع , غير أن أقلية من المسيحيين كانت ترى في النزول إلى هذا الدرك خيانة للمسيح , واعتزمت أن تجد مكانها في السماء عن طرق الفقر , والعفة , والصلاة , فاعتزلت العالم اعتزالا تاماً . ولربما كان مبشرو أشوكا Ashoka ( حوالي 250 ق م ) قد جاءوا إليه بنظرية البوذية وقوانينها الأخلاقية , ولربما كان النساك الذين وجدوا في العالم قبل المسيحية أمثال سرابيس Serapis في مصر أو جماعات الإسنيين في بلاد اليهود قد نقلوا إلى أنطونيوس وباخوم المثل العليا للحياة الدينية الصارمة وأساليب هذه الحياة . وكان الكثيرون من الناس يرون في الرهبنة ملاذاً من الفوضى والحرب اللذين أعقبا غارات المتبربرين , فلم يكن في الدير ولا في الصومعة الصحراوية ضرائب , أو خدمة عسكرية , أو منازعات حربية , أو كدح ممل . ولم يكن يطلب إلى الراهب ما يطلب إلى القسيس من مراسم قبل رسامته , وكان يوقن أنه سوف يحظى بالسعادة الأبدية بعد سنين قليلة من حياة السلام .
ويكاد مناخ مصر أن يغري الناس بحياة الأديرة , ولهذا غصت بالبرهان النساك الفرادى والمتجمعين في الأديرة يعيشون في عزلة كما كان يعيش أنطونيوس , أو جماعات كما كان يعيش باخوم في تابن Tabenne وأنشئت الأديرة للرجال والنساء على طول ضفتي النيل , وكان بعضها يحتوي نحو ثلاثمئة من الرهبان والراهبات . وكان أنطونيوس ( 251 – 356 ) أشهر النساك الفرادى , وقد أخذ ينتقل من عزلة حتى استقر به المقام على جبل القلزم القريب من شاطئ البحر الأحمر . وعرف مكانه المعجبون به فحذوا حذوه في تعبده ونسكه , وبنوا صوامعهم في أقرب مكان منه سمح لهم به , حتى امتلأت الصحراء قبل موته بأبنائه الروحيين . وقلما كان يغتسل , وطالت حياته حتى بلغ مائة وخمساً من السنين , ورفض دعوة وجهها إليه قسطنطين ولكنه سافر إلى الإسكندرية في سن التسعين ليؤيد أثناسيوس ضد اتباع أريوس , وكان يليه في شهرته باخوم الذي أنشأ في عام 325 تسعة أديرة للرجال وديراً واحداً للنساء . وكان سبعة آلاف من أتباعه الرهبان يجتمعون أحيانا ليحتفلوا بيوم من الأيام المقدسة , وكان أولئك الرهبان المجتمعون يعملون ويصلون , ويركبون القوارب في النيل من حين إلى حين ليذهبوا إلى الإسكندرية حيث يبيعون ما لديهم من البضائع ويشترون حاجياتهم ويشتركون في المعارك الكنسية – السياسية .
ونشأت بين النساك الفرادى منافسة قوية في بطولة النسك يتحدث عنها دوشين Abbe Duchesne بقوله إن مكاريوس الإسكندري ( لم يكن يسمع بعمل من أعمال الزهد إلا حاول أن يأتي بأعظم منه ) , فإذا امتنع غيره من الرهبان عن أكل الطعام المطبوخ في الصوم الكبير امتنع هو عن أكله سبع سنين , وإذا عاقب بعضهم أنفسهم بالامتناع عن النوم شوهد مكاريوس وهو ( يبذل جهد المستميت لكي يظل مستيقظاً عشرين ليلة متتابعة ) وحدث مرة في صوم كبير أن ظل واقفا طوال هذا الصوم ليلا ونهارا لا يذوق الطعام إلا مرة واحدة في الأسبوع , ولم يكن طعامه هذا أكثر من بعض أوراق الكرنب , ولم ينقطع خلال هذه المدة عن ممارسة صناعته التي اختص بها وهي صناعة السلال . ولبث ستة أشهر ينام في مستنقع , ويعرض جسمه العريان للذباب السام . ومن الرهبان من أوفوا على الغاية في أعمال العزلة , من ذلك سرابيون Serapion الذي كان يعيش في كهف في قاع هاوية لم يجرؤ على النزول إليها إلا عدد قليل من الحجاج . ولما وصل جيروم وبولا إلى صومعته هذه وجدوا فيها رجلا لا يكاد يزيد جسمه على بضعة عظام وليس عليه إلا خرقة تستر حقويه , ويغطي الشعر وجهه وكتفيه , ولا تكاد صومعته تتسع لفراشه المكون من لوح من الخشب وبعض أوراق الشجر . ومع هذا فإن هذا الرجل قد عاش من قبل بين أشراف رومة , ومن النساك من كانوا لا يرقدون قط أثناء نومهم ومنهم من كان يداوم على ذلك أربعين عاما مثل بساريون Bessarion أو خمسين عاما مثل باخوم . ومنهم من تخصصوا في الصمت وظلوا عددا كبيرا من السنين لا تنفرج شفاههم عن كلمة واحدة . ومنهم من كانوا يحملون معهم أوزانا ثقالا أينما ذهبوا . ومنهم من كانوا يشدون أعضاءهم بأطواق أو قيود أو سلاسل , ومنهم من كانوا يفخرون بعدد السنين التي لم ينظروا فيها إلى وجه امرأة . وكان النساك المنفردون جميعهم تقريبا يعيشون على قدر قليل من الطعام . ومنهم من عمروا طويلا . ويحدثنا جيروم عن رهبان لم يطعموا شيئا غير التين وخبز الشعير , ولما مرض مكاريوس جاءه بعضهم بعنب فلم تطاوعه نفسه على التمتع بهذا الترف , وبعث به إلى ناسك آخر , وأرسله هذا إلى ثالث حتى طاف العنب جميع الصحراء ( كما يؤكد لنا روفينس ) , وعاد مرة أخرى كاملا إلى مكاريوس . وكان الحجاج , الذين جاءوا من جميع أنحاء العالم المسيحي لشاهدوا رهبان الشرق , يعزون إلى أولئك الرهبان معجزات لا تقل في غرابتها عن معجزات المسيح , فكانوا – كما يقولون - يشفون الأمراض ويطردون الشياطين باللمس أو بالنطق بكلمة , وكانوا يروضون الأفاعي أو الآساد بنظرة أو دعوة , ويعبرون النيل على ظهور التماسيح , وقد أصبحت مخلفات النساك أثمن ما تملكه الكنائس المسيحية , ولا تزال مدخرة فيها حتى اليوم .
وكان رئيس الدير يطلب إلى الرهبان أن يطيعوه طاعة عمياء , ويمتحن الرهبان الجدد بأوامر مستحيلة التنفيذ يلقيها عليهم , وتقول إحدى القصص إن واحداً من أولئك الرؤساء أمر راهباً جديداً أن يقفز في نار مضطرمة فصدع الراهب الجديد بالأمر , فانشقت النار حتى خرج منها بسلام . وأمر راهب جديد آخر أن يغرس عصا رئيسه في الأرض ويسقيها حتى تخرج أزهراً , فلبث الراهب عدة سنين يذهب إلى نهر النيل على بعد ميلين من الدير يحمل منه الماء ليصبه على العصا , حتى رحمه الله في السنة الثالثة فأزهرت . ويقول جيروم إن الرهبان كانوا يأمرون بالعمل ( لئلا تضلهم الأوهام الخطرة ) . فمنهم من كان يحرث الأرض , ومنهم من كان يعني بالحدائق أو ينسج الحصر أو السلاسل , أو يصنع أحذية من الخشب , أو ينسخ المخطوطات . وقد حفظت لنا أقلامهم كثيرا من الكتب القديمة . على أن كثيرين من الرهبان المصريين كانوا أميين يحتقرون العلوم الدنيوية ويرون أنها غرور وباطل . ومنهم من كان يرى أن النظافة لا تتفق مع الإيمان , وقد أبت العذراء سلفيا أن تغسل أي جزء من جسدها عدا أصابعها , وكان في أحد الأديرة النسائية 130 راهبة لم تستحم واحدة منهن قط أو تغسل قدميها , ولكن الرهبان أنسوا إلى الماء حوّالي آخر القرن الرابع , وسخر الأب إسكندر من هذا الانحطاط فأخذ يحن إلى تلك الأيام التي لم يكن فيها الرهبان ( يغسلون وجوههم قط ) .
وكان الشرق الأدنى ينافس مصر في عدد رهبانها وراهباتها وعجائب فعالهم . فكانت أنطاكية وبيت المقدس خليتين مليئتين بالصوامع والرهبان والراهبات , وكانت صحراء سوريا غاصة بالنساك , منهم من كان يشد نفسه بالسلاسل إلى صخرة ثابتة لا تتحرك كما يفعل فقراء الهنود , ومنهم من كان يحتقر هذا النوع المستقر من المساكن , فيقضي حياته في الطواف فوق الجبال يطعم العشب البري . ويروي لنا المؤرخون أن سمعان العمودي Simeon Stylites ( 390؟ - 459 ) كان لا يذوق الطعام طوال الصوم الكبير الذي يدوم أربعين يوماً . وقد أصر في عام من الأعوام أثناء هذا الصوم كله على أن يوضع في حظيرة وليس معه إلا القليل من الخبز والماء . وأخرج من بين الجدران في يوم عيد الفصح فوجد أنه لم يمس الخبز أو الماء . وبني سمعان لنفسه في عام 422 عموداً عند قلعة سمعان في شمالي سوريا وعاش فوقه . ثم رأى أن هذا اعتدال في الحياة يجلله العار فأخذ يزيد من ارتفاع العمد التي يعيش فوقها حتى جعل مسكنه الدائم فوق عمود يبلغ ارتفاعه ستين قدماً ولم يكن محيطه في أعلاه يزيد على ثلاثة أقدام , وكان حول قمته سور يمنع القديس من السقوط على الأرض حين ينام . وعاش سمعان على هذه البقعة الصغيرة ثلاثين عاماً متوالية معرضاً للمطر والشمس والبرد . وكان أتباعه يصعدون إليه بالطعام وينقلون فضلاته على سلم يصل إلى أعلى العمود , وقد شد نفسه على هذا العمود بحبل حز في جسمه , فتعفن حوله , ونتن وكثرت فيه الديدان , فكان يلتقط الدود الذي يتساقط من جروحه ويعيده إليها ويقول : ( كلي مما أعطاك الله !) . وكان يلقى من منبره العالي مواعظ على الجماهير التي تحضر لمشاهدته , وكثيراً ما هدى المتبربرين , وعالج المرضى , واشترك في السياسة الكنسية , وجعل المرابين يستحون فينقصون فوائد ما يقرضون من المال إلى ستة في المائة بدل اثني عشر . وكانت تقواه سبباً في إيجاد طريقة النسك فوق الأعمدة , وهي الطريقة التي دامت اثني عشر قرناً , ولا تزال باقية حتى اليوم بصورة دنيوية خالصة ) . ومثل ذلك ذكر هرلبت في كتابه . ودي سي سيندرول . وستر زي غواسكي . وبروكوبيوس . وونكل مين .
فجاء الإسلام فهذب هذه التعاليم ونقحها , وحذف منها الغلو والتطرف , ومنع الناس عن التشدد في الدين , وتعذيب النفس , وعرفهم الحنيفية السمحة البيضاء , النزيهة عن الانغماس في الدنيا والجري وراء ملذاتها وشهواتها , كما راعى جانب الطبيعة والفطرة , وأباح الطيبات من الرزق والحلال من المال , والتمتع بالجائز من الدنيا , فوضع عن الناس إصرهم والأغلال التي كانت عليهم , وأمرهم بالقصد والاعتدال بين التجرد المحض والتزهد الصرف , وبين الإسراف المطلق والتقتير الفاحش , فقال جل وعلا في كتابه الذي أنزله على سيد البشر صلوات الله وسلامه عليه : { يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ 31 قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } وقال : { وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ }
وقال : { هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً } وقال : { وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } وقال : { وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُم مِّن جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ 80 وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّمَّا خَلَقَ ظِلاَلاً وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ 81 } وقال : { وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ 5 وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ 6 وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ 7 } وقال : { فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }
وجعل المال قواماً للإنسان حيث قال :
{وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَاماً } .
وقال : { وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا } . و { وَاللّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ } .
وأمر المؤمنين أن يتوجهوا إليه بطلب الدنيا وحسناتها مع الآخرة وحسناتها قائلين : { رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } . كما أمر من إجتمع عنده مال الدنيا ورزقها أن يخرج منها حقا للسائل والمحروم وزكاة وصدقة , وأن يعمروا مساجد الله , وينفقوا على ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل فقال تعالى : { وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ } وقال : { كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } .
وقال : { فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ } .
وقال مع ذلك : { إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا } . كما قال : { وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ } .
فهذا ما قد ورد في كتاب الله , وما أكثره في هذا المعنى . وأما سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم , الأصل الثاني للشريعة الإسلامية فلم يرد فيها أن صاحبها صلى الله عليه وسلم قال لمن أراده أن يتبعه : بع واتبعني , بل قال لمن كان يريد أن يتصدق بأكثر ماله – وهو سعد بن أبي وقاص – وكان مريضا في حجة الوداع فعاوده الرسول صلى الله عليه وسلم وكان عازما على الصدقة بثلثي ماله , وفي رواية أخرى : بماله كله , فسأله الرسول صلى الله عليه وسلم عما ترك لولده – وفي رواية أنه لم يكن له إلا بنت - , فقال : الثلث , والثلث كثير , إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس .
وكذلك نهى كعب بن مالك عن التصدق بجميع ماله كما ورد في الصحيحين أن عبيد الله بن كعب بن مالك قال : ( سمعت كعب بن مالك يحدث بحديث توبته , قال فقلت : يا رسول الله , إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله عز وجل وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم فقال : أمسك بعض مالك فهو خير لك ) .
وعن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال : ( نعم المال الصالح للرجل الصالح ) .
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا حسد إلا في اثنتين : رجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق , ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها ) .
وفي الصحيحين أيضا عن أم سليم أنها قالت : ( يا رسول الله , خادمك أنس ادع له – فدعا له رسول الله عليه الصلاة والسلام – وفيما دعا له أن يكثر ماله , وإليك النص : اللهم أكثر ماله وولده وبارك له فيهما ) . وكان صلى الله عليه وسلم يردد كثيرا : ( ما نفعني مال كمال أبي بكر ) . و ( إن من أمنَّ الناس علي في ماله وصحبته أبو بكر ) . كما أمر أم هانئ باتخاذ الغنم حيث قال : ( اتخذي غنما , فإن فيها بركة ) . وادخر رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهله قوت سنة كما ورد في الصحاح , واللفظ لمسلم عن عمر أنه قال : ( كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله مما لم يوجف عليه المسلمون بخيل ولا ركاب , فكانت للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة , فكان ينفق على أهله نفقة سنة , وما بقي يجعله في الكراع والسلاح عدة في سبيل الله – وفي رواية – كان يحبس منه قوت أهله لسنة ) .
وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم أحكام الزكاة والصدقات والإنفاق في سبيل الله , ولم تكن هذه الأحكام إلا لمن يملكه , ولو لم يكن ما كان لبيانها غرض ولا فائدة .
فهذه هي تعاليم الكتاب والسنة , وفي ضوء هذه نرى الصوفية والمتقدمين منهم بالأخص والمتأخرين أيضا بأيتهما يتمسكون ؟ لكي يتضح الأمر عن مرجع تصوفهم ومعول أمرهم . فذكر المحاسبي المتوفى 243 ه عن صوفي قديم آخر إبراهيم بن أدهم أنه قال : إن كنت تحب أن تكون لله وليا , وهو لك محبا فدع الدنيا والآخرة , ولا ترغبن فيهما .
ونقل السهر وردي والسراج الطوسي والقشيري عن السري السقطي المتوفى سنة 251 هـ أنه قال : ( لا يكن معك شيء تعطي منه أحد ) .
وذكر القشيري عن واحد آخر من الصوفية الأوائل داود الطائي المتوفى 165 هـ أنه قال : ( صم عن الدنيا , واجعل فطرك الموت , وفر من الناس كفرارك من السبع ) .
وسيد الطائفة الجنيد البغدادي يقول : ( أحب للمريد المبتدئ أن لا يشغل قلبه بالتكسب , وإلا تغير حاله ) . ويقول أيضا : ( ما أخذنا التصوف عن القيل والقال , لكن عن الجوع وترك الدنيا وقطع المألوفات والمستحسنات ) .
ويبين ابن عجيبة الحسني حالة أهل التصوف في كتابه ( إيقاظ الهمم ) : ( وكان بعضهم إذا أصبح عنده شيء أصبح حزينا , وإذا لم يصبح عنده سيء أصبح فرحا مسرورا ) .
وقال أيضا : ( الفقر أساس التصوف , وبه قوامه ) . وروى مثل ذلك عن أبي محمد رويم المتوفى 303 هـ أنه قال : ( مبنى التصوف على الفقر ) .
نعم , الفقر الذي تعوذ منه سيد الخلائق المدعم بالوحي , والمعصوم بعصمة الله وقال : ( اللهم إني أعوذ بك من الفقر ) . فجعلوا ذلك الفقر أساس التصوف وقوامه , وأقاموا بناءه عليه . ونقل الطوسي عن الجنيد أنه سئل عن الزهد فقال : ( الزهد هو تخلي الأيدي من الأملاك ) .
وبمثل ذلك قال رويم بن أحمد الصوفي المتوفى 303 هـ حينما سئل عن الزهد ما هو ؟ . فقال : ( هو ترك حظوظ النفس من جميع ما في الدنيا ).
وذكر الشعراني عن ابن عربي أنه قال : ( من أراد فهم المعاني الغامضة من كلام الله عز وجل وكلام رسوله وأوليائه فليزهد في الدنيا حتى يصير ينقبض خاطره من دخولها , ويفرح لزوالها ) .
وينقل أيضا عن إبراهيم المتبولي أنه قال : ( كل فقير لا يحصل له جوع ولا عري فهو من أبناء الدنيا ) .
وذكر الصوفي عماد الدين الأموي في كتابه ( حياة القلوب ) أن رجلا دخل على بعض الصوفية يتكلم في الزهد وعنده قميص معلق وعليه آخر , فقال : يا شيخ , أما تستحي أن تتكلم في الزهد ولك قميصان . وزجر السري السقطي رجلا كان يملك عشرة دراهم وقال : أنت تقعد مع الفقراء ومعك عشرة دراهم . وذكر الكلاباذي عن أحمد بن السمين أنه قال : كنت أمشي في طريق مكة , فإذا أنا برجل يصيح : أغثني يا رجل , الله , الله . قلت مالك , مالك ؟ خذ مني هذه الدراهم , فإني ما أقدر أن أذكر الله وهي معي , فأخذتها منه فصاح : لبيك اللهم لبيك , وكانت أربعة عشر درهما .
وقال سهل بن عبد الله التستري : اجتمع الخير كله في هذه الأربع خصال , وبها صار الأبدال أبدالا : أخماص البطون , والصمت والخلوة , والسهر .
| |
| | | الشيخ عودة الشيخ عودة
عدد المساهمات : 1748 تاريخ التسجيل : 28/09/2008 العمر : 74
| موضوع: رد: المنْشَأ وَالمَصَادِر تأليف الأستاذ إحسان إلهي ظهير الإثنين نوفمبر 02, 2015 2:30 pm | |
| وينقل الهجويري عن أبي بكر الشبلي أن واحدا من علماء الظاهر سأله على سبيل التجربة عن الزكاة قائلا : ( ما الذي يجب أن يعطى من الزكاة ؟ . قال : حين يكون البخل موجودا ويحصل المال فيجب أن يعطى خمسة دراهم عن كل مائتي درهم , ونصف دينار عن كل عشرين دينارا , هذا في مذهبك . أما في مذهبي فيجب أن لا تملك شيئا حتى تتخلص من مشغلة الزكاة ) .
وقال الهجويري : ( السكون إلى مألوفات الطبع يقطع صاحبها عن بلوغ درجات الحقائق ) .
وينقلون عن الرفاعي أحمد بن أحمد بن أبي الحسين صاحب الطريقة الرفاعية أنه كان يقول : ( أكره للفقراء دخول الحمام , وأحب لجميع أصحابي الجوع والعري والفقر والذل والمسكنة , وأفرح لهم إذا نزل بهم ذلك ) .
ونقل أبو المظفر أن أبا بكر الوراق قال : ( الزهد مركب من الحروف الثلاثة : الزاء , والهاء , والدال , فالزاي ترك الزينة , والهاء ترك الهوى , والدال ترك الدنيا ) . ونقل أبو طالب المكي عن سفيان أنه قال : ( الصائم إذا اهتم في أول النهار بعشائه كتب عليه خطيئة , وكان سهل ( التستري ) يقول : إن ذلك ينقص من صومه ) .
ونقل عن حذيفة المرعشي أنه قال : ( منذ أربعين سنة لم أملك إلا قميصا واحدا ) .
وذكر الكلاباذي في تعرفة عن أبي الحسن محمد بن أحمد الفارسي أنه قال : ( من أركان التصوف ترك الاكتساب وتحريم الادخار ) . ونقل نجم الدين الكبري المتوفى 618 هـ : التصوف هو نبذ الدنيا كلها . ويقول الهروي عبد الله الأنصاري المتوفي 481 هـ : ( الزهد أصله تعذيب الظاهر بترك الدنيا ) . وينقل ابن الملقن عن أستاذ الجنيد أنه قال : ( علامة الفقير الصادق أن يفتقر بعد الغنى , وينحط بعد الشهرة ) . وينقل السلمي عن سمنون المحب – وهو من أصحاب السري السقطي – أنه سئل عن الفقير الصادق فقال : ( الذي يأنس بالعدم كما يأنس الجاهل بالغنى , ويستوحش من الغنى كما يستوحش الجاهل من الفقر ) .
وذكروا عن أبي يزيد البسطامي أنه سئل : بأي شيء نلت هذه المعرفة ؟ فقال : ( ببطن جائع وبدن عار ) . وأخيرا ذكر الكلاباذي عن الصوفية فقال : ( أنهم قوم تركوا الدنيا فخرجوا عن الأوطان , وهجروا الأخدان , وساحوا في البلاد , وأجاعوا الأكباد , وأعروا الأجساد ) .
مع اعترافهم بأن هذه هي المسيحية كما نص على ذلك أبو طالب المكي حيث قال : ( روينا عن عيسى عليه السلام أنه قال : ( أجيعوا أكبادكم , وأعروا أجسادكم لعل قلوبكم ترى الله عز وجل ) . فالنصوص في هذا المعنى أكثر من أن تعد وتحصى , وأن يسعها كتاب فهيهات هيهات أن يسعها باب أو جزء من الباب , وكل هذه النصوص تنطق صراحة عن مصدرها الأصلي ومرجعها الحقيقي , ولا علاقة لها بتعاليم الإسلام وإرشاداته , بل أنها مخالفة تماما لتلك , ولكي يسهل على القراء والباحثين المقارنة ذكرنا ما ورد في القرآن والسنة في هذا الخصوص , كما أوردنا قبل ذلك توجيهات مسيحية وتعاليم رهبانية وعلى ذلك قال C.H. BECKER وآسين بلاثيوس , ونيكلسون بأن ترك الدنيا , ومعنى التوكل جاء في التصوف من المسيحية .
ونص فون كريمر على أن الزهد الصوفي نشأ بتأثير من الزهد المسيحي . وقال جولد زيهر : ( إن مدح الفقر وإيثاره على الغنى كان من العناصر النصرانية ) .
وأقر بذلك الكاتب الإيراني الكبير الدكتور قاسم غني في كتابه ( تاريخ التصوف في الإسلام ) .
الزّاويَةُ وَ الملْبَسُ
وأما التزام الصوفية لبس الصوف لكونه شعارا وعلامة لهم فأيضا مأخوذ من رهبنة المسيحية لأنه كان زيهم الخاص بهم كما أقر بذلك الصوفي المشهور في طبقاته عن أبي العالية أنه كان ( يكره للرجل زي الرهبان من الصوف , ويقول : زينة المسلمين التجمل بلباسهم ) ز
ومثل ذلك نقل ابن عبد ربه في ( العقد الفريد ) عن حماد بن سلمة أنه قال لفرقد السنجي حينما رآه لابسا الصوف : ( دع عنك هذه النصرانية ) .
وأورد ابن الجوزي مثل هذه الرواية بسنده حيث قال : ( أخبرنا محمد بن عبد الباقي بن أحمد , حدثنا حمد بن أحمد الحداد , حدثنا أبو نعيم الحافظ , حدثنا أبو حامد بن جبلة , حدثنا حمد بن إسحاق , حدثنا إسماعيل بن أبي الحارث , حدثنا هارون بن معروف , عن ضمرة , قال : سمعت رجلا يقول : قدم حماد بن سلمة البصرة , فجاءه فرقد السنجي وعليه ثوب صوف , فقال له حماد : ضع عنك نصرانيتك هذه , فلقد رأيتنا ننتظر إبراهيم – يعني النخعي – فيخرج علينا وعليه معصفرة ) .
وأورد أيضا رواية أخرى مسندة بطريق البخاري رحمة الله عليه قال : أخبرنا محمد بن ناصر وعمر بن ظفر , قالا : حدثنا محمد بن الحسن الباقلاوي , حدثنا القاضي أبو العلاء الواسطي , حدثنا أبو نصر أحمد بن محمد السازكي , حدثنا أبو الخير أحمد بن حمد البزار , حدثنا محمد بن إسماعيل البخاري , حدثنا علي بن حجر , حدثنا صالح بن عمر الواسطي عن أبي خالد , قال : جاء عبد الكريم أبو أمية إلى أبي العالية وعليه ثياب صوف , فقال له أبو العالية : ( إنما هذه ثياب الرهبان , إن المسلمين إذا تزوروا تجملوا ) .
ونقل الشعراني عن سهل التستري حكاية باطلة غريبة تدل على أن الصوف كان لباس أصحاب المسيح , وهذا هو نصها : أن سهل بن عبد الله التستري كان يقول : ( اجتمعت بشخص من أصحاب المسيح عليه السلام في ديار قوم عاد فسلمت عليه , فرد علي السلام , فرأيت عليه جبة من صوف فيها طراوة , فقال لي : إن لها علي من أيام المسيح , فتعجبت من ذلك .
فقال : يا سهل إن الأبدان لا تخلق الثياب , إنما يخلقها رائحة الذنوب , ومطاعم السحت , فقلت له : فكم لهذه الجبة عليك ؟ فقال : لها سبعمائة سنة ) .
وذكر السهر وردي أيضا أنه كان الصوف لباس عيسى عليه السلام فقال : ( كان عيسى عليه السلام يلبس الصوف , ويأكل من الشجرة , ويبيت حيث أمسى ) .
ومثل ذلك ذكر الكلاباذي . ( وعلى ذلك قال نولدكة ونيكلسون وماسينيون إن التصوف الإسلامي أخذ لبسة الصوف من الرهبان النصارى ) . وزاد نيكلسون أشياء في مقالاته العديدة التي نشرت في دوائر المعارف , وجمعت بعضها باسم ( الدراسات في التصوف الإسلامي وتاريخه ) منها ما قاله تحت عنوان : الزهد في الإسلام : ( كان عرب الجاهلية على حظ قليل من التفكير الديني , وكان تفكيرهم في هذه الناحية مضطرباً وغامضاً . وقد شغلهم انهماكهم في متع الحياة ومتاعبها عن التفكير في حياة أخروية , ولم يخطر ببالهم أن يعدوا أنفسهم لحياة روحية وراء حدود القبر . وقد غرست المسيحية – لا الكنيسة المسيحية , بل المسيحية غير التقليدية وغير المنظمة – بذور الزهد في بلاد العرب قبل البعثة المحمدية , وظل أثرها يعمل عمله في تطور الزهد في الإمبراطورية الإسلامية في عصورها الأولى . ونحن نعلم أن المسيحية كانت منتشرة قبل الإسلام بين قبائل شمالي الجزيرة العربية , وأن كثيراً من العرب كانوا على شيء من العلم – مهما كان قليلا وسطحيا – بعقائد الديانة المسيحية وطقوسها . بل إن الإشارات التي وردت في الشعر الجاهلي عن رهبان المسيحيين لتدل على أن عرب البادية كانوا يجلون هؤلاء الرهبان ويعظمونهم , وكانوا يهتدون بأنوارهم المنبعثة من صوامعهم في ظلام الليل وهم يسيرون في الصحراء فضرب هؤلاء الرهبان وغيرهم من الزهاد الهائمين على وجوههم , مثلا للعرب الوثنيين في الزهد , وحركوا في نفوس بعضهم , وهم المعروفون بالحنفاء , ميلاً إلى النفور من الأوثان ورفض عبادتها . فدان هؤلاء بعقيدة التوحيد , واصطنع بعضهم الزهد ومجاهدة النفس , ولبسوا الصوف وحرموا على أنفسهم بعض أنواع الطعام ) .
وقال أيضا : ( كانت الثياب المصنوعة من خشن الصوف علامة على الزهد قبل الإسلام , وفي هذا حاكى العرب رهبان المسيحيين . وقد شاع استعمال هذا النوع من الثياب بين زهاد المسلمين الأوائل , ومنه اشتق اسم الصوفية الذي استعمل قبل نهاية القرن الثاني الهجري . على أن اسما آخر أطلق على هؤلاء الزهاد وإن كان أقل شيوعا من اسم الصوفي وهو ( مسوحي ) نسبة إلى مسوح جمع مسح وهو اللباس من الشعر . وقد جرت العادة بأن يلبس الزهاد , رجالا كانوا أو نساء , جبة مدرعة من الصوف وأن تلبس المرأة أحيانا غطاء على الرأس من القماش نفسه , وهذا الغطاء هو المعروف بالخمار . وقد استنكر سفيان الثوري المتوفى سنة 161 هـ لبس الصوف , وعده بدعة , واستنكر كذلك غيره من المسلمين لأنهم اعتبروه رمزا للمسيحية وعلامة على الرياء ) .
وقال أيضا تحت عنوان التصوف باحثا عن كلمة الصوفي نقلا عن نولدكه : ( إن المسلمين في القرنين الأولين للإسلام كانوا يلبسون الصوف , وبخاصة من سلك منهم طريق الزهد , وأنهم كانوا يقولون : لبس فلان الصوف : بمعنى تزهد ورغب عن الدنيا .
فلما انتقل الزهد إلى التصوف قالوا : لبس فلان الصوف بمعنى : أصبح صوفيا . وكذلك الحال في اللغة الفارسية : فإن قولهم ( بشمينا بوش ) معناه : يلبس لباس الصوف . وقد أخذ زهاد المسلمين الأوائل عادة لبس الصوف عن رهبان المسيحيين ونساكهم , يدل على ذلك أن حماد بن أبي سليمان قدم البصرة , فجاءه فرقد السنجي وعليه ثياب صوف فقال له حماد ضع عنك نصرانيتك هذه . وقد أطلقوا على هذه الثياب ( زي الرهبان ) , واستشهدوا بحديث معناه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن عيسى كان يلبس ثياب الصوف ) .
وقال جولدزيهر : ( وقد حاكى هؤلاء الزهاد المسلمون وعبادهم نساك النصارى ورهبانهم , فارتدوا الصوف الخشن ) .
هذا وبمثل هذا قال الدكتور قاسم غني : ( إن ارتداء الملابس الصوفية أو التصوف الذي نشأ عنه كلمة الصوفية كما تقدم كان من عادات الرهبان المسيحيين , ثم صار فيما بعد شعارا للزهد عند الصوفية . والدلق الذي ورد ذكره في أشعار الصوفية وكتبهم استعمل في معنى لباس الصوفية في كل مكان . أي الخرقة التي كانوا يرتدونها فوق جميع الملابس والظاهر أنها كانت من صوف . والدلق إما أن يكون من قطعة واحدة أو مرقعا , ويسمى بالدلق المرقع في هذه الحال , وإذا كان من ألوان مختلفة يسمى حينئذ ( الدلق الملمع ) والدلق عند صوفية الإسلام سواء كان لونه أزرق أو كان أسود يسمى دائما : ( بالدلق الأزرق ) وخرقة الرهبان التي كانت على ما يظهر بيضاء في بادئ الأمر صارت بعد ذلك سوداء وزمرة ( السوكواران ) أي المفجوعون , الذين يتكلم عنهم الفردوسي في الشاهنامة ليسوا إلا أساقفة المناظرة المسيحيين ممن لجأوا إلى إيران في القرن الثالث الميلادي وهم الذين كانوا يلبسون ملابس الصوف الخشنة على أجسامهم كي يكون ذلك نوعا من التقشف والأخششان , فكان إصطلاح ( صوفي ) و ( وصوفية ) الذي هو بالفارسية ( بشمينه بوش ) أي لابس الصوف وكان يطلق على رجال المسيحيين ونسائهم ) . ولا بأس من إيراد تعليقة ذكرت تحت هذه العبارة : ( ويقول ياقوت في كتاب ( معجم البلدان ) في حواشي ( دير العذارى ) : وقال أبو الفرج :ودير العذارى بسر من رأى إلى الآن موجود يسكنه الرواهب . وحدث الجاحظ في كتاب ( المعلمين ) قال : حدثني ابن الفرج الثعلبي : أن فتيانا من بني ملاص من ثعلبة أرادوا القطع على مال يمر بهم قرب دير العذارى فجاءهم من أخبرهم أن السلطان قد علم بهم وأن الخيل قد أقبلت تريدهم , فاستخفوا في دير العذارى , فلما صاروا فيه سمعوا وقع حوافر الخيل التي تطلبهم راجعة , فأمنوا ثم قال بعضهم لبعض : ما لذي يمنعكم أن تأخذوا بالقس فتشدوا وثاقه ثم يخلوا كل واحد منكم بهذه الأبكار , فإذا طلع الفجر تفرقنا في البلاد , وكنا جماعة بعدد الأبكار اللواتي كن أبكارا في حسابنا . ففعلنا ما اجتمعنا عليه , فوجدناهن جميعا ثيبات قد فرغ منهن القس قبلنا .. فقال بعضنا :
ودير العذارى فضوح لهن وعند القسوس حديث عجيب خلونا بعشــــرين صـوفية نــيك الرواهب أمر غريب إذا هن يرهزن رهز الظراف وباب المدينة فج رحيب
ويبدو من تعبير ( الصوفية ) في هذا الشعر أن المقصود منه الراهبات المسيحيات ) .
ولذلك خالف علماء الأمة وفقهاؤها لبسه .
فلقد نقل الإمام ابن تيمية عن أبي الشيخ الأصبهاني عن إسناده أن ابن سيرين بلغه أن قوما يفضلون لباس الصوف فقال : ( إن قوما يتخيرون الصوف يقولون إنهم متشبهون بعيسى بن مريم , وهدي نبينا أحب إلينا , وكان النبي صلى الله عليه وسلم يلبس القطن وغيره ) .
كما نقل ابن الجوزي عن أحمد بن أبي الجواري أنه قال : قال لي سليمان بن أبي سليمان : ( أي شيء أرادوا بلباس الصوف ؟ قلت : التواضع . قال : ما يتكبر أحد إلا إذا لبس الصوف .
ونقل عن سفيان الثوري أنه قال لرجل عليه صوف : لباسك هذا بدعة . كما روى عن الحسن بن الربيع أنه قال : سمعت عبد الله بن المبارك يقول لرجل رأى عليه صوفا مشهورا : أكره هذا , أكره هذا .
وروي عن بشر بن الحارث أنه سئل عن لبس الصوف . فشق عليه , وتبين الكراهة في وجهه , ثم قال : لبس الخز والمعصفر أحب إلي من لبس الصوف في الأمصار . وروي عن أبي سليمان الداراني أنه قال لرجل لبس الصوف : إنك قد أظهرت آلة الزاهدين , فماذا أورثك هذا الصوف .
كما رو يعن النضر بن شميل أنه قال لبعض الصوفية : تبيع جبتك الصوف ؟ فقال : إذا باع الصياد شبكته بأي شيء يصطاد ) .
هذا ونقل عن غيره مثل هذا .
هذا من ناحية الملابس . وأما اتخاذهم الخانقاوات والتكايا والزوايا , وانعزالهم عن الدنيا فلم تكن إلا مأخوذة من الرهبنة المسيحية أيضا كما ذكرنا فيما مر نقلا عن الجامي في نفحاته أن أول خانقاه بنيت هي التي بناها أمير مسيحي من الرملة في الشام .
وهي تشبه تماما أديرة الرهبان النصارى ذات الأسوار العالية البعيدة عن عالم الناس والعمران , نتيجة للهروب من عالم الترف المادي إلى عالم الترف الروحي , ومن هذه الأديرة تطورت كثير من الأفكار الإيجابية , خرج بها رهبان لفتح حقول جديدة على مبادئ من الطهارة والفقر والخضوع .
( أما الطهارة فكان معناها ليس تطهير الجسد بالصوم , بل كانت تعني فوق ذلك قطع علاقات محبة الأب أو الأم أو الابن أو الأخت حتى يكون الراهب أقدر على خدمة البشر , وتصبح المحبة هنا ديانة إنسانية شاملة ز أما الفقر فكان يعني التحرر المطلق من قيود الأشياء , ورفض المصالح المادية من أجل خدمة الإنسان , وكان الخضوع يعني الاستسلام الكامل لإرادة الله للقيام بالواجبات ) .
ولقد صرح الكتور قاسم غني أن المسيحية : ( استطاعت أن تعلم صوفية المسلمين آدابا وعادات كثيرة عن طريق زمرة المتقشفين وفرق الرهبان المتجولين , ولا سيما الجماعات السورية المتجولة في كل مكان ممن كانوا على الأغلب من فرق النصارى النسطوريين , في حين أن تأثير كنائس المسيحية في المسلمين كان في نطاق محدود جدا .
وأن الحياة في الصوامع والخانقاوات كانت أيضا مقتبسة من المسيحية إلى حد كبير ) .
وبمثل ذلك قال نيلكسون , المستشرق الإنجليزي الكبير الذي عرف باختصاصه في الدراسات عن التصوف , حيث يذكر تحت تطور الزهد في العصور الوسطى :
( لم يخرج الصوفية كثيرا على الحديث القائل : لا رهبانية في الإسلام إلا بعد مضي عدة قرون – إلى أن يقول - : وإننا لا نعلم إلا القليل عن نظام الزهد الرهباني ونشأته في العصور الإسلامية الأولى , ويقال : أن أول خانقاه أسست لمتصوفة المسلمين كانت برملة في فلسطين قبل نهاية المائة الثامنة الميلادية على ما يظهر , وأن مؤسسها كان راهبا مسيحيا ... وقد الصوفية بعض الأحاديث المدخولة على النبي , التي تشير لإباحة العزوبة لجميع المسلمين بعد المائتين من الهجرة فقد ظهر نظام الرهبنة في الإسلام حوالي هذا التاريخ تقريبا . نعم لم يعم الزهد في العالم الإسلامي , ولم تظهر فيه الربط والزوايا المنظمة إلا في عصر متأخر , لأن القارئ للكتب التي ألفت في التصوف حتى منتصف القرن الخامس الهجري , مثل قوت القلوب لأبي طالب المكي , وحلية الأولياء لأبي نعيم , والرسالة للقشيري , قلما يجد فيها إشارة إلى هذا الربط والزوايا , ومع ذلك نجد أن كبار الصوفية من رجال القرنين الثالث والرابع قد اجتمع حولهم المريدون ليأخذوا عنهم الطريق ويتأدبوا بآدابه . ومن الطبيعي أن هؤلاء المريدين أقاموا في بيوت دينية من نوع ما , كلما وجدوا إلى ذلك سبيلا . ويذكر المقريزي أن الخانقاوات وجدت في الإسلام في القرن الخامس الهجري المقابل للقرن الحادي عشر الميلادي . وإذا سلمنا بقول المقريزي فعلى معنى أن خانقاوات الصوفية التي كان يجتمع فيها المريدون تحت إشراف مشايخهم , لم تكثر وتنتشر في بلاد المملكة الإسلامية إلا في هذا التاريخ , وهذا يتفق مع ما ورد في كتاب آثار البلاد للقزويني حيث يقول إن أبا سعيد بن أبي الخير ( المتوفى 1049 م لا حوالي 815 كما يقول دي ساسي خطأ – ولا كما يقول دوزي وفون كريمر نقلا عن دي ساسي ) يذكر عنه أنه مؤسس نظام الرهبنة في التصوف الإسلامي وأول واضع لقواعده وقوانينه . وبعد ذلك بمائتي سنة – أي بين 450 , 650 – زيد في نظام الرهبنة وانتشر هذا النظام على أيدي رجال الطرق , كالعدوية والقادرية والرفاعية وغير ذلك من الطرق التي توالى ظهورها سريعا ) .
هذا بالنظر إلى أنه لا يوجد في تعاليم القرآن والسنة رسم ولا أثر لهذه التكايا والزوايا والخانقاوات والربط , بل أمر المسلمين ببناء المسجد للعبادة كما أمروا بتعمير بيوتهم بقراءة القرآن فيها والعبادة .
وأما بناء الأمكنة الخاصة للتعبد والذكر والأوراد فليس إلا تقليلا لشأن المساجد , وصرف الناس عنها , وإعطاء التكايا والزوايا والربط مكانتها وشأنها , وفي هذا مخالفة لأوامر الله وتعاليم رسوله صلوات الله وسلامه عليه . وعلى ذلك قال ابن الجوزي : ( أما بناء الأربطة فإن قوما من المتعبدين الماضين اتخذوها للانفراد بالتعبد , وهؤلاء إذا صح قصدهم فهم على الخطأ من ستة أوجه : أحدها : أنهم ابتدعوا هذا البناء وإنما بنيان أهل الإسلام المساجد . والثاني : أنهم جعلوا للمساجد نظيرا يقلل جمعها . والثالث : أنهم أفاتوا أنفسهم نقل الخطى إلى المساجد . والرابع : أنهم تشبهوا بالنصارى بانفرادهم في الأديرة . والخامس : أنهم تعزبوا وهم شباب وأكثرهم محتاج إلى النكاح . والسادس : أنهم جعلوا لأنفسهم علما ينطق بأنهم زهاد فيوجب ذلك زيارتهم والتبرك بهم . وإن كان قصدهم غير صحيح فإنهم قد بنوا دكاكين للكوبة ومناخا للبطالة وأعلاما لإظهار الزهد .
وقد رأينا جمهور المتأخرين منهم مستريحين في الأربطة من كد المعاش متشاغلين بالأكل والشرب والغناء والرقص يطلبون الدنيا من كل ظالم ولا يتورعون من عطاء ماكس . وأكثر أربطتهم قد بناها الظلمة , ووقفوا عليها الأموال الخبيثة . وقد لبس عليهم إبليس أن ما يصل إليكم رزقكم فاسقطوا عن أنفسكم كلفة الورع . فهمتهم دوران المطبخ والطعام والماء البارد . فأين جوع بشر , وأين ورع سري , وأين جد الجنيد . وهؤلاء أكثر زمانهم ينقضي في التفكه بالحديث أو زيارة أبناء الدنيا , فإذا أفلح أحدهم أدخل رأسه في زرمانقته فغلبت عليه السوداء , فيقول : حدثنا قلبي عن ربي . ولقد بلغني أن رجلا قرأ القرآن في رباط فمنعوه , وأن قوما قرأوا الحديث في رباط , فقالوا لهم : ليس هذا موضعه ) .
هذا وقد أورد ابن الجوزي حديثا بسنده إلى الرسول صلى الله عليه وسلم عن أبي عمامة أنه قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية من سراياه , قال : فمر رجل بغار فيه شيء من ماء , قال : فحدث نفسه بأن يقيم في ذلك الغار فيقوته ما كان فيه , وفيه شيء من ماء , ويصيب ما حوله من البقل , ويتخلى عن الدنيا . ثم قال : لو أني أتيت نبي الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له , فإن أذن لي فعلت , وإلا لم افعل , فأتاه فقال : يا نبي الله , إني مررت بغار فيه ما يقوتني من الماء والبقل فحدثتني نفسي بأن أقيم فيه وأتخلى من الدنيا . قال : فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم : ( إني لم أبعث باليهودية ولا بالنصرانية ولكنني بعثت بالحنيفية السمحة , والذي نفس محمد بيده , لغدوة أو روحة في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها ) . وأما استماعهم إلى نصائح الرهبان ودروسهم ومواعظهم , وإنصاتهم لهم وتلمذهم عليهم , وتمجيدهم إياهم , والثناء عليهم فمنقول عنهم بكثرة , فإن إبراهيم بن أدهم – وهو من أوائل الصوفية – صرح بذلك حيث قال : ( تعلمت المعرفة من راهب يقال له : سمعان , دخلت عليه في صومعته فقلت له : يا سمعان , منذ كم وأنت في صومعتك هذه ؟ . قال : منذ سبعين سنة . قلت : ما طعامك ؟ قال : يا حنيفي وما دعاك إلى هذا ؟ قلت : أحببت أن أعلم . قال : في ليلة حمصة . قلت : فمن الذي يهيج من قلبك حتى تكفيك هذه الحمصة ؟ قال : ترى الذين بحذائك ؟ قلت : نعم , قال إنهم يأتونني في كل سنة يوما واحدا فيزنون صومعتي , ويطوفون حولها , يعظمونني بذلك , وكلما تثاقلت نفسي عن العبادة ذكرتها تلك الساعة , فأنا أحتمل جهد سنة لعزّ ساعة , فاحتمل يا حنيفي جهد ساعة لعزّ الأبد , فوقر في قلبي المعرفة , فقال : أزيدك ؟ قلت : نعم , قال : أنزل عن الصومعة , فنزلت فأدلى إليّ ركوة فيها عشرون حمصة . فقال لي : أدخل الدير فقد رأوا ما أدليت إليك , فلما دخلت الدير اجتمعت النصارى , فقالوا : يا حنيفي , ما الذي أدلى إليك الشيخ ؟ قلت : من قوته , قالوا : وما تصنع به ؟ نحن أحق به . ساوم , قلت : عشرين دينارا , فأعطوني عشرين دينارا , فرجعت إلى الشيخ , فقال : أخطأت لو ساومتهم عشرين ألفا لأعطوك , هذا عز من لايعبده , فانظر كيف تكون بعز من تعبده يا حنيفي , أقبل على ربك ) . | |
| | | الشيخ عودة الشيخ عودة
عدد المساهمات : 1748 تاريخ التسجيل : 28/09/2008 العمر : 74
| موضوع: رد: المنْشَأ وَالمَصَادِر تأليف الأستاذ إحسان إلهي ظهير الإثنين نوفمبر 02, 2015 2:31 pm | |
| .
ونقل الهجويري عن صوفي قديم آخر , وهو : إبراهيم الخواص أنه قال : ( سمعت ذات مرة أن ببلاد الروم راهبا مقيما بالدير منذ سبعين سنة بحكم الرهبانية , فقلت : واعجبا ! شرط الرهبانية أربعون سنة . بأي شرف أخلد هذا الرجل إلى الدير سبعين سنة ؟ وقصدته , فلما اقتربت من ديره فتح كوة وقال لي : يا إبراهيم ! عرفت لأي أمر جئت . أنا لم أقم هنا رهبانية في هذه السبعين عاما , بل لأن لي كلبا هائجا , فأقمت هنا أحرسه وأكفي الخلق شره , وإلا فلست أنا هذا ( الذي تظن ) . فلما سمعت منه هذا الكلام قلت : يا إلهي تعاليت ! أنت قادر على أن تهدي العبد طريق الصواب في عين الضلالة , وتكرمه بالصراط المستقيم . فقال لي : يا إبراهيم ! إلام تطلب الناس ؟ إمض واطلب نفسك , وإذا وجدتها فاحرسها , لأن الهوى يرتدي ثوب الإلهية كل يوم على ثلثمائة وستين لونا , ويدعو العبد إلى الضلالة ) . وذكر الشعراني أن بعض أسلاف الصوفية حاولوا تقرير مذهب رهبان النصارى , وكونهم على الحق والصواب , ومن قبل رسول الله الناطق بالوحي صلوات الله وسلامه عليه – كذبا وزورا - : ( أن قوله صلى الله عليه وسلم : دعوا الرهبان وما انقطعوا إليه , تقرير لهم على ما هم عليه من حيث عموم رسالته صلى الله عليه وسلم كما قرر أهل الكتاب على سكنى دار الإسلام بالجزية . قالوا : وهي مسألة خفية جليلة في عموم رسالته صلى الله عليه وسلم . لا ينتبه لها إلا الغواصون على الدقائق ) . هذا ولقد ذكر في طبقاته عن صوفي آخر – وهو إبراهيم بن عصفير – الذي يقول عنه : ( كان كثير الكشف , وله وقائع مشهورة , وظهرت له الكرامات وهو صغير , وكان يأتي البلد وهو راكب الذئب أو الضبع , وكان يمشي على الماء لا يحتاج إلى مركب , وكان بوله كاللبن الحليب أبيض , ... وما ضبطت عليه كشفا أخرم فيه . يكتب عن هذا الصوفي الذي بلغ أقصى درجات الولاية : ( كان أكثر نومه في الكنيسة , ويقول : النصارى لا يسرقون النعال في الكنيسة بخلاف المسلمين , وكان رضي الله عنه يقول : أنا ما عندي من صوم حقيقة إلا من لا يأكل لحم الضأن أيام الصوم كالنصارى , وأما المسلمون الذين يأكلون لحم الضأن والدجاج أيام الصوم فصومهم عندي باطل ) .
وكذلك وجد مدح الرهبان النصارى في كتب صوفية كثيرة مثل ما ذكر الأصبهاني في حليته عن عبد الله بن الفرج أنه قال له رجل : ( يا أبا محمد , هؤلاء الرهبان يتكلمون بالحكمة وهم أهل كفر وضلالة , فمم ذلك ؟ قال : ميراث الجوع , متعت بك ) . وأيضا ذكر عن إبراهيم بن الجنيد أنه قال : وجدت هذه الأبيات على ظهر كتاب لمحمد بن الحسين البرجلاني : ( مواعظ رهبـان وذكــر فعالــهم وأخبار صدق عن نفـوس كوافر مواعظ تشـــفينا فنحن نحــوزها وإن كانت الأنباء عـن كل كـــافر مواعظ بر تـورث النفس عــبرة وتـتركها ولهاء حـــول المقــابر مواعظ أنَّى تسأم النفس ذكـرها تهيج أحزانا من القـلب ثـــــائر ) .
ومثل ذلك ما نقله أبو طالب المكي عن عيسى عليه السلام أنه قال : ( المحب لله يحب النصب . وروى عنه أنه مر على طائفة من العباد قد احترقوا من العبادة كأنهم الشنان البالية , فقال : ما أنتم ؟ فقالوا : نحن عباد . قال : لأي شيء تعبدتم ؟ قالوا : خوفنا الله من النار فخفنا منها , فقال : حق على الله أن يؤمنكم ما خفتم . ثم جاوزهم فمر بآخرين أشد عبادة منهم , فقال : لأي شيء تعبدتم ؟ قالوا : شوقنا الله إلى الجنان وما أعد فيها لأوليائه , فنحن نرجو ذلك , فقال : حق على الله أن يعطيكم ما رجوتم . ثم جاوزهم , فمر بآخرين يتعبدون , فقال : ما أنتم ؟ قالوا : نحن المحبون لله لم نعبده خوفا من نار , ولا شوقا إلى جنة ولكن حبا له وتعظيما لجلاله , فقال : أنتم أولياء الله حقا , معكم أمرت أن أقيم , فأقام بين أظهرهم وفي لفظ آخر قال للأولين : مخلوقا خفتم , ومخلوقا أحببتم . وقال لهؤلاء : أنتم المقربون ) . ( ويستخلص من هذا أن الصوفية المسلمين لم يجدوا حرجا في الإستماع إلى مواعظ الرهبان وأخبار رياضاتهم الروحية والإستفادة منها , رغم أنها صادرة عن نصارى , ونحن نجد فعلا كثيرا من أخبار رياضات الرهبان وأقوالهم في ثنايا كتب الصوفية وطبقات الصوفية ) . وقبل هذا كتب الدكتور البدوي في هذا الكتاب الذي اقتبسنا منه الأسطر الأخيرة , والذي دافع فيه عن التصوف دفاعا شديدا , وحاول فيه محاولة فاشلة لإثبات أصول التصوف ومصادره في الإسلام , ومن تعاليمه , كتب فيه : ( الاختلاط بين المسلمين والنصارى العرب في الحيرة والكوفة ودمشق ونجران وخصوصا في مضارب القبائل العربية التي انتشرت فيها المسيحية قبل الإسلام وبعده : بنو تغلب , قضاعة , تنوخ , وتتحدث بعض الأحبار عن أن بعض الصوفية المسلمين الأوائل كانوا يستشيرون بعض الرهبان النصارى في أمور الدين : كما يروي عبد الواحد بن زيد , والعتابي , وأبي سليمان الداراني ) .
