ذكر مراسلة الكوفيين الحسين بن علي
ليسير إليهم وقتل مسلم بن عقيل
لما خرج الحسين من المدينة إلى مكة لقيه عبد الله بن مطيع فقال له: جعلت فداك! أين تريد؟ قال: أما الآن فمكة، وأما بعد فإني أستخير الله. قال: خار الله لك وجعلنا فداك! فإذا أتيت مكة فإياك أن تقرب الكوفة فإنها بلدة مشؤومة بها قتل أبوك وخذل أخوك واغتيل بطعنة كادت تأتي على نفسه، الزم الحرم فإنك سيد العرب لا يعدل بك أهل الحجاز أحداً ويتداعى إليك الناس من كل جانب، لا تفارق الحرم، فداك عمي وخالي! فوالله لئن هلكت لنسترقن بعدك.
فأقبل حتى نزل مكة وأهلها مختلفون إليه ويأتونه ومن بها من المعتمرين وأهل الآفاق، وابن الزبير بها قد لزم جانب الكعبة فهو قائم يصلي عندها عامة النهار ويطوف ويأتي الحسين فيمن يأتيه ولا يزال يشير عليه بالرأي، وهو أثقل خلق الله على ابن الزبير، لأن أهل الحجاز لا يبايعونه ما دام الحسين باقياً بالبلد.
ولما بلغ أهل الكوفة موت معاوية وامتناع الحسين وابن عمر وابن الزبير عن البيعة أرجفوا بيزيد، واجتمعت الشيعة في منزل سليمان بن صرد الخزاعي، فذكروا مسير الحسين إلى مكة وكتبوا إليه عن نفر، منهم: سليمان بن صرد الخزاعي، والمسيب بن نجبة، ورفاعة بن شداد، وحبيب بن مظاهر وغيرهم: بسم الله الرحمن الرحيم، سلامٌ عليك، فإننا نحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد فالحمد لله الذي قصم عدوك الجبار العنيد الذي انتزى على هذه الأمة فابتزها أمرها وغصبها فيئها وتأمر عليها بغير رضىً منها ثم قتل خيارها واستبقى شرارها وجعل مال الله دولة بين جبابرتها وأغنيائها، فبعدت له كما بعدت ثمود، وأنه ليس علينا إمام فاقبل لعل الله أن يجمعنا بك على الحق، والنعمان بن بشير في قصر الإمارة لسنا نجتمع معه في جمعة ولا عيد، ولو بلغنا إقبالك إلينا أخرجناه حتى نلحقه بالشام إن شاء الله تعالى، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته. وسيروا الكتاب مع عبد الله بن سبع الهمداني وعبد الله بن والٍ؛ ثم كتبوا إليه كتاباً آخر وسيروه بعد ليلتين، فكتب الناس معه نحواً من مائة وخمسين صحيفة ثم أرسلوا إليه رسولاً ثالثاً يحثونه على المسير إليهم، ثم كتب إليه شبث بن ربعي وحجار بن أبجر ويزيد بن الحارث ويزيد بن رويم وعروة بن قيس وعمرو بن الحجاج الزبيدي ومحمد ابن عمير التميمي بذلك.
فكتب إليهم الحسين عند اجتماع الكتب عنده: أما بعد فقد فهمت كل الذي اقتصصتم وقد بعثت إليكم أخي وابن عمي وثقتي من أهل بيتي مسلم بن عقيل وأمرته أن يكتب إلي بحالكم وأمركم ورأيكم، فإن كتب إلي أنه قد اجتمع رأي ملإكم وذوي الحجى منكم على مثل ما قدمت به رسلكم أقدم إليكم وشيكاً إن شاء الله، فلعمري ما الإمام إلا العامل بالكتاب والقائم بالقسط والدائن بدين الحق، والسلام.
واجتمع ناس من الشيعة بالبصرة في منزل امرأة من عبد القيس يقال لها مارية بنت سعد، وكانت تتشيع، وكان منزلها لهم مألفاً يتحدثون فيه. فعزم يزيد ابن بنيط على الخروج إلى الحسين، وهو من بعد القيس، وكان له بنون عشرة، فقال: أيكم يخرج معي؟ فخرج معه ابنان له: عبد الله وعبيد الله، فساروا فقدموا عليه بمكة ثم ساروا معه فقتلوا معه.