وهذه هي الأشياء التي جعلت نيلكسون الإنجليزي , وفون كريمر الألماني , وجولد زيهر النمساوي يضطرون إلى أن يقولوا , واللفظ للأول : ( ويجب ألا ننسى في هذا المقام أثر المسيحية في الزهد الإسلامي في العصر المبكر فإن الأمر لم يقتصر على اللباس وعهود الصمت وكثير من آداب طريق الزهد التي يمكن ردها إلى أصل مسيحي , بل إننا نجد في أقدم كتب تراجم الصوفية – إلى جانبي الحكايات العديدة التي تمثل الراهب المسيحي يلقي المواعظ في صومعته أو عموده على زهاد المسلمين السائحين في الصحراء – أدلة قاطعة على أن مذاهب هؤلاء الزهاد كانت إلى حد كبير مستندة إلى تعاليم وتقاليد يهودية ومسيحية . ومن ذلك آيات كثيرة من التوراة والإنجيل مذكورة بين الأقوال المنسوبة إلى أولياء المسلمين , وأن القصص الإنجيلية التي كان يقصها رهبان المسيحيين على طريقتهم الخاصة كان يتلهف على قراءتها المسلمون : مثال ذلك المجموعة المعروفة باسم الإسرائيليات التي يقال إن وهب بن منبه ( المتوفى سنة 628 م ) قد جمعها , وكتاب قصص الأنبياء الذي كتبه الثعالبي ( المتوفى سنة 1036 م ) , وهذا الأخير لا يزال موجوداً ) .
وأما قضية المصطلحات التي روجوها بين الناس , واستعملوها فيما بينهم فلا يشك أحد في كونها أجنبية في الإسلام ولغة الإسلام العربية , ومقتبسة مأخوذة من المسيحية بحروفها وألفاظها , معانيها ومدلولاتها مثل : ( ناموس , رحموت , رهبوت , لا هوت , جبروت , رباني , روحاني , نفساني , جثماني , شعشعاني , وجدانية , فردانية , رهبانية , عبودية , ربوبية , , ألوهية , كيفوية ) .
والجدير بالذكر , ومن الأشياء اللافتة للأنظار أن كل من حاول تبرئة التصوف عن كونه مأخوذا ومقتبسا من الرهبنة المسيحية لم يسعه الإنكار عن كون المسيحية إحدى مصادر التصوف , وأنه استفاد منها , ولو أنهم أصروا مع ذلك كونه إسلاميا بحتا , معارضين مع ما قالوه , ومناقضين مع ما أثبتوه , مقرين عليهم بالتعارض الفكري , والتضارب القولي , وإنكار ما هو ثابت لا يمكن رده ولا إنكاره , فيقول واحد من هؤلاء – ولا حظ الزحزحة الفكرية , والتناقض الشديد , والتعارض الغريب , والعجز الظاهر عن الدفاع , وضعف القوة وقلة الحيلة , مع الإنكار والإقرار في وقت واحد , لاحظ واقرأ واستمع – فيقول أحد الكتاب - وهو دكتور في العلوم – ردا على من يجعل النصرانية إحدى مصادر التصوف :
( لم يقتصر الكلام في المصادر الصوفية على المصدر الفارسي أو الهندي بل ذهب فريق آخر من الباحثين إلى أن ثمة عناصر أخرى روحية يمكن أن ترد أصولها إلى أصول نصرانية . ويؤيد هذا الفريق مذهبه بما كان يوجد من صلات بين العرب والنصارى سواء في الجاهلية أو في الإسلام , وبما يلاحظ من أوجه الشبه الكثيرة بين حياة الزهاد والصوفية وتعاليمهم وفنونهم في الرياضة والخلوة والتعبد . وبين ما يقابل هذا كله في حياة المسيح وأقواله وأحوال الرهبان والقسيسين وطرقهم في العبادة واللباس .
ومن الباحثين والمؤيدين : لهذا الاتجاه ( فون كريمر , وجولدزيهر , ونيكولسون وفلسنك وآسين وبلاسيوس , وأندريه وأوليري . ويرى : ( فون كريمر ) : أن التصوف الإسلامي والأقوال المأثورة عن الصوفية على أنهما ثمرات نمت وترعرعت ونضجت في بلاد العرب تحت تأثير جاهلي , حيث كان كثير من العرب الجاهلين نصارى , وكان كثير من هؤلاء النصارى قسيسين ورهباناً .
وجولد زيهر : يستند إلى ما تقرره النصرانية من إيثار الفقر والفقراء على الغنى والأغنياء , فيزعم أن ما ورد في الحديث النبوي من هذا المعنى مستمد من النصرانية , ويعني هذا أن يترتب عليه أن الفقر والتخشن في الحياة إنما يرجع إلى أصل نصراني , ويضيف عليه نيكولسون أيضاً . ما يصطنعه الصوفية من صمت وذكر فيزعم أنه مأخوذ من النصرانية .
هذا من حيث : أن التصوف زهد وطريقة في العبادة والرياضة واللباس . أما فيما يتعلق بها من حيث هي مذاهب تصور منازع أصحابها الفلسفية واتجاهاتهم الروحية والفلسفية معاً : فإن هناك طائفة من القصص والأقوال التي تروي عن المسيح مما ورد في كتب الصوفية أنفسهم , ويمكن أن يؤخذ على أنه مصدر لبعض المذاهب الصوفية الإسلامية ....
على أننا لا ننكر ولا أحد يستطيع أن ينكر ما يوجد من أوجه الشبه بين حياة الزهاد ولباسهم وبعض تعاليم الصوفية وطرقهم في العبادة ومذاهبهم في الحب الإلهي , وبين حياة الرهبان ولباسهم , وبعض ما اثر عن المسيح وحوارييه من أقوال في المحبة وغيرها من شئون الحياة الروحية .
فإننا لا نستطيع مع ذلك أن نجزم بأن مصدر التصوف والحياة الروحية في الإسلام إنما هو نصراني صرف .
فصحيح أيضا أنه كان ممن مال إلى الرهبنة من العرب من يبني الأديرة – فقد روى عن حنظلة الطائي أنه فارق قومه وتنسك , وبنى ديراً بالقرب من شاطئ الفرات حيث ترهب فيه حتى مات , وكذلك قيل عن قس بن ساعدة كان يتقفر القفار , ولا تكنه دار , يتحسس بعض الطعام , ويأنس بالوحوش والهوام .
وصحيح أنه يروي عن أمية بن أبي الصلت أنه ليس بالمنسوخ تعبداً وأن لكل من قس وأمية نثرا وشعراً وطبعاً بطابع ديني , وأصطبغا بصبغة الزهد في الدنيا والنظر في الكون , وصحيح بعد هذا كله , وفوق هذا كله , أن القسس والرهبان كانوا ينبثون منا وهناك في أسواق العرب ويبشرون ويتحدثون عن العبث والحساب والجنة والنار كما يدل على ذلك كثير من آيات القرآن الكريم التي تتحدث عنهم وتحكي أقوالهم وتفند مذاهبهم .
وتصور إلى أي حد كانت تعاليمهم بين العرب , فهذا كله صحيح لا شبهة فيه ولا غبار عليه ولكن الذي ليس بصحيح هو أن نجعل منه أساساً يبني عليه القول بأن وحدة مصدر التصوف الإسلامي .
ولكن هناك تساءلاً وهو لماذا يقصر الباحثون أنظارهم على حياة المسيح وأقواله والرهبان وأحوالهم حين يحاولون ربط الصوفية بالمصادر النصرانية ولم لا يجوز أن يكون هذا التصوف أيضاً كان مسايرة لطبيعة الحياة العربية الجاهلية . وقد كانت وقتئذ حياة خشنة لا حظ لها من ترف , ولا أثر فيها لنعومة بحيث يمكن أن يقال : إن حياة الزهاد والصوفية في الإسلام إنما هي استمرار لهذه الحياة الخشنة البعيدة عن الزخرف والنعيم , والتي كان يحياها العرب الجاهليون بصفة عامة , والتي تصطبغ عند بعضهم بصبغة الخلوة والانقطاع عن الناس , إلى التفكر والتقرب من الآلهة يلتمسون عندهم الخير والحكمة ؟
بل وما الذي يمنع أيضاً من أن يكون مرجع الحياة الروحية الإسلامية هو مذهب الحياة التي كان يحياها قوم في الجاهلية يعرفون ببني صوفة , الذين انفردوا لخدمة الله عند بيته الحرام ؟
ومع هذا لا أحد ينكر ما للمسيحية والرهبان من تأثير بالغ في الحياة الجاهلية السابقة . وبالإضافة إلى ما نلتقي به في ثنايا بعض النظريات الصوفية في الحب الإلهي ببعض الألفاظ والعبارات والعقائد التي هي من أصل نصراني مثل القول : ( باللاهوت والناسوت ) أو ( حلول اللاهوت في الناسوت ) أي حلول الإله ( اللاهوت ) في المسيح الإنسان ( الناسوت ) أو حلول الأول في الثاني إذا بلغ هذا درجة معينة من الصفاء الروحي .
ومثل القول ( بالكلمة ) التي هي في النصرانية واسطة بين الله والخلق , والتي اصطنعها بعض الصوفية في التعبير عن نظرياتهم في الحقيقة المحمدية , باعتبارها أول مخلوق خلقه الله , أو : أول تعين للذات الإلهية فاضت منه بقية التعيينات الأخرى من روحية ومادية , ولم تظهر هذه العناصر النصرانية وأشباهها إلا بعد أن كان المسلمون قد اختلطوا بالنصارى وأخذوا يحاورونهم ويجادلونهم في العقائد , فكان طبيعيا أن ينتشر بعض هذه العقائد النصرانية , وأن يعمل عمله في البيئة الإسلامية , ويتردد صداه في أقاويل الصوفية ومذاهبهم في الحب الإلهي وفيما يتصل به , من اتحاد بين الرب والعبد , ومن حلول الرب في العبد .
وهذا أمر طبعي ملازم لسنة الحياة وتطورها : إذ لا يمكن وقد تطور التصوف وقد استحال إلى علم له مناهجه ومذاهبه ومنازعه الروحية المصطبغة بصبغة فلسفية , أن يظل الصوفية بمعزل عن هذا الجو الذي امتلأ بالأفكار والعقائد النصرانية وما يدور حولها وجدل بين المسلمين والنصارى دون أن يكون له أثر فيما صدر عنهم من أقوال , وما ذهبوا إليه من مذاهب , لا سيما إذا كانت هذه الأقوال والمذاهب تدور حول مسائل تتصل من قريب أو بعيد بالعقائد ) .
ويقول الدكتور التفتازاني بعد الرد على المستشرقين القائلين بأن كثيرا من أمور التصوف مأخوذة من النصرانية , يقول بعد الرد عليهم : ( ومع هذا لا ننكر تأثر بعض الصوفية المتفلسفين بالمسيحية , على نحو ما نجد عند الحلاج الذي استخدم في تصوفه اصطلاحات مسيحية كالكلمة واللاهوت والناسوت وما إليها , ولكن هذا لم يظهر إلا في وقت متأخر ( أواخر القرن الثالث الهجري ) بعد أن كان زهد الزهاد قد استقر في القرنين : الأول والثاني الهجريين , واصبح دعامة لكل تصوف لاحق .
ولذلك فإن من الإنصاف العلمي القول بأن مذاهب الصوفية في العلم , ورياضاتهم العلمية , ترد إلى مصدر إسلامي , إلا أنه بمرور الوقت وبحكم التقاء الأمم واحتكاك الحضارات , تسرب إليها شيء من المؤثرات المسيحية أو غير المسيحية , فظن بعض المستشرقين خطأ أن الصوفية أخذوا أول ما أخذوا عن المسيحية ) . فهذه هي خلاصة الكلام في ذلك , نكتفي بها ظانين بأنها كافية لجلاء الموضوع , وتنوير الطريق لمن أراد أن يتقدم إليه ويسلك فيه .
المذاهبُ الهنْديــــــّة وَ الفَارســـــــيَّة وأما كون التصوف وتعاليمه وفلسفته , أوراده وأذكاره , وطرق الوصول إلى المعرفة , والمؤدية إلى الفناء , مأخوذة مستقاة من المذاهب الهندية والمانوية , والزرادشتية أيضا فلا ينكرها منكر , ولا يردها أحد , ولا يشك فيها شاك , بل إن كبار الكتاب عن التصوف والباحثين فيه من المستشرقين والمسلمين , وحتى الصوفية أقروا بذلك حيث لم يسعهم إلا الاعتراف بهذه الحقيقة الظاهرة الجلية التي لا يمكن تجاهلها ولا إغفالها البتة .
فإن الأستاذ أبا العلاء العفيفي كتب في ثنايا بحثه عن المشتغلين من المستشرقين في الدراسة عن التصوف : ( وأما ريتشورد هارتمان , وماركس هورتين فنزعتهما واحدة : وهي أن التصوف يستمد أصوله من الفكر الهندي , وإن كان هورتين قد بذل من المجهود في إثبات هذه النظرية ما لم يبذله أي كاتب آخر . فقد كتب في سنتي 1927 , 1928 مقالتين حاول أن يثبت في إحداهما , بعد تحليل تصوف الحلاج والبسطامي والجنيد , أن التصوف الإسلامي في القرن الثالث الهجري كان مشبعا بالأفكار الهندية , وأن الأثر الهندي أظهر ما يكون في حالة الحلاج . وفي المقالة الثانية يؤيد النظرية نفسها عن طريق بحث المصطلحات الصوفية الفارسية بحثا فيلولوجيا , وينتهي إلى أن التصوف الإسلامي هو بعينه مذهب الفيدانتا الهندية .
ويستند هارتمان في إثبات نفس الدعوى إلى النظر في الصوفية أنفسهم وفي مراكز الثقافة القديمة التي كانت منتشرة في بلادهم , لا إلى المصطلحات الصوفية كما فعل هورتن . وقد نشر في مسألة أصل التصوف مقالا هاماً سنة 1916 في مجلةDer Islam وخلاصة بحثه أن التصوف الإسلامي مدين للفلسفة الهندية التي وصلت إليه عن طريق مترا وماني من جهة , وللقبّالة اليهودية والرهبنة المسيحية والغنوصية والأفلاطونية الحديثة من جهة أخرى . وهو يرى أن الذي جمع هذه العناصر كلها ومزجها مزجا تاما في التصوف هو أبو القاسم الجنيد البغدادي ( المتوفى سنة 297 هـ ) , فإليه يجب أن تتجه عناية الباحثين . أما حججه في تأييد الأصل الهندي فهي : أولا : أن معظم أوائل الصوفية من أصل غير عربي كإبراهيم بن أدهم وشقيق البلخي وأبي يزيد البسطامي ويحيى بن معاذ الرازي . ثانيا :أن التصوف ظهر أولا وأنتشر في خراسان .
ثالثا : أن تركستان كانت قبل الإسلام مركز تلاقي الديانات والثقافات الشرقية والغربية , فلما دخل أهلها في الإسلام صبغوه بصبغتهم الصوفية القديمة . وهذا كلام أشبه ما يكون بماذكره كل من ثولك وفون كريمر في هذا الموضوع . رابعا : أن المسلمين أنفسهم يعترفون بوجود الأثر الهندي . خامسا : أن الزهد الإسلامي الأول هندي في نزعته وأساليبه . فالرضا فكرة هندية الأصل , واستعمال الزهاد للمخلاة في سياحتهم , واستعمالهم للسبح , عادتان هنديتان ) .
ثم علق الأستاذ عفيفي على كلام هورتمان بقوله : ( ولكن المسألة أعقد من ذلك بكثير , فقد تبين لي من البحث في تصوف مشايخ خراسان وتصوف مدرسة نيسابور خاصة , أنه وإن كانت له صبغة محلية إلى حد ما , متأثر بتيارات غير محلية وصلت إليه من مراكز التصوف الأخرى في العراق والشام , وأنه كانت لبعض الحركات غير الدينية – كحركة الفتوة التي كانت في بدء أمرها اجتماعية بحتة – شأن كبير في تشكيل بعض تعاليم هؤلاء الصوفية ) .
ثم إن الأستاذ عفيفي في مقاله هذا لم يذكر واحدا من المستشرقين الذين كتبوا عن التصوف إلا وقد ذكروا رأيا يشبه رأي هاتمان , وهورتن .
وقد سبق هؤلاء المستشرقين والقائلين بهذا الرأي من الباحثين , سبقهم جميعا البيروني , حيث قارن بين العقائد الهندية والعقائد الصوفية في كتابه المشهور ( تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة ) .
وأوجه الشبه التي ذكرها البيروني بين العقائد الهندية والعقائد الصوفية هي تتلخص في أمور ثلاثة :
أولا : الأرواح . ثانيا: في طريق الخلاص . ثالثا: الغاء التمايز ومحو الأشارة . هذا والقارئ لأقوال الصوفية , والعارف بأحوالهم ورياضاتهم ومجاهداتهم يلاحظ بنفسه تشابها كبيرا بين هؤلاء وأولئك , وخاصة في تعذيب النفس , وتحمل المشاق , والتجوع , وحبس النفس , وإماتة الشهوات , والهروب من الأهل والأولاد , والجلوس في الخلوات , مراقبة صورة الشيخ , طرق الذكر , وكثير من العادات والتقاليد والرسوم , حيث لا يرى فيها إلا مشابهة تامة بتلك المذاهب وأصحابها , كمالا يرى فيها أي أثر للإسلام وتعاليمه , ولا ثبوت من حاملي رايته , ومتمسكي سبيله , متبعي طريقه .
ولوضع النقاط على الحروف لا نرضى مقولات الناس , بل نورد شهادات داخلية , واعترافات ذاتية , وعبارات ناطقة عن منابعها ومصادرها .
فنبدأ بسيد الطائفة الذي قال فيه أبو العباس عطاء : ( إمامنا في هذا العلم و مرجعنا المقتدى به ) . والذي قيل فيه : ( إن الرجال من هذه الطائفة ثلاثة لا رابع لهم : الجنيد ببغداد . وأبو عبد الله بالشام , وأبو عثمان بنيسابور ) .
ونقل نيكلسون عن الجامي أنه قال : ( أن الجنيد أول من صاغ المعاني الصوفية , وشرحها كتابة , وأنه كان يعلّم التصوف في بيوت خاصة وفي السراديب ) .
ويكفي لبيان مقامه ومكانته عند القوم تلقيبهم إياه بسيد الطائفة , فنبدأ به فيقول : ( ما أخذنا التصوف عن القيل والقال , لكن عن الجوع , وترك الدنيا , وقطع المألوفات والمستحسنات ) .
وسئل أبو يزيد البسطامي : ( بأي شيء وجدت هذه المعرفة ؟ فقال : ببطن جائع وبدن عار ) .
ونقل الطوسي عن يحيى بن معاذ أنه قال : ( لو علمت أن الجوع يباع في السوق ما كان ينبغي لطلاب الآخرة إذا دخلوا السوق أن يشتروا غيره ) .
ونقل النفزي الرندي المتوفى 792 هـ عن حاتم الأصم أنه قال : ( من دخل في مذهبنا هذا فليجعل في نفسه أربع خصال من الموت : موت أحمر , وموت أسود , وموت أبيض , وموت أخضر . فالموت الأبيض الجوع , والموت الأسود احتمال أذى الناس , , والموت الأحمر مخالفة النفس , والموت الأخضر طرح الرقاع بعضها على بعض ) .
والسلمي أيضا نقل عنه أنه قال : ( ما من صباح إلا والشيطان يقول لي : ما تأكل ؟ وما تلبس ؟ وأين تسكن ؟ . فأقول : آكل الموت , وألبس الكفن , وأسكن القبر ) .
والشعراني نقل في طبقاته عن أبي محمد عبد الله الخراز أنه قال : ( الجوع طعام الزاهدين ) .
ونقل الغزالي عن سهل بن عبد الله التستري أنه قال : ( ما صار الإبدال إلا بإخماص البطون , والسهر , والصمت , والخلوة ) . ثم , وروى الغزالي في إحيائه روايات كثيرة مكذوبة على النبي صلى الله عليه وسلم في فضل الجوع .
ومما يجدر ذكره أن المحقق كتب في تعليقاته عن جميع تلك الروايات في فضل الجوع أنه لم يجد لها أصلا .
هذا , ونقل عماد الدين الأموي عن عيسى عليه السلام أنه قال : ( طوبى للجياع العطاش فإنهم هم الذين يرون الله ) .
وقال السهر وردي : ( قد اتفق المشائخ على أن بناء أمرهم على أربعة أشياء : قلة الطعام , وقلة المنام , وقلة الكلام , والاعتزال على الناس ) .
ثم بيّن طريق التدرّب على الجوع , وهي تشبه تماما طريقة يوجا الهندية حذو القذة بالقذة , وطبق النعل , فيقول : ( وقد اتفق مشايخ الصوفية على أن بناء أمرهم على أربعة أشياء : قلة الطعام وقلة المنام وقلة الكلام والاعتزال عن الناس , وقد جعل للجوع وقتان , أحدهما : آخر الأربع والعشرين ساعة فيكون من الرطل لكل ساعتين أوقية بأكلة واحدة يجعلها بعد العشاء الآخرة أو يقسمها أكلتين , كما ذكرنا , والوقت الآخر : على رأس اثنتين وسبعين ساعة , فيكون الطي ليلتين والإفطار في الليلة الثالثة , ويكون لكل يوم ثلث رطل , وبين هذين الوقتين وقت وهو أن يفطر من كل ليلتين ليلة , ويكون لكل يوم وليلة نصف رطل , وهذا ينبغي أن يفعله إذا لم ينتج عليه سآمة وضجراً وقلة انشراح في الذكر والمعاملة , فإذا وجد شيئا من ذلك فليفطر كل ليلة ويأكل الرطل في الوقتين أو في الوقت الواحد , فالنفس إذا أخذت بالإفطار من كل ليلتين ليلة , ثم ردت إلى الإفطار كل ليلة تقنع , وإن سومحت بالإفطار كل ليلة لا تقنع بالرطل وتطلب الإدام والشهوات , وقس على هذا , فهي إن أطمعت طمعت , وإن أقنعت قنعت , وقد كان بعضهم ينقص كل ليلة بقدر نشاف العود , ومنهم من كان ينقص كل ليلة ربع سبع الرغيف حتى يفنى الرغيف في شهر , ومنهم من كان يؤخر الأكل ولا يعمل في تقليل القوت ولكن يعمل في تأخيره بالتدريج حتى تندرج ليلة في ليلة , وقد فعل ذلك طائفة حتى انتهى طيّهم إلى سبعة أيام وعشرة أيام وخمسة عشر يوما إلى الأربعين . وقد قيل لسهل بن عبد الله : هذا الذي يأكل في كل أربعين وأكثر أكله أين يذهب لهب الجوع عنه ؟. قال : يطفئه النور ) .
وكذلك التعري لم يأخذه الصوفية إلا من البوذية والجينية .
وجلّ تماثيل البوذا وصور رجال الديانات الهندوكية كلها ناطقة منبئة عمن أخذها القوم هذه القباحة والوقاحة . حتى إن طائفة من طوائف الجينية تسمى ويجامبرة أي أصحاب الزي السماوي , الذين لم يتخذوا كساء لهم غير السماء , وهم الذين يقولون : ( إن العرفاء الكاملين لا يقتاتون بشيء , وإن من يملك شيئا من متع الدنيا ولو كان ثوبا واحدا يستر به عورته لا ينجو ) . | |
| | | الشيخ عودة الشيخ عودة
عدد المساهمات : 1748 تاريخ التسجيل : 28/09/2008 العمر : 74
| موضوع: رد: المنْشَأ وَالمَصَادِر تأليف الأستاذ إحسان إلهي ظهير الإثنين نوفمبر 02, 2015 2:32 pm | |
| وإننا لنجد كثيراً من الصوفية , ويسمون المجاذيب , يتجردون عن الثياب البتة , ويمشون في الأسواق , ويجلسون في الخانقاوات كما خلقهم الله .
ولقد ذكر أصحاب الطبقات الصوفية , الكثيرين من هؤلاء . ونورد ههنا واحدا ممن ذكرهم الشعراني ( قطب زمانه وإمام عصره ) في طبقاته , فيقول : ( الشيخ إبراهيم العريان : كان رضي الله عنه إذا دخل بلدا سلّم على أهلها كبارا وصغارا بأسمائهم , حتى كأنه تربى بينهم ( يعني كان يعلم الغيب ) , وكان رضي الله عنه يطلع المنبر ويخطب عريانا ) .
وأما هجر الأهل والأولاد , والخروج إلى الغارات والجبال , والجلوس في البراري والحفرات والسراديب , والمكوث مع الحيات والثعابين فليست منقولة إلا من الديانات الهندية التي عرفت واشتهرت بمثل هذه الأمور .
فلقد أوردنا في أول المقال قصة إبراهيم بن أدهم الصوفي القديم , وتركه للأهل والأولاد , مقارنة بقصة بوذا وحياته , وأنها مطابقة تماما لها .
وهناك أقوال ونصوص كثيرة في هذا المعنى , ذكرنا بعضا منها فيما مرّ , وسنذكر البعض الآخر إن شاء الله في الجزء الثاني من هذا الكتاب .
وإننا ننقل ههنا بعض الآراء والوقائع التي لها علاقة مباشرة ووطيدة بالمذاهب والفلسفات الهندية . فمنها ترك المال والخروج منه, وحتى القوت الذي يحتاج إليه لإبقاء الحياة, ثم التسول أمام الناس , والاستجداء منهم . كما ذكر أبو طالب المكي عن أحد الصوفية أنه دفع إليه كيس فيه مئون دراهم في أول النهار ففرقه كله , ثم سأل قوتا في يده بعد عشاء الآخرة .
وأورد الطوسي مثله عن أبي حفص الحداد أنه كان أكثر من عشرين سنة يعمل كل يوم بدينار وينفقه على الصوفية , ثم يخرج بين العشائين فيتصدق من الأبواب .
والمعروف أن التسول والاستجداء والوقوف على أبواب الناس , وحمل المخلاة والكشكول من لوازم الديانة البوذية , ومن نصائح بوذا الثمانية المشهورة التي نصح بها دراويشه ورهبانه , كما أنه ألزمهم سير البراري , وقطع الصحاري , أو المكوث في الخانقاوات , والانشغال فيها بالذكر .
ولقد أخذت الصوفية هذا النظام بكامله من البوذية , وألزموا أنفسهم به , كأنهم هم الذين نصحهم بوذا بذلك فيقول الطوسي : ( الأكل بالسؤال أجمل من الأكل بالتقوى ) .
وقال : ( كان بعض الصوفية ببغداد لا يكاد يأكل شيئا إلا بِذُلّ السؤال ) .
ويروي الهجويري عن ذي النون المصري أنه قال : ( كان لي رفيق موافق دعاه عز وجل إليه , وأنتقل من محنة الدنيا إلى نعمة العقبى , ورأيته في النوم فقلت له : ما فعل الله بك ؟. قال : غفر لي . قلت : بأي خصلة ؟. قال : أوقفني وقال : يا عبدي , لقد تحملت كثيرا من الذّل والمشقة من السفلة والبخلاء ومددت إليهم يدك , وصبرت في ذلك , وقد غفرت لك بذلك ) .
ونقل السهروردي عن إبراهيم بن أدهم أنه كان معتكفا بجامع البصرة مدة , وكان يفطر في كل ثلاث ليال ليلا , وليلة إفطاره يطلب من الأبواب . كما نقل عن أبي جعفر الحداد وكان أستاذ الجنيد أنه كان يخرج بين العشائين , ويسال من باب أو بابين .
وذكر عن النوري أنه كان يمدّ يده ويسأل الناس .
وذكر النفزي الرندي عن أبي سعيد الخراز أنه كان يمدّ يده ويقول : ( ثمّ شيء لله ) .
وذكر الشعراني أشياء طريفة عن فقراء الزاوية التي بناها يوسف العجمي , الذي قال عنه : هو أول من أحيا طريقة الشيخ الجنيد بمصر بعد إندراسها , يقول الشعراني عن هذا الصوفي وتلاميذه : ( كانت طريقة التجريد , وأن يخرج كل يوم من الزاوية فقيرا يسأل الناس إلى آخر النهار فمهما أتى به يكون قوت الفقراء ذلك النهار كائنا من كان .
وكان الفقراء يأتي أحدهم بالحمار محملا خبزا وبصلا وخيارا وفجلا ولحما , ويوم سيدي يوسف يأتي ببعض كسيرات يابسة يأكلها فقير واحد , فسألوه عن ذلك , فقال : أنتم بشريتكم باقية , وبينكم وبين الناس ارتباط فيعطونكم , وأنا بشريتي فنيت حتى لا تكاد ترى فليس بيني وبين التجّار والسوقة وأبناء الدنيا كبير مجانسة .
وكان صورة سؤاله أن يقف على الحانوت أو الباب ويقول : الله , ويمدّها حتى يغيب , ويكاد يسقط على الأرض , فيقول من لا يعرفه : هذا العجمي راح في الزقزية . وكان رضى الله عنه يغلق باب الزاوية طول النهار لأحد إلا للصلاة . وكان إذا دقّ داق الباب يقول للنقيب : اذهب فانظر من شقوق الباب , فإن كان معه شيء من الفتوح للفقراء فافتح له , وإلا فهي زيارات فشارات ) . فلاحظ ما فيه من الطرائف و الأضحوكات .
وابن عجيبة الحسني ذكر عن التجيبي ابن ليون أنه بين أصل السؤال ومسألة الزنبيل , فيقول : ( كيفيته : أن يتوضأ الرجل ويصلي ركعتين , ويأخذ الزنبيل ( يعني وعاء ) بيده اليمنى , ويخرج إلى السوق ومعه رجل آخر يذكر الله ويذكر الناس , والناس يعطونه في ذلك الزنبيل حتى يجمع ما تيسر من الطعام , ويعبّه بين الفقراء فيأكلون طعاما حلالا بلا تكلف ولا كلفة , هذا ما تيسر لنا في حكم السؤال ) .
وأما من عاش في الصحارى , وتجوّل في البراري فكثيرون جداً , وقد نقل السهروردي عن بشر بن الحارث أنه قال : ( يا معشر القراء , سيحوا تطيبوا ) .
وقال : أو من جملة المقاصد في السفر : رؤية الآثار والعبر , وتسريح النظر في مسارح الفكر , ومطالعة أجزاء الأرض والجبال ومواطئ أقدام الرجال , واستماع التسبيح من ذوات الجمادات , والفهم من لسان حال القطع المتجاورات , فقد تتجدد اليقظة بتجدد ومستودع العبر والآيات , وتتوفر بمطالعة المشاهد والمواقف الشواهد والدلالات . قال الله تعالى : { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ } .
وقد كان السري يقول للصوفية : إذا خرج الشتاء ودخل آذار وأورقت الأشجار طاب الانتشار . ومن جملة المقاصد للسفر : إيثار الخمول وإطراح حظ القبول ) .
وكان قسم منهم يسافر دوما , ولذلك سمو بالسياحيين كما قال الكلاباذي : ( ولكثرة أسفار سمّوا : سياحين , ومن سياحتهم في البراري وإيوائهم إلى الكهوف عند الضرورات سماهم بعض أهل الديار شكفتية . والشكفت بلغتهم الغار والكهف ) .
وقد ذكر أصحاب الطبقات وكتب الصوفية أحوال الكثيرين منهم . فيذكر أحد الصوفية القدامى الهجويري عن أبي عثمان المغربي : ( أنه في بداية حالة أعتزل عشرين سنة في البوادي بحيث لم يكن يسمع آدميا , حتى ذابت بنيته من المشقة , وصارت عيناه كسّم الخياط , وتحول عن صورة الآدميين , وجاءه الأمر بالصحب بعد عشرين عاما , وقيل له : أصحب الخلق . فقال لنفسه : فلأبدأ بصحبة أهل الله ومجاوري بيته , ليكون ذلك أكثر بركة , فقصد مكة , وأطلع المشائخ على مجيئة بقلوبهم , خرجوا لاستقباله , فوجدوه وقد تبدلت صورته , وفي حال لم يكن قد بقي عليه فيها شيء سوى رق الخلقة ) .
وقال أبو طالب المكي : قد كان الخواص لا يقيم في بلد أكثر مت أربعين يوما , ويرى أن ذلك علّة في توكله , فيعمل في إختبار نفسه وكشف حاله . وحدثنا عن بعض الشيوخ قال : ( لبثت في البرية أحد عشر يوما لم أطعم شيئا ) .
كما يقول : ( خرجت طائفة الأبدال إلى الكهوف تخلّيا من أبناء الدنيا ) .
ونقل السهروردي عن إبراهيم الخواص أنه ما كان يقيم في بلد أكثر من أربعين يوما , وكان يرى : إن أقام أكثر من أربعين يوما يفسد عليه توكله , فكان علم الناس ومعرفتهم إياه سببا ومعلوما .
وحكى عنه أنه قال : مكثت في البادية أحد عشر يوما لم آكل , وتطلعت نفسي أن آكل من حشيش البر , فرأيت الخضر مقبلا نحوي فهربت منه , ثم التفت فإذا هو رجع عني , فقيل : لم هربت منه ؟ . قال : تشوفت نفسي أن يغيثني , فهؤلاء الفرارون بدينهم ) .
ونقل الشعراني عن عدي بن مسافر الأموي الذي قال فيه : هو أحد أركان الطريقة وأعلى العلماء بها , والذي نقل فيه عن الشيخ عبد القادر أنه قال : لو كانت النبوة تنال بالمجاهدة لنالها عدي بن مسافر , يقول عنه الشعراني : أنه أقام أول أمره زمانا في المغارات والجبال والصحاري مجردا سائحا يأخذ نفسه بأنواع المجاهدات , وكانت الحيات والهوام والسباع تألفه فيها .
وكذلك ينقل الشعراني عن شيخه أمين الدين أنه قال : ( كان شخص من أرباب الأحوال بناحية شان شلمون بالشرقية جالسا في البرية , وقد حلّق على نفسه بزرب شوك , وعنده داخل هذه الحلقة الحيات والثعالب والثعابين والقطط والذئاب والخرفان والأوز والدجاج ) .
هذا ومثل هذا كثير في كتب الطبقات العربية والفارسية والأردية , وكتب اللغات الأخرى التي ألفت تراجم الصوفية .
وأما الجلوس في الخانقاوات , وملازمة الربط والتكايا والزوايا فهو من لوازم التصوف , فإن الصوفية خصصوا أبوابا مستقلة في كتبهم لبيان فضائل ملازمتها , والمكوث فيها , كما أنهم بيّنوا فيها آداب الخلوة والدخول إليها والمكوث فيها .
كما قال السهروردي : ( إعلم أن تأسيس هذه الربط من زينة هذه الملة الهادية المهدية , ولسكان الربط أحوال تميزوا بها عن غيرهم من الطوائف , وهم على هدى من ربهم ) .
وذكر الصوفي المشهور الكمشخانوي في كتابه ( جامع الأصول في الأولياء ) آداب الخلوة , فيقول : ( للدخول في الخلوة آداب وشروط , منها : أن يستأذن الشيخ في دخول الخلوة . أن يدخل الشيخ الخلوة ويصلي فيها ركعتين قبل دخول المريد . أن يدخلها كما يدخل المسجد مقدّما رجله اليمنى , مبسملا متعوذا . أن تكون الخلوة مظلمة لا يدخلها شعاع الشمس ولا ضوء النهار . أن لا يستند إلى جدار الخلوة . الصوم . أن يعتقد في نفسه أنه إنما يدخل الخلوة لكي يستريح الناس من شره . أن لا يتكلم مع أحد في الخلوة أو خارجها إلا مع شيخه . إذا خرج إلى الصلاة أو الوضوء فليغطِّ رأسه ورقبته بشيء مطرقا إلى الأرض غير ناظر إلى أحد . دوام تخيل صورة شيخه , وهو الرابطة بينه وبين خالقه ... فإنه إذا همّ بمعصية يتمثل له الشيخ فينزجر عن فعلها - إلى آخر الكلام ) .
وأما التشابه بين الذكر الصوفي وذكر الطوائف الهندية فهو كما ذكر القشيري : ( المبتدئ في الأحوال يجب أن يسكن حواسه ولا يتحرك أنفاسه ولا يحرك بدنه , ولا يحرك جزء منه ولا يردد طرفه ولا شيئا , ويكون مراعيا لهمته , ولا يحرك البتة جزء من نفسه ولا من بدنه ولا من باطنه حتى تبدو الأحوال له بعد طول المراعاة .
ثم يجب ألا ينظر إليها ولا إلى ما يبدو له البتة لئلا يحجب عنها , فلا يزال في المزيد منها إن شاء الله تعالى . قال : وهذا الطريق الذي هو طريق الله تعالى لا بدّ فيه من طول المجاهدة ومقاساة ما يحتمله الأسماع والقلوب من الشدائد لو حلّت بها ... وكنت أحيانا في بدو المجاهدة وأحوال الذكر لو استتر مني في السماء لكان الستر على أهون من أن أقوم للأكل , وأتحرك للوضوء والفرض لأنه كان يعيب عني الذكر ) .
وذكر الشعراني عن سيده البدوي أنه لازم الصمت , وما كان يكلم الناس إلا بالإشارة .
وملازمة الصمت من العادات البوذية كما يظهر من تماثيل بوذا .
وكذلك ذكر الشعراني أيضا عن سيده عبد الرحمن المجذوب أنه كان ثلاثة أشهر يتكلم , ثلاثة أشهر يسكت .
وهناك عقيدة بوذية تسمى سمادهي ( SAMADHI ) وهذه آخر درجات الذاكر يفنى فيها ذاته في الذات الإلهي .
يذكر نفس هذا الشيء صوفي مشهور بحرق الحضرمي في رسالته ( ترتيب السلوك ) , فيقول : من لم يتيسر له شيخ , وأراد دخول الخلوة فليقدم الاغتسال , وغسل ثيابه ومصلاه , ويهيئ أسبابه بحيث لا يحتاج إلى الخروج , ويرتب لحوائجه من قوت وغيره ... ثم ليلازم الجوع فيكون صائما مقتصرا على قدر معلوم من الطعام والماء مقتصدا لا يزيد عليه أبدا , وليلازم السهر فلا ينام إلا في وقت معلوم , وليلازم الذكر فيقتصر على ملازمة ذكر واحد .
ينطق بذلك الذكر بعينه بحيث يظن من يسمعه أن معه في خلوته ألف ذاكر لله , ثم يغلب عليه حال الذكر فلا ينظر في الوجود شيئا يقع عليه نظره إلا معلنا بذلك الذكر بعينه بحيث لو كان عنده ألف شخص , كل منهم يذكر بذكر مخالف للآخر لم يسمعهم ينتطقون إلا بذكره الذي غلب عليه , وحينئذ يبقى منتظرا لما يفتح الله به على قلبه من رحمته وعلم غيبه , وأول ما يظهر غالبا أنوار إلهية كأنها البرق الخاطف تلمع بسرعة , ويختفي وهي لذيذة جدا يحصل بوجودها الوجد , وباختفائها الحنين إليها , وبما غشيته أنوارها .
ثم يصير قلبه كالمرآة المجلوه فيكون مقابلا للجناب القدس , فيصير كل شيء كأنه مشاهد للحق سبحانه علما وحالا فانيا عن نفسه , فضلا عن خيرها , فحينئذ يعبد الله كأنه يراه ويشهده .
وأما الفناء في الشيخ فيذكر الشعراني في كتابه ( الأنوار القدسية ) :
( اعمل أيها المريد على أن تتحد بشيخك , فيكون ما عنده من المعارف عندك على حدّ سواء ويكون تميزه عليك إنما هو بالإضافة لا غير , قال : وقد قال لي الشيخ أبو الحسن الشاذلي يوما : يا أبا العباس , ما صحبتك إلا لتكون أنت أنا وأنا أنت ) .
وأما تعذيب النفس , وحبس الدم , والرياضات الشاقة فمنها ما ذكرناها أثناء الوقائع التي سردناها آنفا .
ومن ذلك ما ذكره الشعراني في طبقاته عن البدوي انه :
( كان طول نهاره وليله قائما شاخصا ببصره إلى السماء وقد انقلب سواد عينيه بجمرة تتوقد كالجمر . وكان يمكث الأربعين يوما وأكثر لا يأكل ولا يشرب ولا ينام ) .
ويقول المنوفي , وأبو الهدى الرفاعي أن مكوثه هذا امتدّ إلى اثنتي عشرة سنة حيث يقولان : ( ومكث على السطوح حوالي اثنتي عشرة سنة ) .
ويذكر الطوسي والقشيري والعطار والهجويري والغزالي والشعراني وغيرهم ( أن الشبلي كان يكتحل بالملح ليعتاد السهر ولا يأخذه النوم , وأحيانا كان يحمي الميل فيكتحل به ) .
وينقل القشيري في رسالته ( ترتيب السلوك ) : ( كنت أريد أن لا أنام لئلا أغيب عن الذكر لحظة , فكنت أقعد على حجر ناتئ من جدران بيتنا من الحجر قدر ما أضع عليه قدمي , وتحتي واد , وفوقي شاهق حتى لا يأخذني النوم ) .
وكتب الدكتور عبد الحليم محمود شيخ الجامع الأزهر سابقا , وصوفي مشهور , عن أحمد الدردير أنه ردد الذكر ستة أشهر حتى أحرق الذكر جسمه , وأذهب لحمه ودمه حتى صار مجرد الجلد على العظم ) .
وذكر الدريني عبد العزيز الصوفي المتوفى 697هـ عن داود بن أبي هند أنه ( صام أربعين سنة لم يعد الناس عنه ولا أهل بيته , وكان يؤتى بالإناء ناقصاً فيتمه بالدموع ) .
ويذكر الطوسي عن أبي عبد الله الصبيحي أنه : ( لم يخرج ثلاثين سنة من بيت من تحت الأرض ) .
ويذكر فريد الدين العطار عن الصوفي المشهور أبي بكر الشبلي أنه ( كانت في يده قضيب يضرب به فخذه وساقه حتى تبدد لحمه وتناثر ) .
وحكى عبد العزيز الدباغ عن صوفي أنه ( رمى بنفسه في بداية مجاهدته من حلقة داره إلى أسفل تسعين مرة ) .
ويحكي عماد الدين الأموي قصة صوفي هندي دمعت إحدى عينية ولم تبك الأخرى , فقال لعينه التي لم تدمع : ( لأحرمنك النظر إلى الدنيا , وغمض عينه , فلم يفتح عينه أكثر من ستين سنة ) .
وذكر عن صوفي هندي خضر سيوستاني القادري أنه ( كان يسكن في المقابر , ولا يلبس إلا رداء واحدا , وكان يأكل العشب وأوراق الأشجار , كان له تنور يحميه ويتعبد فيه , وكانت حيوانات البادية تجالسه وتأوي إليه , وكان يتعبد في فصل الصيف على حجر حارّ خصّه لنفسه ) .
ويذكر الميرزه محمد أختر الدهلوي عن الصوفي فخر الدين رازي أنه ( كان يسكن ليل نهار في الغابات ) .
وحكى عن صوفي هندي مشهور ميان أمير أنه ( كان يسكن الجبال بعيدا عن الناس ) .
وهناك صوفي مشهور فريد الدين الملقب بكنج شكر فيحكي عنه أنه ( علّق نفسه معكوسة في بئر , ولم يزل على هذه الحال أربعين سنة لم يأكل ولم يشرب شيئا ) .
وصوفي هندي آخر أحمد عبد الحق ( حفر لنفسه قبرا , واشتغل فيه بالعبادة ستة أشهر ) .
وأما حبس الدم فيذكر القشيري : ( المبتدئ في الأحوال يجب أن يسكن حواسه , ولا يتحرك أنفاسه ) . ويذكر الصوفي الهندي الدكتور ظهور حسن شارب أن الصوفي الهندي المشهور ميان مير ( كان يقضي الليل كله في نفس واحدة ) .
ويذكر عن صوفي آخر ملا شاه أنه كان ( يقضي الليل كله في نفسين فقط ) .
وهذا كله عملا بقول الصوفية : ( مقام المريد المجاهدات والمكابدات , وتحمل المشاق , وتجرع المرارات ) .
وأيضا بقولهم : ( إن الصوفية يلزمون أنفسهم بالأغلظ والأشق من أقوال العلماء ) .
هذا ومثل هذه الأمور كثيرة جدا , التي لم تؤخذ ولم تقتبس إلا من الديانات الهندية ولا وجود لها في تعاليم الإسلام , ولم تنقل إلى الصوفية إلا منها .
وقبل أن ننتقل إلى فكرة أخرى نريد أن نبين أمرا آخر , وهو أن الصوفية بمختلف مشاربهم وطرقهم يتباهون بحبهم للجميع , وعدم الاعتراض على مذهب دون مذهب ومسلك دون مسلك . وإنهم لا يفرّقون بين ديانة وديانة , ولا يميّزون بين طائفة وطائفة وجماعة وجماعة , بل يحترمون جميع الآراء والمعتقدات وأصحابها , وقد نقلوا فيها أقوالا عديدة .
مع أنها لا أساس لها في شريعة الإسلام وتعاليمها , حيث أن هذا الأمر أصل من أصول فلسفة اليوجا التي ترى في كل الديانات وفي كل الفلسفات حقا , ولا يعترض على دين وفلسفة مهما اختلفوا وتباعدوا في المشرب والمسلك , ويسع مذهبه لمعتقدات الجميع , ويأبى أن يتقيد بقيود أيّ منها .
والجدير بالذكر أن هناك كتابا ترجم إلى اللغة العربية باسم ( فلسفة راجايوجا ) بطبع عبد الغني أحمد , وترجمة حسن حسين , فيه فصل خاص لمقارنة هذه الفلسفة الهندية بالفلسفة الصوفية و كما أن الكتاب كله يشتمل على الرياضات والمجاهدات وطرق الأوراد والذكر , التي نقلناها آنفا من المتصوفة الكبار وأقطاب هذه الطائفة وأعلامها .
وأما قضية وحدة الوجود والحلول والاتحاد , المقائد التي نادى بها الحلاج وابن عربي وجلال الدين الرومي وغيرهم ممن سلك مسلكهم , ونهج منهجهم . فلم يشك أحد في كونها مأخوذة مقتبسة بتمامها من ( فيدانتا ) الهندية .
ومن قرأ آراء شري شنكر أجاريا في فلسفة ( فدانتا ) عرف جيدا أنها عين ما قاله الحلوليون والاتحاديون وأصحاب وحدة الوجود , وأن ما بيّنه شنكر , وفصّل القول فيه في شرح فلسفة وحدة الوجود أو فيدنتا هي التي توجد في كتب الوجوديون بكلياتها وجزئياتها .
وأكثر من ذلك تعرض تعاليم شنكر أجاريا وتقرأ مكتوباته على من قرأ كتب ابن عربي , وشارحه ابن الفارض , ومفسره في العجم جلال الدين الرومي , لم يستطع التفريق في مقولاتهم ومكتوباتهم , وحتى الأسلوب والمنهج والتعبير وبيان الطرق الموصلة إلى حصول المعرفة والإدراك .
وبذلك اعترف صوفي كبير من شبه القارة الهندية الباكستانية , وكاتب شهير في تعاليم التصوف وتاريخه أن مسلك وحدة الوجود بمعنى أنه لا موجود في الحقيقة إلا الله , وأن وجود الممكنات وهميّ مثل الشعلة التي تظهر بتحريكها سريعة دائرة وهمية , يظنها الناظر دائرة حيث لا يكون لها وجود حقيقة , بل حركة الشعلة بسرعة هي التي أوهمت الناظر بوجودها , فكذلك الكون والممكنات . فهذا مسلك شري شنكر أجاريا , الذي أسسه وأوضحه في شروحه لأوينشد , وأخذ منه هذه الفلسفة من المسلمين ( حضرة الأقداس إمام العرفاء محي الدين ابن عربي , والمعروف بالشيخ الأكبر ) .
| |
| | | الشيخ عودة الشيخ عودة
عدد المساهمات : 1748 تاريخ التسجيل : 28/09/2008 العمر : 74
| موضوع: رد: المنْشَأ وَالمَصَادِر تأليف الأستاذ إحسان إلهي ظهير الإثنين نوفمبر 02, 2015 2:34 pm | |
| , باذنكويت , وبردليه , كما أن الشهوديين من المسلمين أخذوا فلسفة وحدة الشهود أيضا من العرفاء الهندوكيين . وهذا المسلك مأخوذ من رام نوج أجاريا أحد شراح اوبنشاد الأربعة المعروفين .
فالديانات الهندية هي المصدر الآخر للتصوف الذي راح بين المسلمين , وأختاره طائفة من الناس الذين أرادوا أن يكونوا عرفاء من بين المسلمين , واختاروا نفس المناهج التي وضعها أصحاب الديانات الهندية لحصول ( نروان ) أي المعرفة , وجعلوا غورديسيا ( أي تعذيب النفس ) وجب وكيان دهيان ( أي الصمت والتفكير والذكر ) وسيلة للوصول إليها , وكان هذا ظاهرا جليا واضحا إلى حدّ اضطر المراعون للتصوف , والمداهنون للصوفية , والمدافعون عنهم أن يقرّوا به على ملأ من الناس : ( فالتصوف الإسلامي الحقيقي مبناه على الكتاب والسنة وعلى أحوال الرسول النبي العربي صلى الله عليه وسلم وإن تعرجت مؤخرا تعاليم التصوف وتلونت بعض فروعه ألوانا عدة واتجهت تلك الفروع اتجاهات مختلفة بسبب المذاهب الموروثة للداخلين المحدثين في الإسلام من هنود وفرس وإسرائليين ومسحيين ولا سيما في عصر الترجمة الذي شجع عليه المأمون ومن بعده من الخلفاء العباسيين فترجم المسلمون كتباً كثيرة من التصوف الهندي واليوناني والفارسي وطمعت بعض فروع التصوف الإسلامي الخالص بما دخل عليها من النزعات الأفلاطونية الحديثة أو القديمة وبعض المذاهب الهندية والفارسية في التصوف كنظرية الحلول والاتحاد والتقمص والتناسخ وما إلى ذلك ( ولكل دين تصوفه وطبعا ) .
ومع ذلك ظل التصوف الإسلامي الصميم والذي مصدرة الكتاب والسنة قائما على حاله في صدور رجاله وفي الكتب الإسلامية كتواليف الحسن البصري والقشيري وأبي طالب المكي والسراج والغزالي ) .
( وشذ عن ذلك أمثال الحلاج الذي قال بالحلول والقائل ( أنا الحق وما في الجبة سوى الله ) ومحي الدين القائل ( خضنا بحراً وقف الأنبياء بسالحله ) وبرأه من فكره الحلول قوله بالسكر وغلبة الحال . وأكثر الصوفية الأعاجم خلطوا بين الفلسفة الفارسية القديمة أو الهندية وما قبسوه عن اليونانية والأفلاطونية الحديثة وبين تصوفهم الخاص ) .
وقد تأثر أمثال ببراهمة الهند والغرس في أزيائهم وطقوسهم , واعتنقوا من أفكارهم ) .
ويقول صوفي متقدم لسان الدين بن الخطيب : ( ومن الهنود الذي وضع لهم الحكمة المصلحية , الشلم , والمهندم , والبرهمان , والصولية , والبردة , والزهاد , والعباد , ورجال الرماد , وأصحاب الفطرة , وهم يهجرون اللذات الطبيعية جملة , ويكثرون الجوع والرياضة , عشاق فيما ولّوا وجوههم شطره ) .
وقال الآخر ما خلاصته : ( وشك أن ابن عربي في مدرسة وحدة الوجود وسوابق بذورها في مدرسة الحلاج ولواحقها حتى عبد الكريم الجيلي وما بعده قد تأثر بالمصدر الهندي الذي أنطق مذهب الانبثاق الرواقي والفيوضات والصدور عند الأفلاطونية ) .
وقال ماسينيون : ( ونجد من ناحية أخرى أن بحث المراحل التي أدّت إلى إدخال الذكر في طرق الصوفية المحدثين تدلنا على تسرب بعض طرائف الهنود إلى التصوف الإسلامي ) .
زبمثل ذلك قال أوليري المستشرق الآخر : ( وثمة شبيه هندي للفناء , ولكن ليس في البوذية , وإنما فيما تقول به الفيدانتا من وحدة الوجود ) .
ونيلكسون كذلك , فيقول في إحدى مقالاته وهو يتكلم في الفناء الصوفي : ( أما في شرق فارس حيث ظهرت فكرة الفناء لأول مرة ظهورا واضحا , فلا بدّ أنها كانت متأثرة إلى حد كبير بأفكار هندية وفارسية .
ويدل تعريف الصوفية للفناء من الناحية الخلقية بأنه محو الصفات الذميمة , والتخلق بكل خلق حميد , ووصفهم لوسائل قمع الهوى والشهوات , على وجود أثر للفلسفة البوذية فيهم مما لا يدع مجالا للشك , لأن تعريفهم هذا تمام الاتفاق مع تعريف النرفانا .
أما الفناء في عرف أصحاب وحدة الوجود فربما كان أشد اتصالا بفكرة الفيدانتا وما يماثلها من الأفكار الهندية ... مثال ذلك أن أبا يزيد البسطامي كان من أهل خراسان , وكان جده زرادشتيا وشيخه في التصوف كرديا . ويقال : أنه أخذ عقيدة الفناء الصوفي عن أبي علي السندي الذي علّمه الطريقة الهندية التي يسمونها مراقبة الأنفاس , والتي وصفها هو بأنها عبادة العارف بالله .
وإنك لتلمح نزعة أبي يزيد إلى وحدة الوجود مائلة في الأقوال المعزوة إليه . مثال ذلك ك خرجت من الحق إلى الحق حتى صاحوا مني فيّ ( يا من أنا أنت ) . إني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني : سبحاني ما أعظم شأني .
للخلق أحوال , ولا حال للعارف , لأنه محيت رسومه , وفنيت هويته بهوية غيره , وغيبت آثاره بآثار غيره ) .
وقد كرر هذا القول في مواضع كثيرة مختلفة في مقالاته من التصوف والصوفية .
وكتب الدكتور أبو العلاء عفيفي البحاثة المصري الكبير معلقا على إحدى عباراته , ومصدقا كلامه , ما نصه :
( لا شك أن التصوف الإسلامي في ناحيته العلمية كان إلى حد ما على التصوف البوذي . يدل على ذلك ما ذكر الجاحظ في كتاب الحيوان عن رهبان الزنادقة الذين كانوا يخرجون للسياحة أزواجا , ولا يقيمون في مكان واحد أكثر من ليلتين . وكانوا يأخذون أنفسهم بتطهير القلب والعفة والصدق والفقر . ويذكر الجاحظ قصة رجلين منهم دخلا مدينة الأهواز ) .
ويقول جولد زيهر :
( إن نظرية الصوفيين في فناء الشخصية هي التي تقرب وحدها من فكرة الجوهر الذاتي ( اتمان ) , إذا لم تكن تتفق معها تماما , ويطلق الصوفيين على هذه الحالة لفظ الفناء أو المحور و الاستهلاك ) .
وقال أحد الكتّاب : ( أما زيهر فقد ذهب إلى أن الربط بين الفناء والنرفانا دعوى لا تحتاج إلى برهان , معتمدا في ذلك على قول لأبي يزيد جاء فيه : صحبت أبا علي السندي فكنت ألقّنه ما يقيم به فرضا , وكان يعلمني التوحيد والحقائق صرفا .
فالنص – في نظره – لا يفهم منه سوى أن أبا يزيد كان يعلّم السندي الفروض الدينية , باعتباره حديث عهد بالإسلام , مقابل تلقيه عنه علم الحقيقة والفناء , الذي لم يكن على علم به ) .
ونريد أن نثبت ههنا أيضا نص ما ذكره الباحث الإيراني المشهور الدكتور قاسم غني , فيقول : ( إذا كان رأي أولئك الذين يعتقدون أن التصوف وليد المعتقدات البوذية والهندية مبالغا فيه , فينبغي أن يقال في الأقل أن من جملة ما كان له تأثير في التصوف الإسلامي أفكار البوذية والهندية ونزعاتهما وعاداتهما .
والإسلام الذي خرج من حدود الجزيرة العربية بسرعة البرق بعد ظهوره بفترة قصيرة سرعان ما أخذ يتقدم في كل ناحية , ولم تطل المدة حتى بلغ تخوم الصين وفتحت بلاد السند في عهد بني أمية , وتوثقت علاقات تجارية واقتصادية بين المسلمين والشعوب والقبائل التي كانت تختلف من ناحية الفكر والحضارة والأخلاق عن أقوام البلاد الأخرى .
ومنذ القرن الثاني وما بعده وحين بدأ المسلمون بنقل كتب الشعوب الأخرى واتسعت دائرة العلوم , ترجم مقدار من آثار البوذية والهندية مما يدخل في باب التصوف العملي أي الزهد وترك الدنيا ووصف العبادات والتقاليد الهندية والبوذية في هذا الباب , ناهيك بنقل كتب هندية وبوذية في القرن الثاني للهجرة والصلات التجارية والاقتصادية القائمة بين المسلمين والهنود في أوائل الخلافة العباسية وقد انتشرت طائفة من تاركي الدنيا والسائحين من الهنود والمانويين في العراق وسائر البلاد الإسلامية الأخرى وكما كانوا يتحدثون في القرن الأول عن الرهبان والسائحين مع المسيحيين كذلك أخذوا يتحدثون في القرن الثاني عن رهبان وسياح ممن لم يكونوا مسلمين ولا نصارى وهم الذين سماهم الجاحظ ( رهبان الزنادقة ) واعتبرهم من زهاد المانوية .
قال الجاحظ : ( إن هؤلاء سياح والسياحة بالنسبة لهم في حكم التوقف واعتزال الساطرة في الصوامع والأديرة , وتلك الجماعة يسافرون دائما اثنين اثنين ويسيحون بحيث إذا رأى الإنسان واحدا منهم يتيقن أن الثاني ليس ببعيد عنه إلى حد ما , وسيظهر قريبا . ومن عاداتهم أنهم لا ينامون ليلتين في مكان واحد , ولهؤلاء السياح خصال أربع : القدس والطهر والصدق والمسكنة ) .
وهؤلاء السياح تركوا بدورهم أثرا في صوفية المسلمين كما أثر فيهم أيضا السياح والمتجولون والمرتاضون من البوذيين الذين أذاعوا قصة بوذا وقدموه مثالا للزهد والإعراض عن الدنيا , بحيث أن المرتاضين كانوا يعرفونه في كتاباتهم بالمثال الكامل للزهد . وهو الأمير القوي الشكيمة الذي رمى الدنيا ظهريا وحرر نفسه . أو يقولون أنه أسير جدير بالثناء خليق بالاحترام متزييا بزي الفقراء . وهذا الموضوع أوجد قصصا ذات صور مختلفة والنقطة الهامة التي يجب ألا تنسى هي أن الديانة البوذية كانت قد انتشرت في شرق إيران أي بلخ وبخارى وفي ما وراء النهر كذلك قبل الإسلام بأكثر من ألف سنة , وكانت لها صوامع ومعابد مشهورة وكانت معابد بلخ البوذية أكثر شهرة بنوع خاص , وصارت بلخ ونواحيها من أهم المراكز الصوفية في القرون الإسلامية الأولى , وكان صوفيو خراسان يعدون في الرعيل الأول من الصوفية في الشجاعة الفكرية والحرية الشخصية , والعقيدة المعروفة ( بالفناء في الله ) المقتبسة من الأفكار الهندية إلى حد ما والتي انتشرت على الأكثر بواسطة صوفية خراسان . مثل أبي يزيد البسطامي وأبي سعيد الخير ) .
وقبل أن ننتقل إلى فكرة أخرى نريد أن نلفت الأنظار إلى أن معتنقي البوذية والجينية والديانات الهندية الأخرى كان لهم أن يترهبوا , ويتجردوا عن الدنيا وما فيها , ويختاروا العزلة والخلوة , ويتيهوا في المفاوز والخلوات , ويعيشوا في المغارات والخانقاوات , ويعذبوا أنفسهم , ويأتوا بالمجاهدات والرياضات , ويتحملوا المشاق , ويتعمقوا في المراقبات والمكاشفات وغير ذلك من الأمور , لأن قادتهم وزعماءهم , هداتهم ومرشديهم فعلوا مثل ذلك لحصول المعرفة , واكتشاف الحق , والوصول إلى طمأنينة الروح والقلب , والاتصال بالخالق والاتحاد به – حسب زعمهم – تشبها لهم واقتداء بهم , وتمسكا بأسوتهم , واقتفاء آثارهم ومناهجهم .
فعلى المتبعين أن يسلكوا جميع تلك المراحل التي سلكها سادتهم وكبراؤهم , وأن يكابدوا في هذا السبيل تلك الآلام التي تكبدها أولئك .
وكذلك النصارى .
أولا : لأنه نقل عن مسيحهم ما يشجعهم على التبتل والعزلة .
ثانيا : أن حواريي المسيح , وقدّيسي المسيحية الأوائل تحملوا أنواعا من العذاب في سبيل التمسك بمذهبهم , فأوذوا وأجبروا على ترك المساكن والمواطن وعاشوا في الصحارى والمغارات فرارا بدينهم , وحفاظا على إيمانهم , فحبس منهم وقتّل منهم كثيرون , وعذّب الآخرون .
فتأسيا بهم وتقديرا لهم حرموا أنفسهم من ملذات الدنيا ونعيمها , وألزموا عليهم العزبة والجوع والمشاق , وهجروا العيش بين الأهل والأولاد .
وأما المسلمون فلا نبيّهم أمرهم بذلك , ولا أصحابه ورفاقه الأبرار خيرة خلق الله , وأبرار هذه الأمة عملوا به , ودينهم دين الاعتدال والدين الوسط , الناسخ لجميع الشرائع السماوية منها والأرضية , الإلهامية وغير الإلهامية .
{ وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ } .
والذي كمل قبل انتقال محمد صلى الله عليه وسلم إلى الملأ الأعلى .
{ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا }
وما لم يكن فيهما فهو ابتداع وإحداث فيه , وليس منه , ولا له علاقة به .
ولا ندري ممن أخذ متصوفة المسلمين ونساكهم من المسلمين هذا المنهج والمسلك الذي بنوا عليه تصوفهم وزهدهم . اللهم إلا ممن ذكرناهم من المسيحية , وأصحاب الديانات الهندية , وهذه أحوال معتدلي الصوفية ومتقدميهم .
وأما المتطرفون والمتأخرون فقد زادوا على هذين المصدرين مصدرا آخر استقوا منه فلسفتهم ومشربهم , وتشبثوا بآرائه ومقولاته . وهو الأفلاطونية الحديثة .
الأفــلاَطـونيّة الحــَدِيثـَة
ولقد ذكر جمع من الكتّاب والباحثين في التصوف ممن اشتغلوا بالتصوف من المسلمين وغير المسلمين . وقل من شذ عنهم أن الأفلاطونية الحديثة هي أحد المصادر الأساسية للتصوف , بل إنها هي المصدر الأول بالنسبة للقائلين بوحدة الوجود والحلول بدءاً من أبي اليزيد البسطامي , وسهل التستري , والترمذي الملقب بالحكيم , ابن عطاء الله الأسكندري , وابن سبعين , وابن الفارض , والحلاج , ولسان الدين بن الخطيب , وابن عربي , والرومي , والجيلي , والعراقي , والجامي , والسهروردي المقتول , وبايزيد الأنصاري وغيرهم .
وأن هؤلاء أخذوا نظرية الفيض والمحبة والمعرفة والإشراق مع الآراء الأخرى التي تمسكوا بها عن الأفلاطونية المحدثة .
وعبارات الصوفية أنفسهم ناطقة بها وشاهدة عليها ولو أنهم اختلطت عليهم آراء الأفلاطونية الحديثة وآراء أفلاطون وأرسطو وغيرهم من حكماء اليونان الآخرين , حيث نسبوا ذلك إلى هذا , وهذا إلى تلك .
فيقول صوفي معاصر : وأما وحدة الوجود الحلولية التي تجعل من الله كائنا يحل في مخلوقاته أو الاتحادية بالمعنى المفهوم خطا تلك التي تجعل من الكائن الفاني شخصية تتحد بالموجود الدائم الباقي المنزه عن سائر النسب والإضافات والأحياز الزمانية والمكانية المحدثة أو يتحد به شيء منها فإنها مذهب هندي أو مسيحي وليس بإسلامي ولا يعرفه الإسلام , استمده أهل الشذوذ في التصوف الإسلامي من الفلسفة البائدة , وغذوا به مذهبهم الشاذ بفكر أفلاطونية وآراء بوذية وفارسية عن طريق الفارابي وابن سينا , حاله أن المتتبع لحياة الحلاج ومؤلفات السهروردي وابن عربي يرى أنهم تأثروا بالمتفلسفة المسلمين الذين أخذوا عن الفلسفة الأفلاطونية الحديثة والأرسطو طاليسية .
وكتب قبله بقليل : ( فكان يعلن بعضهم أنه اطلع على الغيب وأن في مقدوره الإتيان بخوارق العادات ثم يذهب إلى ما هو أبعد من هذا مثل قولة الحلاج المشهورة : ما في الجبة غير الله – وغيره : أنا الحق وبمثل هذا وذاك ثار على الحلاج معاصروه ورموه بالسحر تارة والجنون أخرى وعذب عذابا أليما إلى أن مات في أوائل القرن الرابع , والله أعلم بحاله وكان من أمثال الحلاج من بالغوا مبالغة قلت أم كثرت كشهاب الدين عمر السهروردي المقتول رئيس جماعة الإشراقيين ومحيي الدين بن عربي الأندلسي . وابن سبعين الصقلي , وهم من رجال القرنين السادس والسابع وتابعهم جماعة من شعراء الفرس أمثال جلال الدين الرومي وفريد الدين العطار وكلهم يرمي إلى أن يقيم التصوف الإسلامي على دعائم فلسفية أو فارسية وهندية أو يونانية ) .
ويقول الدكتور عبد القادر محمود : ( فإذا عدنا إلى تاريخ الاتصالات الأولى نجد أن الثقافة اليونانية كانت هي الثقافة المسيطرة على العقول في الشرق منذ عهد الإسكندر بالإضافة إلى ثقافات الشرق نفسه , حتى إذا أقبل المسلمون على حضارات غيرهم من الأمم القديمة كان إقبالهم على الثقافة الهللينية بمعونة نساطرة الحيرة وبمعاقبة غسّان , والسريان في الشام وغيرها , والصابئة من أتباع زرادشت , واليهود والنصارى . لكن الذي نؤكده أن باب الاتصال المباشر كان الأفلوطينية المحدثة ولو أن المسلمين حسبوها لأرسطو حين اعتقدوا خطأ أن كتاب الربوبية له , وهو في الواقع لأفلوطين الذي عرفوا من ورائه أفلاطون والثقافة اليونانية القديمة .
إننا نلاحظ أن الأستاذ نسلكسون يرى أن الأثر كان في القرن السادس الهجري , ويختلف معه ماسينيون , فيرى على وجه أصح أنه كان في القرن الرابع , والواقع أنه في القرن الثالث , بدليل أن الربوبية ظهرت عربية في الوسط الإسلامي في القرن الثالث الهجري وكان لها أثرها المباشر في نظريات الاتصال الفارابية , ونظريات البسطامي والحلاج . فإذا اعتمدنا على جهد اصطفان بن صُدَّيللي الغنوصي السرياني الذي كان أستاذاً في مجمع ( أريو باجوس ) الذي تخرج منه ديونيسيوس Dionysius الأريوباجي , والذي كان معاصرا ليعقوب السروجي الأديب السرياني المشهور ( ت 521 م ) أقول – إذا عدنا إلى اصطفان بن صُدَّيللي , وجهوده في النصف الثاني من القرن الخامس الميلادي وفي ( الرُّها ) بالذات فإننا نجد من جهوده الخطيرة أنه نقل بعد رحلاته في مصر وغيرها مذاهب وحدة الوجود وعاد ونشرها في ( الرُّها ) و كما اشتغل بشرح الإنجيل , وأنكر أبدية عذاب جهنم , وأكد أن المذنبين سيعودون إلى الجنة بعد تطهير . وكان لهذا أثره في سخط أهل الرّها فطردوه ورموه بالإلحاد , فرحل إلى دير في بيت المقدس , ووجد لآرائه هناك أرضا خصبة , وجمع آراءه , ونسبها إلى ديونيسيوس لشهرته . من هنا لا نجد غرابة مطلقاً في الدوائر الصوفية في الإسلام انتشار مثل هذه الأقوال التي شاعت مع جهم بن صفوان , ثن اندفعت في أفق الفكر الإسلامي , حيث شكلت مذاهب الفيض والإشراق والمعرفة والجذب والحلول والاتحاد ووحدة الشهود ووحدة الوجود , وكل مركبات ( الثيوصوفية ) بتأثير الأمشاج المختلطة مع الغنوص الشرقي القديم . فإذا نظرنا في مذاهب الفيض الأفلوطيني - نجد أن الله والعقل الأول والنفس الكلية والمادة غير المصورة والنفوس الجزئية – كل أولئك عبارة عن مراتب الوجود الأفلوطينية , وهذا ما نجده في مدرسة ابن عربي في الحقيقة المحمدية أول فيض من الذات الإلهية , ثم بقية الفيوضات في جميع الموجودات , وعند ابن الفارض في وحدة الشهودية وفي مذهبه القطبية والحقيقة المحمدية , وعند الإشراقية السهروردية والشيرازية التي تجعل الله نور الأنوار فياضاً بالأنوار القاهرة وهي النفوس والعقول , وبالجواهر الغاسقة الناشئة عن الأنوار , وهي الأجسام , حتى المصطلحات في المثل أو المعاني الأزلية , والحقيقة , وحقيقة الحقائق , والعلة والمعلول , والوحدة والكثرة , وتحقق الذات في الموضوع وشيوع الموضوع في الذات .
كل هذا يعود إلى أصوله الأفلوطينية التي تعود هي الأخرى إلى الغنوص الشرقي والغربي المؤول في الفلسفات اليهودية والمسيحية اللاهوتية . لقد أخذت النظريات الصوفية لدى الصوفية الفلاسفة أو الفلاسفة الخلص لدى المشائية الإسلامية وجوهرها من الأفلوطينية , وخاصة في المعرفة الإشراقية , التي تُلقى إلقاء في النفس عند تَطَهُّرها وتحررها , ويكفينا دليلا التاسوع الخامس لأفلوطين الذي يقول : ( النفس التي لا تضاء بضوئه تظل بغير رؤية ) , فإذا أضيئت فإنها تحتوي على كل ما تنشده فترى الأسمى بالأسمى – ترى الأسمى الذي هو في الوقت نفسه وسيلة الرؤية لأن ما يضيء النفس هو نفسه الذي تريد رؤيته , كما أننا نرى الشمس بضوء الشمس . لقد مارس أفلوطين ( ت 205 م ) هذه التجربة , وأعطى الاتجاه للفارابي وابن سينا , والحلاج والسهروردي , وابن عربي وابن الفارض , وابن سبعين وبقية الركب المشائي أو الصوفي . يقول أفلوطين ( وقد حدث مرات عدة أن ارتفعت خارج جسدي بحيث دخلتُ في نفسي , كنت حينئذ أحيا , وأظفر باتحاد مع الإلهي ) . ( يجب على أن أدخل في نفسي , ومن هنا أستيقظ . وبهذه اليقظة أتحد بالله ) . ( يجب عليَّ أن أحجب عن نفسي النور الخارجي لكي أحيا وحدي في النور الباطن ) ) .
ويقر هذا الأمر الدكتور عبد الرحمن بدوي – ولو أنه يختلف مع الدكتور عبد القادر في طرق وصولها إلى الصوفية – حيث أنه يقول تحت عنوان التأثير اليوناني في التصوف : ( وأهم نص في هذا الباب هو كتاب ( أثولوجيا أرسطو طاليس ) وهو كما نعلم فصول ومقتطفات , منتزعة من التساعات الأفلاطونية , وفيه نظريات الفيض والواحد التي ستلعب دورا خطيرا في التصوف الإسلامي , خصوصا عند السهروردي المقتول وابن عربي , وفيه نظرية ( الكلمة ) أو اللوغوس .
ولا شك في تأثر الصوفية المسلمين ابتداء من القرن الخامس الهجري بما في ( أثولوجيا ) من آراء . وإنما الخلاف هنا هو في هل وصل تأثيره إلى التصوف الإسلامي مباشرة , أو عن طريق كتب الإسماعيلية , وكلها حافلة بالتأثر به .
ويتلوه في الأهمية الكتب المنسوبة إلى هرمس .. وشخصية بارزة التأثير عند السهروردي المقتول , وابن عربي . الأول خصوصا في فكرة الطباع التام , التي تأثر بهل كل الإشراقيين بعد السهروردي , والطباع التام هو ( النوس ) . ويسمى أيضا الروجانية و الطبيعة الكريمة .
ويتصل به ما يرد من علم الصنعة سواء عند الصنوعيين ( الكيماويين ) وعند الصوفية المسلمين .
ومن النصوص المهمة المنسوبة إلى هرمس : رسالة هرمس في معاذلة النفس , التي نشرناها في كتابنا : الأفلاطونية المحدثة عند العرب , فهي مناجيات للنفس وتحليل لها , وتأنيب للنفس الأمارة , ودعوة للنفس من أجل التطهر والتقديس . ومن السهل أن نجد أصداء لها ومشابه في مناجيات الصوفية المسلمين .
ثم إن هناك فصولا منحولة لأفلاطون وسقراط وغيرهما من الفلاسفة اليونانيين معظمها آداب وأقوال .... وكلها تتشابه في بعض آرائها مع الأقوال المنسوبة إلى كبار الصوفية المسلمين في كتب طبقات الصوفية المختلفة ( القشيري , السلمي , الشعراني , الهروي , العطار , الجامي الخ الخ ) .
ولقد أقر الدكتور أبو العلاء العفيفي أيضا بتأثر ابن عربي ومن نهج منهجه في الأمور الكثيرة وفي نظرية الفيض بأفلاطونية المحدثة . وكتب الدكتور التفتازاني كلاما يشبه هؤلاء حيث قال ك ( ونحن لا ننكر الأثر اليوناني على التصوف الإسلامي , فقد وصلت الفلسفة اليونانية عامة , والأفلاطونية المحدثة خاصة , إلى صوفية الإسلام عن طريق الترجمة والنقل , أو الاختلاط مع رهبان النصارى في الرها وحران . وقد خضع المسلمون لسلطان أرسطو , وإن كانوا قد عرفوا فلسفة أرسطو على أنها فلسفة إشراقية , لأن عبد المسيح بن ناعمة الحمصي حينما ترجم الكتاب المعروف بـ ( أثولوجيا أرسطو طاليس ) قدمه إلى المسلمين على أن لأرسطو على حين أنه مقتطفات من تاسوعات أفلوطين .
وليس من شك في أن فلسفة أفلوطين السكندري التي تعتبر أن المعرفة مدركة بالمشاهدة في حال الغيبة عن النفس وعن العالم المحسوس , كان لها أثرها في التصوف الإسلامي فيما نجده من كلام متفلسفي الصوفية عن المعرفة . وكذلك , كان لنظرية أفلوطين السكندري في الفيض وترتيب الموجودات عن الواحد أو الأول . أثرها على الصوفية المتفلسفين من أصحاب الوحدة كالسهروردي المقتول , ومحي الدين بن عربي , وابن الفارض , وعبد الخالق بن سبعين , | |
| | | الشيخ عودة الشيخ عودة
عدد المساهمات : 1748 تاريخ التسجيل : 28/09/2008 العمر : 74
| موضوع: رد: المنْشَأ وَالمَصَادِر تأليف الأستاذ إحسان إلهي ظهير الإثنين نوفمبر 02, 2015 2:35 pm | |
| ونلاحظ بعد ذلك أن أولئك المتفلسفة من الصوفية نتيجة اطلاعهم على الفلسفة اليونانية قد اصطنعوا كثيرا من مصطلحات هذه الفلسفة مثل : الكلمة – العقل الأول - العقل الكلي – العلة والمعلول ز الكلي .... إلخ ) .
وبمثل ذلك قال الدكتور محمد كمال جعفر . والدكتور مصطفى حلمي .
والدكتور زكي مبارك . والدكتور محمد جلال شرف . والدكتور هلال إبراهيم هلال . وأما الدكتور قاسم غني الفارسي فكتب :
( وأن طريق الوصول إلى المبدأ والحصول على التمتع الأبدي هو تطهير النفس السفلية عن طريق التجرد من الشهوات الجسمانية والميول الحسية وممارسة الفضائل الأربع , وهي : العفة , والعدل , والشجاعة , والحكمة . هذه نماذج من آراء الفلسفة الأفلاطونية الحديثة التي وفق المسلمون بينها وبين الشرع الإسلامي . ولهذا الغرض حذفوا منها أشياء وزادوا عليها أشياء وسموها ( حكمة الإشراق ) .
وقد أثر في التصوف والعرفان ذيوع آراء أفلاطون وظهور الفلسفة الأفلاطونية الحديثة بين المسلمين أكثر من أي شيء . وبعبارة أخرى , أحرز التصوف الذي كان إلى ذلك الحين زهدا عمليا أساسا نظريا وعمليا .
وإذا دققنا في آراء الأفلاطونية الحديثة وجدنا أن الصوفي الزاهد الذي غض الطرف عن الدنيا وما فيها بحكم أنها فانية , وتعلق خاطره بما هو خالد . يشعر بلذة الرضا في فلسفة أفلوطين . بل يحصل على منتهى غايته في تلك الآراء , وموضوع وحدة الوجود في الفلسفة الأفلاطونية الحديثة جذب أنظار الصوفية أكثر من أي شيء آخر لأن الذين يؤمنون بهذه العقيدة يرون أن العالم كله مرآة لقدرة الحق تعالى وكل موجود بمثابة مرآة تتجلى ذات الله فيها إلا أن المرايا كلها ظاهرة , والوجود المطلق والموجود الحقيقي هو الله . ينبغي على الإنسان أن يسعى حتى يمزق الحجب ويجعل نفسه محلا لتجلي جمال الحق الكامل ويبلغ السعادة الأبدية .
على السالك أن يطير بجناح العشق نحو الله تعالى ويحرر نفسه من قيد وجوده الذي ليس إلا مظهرا فحسب . وينمحي ويفنى في ذات الله أي الموجود الحقيقي ) .
هذا وبمثل ذلك قال الآخرون من الفرس الذين اشتهروا باشتغالهم في التصوف , مثل الدكتور عبد الحسين زرين كوب . والأستاذ مهدي توحيدي بور . وقبلهم الأردبيلي أحمد بن محمد . وغيرهم الكثيرون الكثيرون .
وأما صوفية الهند وكتاب شبه القارة عن التصوف فأيضا أقروا بتلك الحقيقة الناصعة التي لا يمكن التهرب والأعراض عنها .
فلقد قال البروفيسور يوسف سليم جشتي في كتابه الكبير عن التصوف , بعد ما استعرض آراء الأفلاطونية الحديثة ونظريتها مفصلة , قال :
( إن التصوف لم يقتبس , ولم يؤخذ إلا من المنابع الصافية والمصادر الطاهرة , وعلى رأسها الأفلاطونية المحدثة , وتبني الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي نفس الأفكار التي نشرها أفلوطين الأسكندري , المبنية على الفكر الفلسفي والمشاهدة الذاتية , والذي بين أن تزكيه النفس لا يمكن إلا بالتبتل عن العلائق الدنيوية والعالم المادي , ولها مراتب ثلاث :
تصفية النفس , وتجلية النفس , وتحلية النفس .
ولا يمكن الوصول إليها إلا بالمراحل الثلاث : أولا : بالفن والآداب , والمراد منها طلب الحقيقة وجمالها . وأن هذين الشيئين أي ( Truth and Beauty ) اسمان لشيء واحد في الحقيقة .
ثانيا : بالعشق . ثالثا : بالحكمة .
وأهم الأشياء في فلسفة أن طريق تهذيب النفس وتكميل الروح ليس ببرهاني ولا عقلي , بل هو وجداني وكشفي , كما أن فلسفته في الإلهيات تدور على وحدة الوجود , وهذا عين ما كان يؤمن به الشيخ الأكبر ابن عربي وغيره , كما أومن به أنا أيضا ) .
وبمثل ذلك قال الآخر : ولا يبعد أن التصوف الإسلامي قد تأثر إلى حد كبير بالفلسفة اليونانية والتصوف الهندي والأديان الأخرى المجاورة للعرب كالمسيحية في الشام واليهودية في اليمن والزرادشتية في العراق وبلاد الفرس وغيرها إذ تم الاختلاط بين العرب وبين معتنقي هذه الديانات في القرن الثاني والثالث الهجري , وترجمت الفلسفة اليونانية كما ترجمت الثقافات الأخرى التي كانت موجودة عند أهل هذه البلاد المفتوحة قبل دخولهم في الدين الإسلامي . لذلك رأى بعض العلماء أن التصوف الإسلامي هو إيجاد الفلسفة اليونانية . بينما قال البعض الآخر : أنه نواة الدين المسيحي , في حين أن فريقا من المحققين يميلون إلى التصوف الإسلامي قد أخذته العرب من الهنود كما أخذت العرب الفلسفة من اليونان إذ كان التصوف شائعا رائجا بين الهنود قبل الإسلام بقرون , ولم يظهر عند العرب في صورة مذهب مستقل إلا بعد فتح البلاد الهندية واختلاطهم بأهل تلك البلاد ) .
فهذه هي عبارات ونصوص الباحثين من المسلمين الذين عرفوا بالبحث والكتابة عن التصوف والصوفية , والأكثر منهم عرفوا بالولاء للصوفية والدفاع عنهم وعن معتقداتهم , والبعض منهم يُعَدّ من الصوفية ويحسب على التصوف .
هذا ولأجل ذلك ذهب معظم المستشرقين إلى أن الأفلاطونية الحديثة من أهم مصادر التصوف , وخاصة للتصوف المتأخر من القرون الأولى , ولقد بحث المستشرق الأنجليزي نيكلسون هذا الأمر في مقالاته عن التصوف بمواضع عديدة , فأرجع نشأته إلى عوامل خارجة عن الإسلام عملت عملها ابتداء من القرن الثالث الهجري . وأهم هذه العوامل وأبرزها في نظره هو الأفلاطونية الحديثة المتأخرة التي كانت شائعة في مصر والشام إلى عهد ذي النون المصري ومعروف الكرخي , ولهذا يتخذ من ذي النون المصري محورا لبحثه في هذه المقالة , فيأتي بكثير من الأسانيد التاريخية عن حياة ذي النون ونشأته , ويستدل بها على أن ذا النون كان على علم بالحكمة اليونانية الشائعة في عصره . ويتتبع حركة الثقافة اليونانية المتأخرة وطرق وصولها إلى المسلمين .
وينتهي إلى أن التصوف في ناحيته النظرية مأخوذة من الأفلاطونية الحديثة موافقا في ذلك رأي ميركس الذي شرح هذه النظرية في كتابه ( التاريخ العام للتصوف ومعالمه ) هيد لبرج سنة 1893 م .
ويقول نيكلسون : ( ولا حاجة بنا إلى الإطناب في الكلام عن انتشار الثقافة الهلينية بين المسلمين في ذلك العصر , فإن كل من له إلمام بتاريخ العرب الأدبي يعلم كيف طغت موجة العلوم اليونانية – وقد بلغت ذروتها آنئذ - على العراق من مراكز ثلاثة : من الأديرة المسيحية في الشام , ومن مدرسة جنديسابور الفارسية في خوزستان , ومن وثني حران أو الصابئة في الجزيرة . وقد نقل إلى العرب كتب لا حصر لعددها في الفلسفة والطب وسائر العلوم اليونانية الأخرى , وعكف على دراستها المسلمون وأتخذوها أساسا قامت عليه اتجاهاتهم الجديدة في البحث , حتى لتكاد العلوم والفلسفة الإسلامية تكون مؤسسة على حكمة اليونان وحدها .
وأبرز شخصية يونانية في الفلسفة الإسلامية هي أرسطو طاليس لا أفلاطون , ولكن العرب استمدوا أول علمهم بفلسفة أرسطو طاليس من شراح الأفلاطونية الحديثة , وكان المذهب الذي غلب عليهم هو مذهب أفلوطين وفور فوريوس وأبرقلس . وليس كتاب ( أثولوجيا أرسطو طاليس ) الذي نقل إلى العربية حوالي 840 م حسب تقدير دتريصي إلا ملخصاً لمذهب الأفلاطونية الحديثة . ومعنى هذا أن الأفكار الأفلاطونية الحديثة قد انتشرت بين المسلمين انتشارا واسعاً ... ولا داعي الآن إلى الاسترسال في هذا الموضوع بأكثر من هذا القدر , ويكفي القول بأن المسلمين قد وجدوا المذهب الأفلاطوني الحديث أينما حلوا وفي أي مكان اتصلوا فيه بالحضارة اليونانية .
وقد كان لمصر والشام دائما الصدارة بين الأمم التي انتشرت فيها الحضارة اليونانية , وهما البلدان اللذان ظهر التصوف فيهما لأول مرة بمعناه الدقيق وتطور كما أسلفنا . والرجل الذي اضطلع بأكبر قسط في تطور هذا النوع من التصوف , هو ذو النون المصري الذي وصف بأنه حكيم كيميائي , أو بأنه – بعبارة أخرى – أحد أولئك الذين نهلوا من منهل الثقافة اليونانية . فإذا أضفنا إلى هذا أن المعاني التي تكلم فيها ذو النون هي _ في جوهرها – المعاني التي نجدها في كتابات يونانية مثل كتابات ديونيسيون ........
وليس عندي من شك في أن المذهب الغنوصي بعد ما أصابه من التغيير والتحوير على أيدي مفكري المسيحية واليهودية , وبعد امتزاجه بالنظريات اليونانية كان من المصادر الهامة التي أخذ عنها رجال التصوف الإسلامي , وأن بين التصوف والغنوصية مواضع اتفاق كثيرة هامة . ولا شك عندي أيضاً في أن دراسة هذه المسألة دراسة دقيقة وافية لما يأتي بأطيب الثمرات , ولكنني على يقين من أننا إذا نظرنا إلى الظروف التاريخية التي أحاطت بنشأة التصوف بمعناه الدقيق , استحال علينا أن نرد أصله إلى عامل هندي أو فارسي , ولزم أن نعتبره وليداً لاتحاد الفكر اليوناني والديانات الشرقية : أو بمعنى أدق وليد اتحاد الفلسفة الأفلاطونية الحديثة والديانة المسيحية والمذهب الغنوصي ) ز
ويقول في مقال آخر : ( ومما يحملنا على الجزم بوجود أثر للفلسفة اليونانية في التصوف الإسلامي أن نظرية المعرفة فيه ظهرت في غربي آسيا ومصر في بلاد تأصلت فيها الثقافة اليونانية أحقابا طويلة , وكان بعض المبرزين في الكلام فيها من أصل غير عربي ) .
وفي مقال آخر صرح بأن التصوف الفلسفي الإلهي هو أثر من آثار النظر اليوناني , ولا يمكن الإنكار من امتزاج الفكر اليوناني والدين الإسلامي في التصوف وخاصة الأفلاطونية المحدثة . وبمثل ذلك قال براون في كتابه 0 تاريخ فارس الأدبي ) , والمستشرق الأوليري في كتابه ( الفكر العربي ومكانته في التاريخ ) .
ومير كس في كتابه .
ويقول ماسينيون المستشرق الفرنساوي : ( وتسربت الفلسفة اليونانية إلى العالم الإسلامي , وأخذ يزداد باطراد منذ أيام الأذرية القرامطة القدامى , والرازي الطبيب إلى عهد ابن سينا , وكان من نتيجة ذلك أن استحدثت في القرن الرابع الهجري مصطلحات ميتافيزيقة أدق من سابقتها يفهم منها أن الروح والنفوس جواهر غير مادية , وأن ثمة معاني عامة وسلسلة من العلل الثانية وغير ذلك , وأن هذه المصطلحات اختلطت بالإلهيات المنحولة لأرسطو , وبمثل أفلاطون , وفيوضات أفلوطين , وقد كان لهذا كله أثر بالغ في تطور التصوف ) .
فهذه هي آراء المستشرقين , تشبه تماما آراء من ذكرناهم قبل ذلك من المسلمين .
وهناك في كتب بعض الصوفية المتقدمين ما يدل على ارتباطهم بالفلسفة اليونانية وأخذهم عنها , وتأثرهم بها , حيث مجدوها وبالغوا في الثناء عليها , وعلى من أوجدها وطرحها ونشرها بين الناس , ولو حصل الخطأ في نسبة بعض الآراء والأفكار إلى البعض دون البعض , وإلى الواحد دون الآخر كما مرت الإشارات إلى ذلك أثناء نقل العبارات السابقة عنهم .
فيقول الجيلي في كتابه ( الإنسان الكامل في معرفة الأواخر والأوائل ) في الجزء الثاني منه ما يدل على حبه العميق لموجدي الفلسفة اليونانية والربط الشديد لموجديها , فيقول :
( ولقد اجتمعت بأفلاطون الذي يعدونه أهل الظاهر كافرا , فرأيته وقد ملأ العالم الغيبي نورا وبهجة , ورأيت له مكانة لم أرها إلا لآحاد من الأولياء , فقلت له : من أنت ؟ قال : قطب الزمان وواحد الأوان , ولكم رأينا من عجائب وغرائب مثل هذا ليس من شرطها أن تفشي , وقد رمزنا لك في هذا الباب أسراراً كثيرة ما كان يسعنا أن نتكلم فيها بغير هذا اللسان , فألق القشر من الخطاب وخذ اللب إن كنت من أولي الألباب ) .
وفي مقام آخر من كتابه كتب أن أرسطو تلميذ أفلاطون لزم خدمة الخضر واستفاد منه علوما جمة , وكان من تلامذته .
وهذا غير ما ذكر من آرائه وآراء أفلاطون وفلسفتهما , والتعلق والتمسك بها ومصطلحاتها التي استعملها واعتنقها وآمن بها .
وبمثل ذلك كتب لسان الدين بن الخطيب في كتابه الصوفي الكبير ( روضة التعريف بالحب الشريف ) حيث يلقب أفلاطون كلما يذكره بمعلم الخير , وأرسطو بحكيم متأله , وسقراط وهرمس وغيرهم من أهل الأنوار .
وحكى عن أرسطو ( خطأ ) أنه حصل له الاتحاد بالذات الإلهية . فيقول نقلا عن أرسطو أنه قال :
( إني ربما خلوت بنفسي كثيراً , وجعلت بدني جانبا , وصرت كأني مجردا بلا بدن , عري من الملابس الطبيعية , فأكون داخلا في ذاتي , خارجا من سائر الأشياء . فأرى في ذاتي من الحسن والسناء , والبهاء والضياء والمحاسن العجيبة , والمناظر الأنيقة , ما أبقى له متعجبا متحيراً باهتاً , فأعلم أني جزء من أجزاء العالم الأعلى الشريف . فلما أيقنت بذلك , رقيت بذهني إلى العلة الإلهية المحيطة بالكل , فصرت كأني موضوع متعلق بها . فأكون فوق العالم كله , فأراني كأني واقف في ذلك الموقف الشريف المقدس الإلهي فأرى هنالك من النور والبهاء , والبهجة والسناء , وملا تقدر الألسن على صفته , ولا الأسماع على نعته , ولا الأوهام أن تحيط به , فإذا استغرقني ذلك النور والبهاء , لم أطق على احتماله , ولا الصبر عليه فارتددت عاجزاً عن النظر إليه , وهبطت من العقل إلى الفكر والروية , فإذا صرت في عالم الفكر والروية , حجبت الفكرة عني ذلك النور والبهاء , وحالت بيني وبينه الأوهام , فأبقى متعجباً كيف انحدرت من ذلك الموضع الشاهق العالي الإلهي , وصرت سفلا في موضع الفكر والضيقة , بعد أن قويت نفسي على التخلف عن بدنها , والرجوع إلى ذاتها , والترقي إلى العالم العقلي , ثم العالم الإلهي , مع العقول فوق العوالم كلها , حتى صارت في موضع البهاء والنور والسناء مجتلية الذي هو علة كل نور وبهاء , وسبب كل دواء وبقاء .
ومن العجب . أني كنت رأيت نفسي ممتلئة نوراً , وهي في البدن كهيئتها , والبدن معها , وهي خارجة عنه , على أني لما أطلت الفكرة , ومحضت الروية , وأجلت الرأي , وصرت كالمتحير المبهوت , تذكرت الفلنطوس , فإنه أمر بالطلب والبحث عن جوهر النفس الشريفة , والحرص على الصعود إلى ذلك العالم الشريف الأعلى . وقال : إنه من حرص على ذلك , وارتقى إلى العالم الأعلى , ولحق بالجواهر الإلهية , والأسباب الكلية , يجزي أحسن الجزاء اضطرارا . فلا ينبغي لأحد أن يفتر عن الطلب والحرص , والجد في الارتقاء إلى ذلك العالم , وإن تعب وكد ونصب , فإن أمامه الراحة التي لا تعب بعدها , في حياة دائمة , وعيشة راضية , ولذات باقية لا يتناهى أمدها , ولا يقطع مددها , مخلوقة للإنسان كلها , والإنسان مخلوق لها , أليس عجزا أن تمر ساعة من عمره في غير ما خلق له من ذلك ؟ أليس من فرط في السعي لذلك ظالما لنفسه , ومهلكا ذاته , وفاعلا بجوهرته النفيسة ما لم يفعل به أعدى عدو له , فيندم حين لا ينفعه الندم ) .
ثم علق عليه بقوله : ( وبيان هذه السعادة : من تعرض له , فقد تعاطى ما لا يستقل به نفس , ولا تطمع فيه قوة ... وسبيل السعادة عندهم الرياضة , وعلاج الأخلاق , حتى يصير شيبها بالخير المحض وهو المبدأ , وتلطيف السر , وأن يصرف عن النفس شواغل الجسم , ويترقى في معارج المحبة والشوق إلى ذلك الكمال بالفكرة , حتى تحس النفس بانجذابها إلى عالمها , وتفيض عليها عجائبه . وقد أخبر هؤلاء الإلهيون عن أنفسهم عن أنفسهم بما ذكرناه آنفا , من أنهم نزعوا جلابيب الجسمانية في هذا العالم , وترقوا إلى العالم العلوي , فأبصروا من نوره ولذاته أموراً مذهلة , ثم عادوا إلى عالم الحس , ورمزوا ذلك في كتبهم , حسبما نقل سقراط الدنان , ومعلم الخير أفلاطون وإمام المشائين أرسطو ) .
وهذه العبارات منثورة مبعثرة في كتب القوم كثيرا , ناطقة عن كنههم وحقيقة مشربهم الذي اختاروه منهجا ومسلكا من التصوف والصوفية كشهادات داخلية واعترافات ذاتية .
وعلى ذلك قال الصوفي المشهور عبد الوهاب الشعراني عن شيخه : ( وكان سيدي أفضل الدين رحمه الله يقول : كثير من كلام الصوفية لا يتمشى ظاهره إلا على قواعد المعتزلة والفلاسفة فالعاقل لا يبادر إلى الإنكار بمجرد عزو الكلام إليهم , بل ينظر ويتأمل في أدلتهم التي استندوا إليها , فما كل ما قاله الفلاسفة والمعتزلة في كتبهم يكون باطلا ) .
وبعد هذه الشهادات والاعترافات لا نرى الاحتياج إلى ذكر عبارات الصوفية , ومقارنتها بآراء الفلاسفة والأفلاطونية المحدثة كي لا يطول بنا الحديث ولو أننا سوف نتكلم في هذا الخصوص ونضطر إلى سرد تلك النصوص في محل آخر من الكتاب عند الاحتياج والضرورة .
فهذه هي مصادر التصوف , التي استقى منها شجرته حتى نمت وازدهرت , فأينعت وأثمرت , ولا يمكن رده إلى مصدر واحد ( فإن أثر المسيحية والأفلاطونية الحديثة والفلسفة البوذية عامل لا سبيل لنا إلى إنكاره في التصوف الإسلامي . وقد كانت هذه المذاهب والفلسفات متغلغلة في الأوساط التي عاش فيها الصوفية , فلم يكن بدّ من أن تترك طابعها في مذاهبهم , ولدينا أدلة كافية توضح أثرها في التصوف ومكانتها منه , ولو أن المادة التي بين أيدينا لا تمكننا من تتبع أثرها بالتفصيل . وبالجملة يمكن القول بأن التصوف في القرن الثالث – شأنه في ذلك شأن التصوف في عصر من عصوره – ظهر نتيجة لعوامل مختلفة أحدثت أثرها في مجتمعه . أعني بهذه العوامل البحوث النظرية في معنى التوحيد الإسلامي , والزهد والتصوف المسيحيين , ومذهب الغنوصية , والفلسفة اليونانية والهندية ) .
وكان هناك مصدر هام له تأثير قوي في تكوين التصوف وتشكيله , وتحوير منهجه وتطويره , وترويج الأفكار الأجنبية البعيدة عن الإسلام وتعاليمه فيه , غير هذه المصادر التي ذكرناها , وهو : التشيع الذي وضع نواته اليهود , وساهمت في تنشئته وتنميته الديانات الفارسية .
ولكن لما لهذا المصدر من أهمية كبيرة وتأثير كبير لتغيير وجهة التصوف ومجراه , وتخليق أفكار غريبة فوق الغرابة التي وجدت فيه من المصادر الأخرى ربما تصطدم بنصوص صريحة للقرآن والسنة لا تحمل التأويل وتقضي على تعاليمها .
ولفارق آخر وهو أن مصادر التصوف الأخرى أخذ منها التصوف أفكارها , واقتبس منها آراءها دون أن يكون لتلك المصادر قصد ورغبة , وهدف وغرض , ولتلقين المتصوفة تعاليمها وفلسفاتها , ونشرها بينهم , غير أن التشيع بثّ أفكاره ودسّ معتقداته , وروجّ نظرياته بين الصوفية عن قصد وعمد لتشويش المسلمين في عقائدهم ومعتقداتهم وتبكيت أهل السنة عن الاعتراض على التشيع وزيغه وضلاله , وإلزامهم السكوت بإبراز طائفة تنتمي إليهم , وتحسب عليهم , وتحمل نفس المعتقدات التي تشتمل عليها هي , وهذا أمر خطير في تاريخ الطوائف والفرق , والملل والنحل .
ولذلك نخصص لبيانه بابا مستقلا ليكون الباحث والقارئ على إطلاع كامل على ما يحتاجه هذا البحث , وتتطلبه هذه القضية .
البَابُ الثالث التــّشَـيُّع وَ التّصَوُّف إن التشيع أوجده اليهود , وأسسوا أسسه , وأصلوا أصوله , وأرسو قواعده , ووضعوا عقائده ومعتقداته , بواسطة إبنهم البار عبد الله بن سبأ , المتزيّ بزيّ الإسلام , واللابس ثوبه ولباسه , تقية وخداعا , الذي أرسل إلى عاصمة الخلافة الإسلامية أيام الخليفة الراشد الثالث عثمان بن عفان رضي الله عنه من قبل يهود صنعاء اليمن لتقويض دعائم الإسلام , وفناء دولته , ومسخ شريعته السماوية البيضاء , وهدم قوائمها وأركانها , وترويج عقائد اليهودية بين المسلمين , وإيجاد الفرقة والاختلاف بينهم , وإسعار نار الحقد والبغضاء , وفتح باب المطاعن والتلاعن , والسباب والشتائم , بدل الأخوة الصادقة والتوادّ والتعاطف والتراحم : ( إن عبد الله بن سبأ كان يهوديا فأسلم , ووالى عليا عليه السلام , وكان يقول وهو على يهوديته في يوشع بن نون وصيّ موسى بالغلو , فقال في إسلامه بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله في عليّ مثل ذلك , وكان أول من أشهر القول بفرض إمامة علىّ , وأظهر البراءة من أعدائه , وكاشف مخالفيه , وكفرهم . ومن هنا قال من خالف الشيعة : إن التشيع والرفض مأخوذ من اليهودية ) .
فاجتمع حوله وتحت لواء التشيع كثر من أبناء اليهودية البغيضة , والفرس المهزومين , والبابليين المكسورين , والموالي المقهورين , والكارهين للعرب حكامهم , والفاتحين بلادهم , والآخذين زمام أمورهم , بعد فشلهم في محاربة الإسلام وجيوشه المظفرة المنصورة وجها لوجه , واندحار قوتهم , وانكسار شوكتهم , فغيّروا أسلوبهم في مزاحمة الإسلام جهرا , فتستّروا بستار الإسلام , ودخلوا في صفوفه , واندمجوا في بيئته , وروّجوا بين المسلمين أفكارا يهودية ومجوسية ونصرانية , وعقائد مدخولة مدسوسة , نقمة على الإسلام والمسلمين , من حلول الإله أو الجزء الإلهي في الخلق , وإجراء النبوة بعد خاتم النبيين صلوات الله وسلامه عليه , ونزول الوحي وإتيان الملائكة , وحصول العصمة , ووجود شخص في كل عصر وزمان به قيام الأرض وثباتها , وعقيدة الوصاية والولاية , والإخفاء والكتمان , والتأويل , و انقسام العلم إلى الظاهر والباطن , وتقسيم الناس إلى العامة والخاصة , وتعطيل الشريعة ومسخها , ومسخ تعاليمها , ورفع التكليف وغير ذلك من الخرافات والترهات مما لا علاقة لها بالإسلام , قريبة ولا بعيدة , ولم يقصد من بثّها ودسها إلا ضرب الإسلام ومحوه من الوجود وتفريق كلمته , وتشتيت قوته , ودرء هيمنته , وخرق هيبته .
فكان هذا هو المقصود من تكوين التشيع وإنشائه , فأدى التشيع في سبيل ذلك خدمات جليلة , وكان أول ضحيته سيدنا الإمام المظلوم عثمان بن عفان الخليفة الراشد الثالث وصهر رسول الله , كما كان أول ثمرته التفرق والتمزق , والتشتت والتحزب في الأمة الإسلامية الواحدة , المتفقة العقائد , المتحدة الآراء والأفكار , فولدت الفرق , ونشأت الطوائف العديدة وبرزت الآراء الجديدة , وراجت بين المسلمين مذاهب لم تكن موجودة ولا معروفة من قبل , وكثير من المذاهب المنحرفة والعقائد الزائفة غذّيت من قبل التشيع , ونمّيت وربّيت , وأمدّت ودعّمت , ولو أنه بعد حين صار هذا الزيغ والضلال من لوازم تلك النحلة , وعلائم تلك الطائفة , حيث أنسى تقادم العهد المصدر الأصلي , والمنبع الحقيقي , والموجد الأول , والمنشئ الأصلي , وكان الهدف من هذا أن تعمّ الفتنة , ويكثر البلوى , وتبعد أمة محمد صلى الله عليه وسلم من محمد عليه الصلاة والسلام وإرشاداته وتوجيهاته , وعن الكتاب الذي أنزل على قلبه الطاهر , وعن أحكامه وضوابطه , وأن تضعف كذلك , ويضعف سلطانها , وينكمش حكمها , سلطتها و اختيارها .
فكان إحدى هذه الفرق والنحل والمشارب والمذاهب , الصوفية والتصوف , كما يظهر لمن درس كتب التاريخ والعقائد والمسالك , وتعمق في منشأ ومولد الطوائف والنحل أن كل فتنة ظهرت في تاريخ الإسلام , وكل ديانة طلعت من العدم إلى الوجود كان رأسها ومديرها , أو منشئها ومدبرها واحد من الشيعة .
وكذلك كان أمر الصوفية . فإن الثلاثة الذين اشتهروا في التاريخ الإسلامي باسم الصوفي ولقبه بادئ ذي بدء كان اثنان منهم من الشيعة أو متهمين بالتشيع , كما أن هؤلاء الثلاثة كلهم كانوا من موطن الشيعة آنذاك , وهو الكوفة .
فأبو هاشم الكوفي الذي فصلنا فيه القول فيما مر لم يرم بالتشيع ولكنه كان من الكوفة الشيعية , ومتهما بالزندقة والدهرية . أما جابر بن حيان فيذكره ماسينيون بقوله : ( وورد لفظ الصوفي لقبا مفردا لأول مرة في التاريخ في النصف الثاني من القرن الثامن الميلادي إذ نعت به جابر بن حيان وهو صاحب كيمياء شيعي من أهل الكوفة , له في الزهد مذهب خاص ) .
وذكره نيكلسون بقوله : ( جابر بن حيان الكيميائي المعروف كان يدعي جابر الصوفي , وأنه تقلد كما تقلد ذو النون المصري علم الباطن الذي يطلق عليه القفطي مذهب المتصوفين من أهل الإسلام ) .
ويذكر المستشرق التشيكوسلاوي بي كراؤس P. KRAUS وم بلسنر M. PLESSNER أن ( جابر بن حيان كان من الشيعة الغلاة , ولعله كان من القرامطة أو الإسماعيلية , وكان يرجح مثل النصيرية سلمان على محمد , كما كان يعتقد مثل الغلاة والنصيرية عقيدة تناسخ الأرواح ) .
وهذان المستشرقان ينقلان عن جابر بن حيان نفسه أنه يقول : ( إنه أخذ جميع علومه عن جعفر الصادق معدن الحكمة , وأنه ليس إلا الناقل المحض والمرتب ) .
وبمثل ذلك قال هولميارد الإنجليزي الذي نشر عديدا من كتب جابر بن حيان . وأما الشيعة فيعدونه من أعيانهم . فلقد كتب السيد محسن الأمين الشيعي المشهور في ترجمته أكثر من ثلاثين صفحة في كتابه ( أعيان الشيعة ) فيقول : ( أبو عبد الله , ويقال : أبو موسى جابر بن حيان بن عبد الله الطرطوسي الكوفي المعروف بالصوفي .... كان حكيما رياضيا فيلسوفا عالما بالنجوم طبيبا منطقيا رصديا مؤلفا مكثرا في جميع هذه العلوم وغيرها : كالزهد والمواعظ , من أصحاب الإمام جعفر الصادق عليه السلام , وأحد أبوابه , ومن كبار الشيعة , ومايأتي عند تعداد مؤلفاته يدل على أنه كان من عجائب الدنيا ونوادر الدهر , وأن عالما يؤلف ما يزيد على 3900 كتاب في علوم جهلها عقلية وفلسفية لهو حقا من عجائب الكون , فبينا هو فيلسوف حكيم ومؤلف مكثر في الحيل والنرنجيات والعزائم ومؤلف في الصنائع وآلات الحرب , إذا هو زاهد واعظ مؤلف كتبا في الزهد والمواعظ ) .
ثم نقل عن عديد من الشيعة أنهم ذكروا في كتبهم الرجالية , وعدّوه من تلامذة جعفر بن الباقر , ثم قال : ( يستفاد مما سلف أمور , وهي : تشيعه , وعلمه بصناعة الكيمياء , وتصوفه , وفلسفته , وتلمذته على الصادق عليه السلام , واشتهاره عند أكابر العلماء , واشتهار كتبه بينهم اشتهارا لا مزيد عليه ) .
ثم كتب تحت عنوان ( أما تشيعه ) : ( فيدل عليه عدّ ابن طاوس له في منجمي الشيعة , ورواية ابني بسطام عنه عن الصادق عليه السلام , وروايته خمسمائة رسالة للصادق عليه السلام كما ذكره اليافعي , ونقل ابن النديم عن الشيعة أنه من كبارهم وأحد الأبواب , وأنه إنما كان يعني بسيده جعفر هو الصادق , لا جعفر البرمكي , ولا ينافيه زعم الفلاسفة أنه منهم , فإنه لا تنافي بين كونه فيلسوفا وشيعيا , إذ المراد الفلسفة الإسلامية , لا فلسفة الحكماء القدماء التي قد تنافي الشريعة , وقول ابن النديم : أن له كتبا في مذاهب الشيعة كما تقدم ذلك كله ) .
ونقل أيضا عن الدكتور أحمد فؤاد الأهواني أن ( والد جابر بن حيان قتل في خراسان لاتهامه بالتشيع ) .
ونضيف إلى ذلك أن الرجالي الشيعي المشهور الطهراني أيضا عده من رجال الشيعة حيث ذكر في موسوعته كتابين له : ( كتاب الرحمة الصغير , وكتاب الرحمة الكبير لجابر بن حيان الصوفي الطوسي الكوفي المتوفى سنة مائتين من الهجرة ) .
وأما من متقدمي الشيعة فيذكره ابن النديم بقوله : ( وهو أبو عبد الله جابر بن حيان بن عبد الله الكوفي المعروف بالصوفي , واختلف الناس في أمره . فقالت الشيعة : أنه كان من كبارهم وأحد الأبواب , وزعموا أنه كان صاحب جعفر الصادق رضي الله عنه , وكان من أهل الكوفة .
وزعم قوم من الفلاسفة أنه كان منهم , وله في المنطق والفلسفة مصنفات . وزعم أهل صناعة الذهب والفضة أن الرياسة انتهت إليه في عصره , وأن أمره كان مكتوم . وزعموا أنه كان يتنقل في البلدان لا يستقر به بلد خوفا من السلطان على نفسه .
وقيل : إنه كان في جملة البرامكة ومنقطعا إليها , ومتحققا بجعفر بن يحيى . فمن زعم هذا قال : أنه عنى بسيده جعفر هو البرمكي . وقالت الشيعة : إنما عنى جعفر الصادق ) .
ثم أصدر رأيه في معتقداته بقوله : ( ولهذا الرجل كتب في مذاهب الشيعة ) .
ونقل عنه أنه (كان تلميذا لجعفر بن محمد الباقر , أو عبده ) .
ومما يدل على تشيعه وكونه من الحلوليين والمغالين في التشيع ما نقله في رسائله التي تنسب إليه أنه قال : ( بعد ما سمعت كلام الصادق في الكيمياء والطلسم فخررت ساجدا , فقال ( أي جعفر ) : لو كان سجودك لي وحدك لكنت من الفائزين , قد سجد لي آبائك الأولون , وسجودك لي سجودك لنفسك ) . وأما كونه تلميذا لجعفر فيقره الحاج خليفة في ( كشف الظنون ) , وابن خلكان في وفياته . وغيرهمـــــا . ولقد فات الدكتور الشيبي عندما أنكر على جابر بن حيان التصوف حيث قال : ( أن صلة جابر بالتصوف اسمية لأنه لم يكن صاحب مجاهدة أو خوف , أو نطاقا بأقوال زهدية , وإنما نقل عنه اشتغاله بالكيمياء ) .
قد فاته ما ذكره ابن النديم في فهرسته نقلا عن جابر بن حيان نفسه أنه قال : ( ألفت كتبا في الزهد والمواعظ ) .
وكذلك ما نقله هو نفسه عن ( أخبار الحكماء ) أن ( جابر بن حيان كان مشرفا على كثير من علوم الفلسفة ومتقلدا للعلم المعروف بعلم الباطن , وهو مذهب المتصوفين من أهل الإسلام , كالحارث المحاسبي , وسهل بن عبد الله التستري ونظرائهم ) .
وكذلك ما نقله فيليب حتى حيث قال : ( أنه ادعى مذهبا خاصا في الزهد ) .
فهذا هو أول الثلاثة الذين لقبوا بالصوفية , والذي توفي بين 160 إلى 200 هجرية على اختلاف في الأقوال .
عَبْـــــــــــــــــــــدك و أما الثاني فهو عبد الله الصوفي فأيضا ذكره كل من المستشرق ماسينيون والباحث الإيراني الشيعي الدكتور قاسم غني , والشيعي العراقي دكتور مصطفى الشيبي وغيرهم , شاهدين بأنه كان شيعيا مغاليا .
فيقول ما سينيون : ( أما صيغة الجمع ( الصوفية ) التي ظهرت عام 199هـ ( 814 م ) في خبر فتنة قامت بالإسكندرية فكانت تدل – قرابة ذلك العهد فيما يراه المحاسبي والجاحظ – على مذهب من مذاهب التصوف الإسلامي يكون شيعيا نشأ في الكوفة , وكان عبدك الصوفي آخر أئمته , وهو من القائلين بأن الإمامة بالتعيين , وكان لا يأكل اللحم , وتوفي ببغداد حوالي عام 210هـ ( 825 م) .
وإذن فكلمة ( صوفي ) كانت أول أمرها مقصورة على الكوفة ) .
وكتب دكتور ( قاسم غني ) عنه : ( كان رجلا معتزلا الناس , زاهدا , وكان أول من لقب بلقب الصوفي – وأضاف الدكتور قاسم غني : وهذا اللفظ كان يطلق في تلك الأيام على بعض زهاد الشريعة من الكوفيين , وقد أطلقت هذه الكلمة أيضا في سنة 199هـ على بعض الناس مثل ثوار الإسكندرية , ولأن عبدك كان لا يأكل اللحم , عده بعض المعاصرين من الزنادقة . وكذلك يقول ماسينيون : لم يكن السالكون في القرون الأولى يعرفون باسم الصوفية , وقد عرف الصوفي في القرن الثالث , وأول من اشتهر في بغداد بهذا الاسم هو عبدك الصوفي الذي كان من كبار شيوخهم وأقطابهم , وهو سابق على بشر بن الحارث الحافي المتوفى سنة مائتين وسبع وعشرين , وأيضا قبل السري السقطي المتوفى في سنة مائتين وخمس وعشرين .
وبناء على ذلك نالت كلمة الصوفي شهرة في بادئ الأمر في الكوفة , ثم أصبحت أهميتها كبيرة بعد نصف قرن في بغداد , وصار المقصود من كلمة الصوفية جماعة عرفاء العراق بازاء جماعة الملامتية الذين كانوا من عرفاء خراسان , وتجاوز الإطلاق حده منذ القرن الرابع وما بعده . وأصبح المقصود من إطلاق كلمة الصوفية , جميع عرفاء المسلمين . وارتداء الصوف أي الجبة البيضاء الصوفية الذي كان حوالي أواخر القرن الأول من عادة الخوارج والمسيحيين ) .
هذا ونقل الشيبي عن السمعاني أنه قال : ( إن اسم عبدك هو عبد الكريم , وأن حفيده محمد بن علي بن عبدك الشيعي كان مقدم الشيعة ) . ثم قال : ( وهكذا يبدو عبدك جامعا لاتجاهات عديدة مختلفة نابعة من التشيع , الممتزجة بالزهد المتأثر بظروف الكوفة التي انتقل منها كثير من سكانها إلى بغداد , بعد أن صارت عاصمة للدولة الجديدة , والمهم في شأن عبدك أنه أول كوفي يطلق عليه اسم صوفي بعد انتقاله إلى بغداد ... وقد رأينا أن لبس الصوف قد نبع من بيئة الكوفة التي عرفت بتمسكها بالتشيع ومعارضتها وحربها بالسيف أو بالقول أو بالقلب لمن نكل بالأئمة العلويين , وذلك – إذا صح – يقطع بأن التصوف في أصوله الأولى كان متصلا بالتشيع ) .
هذا ولقد ذكره أيضا من المتقدمين الملطي بقوله : ( إن عبدك كان رأس فرقة من الزنادقة الذين زعموا أن الدنيا كلها حرام محرم لا يحل الأخذ منها إلا القوت من حيث ذهب أئمة العدل , ولا تحل الدنيا إلا بإمام عادل وإلا فهي حرام , ومعاملة أهلها حرام , فحل لك أن تأخذ القوت من الحرام من حيث كان ) .
فهذا هو الرجل الثاني الذي لقب بلقب الصوفي بداية الأمر .
وأما الثالث فلقد ذكرناه فيما مر , وهو كوفي أيضا , ولكنه من العجائب فهو وإن لم يكن متهما بالتشيع متهم بالزندقة والدهرية كما ذكر الحاج معصوم علي : كان يلبس لباسا طويلا من الصوف كفعل الرهبان , ويرى أنه كان يقول بالحلول والإتحاد مثل النصارى , غير أن النصارى أضافوا الحلول والاتحاد إلى عيسى عليه السلام وأضافهما هو إلى نفسه , وكان مترددا بين هاتين الدعوتين , ولم يعلم على أيهما استقر في النهاية – ونقل عن كتاب أصول الديانات أنه - : كان أمويا وجبريا في الظاهر وباطنيا ودهريا في الباطن , وكان مراده من وضع هذا المذهب أن يثير الاضطراب في الإسلام ) .
ومن الغرائب أن شخصا آخر وهو ذو النون المصري الذي يقال عنه : ( أنه أول من عرف التوحيد بالمعنى الصوفي ) .
وهو : ( رأس هذه الطائفة , فالكل قد أخذ عنه وأنتسب إليه , وقد كان المشائخ قبله ولكنه أول من فسر الإرشادات الصوفية وتكلم في هذا الطريق ) . وأنه : ( هو أول من تكلم في بلده في ترتيب الأحوال ومقامات أهل الولاية ) . كما أثر عنه بأنه ( أول من وضع تعريفات للوجد والسماع ) .
وعلى ذلك قال بحق , الكاتب الإنجليزي المشهور عن الصوفية : ( هو أحق رجال الصوفية على الإطلاق بأن يطلق عليه اسم واضع التصوف , وقد اعترف له بالفضل في هذا الميدان كتّاب التراجم المؤرخون من المسلمين ) .
فهذا هو الشخص الآخر من واضعي التصوف , وكان أيضا متهما بالزندقة والاشتغال بالسحر والطلسمات كما نقل الإمام الذهبي عن يوسف بن أحمد البغدادي أنه قال : ( كان أهل ناحيته يسمونه بالزنديق ) .
ونقل أيضا عن السلمي أنه قال :
( ذو النون أول من تكلم ببلدته في ترتيب الأحوال , ومقامات الأولياء , فأنكر عليه عبد الله بن عبد الحكم , وهجره علماء مصر . وشاع أنه أحدث علما لم يتكلم فيه السلف , وهجروه حتى رموه بالزندقة . فقال أخوه : أنهم يقولون : إنك زنديق . فقال :
ومالي سوى الإطراق والصمت حيلة ووضعي كفى تحت خدي وتذكاري ) . وقال الإمام الذهبي : ( وقل ما روى الحديث ولا كان يتقنه , وقال الدارقطني : روى عن مالك أحاديث فيها نظر ) .
والصوفي المشهور فريد الدين العطار يكتب في ترجمته أنه ( كان من الملامتية لأنه أخفى تقواه بظهوره في الناس بالاستخفاف بأمور الشرع , ولذلك عده المصريون زنديقا , ولو أنهم اعترفوا له بالولاية بعد موته ) .
وقد ذكره ابن النديم من الملمين بعلم الكيمياء , والعارفين به والكاتبين فيه .
ويذكره القفطي بقوله : ( ذو النون بن إبراهيم الإخميمي المصري , من طبقة جابر بن حيان في انتحال صناعة الكيمياء , وتقلد علم الباطن والإشراف على كثير من علوم الفلسفة . وكان كثير الملازمة لبر با بلدة إخميم , فإنها بيت من بيوت الحكمة القديمة , وفيها التصاوير العجيبة والمثالات الغريبة التي تزيد المؤمن إيمانا , والكافر طغيانا . ويقال : أنه فتح عليه علم ما فيها بطريق الولاية . وكانت له كرامات
| |
| | | الشيخ عودة الشيخ عودة
عدد المساهمات : 1748 تاريخ التسجيل : 28/09/2008 العمر : 74
| موضوع: رد: المنْشَأ وَالمَصَادِر تأليف الأستاذ إحسان إلهي ظهير الإثنين نوفمبر 02, 2015 2:37 pm | |
| وكذلك المسعودي يذكر أنه ( جمع معلوماته عن ذي النون من أهل إخميم عندما زار هذا البلد . وهو يروي عنهم أن أبا الفيض ذا النون المصري الإخميمي الزاهد كان حكيما سلك طريقا خاصا , وأتخذ في الدين سيرة خاصة , وكان من المعنيين بحل رموز البرابي في إخميم , كثير التطواف بها . وأنه وفق إلى حل كثير من الصور والنقوش المرسومة عليها , ثم يذكر المسعودي ترجمة لطائفة من هذه النقوش التي ادعى ذو النون أنه قرأها وحلها ) .
ثم وبعد ذكر هذه العبارات كتب نيكلسون ما خلاصته : ( أن ذا النون كان كثير العكوف على دراسة النقوش البصرية المكتوبة على المعابد وحل رموزها , كما كانت مصر القديمة في نظر المسلمين مهد علوم الكيمياء والسحر وعلوم الأسرار , وكان هو من أصحاب الكيمياء والسحر مع أن الإسلام حرم السحر , ولذلك ستره بلباس الكرامات , ومن هنا بدا تأثير السحر في التصوف , ويؤيد ذلك استخدام ذي النون الأدعية السحرية واستعماله البخور لذلك كما ذكره القشيري في رسالته ) .
فهذا هو الرجل الآخر من الثلاثة الأول الذين يقال عنهم بأنهم أول من لقبوا بهذا اللقب , ووصفوا بهذا الوصف , وعرفوا بهذا الرسم أو عرّفوا هذا الطريق إلى الناس بادئ ذي بدء .
سَلاَسِلُ التّصَوّف
ومن شواهد تأثر التصوف بالتشيع وعلمائها أن سلاسل التصوف كلها ما عدا النادر القليل منها تنتهي إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه دون سائر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم , وفي طرق إسنادها إلى علي أسماء أئمة الشيعة المعصومين حسب زعمهم من أولاد علي رضي الله عنه دون غيرهم , وأن رؤساء هذه العصابة يذكر لهم اتصال وثيق , وصلات وطيدة مع أئمة القوم كما يذكر في تراجمهم وسيرهم وأحوالهم , إضافة إلى ذلك أن الخرقة الصوفية لا يبدأ ذكرها أيضا إلا من علي رضي الله عنه أيضا .
فإن علي بن أبي طالب رضي الله عنه مع كونه من سادة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأشرافهم , ومن العشرة المبشرين بالجنة , ورابع الأربعة من الخلفاء الراشدين الذين خلفوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد وفاته لقيادة هذه الأمة وتسيير أمورها ولكنه لم يكن أزهد من أبي بكر الصديق رضي الله عنه , ولا من عمر الفاروق رضي الله عنه ( أبي بكر الصديق السابق بالتصديق الملقب بالعتيق , المؤيد من الله بالتوفيق , صاحب النبي صلى الله عليه وسلم في الحضر والأسفار , ورفيقه الشفيق في جميع الأطوار , وضجيعه بعد الموت في الروضة المحفوفة بالأنوار , المخصوص في الذكر الحكيم بمفخر فاق به كافة الأخيار , وعامة الأبرار , وبقي له شرفه على كرور الأعصار , ولم يسم إلى ذروته همم أولي الأيدي والأبصار , حيث يقول علم الأسرار : ثاني اثنين إذ هما في الغار , إلى غير ذلك من الآيات والآثار , ومشهور النصوص الواردة فيه والأخبار , التي غدت كالشمس في الانتشار , وفضل كل من فاضل , وفاق كل من جادل وناضل , ونزل فيه : لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل , توحد الصديق , في الأحوال بالتحقيق , واختار الاختيار من الله دعاه إلى الطريق , فتجرد من الأموال , والأغراض , وانتصب في قيام التوحيد للتهدف والأغراض , صار للمحن هدفا , وللبلاء غرضا , وزهد فيما عزله جوهرا كان أو عرضا ) .
( ومات ولم يترك دينارا ولا درهما ) . ( وكفن في ثوبين مستعملين قديمين ) .
وقال في آخر لحظاته من الحياة موصيا أهله وورثته : ( أما إنّا منذ ولينا أمر المسلمين لم نأكل لهم دينارا ولا درهما ولكنا قد أكلنا من جريش طعامهم في بطوننا , ولبسنا من خشن ثيابهم على ظهورنا وليس عندنا من فيء المسلمين قليل ولا كثير إلا هذا العبد الحبشي , وهذا البعير الناضح , وجرد هذه القطيفة , فإذا مت فابعثي بهن إلى عمر وأبرئي منهن . ففعلت . فلما جاء الرسول بكى عمر حتى جعلت دموعه تسيل في الأرض ويقول : رحم الله أبا بكر لقد أتعب من بعده ) .
وعمر الفاروق رضي الله عنه ( ذو المقام الثابت المأنوق , أعلن الله تعالى به دعوة الصادق المصدوق , وفرق به بين الفصل والهزل , وأيد بما قواه به من لوامع الطول , ومهد له من منائح الفضل شواهد التوحيد , وبدد به مواد التنديد , فظهرت الدعوة , ورسخت الكلمة , فجمع الله تعالى بما منحه من الصولة , ما نشأت لهم من الدولة , فعلت بالتوحيد أصواتهم بعد تخافت , وتثبتوا في أحوالهم بعد تهافت , غلب كيد المشركين بما ألزم قلبه من حق اليقين , لا يلتفت إلى كثرتهم وتواطيهم , ولا يكترث لممانعتهم وتعاطيهم , إتكالا , اتكالا على من هو منشئهم وكافيهم , واستنصارا بمن هو قاصمهم وشافيهم , محتملا لما احتمل الرسول , ومصطبرا على المكاره لما يؤمل من الوصول , ومفارقا لمن اختار التنعم والترفيه , ومعانقا لما كلف من التشمر والتوجيه , المخصوص من بين الصحابة بالمعارضة للمبطلين , والموافقة في الأحكام لرب العالمين , السكينة تنطق على لسانه , والحق يجري الحكمة عن بيانه , كان للحق مائلا , وبالحق صائلا , وللأثقال حاملا , ولم يخف دون الله طائلا ) .
و( كان بين كتفيه أربع رقاع , وإزاره مرقوع بأدم , وخطب على المنبر وعليه إزار فيه اثني عشر رقعة , وأنفق في حجته ستة عشر دينارا , وقال لابنه : قد أسرفنا . وكان لا يستظل بشيء غير أنه كان يلقى كساءه على الشجر ويستظل تحته , وليس له خيمة ولا فسطاط ) .
وقال في وصيته التي وصى بها ابنه في آخر لحظة من عمره , وقد استسلف مالا من بيت مال المسلمين : ( بع فيها أموال عمر , فإن وفت وإلا فسل بني عدي , وإن وفت وإلا فسل قريشا و لا تعدهم ) .
وإلى ذلك أشار شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاجه ردّا على الشيعة الذين قالوا : إن عليا كان أزهد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم , فقال : ( أزهد الناس بعد رسول الله الزهد الشرعي أبو بكر وعمر , وذلك أن أبا بكر كان له مال يكسبه فأنفقه مله في سبيل الله ... ولقد تلا أبا بكر عمر في هذا الزهد , وكان فوق علي في ذلك يعني في إعراضه عن المال واللذات .
وأما علي رضي الله عنه فتوسع في هذا المال من حله , ومات عن أربع زوجات وتسعة عشر أم ولداً سوى الخدم , وتوفي عن أربعة وعشرين ولدا من ذكر وأنثى , وترك لهم من العقار والضياع ما كانوا به أغنياء قومهم ومياسيرهم , هذا أمر مشهور لا يقدر على إنكاره من له أقل علم بالأخبار ... فصح بالبرهان الضروري أن أبا بكر رضي الله عنه أزهد من جميع الصحابة رضي الله عنهم , ثم عمر ) .
هذا وكان في أصحاب رسول الله زهاد آخرون ولكن المتصوفة لم ينهوا سلسلة سندهم إلا إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه مثل الشيعة الذين يجعلونه أول إمام لهم . كما نقل الهجويري عن الجنيد أنه قال : ( شيخنا في الأصول والبلاء على المرتضى , أي أن علي بن أبي طالب هو إمام هذه الطريقة في العلم والمعاملة , فأهل الطريقة يطلقون على علم الطريقة اسم الأصول , ويسمون تحمل البلاء فيها بالمعاملات ) .
وهو الذي نقل عنه العطار أنه قال : ( ولقد وهبه الله تعالى من العلم والحكمة والكرامة , وماذا كنا نصنع لو لم ينطق المرتضى بهذا القول على سبيل الكرامة ) . ويقول الطوسي أبو نصر السراج :
( ولأمير المؤمنين علي رضي الله عنه خصوصية من بين جميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بمعاني جليلة , وإشارات لطيفة , وألفاظ مفردة , وعبارة وبيان للتوحيد والمعرفة والإيمان والعلم , وغير ذلك , وخصال شريفة تعلق وتخلق به أهل الحقائق من الصوفية ) . ( وأما علي بن أبي طالب كرم الله وجهه فذاك مدينة العلم , وأول آخذ لبيعة الطريق – طريق الأولياء – وأول ملقن بالذكر والسر من الرسول صلى الله عليه وسلم ) . لأن جبريل عليه السلام نزل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أولا بالشريعة , فلما تقررت ظواهر الشريعة واستقرت نزل إليه بالحقيقة المقصودة والحكمة المرجوه من أعمال الشريعة وهي الإيمان والإحسان فخص رسول الله صلى الله عليه وسلم بباطن الشريعة بعض أصحابه دون البعض .
وكان أول من أظهر علم القوم وتكلم فيه سيدنا على كرم الله وجهه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ) .
فإن عليا رضي الله عنه حسب كلام المتصوفة : ( من أصحاب العلم وممن يعلمون من الله ما لم يعلمه غيره ) .
ولا جبرائيل وميكائيل لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ( لما لقن علي بن أبي طالب رضي الله عنه , وخلع عليه ذلك صار يقول : عندي من العلم الذي أسرّه إلىّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ليس عند جبريل ولا ميكائيل ) .
وعلى ذلك نقل الطوسي عن الوجيهي أنه قال : سمعت أبا علي الروذباري يقول : سمعت جنيدا رحمه الله يقول : ( رضوان الله على أمير المؤمنين علي , رضي الله عنه , لولا أنه اشتغل بالحروب لأفادنا من علمنا هذا معاني كثيرة , ذاك امرؤ أعطى علم اللّدني , والعلم اللّدني هو العلم الذي خصّ به الخضر عليه السلام , قال تعالى : { وعلمناه من لدنّا علما } ) .
ورسول الله صلى الله عليه وسلم جعله بمنزله هارون من موسى مع الفضل العظيم لأبي بكر ( ولم يشرك الحبيب الرسول المقرب الخليل في مقام الخلّة كما صلح أن يشرك معه في مقام الأخوة عليا كرم الله وجهه فقال : علي مني بمنزلة هارون من موسى ) .
وكان له مقام ومنزلة عند الصوفية إلى أن نقل الشعراني عن أحد المتصوفين أنه قال : ( إن علي بن أبي طالب رضي الله عنه رفع كما رفع عيسى عليه السلام , وسينزل كما ينزل عيسى عليه السلام – ثم يقول الشعراني : قلت : وبذلك قال سيدي على الخواص رضي الله عنه فسمعته يقول : إن نوحا عليه السلام أبقى من السفينة لوحا على اسم علي بن أبي طالب رضي الله عنه يرفع عليه إلى السماء فلم يزل محفوظا في صيانة القدرة حتى رفع علي بن أبي طالب رضي الله عنه ) .
فهذا هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه ومكانته , ومنزلته , وشأنه , وقد نقل باحث شيعي عن جلال الدين الرومي الصوفي الفارسي المشهور أنه قال في أبياته ما تدلّ على رؤيتهم إلى علي وعقيدتهم فيه , فيقول :
( مـــــنذ كـــــانت صـــــــــــــورة تركيب العـــالم كان عليّ مـــــــنذ نقشـــــت الأرض وكـــــان الزمــــــان كان عليّ ذلك الفاتح الذي انتزع باب خيبر بحملة واحدة كان عليّ كلــــــــما تأملت في الآفــــــاق ونظــــــــــــرت أيقــــــــــــــنت بأنـــــــــــه في المــــوجــودات كان عليّ إن مـــن كــــــان هو الـــوجـــود , ولـــــولاه لســـــــــرى العــدم في العالم الموجود ( إياه ) كان عليّ إن ســـــر العالمـــــين الظاهر والبـــــاطن الـــــذي بدا في شمـــــس تبريـــــــــــز كان عليّ ) .
وهذا الغلو في علي بن أبي طالب رضي الله عنه عندما يقارن بالغلو الشيعي فيه , ليس بأقلّ منه في صورة من الصور .
وإليه تنتسب سلاسل التصوف كلها كما قال محمد معصوم شيرازي الملقب بمعصوم علي شاه : ( ولابد لكل سلسلة من سلاسل التصوف من الأزل إلى الأبد , ومن آدم إلى انقراض الدنيا أن تكون متصلة بسيد العالمين وأمير المؤمنين ) . لأنه ( أزهد الصحابة عند المتصوفة ) . كما هو ( رأس الفتوة وقطبها ) .
فأول وليّ عند المتصوفة هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه , ومنه إنتقل الولاية إلى غيره من الأولياء كما أنه أول إمام عند الشيعة , وتسلسلت منه فورثها غيره , وكذلك الفتوة والقطبية , وهو الذي ألبس خرقته الحسن البصري , وهذه الخرقة التي يلبسها المتصوفة خلفاءهم وورثتهم .
وينصّ على تشيع هذا ابن خلدون في مقدمته حيث يقول عند ذكر الصوفية : ( إنهم لما أسندوا لباس خرقة التصوف ليجعلوه أصلا لطريقتهم وتخيّلهم رفعوه إلى عليّ رضي الله عنه وهو من هذا المعنى أيضا , وإلا فعليّ رضي الله عنه لم يختصّ من بين الصحابة بتخليه ولا طريقة في اللباس ولا الحال , بل كان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما أزهد الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكثرهم عبادة , ولم يختصّ أحد منهم في الدين بشيء يؤثر عنه في الخصوص , بل كان الصحابة كلهم أسوة في الدين والزهد والمجاهدة , يشهد لذلك من كلام هؤلاء المتصوفة في أمر الفاطمي وما شحنوا كتبهم في ذلك مما ليس لسلف المتصوفة فيه كلام بنفي أو إثبات , وإنما هو مأخوذ من كلام الشيعة والرافضة ومذاهبهم في كتبهم والله يهدي إلى الحق ) .
وهذا إضافة إلى أن هذه الخرقة ونسبتها إلى عليّ , ورواية لبس الحسن البصري كلها باطل , لا أصل له , لأنه ( لم يثبت لقاء الحسن مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه على القول الصحيح , لأن عليا رضي الله عنه انتقل من المدينة إلى الكوفة والحسن صغيرا ) .
وعلى كل فإن الصوفية ينهون سند لبس الخرقة إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه , كما ينهون إليه سلاسلهم . ولا يقتصرون على عليّ بن أبي طالب وحده , بل يقولون مثل ما يقوله الشيعة تماما : ( وثامن الفتيان بعد النبوة والرسالة علي بن أبي طالب كرم الله وجهه حيث أسلم صبيا , وجاهد في سبيل الله مراهقا , وبوأه الله قطبانية الأولياء رجلا وكهلا . وعنه أخذ الفتوة ابناه الحسن والحسين وهي أعلى مقامات الولاية عد القطبانية التي هي منها والصديقة التي هي كمالها .
ومن دلائل فتوة الحسن رضي الله عنه أن آثر الخلافة الباطنة على الخلافة الظاهرة , وتنازل عن الظاهرة حقنا لدماء المسلمين .
ومن دلائل فتوة الحسين أن الشهيد الأعظم في سبيل الله وفي سبيل الأمانة .
ومن الخصائص التي خصّ الله تعالى بها عليا كرم الله وجهه أنه إذا كان الرسول مدينة العلم فعليّ بابها , وإن كان للفروسية أو الولاية فتيان فهو فتاهما الأول . فعلي بن أبي طالب كرم الله وجهه أول فتيان هذه الأمة وفتى أوليائها , وحسبه في ذلك أن أراد إفتداء الرسول بنفسه ) .
ويقول أيضا : ( إن علي بن أبي طالب أخذ البيعة الخاصة بطريق الله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم , ولقن بها ابنه الحسن , ثم الحسين ) .
وكان الصوفي المشهور أبو العباس المرسي تلميذ الشاذلي يقول : ( طريقنا هذه لا تنسب للمشارقة ولا للمغاربة , بل واحد عن واحد إلى الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه , وهو أول الأقطاب ) .
وقالوا : ( وكان من أوائل أهل طريق الله بعد الصحابة علي بن الحسين زين العابدين , وابنه محمد بن علي الباقر , وابنه جعفر بن محمد الصادق , وذلك بعد علي والحسن والحسين رضي الله عنهم جميعا ) .
ويقول الكلاباذي في الباب الثاني من تعرفة : ( ممن نطق بعلومهم , وعبر عن مواجيدهم , ونشر مقاماتهم , ووصف أحوالهم قولا وفعلا بعد الصحابة رضوان الله عليهم : علي بن الحسين زين العابدين . وابنه محمد الباقر . وابنه جعفر بن محمد الصادق رضي الله عنهم ) .
| |
| | | الشيخ عودة الشيخ عودة
عدد المساهمات : 1748 تاريخ التسجيل : 28/09/2008 العمر : 74
| موضوع: رد: المنْشَأ وَالمَصَادِر تأليف الأستاذ إحسان إلهي ظهير الإثنين نوفمبر 02, 2015 2:39 pm | |
| فانظر الترتيب , وهذا نفس ترتيب الشيعة لأئمتهم , حيث يعدّون الإمام الأول والثاني والثالث عليه وابنه الحسن والحسين , والرابع والخامس و السادس : زين العابدين , ومحمد الباقر , وجعفر بن محمد الباقر . ثم الإمام السابع والثامن عندهم : موسى بن جعفر الملقب بالكاظم , وعلي بن موسى الكاظم الملقب بالرضا , من الأئمة الإثني عشر . وهاهو الشعراني أيضا يعدهم أئمة , واثني عشر أيضا , عندما يذكر من بين الصوفية وأولياء الله موسى بن جعفر , فيقول : ( ومنهم موسى الكاظم رضي الله عنه أحد الأئمة الإثني عشر , وهو موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ... وكان يكنّى بالعبد الصالح لكثرة عبادته واجتهاده وقيامه بالليل , وكان إذا بلغه عن أحد يؤذيه يبعث إليه بالمال ) .
وأما علي بن موسى الرضا فيقولون عنه : ( أن شيخ مشائخ الصوفية معروف الكرخي أسلم على يديه ) .
ويكتب القشيري عنه : ( أبو محفوظ معروف بن فيروز الكرخي كان من المشائخ الكبار , مجاب الدعوة , يستشفى بقبره , يقول البغداديون : قبر معروف ترياق مجرب , وهو من موالي علي بن موسى الرضا رضي الله عنه ) .
وزاد السلمي في طبقاته , والجامي في نفحاته أنه كان من حجبه , فيقول : ( معروف بن فيروز , ويقال : معروف بن علي , ويلقب بالزاهد , وهو من أجلة المشائخ وقدمائهم , والمعروفين بالورع والفتوة . كان أستاذ سري السقطي , وصحب داؤد الطائي . وكان معروف أسلم على يد علي بن موسى الرضا , وكان بعد إسلامه يحجبه , فازدحم الشيعة يوما على باب علي بن موسى , فكسروا أضلع معروف , فمات , ودفن ببغداد , وقبره ظاهر , ويتبرك الناس بزيارته ) .
والجدير بالذكر أن معروف الكرخي أستاذ السري السقطي , وخال وأستاذ لسيد الطائفة جنيد البغدادي , ولذلك( يروي الجنيد عن السري السقطي , وهو عن معروف الكرخي , وهو عن علي بن موسى الرضا , عن أبيه موسى الكاظم , عن أبيه محمد الباقر , عن أبيه زين العابدين , عن أبيه الحسين بن علي بن أبي طالب , عن علي بن أبي طالب ) .
وكتب عنه شيخ الأزهر السابق والصوفي المعاصر الدكتور عبد الحليم محمود عن الرضا :
( له كرامات كثيرة : منها أنه قال لرجل صحيح سليم : استعد لما لا بدّ منه , فمات بعد ثلاثة أيام , وروى الحاكم أن أبا حبيب قال : رأيت المصطفى عليه الصلاة والسلام في النوم , في المنزل الذي ينزله الحاج ببلدنا , فوجدت عنده طبقا من خوص فيه تمر , فناولني ثماني عشرة تمرة , وبعد عشرين يوما قدم علي الرضا من المدينة ونزل ذلك المنزل , وفزع الناس للسلام عليه , ومضيت نحوه فإذا هو جالس بالموضع الذي رأيت المصطفى جالسا فيه , وبين يديه طبق فيه تمر صيحاني , فناولني قبضة فإذا عدتها بعدد ما ناولني المصطفى , فقلت : زدني . فقال : لو زادك رسول الله لزدناك ) .
ومن الطرائف أن ذكر الثمانية هؤلاء من أئمة الشيعة الإثني عشر بالتسلسل الشيعي في كتب المتصوفة الكثيرين مثل ما يذكرون عن الرفاعي أحمد الكبير أنه ( أخذ العهد والطريق من يد خاله شيخ الشيوخ صاحب الفتح الصمداني سيدنا منصور البطائحي الرباني وهو لبسها من خاله سيدنا الشيخ أبي المنصور الطيب وهو لبسها من ابن عمه الشيخ أبي سعيد يحيى البخاري الأنصاري وهو لبسها من الشيخ أبي الترمذي وهو لبسها من الشيخ أبي القاسم السندوسي الكبير وهو لبسها من الشيخ أبي محمد دويم البغدادي وهو لبسها من خاله الشيخ سري السقطي وهو لبسها من الشيخ معروف الكرخي وهو لبسها من إمام الزمان وحجة أهل العرفان الإمام ابن الإمام علي الرضي وهو لبسها من أبيه نور حدقة العناية والإمامة ونور حديقة الولاية والكرامة ملجأ الأولياء الأعاظم أبي الحسن موسى الكاظم وهو لبسها من أبيه صاحب القدم السابق الإمام جعفر الصادق وهو لبسها من أبيه صاحب السر الطاهر الإمام محمد الباقر وهو لبسها من أبيه كهف المحتاجين وإمام الأفراد أبي محمد الإمام زين العابدين علي السجاد وهو لبسها من أبيه أحد سبطي رسول الله شهيد كربلاء الإمام الحسين أبي عبد الله وهو لبسها من أبيه إمام الأئمة ومجن هذه الأمة صاحب القدر العظيم والشرف الجلي أمير المؤمنين الإمام أبي الحسن علي رضي الله عنه وعنهم أجمعين ) .
وذكر الرفاعي نفسه بصورة أخرى , ويقول : ( أكمل التوبة الفورية في مقام البضعية , من حيث التحلي بحلوة الطينة الذاتيةالأحمدية , إنما هي توبة السيدة البتول العذراء , سيدتنا وقرة أعيننا فاطمة أم السبطين الزهراء سلام الله ورضوانه عليها , وقام عنها بنوبة الجزء الأزهري بعلها المأمون المنوه على جلالة قدره وعظيم مكانته بطالعه ( علي مني بمنزلة هارون من موسى ) الحديث . فأدرع بدرع الخلافة البضعية متحكما في مشهد الخلافة الأمرية , إصالة في مشهد الخلافة البضعية وكالة حتى لقي الله , فأدرع بمطرها النوراني السبطان السعيدان الشهيدان الحسن والحسين سلام الله وتحياته عليهما , ودارت هذه التوبة الجامعة المحمدية في الأسباط الطاهرين سبطاً بعد سبط إلى أن صينت في مقام الكنزية المضمرة إلى ولي الله المهدي الخلق الصالح سلام الله عليه , فتلقاها عنه من مقام الألباس النواب الجامعون المحمدون , فهم إلى عهدنا هذا من بني الإمام الحسين السبط شهيد كربلاء عليه وعليهم نوافح السلام والرضوان ) .
ولذلك كتب محمد معصوم شيرازي : أن علي بن أبي طالب خاتم الولاية المحمدية , فكميل بن زياد النخعي , والحسن البصري , وأويس القرني أخذوا عن عليّ بن أبي طالب عليه السلام . والشقيق البلخي أخذ عن الكاظم عليه السلام . والشيخ أبو زيد أخذ عن جعفر الصادق . والشيخ معروف أخذ عن الرضا , والشيخ سري أخذ عنه , والشيخ جنيد أخذ عن السري , وهو ومن الغرائب أن المتصوفة يعتقدون للحسن العسكري ابنا , كالشيعة الإثني عشرية , مع إتفاق أهل السنة والمؤرخين , وشهادة الشيعة ونقيب الأشراف وأخوه العسكري وأمه بأنه لم يولد له ولد , وأثبت رواية فيه وأقوم حجة ما رواه الكليني بنفسه , والآخرين من مؤرخي الشيعة وأعلامهم أن الحسن العسكري لما دفن ( أخذ السلطان والناس في طلب ولده , وكثر التفتيش في المنازل والدور , وتوقفوا عن قسمة ميراثه , ولم يزل الذين وكلوا بحفظ الجارية التي توهم عليها الحمل ملازمين حتى تبيّن بطلان الحمل , فلما بطل الحمل قسم ميراثه بين أمه وأخيه جعفر , وادعت أمه وصيته وثبت ذلك عند القاضي ) .
وذكر هذا الخبر جميع مؤرخي الشيعة ومؤلفيهم ومحدثيهم من المفيد في الإرشاد . والطبرسي في إعلام الورى . والأربلي في كشف الغمة . والملا باقر المجلسي في جلاء العيون . وصاحب الفصول في الفصول المهمة . والعباس القمي في منتهى الآمال . وقال النوبختي الشيعي المشهور في فرقه : ( أن الحسن توفى ولم يوله أثر , ولم يعرف له ولد ظاهر , فاقتسم ميراثه أخوه جعفر وأمه ) .
لكن المتصوفة يقولون أنه ولد للحسن العسكري ولد , وهو الذي سيخرج مهديا , كعقيدة الشيعة تماما بدون أدنى تغيير , فاسمع ماذا يقولون : ( فهناك بترقب خروج المهدي عليه السلام , وهو من أولاد حسن العسكري , ومولده عليه السلام ليلة النصف من شعبان سنة خمس وخمسين ومائتين وهو باق إلى أن يجتمع بعيسى بن مريم عليه السلام , فيكون عمره إلى وقتنا هذا , وهو سنة ثمان وخمسين و تسعمائه سبعمائة سنة وست سنين . هكذا أخبرني الشيخ حسن العراقي المدفون فوق كوم الرئيس المطل على بركة الرطل بمصر المحروسة على الإمام المهدي حين اجتمع به .
ووافقه على ذلك شيخنا سيدي علي الخواص رحمهما الله تعالى . وعبارة الشيخ محيي الدين في الباب السادس والستين وثلاثمائة من الفتوحات ك وأعلموا أنه لابد من خروج المهدي عليه السلام لكن لا يخرج حتى تمتلئ الأرض جورا وظلما فيملؤها قسطا وعدلا ولو لم يكن من الدنيا إلا يوم واحد طوّل الله تعالى ذلك اليوم حتى يلي ذلك الخليفة وهو من عترة رسول الله صلى الله عليه وسلم من ولد فاطمة رضي الله عنها جده الحسين بن علي بن أبي طالب , ووالده حسن العسكري بن الإمام النقي بالنون ابن محمد التقي بالتاء ابن الإمام على الرضا ابن الإمام موسى الكاظم ابن الإمام جعفر الصادق ابن الإمام محمد الباقر ابن الإمام زين العابدين علي بن الإمام الحسين ابن الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه ) .
وكذلك الرفاعيون , حيث يعدّون الرفاعي الإمام الثالث عشر بعد الثاني عشر الموهوم الذي لم يولد .
فهذه هي عقائد المتصوفة في علي بن أبي طالب رضي الله عنه , وأئمة الشيعة من أولاده , فإليهم ينتسبون , وبمسلكهم يسلكون , وبخرافاتهم يتمسكون .
وهذا وحده كاف لبيان تأثر التشيع في التصوف .
ونختم كلامنا في هذا على مقولة صوفي كبير وهو أبو الظفر ظهير الدين القادري حيث يقول : القطبية كانت للأئمة الإثني عشر بطريق الاستقلال , ولمن بعدهم بطريق النيابة .
نُزُولُ الْوَحيِ وإتْيَان المَلاَئِكَة
وبعد هذا نرجع إلى أفكار الصوفية الأخرى ومعتقداتهم الخاصة بهم , لنرى التشيع المتستر الظاهر فيها , وتأثيره خفيا جليا ليرى الباحث والقارئ منهل التصوف ومنبعه , مصدره ومأخذه .
فإن الشيعة يرون بأن النبوة لم تختم على محمد صلوات الله وسلامه عليه , حيث لم يكن وحده في زمانه الذي كان ينزل عليه الوحي , ويأتي إليه الملك , ويكلمه الله من وراء حجاب , بل كان هناك شخص آخر في زمانه وبعده , كان له تلك الأوصاف كلها , بل وأكثر منها .
حيث أن رسول الله محمد صلوات الله وسلامه عليه لم يكن يكلمه الله إلا وحيا , أو من وراء حجاب , أو بإرسال رسول , فيوحي بإذنه ما يشاء .
وأما الإمام فكان ينزل عليه الوحي , ويرسل إليه رسول , ويكلمه الله ويناجيه بلا حجاب , وقد أعطى خصالا لم يسبقه إليها أحد , ثم توارث هذه الأوصاف من خلفه بعده إلى خاتم الأئمة .
ولقد ورد في كتب الشيعة الإثني عشرية – لا في كتب الإسماعيلية والغلاة - وفي أصحها عندهم ما ينصّ على ذلك مثل ما ذكر الكليني – وهو كالبخاري عند أهل السنة – في كافيّه عن جعفر الصادق – الإمام المعصوم السادس لدى القوم – أنه قال :
( ما جاء به عليُّ عليه السلام آخذ به وما نهى عنه انتهى عنه , جرى له من الفضل مثل ما جرى لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم ولمحمد صلى الله عليه وآله وسلم الفضل على جميع من خلق الله عز وجل , المتعقّب عليه في شيء من أحكامه كالمتعقب على الله وعلى رسوله والراد عليه في صغيرة أو كبيرة على حدّ الشرك بالله , كان أمير المؤمنين عليه السلام باب الله الذي لا يؤتى إلا منه , وسبيله الذي من سلك بغيره هلك , وكذلك يجري لأئمة الهدى واحداً بعد واحد , جعلهم الله أركان الأرض أن تميد بأهلها وحجته البالغة على من فوق الأرض ومن تحت الثرى , وكان أمير المؤمنين صلوات الله عليه كثيراً ما يقول : أنا قسيم الله بين الجنة والنار وأنا الفاروق الأكبر وأنا صاحب العصا والميسم ولقد أقرّت لي جميع الملائكة والروح والرسل بمثل ما أقرّوا به لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم ولقد حملت على مثل حمولته وهي حمولة الربّ وإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يدعى فيكسى , وادعى فأكسى ويستنطق واستنطق فأنطق على حد منطقه , ولقد أعطيت خصالا ما سبقني إليها أحد قبلي علمت المنايا والبلايا , والأنساب وفصل الخطاب , فلم يفتني ما سبقني , ولم يعزب ما غاب عني ) .
ونقل محمد بن حسن الصفار شيخ الكليني وأستاذه , الذي يعدّونه من أصحاب إمامهم الحادي عشر – حسب زعمهم – روايات كثيرة في صحيحه لإثبات نزول الوحي على أئمتهم , ونزول الملائكة عليهم تحت عناوين كثيرة في أبواب شتى , منها ما رواها عن حمران بن أعين أنه قال :
( قلت لأبي عبد الله ( جعفر ) عليه السلام : جعلت فداك , بلغني أن الله تعالى قد ناجى عليا عليه السلام ؟ قال : أجل , قد كان بينهما مناجاة بالطائف نزل بينهما جبريل ) .
لما دعا رسول الله صلى الله عليه وآله عليا يوم خيبر , فتفل في عينيه وقال له : إذا أنت فتحتها فقف بين الناس , فإن الله أمرني بذلك , قال أبو رافع : فمضى عليّ عليه السلام وأنا معه , فلما أصبح افتتح خيبر ووقف بين الناس و أطال الوقوف , فقال الناس : إن عليا عليه السلام يناجي ربه , فلما مكث ساعة أمر بانتهاب المدينة التي فتحها , قال أبو رافع : فأتيت رسول الله صلى الله عليه وآله , فقلت : إن عليا عليه السلام وقف بين الناس كما أمرته , قال قوم منهم :
( إن الله ناجاه , فقال : نعم يا رافع , إن الله ناجاه يوم الطائف ويوم عقبة ويوم حنين , ويوم غسل رسول الله ) .
ومثل هذه الروايات كثيرة لا تعدّ ولا تحصى .
هذا من ناحية , ومن ناحية أخرى يرى الشيعة أن أئمتهم أولئك أفضل من الأنبياء كما صرح بذلك الكليني أن الإمامة فوق النبوة والرسالة والخلة حيث نقل رواية عن جعفر بن محمد الباقر أنه قال :
( إن الله اتخذ إبراهيم عبدا قبل أن يتخذه نبيا , وإن الله اتخذه نبيا قبل أن يتخذه رسولا , وإن الله اتخذه رسولا قبل أن يتخذه خليلا , وإن الله اتخذه خليلا قبل أن يتخذه إماما ) .
وروى أيضا عن يوسف التمار أنه سمع جعفر بن الباقر أنه قال : ( ورب الكعبة , ورب البنية –ثلاث مرات – لو كنت بين موسى والخضر عليهما السلام لأخبرتهما أني أعلم منهما , و لأنبئتهما بما ليس في أيديهما لأن موسى والخضر عليهما السلام أعطيا علم ما كان , ولم يعطيا علم ما يكون وما هو كائن حتى تقوم الساعة ) .
وعنه أنه قال : ( إني لأعلم ما في السموات وما في الأرض , وأعلم ما في الجنة وما في النار , وأعلم ما كان وما يكون ) .
وقد بوب الحر العاملي صاحب موسوعة حديثية شيعية كبيرة بابا مستقلا بعنوان ( الأئمة الإثني عشر أفضل من سائر المخلوقات من الأنبياء والأوصياء السابقين والملائكة وغيرهم , وأن الأنبياء أفضل من الملائكة ) .
ثم أورد تحته روايات عديدة , منها ما رواها عن جعفر أنه قال : ( إن الله خلق أولي العزم من الرسل , وفضلهم بالعلم , وأورثنا علمهم , وفضلنا عليهم في علمهم , وعلم رسول الله ( ص ) ما لم يعلمهم , وعلمنا علم الرسول وعلمهم ) .
وعلى ذلك قال الخميني زعيم شيعة إيران اليوم في كتابه ( ولاية الفقيه ) ما نصّه : ( إن من ضروريات مذهبنا أنه لا ينال أحد المقامات المعنوية الروحية للأئمة حتى ملك مقرب ولا نبي مرسل , كما روي عندنا بأن الأئمة كانوا أنوارا تحت ظل العرش قبل تكوين هذا العالم .... وأنهم قالوا : إن لنا مع الله أحوالا لا يسعها ملك مقرب ولا نبي مرسل , وهذه المعتقدات من الأسس والأصول التي قام عليها مذهبنا ) .
فهذه هي عقائد الشيعة الإثني عشرية في أئمتهم بأنه يأتي إليهم جبريل , وينزل عليهم الوحي , ويكلمهم الله من وراء حجاب , ويناجيهم من دون حجاب , وأن النبوة لم تنقطع ولم تختم بمحمد صلوات الله وسلامه عليه , وأن الولاية أعظم وأفضل من النبوة والرسالة , وعلمهم بدون واسطة فصاروا يعلمون علم ما كان وما يكون , وفضلهم على الخلائق من الأنبياء والرسل .
والنصوص والروايات في هذا الخصوص جاوزت المئات , وعليها أسست وبنيت الديانة الشيعية نتيجة مؤامرة يهودية للقضاء على الإسلام ودعوة خاتم النبيين الناطق بالوحي صلى الله عليه وسلم .
هذا , وبعد هذا عندما نرجع إلى آراء الصوفية , وأفكارهم , عقائدهم ومعتقداتهم , كتبهم ورسائلهم , رواياتهم ومقولاتهم , تصريحاتهم وعباراتهم , نجد معظم هذه الأفكار وطابعها واضحا جليا , بل إنها عين هذه الترهات والخزعبلات , مبثوثة منشورة في كتب الأولين منهم والآخرين . وهاهي النصوص :
فيقول الصوفي الكبير عبد القادر الحلبي المعروف بابن قضيب البان : ( كل ما خصّت به الأنبياء , خصّت به الأولياء ) .
وما هي اختصاصات الأنبياء غير الوحي , ونزول الملائكة , وكلام الربّ معهم , وإخبارهم عن الغيب , وكونهم معصومين عن الخطأ والزلل في تبليغ رسالات الله , التي يريد ابن البان إشراك غيرهم معهم من الصوفية ؟ وهل لسائل أن يسأل : أو بعد مشاركة الغير يبقى الاختصاص اختصاصا ؟
وقبل أن نتعمق في هذا نريد أن نضع النقاط على الحروف , كي لا يتوهم المتوهم أننا نلزم القوم على ما لا يتقولونه ويعتقدونه . فنثبت من كتبهم أنفسهم , وبعباراتهم هم ما يبرهن قولنا , فيقول الشيخ الأكبر للصوفية رادّا على الغزالي : إن الغزالي غلط في التفريق بين نزول الملك على النبي والوليّ , مع أن النبي والوليّ كلاهما ينزل عليه الملك . وقد ذكر الشعراني أيضا بقوله : ( فإن قلت : قد ذكر الغزالي في بعض كتبه : إن الفرق بين تنزّل الوحي على قلب الأنبياء وتنزله على قلوب الأولياء نزول الملك , فإن الوليّ يلهم ولا ينزل عليه ملك قط , والنبي لا بد له في الوحي من نزول الملك به , فهل هذا صحيح ؟ فالجواب كما قاله الشيخ في الباب الرابع والستين وثلاثمائة : أن ذلك غلط ... قال الشيخ : وسبب غلط الغزالي وغيره في منع تنزل الملك على الوليّ عدم الذوق , وظنهم أنهم قد علموا بسلوكهم جميع المقامات و فلما ظنوا ذلك بأنفسهم ولم يروا ملك الإلهام نزل عليهم أنكروه , وقالوا : ذلك خاص بالأنبياء , فذوقهم صحيح وحكمهم باطل , مع أن هؤلاء الذين منعوا قائلون بأن زيادة الثقة مقبولة , وأهل الله كلهم ثقات .
قال : ولو أن أبا حامد وغيره اجتمعوا في زمانهم بكامل من أهل الله وأخبرهم بتنزل الملك على الوليّ لقبلوا ذلك ولم ينكروه . قال : وقد نزل علينا ملك فلله الحمد ) .
ولا ندري كيف يرد على الغزالي وهو القائل :
( ومن أول الطريق تبتدئ المكاشفات والمشاهدات , حتى أنهم في يقظتهم يشاهدون الملائكة , وأرواح الأنبياء , ويسمعون منهم أصواتا , ويقتبسون منهم فوائد .
ثم يرتقي الحال من مشاهدة الصور والأمثال إلى درجات يضيق عنها نطاق النطق ) .
هذا ويقول ابن عربي في كتابه ( الجواب المستقيم عما سأل عنه الترمذي الحكيم ) زيادة على نزول الملك على الولي ّ : ( وليس الأمر كذلك , فقد رآه الأولياء في حال حديثه لهم , فكل قال ما شاهد ... ومشهده صحيح , وهذا كله إذا كان الحديث من الملك والروح ) . يعني أن الوليّ ينزل عليه الملك ويحدثه ويشاهده الوليّ ويراه وقت نزوله عليه , وكلامه به .
وبمثل ذلك يقول صوفي قديم آخر نجم الدين الكبري المتوفى 618 هـ أن الملائكة تنزل على الصوفية .
و بمثل ذلك قال الدباغ , وبعبارة أكثر وضوحا من هذه العبارات : ( وأما ما ذكروه في الفرق بين النبي والوليّ من نزول الملك وعدمه فليس بصحيح , لأن المفتوح عليه سواء كان وليا أو نبيا لا بد له أن يشاهد الملائكة بذواتهم على ما هم عليه , ويخاطبهم ويخاطبونه , وكل من قال : إن الوليّ لا يشاهد الملك و لا يكلمه فذاك دليل على أنه غير مفتوح عليه ) .
ونقل النفزي الرندي عن بعض المشائخ أنه قال : ( إن الملائكة تزورني فآنس بها , وتسلم عليّ فأسمع تسليمها ) .
وليس عامة الملائكة فحسب , بل جبريل أيضا كما ينص على ذلك الشعراني ناقلا عن الشيخ عبد الغفار القوصي أنه قال في كتابه المسمّى بالوحيد :
( أنّ الشيخ تاج الدين بن شعبان كان إذا سأله إنسان في حاجة يقول له : اصبر حتى يجيء جبريل ) .
وبذلك يقول ابن عربي أن القطب ينزل على قلبه الروح الأمين حيث يذكر في كتابه ( مواقع النجوم ) :
( وهذا المقام ( أي مقام القطب ) وهذه أسراره رفع الحجاب وأشرقت أنواره وبدا هــلال التــــــــمّ يســــــطع نــــــــــــــــوره للناظرين وزال عنه أســـــراره وتنـــــزل الـــــــروح الأميــــــــــــــــن لقـــــلبه يوم العروبة وأنقضت أو طــاره ) .
وينزل عليه بالأمر والنهي كما نص على ذلك الدباغ بقوله : ( ينزل الملك على الوليّ بالأمر والنهي ) . ( وتصير قلوبهم مهبطا للوحي ) .
ويسمعون كلام الله ( فإذا تحقق الصوفي بهذا الوصف صار وقته سرمدا , وشهوده مؤبدا , وسماعه متواليا متجددا يسمع كلام الله تعالى ) .
و ( يتلقاهم ملائكة الله مشرقين , يحيونهم بتحايا الملكوت , ويصبون عليهم ماء النبع من ينبوع البهاء ... ويقومون في هياكل القربات , يناجون مع أصحاب حجرات العزة ويسمعون صوتا كصوت رعد أو دويّ في الدماغ ) .
ويقول السهروردي المقتول سنة 587 هـ هذا أيضا أن الأولياء , ويسميهم إخوان التجريد ( يتعلمون العلم من روح القدس بلا تعلم بشرى , وتطيعهم مادة العالم العنصري , وينذرون الكون ويخبرونه بالجزئيات الواقعة في الماضي والمستقبل ) .
ويكتب الحكيم الترمذي في قضية مكالمة الله مع الوليّ : ( الولاية لمن ولى الله حديثه على طريق أخرى فأوصله إليه , فله الحديث , وينفصل ذلك الحديث ذلك الحديث من الله عز وجل على لسان الحق معه السكينة تتلقاه السكينة التي في قلب المحدّث , فيقلبه ويسكن إليه ) .
ونختم هذا على ما قاله ابن عربي في هذا الخصوص : ( اعلم يا بنيّ أن العبد المحقق الصوفي إذا صفا وتحقق صار كعبة لجميع الأسرار الإلهية من كل حضرة وموقف , ويرد عليه في كل يوم جمعة ما دام في ذلك المقام ستمائة ألف سرّ ملكوتي , واحد منها إلهي , وخمسة أسرار ربانية , ليس لها في حضرة الكون مدخل ) .
وليس هذا فحسب , بل يقولون بعروج المتصوفة إلى السماء , ووقوفهم بين يدي الربّ , ومناجاتهم به , وتكليمه إياهم , فيحكي ابن البان عن نفسه :
( أوقفني الحق على بساط الأسرار ... وارتقيت إلى السماء الأولى .. . ثم ارتقينا إلى السماء الثانية ... ثم انتهينا إلى السماء السابعة ... وفيها ملك على كرسي من نور ... وفي هذه السماء رضوان خازن الجنان , وأجمل الملائكة من جنده , وفيها إسرافيل رئيس عالم الجبروت , وهو الذي بشرني بالقرب والمنزلة الكريمة عند ربي , وبالسعادة في الآخرة والشفاعة في أمة محمد ( ص) , وفي هذه السماء رأينا إبراهيم الخليل مسندا إلى البيت المعمور ... ثم انتهينا إلى سبعين حجابا آخر ... حتى انتهيت إلى آخر حجاب هناك , وإذا بكرسي من اللؤلؤ منصبة قوائمه من الجوهر والياقوت الأحمر والزبرجد الأخضر , فأخذ آخذ بيدي وأجلسني عليه , ثم نزّل علىّ شيء ودخل جوفي من حيث لا أعلم , فقال لي شيئا في قلبي . ها قد أكرمك مولاك بالسكينة الربانية . فلما أحسّ باطني بها سكن كل جارحة فيّ . فكأني لم أر أشياء ولم يهلني شيء .
ثم نوديت من مكان قريب . وذلك من جهاتي الستّ : يا حبيبي و مطلوبي , السلام عليك , فغمضت عينيّ , وكنت أسمع بقلبي ذلك الصوت حتى أظنه من جوارحي لقربه مني , ثم نوديت : انظر عليّ , ففتحت عينيّ فصرت كلي أعينا , وكأن في باطني ما أراه في ظاهري , وصرت كأني برزخ بين كونين وقاب , كما يرى الرائي عند النظر في المرآة ما بخارجها . ثم سمعت بقارئ يقرأ قوله : آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله , لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير .
وإذا بذلك الحجاب قد رفع وأذن لي بالدخول . ولما دخلته رأيت الأنبياء صفوفا صفوفا ودونهم الملائكة , ورأيت أقربهم للحق أربعة أنبياء , ورأيت أولياء أمة محمد أقرب الناس إلى محمد وهو أقرب الخلق إلى الله تعالى وأقرب إليه أربعة أولياء , فعرفت منهم السيد محيى الدين عبد القادر , وهو الذي تلقاني إلى باب الحجاب , وأخذ بعضدي حتى دنوت من سيدنا محمد صلى الله عليه وآله , فناولني يمينه فأخذته بكلتا يديّ , فلا زال يجذبني ويدنيني حتى ما بقي بيني وبين ربي أحد , فلما حققت النظر في ربي ورأيته على صورة النبي , إلا أنه كالثلج أشبه شيء أعرفه في الوجود من غير رداء ولا ثياب . ولما وضعت شفتي على محل منه لأقبله أحسست ببرد الثلج سبحانه وتعالى , فأردت أخر صعقا , فمسكني سيدنا محمد صلى الله عليه وآله ) .
وأما ابن عربي فيجعل لعروجه محاكيا المعراج النبوي الشريف ويقول :
( بينما أنا نائم وسر وجودي متهجد قائم جاءني رسول التوفيق , ليهديني سواء الطريق , ومعه براق الإخلاص , عليه لبد الفوز ولجام الإخلاص , فكشف عن سقف محلىّ , وأخذ في نقضى وحلىّ , وشق صدري بسكين السكينة , وقيل لي : تأهب لارتقاء الرتبة المكينة , وأخرج قلبي في منديل , لآمن من التبديل , وألقى في طست الرضا , بموارد القضا , ورمى منه حظ الشيطان , وغسل بماء : إن عبادي ليس لك عليهم سلطان ... ثم أتيت بالخمر واللبن , فشربت ميراث تمام اللبن , وتركت الخمر حذرا أن أكشف السر بالسكر ... استفتح لي سماء الأجسام فرأيت سر روحانية آدم عليه السلام ... فاستفتح الرسول الوضاح , سماء الأرواح ... قال لي : مرحبا وأهلا – إلى آخر الخرافات والمختلقات ) .
ويقول أحد من المتقدمين من الصوفية نجم الدين كبري المقتول 618 هـ : ( أنه أيضا ممن عرج به إلى السماء ) .
كما نقل عن أبي الحسن الخرقاني أنه قال : ( صعدت ظهيرة إلى العرش لأطوف به فطفت عليه ألف طوفة أو كما قال , ورأيت حواليه قوما ساكنين مطمئنين فتعجبوا من سرعة طوافي وما أعجبني طوافهم , فقلت : من أنتم , وما هذه البرودة في الطواف ؟
فقالوا : نحن ملائكة , ونحن أنوار , وهذا طبعنا لا نقدر أن نجاوزه , فقالوا : ومن أنت وما هذه السرعة في الطواف ؟ فقلت : بل أنا آدميّ , وفيّ نور , ونار هذه السرعة من نتائج نار الشوق ) .
والجيلي كذلك ذكر عروجه ومعراجه , ورؤيته لسدرة المنتهى وتجليات الربّ تبارك وتعالى .
وكذلك يذكر النفزي الرندي المتوفى 792 هـ في تفسير قوله تعالى : وملكا كبيرا : ( أنه يرسل الله تعالى الملك إلى وليه , ويقول له : استأذن على عبدي , فإن أذن لك فادخل , وإلا فارجع , فيستأذن عليه من سبعين حجابا , ثم يدخل عليه ومعه كتاب من الله عز وجل عنوانه : من الحيّ الذي لا يموت إلى الحيّ الذي لا يموت , فإذا فتح الكتاب وجد مكتوبا فيه عبدي , اشتقت إليك فزرني , فيقول : هل جئت بالبراق ؟
فيقول : نعم , فيركب البراق , فيغلب الشوق على قلبه , فيحمله شوقه , ويبقى البراق إلى أن يصل إلى بساط اللقاء ) .
وهناك آخرون كثيرون ادعوا عروجهم إلى السماء , ومعراجهم أو مكالمتهم الرب , ومخاطبتهم إياه , ومنهم صالح بن بان النقا السوداني .
ودفع الله بن محمد الكاهلي الهذلي السوداني . وفتح الله بوراس القيرواني . ومحمد بن قائد اللواني العراقي . وأبو العباس المرسي . ومثل هؤلاء كثيرون لا يعدون ولا يحصون .
ويذكر الصوفي القديم المشهور عزيز الدين النسفي عن عروج المتصوفة إلى السماء : ( إن بعض الصوفية يعرجون إلى السماء الأولى ويطوفون حولها , وبعضهم يتجاوزون من السماء الأولى ... وبعضهم يصلون إلى العرش إذا أمكن لهم ) .
هذا بالنسبة للعروج , وأما من ناحية مكالمة الربّ لهؤلاء المتصوفة فللأهمية ننقل عبارة الجيلي كاملة , فيقول تحت عنوان ( تجليّ الصفات ) :
( ومن المكلمين من يذهب به الحق من عالم الأجسام إلى عالم الأرواح وهؤلاء أعلى مراتب . فمنهم من يخاطب في قلبه , ومنهم من يصعد بروحه إلى سماء الدنيا , ومنهم إلى الثانية والثالثة كل على حسب ما قسم له , ومنهم من يصعد به إلى سدرة المنتهى فيكلمه الله هناك , وكل من المكلمين على قدر دخوله في الحقائق تكون مخاطبات الحق له و لنه سبحانه وتعالى لا يضع الأشياء إلا في مواضعها . ومنهم من يضرب له عند عند تكليمه إياه نور له سرادق من الأنوار . ومنهم من ينصب له منبرا من نور . ومنهم من يرى نورا في باطنه فيسمع الخطاب من تلك الجهة النورية , وقد يرى النور كثيرا وأكثر مستديرا ومتطاولا . ومنهم من يرى صورة روحانية تناجيه , كلّ ذلك لا يسمى خطابا , إلا إنْ أعلمه الله أنه هو المتكلم , وهذا لا يحتاج فيه إلى دليل , بل هو على سبيل الوهلة فإن خاصية كلام الله لا تخفى , وأن يعلم أن كل ما سمعه كلام الله فلا يحتاج هناك إلى دليل ولا بيان , بل بمجرد سماع الخطيب يعلم العبد أنه كلام الله , وممن صعد به إلى سدرة المنتهى من قيل له حبيبي إنيتك هي هويتي وأنت عين هو وما هو إلا أنا , حبيبي بساطتك تركيبي وكثرتك واحديتي , بل تركيبك بساطتي وجهلك درايتي , أنا المراد بك أنا لك لا لي , أنت المراد بي أنت لي لا لك , حبيبي أنت نقطة عليها دائرة الوجود فكنت أنت العابد فيها والمعبود , أنت النور أنت الظهور أنت الحسن و الزين كالعين للإنسان والإنسان للعين :
أيا روح روح الروح والآية الكبرى ويا سلوة الأحزان للكبد الحرّى ويا منتهى الآمـــــال يا غاية المنى حديثك ما أحلاه عندي ومــا أمرا ويا كعبة التحقيق يا قبلة الصـــــفا ويا عرفــان الغيب يا طلعة الغرا أتيناك أخلفناك في مــــــــــلك ذاتنا تصرف لك الدنيا جميعا مع الأخرى فلولاك ما كنا ولولاي لم تــــــــكن فكنت وكنا والحقيـــــــقة لا تدرى فإياك نـــــعني بالمـــــعزة والغنى وإياك نعني بالفقيـــــــــر ولا فقرا )
فلينظر الباحث , وليتعمق و هل بقي هناك شيء خفي بعد هذا كله ؟ ولكننا لتوثيق ما هو موثق نورد نصوصا أخرى من أكابر القوم الآخرين , وأعاظمهم .
منها ما نقل المتصوفة عن أبي يزيد البسطامي أنه كثيرا ما كان يقول للفقهاء : ( أخذتم علمكم ميتا عن ميت , ونحن أخذنا علمنا عن الحيّ الذي لا يموت ) .
وهو الذي يذكرون عنه أنه ذكر معراجه ومكالمته الرب – تعالى الله عما يقولون به علوا كبيرا – فيقول : ( أدخلني في الفلك الأسفل , فدوّرني في الملكوت السفلي , فأراني الأرضين وما تحتها إلى الثرى , ثم أدخلني في الفلك العلوي فطوّف بي في السموات وأراني ما فيها من الجنان إلى العرش . ثم أوقفني بين يديه فقال لي : سلني أيّ رأيت حتى أهبه لك , فقلت : يا سيدي ما رأيت شيئا استحسنته فأسألك إياه , فقال : أنت عبدي حقا تعبدني لأجلي صدقا لأفعلن بك ) .
ونقل الآخرون الكثيرون عنه أيضا أنه قال : ( رفعني مرة فأقامني بين يديه , وقال لي : يا أبا يزيد , إن خلقي يحبون أن يروك .
فقلت : زيّني بوحدانيتك , وألبسني أنانيتك , وارفعني إلى أحديتك , حتى إذا رآني خلقك قالوا : رأيناك , فتكون أنت ذاك , ولا أكون أنا هنا ) .
ونقلوا مثل ذلك عن السري السقطي رواية عن الجنيد أنه قال : بتّ عند سري ليلة , فقال لي : أنائم أنت ؟
فقلت : لا .
فقال : أوقفني الحق بين يديه , فقال : أتدري لم خلقت الخلق ؟
قلت : لا . قال : خلقتهم فادّعوا محبتي , فخلقت الدنيا , فاشتغل بها من عشرة آلاف تسعة آلاف , وبقي ألف , فخلقت الجنة فاشتغل بها تسعمائة , وبقي مائة , فسلطت عليهم شيئا من بلائي , فاشتغل تسعون , وبقي عشرة , فقلت لهم : لا الدنيا أردتم , ولا في الجنة رغبتم , ولا من البلاء هربتم , فماذا تريدون ؟
قالوا : إنك تعلم ما نريد .
فقال : سأنزل عليكم من البلاء ما لا تطيقه الجبال , أفتثبتون ؟
قالوا : ألست أنت الفاعل ؟ قد رضينا بذلك . نحمد ذلك بك وفيك ولك . فقال : أنتم عبادي حقا .
ورووا عن الجنيد أنه قال : ( لي ثلاثون سنة أتكلم مع الله تعالى ) .
وعن صوفي قديم آخر سهل بن عبد الله التستري أنه قال :
( أنا منذ ثلاثين سنة أكلم الله والناس يتوهمون أني أكلمهم ) .
والشعراني نقل عن علي الخواص أنه قال : ( قد سمعت سيدي إبراهيم المتبولي يقول كثيرا : لي ثلاثون سنة وأنا مقيم في حضرة الله لم أخرج , وجميع ما أتكلم به إنما أكلم به الحق سبحانه وتعالى ) .
والرفاعية أيضا لا يريدون أن يقل شأن مرشدهم وهاديهم , وتنحط مكانته في أعين مريديه ومقلديه , فنقلوا عنه أنه كان كثيرا بينه وبين الربّ مناجاة ومخاطبات فنقلوا عن ابن جلال في جلاء الصد وا نصه :
( نقل عن السيد إبراهيم الأعزب أنه قال : كنت جالسا في الغرفة مع السيد أحمد الرفاعي رضي الله تعالى عنهما , ورأسه على ركبتيه , فرفع رأسه وضحك بأعلى صوته فضحكت أنا أيضا ثم ألححت عليه ليخبرني عن سبب ضحكه , فقال : أي إبراهيم , ناداني العزيز سبحانه : أني أريد أن أخسف الأرض , وأرمي السماء على الأرض .
فلما سمعت هذا النداء تعجبت , وقلت : إلهي , من ذا الذي يعارضك في ملكك وإرادتك ؟
قال سيدي إبراهيم : فأخذته الرعدة ووقع على الأرض وبقي في ذلك الحال زمانا طويلا ) .
وحينما رأى الشاذلية هذه المكانة العالية , والمنزلة الرفيعة لمرشد الرفاعية , الرفاعي , لم يرضوا أن يتخلفوا عنهم , فقالوا : إن ما لشاذلينا لم تكن مخاطبات فحسب , بل إن الله جل مجده هو الذي سماه بهذا الاسم , فيذكر الإمام الأكبر السابق للأزهر , الدكتور عبد الحليم محمود نقلا عن أبي الحسن الشاذلي كيفية نزوله من جبل زغوان , ومغادرته خلوته , فيقول :
( قيل لي : يا علي : اهبط إلى الناس ينتفعوا بك . فقلت : يا ربّ أقلني من الناس فلا طاقة لي بمخالطتهم . فقيل لي : انزل فقد أصحبناك السلامة , ودفعنا عنك الملامة . فقلت : تكلني إلى الناس آكل من دريهماتهم .
فقيل لي : أنفق يا علي , وأنا الملي , إن شئت من الجيب , وإن شئت من الغيب .
ونزل الشاذلي رضي الله عنه من على الجبل ليغادر شاذلة , ويستقبل مرحلة جديدة , فقد انتهت المرحلة الأولى التي رسمها له شيخه .
وقبل أن نغادر معه شاذلة إلى رحلته الجديدة نذكر ما حكاه رضي الله عنه فيما يتعلق بنسبته إلى شاذلة , قال :
قلت ك يا ربّ لم سميتني بالشاذلي ؟ ولست بشاذلي ؟
فقيل لي : يا علي , ما سميتك بالشاذلي وإنما أنت الشّاذّ لي . بتشديد الذال المعجمة يعني : المنفرد لخدمتي ومحبتي ) .
هذا ولقد نقلوا مثل هذه المكالمات والمناجاة بين ذي النون المصري والربّ تبارك وتعالى أيضا .
وقلما يوجد صوفي أو متصوف إلا وقد ادّعى مثل هذه الدعوى , وكتب التراجم وطبقات الصوفية مليئة بمثل هذه الأكاذيب والشناعات , والجرأة على الله , والإنتقاص من شأن نبينا صلوات الله وسلامه عليه خاتم النبيين وسيد المرسلين , حيث ينسبون إلى أنفسهم , أو إلى مرشديهم ومتصوفيهم ما لم يكن لبشر أن يحصل عليه , حتى سيد الخلائق وأفضل النبيين والمرسلين مثل ما أوردنا عنهم , ومثل مارووا عن فتح الله بوراس القيرواني أنه كان يقول :
( أشهدني الله تعالى ما في السموات السبع وما في الكرسي وما في اللوح المحفوظ وجميع ما في الحجب , وفككت طلاسم السموات السبع والفلك الثامن الذي فيه جميع الكواكب وجميع الفلك الثامن , وهم بنات نعش والجدي والقطب , ووصلت إلى الفلك التاسع الذي يسمونه الأطلس , ورصدت جداوله وأنا عند ذلك طفل صغير لم أبلغ الحلم ) .
وكان يقول : ( وفي الســــــماء الســـــــابعة شــــــاهدت ربي وكـــــــلّمته وفوق العــــــرش والكرسي قـــــــــــد ناداني وخاطبته
وما في اللوح المحفوظ من الآي والأمر والنهي قد حفظته وبيدي بــــــــــــــــاب الجنــــــــــان قد فتحتـــــه ودخلته
وما فــــــــــيه من الحـــــــــــور العين قد رأيته وحصـــــيته ومــــن رآني ورأي مــــــــــــــن رآني وحضـــــر مجلسي
في جنة عدن وبــــــستانـــــها قد أســـــــكنتـــــــــــــــــــــه ) .
ومثل ذلك ذكر الشعراني عن الدسوقي المتوفى 776هـ حيث قال : ( أنا كل وليّ في الأرض خلعته بيدي . ألبس منهم من شئت , أنا في السماء شاهدت ربي , وعلى الكرسي خاطبته , أنا بيدي أبواب النار أغلقتها , وبيدي جنة الفردوس فتحتها . من زارني أسكنته جنة الفردوس ) .
نعوذ بالله من مثل هذه الخرافات , ولا يؤاخذنا الله على نقل ما اقترفته الأيدي الأثيمة والألسن الخبيثة , ربنا لا تهلكنا بما فعل السفهاء منا إنْ هي إلا فتنتك تضلّ بها من تشاء وتهدي من تشاء أنت ولينا فاغفر لنا و ارحمنا وأنت خير الغافرين . ثم إن الصوفية أصّلوا قاعدة وحكما عاما , وقالوا : ( ما كان وليّ متصل بالله تعالى إلا وهو يناجي ربه كما كان موسى عليه السلام يناجي ربه ) .
( وإذا صفا قلب الفقير صار مهبط الوحي ) .
| |
| | | الشيخ عودة الشيخ عودة
عدد المساهمات : 1748 تاريخ التسجيل : 28/09/2008 العمر : 74
| موضوع: رد: المنْشَأ وَالمَصَادِر تأليف الأستاذ إحسان إلهي ظهير الإثنين نوفمبر 02, 2015 2:40 pm | |
| والدباغ يقول : ( وكلام الحق سبحانه يسمعه المفتوح عليه إذا رحمه الله عز وجل سماعا خارقا للعادة فيسمعه من غير حرفه ولا صوت ولا إدراك لكيفية , ولا يختص بجهة دون جهة , بل يسمعه من سائر الجهات , بل ومن سائر جواهر ذاته , وكما لا يخص السماع له جهة دون أخرى , كذلك لا يخص جارحة دون أخرى يعني أنه يسمعه بجميع جواهره وسائر أجزاء ذاته فلا جزء ولا جوهر ولا سنّ ولا ضرس ولا شعرة منه إلا وهو يسمع به , حتى تكون ذاته بأسرها كأذن سامعة , , ثم ذكر اختلاف أهل الفتح في قدر السماع وبيّنه بما لا يذكر ) .
( وأن معراج الصوفية , وخرقهم السموات , ومكالمتهم الربّ , ومخاطبته إياهم جائز شرعا ونقلا , وهو المنقول عن الشاذلي , وابن عطاء الله في ( لطائف المنن ) , ومحمد السنوسي في كبراه , والشيخ عبد الباقي وغيرهم ) .
وقد نقل الشعراني عن الشاذلي قوله : ( لا إنكار على من قال : كلّمني الله كما كلّم موسى ) .
وأما ابن عربي القائل دوما : ( حدثني قلبي عن ربي , في كتبه ورسائله , و : ما صنفت كتابا عن تدبير واختيار إلا بأمر من الله وإرشاده ) . يقول في سماع الصوفي كلام الربّ عندما يبلغ الدرجة العليا , ويتحقق في مقامه , يقول :
( إنما يسمع الصوفي في هذا المقام ويمتثل ما يسمع – كما أنا ما زلت أسمع متحققا في مقامي من الحق ) . وأما إطلاعهم على الغيب , وإحاطتهم بعلم ما كان وما يكون , وإخبارهم بكل ما ظهر وما بطن فكتب القوم مليئة بهذه المختلقات , بل يمكن لقارئ كتب الصوفية والباحث في تراجمهم وطبقاتهم أن يقول : إن شخصا ما ينسب إلى هؤلاء الناس ويعدّ منهم إلا أن يكون حاملا لذلك العلم الذي هو من خاصة رب السموات والأرض , حيث أخبر عن ذاته سبحانه تبارك وتعالى : { وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } . وقال : { وَلِلّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ } . وقال : { إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } . وأخبر عن نفسه بنفسه : { عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ } و : { عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } . والآية التي هي نصّ في المسألة حيث أمر نبيّه صلى الله عليه وسلم أن يقول : { قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ } . كما أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن ينفي عن نفسه الغيب : { قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ } .
ونقل عن مصطفاه عليه الصلاة والسلام أنه قال : { وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ } .
وقال نبيه مخاطبا إياه : { تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي و َلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ } .
والآيات في هذا المعنى كثيرة جدا , والأحاديث النبوية كذلك .
ولكن القوم يقولون عكس ذلك متأثرين بالتشيع , وآخذين أفكارهم ومعتقداتهم , فيقول القشيري في بيان درجات السلوك : ( ثم في خلال هذه الأحوال قبل وصوله إلى هذا المقام الذي هو نهاية كان يرى جملة الكون يضيء بنور كان له حتى لم يخف من الكون عليه شيء وكان يرى جميع الكون من السماء والأرض رؤية عيان ولكن بقلبه , وكان لا يرى في هذا الوقت بعين لأنه شيء ولكن لم يكن هذه رؤية علم , بل لو تحرك في الكون ذرة أو نملة ) .
ونقل الكلاباذي عن أبي عبد الله الأنطاكي أنه قال : ( إذا جالستم أهل الصدق فجالسوهم بالصدق , فإنهم جواسيس القلوب , يدخلون في أسراركم , ويخرجون من هممكم ) .
ويقول ابن عجيبة الحسني : ( إن الحق سبحانه قسّم الخلق قسمين وفرقهم فرقتين : قسم اختصهم بمحبته , وجعلهم من أهل ولايته , ففتح لهم الباب , وكشف لهم الحجاب , فأشهدهم أسرار ذاته , ولم يحجبهم عنه بآثار قدرته ) .
فإذا كشف الحجاب , وفتح لهم الباب ( علم العوالم بأجمعها على ما هي عليه من تفاريعها من المبدأ إلى المعاد وعلم كل شيء , كيف كان ؟ وكيف هو كائن ؟ وكيف يكون ؟ وعلم ما لم يكن , ولم لا يكون ما لم يكن ؟ ولو كان ما لم يكن كيف كان يكون ؟ كل ذلك علماً أصليا حكيما كشفيا ذوقيا من ذاته لسريانه في المعلومات علما إجماليا تفصيلاً كليا جزئيا مفصلا في إجماله ... ومنهم من تجلى الله عليه بصفة السمع فيسمع نطق الجمادات والنباتات والحيوانات , وكلام الملائكة واختلاف اللغات , وكان البعيد عنه كالقريب ) .
وقال عماد الدين الأموي : ( إذا انكشفت الحجب عن القلب تجلى فيه شيء مما هو مستور في اللوح المحفوظ , ولمع في القلب من وراء ستر الغيب شيء من غرائب العلم ) .
وأيضا : ( يشرف على الملكوت الأعظم , ويرى عجائبه , ويشاهد غرائبه , مثل اللوح , والقلم , واليمين الكاتبة , وملائكة الله تعالى يطوفون , حول العرش يسبحون بحمد ربهم , وبالبيت المعمور , ويسبحونه ويقدسونه , ويفهم كلام المخلوقين من الحيوانات والجمادات , ثم يتخطى منها إلى معرفة الخالق للكل والمالك للكل فتغشاهم الأنوار , وتتجلى لقلوبهم الحقائق ) .
ويقول الدباغ وهو يذكر بعض ما يشاهده المفتوح عليه وهو الولي عنده , فيقول : ( أما في المقام الأول فإنه يكاشف فيه بأمور , منها : أفعال العباد في خلواتهم . ومنها : مشاهدة الأرضين السبع والسموات السبع , ومنها مشاهدة النار التي في الأرض الخامسة , وغير ذلك مما في الأرض والسماء ... ومن الأشياء التي يشاهدونها : اشتباك الأرضين بعضها ببعض , وكيف تخرج من أرض إلى أرض أخرى , وما تمتاز به أرض عن أرض أخرى , والمخلوقات التي في كل أرض .
ومنها : مشاهدة اشتباك الأفلاك بعضها ببعض , ما نسبتها من السموات وكيف وضع النجوم التي فيها . ومنها : مشاهدة الشياطين وكيف توالدها . ومنها : مشاهدة الجن وأين يسكنون ؟ ومنها : مشاهدة سير الشمس والقمر والنجوم ... وأما ما يشاهده في المقام الثاني فإنه يكاشف بالأنوار الباقية كما كوشف في المقام الأول بالأمور الظلمانية الفانية , فيشاهد في المقام الملائكة والحفظة والديوان والأولياء الذين يعمرونه ... وأما المقام الثالث فإنه يشاهد فيه أسرار القدر في تلك الأنوار المتقدمة .
وأما المقام الرابع فإنه يشاهد فيه النور الذي ينبسط عليه الفعل , وينحل فيه كانحلال السمّ في الماء , فالفعل كالسم والنور كالماء ... وفي المقام الخامس يشاهد انعزال الفعل عن ذلك النور , فيرى النور نورا , والفعل فعلا ... والمفتوح عليه لا يغيب عليه ما في أرحام الأنثى فضلا عن غيره ) .
وكان الدباغ هذا يرى أيضا أن المتصوفة لا يعرفون الغيب فحسب , بل يعرفون الغيوب الخمسة التي ذكرها الله تعالى في محكم كتابه أنه لا يعلمها أحد غيره بقوله :
{ إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ }
ولكنه ابن المبارك ينقل عنه قائلا : ( قلت للشيخ : ( أي عبد العزيز الدباغ ) رضي الله عنه : إن علماء الظاهر من المحدثين وغيرهم اختلفوا في النبي صلى الله عليه وسلم , هل كان يعلم الخمس المذكورات في قوله : { إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } , فقال رضي الله عنه وعن سادتنا العلماء :
كيف يخفى أمر الخمس عليه والواحد من أهل التصوف من أمته الشريفة لا يمكنه التصرف إلا بمعرفة هذه الخمس ) .
والجدير بالذكر أن هذا هو القائل : ( ما السموات والأرضون السبع في نظر العبد المؤمن إلا كحلقة ملقاة في فلاة ) .
وأيضا : ( إن الجنين إذا سقط من بطن أمه يراه العارف في تلك الحالة إلى آخر عمره ) .
أما الرفاعي أحمد فنقلوا عنه أنه قال : ( إن العبد ما يزال يرتقي من سماء إلى سماء حتى يصل إلى محل الغوث , ثم ترتفع صفته إلى أن تصير صفة من صفات الحق , فيطلعه على غيبه حتى لا تنبت شجرة , ولا تحضر ورقة إلا بنظره , ويتكلم هناك عن الله بكلام لا تسعه عقول الخلائق ... وكان يقول : إن القلب إذا انجلى من حبّ الدنيا وشهوتها صار كالبلّور , وأخبر صاحبه بما مضى وبما هو آت من أحوال الناس ) . ونقل ذلك الشعراني أيضا منه في طبقاته .
ونقلوا عن الشبلي أنه قال : ( لو دبت نملة سوداء على صخرة صماء في ليلة ظلماء ولم أشعر بها أو لم أعلم بها لقلت أنه ممكور بي ) . وهذا قول الله الجليّ الصريح الواضح البيّن : { وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ }
ومع أمر الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول : { وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ } وقول الله عز وجل : { تِلْكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَـذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ }
ولكن القوم عكس ذلك يقولون ما ألقى الشيطان إليهم من عقائد شيعية , ومعتقدات يهودية , وكان السحرة والكهان .
ولقد أدّب الله تبارك وتعالى نبيه ونجيه وصفيه سيد البشر قائد النبيين والمرسلين صلى الله عليه وسلم على جوابه لمن سأله عن أصحاب الكهف وعددهم , رجاء بأن ينزل عليه الوحي , ويخبر الله عز وجل عنهم , والوحي كان ينزل , وجبريل كان يأتي , واتصاله كان قائما بالسماء فقال مرسله ومنزل الوحي عليه : { وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا ( 23 ) إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا } . وقبله أقرت الملائكة بقصور علمهم , واعترافهم بعدم إحاطتهم بملكوت السماء يوم قالوا :{ قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ } فأقرهم الله عز وجل على القصور وعدم المعرفة بالغيب بقوله : { قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ }
هذا وأما المنوفي الحسيني فينقل عن إبراهيم الدسوقي أنه كان يقول :
( إن للأولياء الإطلاع على ما هو مكتوب على أوراق الشجر والماء والهواء وما في البر والبحر وما هو مكتوب على صفحة قبة خيمة السماء , وما في جباه الإنس والجان مما يقع لهم في الدنيا والآخرة ) .
وأما الشاذلي فنقلوا عنه : ( من عبد الله باسمه الحيّ المحيي وأكثر منه , ولا حد لأكثره , شاهد حياة كل شيء ومحييه . ومن ذكر بهم جميعا صعدت روحه إلى الملأ الأعلى , وصعدت روحه إلى العرش , ليكتب عند الله من الكاملين الصديقين ) . وقال أفضل الدين : ( لا يعطى أحد القطبية حتى يعرف جميع عوالم هذه العروش والكراسي والسموات والأرضين بأسمائهم وأنسابهم وأعمارهم وأعمالهم ) .
ونقل الشعراني عن إبراهيم المتبولي أنه قال : ( يرتسم الوجود كله في قلب الفقير ( أي الصوفي ) فيراه من قلبه . وإيضاح ذلك أن القلب إذا انجلى صار كالمرآة الكبيرة , فإذا قابلها بالعالم العلوي والسفلي ارتسم كله فيها ) .
وروى أيضا عن علي الخواص أنه قال : ( لا يكمل إيمان عبد حتى يصير الغيب عنده كالشهادة في عدم الريب ) .
ويقول محمد ضيف الله الجعلي السوداني : ( كشف الأولياء على قسمين : منهم من ينظر في اللوح فإنه لا يتغير ولا يتبدّل كسيدي علي الخواص . ومنهم من ينظر في ألواح المحور والإثبات , وعدتها ثلاثمائة وستون لوحا فإنها تتغير وتتبدّل , فإذا أخبر الوليّ بكلام ولم يقع فلا ينكر عليه بأن يقال : كذب , بل يحمل على أنه نظر في ألواح المحور والإثبات ) .
فانظر هذه الخرافة المختلقة ما أشنعها وأقبح بها .
وأما ابن عربي ومدرسته فقد تكلموا في مثل هذا كثيرا , ولا يخلو كتاب من كتبهم عن مثل هذه الخرافات والموبقات , فيقول ابن عربي : ( فأما العلم اللدني , فمتعلقه الإلهيات وما يؤدي إلى تحصيلها من الرحمة الخاصة . وأما علم النور فظهر سلطانه في الملأ الأعلى قبل وجود آدم بآلاف السنين من أيام الرب .
وأما علم الجمع والتفرقة فهو البحر المحيط , الذي اللوح المحفوظ جزء منه , ومنه يستفيد العقل الأول , وجميع الملأ الأعلى منه يستمدون . وما ناله أحد من الأمم سوى أولياء هذه الأمة . وتتنوع تجلياته في صدورهم على ستة آلاف ومائتين .
فمن الأولياء من حصّل جميع هذه الأنواع , كأبي يزيد البسطامي , وسهل بن عبد الله , ومنهم من حصّل بعضها ) .
ويقول في إحدى رسائله : ( للأرواح الإنسانية إذا صفت وزكت معارج في العالم العلوي المفارق وغير المفارق فينظر مناظر الروحانيات المفارقة , فترى مواقع نظرهم في أرواح الأفلاك ودورانها بها , فينزل مع حكم الأدوار وترسل طرفها في رقائق التنزيلات حتى ترى مساقط نجومها في قلوب العباد , فتعرف ما تحويه صدورهم وما تنطوي عليه ضمائرهم , وما تدل عليه حركاتهم ... وإذا توجهت الأسرار نحو قارئها بفناء وبقاء , وجمع وفرق سقطت عليها أنوار الحضرة الإلهية من حيثها , لا من حيث الذات , فأشرقت أرض النفوس بين يديه فالتفت فعلم ما أدركه بصره وأخبر بالغيب وبالسرائر وبما تكنه الضمائر وما يجري في الليل والنهار ) .
ويقول : ( من يكن الحق سمعه وبصره فكيف يخفى عليه شيء ) .
وقال : ( يرتقي الوليّ إلى عالم الغيب فيشاهد اليمين ماسكة قلمها وهي تخطط في اللوح ) .
و : ( من الصوفية من لا يزال عاكفا على اللوح , ومنهم من يشهده تارة تارة ) .
ونقل ابن عربي في كتابه عن الجنيد أنه قال : ( العارف هو الذي ينطق عن سرّك وأنت ساكت ) .
ولقد بيّن في إحدى كتبه طريق إطلاع الصوفية على الغيب فقال : ( الكشف والإطلاع على الغيب يكون بطريق التجلي , إما بالتنزل أو بالعروج ) .
ويقول أيضا : ( تتجلى صورة العقل في ذات الخليقة , فتلوح له أسرار والعلم المنقوشة فيه ) .
فهذه هي آراء ابن عربي وأقواله , صريحة في معناها , جلية في مغزاها , واضحة في مرادها , لا غموض فيها ولا تعقيد , ولا تحتاج إلى التبيين والتوضيح .
وأما تلميذه محمد بن إسحاق القونوي المتوفى 673 هـ فيقول : ( إن الكمل ومن شاء الله من الأفراد أهل الإطلاع على اللوح المحفوظ , بل وعلى المقام القلمي , بل وعلى حضرة العلم الإلهي , فيشعرون بالمقدر كونه لشبق العلم بوقوعه ) .
ويقول شهاب الدين السهروردي المقتول : ( الأنبياء والفضلاء المتألهون يتيسر لهم الإطلاع على المغيبات , لأن نفوسهم إما قوية بالفطرة أو تتقوى بطرائقهم وعلومهم , فينتقشون بالمغيبات , لأن نفوسهم كالمرايا المصقولة تتجلى فيها نقوش من الملكوت . فقد يسري شبح إلى الحس المشترك , يخاطبهم ألدّ مخاطبة وهو في أشرف صورة , وربما يرون الغيب بالحس المشترك مشاهدة , وربما يسمعون صوت هاتف , أو يقرؤن من مسطور ) .
وقال لسان الدين بن الخطيب في روضته : ( النفوس عند صفائها تتشبه بالملأ الأعلى , وتنتقش فيها أمثلة الكائنات المتعشقة فيه بنوع ما , وتشاهد المحجوبات , وتؤثر في العوالم السفلية ) .
وبمثل ذلك يقول داود بن محمود القيصري : ( إذا خلص الرجل , وصفا وقته , وطاب عيشه بالإلتذاذ بما يجده في طريق المحبوب , بصر باطنه , فيظهر له لوامع أنوار الغيب , وينفتح له باب الملكوت , ويلوح منه لوايح ) .
والترمذي الملقب بالحكيم يقول : ( إن الأولياء لهم علامات وعلوم , وأما ما يعرفونه من العلوم فهي ( علم البدء , وعلم الميثاق , وعلم المقادير , وعلم الحروف , فهذه أصول الحكمة , وهي الحكمة العلمية , وإنما يظهر هذا العلم عن كبراء الأولياء ويقبله من له حظ في الولاية ) .
ويقول الجيلي عبد الكريم : ( كل واحد من الأفراد والأقطاب له التصرف في جميع الممكلة الوجودية , ويعلم كل واحد منهم ما اختلج في الليل والنهار فضلا عن لغات الطيور .
وقد قال الشبلي رحمه الله تعالى : لو دبّت نملة سوداء على صخرة صماء في ليلة ظلماء ولم أسمعها لقلت : أني مخدوع أو ممكور بي . وقال غيره : لا أقول : ولم أشعر بها لأنه لا يتهيأ لها أن تدبّ إلا بقوتي وأنا محركها ) .
هذا ومثل هذا أكثر من أن يسعه كتاب , أو تشمله رسالة , ولقد تأتي حكايات المتصوفة المتضمنة إخبارهم بالغيب , وإحاطتهم بجميع علوم الكون وأحواله , وإطلاعهم على ما كان وما يكون في محله وفي باب مستقل إن شاء الله .
المسَاوَاة بَيْنَ النَّبِيِّ وَ الوَليّ
وأما تسوية الصوفية بين الولاية والنبوة , بل وتفضيلهم الولاية على النبوة والرسالة , والأولياء على أنبياء الله ورسله , مثل الشيعة , فتدل عليه عبارات القوم وتصريحاتهم , فيقول لسان الدين ابن الخطيب : ( الولاية : أن يتولى الله الواصل على حضر قدسه , بكثير مما تولى به النبي , من حفظ وتوفيق , وتمكين واستخلاف وتصريف .
فالولي يساوي النبي في أمور , منها : العلم من غير طريق العلم الكسبي , والفعل بمجرد الهمة , فيما لم تجر به العادة أن يفعل إلا بالجوارح والجسوم , مما لا قدرة عليه لعالم الجسوم .
كان الفضيل بن عياض , على جبل من جبال منى , فقال : لو أن وليا من أولياء الله أمر هذا الجبل أن يميد لماد , فتحرك الجبل , فقال : اسكن . لم أردك بهذا , فسكن الجبل . ويفعل بالهمة في عالم الخيال وفي الحس , فإنه يسمع ويرى , ما لا يرى ولا يسمع وهو بين الناس .
ويفارق الولي النبي في المخاطبة الإلهية , والمعارج , فإنهما يجتمعان في الأصول وهي المقامات , إلا أن النبي يعرج بالنور الأصلي , والولي يعرج بما يفيض من ذلك النور الأصلي , وإن جمعهما مقام اختلفا بالوحدة في كل مقام , من فناء وبقاء , وجمع وفرق . والولي يأخذ المواهب بواسطة روحانية نبيه , ومن مقامه يشهد , إلا ما كان من الأولياء المحمديين , فإنه لما كان نبيهم صلوات الله وسلامه عليه جامعا لمقامات الأنبياء ( أورثهم الله مقامات الأنبياء ) وأوصل إليهم أنوارهم , من نور نبيهم الوارث , وبوساطته , فإنه هو الذي أعطى جميع الأنبياء والرسل مقاماتهم في عالم الأرواح .
ثم شاركت الأولياء الأنبياء في الأخذ عنه , وإليه الإشارة بقوله ( أولياء أمتي أنبياء من دونهم ) فقد يرث ولي من الأولياء آدم , أو إدريس , أو إسحاق , أو إسماعيل , أو يوسف , أو موسى , أو عيسى , لكن لا يتوصل إلى نوره ولا حاله إلا من محمد صلوات الله وعليهم وسلامه , إلا القطب وحده , فإنه على قلب محمد صلى الله عليه وسلم ( ولمثل هذا المقام الكريم فليعمل العاملون ) )
و ( أن الأولياء لهم أربعة مقامات : الأول مقام خلافة النبوة , والثاني مقام خلافة الرسالة , والثالث مقام خلافة أولي العزم , والرابع خلافة مقام أولي الاصطفاء . فمقام خلافة النبوة للعلماء. ومقام خلافة الرسالة للأبدال. ومقام خلافة أولي العزم للأوتاد . ومقام خلافة الاصطفاء للأقطاب .
فمن الأولياء من يقوم في عالم مقام الأنبياء , ومنهم من يقوم في عالم مقام الرسل , ومنهم من يقوم في عالم مقام أولي العزم , ومنهم من يقوم في عالم مقام أولي الاصطفاء ) .
وعلى ذلك قالوا :
( الولاية ظل النبوة , والنبوة ظل الإلهية .... فالأنبياء عليهم السلام مصادر الحق , والأولياء مظاهر الصدق ... والأولياء خصوا بإشارات نبوية , و إطلاعات حقيقة , وأرواح نورية , وأسرار قدسية , وأنفاس روحانية , ومشاهدات أزلية ) .
وبمثل هذا قال الكمشخانوي في كتابه جامع أصول الأولياء .
وآخر قال بوضوح أكثر : ( ما قيل في النبي يقال في الوليّ ) .
وكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه حكى عن الله عز وجل أنه قال : ( أولئك كلامهم كلام الأنبياء ) .
| |
| | | الشيخ عودة الشيخ عودة
عدد المساهمات : 1748 تاريخ التسجيل : 28/09/2008 العمر : 74
| موضوع: رد: المنْشَأ وَالمَصَادِر تأليف الأستاذ إحسان إلهي ظهير الإثنين نوفمبر 02, 2015 2:42 pm | |
| تَفْضِيلُ الوَليّ عَلَى النَّبِيِّ
ولم يقتصر القوم على مثل هذه السخافات والأباطيل , بل زادوا في غلوائهم حيث فضلوا الولاية على النبوة والرسالة , والأولياء على الأنبياء والمرسلين , فقالوا : ( خضنا بحورا وقفت الأنبياء بسواحلها ) .
و( معاشر الأنبياء , أو تيتم اللقب , وأوتينا ما لم تؤتوه ) .
ونقلوا عن البسطامي أنه قال : ( تالله أن لوائي أعظم من لواء محمد صلى الله عليه وسلم , لوائي من نور تحته الجان والجن والإنس , كلهم من النبيين ) .
وهذا ما صرّح به بعضهم : ( مقـــــام النـــــبوة في بـــــــرزخ فـــــويق الرســــــول ودون الوليّ ) .
لأن ( الولاية : هي الفلك الأقصى , من سبح فيه اطلع , ومن اطلع علم , ومن علم تحول في صورة ما علم . فذلك الوليّ المجهول الذي لا يعرف , والنكرة التي لا تتعرّف , لا يتقيد بصورة , ولا تعرف له سريرة , يلبس لكل حالة لبوسها , أما نعيمها وإمّا بؤسها .
يـــــــوماً يمـــــــان إذا لاقيت ذا يـــمن وإن لاقيـــــــت معـــــــديا فعدنان
إمعة , لما في فلكه من السعة ) .
و ( إن الولاية هي المحيطة العامة , وهي الدائرة الكبرى , فمن حكمها أن يتولى الله من شاء من عباده بنبوة وهي من أحكام الولاية , وقد يتولاه بالرسالة وهي من أحكام الولاية أيضا . فكل رسول لابد أن يكون نبيا , وكل نبيّ لابد أن يكون وليا , فكل رسول لابد أن يكون وليا . فالرسالة بخصوص مقام في الولاية , والرسالة في الملائكة دنيا و آخرة , لأنهم سفراء الحق لبعضهم ... والرسالة في البشر لا تكون إلا في الدنيا , وينقطع حكمها في الآخرة , وكذلك تنقطع في الآخرة بعد دخول الجنة والنار نبوة التشريع , لا نبوة العامة .
وأصل الرسالة في الأسماء الإلهية . وحقيقة الرسالة إبلاغ كلام من متكلم إلى سامع . فهي حال لا مقام , ولا بقاء لها بعد انقضاء التبليغ , وهي تتجدد ) .
بخلاف الولاية فإنها لا تنقطع أبدا , ولا تحدّ , لا بالزمان ولا بالمكان , ولها الإنباء العام ( والله لم يتسمّ بنبي ولا برسول , وتسمّى بالوليّ , واتصف بهذا الاسم , فقال : الله ولي الذين آمنوا , وقال : هو الوليّ الحميد , وهذا الاسم باق جار على عباد الله دنيا وآخرة ) .
وأن الولي يعلم علمين : علم الشريعة , وعلم الحقيقة , أي الظاهر والباطن , والتنزيل والتأويل , حيث أن الرسول من حيث هو رسول ليس له علم إلا بالظاهر والتنزيل والشريعة ( فإذا رأيت النبي يتكلم بكلام خارج عن التشريع فمن حيث هو وليّ عارف , ولهذا مقامه من حيث هو عارف أتمّ وأكمل من حيث هو رسول أو ذو تشريع وشرع ) .
وأن النبي والرسول يستمدّ بالعلم والمعرفة من الملك الذي يبلغه الوحي الإلهي بواسطته , ولا يمكنه الأخذ من الله مباشرة , والوليّ يستمد المعرفة من حيث يأخذها الملك الذي يؤدي بدوره إلى الأنبياء والرسل ( فمرجع الرسول والنبي المشرع إلى الولاية والعلم ) .
فلذلك قال ابن عربي بصراحة لا تحتمل التأويل : ( وما يراه أحد من الأنبياء والرسل إلا من مشكاة الرسول الخاتم , ولا يراه أحد من الأولياء إلا من مشكاة الوليّ الخاتم , حتى أن الرسل لا يرونه – متى رأوه – إلا من مشكاة خاتم الأولياء : فإن الرسالة والنبوة – أعني نبوة التشريع ورسالته – تنقطعان , والولاية لا تنقطع أبداً . فالمرسلون , من كونهم أولياء , لا يرون ما ذكرناه إلا من مشكاة خاتم الأولياء , فكيف من دونهم من الأولياء ؟ وإن كان خاتم الأولياء تابعا في الحكم لما جاء به خاتم الرسل من التشريع , فذلك لا يقدح في مقامه ولا يناقض ما ذهبنا إليه , فإنه من وجه يكون أنزل كما أنه من وجه يكون أعلى ... لما مثل النبي صلى الله عليه وسلم النبوة بالحائط من اللبّن وقد كَمُلَ سوى موضع لبِنَة , فكان صلى الله عليه وسلم تلك اللبنة . غير أنه صلى الله عليه وسلم لا يراها كما قال لبِنَة واحدة . وأما خاتم الأولياء فلا بد له من هذه الرؤيا , فيرى ما مثله به رسول الله صلى الله عليه وسلم , ويرى في الحائط موضع لبِنَتين , واللبن من ذهب وفضة . فيرى اللبنتين اللتين تنقص الحائط عنهما وتكمل بهما , لبنة ذهب ولبنة فضة , فلا بد أن يرى نفسه تنطبع في موضع تينك اللبنتين , فيكون خاتم الأولياء تينك اللبنتين . فيكمل الحائط . والسبب الموجب لكونه رآها لبنتين أنه تابع لشرع خاتم الرسل في الظاهر وهو موضع اللبنة الفضة , وهو ظاهره وما يتبعه فيه من الأحكام , كما هو آخذ عن الله في السر ما هو موضع اللبنة الذهبية في الباطن , فإنه أخذ من المعدن الذي يأخذ من الملك الذي يوحى به إلى الرسول .. فإن فهمت ما أشرت به فقد حصل لك العلم النافع بكل شيء . فكل نبي من لدن آدم إلى آخر نبي ما منهم أحد يأخذ إلا من مشكاة خاتم النبيين , وإن تأخر وجود طينته , فإنه بحقيقته موجود , وهو قوله صلى الله عليه وسلم : ( كنت نبياً وآدم بين الماء والطين ) . وغيره من الأنبياء ما كان نبيا إلا حين بُعثَ , وكذلك خاتم الأولياء كان وليا وآدم بين الماء والطين , وغيره من الأولياء ما كان ولياً إلا بعد تحصيله شرائط الولاية من الأخلاق الإلهية في الاتصاف بها من كون الله تعالى تسمى ( بالولي الحميد ) . خاتم الرسل من حيث ولايته , نسبته مع الخاتم للولاية نسبة الأنبياء والرسل معه , فإنه الولي الرسول النبي . وخاتم الأولياء الولي الوارث الآخذ عن ألأصل المشاهد للمراتب ) .
ولا أدري كيف يدافع من يدافع عن ابن عربي بأنه لا يفضل الولي على النبي , وبعد هذه التصريحات كلها ؟ حيث يجعل خاتم الأولياء منبع العلوم , ومصدر الفيض لجميع الأنبياء والرسل , وأنهم لا يستمدون إلا منه , و لا يستقون إلا من ذلك المنهل والمورد , ولا يستضيئون إلا من مشكاته , وهذا الفيض الشيثي والعزيري نص في القضية .
ولذلك ردّ شيخ الإسلام ابن تيمية في رسائله بشدّة عليه , وعلى من نهج منهجه وسلك مسلكه , في رسائله وكتبه , ونسب كلامه إلى الكفر الذي تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدّا .
وقال شيخ الإسلام في فتاواه : ( وكذا لفظ ( خاتم الأولياء ) لفظ باطل لا أصل له , وأول من ذكره محمد بن علي الحكيم الترمذي , وقد انتحله طائفة كل منهم يدعي أنه خاتم الأولياء : كابن حمويه وابن عربي وبعض الشيوخ الضالين بدمشق وغيرها , وكل منهم يدعي أنه أفضل من النبي عليه السلام من بعض الوجوه , إلى غير ذلك من الكفر والبهتان , وكل ذلك طمعاً في رياسة خاتم الأولياء لما فاتتهم رياسة خاتم الأنبياء , وقد غلطوا , فإن خاتم الأنبياء إنما كان أفضلهم للأدلة الدالة على ذلك , وليس كذلك خاتم الأولياء . فإن أفضل أولياء هذه الأمة السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار , وخير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر رضي الله عنه , ثم عمر رضي الله عنه و ثم عثمان رضي الله عنه , ثم علي رضي الله عنه , وخير قرونها القرن الذي بعث فيه النبي صلى الله عليه وسلم , ثم الذين يلونهم , ثم الذين يلونهم , وخاتم الأولياء في الحقيقة آخر مؤمن تقي يكون في الناس , وليس ذلك بخير الأولياء , ولا أفضلهم بل خيرهم وأفضلهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه تعالى عنه , ثم عمر : اللذان ما طلعت شمس ولا غربت على أحد بعد النبيين والمرسلين أفضل منهما ) .
وقبل أن نورد نصوصا أخرى من القوم ممن خلف ابن عربي في مثل هذه المقولات وسبقوه نودّ أن نلفت أنظار القراء والباحثين إلى أن خاتم الأولياء الذي صعد وارتقى تلك المنزلة الكبرى , وحاز ذلك المنصب العظيم حتى ازداد على أنبياء الله ورسله , لم يكن عند ابن عربي إلا هو نفسه كما يقول في فتوحاته :
( أنا ختــــــــم الولاية دون شـك لورثي الهاشمي مع المســـيح كـــــــــما أني أــــبو بـكر عتيق أجـــــــاهل كلّ ذي جسـم وروح بــــــأرواح مثــــقفة طــــــــوال وتــــــــــــــرجمة بقرآن فصيح أشــــــدّ على كتــــيبة كل عــقل تـنازعني على الوحي الصريح لي الورع الذي يســمو اعتلاء على الأحــــوال بالنبأ الصحيح وســــاعدني عليه رجال صدق من الورعين من أهــل الفتوح يوالون الوجـــــــوب وكلّ ندب ويستثنون سلــــــــطنة المبيح ) .
وهناك تصريحات أخرى منه ومن أتباعه , نذكرها في ترجمته في باب مستقل في الجزء الثاني من هذا الكتاب , تحت تراجم كبراء المتصوفين – إن شاء الرحمن - .
وأما الحكيم الترمذي الذي منه أخذ ابن عربي تلك الفكرة في أخذ النبي العلم والمعرفة من الملك , وأخذ الوليّ بدون واسطة , فيقول في جواب سؤال : ما الفرق بين النبوة والولاية ؟ :
( الفرق بين النبوة والولاية أن النبوة كلام ينفصل من الله وحيا , ومعه روح من الله فيقضي الوحي ويختم بالروح ... والولاية لمن ولى الله حديثه على طريق أخرى , فأوصله إليه فله الحديث , وينفصل ذلك الحديث من الله عز وجل , على لسان الحق معه السكينة , تتلقاه السكينة في قلب المحدّث , فيقبله ويسكن إليه ) .
ثم يذكر خاتم الأولياء فيقول : ( لما قبض الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم صيّر في أمته أربعين صديقا بهم تقوم الأرض , وهم آل بيته , فكلما مات واحد منهم خلفه من يقوم مقامه , حتى إذا انقرض عددهم وأتى وقت زوال الدنيا إبتعث الله وليا اصطفاه واجتباه , وقرّبه وأدناه , وأعطاه ما أعطى الأولياء , وخصّه بخاتم الولاية , فيكون حجة الله يوم القيامة على سائر الأولياء فيوجد عنده بذلك الختم صدق الولاية على سبيل ما وجد عند محمد صلى الله عليه وسلم من صدق النبوة فلم ينله العدو , ولا وجدت النفس إليه سبيلا إلى الأخذ بحظها من الولاية .
فإذا برز الأولياء يوم القيامة و اقتضوا صدق الولاية والعبودية وجد الوفاء عند هذا الذي ختم الولاية تماما , فكان حجة الله عليهم وعلى سائر الموحدين من بعدهم , وكان شفيعهم يوم القيامة , فهو سيدهم , ساد الأولياء , كما ساد الأنبياء , فينصب له مقام الشفاعة , ويثني على الله تعالى ثناء ويحمده بمحامد يقرّ الأولياء بفضله عليهم في العلم بالله تعالى .
فلم يزل هذا الولي مذكورا في البدء , أولا في الذكر , وأولا في العلم , ثم هو الأول في المشيئة , ثم هو الأول في اللوح المحفوظ , ثم الأول في الميثاق , ثم الأول في المحشر , ثم الأول في الجوار , ثم الأول في الخطاب , ثم الأول في الوفادة , ثم الأول في الشفاعة , ثم الأول في دخول الدار , ثم الأول في الزيارة , فهو في كل مكان أول الأولياء ) .
وقد سئل : أين مقامه ؟ فقال : ( في أعلى منازل الأولياء , في ملك الفردانية , وقد انفرد في وحدانيته , ومناجاته كفاحا في مجالس الملك , وهداياه من خزائن السعي . قال : وما خزائن السعي ؟ قال : إنما هي ثلاث خزائن : المنن للأولياء , وخزائن السعي لهذا الإمام القائد , وخزائن القرب للأنبياء عليهم السلام , فهذا ( خاتم الأولياء ) مقامه من خزائن المنن , ومتناوله من خزائن القرب , فهو في السعي أبدا , فمرتبته هنا , ومتناوله من خزائن الأنبياء عليهم السلام , قد انكشفت له الغطاء عن مقام الأنبياء ومراتبهم وتحفهم ) .
ويقول أيضا : ( وقد يكون في الأولياء من هو أرفع درجة , وذاك عبد قد ولى الله استعماله , فهو في قبضته يتقلب , به ينطق , وبه يسمع , وبه يبصر , وبه يبطش , وبه يعقل , شهره في أرضه , وجعله إمام خلقه و وصاحب لواء الأولياء , وأمان أهل الأرض , ومنظر أهل السماء , وريحانة الجنان , وخاصة الله , وموضع نظره , ومعدن سره , وسوطه في أرضه , يؤدب به خلقه , ويحيي القلوب الميتة برؤيته , ويرد الخلق إلى طريقه , وينعش به حقوقه , مفتاح الهدى , وسراج الأرض , وأمين صحيفة الأولياء , و قائدهم , والقائم بالثناء على ربه , بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ! , يباهي به الرسول في ذلك الموقف , وينوه الله باسمه في ذلك المقام , ويقر عين رسول الله صلى الله عليه وسلم ! , قد أخذ الله بقلبه أيام الدنيا , ونحله حكمته العليا , وأهدى إليه توحيده , ونزه طريقه عن رؤية النفس , وظل الهوى , وأئتمنه على صحيفة الأولياء , وعرّفه مقاماتهم , وأطلعه على منازلهم . فهو سيد النجباء , وصالح الحكماء , وشفاء الأدواء , وإمام الأطباء . كلامه قيد القلوب , ورؤيته شفاء النفوس , وإقباله قهر الأهواء , وقربه طهر الأدناس , فهو ربيع يزهر نوره أبداً , وخريف يجنى ثماره دأبا , وكهف يلجأ إليه , ومعدن يؤمل ما لديه , وفصل بين الحق والباطل . وهو الصديق والفاروق والولي والعارف والمحدّث . هو واحد الله في أرضه ) .
وأما ما قاله المتأخرون فهو أظهر وأصرح , فيقول داود القيصري : ( فالنبوة دائرة تامة مشتملة على دوائر متباينة متفاوتة في الحيطة , وقد علمت أن الظاهر لا يأخذ التأييد والقوة والتصرف والعلوم , وجميع ما يفيض من الحق تعالى عليه إلا بالباطن : وهو مقام الولاية , المأخوذ من الولي , وهو القرب , والوليّ بمعنى الحبيب أيضا منه .
فباطن النبوة الولاية , وهي تنقسم بالعامة والخاصة . فلأولى تشتمل على كل من آمن بالله وعمل صالحا , على حسب مراتبهم كما قال الله تعالى : { الله وليّ الذين آمنوا } .
والثانية تشتمل على الواصلين من السالكين فقط , عند فنائهم فيه وبقائهم به في الولاية الخاصة , عبارة عن فناء العبد في الحق . فالوليّ هو الفاني فيه الباقي به . .... وهذا الفناء موجب لأن يتعين العبد بتعيّنات حقانية وصفات ربانية مرة أخرى , وهو البقاء بالحق , فلا يرتفع التعين منه مطلقا , وهذا المقام دايرة أتمّ وأكبر من دايرة النبوة , لذلك انختمت النبوة , والولاية دائمة , وجعل الوليّ , اسما من أسماء الله تعالى دون النبي , ولما كانت الولاية أكبر حيطة من النبوة وباطنا لها , شملت الأنبياء والأولياء . فالأنبياء هم أولياء فانون بالحق , باقون به , منبئون عن الغيب وأسراره .... ولا نهاية لكمال الولاية , فمراتب الأولياء غير متناهية ) .
هذا ومثل هذا كثير عنده .
وهناك تلميذ آخر لابن عربي شيعي , فقال مثل ما قاله القيصري : ( وفي الحقيقة : الولاية هي باطن النبوة , والفرق بين النبي والرسول والوليّ أن النبي والرسول لهما التصرف في الخلق بحسب الظاهر والشريعة , والولي له التصرف فيهم بحسب الباطن والحقيقة ومن هذا قالوا : النبوة تنقطع , والولاية لا تنقطع أبدا ) .
وقال النسفي عزيز الدين بن محمد المتوفى 671 هـ في كتابه ( زبدة الحقائق ) : ( إن طائفة من الصوفية ذهبت إلى تفضيل الولاية على النبوة , وقالوا : أن النبوة باطنها الولاية , وأما الولاية فباطنها عالم الإله ) .
هذا ما ذكره في كتابه ( زبدة الحقائق ) , وبمثل ذلك ذكر في كتابه ( الإنسان الكامل) .
وأما ما قاله في كتابه ( كشف الحقائق ) فهو : ( أيها العارف , إن العارفين عند أهل الوحدة ثلاثة طوائف : حكماء وأنبياء وأولياء , فالحكيم من يكون عارفا بطبائع الأشياء , والنبي من يكون عارفا بطبائع الأشياء وخواصّها , والولي من يكون عارفا بطبائع الأشياء وخواصّها وحقائقها , فظهر أنه لا يوجد في العالم أحد يضاهي الوليّ في العلم والقدرة , لأن الله له تجليّان : تجلي عام , تجلي خاص .
فالتجلي العام عبارة عن أفراد الموجودات , والتجلي الخاص عبارة عن الوليّ , وهذا هو معنى قول الله عز وجل : { فالله هو الوليّ وهو يحيي الموتى وهو على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما } ) .
ويقول في موضع آخر من كتابه : ( المعرفة تنقسم إلى ثلاثة أقسام : الأول معرفة طبيعة كل شيء , وهذه رتبة الحكماء , والثاني معرفة خاصية كل شيء , وهذه رتبة الأنبياء , والثالث معرفة حقيقة كل شيء , وهذه رتبة الأولياء , وأعلم أن أهل الوحدة فضّلوا النبي على الحكيم , والوليّ على النبيّ , فإن كل نبي حكيم , وكل وليّ نبيّ , وليس كل نبي وليّ ) .
وأما الصوفي آخر سعد الدين حمويه فيقول في مثنويّه : ( واو الولاية أقرب إلى الحضرة الإلهية من نون النبوة , فلأجل هذا التقرب تعتبر الولاية أفضل من النبوة , ثم يبيّن ذلك في أبياته قائلا :
الحرف الأول من كلمة الولاية هو الـــواو والواو في وســــطها ألف أيها المــــــريد والحرف الأول من كلمة النبوة هو النون والنـــــــون في وســــــــطها حرف الواو فإذن الــــــــــوليّ قــــــلب النبي وروحه وروح الـــــــــوليّ هو ذات الله ونفـــسه ) .
فهذه هي عقيدة المتصوفة في الأولياء , والولاية , عين تلك العقيدة الشيعية الشنيعة التي ذكرناها من قبل , وهي تتضمن تفضيل الأولياء على أنبياء الله ورسله , والبعض الآخر كتموها عملا بالتقية التي لم يأخذوها أيضا إلا من الشيعة كما سنذكرها .
فإن الوليّ عندهم فوق الرسول والنبي , ودون الله قليلا , وأحيانا يحذفون هذا الفرق البسيط أيضا بينه وبين الله , ويجعلونه ذات الله وعينه , سواء اتحد به , أو ذلك اتحد به , وعلى ذلك قالوا :
( لو كشف عن حقيقة الوليّ لعبد ) .
إجْــرَاءُ النُّــبُوة
وبهذه المناسبة نريد أن نذكر ههنا عقيدة صوفية خبيثة أخرى , أخذوها من بعض فرق الشيعة , من الخطابية , والخرمية , والمنصورية وغيرها بأن رسالة الله لا تنقطع أبدا , وأن النبوة جارية , ويأتي نبيّ حينا بعد حين .
وهم بدورهم أخذوها من اليهودية مثل العقائد الأخرى كما ذكره ولهوزن : ( أن النبي الصادق واحد يعود أبدا ) .
ومعلوم أن هذه العقيدة لم تعتنقها فرق الشيعة إلا للقضاء على الإسلام وهدم كيانه , وفتح الأبواب على الدجالين والكذابين لترويج نبواتهم الباطلة ودعاويهم الكاذبة , وإخراج المسلمين عن حظيرة الإسلام , وإدخالهم في بؤرة الكفر والإرتداد , وإبعادهم عن محمد الصادق المصدوق الأمين عليه الصلاة والسلام وعن شريعته السماوية السمحاء , ونشر الفتن والقلاقل بينهم , وفكّ جمعيتهم , وتشتيت شملهم , وتفريق كلمتهم , وتمزيق جماعتهم , والقضاء على شأنهم وشوكتهم , وسدّ سيل النور كي لا يعمّ المعمورة , ويشمل الكون , ووضع العراقيل في طريقه , مخالفين النصوص الصريحة المعارضة في كلام الله المحكم , وحديث رسول الله الثابت عنه عليه الصلاة والسىلام مثل قوله جل وعلا : { مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ } .
وقوله تبارك وتعالى : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا } .
وقوله جلّ من قائل : { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } . وقوله : { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا } . وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أنا خاتم النبيين لا نبيّ بعدي ) . وقوله عليه الصلاة والسلام : إني آخر الأنبياء ومسجدي آخر المساجد ) . وقوله صلى الله عليه وسلم : ( مثلي ومثل الأنبياء كمثل قصر أحسن بنيانه , ترك منه موضع لبنة , فطاف به النظار يتعجبون من حسن بنيانه إلا موضع تلك اللبنة , فكنت أنا سددت موضع اللبنة , ختم بي البنيان , ختم بي الرسل ) .
وغيرها من الأحاديث الكثيرة الكثيرة في هذا المعنى ولكن القوم يقولون عكس ذلك , معرضين عن كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم , متبعين غير سبيل المؤمنين , فيقول شيخهم الأكبر متفوها الكفر الصريح : ( ويجمع النبوة كلها أم الكتاب , ومفتاحها : بسم الله الرحمن الرحيم . فالنبوة سارية إلى يوم القيامة في الخلق . وإن كان التشريع قد انقطع , فالتشريع جزء من أجزاء النبوة , فإنه يستحيل أن ينقطع خبر الله وأخباره من العالم , إذ لو انقطع لم يبق للعالم غذاء يتغذى به في بقاء وجوده : قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا , : ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله , وقد أخبر الله أنه ما من شيء يريد إيجاده إلا يقول له : كن , فهذه كلمات الله لا تنقطع , وهي النداء العام لجميع الموجودات . فهذا جزء واحد من أجزاء النبوة لا ينفد , فأين أنت من باقي الأجزاء التي لها ) .
فهذه هي عقيدة القوم بلسان قدّيسهم , وفي فتوحاته التي يقولون فيها , وفيه :
فتــــوحات شيخي غادة مدنية كستها نفيسات العـــلوم ملابسا فلا عجب لو تشتهيها نفوسنا وأبحاثها أبدت إليــــــــنا نفائسا فلله دّر الشـــيخ أكبر عصره بأنفـاسه لا زال يحيى المجالسا
وهذه العقيدة هي التي شجعت الكثيرين من المتنبئين والكذابين على الله أن يدّعو النبوة بعد محمد صلوات الله وسلامه عليه , مثل الغلام القادياني الذي استشهد على تنبئه بكلام ابن عربي هذا , وغيره من الدجاجلة الآخرين , مع تصريح رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا تقوم الساعة حتى يخرج ثلاثون دجالون , كلهم يزعم أنه رسول الله , وأنا خاتم النبيين لا نبي بعدي ) .
| |
| | | الشيخ عودة الشيخ عودة
عدد المساهمات : 1748 تاريخ التسجيل : 28/09/2008 العمر : 74
| موضوع: رد: المنْشَأ وَالمَصَادِر تأليف الأستاذ إحسان إلهي ظهير الإثنين نوفمبر 02, 2015 2:43 pm | |
| ولكن ابن عربي يقول معاكسا لذلك في فتوحاته : ( ويتضمن هذا الباب المسائل التي لا يعلمها إلا الأكابر من عباد الله , الذين هم في زمانهم بمنزلة الأنبياء في زمان النبوة , وهي النبوة العامة . فإن النبوة التي انقطعت بوجود رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما هي نبوة التشريع لا مقامها فلا شرع يكون ناسخا لشرعه صلى الله عليه وسلم , ولا يزيد في حكمه شرعا آخر , وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم : إن الرسالة والنبوة انقطعت , فلا رسول بعدي ولا نبي , أي لا نبيّ بعدي يكون على شرع يكون مخالفا لشرعي , بل إذا كان , يكون تحت حكم شريعتي ... فهذا هو الذي انقطع وسدّ بابه , لا مقام النبوة ) .
فهل يقول المتنبئون الدجالون الكذابون غير هذا ؟
فإنهم لا يلتقطون إلا من موائد الصوفية وخوانها , ولا يستوحون إلا من أمثال شيخهم الأكبر .
ويقول ابن عربي كذلك مجيبا على سؤال الترمذي الملقب بالحكيم : أين مقام الأنبياء من مقام الأولياء ؟ يجيب على هذا ويقول : ( وإن كان سؤاله عن مقام الأنبياء من الأولياء , أي أنبياء الأولياء – وهي النبوة التي قلنا أنها لم تنقطع , فإنها ليست نبوة الشرائع – وكذلك في السؤال عن مقام الرسل , الذين هم أنبياء فلنقل في جوابه : أن أنبياء الأولياء , مقامهم من الحضرات الإلهية الفردانية , والاسم الإلهي الذي تعبدهم ( هو ) الفرد , وهم المسمون الأفراد . فهذا هو مقام نبوة الولاية , لا نبوة الشرائع . وأما مقام الرسل , الذين هم أنبياء فهم الذين لهم خصائص على ما تعبدوا به أتباعهم . كمحمد صلى الله عليه وسلم , فيما قيل له : ( خالصة لك من دون المؤمنين ) في النكاح بدون الهبة . فمن الرسل من لهم خصائص على أمتهم ومنهم من لا يختصه الله بشيء دون أمته .
وكذلك الأولياء : فيهم أنبياء , أي خصوا بعلم لا يحصل إلا لنبي , من العلم الإلهي . ويكون حكمهم من الله , فيما أخبرهم به , حكم الملائكة . ولهذا قال (تعالى ) في نبي الشرائع : ( ما لم تحط به خبرا ) , أي ما هو ذوقك , يا موسى ! مع كونه كليم الله . فخرق ( الخضر ) السفينة , وقتل الغلام حكماً , وأقام الجدار - مكارم خلق – عن حكم أمر الإلهي , ( هذا كله ) كخسف البلاد على يدي جبريل ومن كان من الملائكة . ولهذا كان الأفراد من البشر بمنزلة المهيمن من الملائكة , وأنبياؤهم منهم بمنزلة الرسل من الأنبياء ) .
هذا ويقول الآخرون مثل ما قاله ابن عربي , فيقول الفرغاني :
( أما الولاية فهي التصرف في الخلق بالحق , وليست في الحقيقة إلا باطن النبوة , لأن النبوة ظاهرة الأنباء , وباطنها التصرف في النفوس بإجراء الأحكام عليها .
والنبوة مختومة من حيث الأنباء , إذ لا نبيّ بعد محمد صلى الله عليه وسلم , دائمة من حيث الولاية والتصرف ) .
وأما السهروردي المقتول فيقول : ( إن اتفق في الوقت متوغل في التأله والبحث فله الرياسة , وإن لم يتفق فالمتوغل في التأله المتوسط في البحث . وإن لم يتفق فالحكيم المتوغل في التأله عديم البحث , وهو خليفة الله . ولا تخلو الأرض من متوغل في التأله أبدا ) .
فهذه هي عقيدة أخرى منافية للإسلام ومخالفة له , ومعارضة لأسسه وقواعده , مناقضة لشرعته وتعاليمه , متبطنة الكفر أشد الكفر , ومتضمنة الارتداد كل الارتداد , مأخوذة من الشيعة واليهودية .
ومعروف أنهم لم يخترعوا هذه العقيدة ولم يختلقوها ليوصلوا المتصوفة إلى مقام النبوة ومكانتها كما وصّل الشيعة إليها أئمتهم , فوصفوهم بجميع أوصاف النبوة , واختصاصاتها , ومن أهمها العصمة .
الــعِصْـمَة
فالعصمة في تبليغ رسالات الله ضرورية للأنبياء والرسل كي لا يقع الخطأ والغلط في أداء أوامر الله ونواهيه , وأحكام الله وإرشاداته , فيدعمون ويسددون بالوحي ونزول الملائكة عليهم , فما ينطقون عن الهوى , ويجب اتباعهم في كل ما يقولونه ويأمرون به , لسلامتهم من الخطأ , والزلل بخلاف غيرهم , فإنه يمكن عليهم الخطأ والنسيان , والزلل والغلط , فلا يؤمن جانبهم من هذه الأمور كلها .
ولكن الشيعة الذين جعلوا أئمتهم كالأنبياء أو المشاركين في النبوة والمضاهين لها , اختلقوا لهم هذه المكانة , وادعوا لهم هذه المنزلة , فقالوا : ( إن الإمام يجب أن يكون معصوما ) .
وقال ابن بابويه القمي الملقب بالصدوق عند الشيعة : ( اعتقادنا في الأنبياء والرسل والأئمة والملائكة عليهم السلام أنهم معصومون مطهرون من كل دنس , وأنهم لا يذنبون ذنبا صغيرا ولا كبيرا , و لا يعصون ما أمرهم , ويفعلون ما يؤمرون , ومن نفى عنهم العصمة في شيء من أحوالهم فقد جهلهم , ومن جهلهم فهو كافر . واعتقادنا فيهم أنهم معصومون موصوفون بالكمال والتمام والعلم من أوائل أمورهم وأواخرها , لا يوصفون في شيء من أحوالهم بنقص ولا عصيان ولا جهل ) .
وقال خاتمة محدثي الشيعة ملاّ باقر المجلسي : ( الشرط الثاني في الإمام أن يكون معصوما , وإجماع الإمامية منعقد على أن الإمام مثل النبيّ صلى الله عليه وآله معصوم من أول عمره إلى آخر عمره من جميع الذنوب الصغائر والكبائر والأحاديث المتواترة على هذا المضمون واردة ) .
ورووا في هذا الخصوص روايات مكذوبة على النبي صلى الله عليه وسلم , وعلى عليّ رضي الله عنه وأولاده .
منها ما رواها ابن بابويه القمي عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه أنه قال : ( سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول : أنا وعلي والحسن والحسين وتسعة من ولد الحسين مطهرون معصومون ) .
وروى المفيد في أماليه عن جعفر بن محمد أنه قال : ( إن الله فرض ولايتنا وأوجب مودتنا ,والله , ما نقول بأهوائنا , ولا نعمل بآرائنا , ولا نقول إلا ما قال ربنا عز وجل ) .
وقال ابن بابويه القمي في كتاب الخصال مفسرا قول الله عز وجل : لا ينال عهدي الظالمين , يقول في تفسير : ( فإذن لا يكون الإمام إلا معصوما , ولا تعلم عصمته إلا بنصّ الله عز وجل عليه ) .
وبمثل ذلك قال المتصوفة في كبرائهم وأوليائهم .
وقبل أن نذكر النصوص في هذا الخصوص نورد ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية في هذا الباب عن الشيعة ومن تبعهم في ذلك من المتصوفين : ( وكذلك الرافضة موصوفون بالغلو عند الأمة فإن فيهم من ادّعى الإلهية في علي وهؤلاء شر من النصارى وفيهم من ادعى النبوة فيه ومن أثبت نبيا بعد محمد فهو شبيه بأتباع مسيلمة الكذاب وأمثاله من المتنبئين إلا أن عليا رضي الله عنه بريء من هذه الدعوة بخلاف من ادعى النبوة لنفسه كمسيلمة وأمثاله وهؤلاء الإمامية يدعون ثبوت إمامته بالنص وأنه كان معصوما هو وكثير من ذريته وأن القوم ظلموه وغصبوه ودعوى العصمة تضاهي المشاركة في النبوة فإن المعصوم يجب إتباعه في كل ما يقول لا يجوز أن يخالف في شيء وهذه خاصة الأنبياء ولهذا أمرنا أن نؤمن بما أنزل إليهم فقال تعالى { قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } فأمرنا أن نقول آمنا بما أوتى النبيون وقال تعالى { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ } وقال تعالى { ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين } فالإيمان بما جاء به النبيون مما أمرنا أن نقوله ونؤمن به وهذا مما اتفق عليه المسلمون أنه يجب الإيمان بكل نبي ومن كفر بنبي واحد فهو كافر ومن سبه وجب قتله باتفاق العلماء وليس كذلك من سوى الأنبياء سواء سموا أولياء أو أئمة أو حكماء أو علماء أو غير ذلك فمن جعل بعد الرسول معصوما يجب الإيمان بكل ما يقول فقد أعطاه معنى النبوة و إن لم يعطه لفظها ويقال لهذا ما الفرق بين هذا وبين أنبياء بني إسرائيل الذين كانوا مأمورين باتباع شريعة التوراة وكثير من الغلاة في المشايخ يعتقد أحدهم في شيخه نحو ذلك ويقولون الشيخ محفوظ ويأمرون باتباع الشيخ في كل ما يفعل لا يخالف في شيء أصلا وهذا من جنس غلو الرافضة والنصارى والإسماعيلية تدعي في أئمتها أنهم كانوا معصومين وأصحاب ابن تومرت الذي ادعى أنه المهدي يقولون أنه معصوم ويقولون في خطبة الجمعة الإمام المعصوم والمهدي المعلوم ويقال أنهم قتلوا بعض من أنكر أن يكون معصوماً ومعلوم أن كل هذه الأقوال مخالفة لدين الإسلام للكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة وأئمتها فإن الله تعالى يقول { أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردّوه إلى الله والرسول } الآية فلم يأمرنا بالرد عند التنازع إلا إلى الله والرسول فمن أثبت شخصا معصوما غير الرسول أوجب رد ما تنازعوا فيه إليه لأنه لا يقول عنده إلا الحق كالرسول وهذا خلاف القرآن وأيضا فإن المعصوم تجب طاعته مطلقا بلا قيد ومخالفه يستحق الوعيد والقرآن إنما أثبت هذا في حق الرسول خاصة قال تعالى { ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم اله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا } وقال { ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا } . فدل القرآن في غير موضع على أن من أطاع الرسول كان من أهل السعادة ولم يشترط في ذلك طاعة معصوم آخر ومن عصى الرسول كان من أهل الوعيد وإن قدر أنه أطاع من ظن أنه معصوم فالرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي فرق الله به بين أهل الجنة وأهل النار وبين الأبرار والفجار وبين الحق والباطل وبين الغي والرشاد والهدى والضلال وجعله القسيم الذي قسم به عباده إلى شقي وسعيد فمن اتبعه فهو السعيد ومن خالفه فهو الشقي وليست هذه المرتبة لغيره ولهذا اتفق أهل العلم أهل الكتاب والسنة على أن كل شخص سوى الرسول فإنه يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه يجب تصديقه في كل ما أخبر وطاعته في كل ما أمر فإنه المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ) . وهو كما قال شيخ الإسلام أن الصوفية يعتقدون في أوليائهم ما يعتقد الشيعة في أئمتهم من تأليههم , وجعلهم أنبياء أو كالأنبياء , معصومين , ولو أنهم كثيرا ما يتجنبون عن استعمال هذه اللفظة , ويستبدلونها بالحفظ , ولا يقصدون من ورائها إلا العصمة التي يستعملها الشيعة توقيا وتحفظا من طعن الطاعنين واعتراض المعترضين , وسترا لتك الصلة الوثيقة التي تربطهم مع الشيعة , لو أن بعض المتهورين منهم لم يراعوا هذا الكتمان والإخفاء , وباحوا بهذا السر جهرا وعلنا , عارفين بأن تقيتهم هذه لا تسمن ولا تغني من جوع , لأن المراد من كلتا اللفظتين واحد , لا اختلاف بينهما من حيث المدلول , فقال قائلهم : ( وأما صور تلقيات الموحدين الخطابية فهو أن تنبعث اللطفية الإنسانية مجردة عن الفكر طالبة ما لا تعلم منه إلا نسبة الوجود إليه بتقييدها به فإذا نزل هذا العقل بحضرة من الحضرات نزل إليه بحكم التدلي أو برز له أو ظهر له اسم من الأسماء الحسنى بما فيه من الأسرار فيهبه بحسب تجريده وصحة قصده وعصمته في طريقه فيرجع إلى عالم كونه عالما بما ألقي إليه من علم ربه بربه أو من علم ربه بضرب من كونه ثم ينزل نزولا آخر هكذا أبدا ( ما أدري ما يفعل بي ولا بكم إن أتبع إلا ما يوحى إلي ) وهو خير البشر وأكثرهم عقلا وأصحهم فكرة وروية فأين الفكر هنا هيهات تلف أصحاب الأفكار والقائلون باكتساب النبوة والولاية كيف لهم ذلك والنبوة والولاية مقامان وراء طور العقل ليس للعقل فيهما كسب بل هما اختصاصان من الله تعالى لمن شاء ) .
فاستعمل الشيخ الأكبر للصوفية العصمة للأنبياء والأولياء , وسوّى بينهما , ولم ير الفرق في كونهما مصطفين مختارين من قبل الله عز وجل , ومزلتهما ومكانتهما لا تدركان بالعقل , ومنصبهما لا يكتسب .
وقال في مقام آخر : ( إن من شرط الإمام الباطن ( يعني الولي ) أن يكون معصوما , وليس الظاهر إن كان غيره مقام العصمة ) .
وبمثل ذلك قال أبو الحسن الشاذلي : ( إن من خواص القطب إمداد الله له بالرحمة والعصمة والخلافة والنيابة ) .
وروى صوفي قديم أبو عبد الرحمن السلمي في ( طبقات الصوفية) عن أبي بكر محمد الدينوري أنه سئل عن علامة الصوفي ما هي ؟ فقال : ( أن يكون مشغولا بكل ما هو أولى به من غيره , ويكون معصوما عن المذمومات ) .
ونقل الدكتور عبد الحليم محمود عن صوفي متقدم أبي بكر الواسطي المتوفى 320هـ أنه قسّم المتصوفة على ثلاثة أقسام , فقال : ( الناس على ثلاث طبقات , الطبقة الأولى : منّ الله عليهم بأنوار الهداية , فهم معصومون من الكفر والشرك والنفاق . والطبقة الثانية : منّ الله عليهم بأنوار العناية فهم معصومون من الصغائر والكبائر . والطبقة الثالثة : منّ الله عليهم بالكفاية فهم معصومون عن الخواطر الفاسدة وحركات أهل الفضيلة ) .
ويزيل السهروردي عبد القاهر في عوارفه بعض الحجاب عن ذلك السرّ الذي طالما أخفاه على تشيّعهم , ومصدر تصوفهم , ومنبع أفكارهم , فيقول : ( الشيخ للمريدين أمين الإلهام , كما أن جبريل أمين الوحي , فكما لا يخون جبريل في الوحي , لا يخون الشيخ في الإلهام , وكما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى فالشيخ مقتد برسول الله صلى الله عليه وسلم ظاهرا وباطنا , لا يتكلم بهوى النفس ) .
لأن الشيخ ( والعرف معدن علم الله , مرضع أرواح الطالبين بنفسه , صحف أسرار ربّ العالمين بروحه , العارف وأن كان بدويا وحشيا فهو معدن العقل والعلم ) .
وهم معصومون ( لأنهم أطفال في حجر الحق ) . ( كالأب الشفيق ) . أو ( كولد اللبوة في حجرها ) .
و ( أنهم قائمون بالله , قد تولى الله أمرهم , فإذا ظهرت منهم طاعة , لم يرجوا عليها ثوابا , لأنهم لم يرو أنفسهم محلا لها , وإن ظهرت منهم زلّة فالدية على العاقلة , لم يشاهدوا غيره في الشدة والرخاء , قيامهم بالله , ونظرهم إليه , وخوفهم هيبته , ورجاؤهم الأنس به ) .
و ( أنهم لا يعرفون إبليس والشيطان ) . ( وأما خلق الله أهون عليهم من إبليس , ولولا أن الله أمرهم أن يتعوذوا منه ما تعوذوا منه ) .
ولربما استعملوا الحفظ على أوليائهم ومتصوفيهم , بدل العصمة الشيعية لأئمتهم , لكن في نفس المعنى والمقصود , فقالوا : ( ومن شرط الوليّ أن يكون محفوظا , كما أن من شرط النبي أن يكون معصوما ) .
لأن الحق يتولى تصريفه ( فيصرّفه في وظائفه وموافقاته , فيكون محفوظا فيما لله عليه , مأخوذا عما له وعن جميع المخالفات , فلا يكون له إليها سبيل وهو العصمة ) .
و ( أن تصير الأشياء كلها له واحدة , فتكون كل حركاته في موافقات الحق دون مخالفاته ) .
و ( لطائف الله في عصمة أنبيائه وحفظ أوليائه أكثر من أن تقع تحت الإحصاء والعدّ ) .
وبمثل ذلك قال القشيري : ( الوليّ له معنيان : أحدهما : فعيل بمعنى مفعول , وهو من يتولى الله سبحانه وتعالى أمره , قال تعالى ك { وهو يتولى الصالحين } , فلا يكله إلى نفسه لحظة , بل يتولى الحق سبحانه رعايته . والثاني : فعيل مبالغة من الفاعل , وهو الذي يتولى عبادة الله وطاعته , فعبادته تجري على التوالي , من غير أن يتخللها عصيان .
وكلا الوصفين واجب حتى يكون الوليّ وليا : يجب قيامه بحقوق الله تعالى على الاستقصاء والاستيفاء , ودوام حفظ الله تعالى إياه في السراء والضراء ) .
وقال أيضا : ( فإن قيل : ما معنى الوليّ ؟ قيل : يحتمل أمرين : أحدهما أن يكون فعيلا مبالغة من الفاعل , كالعليم والقدير وغيره فيكون معناه : من توالت طاعاته من غير تخلل معصية .
ويجوز أن يكون فعيلا بمعنى مفعول , كقتيل بمعنى مقتول , وجريح بمعنى مجروح , وهو الذي يتولى الحق سبحانه , حفظه وحراسته على الادامة والتوالي , فلا يخلق له الخذلان الذي هو قدرة العصيان , وإنما يديم توفيقه الذي هو قدرة الطاعة , قال الله تعالى : { وهو يتولى الصالحين } ) .
وبمثل ذلك قال الحكيم الترمذي تحت عنوان ( وليّ حق الله ووليّ الله ) : ( فهؤلاء كلهم أولياء حقوق الله , وهم أولياء الله يصيرون إلى الله تعالى في مراتبهم , فيحلون بها ويتنسمون روح القرب , ويعيشون في فسحة التوحيد والخروج عن رقّ النفس , قد لزموا المراتب , فلا يشتغلون بشيء إلا بما أذن لهم فيه من الأعمال . فإذا صرفهم الله من المرتبة إلى عمل أبدانهم حرسهم , فيمضون مع الحرس في تلك الأعمال , ثم ينقلبون إلى مراتبهم , هذا دأبهم ) .
وعلق ابن عجيبة على قول الشبلي : ( الصوفية أطفال في حجر الحق تعالى ) , علق عليه بقوله : ( يعني أنه يتولى حفظهم وتدبيرهم على ما فيه صلاحهم ولا يكلهم إلى أنفسهم ) .
وظاهر أن من يكون هذا شأنه لا يكون إلا معصوما محضا , لذلك أن الصوفية حينما يستعملون الحفظ , لا يريدون من وراء ذلك إلا العصمة , ولذلك ذكر الهجويري كلتا اللفظتين في معنى واحد , بصورة الألفاظ المترادفة حيث حكى عن الجنيد أنه قال ك ( تمنيت وقتا ما أن أرى إبليس - عليه اللعنة – وذات يوم كنت واقفا بباب المسجد , فإذا بشيخ يقبل من بعيد متجها إلى , فلما رأيته أحسست وحشة في قلبي , فلما اقترب مني قلت : من أنت أيها الشيخ , إذ لا طاقة لعيني برؤية وجهك من الوحشة , لا طاقة لقلبي بالتفكير فيك من الهيبة ؟ قال : أنا الذي تتمنى مشاهدتي . قلت : يا ملعون ! ما منعك أن تسجد لآدم ؟ قال : يا جنيد كيف تصور أني أسجد لغيره ؟ قال الجنيد : فتحيرت في كلامه , فنوديت في سري أن : ( قل له : كذبت , لو كنت خرجت عن أمره ونهيه . فسمع النداء من قلبي , فصاح وقال : أحرقتني بالله ! وغاب ) .
ثمّ علق عليها بقوله : ( وفي هذه الحكاية دليل على حفظه وعصمته , لأن الله سبحانه وتعالى يحفظ أولياءه في كل الأحوال من كيد الشيطان ) .
| |
| | | الشيخ عودة الشيخ عودة
عدد المساهمات : 1748 تاريخ التسجيل : 28/09/2008 العمر : 74
| موضوع: رد: المنْشَأ وَالمَصَادِر تأليف الأستاذ إحسان إلهي ظهير الإثنين نوفمبر 02, 2015 2:44 pm | |
| وتؤيد وتدعم أنهم يدّعون أولياءهم ومتصوفيهم معصومين , مقولاتهم في كتبهم أنه لا يجوز الاعتراض على وليّ من أوليائهم أو على أحد من متصوفيهم , لو كان عمله يعارض الشرع , أو يظهر بصورة منكرة , فيقول الشعراني : ( من دخل في صحبة شيخ , ثم اعترض عليه بعد ذلك فقد نقض عهد الصحبة ) .
ثم نقل حكايتان خبيثتين تدلان على عقيدة القوم في مشائخهم وكونهم معصومين , فيقول : ( كان أبو سهل الصعلوكي رحمه الله يقول : كان لبعض الأشياخ مجلس يفسر فيه القرآن العظيم فأبدله بمجلس قوال , فقال مريد بقلبه : كيف يبدل مجلس القرآن بمجلس قوال ؟ فناداه الشيخ : يا فلان , من قال لشيخه : لم , لم يفلح . فقال المريد : التوبة ... وزار أبو تراب النخشبي وشقيق البلخي أبا يزيد البسطامي , فلما قدّم خادمه السفرة قلا له : كل معنا يا فتى , فقال : لا , إني صائم . فقال له أبو تراب : كل , ولك أجر صوم شهر . فقال : لا , فقال له شقيق : كل , ولك أجر صوم سنة , فقال : لا , فقال أبو يزيد : دعوا من سقط من عين رعاية الله عز وجل , فسرق ذلك الشاب بعد سنة , فقطعت يده عقوبة له على سوء أدبه مع الأشياخ , ثم نقل عن الشيخ برهان الدين أنه قال : من لم ير خطأ الشيخ أحسن من صوابه لم ينتفع به ) .
وبمثل ذلك قال شيخ الأزهر السابق نقلا عن سيده أحمد الدردير أنه قال : ( فالآداب التي تطلب من المريد في حق شيخه أوجبها تعظيمه وتوقيره ظاهرا وباطنا , وعدم الاعتراض عليه في أيّ شيء فعله , ولو كان ظاهره أنه الحرام , ويؤول ما انبهم عليه , وتقديمه على غيره , وعدم الالتجاء لغيره من الصالحين , فلا يزور وليا من أهل العصر , ولا صالحا إلا بإذنه , ولا يحضر مجلس غيره إلا بإذنه , ولا يسمع من سواه حتى يتمّ سقيه من ماء سرّ شيخه ) .
فهل هناك ضلال بعد هذا الضلال , وتسفيه للعقول بعد هذا كله ؟ ومن رجل جعل شيخا لأكبر جامعة إسلامية وأقدمها في العالم ؟
{ رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ } .
ولطرافة كلام الشيخ ننقل ههنا ما كتبه في آداب المريد , فيقول : ( ومن آداب المريد للشيخ : أن لا يكثر الكلام بحضرته ولو باسطه , ولا يجلس على سجادته , ولا يسبح بسبحته , ولا يجلس في المكان المعدّ له , ولا يلح عليه في أمر , ولا يسافر , ولا يتزوج , ولا يفعل فعلا من الأمور المهمة إلا بإذنه , ولا يمسك يده للسلام مثلا ويده مشغولة بشيء كقلم أو أكل أو شرب , بل سلم بلسانه , وينتظر بعد ذلك ما يأمر به , وأن لا يمشي أمامه ولا يساويه في مشي إلا بليل مظلم ليكون مشيه أمامه صونا له من مصادفة ضرر ... وأن يرى كل بركة حصلت له من بركات الدنيا والآخرة فببركته ... وأن يصبر على جفوته وإعراضه عنه , ولا يقول : لم فعل بفلان كذا ولم يفعل بي كذا , وإلا لم يكن مسلما له قيادة : إذ من أعظم الشروط تسليم قيادة له ظاهرا وباطنا ... وأن يجعل كلامه على ظاهره فيمتثله إلا القرينة صارفة عن إردادة الظاهر , فإذا قال له : اقرأ كذا , أو صلّ كذا , أو صم كذا وجب عليه المبادرة , وكذا إذا قال له وهو صائم : أفطر وجب عليه الفطر , أو قال : لا تصلّ كذا إلى غير ذلك ... وأن لا يدخل عليه في خلوة إلا بإذنه , وأن لا يرفع الستارة التي فيها الشيخ إلا بإذنه وإلا هلك كما وقع لكثير ) .
فلنرجع إلى موضوعنا ونقول : إن القوم يجعلون متصوفيهم معصومين حيث لا يجيزون الاعتراض عليهم , ويقولون : ( من قال لأستاذه : لِمَ لا يفلح ) . لأن ( الشيخ في أهله كالنبي في أمته ) .
وعلى ذلك قال القشيري : ( من شرط المريد أن لا يكون بقلبه اعتراض على شيخه ) .
وهناك حكايات ومقولات كثيرة في هذا المعنى تنبئ وتدلّ صراحة على أن عصمة المتصوفة وأوليائهم , مثل عصمة الأنبياء , وبتعبير صحيح كعصمة أئمة الشيعة , مثل الحكاية التي رواها ابن عجيبة في فتوحاته , عن بعض مشائخه قال : ( رأيت يوما شخصا استحسنته فإذا لطمه وقعت على عيني , فسالت على خدي , فقلت : آه فقيل لي : لحظة بلطمة , لو زدت لزدناك ) .
فمن كان هذا القائل يا ترى ؟ فانظر كيف يدّعون العصمة حتى من النظر إلى أحد بتلذذ ؟
وكذلك نقل أحد الرفاعيين عن الرفاعي أنه قال : ( قال لي الشيخ يعقوب : رأيت الشيطان واقفا على باب داري فهممت بضربه , فقال : أي يعقوب , أنتم أهل الإنصاف , إن في بيتكم الأحمر والأصفر ( أي الذهب والفضة أو الدنانير والدراهم ) , وهما لي كيف لم أجيء إلى بيتكم ؟ ) .
صوفيّ رأى الشيطان وهمّ بضربه , فالمعنى أن الصوفي لا يمكن أن يغويّه الشيطان , فإذن هو معصوم عن الوقوع في المعاصي والخطايا , والزلات والسيئات . هذا ومثل هذا كثير . فهذه هي العقيدة الأخرى التي أخذها الصوفية من الشيعة , إن دلت على شيء دلت على روابط عتيقة بين التصوف والتشيع , وكون الأول مأخوذا عن الثاني .
عَدَمُ خُلُوِّ الأرْضِ مِنَ الْحُجَّةِ
من العقائد الشيعية المعروفة , الخاصة بهم أن الأرض لا تخلو من الحجة , وهو الإمام عندهم فلقد بوب محدثوهم وفقاؤهم ومتكلموهم أبوابا مستقلة لبيان هذه العقيدة المختلقة المصطنعة , وأوردوا فيها روايات مكذوبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم , وعلى عليّ رضي الله عنه وأولاده , أئمة القوم حسب زعمهم , وآراء كبرائهم , وعبارات قادتهم .
فلقد أورد محدثهم الكبير الكليني - وهو بمنزلة البخاري عند المسلمين السنة – في كافيه الذي هو أحد الصحاح الأربعة الشيعية , وبمنزلة صحيح البخاري عند أهل السنة روايات عديدة تحت عنوان : لو لم يبق في الأرض إلا رجلان لكان أحدهما الحجة : ومنها ما رواها عن جعفر بن محمد الباقر أنه قال : ( لو لم يكن في الأرض إلا اثنان لكان الإمام أحدهما ) .
كما أورد روايات كثيرة في باب : ( أن الأرض لا تخلو من حجة ) : منها ما رواها أيضا عن جعفر أنه سئل : ( أتخلو الأرض بغير إمام ؟ قال : لو بقيت الأرض بغير إمام لساخت بأهلها ) .
وبمثل ذلك روى ابن بابويه القمي المتوفى 381هـ أحد رجال الصحاح الأربعة الشيعية , في عيونه عن علي بن موسى الرضا – الإمام الثامن المعصوم لدى القوم – أنه سئل : ( أتخلو الأرض من حجة ؟ فقال : لو خلت الأرض طرفة عين من حجة لساخت بأهلها ) .
وكذلك بوّب القمي بابا مستقلا في كتابه ( كمال الدين وتمام النعمة ) العلة التي من أجلها يحتاج إلى إمام : وأورد فيه أكثر من عشرين رواية : منها ما رواها عن الباقر بن علي زين العابدين : ( لو أن الإمام رفع من الأرض ساعة لماجت بأهلها كما يموج البحر بأهله ) .
وأورد الملا باقر المجلسي في بحاره أكثر من مائة حديث عن أئمته في هذا المعنى , منها ما رواها عن علي بن الحسين أنه قال : ( ولم تخل الأرض منذ خلق الله آدم عليه السلام من حجة فيها , ظاهر مشهور أو غائب مستور , ولا تخلو إلى أن تقوم الساعة من حجة لله فيها , ولولا ذلك لم يعبد الله ) .
وكتب القوم مليئة من مثل هذه الروايات والأحاديث , نكتفي على هذا القدر من البيان .
وإن الصوفية لأخذوها منهم بكاملها بدون أيّ تغيير وتبديل , غير أنهم جعلوا الحجة وليّا من أوليائهم , أو صوفيا من جماعتهم بدل الإمام لدى الشيعة , فيقول أبو طالب المكي في قوته , مستعملا حتى الألفاظ الشيعية ومصطلحاتهم نقلا عن علي رضي الله عنه أنه قال : ( لا تخلو الأرض من قائم لله تعالى بحجة , إمّا ظاهر مكشوف , وإمّا خائف مقهور لئلا تبطل حجج الله تعالى وبيّناته ) .
ومثل ذلك أورد الطوسي السراج أبو نصر عنه : ( لا تخلو الأرض من قائم لله بحجة لئلا تبطل آياته , وتدحض حججه ) .
وبمثل ذلك قال الحكيم الترمذي , وأحمد بن زرّوق : ( لا تخلو الدنيا في هذه الأمة من قائم بالحجة ) .
وقال السلمي في مقدمة طبقاته :
( واتبع ( الله ) الأنبياء عليهم السلام بالأولياء , يخلفونهم في سننهم , ويحملون أمتهم على طريقتهم وسمتهم , فلم يخل وقتا من الأوقات من داع إليه بحق أو دال عليه ببيان وبرهان . وجعلهم طبقات في كل زمان , فالوليّ يخلف الوليّ ... فعلم صلى الله عليه وسلم أن آخر أمته لا يخلو من أولياء وبدلاء , يبيّنون لأمته ظواهر شرائعه وبواطن حقائقه ) .
وقال ابن عربي : ( لا يخلو زمان عن كامل ) .
وقال أحد أتباعه البارين علاء الدولة السمناني :
( ولا بدّ في كل حين من مرشد يرشد الخلق إلى الحق , خلافة عن النبي المحق , ولابدّ للمرشد من التأييد الإلهي , ليمكن له تسخير المسترشدين , وإفادة المستفيدين , وتعليم المتعلمين ... وهو العالم , الوليّ , الشيخ . وإلى هذا أشار النبي عليه السلام حيث قال : الشيخ في قومه كالنبي في أمته ... ولا يكون قطب الإرشاد في كل زمان من الأزمان إلا واحد يكون قلبه على قلب المصطفى صاحب الوراثة الكاملة ) .
وقال صاحب الجمهرة :
( قد صحت الروايات والنصوص المؤكدة الثابتة بالكتاب والسنة على أن الأرض لا تخلو من قائم لله بحجة , ومن عارف بالحقيقة الكامنة خلف الظواهر , ومن مميّز بين اللباب والقشور , وعابد لله على الوجه الصحيح , وسائر إلى الله على بصيرة صريحة , وعقيدة وضاءة إلى أن تقوم الساعة ) .
ونقل عن قطب الدين القسطلاني في كتاب له في التصوف :
( أن الله بحكمته ونعمته أقام في كل عصر من جعل له لسانا معبرا عن عوارف المعارف الإلهية , مخبرا عن لطائف العواطف الربانية , يصل الله به ما أنقطع من علوم الأنبياء ومعارف الأولياء ) .
وقال لسان الدين بن الخطيب :
( ولا بدّ عندهم أن يكون في العالم شخص واصل إليه في كل زمان , وهو الخليفة المتلقي عن الله أسرار الموجودات , أما ظاهرا فنبيّ ورسول أو باطنا فقطب ) .
وقال الشعراني نقلا عن عليّ الخواص أنه قال :
( من نعم الله تعالى على عباده كونه تعالى لا يخلي الأرض من قائم له بحجة في دينه , رضية لولايته , وأختاره لمعاملته , يبين به دلالاته , يوضح به طرقاته , فطوبى لمن كان كذلك في هذا الزمان ) .
وهذا ما أشار إليه شيخ الإسلام ابن تيمية في فتاواه بعد ذكر كلام الصوفية في هذا الخصوص : ( وهذا من جنس دعوى الرافضة أنه لابدّ في كل زمان من إمام معصوم يكون حجة الله على المكلفين , لا يتم الإيمان إلا به ) .
وُجُوبُ مَعْرِفَةِ الإمَامِ
وبمناسبة ما ذكرناه آنفا نريد أن نورد ههنا معتقدا شيعيا آخر مرتبطا بالعقيدة السالف ذكرها , وهو أنه يجب على الناس معرفة ذلك الإمام الذي لا تخلو الأرض منه , ومن مات ولم يعرف الإمام فقد مات ميتة جاهلية , أو ميتة كفر وضلال كما قال الشريف المرتضى الشيعي الملقب بعلم الهدى عند القوم :
( إن المعرفة بهم ( يعني بالأئمة ) كالمعرفة به تعالى , فإنها إيمان وإسلام , وأن الجهل والشك فيهم كالجهل والشك فيه فإنه كفر , وخروج من الإيمان , وهذه المنزلة ليست لأحد من البشر إلا لنبينا صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة من بعده , علي وأولاده الطاهرين ... والذي يدل على أن معرفة إمامة من ذكرناه من الأئمة عليهم السلام من جملة الإيمان , وأن الإخلال بها كفر ورجوع عن الإيمان بإجماع الإمامية ) .
وقال الطوسي الملقب بشيخ الطائفة : ( دفع الإمامة كفر , كما أن دفع النبوة كفر , لأن الجهل بهما على حدّ واحد , وقد روى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : من مات وهو لا يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية , وميتة الجاهلية لا تكون إلا على كفر ) .
ولقد أورد محدثو الشيعة روايات كثيرة في هذا المعنى في أبواب مستقلة بوبوها في مصنفاتهم , مثل الكليني في كافيّه , وابن بابويه القمي في كتبه , والطوسي في شافيه , والبرقي في محاسنه , والنعماني في غيبته , والحر العاملي في فصوله , والمجلسي في بحاره , والبحراني في برهانه , وغيرهم في غيره , حتى قال محدثهم العاملي : ( الآيات والروايات من طريق العامة والخاصة , والأدلة في ذلك أكثر من أن تحصى ) .
فهذا المعتقد من المبادئ الشيعية الأساسية التي بُنى عليها مذهب القوم . والمقصود منه أنه يجب على كل شخص أن يعتقد بعدم خلو الأرض من إمام , ثم يوجب على نفسه أن يعرفه , ويجعله قدوة له , وهاديا ومرشدا ومطاعا , فيأخذ منه معالم الدين , ويهتدي بهديه , ويسلك مسلكه , وينهج بمنهجه , وبدونه وبدون إرشاده وتوجيهه يضلّ الطريق , ويهوي في المزالق والمهالك , مزالق الكفر ومهالك الجاهلية .
| |
| | | الشيخ عودة الشيخ عودة
عدد المساهمات : 1748 تاريخ التسجيل : 28/09/2008 العمر : 74
| موضوع: رد: المنْشَأ وَالمَصَادِر تأليف الأستاذ إحسان إلهي ظهير الإثنين نوفمبر 02, 2015 2:46 pm | |
| هذا ما يعتقده الشيعة , ولم يكن غريبا أن يؤمن بهذا المبدأ , ويعتقد بهذا المعتقد مشائخ الصوفية , وكبراء التصوف , لأنهم وراءهم حذو القذة بالقذة , فقالوا : من لم يكن له شيخ فإمامه الشيطان كما ذكر ذلك المتصوفة عن أبي يزيد أنه قال : ( من لم يكن له أستاذ فإمامه الشيطان ) .
ويقول لسان الدين بن الخطيب : ( يكون المرتاض يعتمد على شيخ و يلقي أزمته بيده , ليهديه قبل أن تسبقه إليها يد الشيطان .
كن المعـــزي لا المعــــزى بــــه إن كــــــان لا بدّ من الـــــــواحد
ومما ينقل : من لم يكن له شيخ كان الشيطان شيخه ) .
وبمثل ذلك قال ابن عربي : ( اعلم أن مقام الدعوة إلى الله , وهو مقام النبوة والوراثة الكاملة , والحاصل فيه يقال له النبي في زمان النبوة , ويقال له الشيخ الوارث والأستاذ في حق العلماء بالله من غير أن يكونوا أنبياء وهو الذي قالت فيه السادة من أهل طريق الله , من لم يكن له أستاذ فإن الشيطان أستاذه ) .
وقال الشعراني : ( اعلم يا أخي أن أحدا من السالكين لم يصل إلى حالة شريفة في الطريق أبدا إلا بملاقاة الأشياخ ومعانقة الأدب معهم , والإكثار من خدمتهم , ومن ادعى الطريق بلا شيخ كان شيخه إبليس ... وقد كان الإمام أبو القاسم الجنيد رحمه الله يقول : من سلك بغير شيخ ضلّ وأضلّ ) .
وكتب في كتابه ( الأخلاق المتبولية ) نقلا عن علي المرصفي أنه قال : ( لو أن مريدا عبد الله تعالى كما بين السماء والأرض بغير شيخه فعبادته كالهباء المنثور ... وسمعت سيدي علي الخواص رجمة الله يقول : ( لو أن العبد قرأ ألف كتاب في العلم ولا شيخ له فهو كمن حفظ كتب الطبّ مع جهله بالداء والدواء ... وأن كل من لم يسلك الطريق على يد شيخ حكمه حكم من يعبد الله على حرف ) .
وهذا مثل ما قاله الشيعة نقلا عن أبي جعفر محمد الباقر أنه قال : ( إنما يعرف الله عز وجل ويعبده من عرف الله وعرف إمامه منّا أهل البيت , ومن لا يعرف الله عز وجل ولا يعرف الإمام منّا أهل البيت فإنما يعرف ويعبد غير الله هكذا والله ضلالا ) .
وعنه أنه قال : ( كل من دان الله عز وجل بعبادة يجهد فيها نفسه ولا إمام له من الله فسعيه غير مقبول )
وعلى ذلك يقول نيكلسون بعد نقل كلام أبي يزيد البسطامي : ( من لم يكن له شيخ كان الشيطان شيخه , يقول بعده :
( هي فكرة يظهر أن لها صلة بالنظرية الشيعية , الذي كان عبد الله بن سبأ أول من قال بها ) .
الْـولاَيَة وَالْوصَــايَة
وتشابه آخر بين الصوفية والشيعة هو أن الصوفية أضفوا على أوليائهم عين تلك الأوصاف والاختيارات التي أضفى الشيعة على أئمتهم وأوصيائهم , فإن الشيعة يقولون : ( أن الأئمة ولاة أمر الله , وخزنة علم الله , وعيبة وحي الله ) .
ويروي أبو جعفر محمد بن الحسن الصفار المتوفى 290هـ شيخ الكليني , في بصائره , عن محمد الباقر بن علي زين العابدين أنه يقول : ( نحن جنب الله ونحن صفوته ونحن خيرته ونحن مستودع مواريث الأنبياء ونحن أمناء الله ونحن حجّة الله , ونحن أركان الإيمان , ونحن دعائم الإسلام , ونحن من رحمة الله على خلقه , ونحن الذين بنا يفتح الله وبنا يختم , ونحن أئمة الهدى , ونحن مصابيح الدجى , ونحن منار الهدى , ونحن السابقون , ونحن الآخرون , ونحن العلم المرفوع للخلق , من تمسك بنا لحق , ومن تخلف عنا غرق , ونحن قادة الغر المحجلين , ونحن خيرة الله , ونحن الطريق , وصراط الله المستقيم إلى الله , ونحن من نعمة الله على خلقه , ونحن المنهاج ونحن معدن النبوة , ونحن موضع الرسالة , ونحن الذين إلينا مختلف الملائكة , ونحن السراج لمن استضاء بنا , ونحن السبيل لمن اقتدى بنا , ونحن الهداة إلى الجنة , ونحن عز الإسلام , ونحن السنام الأعظم , ونحن الذين بنا نزل الرحمة وبنا تسقون الغيث , ونحن الذين بنا يصرف عنكم العذاب , فمن عرفنا ونصرنا وعرف حقنا وأخذ بأمرنا فهو منا وإلينا ) .
وروى الكليني عنه أيضا أنه قال : ( نحن خزان علم الله , ونحن تراجمة وحي الله , ونحن الحجة البالغة على من دون السماء ومن فوق الأرض ) .
ورووا عنه أيضا أنه قال : ( نحن المثاني التي أعطاها الله النبي صلى الله عليه وآله , ونحن وجه الله نتقلب في الأرض بين أظهركم , عرفنا من عرفنا , وجهلنا من جهلنا , من عرفنا فإمامه اليقين , ومن جهلنا فإمامه السعير ) .
والروايات في هذا المعنى كثيرة جدا , ومن أراد الإستزادة فليرجع إلى كتبنا الأربعة في هذا الموضوع , أو كتب الشيعة كبصائر الدرجات للصفار , والكافي للكليني , وبحار الأنوار للمجلسي , والفصول المهمة للعاملي , والبرهان للبحراني وغيرها من الكتب الشيعية الكثيرة .
مع العلم بأن كتاب الله القرآن الكريم , وكتب السنة النبوية المطهرة , وتراجم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خالية عن مثل هذه الخرافات والهفوات , والشركيات واليهوديات .
ولكن الصوفية استقوا مبادئهم وأفكارهم ومعتقداتهم من التشيع والشيعة , بدل الكتاب والسنة , فقالوا في أوليائهم ومتصوفيهم نفس ما قاله الشيعة في أئمتهم وأوصيائهم , فانظر ما كتبه أعظم مؤرخ صوفي في التاريخ القديم والحديث أبو نصر السراج الطوسي – حسب ما قاله طه عبد الباقي , والدكتور عبد الحليم محمود – ولاحظ التوافق الكامل والتشابه التام بين ألفاظه وعبارته وبين عبارة الشيعة وألفاظهم فهو ينبئ عن المصدر الأصلي , والمأخذ الحقيقي , والمنبع الأصيل , فيكتب :
( أن هذه العصابة أعني الصوفية هم أمناء الله عز وجل في أرضه , وخزنة أسراره وعلمه وصفوته من خلقه , فهم عباده المخلصون , وأولياءه المتقون , وأحباءه الصادقون الصالحون , منهم الأخيار والسابقون , والأبرار و المقربون , والبدلاء والصديقون , هم الذين أحيا الله بمعرفته قلوبهم , وزيّن بمعرفته جوارحهم , وألهج بذكره ألسنتهم , وطهر بمراقبته أسرارهم , سبق لهم منه الحسنى بحسن الرعاية ودوام العناية , فتوجهم بتاج الولاية , وألبسهم حلل الهداية , وأقبل بقلوبهم عليه تعطفاً , وجمعهم بين يديه تلطفاً , فاستغنوا به عما سواه , , وآثروا على ما دونه , وانقطعوا إليه , وتوكلوا عليه , وعكفوا ببابه , ورضوا بقضائه , وصبروا على بلائه , وفارقوا فيه الأوطان , وهجروا له الإخوان , وتركوا من أجله الأنساب , وقطعوا فيه العلائق , وهربوا من الخلائق , مستأنسين به مستوحشين مما سواه : { ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم } الآية : { فمنهم ظالم لنفسه } الآية : { قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى } ) .
ونقلوا عن ذي النون المصري أنه قال : ( هم حجج الله تعالى على خلقه , ألبسهم النور الساطع عن محبّته , ورفع لهم أعلام الهداية إلى مواصلته , وأقامهم مقام الأبطال لإرادته , وأفرغ عليهم الصبر عن مخالفته , وطهر أبدانهم بمراقبته , وطيبهم بطيب أهل مجاملته , وكساهم حالا من نسج مودّته , ووضع على رؤوسهم تيجان مسرته , ثم أودع القلوب من ذخائر الغيوب , فهي معلقة بمواصلته , فهمومهم إليه ثائرة , وأعينهم إليه بالغيب ناظرة , قد أقامهم على باب النظر من قربه , وأجلسهم على كرسي أطباء أهل معرفته ) .
وأيضا : ( هم خرس فصحاء , وعمي بصراء , عنهم تقصر الصفات , وبهم تدفع النقمات , وعليهم تنزل البركات , فهم أحلى الناس منقطعا ومذاقا , وأوفى الناس عهدا وميثاقا , سراج العباد , ومنار البلاد , ومصابيح الدجى , معادن الرحمة , ومنابع الحكمة ) .
وقال ابن عجيبة : ( هم باب الله الأعظم , ويد الله الآخذة بالداخلين إلى حضرة الله , فمن مدحهم فقد مدح الله , ومن ذمّهم فقد ذمّ الله ) .
وقال ابن قضيب البان : ( القطب فاروق الوقت , وقاسم الفيض , وإليه مفوّض أزمّة الأمور , وقلب قطب خزانة أرواح الأنبياء , وله بكل وجه وجه , وأرواح الأنبياء خزائن أسرار الحق .... الكون كله صورة القطب ... وهو الباب الذي لا دخول ولا خروج إلا منه ... وفؤاد القطب شمعة نصبت لفراش أرواح العالم , و نطقه شهد حقائق المعارف , الذي فيه شفاء أسرار المقربين , وصلاح مشاهد العارفين , وغذاء أفئدة الواصلين ... نفس القطب صور برزخ الشئون الصفاتية , وعقله اسرافيله , ومن نفسه قيام عمود السموات الروحية والأرضين الجسمية , وإرادته المأثرة فيهما , ومن إختياره همم أهل زمانه ... القطب الفرد الواحد في كل زمان الحقيقة المحمدية , ولكل زمان قطب منها , وهو خطيب سر الولاء بكلمة : بلى ) .
هذا وأن ابن عربي قال بصراحة ووضوح بدون إبهام ولا إيهام :
( أنا القرآن والسبع المثاني وروح الروح لا روح الأواني فــؤادي عند معلومي مقيم يشاهده وعنـــــــــدكم لساني ) .
ويعتقد الشيعة أن أئمتهم يعرفون جميع الألسن واللغات , وحتى لغات الطيور والوحوش . فيذكر الصفار في بصائره العناوين الأربعة لبيان علوم أئمته :
( باب في الأئمة عليهم السلام أنهم يعرفون الألسن كلها ) . ( باب في الأئمة أنهم يتكلمون الألسن كلها ) . ( باب في الأئمة أنهم يعرفون منطق الطير ) . ( باب في الأئمة عليهم السلام أنهم يعرفون منطق البهائم , ويعرفونهم , ويجيبونهم إذا دعوهم ) .
ثم يورد تحتها روايات كثيرة تنبئ وتدل على كل ما ذكره في العناوين .
فمثلا يروي عن جعفر بن الباقر أنه قال : ( قال الحسن بن علي عليه السلام : إن لله مدينتين , إحداهما بالمشرق , والأخرى بالمغرب , عليهما سوران من حديد , وعلى كل مدينة ألف ألف مصراع من ذهب , وفيها سبعون ألف ألف لغة يتكلم كل لغة بخلاف لغة صاحبه , وأنا أعرف جميع اللغات وما فيهما وما بينهما وما عليهما حجة غيري والحسين أخي ) .
ويروي عن محمد الباقر أنه قال :
( علمنا منطق الطير , وأوتينا من كل شيء ) .
وغير ذلك من الروايات الكثيرة , وأورد مثلها كل من الكليني في كافيّه , والحرّ العاملي في الفصول المهمة .
ومثل ذلك ذكر المتصوفة في كتبهم عن أوليائهم ومشائخهم , فيقول الشعراني في طبقاته عن إبراهيم الدسوقي : ( وكان رضي الله عنه يتكلم بالعجمي والسرياني والعبراني والزنجي , وسائر لغات الطيور والوحوش ) .
وقال عماد الدين الأموي : ( العارفون يفهمون كلام المخلوقين من الحيوانات والجمادات ) .
وكتب الشعراني في كتابه ( الأنوار المقدسية ) :
( الولي يعطيه الله تعالى معرفة سائر الألسن الخاصة بالإنس والجن , فلا يخفى عليه فهم كلام أحد منهم ) .
وذكر القوم حكايات كثيرة عن متصوفيهم تشتمل على تكلمهم مع السباع والطيور وغيرها , سنذكرها في الجزء الثاني من هذا الكتاب في باب مستقل إن شاء الله .
ولكن للطرافة نذكر حكاية واحدة ذكرها الشعراني في طبقاته الكبرى , فيقول :
( أقام الشيخ أبو يعزي في بدايته خمس عشرة سنة في البر , لا يأكل إلا من حبّ الشجر في البادية , وكانت الأسد تأوي إليه والطير يعكف عليه .
وكان إذا قال للأسد : لا تسكني هنا , تأخذ أشبالها وتخرج بأجمعها .
قال الشيخ أبو مدين رضي الله عنه : زرته مرة في الصحراء وحوله الأسد والوحوش والطير , تشاوره على أحوالها , وكان الوقت وقت غداء , فكان يقول لذلك الوحش : اذهب إلى مكان كذا وكذا , فهناك قوتك , ويقول للطير مثل ذلك فتنقاد لأمره .
ثم قال : يا شعيب , إن هذه الوحوش والطيور أحبت جواري فتحملت ألأم الجوع لأجلي , رضي الله عنه ) .
فهذا هو التطابق الكلي بين الشيعة والصوفية في هذه القضية .
| |
| | | الشيخ عودة الشيخ عودة
عدد المساهمات : 1748 تاريخ التسجيل : 28/09/2008 العمر : 74
| موضوع: رد: المنْشَأ وَالمَصَادِر تأليف الأستاذ إحسان إلهي ظهير الإثنين نوفمبر 02, 2015 2:57 pm | |
| عَدَمُ خُلُوِّ الأرْضِ مِنَ الْحُجَّةِ
من العقائد الشيعية المعروفة , الخاصة بهم أن الأرض لا تخلو من الحجة , وهو الإمام عندهم فلقد بوب محدثوهم وفقاؤهم ومتكلموهم أبوابا مستقلة لبيان هذه العقيدة المختلقة المصطنعة , وأوردوا فيها روايات مكذوبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم , وعلى عليّ رضي الله عنه وأولاده , أئمة القوم حسب زعمهم , وآراء كبرائهم , وعبارات قادتهم .
فلقد أورد محدثهم الكبير الكليني - وهو بمنزلة البخاري عند المسلمين السنة – في كافيه الذي هو أحد الصحاح الأربعة الشيعية , وبمنزلة صحيح البخاري عند أهل السنة روايات عديدة تحت عنوان : لو لم يبق في الأرض إلا رجلان لكان أحدهما الحجة : ومنها ما رواها عن جعفر بن محمد الباقر أنه قال : ( لو لم يكن في الأرض إلا اثنان لكان الإمام أحدهما ) .
كما أورد روايات كثيرة في باب : ( أن الأرض لا تخلو من حجة ) : منها ما رواها أيضا عن جعفر أنه سئل : ( أتخلو الأرض بغير إمام ؟ قال : لو بقيت الأرض بغير إمام لساخت بأهلها ) .
وبمثل ذلك روى ابن بابويه القمي المتوفى 381هـ أحد رجال الصحاح الأربعة الشيعية , في عيونه عن علي بن موسى الرضا – الإمام الثامن المعصوم لدى القوم – أنه سئل : ( أتخلو الأرض من حجة ؟ فقال : لو خلت الأرض طرفة عين من حجة لساخت بأهلها ) .
وكذلك بوّب القمي بابا مستقلا في كتابه ( كمال الدين وتمام النعمة ) العلة التي من أجلها يحتاج إلى إمام : وأورد فيه أكثر من عشرين رواية : منها ما رواها عن الباقر بن علي زين العابدين : ( لو أن الإمام رفع من الأرض ساعة لماجت بأهلها كما يموج البحر بأهله ) .
وأورد الملا باقر المجلسي في بحاره أكثر من مائة حديث عن أئمته في هذا المعنى , منها ما رواها عن علي بن الحسين أنه قال : ( ولم تخل الأرض منذ خلق الله آدم عليه السلام من حجة فيها , ظاهر مشهور أو غائب مستور , ولا تخلو إلى أن تقوم الساعة من حجة لله فيها , ولولا ذلك لم يعبد الله ) .
وكتب القوم مليئة من مثل هذه الروايات والأحاديث , نكتفي على هذا القدر من البيان .
وإن الصوفية لأخذوها منهم بكاملها بدون أيّ تغيير وتبديل , غير أنهم جعلوا الحجة وليّا من أوليائهم , أو صوفيا من جماعتهم بدل الإمام لدى الشيعة , فيقول أبو طالب المكي في قوته , مستعملا حتى الألفاظ الشيعية ومصطلحاتهم نقلا عن علي رضي الله عنه أنه قال : ( لا تخلو الأرض من قائم لله تعالى بحجة , إمّا ظاهر مكشوف , وإمّا خائف مقهور لئلا تبطل حجج الله تعالى وبيّناته ) .
ومثل ذلك أورد الطوسي السراج أبو نصر عنه : ( لا تخلو الأرض من قائم لله بحجة لئلا تبطل آياته , وتدحض حججه ) .
وبمثل ذلك قال الحكيم الترمذي , وأحمد بن زرّوق : ( لا تخلو الدنيا في هذه الأمة من قائم بالحجة ) .
وقال السلمي في مقدمة طبقاته :
( واتبع ( الله ) الأنبياء عليهم السلام بالأولياء , يخلفونهم في سننهم , ويحملون أمتهم على طريقتهم وسمتهم , فلم يخل وقتا من الأوقات من داع إليه بحق أو دال عليه ببيان وبرهان . وجعلهم طبقات في كل زمان , فالوليّ يخلف الوليّ ... فعلم صلى الله عليه وسلم أن آخر أمته لا يخلو من أولياء وبدلاء , يبيّنون لأمته ظواهر شرائعه وبواطن حقائقه ) .
وقال ابن عربي : ( لا يخلو زمان عن كامل ) .
وقال أحد أتباعه البارين علاء الدولة السمناني :
( ولا بدّ في كل حين من مرشد يرشد الخلق إلى الحق , خلافة عن النبي المحق , ولابدّ للمرشد من التأييد الإلهي , ليمكن له تسخير المسترشدين , وإفادة المستفيدين , وتعليم المتعلمين ... وهو العالم , الوليّ , الشيخ . وإلى هذا أشار النبي عليه السلام حيث قال : الشيخ في قومه كالنبي في أمته ... ولا يكون قطب الإرشاد في كل زمان من الأزمان إلا واحد يكون قلبه على قلب المصطفى صاحب الوراثة الكاملة ) .
وقال صاحب الجمهرة :
( قد صحت الروايات والنصوص المؤكدة الثابتة بالكتاب والسنة على أن الأرض لا تخلو من قائم لله بحجة , ومن عارف بالحقيقة الكامنة خلف الظواهر , ومن مميّز بين اللباب والقشور , وعابد لله على الوجه الصحيح , وسائر إلى الله على بصيرة صريحة , وعقيدة وضاءة إلى أن تقوم الساعة ) .
ونقل عن قطب الدين القسطلاني في كتاب له في التصوف :
( أن الله بحكمته ونعمته أقام في كل عصر من جعل له لسانا معبرا عن عوارف المعارف الإلهية , مخبرا عن لطائف العواطف الربانية , يصل الله به ما أنقطع من علوم الأنبياء ومعارف الأولياء ) .
وقال لسان الدين بن الخطيب :
( ولا بدّ عندهم أن يكون في العالم شخص واصل إليه في كل زمان , وهو الخليفة المتلقي عن الله أسرار الموجودات , أما ظاهرا فنبيّ ورسول أو باطنا فقطب ) .
وقال الشعراني نقلا عن عليّ الخواص أنه قال :
( من نعم الله تعالى على عباده كونه تعالى لا يخلي الأرض من قائم له بحجة في دينه , رضية لولايته , وأختاره لمعاملته , يبين به دلالاته , يوضح به طرقاته , فطوبى لمن كان كذلك في هذا الزمان ) .
وهذا ما أشار إليه شيخ الإسلام ابن تيمية في فتاواه بعد ذكر كلام الصوفية في هذا الخصوص : ( وهذا من جنس دعوى الرافضة أنه لابدّ في كل زمان من إمام معصوم يكون حجة الله على المكلفين , لا يتم الإيمان إلا به ) .
وُجُوبُ مَعْرِفَةِ الإمَامِ
وبمناسبة ما ذكرناه آنفا نريد أن نورد ههنا معتقدا شيعيا آخر مرتبطا بالعقيدة السالف ذكرها , وهو أنه يجب على الناس معرفة ذلك الإمام الذي لا تخلو الأرض منه , ومن مات ولم يعرف الإمام فقد مات ميتة جاهلية , أو ميتة كفر وضلال كما قال الشريف المرتضى الشيعي الملقب بعلم الهدى عند القوم :
( إن المعرفة بهم ( يعني بالأئمة ) كالمعرفة به تعالى , فإنها إيمان وإسلام , وأن الجهل والشك فيهم كالجهل والشك فيه فإنه كفر , وخروج من الإيمان , وهذه المنزلة ليست لأحد من البشر إلا لنبينا صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة من بعده , علي وأولاده الطاهرين ... والذي يدل على أن معرفة إمامة من ذكرناه من الأئمة عليهم السلام من جملة الإيمان , وأن الإخلال بها كفر ورجوع عن الإيمان بإجماع الإمامية ) .
وقال الطوسي الملقب بشيخ الطائفة : ( دفع الإمامة كفر , كما أن دفع النبوة كفر , لأن الجهل بهما على حدّ واحد , وقد روى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : من مات وهو لا يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية , وميتة الجاهلية لا تكون إلا على كفر ) .
ولقد أورد محدثو الشيعة روايات كثيرة في هذا المعنى في أبواب مستقلة بوبوها في مصنفاتهم , مثل الكليني في كافيّه , وابن بابويه القمي في كتبه , والطوسي في شافيه , والبرقي في محاسنه , والنعماني في غيبته , والحر العاملي في فصوله , والمجلسي في بحاره , والبحراني في برهانه , وغيرهم في غيره , حتى قال محدثهم العاملي : ( الآيات والروايات من طريق العامة والخاصة , والأدلة في ذلك أكثر من أن تحصى ) .
فهذا المعتقد من المبادئ الشيعية الأساسية التي بُنى عليها مذهب القوم . والمقصود منه أنه يجب على كل شخص أن يعتقد بعدم خلو الأرض من إمام , ثم يوجب على نفسه أن يعرفه , ويجعله قدوة له , وهاديا ومرشدا ومطاعا , فيأخذ منه معالم الدين , ويهتدي بهديه , ويسلك مسلكه , وينهج بمنهجه , وبدونه وبدون إرشاده وتوجيهه يضلّ الطريق , ويهوي في المزالق والمهالك , مزالق الكفر ومهالك الجاهلية .
هذا ما يعتقده الشيعة , ولم يكن غريبا أن يؤمن بهذا المبدأ , ويعتقد بهذا المعتقد مشائخ الصوفية , وكبراء التصوف , لأنهم وراءهم حذو القذة بالقذة , فقالوا : من لم يكن له شيخ فإمامه الشيطان كما ذكر ذلك المتصوفة عن أبي يزيد أنه قال : ( من لم يكن له أستاذ فإمامه الشيطان ) .
ويقول لسان الدين بن الخطيب : ( يكون المرتاض يعتمد على شيخ و يلقي أزمته بيده , ليهديه قبل أن تسبقه إليها يد الشيطان .
كن المعـــزي لا المعــــزى بــــه إن كــــــان لا بدّ من الـــــــواحد
ومما ينقل : من لم يكن له شيخ كان الشيطان شيخه ) .
وبمثل ذلك قال ابن عربي : ( اعلم أن مقام الدعوة إلى الله , وهو مقام النبوة والوراثة الكاملة , والحاصل فيه يقال له النبي في زمان النبوة , ويقال له الشيخ الوارث والأستاذ في حق العلماء بالله من غير أن يكونوا أنبياء وهو الذي قالت فيه السادة من أهل طريق الله , من لم يكن له أستاذ فإن الشيطان أستاذه ) .
وقال الشعراني : ( اعلم يا أخي أن أحدا من السالكين لم يصل إلى حالة شريفة في الطريق أبدا إلا بملاقاة الأشياخ ومعانقة الأدب معهم , والإكثار من خدمتهم , ومن ادعى الطريق بلا شيخ كان شيخه إبليس ... وقد كان الإمام أبو القاسم الجنيد رحمه الله يقول : من سلك بغير شيخ ضلّ وأضلّ ) .
وكتب في كتابه ( الأخلاق المتبولية ) نقلا عن علي المرصفي أنه قال : ( لو أن مريدا عبد الله تعالى كما بين السماء والأرض بغير شيخه فعبادته كالهباء المنثور ... وسمعت سيدي علي الخواص رجمة الله يقول : ( لو أن العبد قرأ ألف كتاب في العلم ولا شيخ له فهو كمن حفظ كتب الطبّ مع جهله بالداء والدواء ... وأن كل من لم يسلك الطريق على يد شيخ حكمه حكم من يعبد الله على حرف ) .
وهذا مثل ما قاله الشيعة نقلا عن أبي جعفر محمد الباقر أنه قال : ( إنما يعرف الله عز وجل ويعبده من عرف الله وعرف إمامه منّا أهل البيت , ومن لا يعرف الله عز وجل ولا يعرف الإمام منّا أهل البيت فإنما يعرف ويعبد غير الله هكذا والله ضلالا ) .
وعنه أنه قال : ( كل من دان الله عز وجل بعبادة يجهد فيها نفسه ولا إمام له من الله فسعيه غير مقبول )
وعلى ذلك يقول نيكلسون بعد نقل كلام أبي يزيد البسطامي : ( من لم يكن له شيخ كان الشيطان شيخه , يقول بعده :
( هي فكرة يظهر أن لها صلة بالنظرية الشيعية , الذي كان عبد الله بن سبأ أول من قال بها ) .
| |
| | | الشيخ عودة الشيخ عودة
عدد المساهمات : 1748 تاريخ التسجيل : 28/09/2008 العمر : 74
| موضوع: رد: المنْشَأ وَالمَصَادِر تأليف الأستاذ إحسان إلهي ظهير الإثنين نوفمبر 02, 2015 2:58 pm | |
|
وبمناسبة ما ذكرناه آنفا نريد أن نورد ههنا معتقدا شيعيا آخر مرتبطا بالعقيدة السالف ذكرها , وهو أنه يجب على الناس معرفة ذلك الإمام الذي لا تخلو الأرض منه , ومن مات ولم يعرف الإمام فقد مات ميتة جاهلية , أو ميتة كفر وضلال كما قال الشريف المرتضى الشيعي الملقب بعلم الهدى عند القوم :
( إن المعرفة بهم ( يعني بالأئمة ) كالمعرفة به تعالى , فإنها إيمان وإسلام , وأن الجهل والشك فيهم كالجهل والشك فيه فإنه كفر , وخروج من الإيمان , وهذه المنزلة ليست لأحد من البشر إلا لنبينا صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة من بعده , علي وأولاده الطاهرين ... والذي يدل على أن معرفة إمامة من ذكرناه من الأئمة عليهم السلام من جملة الإيمان , وأن الإخلال بها كفر ورجوع عن الإيمان بإجماع الإمامية ) .
وقال الطوسي الملقب بشيخ الطائفة : ( دفع الإمامة كفر , كما أن دفع النبوة كفر , لأن الجهل بهما على حدّ واحد , وقد روى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : من مات وهو لا يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية , وميتة الجاهلية لا تكون إلا على كفر ) .
ولقد أورد محدثو الشيعة روايات كثيرة في هذا المعنى في أبواب مستقلة بوبوها في مصنفاتهم , مثل الكليني في كافيّه , وابن بابويه القمي في كتبه , والطوسي في شافيه , والبرقي في محاسنه , والنعماني في غيبته , والحر العاملي في فصوله , والمجلسي في بحاره , والبحراني في برهانه , وغيرهم في غيره , حتى قال محدثهم العاملي : ( الآيات والروايات من طريق العامة والخاصة , والأدلة في ذلك أكثر من أن تحصى ) .
فهذا المعتقد من المبادئ الشيعية الأساسية التي بُنى عليها مذهب القوم . والمقصود منه أنه يجب على كل شخص أن يعتقد بعدم خلو الأرض من إمام , ثم يوجب على نفسه أن يعرفه , ويجعله قدوة له , وهاديا ومرشدا ومطاعا , فيأخذ منه معالم الدين , ويهتدي بهديه , ويسلك مسلكه , وينهج بمنهجه , وبدونه وبدون إرشاده وتوجيهه يضلّ الطريق , ويهوي في المزالق والمهالك , مزالق الكفر ومهالك الجاهلية .
هذا ما يعتقده الشيعة , ولم يكن غريبا أن يؤمن بهذا المبدأ , ويعتقد بهذا المعتقد مشائخ الصوفية , وكبراء التصوف , لأنهم وراءهم حذو القذة بالقذة , فقالوا : من لم يكن له شيخ فإمامه الشيطان كما ذكر ذلك المتصوفة عن أبي يزيد أنه قال : ( من لم يكن له أستاذ فإمامه الشيطان ) .
ويقول لسان الدين بن الخطيب : ( يكون المرتاض يعتمد على شيخ و يلقي أزمته بيده , ليهديه قبل أن تسبقه إليها يد الشيطان .
كن المعـــزي لا المعــــزى بــــه إن كــــــان لا بدّ من الـــــــواحد
ومما ينقل : من لم يكن له شيخ كان الشيطان شيخه ) .
وبمثل ذلك قال ابن عربي : ( اعلم أن مقام الدعوة إلى الله , وهو مقام النبوة والوراثة الكاملة , والحاصل فيه يقال له النبي في زمان النبوة , ويقال له الشيخ الوارث والأستاذ في حق العلماء بالله من غير أن يكونوا أنبياء وهو الذي قالت فيه السادة من أهل طريق الله , من لم يكن له أستاذ فإن الشيطان أستاذه ) .
وقال الشعراني : ( اعلم يا أخي أن أحدا من السالكين لم يصل إلى حالة شريفة في الطريق أبدا إلا بملاقاة الأشياخ ومعانقة الأدب معهم , والإكثار من خدمتهم , ومن ادعى الطريق بلا شيخ كان شيخه إبليس ... وقد كان الإمام أبو القاسم الجنيد رحمه الله يقول : من سلك بغير شيخ ضلّ وأضلّ ) .
وكتب في كتابه ( الأخلاق المتبولية ) نقلا عن علي المرصفي أنه قال : ( لو أن مريدا عبد الله تعالى كما بين السماء والأرض بغير شيخه فعبادته كالهباء المنثور ... وسمعت سيدي علي الخواص رجمة الله يقول : ( لو أن العبد قرأ ألف كتاب في العلم ولا شيخ له فهو كمن حفظ كتب الطبّ مع جهله بالداء والدواء ... وأن كل من لم يسلك الطريق على يد شيخ حكمه حكم من يعبد الله على حرف ) .
وهذا مثل ما قاله الشيعة نقلا عن أبي جعفر محمد الباقر أنه قال : ( إنما يعرف الله عز وجل ويعبده من عرف الله وعرف إمامه منّا أهل البيت , ومن لا يعرف الله عز وجل ولا يعرف الإمام منّا أهل البيت فإنما يعرف ويعبد غير الله هكذا والله ضلالا ) .
وعنه أنه قال : ( كل من دان الله عز وجل بعبادة يجهد فيها نفسه ولا إمام له من الله فسعيه غير مقبول )
وعلى ذلك يقول نيكلسون بعد نقل كلام أبي يزيد البسطامي : ( من لم يكن له شيخ كان الشيطان شيخه , يقول بعده :
( هي فكرة يظهر أن لها صلة بالنظرية الشيعية , الذي كان عبد الله بن سبأ أول من قال بها ) .
الْـولاَيَة وَالْوصَــايَة
وتشابه آخر بين الصوفية والشيعة هو أن الصوفية أضفوا على أوليائهم عين تلك الأوصاف والاختيارات التي أضفى الشيعة على أئمتهم وأوصيائهم , فإن الشيعة يقولون : ( أن الأئمة ولاة أمر الله , وخزنة علم الله , وعيبة وحي الله ) .
ويروي أبو جعفر محمد بن الحسن الصفار المتوفى 290هـ شيخ الكليني , في بصائره , عن محمد الباقر بن علي زين العابدين أنه يقول : ( نحن جنب الله ونحن صفوته ونحن خيرته ونحن مستودع مواريث الأنبياء ونحن أمناء الله ونحن حجّة الله , ونحن أركان الإيمان , ونحن دعائم الإسلام , ونحن من رحمة الله على خلقه , ونحن الذين بنا يفتح الله وبنا يختم , ونحن أئمة الهدى , ونحن مصابيح الدجى , ونحن منار الهدى , ونحن السابقون , ونحن الآخرون , ونحن العلم المرفوع للخلق , من تمسك بنا لحق , ومن تخلف عنا غرق , ونحن قادة الغر المحجلين , ونحن خيرة الله , ونحن الطريق , وصراط الله المستقيم إلى الله , ونحن من نعمة الله على خلقه , ونحن المنهاج ونحن معدن النبوة , ونحن موضع الرسالة , ونحن الذين إلينا مختلف الملائكة , ونحن السراج لمن استضاء بنا , ونحن السبيل لمن اقتدى بنا , ونحن الهداة إلى الجنة , ونحن عز الإسلام , ونحن السنام الأعظم , ونحن الذين بنا نزل الرحمة وبنا تسقون الغيث , ونحن الذين بنا يصرف عنكم العذاب , فمن عرفنا ونصرنا وعرف حقنا وأخذ بأمرنا فهو منا وإلينا ) .
وروى الكليني عنه أيضا أنه قال : ( نحن خزان علم الله , ونحن تراجمة وحي الله , ونحن الحجة البالغة على من دون السماء ومن فوق الأرض ) .
ورووا عنه أيضا أنه قال : ( نحن المثاني التي أعطاها الله النبي صلى الله عليه وآله , ونحن وجه الله نتقلب في الأرض بين أظهركم , عرفنا من عرفنا , وجهلنا من جهلنا , من عرفنا فإمامه اليقين , ومن جهلنا فإمامه السعير ) .
والروايات في هذا المعنى كثيرة جدا , ومن أراد الإستزادة فليرجع إلى كتبنا الأربعة في هذا الموضوع , أو كتب الشيعة كبصائر الدرجات للصفار , والكافي للكليني , وبحار الأنوار للمجلسي , والفصول المهمة للعاملي , والبرهان للبحراني وغيرها من الكتب الشيعية الكثيرة .
مع العلم بأن كتاب الله القرآن الكريم , وكتب السنة النبوية المطهرة , وتراجم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خالية عن مثل هذه الخرافات والهفوات , والشركيات واليهوديات .
ولكن الصوفية استقوا مبادئهم وأفكارهم ومعتقداتهم من التشيع والشيعة , بدل الكتاب والسنة , فقالوا في أوليائهم ومتصوفيهم نفس ما قاله الشيعة في أئمتهم وأوصيائهم , فانظر ما كتبه أعظم مؤرخ صوفي في التاريخ القديم والحديث أبو نصر السراج الطوسي – حسب ما قاله طه عبد الباقي , والدكتور عبد الحليم محمود – ولاحظ التوافق الكامل والتشابه التام بين ألفاظه وعبارته وبين عبارة الشيعة وألفاظهم فهو ينبئ عن المصدر الأصلي , والمأخذ الحقيقي , والمنبع الأصيل , فيكتب :
( أن هذه العصابة أعني الصوفية هم أمناء الله عز وجل في أرضه , وخزنة أسراره وعلمه وصفوته من خلقه , فهم عباده المخلصون , وأولياءه المتقون , وأحباءه الصادقون الصالحون , منهم الأخيار والسابقون , والأبرار و المقربون , والبدلاء والصديقون , هم الذين أحيا الله بمعرفته قلوبهم , وزيّن بمعرفته جوارحهم , وألهج بذكره ألسنتهم , وطهر بمراقبته أسرارهم , سبق لهم منه الحسنى بحسن الرعاية ودوام العناية , فتوجهم بتاج الولاية , وألبسهم حلل الهداية , وأقبل بقلوبهم عليه تعطفاً , وجمعهم بين يديه تلطفاً , فاستغنوا به عما سواه , , وآثروا على ما دونه , وانقطعوا إليه , وتوكلوا عليه , وعكفوا ببابه , ورضوا بقضائه , وصبروا على بلائه , وفارقوا فيه الأوطان , وهجروا له الإخوان , وتركوا من أجله الأنساب , وقطعوا فيه العلائق , وهربوا من الخلائق , مستأنسين به مستوحشين مما سواه : { ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم } الآية : { فمنهم ظالم لنفسه } الآية : { قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى } ) .
ونقلوا عن ذي النون المصري أنه قال : ( هم حجج الله تعالى على خلقه , ألبسهم النور الساطع عن محبّته , ورفع لهم أعلام الهداية إلى مواصلته , وأقامهم مقام الأبطال لإرادته , وأفرغ عليهم الصبر عن مخالفته , وطهر أبدانهم بمراقبته , وطيبهم بطيب أهل مجاملته , وكساهم حالا من نسج مودّته , ووضع على رؤوسهم تيجان مسرته , ثم أودع القلوب من ذخائر الغيوب , فهي معلقة بمواصلته , فهمومهم إليه ثائرة , وأعينهم إليه بالغيب ناظرة , قد أقامهم على باب النظر من قربه , وأجلسهم على كرسي أطباء أهل معرفته ) .
وأيضا : ( هم خرس فصحاء , وعمي بصراء , عنهم تقصر الصفات , وبهم تدفع النقمات , وعليهم تنزل البركات , فهم أحلى الناس منقطعا ومذاقا , وأوفى الناس عهدا وميثاقا , سراج العباد , ومنار البلاد , ومصابيح الدجى , معادن الرحمة , ومنابع الحكمة ) .
وقال ابن عجيبة : ( هم باب الله الأعظم , ويد الله الآخذة بالداخلين إلى حضرة الله , فمن مدحهم فقد مدح الله , ومن ذمّهم فقد ذمّ الله ) .
وقال ابن قضيب البان : ( القطب فاروق الوقت , وقاسم الفيض , وإليه مفوّض أزمّة الأمور , وقلب قطب خزانة أرواح الأنبياء , وله بكل وجه وجه , وأرواح الأنبياء خزائن أسرار الحق .... الكون كله صورة القطب ... وهو الباب الذي لا دخول ولا خروج إلا منه ... وفؤاد القطب شمعة نصبت لفراش أرواح العالم , و نطقه شهد حقائق المعارف , الذي فيه شفاء أسرار المقربين , وصلاح مشاهد العارفين , وغذاء أفئدة الواصلين ... نفس القطب صور برزخ الشئون الصفاتية , وعقله اسرافيله , ومن نفسه قيام عمود السموات الروحية والأرضين الجسمية , وإرادته المأثرة فيهما , ومن إختياره همم أهل زمانه ... القطب الفرد الواحد في كل زمان الحقيقة المحمدية , ولكل زمان قطب منها , وهو خطيب سر الولاء بكلمة : بلى ) .
هذا وأن ابن عربي قال بصراحة ووضوح بدون إبهام ولا إيهام :
( أنا القرآن والسبع المثاني وروح الروح لا روح الأواني فــؤادي عند معلومي مقيم يشاهده وعنـــــــــدكم لساني ) .
ويعتقد الشيعة أن أئمتهم يعرفون جميع الألسن واللغات , وحتى لغات الطيور والوحوش . فيذكر الصفار في بصائره العناوين الأربعة لبيان علوم أئمته :
( باب في الأئمة عليهم السلام أنهم يعرفون الألسن كلها ) . ( باب في الأئمة أنهم يتكلمون الألسن كلها ) . ( باب في الأئمة أنهم يعرفون منطق الطير ) . ( باب في الأئمة عليهم السلام أنهم يعرفون منطق البهائم , ويعرفونهم , ويجيبونهم إذا دعوهم ) .
ثم يورد تحتها روايات كثيرة تنبئ وتدل على كل ما ذكره في العناوين .
فمثلا يروي عن جعفر بن الباقر أنه قال : ( قال الحسن بن علي عليه السلام : إن لله مدينتين , إحداهما بالمشرق , والأخرى بالمغرب , عليهما سوران من حديد , وعلى كل مدينة ألف ألف مصراع من ذهب , وفيها سبعون ألف ألف لغة يتكلم كل لغة بخلاف لغة صاحبه , وأنا أعرف جميع اللغات وما فيهما وما بينهما وما عليهما حجة غيري والحسين أخي ) .
ويروي عن محمد الباقر أنه قال :
( علمنا منطق الطير , وأوتينا من كل شيء ) .
وغير ذلك من الروايات الكثيرة , وأورد مثلها كل من الكليني في كافيّه , والحرّ العاملي في الفصول المهمة .
ومثل ذلك ذكر المتصوفة في كتبهم عن أوليائهم ومشائخهم , فيقول الشعراني في طبقاته عن إبراهيم الدسوقي : ( وكان رضي الله عنه يتكلم بالعجمي والسرياني والعبراني والزنجي , وسائر لغات الطيور والوحوش ) .
وقال عماد الدين الأموي : ( العارفون يفهمون كلام المخلوقين من الحيوانات والجمادات ) .
وكتب الشعراني في كتابه ( الأنوار المقدسية ) :
( الولي يعطيه الله تعالى معرفة سائر الألسن الخاصة بالإنس والجن , فلا يخفى عليه فهم كلام أحد منهم ) .
وذكر القوم حكايات كثيرة عن متصوفيهم تشتمل على تكلمهم مع السباع والطيور وغيرها , سنذكرها في الجزء الثاني من هذا الكتاب في باب مستقل إن شاء الله .
ولكن للطرافة نذكر حكاية واحدة ذكرها الشعراني في طبقاته الكبرى , فيقول :
( أقام الشيخ أبو يعزي في بدايته خمس عشرة سنة في البر , لا يأكل إلا من حبّ الشجر في البادية , وكانت الأسد تأوي إليه والطير يعكف عليه .
وكان إذا قال للأسد : لا تسكني هنا , تأخذ أشبالها وتخرج بأجمعها .
قال الشيخ أبو مدين رضي الله عنه : زرته مرة في الصحراء وحوله الأسد والوحوش والطير , تشاوره على أحوالها , وكان الوقت وقت غداء , فكان يقول لذلك الوحش : اذهب إلى مكان كذا وكذا , فهناك قوتك , ويقول للطير مثل ذلك فتنقاد لأمره .
ثم قال : يا شعيب , إن هذه الوحوش والطيور أحبت جواري فتحملت ألأم الجوع لأجلي , رضي الله عنه ) .
فهذا هو التطابق الكلي بين الشيعة والصوفية في هذه القضية .
| |
| | | الشيخ عودة الشيخ عودة
عدد المساهمات : 1748 تاريخ التسجيل : 28/09/2008 العمر : 74
| موضوع: رد: المنْشَأ وَالمَصَادِر تأليف الأستاذ إحسان إلهي ظهير الإثنين نوفمبر 02, 2015 3:01 pm | |
| مَرَاتِبُ الصّوفيَّـة
وأما مراتب الصوفية , التي وضعوها لبيان طبقات المتصوفة ومكانتهم , وقدرتهم واختيارهم على الخلق , وأعدادهم , وهم حسب كلام لسان الدين بن الخطيب : ( خواصّ الله في أرضه , ورحمة الله في بلاده على عباده : الأبدال , والأقطاب , والأوتاد , والعرفاء , والنجباء , والنقباء , وسيدهم الغوث ) .
ولدى الهجويري هم : ( أهل الحل والعقد , وقادة حضرة الحق جل جلاله , فثلاثمائة يدعون الأخيار , وأربعون آخرون يسمون الأبدال , وسبعة آخرون يقال لهم : الأبرار , وأربعة يسمون الأوتاد , وثلاثة آخرون يقال لهم : النقباء , وواحد يسمى القطب والغوث . وهؤلاء جميعا يعرفون أحدهم الآخر , ويحتاجون في الأمور لإذن بعضهم البعض ) .
ومثل ذلك ذكرهم الجرجاني في تعريفاته : ( القطب , وهو الغوث : عبارة عن الواحد الذي هو موضع نظر الله من العالم في كل زمان ومكان , وهو على قلب إسرائيل عليه السلام .
الإمامان : هما شخصان , أحدهما عن يمين الغوث ونظره في الملكوت , والآخر عن يساره , ونظره في الملك , وهو أعلى من صاحبه , وهو الذي يخلف الغوث .
الأوتاد : عبارة عن أربعة رجال منازلهم على منازل أربعة أركان من العالم : شرق وغرب وشمال وجنوب , مع كل واحد منهم مقام تلك الجهة .
البدلاء : هم سبعة , ومن سافر من القوم من موضعه وترك جسدا على صورته حتى لا يعرف أحد أنه فقد , فذلك هو البدل لا غير , وهم على قلب إبراهيم عليه السلام .
النجباء : أربعون , وهم المشغولون بحمل أثقال الخلق فلا يترفون إلا في حق الغير .
النقباء : هم الذين استخرجوا خبايا النفوس , وهم ثلاثمائة ) .
وهذا الترتيب مأخوذ عن ابن عربي في فتوحاته كما قال : ( والمجمع عليه من أهل الطريق أنهم على ست طبقات أمهات : أقطاب , وأئمة , وأوتاد , وأبدال , ونقباء , ونجباء ) .
ومثل ذلك ورد في ( الوصية الكبرى ) لشيخ العروسية عبد السلام الفيتوري . وفي ( جامع الأصول في الأولياء ) للكمشخانوي .
وفي ( طبقات السلمي ) للسلمي . ولا بأس في إيراد عبارة داود بن محمود القيصري ههنا , لما فيها من زيادة توضيح لها الأمر , فيقول : ( ولهم مراتب . الأولى مرتبة القطبية , ولا يكون فيها أبداً إلا واحد بعد واحد , ويسمى غوثا , لكونه مغيثاً للخلق في أحوالهم . ثم مرتبة الإمامين , وهما كالوزيرين للسلطان . أحدهما صاحب اليمين , وهو المتصرف بإذن القطب في عالم الملكوت والغيب , وثانيهما صاحب اليسار , وهو المتصرف في عالم الملك والشهادة . وعند إرتحال القطب إلى الآخرة , لا يقوم مقامه , منهما و إلا صاحب اليسار , لكونه أكمل في السير من صاحب اليمين : لأنه , بَعْدُ , ما نزل في السير من عالم الملكوت إلى عالم الملك , وصاحب اليسار نزل إليه , وكملت دايرته في السير والوجود . ثم مرتبة الأربعة , كالأربعة من الصحابة , رصي اله عنهم أجمعين! ثم مرتبة البدلاء السبعة , الحافظين للأقاليم السبعة . وكل منهم قطب للإقليم الخاص به . ثم مراتب الأولياء العشرة , كالعشرة المبشرة . ثم مراتب الإثني عشر , الحاكمين على البروج الإثني عشر , وما يتعلق بها ويلزمها من حوادث الأكوان . ثم العشرين والأربعين والتسعة والتسعين , مظاهر الأسماء الحسنى , إلى الثلاثمائة والستين . وهؤلاء قايمون في العالم على سبيل البدل , في كل زمان , ولا يزيد عددهم ولا ينقص إلى يوم القيامة . وغيرهم من الأولياء يزيدون وينقصون , بحسب ظهور التجلي الإلهي وخفائه . وبعدهم : مرتبة الزهاد والعبّاد والعلماء من المؤمنين , الكائنين في كل زمان إلى يوم الدين . وجميع هؤلاء المذكورين , داخلون في حكم القطب . والأفراد الكمّل , الذين تعادل مرتبتهم مرتبة القطب إلا في الخلافة , هم الخارجون من حكمه . فإنهم يأخذون من الله , سبحانه , ما يأخذون من المعاني والأسرار الإلهية بخلاف الداخلون في حكمه , فإنهم لا يأخذون شيئا إلا منه ) .
وقد ذكرهم المستشرق الفرنساوي ماسينيون بقوله : ( ويزعم الصوفية أن العالم يدوم بقاؤه بفضل تدخل طبقة من الأولياء المستورين عددهم محدود , وكلما قبض منهم واحد خلفه غيره , ورجال الغيب هم : ثلاثمائة من النقباء , وأربعون من الأبدال , وسبعة أمناء , وأربعة عمد , ثم القطب , وهو الغوث ) .
فهذه المراتب والترتيب والأعداد لم يأخذها المتصوفة إلا من الشيعة أيضا , وخاصة من الشيعة الإسماعيلية والنصيرية كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في رسائله وفتاواه :
( وأما الأسماء الدائرة على ألسنة كثير من النساك والعامة مثل الغوث الذي يكون بمكة , والأوتاد الأربعة , والأقطاب السبعة , والأبدال الأربعين , والنجباء الثلاثمائة , فهذه الأسماء ليست موجودة في كتاب الله , ولا هي أيضا مأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد صحيح ولا ضعيف محتمل , إلا لفظ الأبدال فقد روي فيهم حديث شامي منقطع الإسناد عن علي بن أبي طالب مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : إن فيهم – يعني أهل الشام – الأبدال أربعين رجلا , كلما مات رجل أبدله الله مكانه رجلا : ولا توجد هذه الأسماء في كلام السلف كما هي على هذه الترتيب .... وهذا من جنس دعوى الرافضة أنه لا بد في كل زمان من إمام معصوم يكون حجة الله على المكلفين لا يتم الإيمان إلا به , ثم مع هذا يقولون : أنه كان صبيا دخل السرداب من أكثر من أربعمائة وأربعين سنة , ولا يعرف له عين ولا أثر , ولا يدرك له حس ولا خبر . وهؤلاء الذين يدعون هذه المراتب فيهم معناها للرافضة من بعض الوجود , بل هذا الترتيب والاعتداد يشبه من بعض الوجوه ترتيب الإسماعيلية والنصيرية ونحوهم في السابق والتالي والناطق والأساس والحدّ وغير ذلك من الترتيب الذي ما أنزل الله به من سلطان ) .
وبذلك قال ابن خلدون في هذا الخصوص , والمسائل الأخرى التي ذكرناها بأن المتصوفة أخذوها من التشيع , فيقول : ( إن هؤلاء المتأخرين من المتصوفة المتكلمين في الكشف وفيما وراء الحس توغلوا في ذلك فذهب الكثير منهم إلى الحلول والوحدة كما أشرنا إليه وملأوا الصحف من مثل الهروي في كتاب المقامات له وغيره وتبعهم ابن عربي وابن سبعين وتلميذهما ابن العفيف وابن الفارض والنجم الإسرائيلي في قصائدهم وكان سلفهم مخالطين للإسماعيلية المتأخرين من الرافضة الدائنين أيضا بالحلول و إلهية الأئمة مذهباً لم يعرف لأولهم فأشرب كل واحد من الفريقين مذهب الآخر واختلط كلامهم وتشابهت عقائدهم وظهر في كلام المتصوفة القول في القطب ومعناه رأس العارفين يزعمون أنه لا يمكن أن يساويه أحد في مقامه في المعرفة حتى يقبضه الله ثم يورث مقامه لآخر من أهل العرفان وقد أشار إلى ذلك ابن سينا في كتاب الإشارات في فضول التصوف منها فقال جل جناب الحق أن يكون شرعه لكل وارد أو يطلع عليه إلا الواحد بعد الواحد وهذا كلام لا تقوم عليه حجة عقلية ولا دليل شرعي وإنما هو من أنواع الخطابة وهو بعينه ما تقوله الرافضة ودانوا به ثم قالوا بترتيب وجود الأبدال بعد هذا القطب كما قاله الشيعة في النقباء ) .
هذا وقد اقر بذلك أحمد أمين المصري , فكتب : ( أن الصوفية اتصلت بالتشيع اتصالاً وثيقاً , وأخذت فيما أخذت عنه فكرة المهدي , وصاغتها صياغة جديدة وسمته ( قطبا) , وكونت مملكة من الأرواح على نمط مملكة الأشباح , وعلى رأس هذه المملكة الروحية القطب , وهو نظير الإمام أو المهدي في التشيع , والقطب هو الذي ( يدبر الأمر في كل عصر , وهو عماد السماء , ولولاه لوقعت على الأرض ) , ويلي القطب النجباء , قال ابن عربي في الفتوحات المكية : ( وهم اثنا عشر نقيباً في كل زمان , لا يزيدون ولا ينقصون , على عدد بروج الفلك الاثني عشر , كل نقيب عالم بخاصية كل برج وبما أودع الله تعالى في مقامه من الأسرار والتأثيرات ... وأعلم أن الله تعالى قد جعل بأيدي هؤلاء النقباء علوم الشرائع المنزلة , ولهم استخراج خبايا النفوس وغوائلها , ومعرفة مكرهات وخداعها , وإبليس مكشوف عندهم , يعرفون منه ما لا يعرفه من نفسه , وهم من العلم بحيث إذا رأى أحدهم وطأة شخص في الأرض علم أنها وطأة سعيد أو شقيّ مثل العلماء بالآثار والقيافة ) .
وأما من أراد مقارنة هذه المراتب بالمراتب الإسماعيلية فليرجع إلى كتابنا ( الإسماعيلية القدامى تاريخ وعقائد ) الباب السابع منه ( ماهية الدعوة الإسماعيلية ونظامها ) .
ولا بأس من إيراد عبارة عن القاضي الإسماعيلي النعمان بن محمد المغربي , ذكر فيها أصحاب المراتب العليا , فيقول : ( والحدود السفلية هم : الأسس , الأئمة , والحجج , والنقباء , والأجنحة ) .
ومثل ذلك ذكر الداعي الإسماعيلي حميد الدين الكرماني في كتابه راحة العقل .
وإبراهيم بن الحسين الحامدي .
فهذه هي العقيدة الشيعية الأخرى التي تسربت إلى التصوف , وتحكمت فيهم , وسنوضح معاني هذه المصطلحات مع القضايا الأخرى في جزء مستقل من هذا الكتاب إن شاء الله .
التــقـــيَـــة
من أهم المبادئ الشيعية وأسسهم ومعتقداتهم الإخفاء والكتمان , وإظهار ما لا يعتقدونه في السر , وإعلان ما يبطنون خلافه , وهذا من أخطر ما يؤمن به الشيعة , ويميزهم من الطوائف المسلمة الأخرى , ويحول بينهم وبين الالتقاء بهم , لأنه لا يعلم ظاهرهم من باطنهم , وكذبهم من صدقهم , كما قال السيد محب الدين الخطيب : ( وأول موانع التجاوب الصادق بالإخلاص بيننا وبينهم ما يسمونه التقية , فإنها عقيدة دينية تبيح لهم التظاهر لنا بغير ما يبطنون , فينخدع سليم القلب منا بما يتظاهرون له به من رغبتهم في التفاهم والتقارب , وهم لا يريدون ذلك ولا يرضون به ولا يعملون له ) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية : ( النفاق والزندقة في الرافضة أكثر منه في سائر الطوائف , بل لا بد لكل منهم من شعبة نفاق , فإن أساس النفاق الذي بني عليه الكذب , وأن يقول الرجل بلسانه ما ليس في قلبه كما أخبر الله تعالى عن المنافقين : أنهم يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم .
والرافضة تجعل هذا من أصول دينها وتسميه التقية , وتحكي هذا عن أئمة أهل البيت الذين برأهم الله عن ذلك حتى يحكوا ذلك عن جعفر الصادق أنه قال : التقية ديني ودين آبائي , وقد نزّه الله المؤمنين من أهل البيت وغيرهم عن ذلك , بل كانوا من أعظم الناس صدقا وتحقيقا للإيمان , وكان دينهم التقوى , لا التقية ) .
فهناك روايات كثيرة فوق الحصر , التي أوردها الشيعة في كتبهم لاعتناق هذه العقيدة من أئمتهم المعصومين , ونحن أوردنا العديد منها في كتابنا الشيعة والسنة , وخصصنا بابا مستقلا لبيان هذا المبدأ وأهميته عند القوم , كما عقدنا فصلا مستقلا في كتابنا الجديد ( بين الشيعة وأهل السنة ) لهذا الموضوع , فمن أراد التعمق والتفصيل فليرجع إليهما , ولكن نذكر هنا روايتين عن القوم : روى الكشي عن حسين بن معاذ بن مسلم النحوي : ( عن أبي عبد الله ( ع) قال : ( قال لي ( أبو عبد الله ) : بلغني أنك تقعد في الجامع , فتفتي الناس ؟ قال : قلت : نعم , وقد أردت أن أسألك عن ذلك قبل أن أخرج أني أقعد في الجامع , فيجيء الرجل , فيسألني عن الشيء فإذا عرفته بالخلاف أخبرته بما يقولون ... قال ( أي معاذ بن مسلم ) فقال لي ( أبو عبد الله ) : اصنع كذا , فإني اصنع كذا ) ز
ورواية أخرى رواها الكليني عن جعفر أنه قال لأصحابه معلى بن خنيس : ( يا معلى , أكتم لأمرنا ولا تذعه , فإنه من كتم أمرنا ولم يذعه أعزه الله به في الدنيا , وجعله نورا بين عينيه في الآخرة , يقوده في الجنة . يا معلىّ , من أذاع أمرنا ولم يكتمه أذله الله به في الدنيا , ونزع النور من بين عينيه في الآخرة , وجعله ظلمة تقوده إلى النار .
يا معلى , إن التقية من ديني ودين آبائي , ولا دين لمن لا تقية له ) .
وعلى ذلك قال صدوقهم ابن بابويه القمي :
( اعتقادنا في التقية أنها واجبة , لا يجوز رفعها إلى أن يقوم القائم , ومن تركها قبل خروجه فقد خرج عن دين الإمامية , وخالف الله ورسوله والأئمة ) .
وقال مفيدهم : ( التقية كتمان الحق وستر الاعتقاد فيه , ومكاتمة المخالفين , وترك مظاهرتهم بما يعقب ضررا في الدين أو الدنيا , وفرض ذلك إذن علم بالضرورة أو قوي في الظن ) .
فهذا هو معتقد الشيعة ومبدؤهم الذي اشتهروا به , وعيّروا عليه , وطعنوا فيه .
ولكن المتصوفة أخذوه بكامله عنهم , وزادوا عليهم حيث اتهموا رسول الله بتهمة برّأ الله ساحته عنها بقوله : { وما هو على الغيب بضنين } .
واستندوا بحديث مكذوب على رسول الله صلى الله عليه وسلم مع علمهم بأنه هو القائل : ( من كذب عليّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار ) .
فقالوا : ( أمر الله نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم بكتم أشياء مما لا يسعه غيره للحديث المروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : أوتيت ليلة أسري بي ثلاثة علوم , فعلم أخذ عليّ في كتمه , وعلم خيّرت في تبليغه , وعلم أمرت بتبليغه . فالعلم الذي أمر بتبليغه هو علم الشرائع , والعلم الذي خيّر في تبليغه هو علم الحقائق , والعلم الذي أخذ عليه في كتمه هو الأسرار الإلهية ولقد أودع الله جميع ذلك في القرآن . فالذي أمر بتبليغه ظاهر . والذي خيّر في تبليغه باطن لقوله ( سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق ) وقوله ( وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق ) وقوله ( وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعا منه ) وقوله ( ونفخت فيه من روحي ) فإن جميع ذلك له وجه يدلّ على الحقائق ووجه يتعلق بالشرائع , فهو كالتخير , فمن كان فهمه إلهيا فقد بلغ ذلك , ومن لم يكن فهمه ذلك الفهم وكان مما لو فوجئ بالحقائق أنكرها , فإنه ما بلغ إليه ذلك لئلا يؤدي ذلك إلى ضلالته وشقاوته . والعلم الذي أخذ عليه في كتمه فإنه مودع في القرآن بطريق التأويل لغموض الكتم , فلا يعلم ذلك إلا من أشرف على نفس العلم أولا , وبطريق الكشف الإلهي , ثم سمع القرآن بعد ذلك , فإنه يعلم المحلّ الذي أودع الله فيه شيئا من العلم المأخوذ على النبي صلى الله عليه وسلم في كتمه وإليه الإشارة بقوله تعالى ( وما يعلم تأويله إلا الله ) على قراءة من وقف هنا , فالذي يطلع تأويله في نفسه هو المسمى بالله فافهم ) .
ويقول أبو نصر السراج الطوسي : ( إن حقائق رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وما خصّه الله تعالى به من العلم , لو وضعت على الجبال لذابت إلا أنه كان يظهرها لهم على مقاديرهم ) .
أي لم يظهر النبي صلى الله عليه وسلم جميع العلوم التي كان قد خصه الله بها – حسب زعمهم – وذلك لأجل أن الناس لم يكونوا يقدرون على حملها ومعرفتها .
وبمثل ذلك نقل الشعراني عن سيده محمد الحنفي أنه قال : ( وههنا كلام لو أبديناه لكم لخرجتم مجانين لكن نطويه عمن ليس من أهله ) .
وهذا عين ما ذكره الشيعة عن جعفر بن الباقر أنه قال : ( إن عندنا والله سرا من سرّ الله , وعلما من علم الله , أمرنا الله بتبليغه , فبلّغنا من الله عز وجل ما أمرنا بتبليغه , فلم نجد له موضعا ولا أهلا ولا حمالة يحتملونه ) .
ونسبوا إلى علي رضي الله عنه أنه قال : ( إن أمرنا صعب مستصعب لا يحمله إلا عبد امتحن الله قلبه للإيمان , ولا يعي حديثنا إلا صدور أمينة , وأحلام رزينة ) .
أيضا ( لا يحتمله ملك مقرب , ولا نبي مرسل , ولا مؤمن أمتحن الله قلبه للإيمان ) .
هذا وأن الصوفية اتهموا أبا هريرة رضي الله عنه أنه قال : ( حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم جرابين من العلم : أما أحدهما فبثثته في الناس , وأما الآخر فلو بثثته لقطع مني هذا البلعوم ) .
كما كذبوا على عليّ بن الحسين زين العابدين أنه قال : ( يا ربّ جوهر علم لو أبوح به لقيل لي : أنت ممن يعبد الوثـــنا ولاستحل رجال مسلمون دمي يرون أقبح ما يأتـــونه حســــــنا إني لأكتم من علمي جـــواهره كي لا يرى الحق ذو جهل فيفتننا ) .
وقال النفزي الرندي : ( في قلوب الأحرار قبور الأسرار , والسر أمانة الله تعالى عند العبد , فافشى بالتعبير عنه خيانة , والله تعالى لا يحب الخائنين , وأيضا فإن الأمور المشهودة لا يستعمل فيها إلا الإشارة والإيماء , واستعمال العبارات فيها إفصاح بها وإشهار لها , وفي ذلك ابتذالها وإذاعتها , ثم إن العبارة عنها لا تزيدها إلا غموضا وانغلاقا , لأن الأمور الذوقية يستحيل إدراك حقائقها بالعبارات النطقية , فيؤدي ذلك إلى الإنكار والقدح في علوم السادة الأخيار . قال أبو علي الروذباري رضي الله تعالى عنه : علمنا هذا إشارة , فإذا صار عبارة خفي ) .
وأما لسان الدين بن الخطيب فقال : ( حملة علم النبوة هم الذين عناهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله : علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل , قالوا : وهذا العلم هو الذي لا يجوز كشفه , ولا إذاعته ولا ادعاؤه , ومن كشفه وأذاعه وجب قتله واستحل دمه وينسبون في ذلك إلى خواص النبوة وخلفائها كثيرا كقوله :
يا ربّ جوهر علم لو أبوح به لقيل لي : أنت ممن يعبد الوثـــنا ولاستحل رجال مسلمون دمي يرون أقبح ما يأتـــونه حســــــنا ) ز
وكان كبار المتصوفة يعملون بهذا المبدأ , ولم يكونوا يظهرون للناس علومهم وأفكارهم كما روى الكلاباذي عن الجنيد أنه قال للشبلي : ( نحن حبّرنا هذا العلم تحبيرا , ثم خبأناه في السراديب , فجئت أنت , فأظهرته على رؤوس الملأ . فقال : أنا أقول وأنا أسمع , فهل في الجارين غيري ) .
ونقل الشعراني كذلك عن الجنيد أنه ( كان يستر كلام أهل الطريق عمن ليس منهم , وكان يستتر بالفقه والإفتاء على مذهب أبي ثور , وكان إذا تكلم في علوم القوم أغلق باب داره , وجعل مفتاحه تحت وركه ) .
وأيضا روى عن الشاذلي أنه كان يقول : ( امتنعت عني الرؤيا لرسول الله صلى الله عليه وسلم , ثم رأيته , فقلت : يا رسول الله , ماذ نبي ؟ فقال : إنك لست بأهل لرؤيتنا لأنك تطلع الناس على أسرارنا ) .
والصوفية يكتمون آراءهم ومعتقداتهم عن غيرهم , ويوصون مريديهم في كتبهم ومؤلفاتهم التي كتبت للخاصة وخاصة الخاصة , فالصوفي الشهير عبد السلام الفيتوري يكتب في كتابه ( الوصية الكبرى ) : ( إخواني , وسنذكر لكم كلاما في المغيبات لكن يجب الإمساك عنها إلا لأهله الذين يكتمونه , ولا ينبغي إظهاره للسفهاء الذين يلحقون به إلى الأمراء والجبابرة وأهل الدنيا ) .
وهناك نص مهم جدا ذكره الشعراني يقطع في هذا الموضوع فيقول : وكان بعض العارفين يقول ( نحن قوم يحرم النظر في كتبنا على من لم يكن من أهل طريقتنا , وكذلك لا يجوز لأحد أن ينقل كلامنا إلا لمن يؤمن به , فمن نقله إلى من لا يؤمن به دخل هو والمنقول إليه جهنم الإنكار , وقد صرح بذلك أهل الله تعالى على رؤوس الأشهاد وقالوا : من باح بالسرّ استحق القتل ) .
وقد ذكر الدباغ حكايات كثيرة عن الذين لم يكتموا السرّ فابتلاهم الله ببلايا عديدة , من القتل والصلب والحرق والعمى وغير ذلك .
وكان منهم الحلاج , لأنه لم يقتل إلا لإفشاء سرّه .
وكما يروون أن الخضر عبر على الحلاج وهو مصلوب , فقال له الحلاج : ( هذا جزاء أولياء الله ؟ فقال له الخضر : نحن كتمنا فسلمنا , وأنت بحت فمتّ ) .
وكما رووا عن أبي بكر الشبلي أنه قال : ( كنت أنا والحسين بن منصور شيئا واحدا إلا أنه أظهر وكتمت ) .
وننقل أخيرا أن أحمد بن زروق , وابن عجيبة ذكرا عن الجنيد أنه كان يجيب عن المسألة الواحدة بجوابين مختلفين , فكان يجيب هذا بخلاف ما يجيب ذاك .
هذا عين ما رواه الشيعة على محمد الباقر كما ذكر الكليني عن زرارة بن أعين أنه قال : ( سألت أبا جعفر عن مسألة فأجابني , ثم جاءه رجل فسأله عنها فأجابه بخلاف ما أجابني . ثم جاء رجل آخر فأجابه بخلاف ما أجابني وأجاب صاحبي , فلما خرج الرجلان قلت : يا ابن رسول الله , رجلان من أهل العراق من شيعتكم قدما يسألان فأجبت كل واحد منهما بغير ما أجبت به صاحبه ؟
فقال : يا زرارة , إن هذا خير لنا وأبقى لنا ولكم , ولو اجتمعتم على أمر واحد لصدّقكم الناس علينا , ولكان أقل لبقائنا وبقائكم . قال : ثم قلت لأبي عبد الله عليه السلام : شيعتكم لو حملتموهم على الأسنة أو على النار لمضوا وهم يخرجون من عندكم مختلفين , قال : فأجابني بمثل جواب أبيه ) .
فهذا هو المبدأ الخطير الآخر الذي أخذه المتصوفة من الشيعة ليكونوا حزبا سرّيا يعمل في الخفاء لهدم مبادئ الإسلام وتعاليمه , ولتأسيس ديانة جديدة تعمل لتوهين القوى الإسلامية ونشاط المسلمين لنشر الكتاب والسنة , والتقاعد عن الجهاد والغزوات , وبناء المجتمع الإسلامي على أسس كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم , وقد وضعناه أمام الباحثين والقراء مع المقارنة بين أفكار الآخذين والذين أخذ عنهم , معتمدين على أوثق الكتب وأثبتها وأهمها لدى الطرفين .
| |
| | | الشيخ عودة الشيخ عودة
عدد المساهمات : 1748 تاريخ التسجيل : 28/09/2008 العمر : 74
| موضوع: رد: المنْشَأ وَالمَصَادِر تأليف الأستاذ إحسان إلهي ظهير الإثنين نوفمبر 02, 2015 3:02 pm | |
| الظّاهِـرُ وَالبَـاطِنُ
وأما الفكرة الأخرى التي تسربت إلى التصوف من التشيع , واعتنقها الصوفية بتمامها هي فكرة تقسيم الشريعة إلى الظاهر والباطن , والعام والخاص .
ومنها تدرّجت وتطرقت إلى التأويل الباطني والتفسير المعنوي , وتفريق المسلمين بين العامة والخاصة , فإن الشيعة بجميع فرقها , وخاصة الإسماعيلية منهم يعتقدون أن لكل ظاهر باطنا , وقد اختص بمعرفة الباطن عليّ رضي الله عنه , وأولاده أي أئمتهم المعصومون حسب زعمهم , فسمّوا الموالين لهم بالخاصة , وغير المؤمنين بهذه الفكرة بالعامة .
فلقد قالوا : ( لا بدّ لكل محسوس من ظاهر وباطن , فظاهره ما تقع الحواسّ عليه , وباطنه يحويه ويحيط العلم به بأنه فيه , وظاهره مشتمل عليه ) .
وكذبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( ما نزلت عليّ آية إلا ولها ظهر وبطن , ولكل حرف حدّ , ولكل حدّ مطلع ) .
ثم قسموا الظاهر والباطن بين النبي والوصيّ حيث قالوا : ( كانت الدعوة الظاهرة قسط الرسول صلوات الله وسلامه عليه , والدعوة الباطنة قسط وصيّه الذي فاض منه جزيل الإنعام ) .
ثم قالوا : ( إن الظاهر هو الشريعة , والباطن هو الحقيقة , وصاحب الشريعة هو الرسول محمد صلوات الله عليه , وصاحب الحقيقة هو الوصيّ عليّ بن أبي طالب ) .
هذا ولقد فصلنا القول في ذلك في كتابنا ( الإسماعيلية القدامى تاريخ وعقائد ) حيث بوبنا بابا مستقلا لبيان هذه العقيدة الخطرة للتلاعب بنصوص القرآن والسنة فمن أراد الإستزادة فليرجع إليه .
وأن الشيعة الآخرين كالشيعة الإثني عشرية يقولون بهذا القول كما روى كلينيهم في كافيّه عن موسى الكاظم – الإمام السابع عندهم – أنه قال : ( إن القرآن له ظهر وبطن ) .
وأيضا ما رواه ابن بابويه القمي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه في حديث طويل أنه قال : ( إن رسول الله صلى الله عليه وآله علمني ألف باب من العلم يفتح كل باب ألف باب , ولم يعلم ذلك أحد غيري ) .
ويقولون : أن هذه العلوم توارثها أئمتهم بعده , فعلى ذلك يقول الكليني محدّث الشيعة في خطبه كتابه : ( فأوضح الله بأئمة الهدى من أهل بيت نبينا صلى الله عليه وآله عن دينه , وأبلج بهم عن سبيل مناهجه , وفتح بهم عن باطن ينابيع علمه , وجعلهم مسالك لمعرفته , ومعالم لدينه , وحجّابا بينه وبين خلقه , والباب المؤدي إلى معرفة حقه , وأطلعهم على المكنون من غيب سره .
كلّما مضى منهم إمام نصب لخلقه من عقبه إماما بيّنا , وهاديا نيّرا , وإماما قيّما , يهدون بالحق وبه يعدلون ) .
والجدير بالذكر أن التفريق بين الشريعة والحقيقة , وبين الظاهر والباطن من خواص التشيع إلا أنه لا توجد طائفة شيعية إلا وتؤمن بذلك , وكتب الفرق والكلام شاهدة على هذا , بل أنهم لم يختلفوا فيما بينهم في تعيين الإمام إلا بناء على هذا المبدأ , حيث أنهم اختلفوا : ( إلى من أفضى الإمام الراحل أسرار العلوم واطلاعه على مناهج تطبيق الآفاق على الأنفس , وتقدير التنزيل على التأويل , وتصوير الظاهر على الباطن , لأنهم كلهم مؤمنون بأن لكل ظاهر باطنا , ولكل شخص روحا , ولكل تنزيل تأويلا , ولكل مثال حقيقة في هذا العالم ) .
فحاصل ما قلناه أن تقسيم الشريعة والعلوم إلى الظاهر والباطن من أهم الميزات التي تتميّز بها الشيعة بفرقها عن الآخرين من المسلمين , وهم الذين تقوّلوا بها متأثرين باليهودية التي استقوا منها أفكارهم , بوساطة عبد الله بن سبا اليهودي , المؤسس الحقيقي الأول لديانتهم ومذهبهم .
ثم أخذ المتصوفة بدورهم أفكار الشيعة ومعتقداتهم , فآمنوا بها واعتقدوها , وجعلوها من الأصول والقواعد لعصابتهم , فقالوا مثل ما قاله الشيعة والفرق الباطنية : ( العلوم ثلاثة : ظاهر , وباطن , وباطن الباطن , كما أن الإنسان له ظاهر , وباطن , وباطن الباطن . فعلم الشريعة ظاهر , وعلم الطريقة باطن , وعلم الحقيقة باطن الباطن ) .
وقال الطوسي أبو نصر السراج : ( إن العلم ظاهر وباطن ... ولا يستغني الظاهر عن الباطن , ولا الباطن عن الظاهر , وقد قال الله عز وجل : ولو ردّوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم : فالمستنبط هو العلم الباطن , وهو علم أهل التصوف , لأن لهم مستنبطات من القرآن والحديث وغير ذلك ... فالعلم ظاهر وباطن , والقرآن ظاهر وباطن , وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ظاهر وباطن , والإسلام ظاهر وباطن ) .
وذكر المتصوفة نفس تلك الرواية التي نقلها الشيعة والإسماعيلية , وهي : ( لكل آية ظاهر وباطن , وحدّ ومطلع ) .
ولم يكن التشابه والتوافق مع الشيعة , والاستفادة والاقتباس منهم منحصرا في هذا فحسب , بل كان هناك تجانس وتداخل في أكثر من هذا , حيث قالوا باختصاص علي رضي الله عنه دون الآخرين بعلم الباطن , فقال قائلهم : ( إن جبريل عليه السلام نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم أولا بالشريعة , فلما تقررت ظواهر الشريعة واستقرت نزل إليه بالحقيقة المقصودة , والحكمة المرجوة من أعمال الشريعة , هي : الإيمان والإحسان , فخص رسول الله صلى الله عليه وسلم بباطن الشريعة بعض أصحابه دون البعض .
وكان أول من أظهر علم القوم وتكلم فيه سيدنا علي كرم الله وجهه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ... ثم انتشر هذا الطريق انتشارا لا ينقطع حتى ينقطع عمر الدنيا ) .
وأوردوا في كتبهم تلك الرواية الشيعية بعينها , التي نحن ذكرناها منهم عن علي رضي الله عنه أنه قال : ( علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعين بابا من العلم لم يعلم ذلك أحد غيري ) .
وهناك روايات شيعية أخرى كثيرة أوردها المتصوفة في كتبهم ومؤلفاتهم , مؤيدين لها , مؤمنين بها , مستدلين منها , مثل هذا الحديث الموضوع : ( أنا مدينة العلم وعلي بابها ) .
ومنها ما رووه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه كذبا عليه أنه قال : ( كنا نمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم فانقطع نعله , فتناولها علي يصلحها , ثم مشى , فقال : ( يا أيها الناس , إن منكم من يقاتله علي على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله ) .
ومثل ذلك ذكر عبد الرحمن الصفوري في كتابه ( نزهة المجالس ومنتخب النفائس ) .
وقال ابن الفارض في تئيته : ( وأوضح بالتأويل ما كان مشكلا عليّ بعلم ما ناله بالوصيـــــة ) .
وهذا تشيع محض بدون شك ولا شبهة . وكذلك ما قاله ابن عربي في تفسيره مفسرا قول الله عز وجل : { عَمَّ يَتَسَاءلُونَ 0 عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ } . ( إنه القيامة الكبرى , ولهذا قيل : إن أمير المؤمنين علي هو النبأ العظيم , وهو فلك نوح أي الجمع والتفصيل – باعتبار الحقيقة والشريعة – لكونه جامعا لهما ) .
وعلى ذلك قال الهجويري : ( علي بن أبي طالب رضي الله عنه هو ابن عم المصطفى , وغريق بحر البلاء , وحريق نار الولاء , وقدرة الأولياء والأصفياء أبو الحسن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه . وله في هذه الطريقة شأن عظيم , ودرجة رفيعة . وكان له حظ تام في دقة التعبير عن أصول الحقائق إلى حدّ أن قال الجنيد رحمه الله : شيخنا في الأصول والبلاء علي المرتضى رضي الله عنه .
أي أن عليا رضي الله عنه هو إمام هذه الطريقة في العلم والمعاملة , فأهل الطريقة يطلقون على علم الطريقة اسم الأصول , ويسمون تحمل البلاء فيها بالمعاملات ) .
والطوسي قال نقلا عن أبي عليّ الروذباري أنه قال : ( سمعت جنيدا رحمه الله يقول : رضوان الله على أمير المؤمنين عليّ رضي الله عنه , لولا أنه اشتغل بالحروب لأفادنا من علمنا هذا معاني كثيرة , ذاك امرؤ أعطى علم اللدنّي , والعلم اللدنّي هو العلم الذي خص به الخضر عليه السلام , قال الله تعالى : وعلمناه من لدنّا علما ) .
ثم نقل عن علي رضي الله عنه أشياء وقال بعده : ( ولعلي رضي الله عنه أشباه في ذلك كثير من الأحوال والأخلاق والأفعال التي يتعلق بها أرباب القلوب وأهل الإشارات وأهل المواجيد من الصوفية ) .
فهذه العبارات كلها لم تكن مقتبسة منقولة من التشيع و بل إنها شيعية وصرفة . وبعد هذا كله نريد أن نبيّن توغل الصوفية في علم الباطن وعلاقتهم به , وسبب إلتجائهم إليه , فنقول : ( إن الصوفية يقولون : إن علم الباطن المسمى بعلم القلب وبعلم التصوف , علم جليل شريف نفيس , وهو أجلّ العلوم وأشرفها , وهو الزبدة الممخوضة من الشريعة التي لم تبعث الأنبياء عليهم السلام إلا لأجلها ... وهو علم طريق الآخرة , وهو العلم الذي درج عليه السلف الصالح من الصحابة والتابعين وتابعيهم , وهو العلم الذي لم يبعث الله الأنبياء إلا لأجله . وقد سماه الله تعالى في كتابه فقها وعلما وضياء ونورا وهدى ورشدا , وهو مستخرج من القرآن والسنة , ومدلول عليه منهما نصّا وتصريحا وتلويحا وكتابة وإشارة وغير ذلك من أصناف الدلالة .
قال الغزالي : علم الباطن هو علم يقين المقربين , وثمرته الفوز برضا الله تعالى , ونيل سعادة الأبد , وبه تزكية النفس وتطهيرها , وتنوير القلب وصفاؤه بحيث ينكشف بذلك النور أمور جليلة , ويشهد أحوالا عجيبة , ويعاين ما نمت عنه بصيرة ) .
وقالوا : ( هل ظاهر الشرع وعلم الباطــن إلا كجـــــسم فيه روح ســـــاكن والعلم الظاهر هو علم العبودية والعلم الباطن هو علم الربوبية ) .
وقالوا : ( لا تجعلوا أحدا من أهل الظاهر حجة على أهل الباطن ) .
وخلاصة هذا أن علم الباطن هو التصوف بعينه , وهو ما أشار الكلاباذي نقلا عن عبد الواحد بن زيد أنه قال : ( سألت الحسن عن علم الباطن فقال : سألت حذيفة بن اليمان عن علم الباطن فقال : سألت رسول الله عن علم الباطن فقال : سألت جبريل عن علم الباطن فقال : سألت الله عز وجل عن علم الباطن فقال هو سرّ من سرّي , أجعله في قلب عبدي , لا يقف عليه أحد من خلقي . قال أبو الحسن بن أبي ذر قي كتابه منهاج الدين أنشدونا للشلبي :
علم التصوف لا نفــــاذ لــه علم سنيّ ســــــــماويّ ربــــــوبيّ فيه الفوائد للأرباب يعرفها أهل الجزالة والصنع الخصوصي ) .
وبالغوا في مدحه حتى قالوا : ( سئل بعض العلماء عن علم الباطن : أي شيء هو ؟ فقال : سرّ من سرّ الله تعالى يقذفه في قلوب عباده لم يطلع عليه ملكا ولا بشرا ) .
و ( علم الباطن سر من أسرار الله ) .
وكذب الآخر على رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث نسب هذا الكلام إليه صلوات الله وسلامه عليه فقال : ( علم الباطن سر من أسرار الله تعالى وحكمة من حكمته يقذفه في قلوب من يشاء من عباده ) .
ولقد بين داود القيصري من هم أصحاب العلم الباطن , وما هي قيمتهم ومنزلتهم مقابل أصحاب الظاهر , شارحا مبيّنا الحديث الموضوع الذي ذكرنا فيما سبق , فيقول : ( ولما كان للكتاب ظهر وبطن وحد ومطلع , كما قال عليه السلام : ( إن للقرآن ظهراً وبطناً وحداً ومطلعاً ) , وقال عليه السلام : ( إن للقرآن بطناً ولبطنه بطناًً , إلى سبعة أبطن ) وفي رواية ( إلى سبعين بطناً ) , وظهره : ما يفهم من ألفاظه ويسبق الذهن إليه . وبطنه : المفهومات اللازمة للنظر الأول . وحدّه : ما إليه ينتهي غاية إدراك الفهوم والعقول , ومطلعه : ما يدرك منه على سبيل الكشف والشهود , من الأسرار الإلهية والإشارات الربانية . والمفهوم الأول , الذي هو الظهر , للعوام والخواص . والمفهومات اللازمة له ( هي ) للخواص ولا مدخل فيها للعوام . والحدّ للكاملين . والمطلع لخلاصة أخص الخواص كأكابر الأولياء . وكذلك التقسيم في الأحاديث القدسية والكلمات النبوية : فإن لكل من العوام والخواص وأخص الخواص فيها إنباءات رحمانية وإشارات إلهية – من اجل هذا كله – كان للشريعة ظاهر وباطن .
( ومراتب العلماء أيضا فيهما متكثرة . ففيهم فاضل ومفضول , وعالم وأعلم , والذي نسبته إلى نبيه أتم وقربه من روحه أقوى , كان علمه بظاهر شريعته وباطنها أكمل . والعالم بالظاهر والباطن منه أحق أن يتبع , لغاية قربه من نبيه , وقوة علمه بربه , وأحكامه , وكشفه حقائق الأشياء , وشهوده إياها . ثم من هو دونه في المرتبة إلى أن ينزل إلى مرتبة علماء الظاهر فقط ) .
و ( هو العلم المخزون والعلم اللدني الذي اختزنه عنده , فلم يؤته إلا للمخصوصين من الأولياء كما قال الله تعالى في شأن الخضر عليه السلام : وعلّمناه من لدنا علما ... وقال بعضهم : هي أسرار الله تعالى يبديها الله إلى أنبيائه وأوليائه وسادات النبلاء من غير سماع ولا دراسة , وهي من الأسرار التي لم يطلع عليها أحد إلا الخواص . وقال أبو بكر الواسطي رضي الله عنه في قوله تعالى : والراسخون في العلم : وهو الذين رسخوا بأرواحهم في غيب الغيب , وفي سر السر , فعرفهم ما عرفهم , وخاضوا في بحر العلم بالفهم لطلب الزيادة , فانكشف لهم من مذخور الخزائن والمخزون تحت كل حرف وآية من الفهم وعجائب النظر بحارا , فاستخرجوا الدرر والجوهر , ونطقوا بالحكمة ) .
وقالوا : ( أهل الظاهر هم : أهل الخبر واللسان , وعلماء الباطن هم : أرباب القلوب والعيان ... وعلم الظاهر حكم , وعلم الباطن حاكم , والحكم موقوف حتى يأتي الحاكم بحكم فيه ) .
و ( أهل الظاهر هم أهل الشريعة , وأهل الباطن هم أهل الحقيقة ) . وأما سبب التجاء المتصوفة إلى علم الباطن , ومنه إلى التأويل هو أن الصوفية لم يجدوا في القرآن والسنة ما يمكن أن يكون سندا لهم على منهجهم ومسلكهم , ودليلا على طرقهم التي اختاروها , والمناهج التي اخترعوها للوصول إلى الله , والحصول على معرفته ورضائه , فالتجأوا إلى علم الباطن والتأويل الباطني كما قال نيكلسون : ( لا يمكن أن يكون القرآن أساسا لأي مذهب صوفي , ومع ذلك استطاع الصوفية متبعين في ذلك الشيعة أن يبرهنوا بطريقة التأويل نصوص الكتاب والسنة معنى باطنا لا يكشفه الله إلا للخاصة من عباده الذين تشرق هذه المعاني في قلوبهم في أوقات جدهم . ومن هنا نستطيع أن نتصور كيف سهل على الصوفية بعد سلموا بهذا المبدأ أن يجدوا دليلا من القرآن لكل قول من أقوالهم ونظرية من نظرياتهم أيا كانت , وأن يقولوا إن التصوف ليس في الحقيقة إلا العلم الباطن الذي ورثه علي بن أبي طالب عن النبي . ويلزم من هذا المبدأ أيضا ( مبدأ التأويل ) أن تأويل الصوفية لتعاليم الإسلام قد يأتي على أنحاء وأشكال لا حصر لعددها , وربما أدى إلى تناقض في العبادات والمسائل العلمية . وكل ذلك مفروض صدقه في النوع لا في الدرجة , لأن معاني القرآن لا حصر لها , وهي تنكشف لكل صوفي بحسب ما منحه الله من الإستعداد الروحي . ولهذا لم تتألف من الصوفية فرقة خاصة , ولا كان لهم مذهب محدود يصح أن نسميه مذهب التصوف . بل إن التعريفات العديدة التي وضعت للفظ التصوف نفسه لتدل على تعدد وجوه النظر في فهم معناه .
كذلك الحال في موقف الصوفية من الشريعة , فإن هذا الموقف يختلف بحسب حال كل صوفي . ولذلك تجد بعضهم قد قام بشعائر الدين بكل دقة بالرغم من أنهم كانوا يعتبرون أن صور العبادات ليس لها من القيمة ما لأعمال القلوب , أو أنها لا قيمة لها البتة إلا من حيث دلالتها على الحقائق الروحية . فالحج مثلا رمز للبعد عن المعاصي , والإحرام خلع الشهوات والملذات مع خلع الثياب . وهذا الأسلوب من البحث أسلوب معروف عند الإسماعيلية الباطنية , والظاهر أن الصوفية أخذوه عنهم .
وآخرون منهم قالوا برفع التكاليف الدينية سواء أكانوا من الصوفية الذين تحرروا من القيود الشرعية في تفكيرهم وأعمالهم , أم من الصوفية الصادقين في تصوفهم كالملامتية الذين دفعهم الخوف من مدح الناس إلى الظهور فيهم بما يستجلب الملامة والذم , أم من ( العارفين ) الذين لم يأبهوا بمظاهر الشرع ورسومه ولا بأخلاق هذا العالم الزائل .... وقد سبق أن ذكرنا أن الصوفية اعتبروا أنفسهم خاصة أهل الله الذين منحهم الله أسرار العلم الباطن المودع في القرآن والحديث , وأنهم استعملوا في التعبير عن هذا العلم لغة الرمز والإشارات التي لا يقوى على فهمها غيرهم من المسلمين ) .
وسبب آخر أنهم تقوّلوا بكلمات كلها كفر وإلحاد , ونقل عن الباطنية والتشيع والفرق الباطلة الأخرى , فلما سمع العلماء هذه المقولات كفروهم بها , ورموهم بالإلحاد والزندقة فلم يسعهم آنذاك إلا القول بالظاهر والباطن , والهروب إلى التأويل , وفي كتب التصوف أمثلة كثيرة مبعثرة في ذلك .
فمثلا الطوسي يذكر متصوفة كثيرين رموا بالزندقة والإلحاد , ولكنه يبرّء ساحتهم من هذه التهم بهذه المقولة , فمثلا يقول عن عبد الله الحسين بن مكي الصبيحي أنه ( تكلم بشيء من علم الأسماء والصفات وعلم الحروف فكفره أبو عبد الله الزبيري , وهيّج عليه العامة , فقال : إن سهل بن عبد الله قال له : نحن فتحنا للناس جراب الهلتيت فلم يصبروا علينا , فلم كلمتهم أنت بما لا يعرفون , فكان ذلك سبب خروجه من البصرة , ثم قال : وكان إذا تكلم بعلوم المعارف يدهش العالم ) .
ومثل ذلك ذكر أبا سعيد أحمد بن عيسى الخراز فقال : ( أنكر عليه جماعة من العلماء , ونسبوه إلى الكفر بألفاظ وجدوها في كتاب صنّفه وهو : كتاب السرّ , فلم يفهموا معناه , وهو قوله : عبد رجع إلى الله , وتعلق بالذكر , وذكر في قرب الله وطالع ما أذن له من التعظيم لله , ونسي نفسه وما سوى الله , فلو قلت له : من أين أنت وأين تريد ؟ لم يكن جواب غير قول ( الله ) ) .
هذا , وذكر الآخرين كذلك , وقبل ذلك عللّ سبب تكفير العلماء إياهم بقوله :
( فمنهم قوم لم يفهموا معاني ما أشاروا إليه في كلامهم من غامض العلم وجليل الخطب , ولم يكن لهم زاجر من العقل ولا واعظ من الدين أن يستبحثوا عن المعاني التي أشكلت عليهم ويسألوا ذلك عن أهلها , وقاسوا من ذلك بما علموا من العلوم المبثوثة بين عوام الناس حتى هلكوا ) .
والأمثلة في هذا الباب كثيرة لا تعدّ ولا تحصى .
وأخيرا يحسن بنا أن نورد بعض الأمثلة للتأويلات الصوفية في القرآن والحديث النبوي الشريف لتمام الفائدة وإكمال البحث .
فيذكر ابن عطاء الله الإسكندري في لطائفه نقلا عن بعض مشائخه أنه فسّر الآية { يهب لمن يشاء إناثا } الحسنات { ويهب لمن يشاء الذكور } العلوم , { ويجعل من يشاء عقيما } لا علم ولا حسنة , كما مضى أيضا من قول الله عز وجل : { إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة } . فقال الشيخ : بقرة كل إنسان نفسه , والله يأمرك بذبحها , وكما سيأتي إن شاء الله في تفسير الأحاديث , فذلك ليس إحالة للظاهر عن ظاهره , ولكن ظاهر الآية مفهوم منه ما جلبت له الآية , ودلت عليه في عرف اللسان , وثمّ أفهام باطنة تفهم عند الآية والحديث , لمن فتح الله على قلبه ) .
وقال الجيلي مفسرا قول الله عز وجل : { هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا } يقول في تفسيره : ( اتفقت العلماء على أن ( هل ) في هذا الموضوع بمعنى قد : يعني قد أتى الإنسان حين من الدهر , والهر هو الله , والحين تجل من تجلياته ( لم يكن شيئا ) يعني أن الإنسان لم يكن شيئا ( مذكورا ) , ولا وجود له في ذلك التجلي , لا من حيث الوجود العيني ولا من حيث العملي , لأنه لم يكن شيئا مذكورا , فلم يكن معلوما , وهذا التجلي هو أزل الحق الذي لنفسه ) .
ثم يؤوّل الجيلي الصوم والصلاة والزكاة والحج تأويلا باطنيا محضا , كالإسماعيلية تماما , فيقول : ( وأما الصلاة فإنها عبارة عن واحدية الحق تعالى , وإقامتها إشارة إلى إقامة ناموس الواحدية بالاتصاف بسائر الأسماء والصفات , فالطهر عبارة عن الطهارة من النقائص الكونية ... وقراءة الفاتحة إشارة إلى وجود كماله في الإنسان لأن الإنسان هو فاتحة الوجود ....
وأما الزكاة فعبارة عن التزكي بإيثار الحق على الخلق ... وأما كونه واحدا في كل أربعين في العين فلأن الوجود له أربعون مرتبة , والمطلوب المرتبة الإلهية , فهي المرتبة العليا , وهي واحدة من أربعين ... | |
| | | | المنْشَأ وَالمَصَادِر تأليف الأستاذ إحسان إلهي ظهير | |
|
مواضيع مماثلة | |
|
| صلاحيات هذا المنتدى: | لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
| |
| |
| |
|