ثم دعا الحسين مسلم بن عقيل فسيره نحو الكوفة وأمره بتقوى الله وكتمان أمره واللطف، فإن رأى الناس مجتمعين له عجل إليه بذلك. فأقبل مسلم إلى المدينة فصلى في مسجد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وودع أهله واستأجر دليلين من قيس، فأقبلا به، فضلا الطريق وعطشوا، فمات الدليلان من العطش وقالا لمسلم: هذا الطريق إلى الماء. فكتب مسلم إلى الحسين: إني اقبلت إلى المدينة واستأجرت دليلين فضلا الطريق واشتد عليهما العطش فماتا، واقبلنا حتى انتهينا إلى الماء فلم ننج إلا بحشاشة أنفسنا، وذلك الماء بمكان يدعى المضيق من بطن الخبيث، وقد تطيرت، فإن رأتي أعفيتني وبعثت غيري. فكتب إليه الحسين: أما بعد فقد خشيت أن لا يكون حملك على الكتاب إلي إلا الجبن، فامض لوجهك، والسلام.
فسار مسلم حتى أتى الكوفة ونزل في دار المختار، وقيل غيرها، وأقبلت الشيعة تختلف إليه، فكلما اجتمعت إليه جماعة منهم قرأ عليهم كتاب الحسين فيبكون ويعدونه من أنفسهم القتال والنصرة، واختلفت إليه الشيعة حتى علم بمكانه وبلغ ذلك النعمان بن بشير، وهو أمير الكوفة، فصعد المنبر فقال: أما بعد فلا تسارعوا إلى الفتنة والفرقة، فإن فيهما تهلك الرجال وتسفك الدماء وتغصب الأموال. وكان حليماً ناسكاً يحب العافية، ثم قال: إني لا أقاتل من لم يقاتلني، ولا أثب على من لا يثب علي، ولا أنبه نائمكم، ولا أتحرش بكم، ولا آخذ بالقرف ولا الظنة ولا التهمة، ولكنكم إن أبديتم صفحتكم، ونكثتم بيعتكم، وخالفتم إمامكم فوالله الذي لا إله غيره لأضربنكم بسيفي ما ثبت قائمة بيدي، ولو لم يكن لي منكم ناصر ولا معين، أما إني أرجو أن يكون من يعرف الحق منكم أكثر ممن يرديه الباطل.
فقام إليه عبد الله بن مسلم بن سعيد الحضرمي حليف بني أمية فقال: إنه لا يصلح ما ترى إلا الغشم، إن هذا الذي أنت عليه رأي المستضعفين. فقال: أكون من المستضعفين في طاعة الله أحب إلي من أن أكون من الأعزين في معصية الله. ونزل. فكتب عبد الله بن مسلم إلى يزيد يخبره بقدوم مسلم بن عقيل الكوفة ومبايعة الناس له، ويقول له: إن كان لك في الكوفة حاجة فابعث إليها رجلاً قوياً ينفذ أمرك ويعمل مثل عملك في عدوك، فإن النعمان رجل ضعيف أو هو يتضعف. وكان هو أول من كتب إليهم، ثم كتب إليه عمارة بن الوليد بن عقبة وعمرو بن سعد بن أبي وقاص بنحو ذلك.
فلما اجتمعت الكتب عند يزيد دعا سرجون مولى معاوية فأقرأه الكتب واستشاره فيمن يوليه الكوفة، وكان يزيد عاتباً على عبيد الله بن زياد، فقال له سرجون: أرأيت لو نشر لك معاوية كنت تأخذ برأيه؟ قال: نعم. قال: فأخرج عهد عبيد الله على الكوفة. فقال: هذا رأي معاوية، ومات وقد أمر بهذا الكتاب. فأخذ برأيه وجمع الكوفة والبصرة لعبيد الله وكتب إليه بعهده وسيره إليه مع مسلم بن عمرو الباهلي والد قتيبة، فأمره بطلب مسلم بن عقيل وبقتله أو نفيه. فلما وصل كتابه إلى عبيد الله أمر بالتجهز ليبرز من الغد.
وكان الحسين قد كتب إلى أهل البصرة نسخةً واحدة إلى الأشراف، فكتب إلى مالك بن مسمع البكري، والأحنف بن قيس، والمنذر بن الجارود، ومسعود بن عمرو، وقيس بن الهيثم، وعمر بن عبيد الله بن معمر، يدعوهم إلى كتاب الله وسنة رسوله، وأن السنة قد ماتت والبدعة قد أحييت، فكلهم كتموا كتابه إلا المنذر بن الجارود فإنه خاف أن يكون دسيساً من ابن زياد، فأتاه بالرسول والكتاب فضرب عنق الرسول وخطب الناس وقال:
أما بعد فوالله ما بي تقرن الصعبة، وما يقعقع لي بالشنان، وإني لنكلٌ لمن عاداني وسلمٌ لمن حاربني، وأنصف القارة من راماها، يا أهل البصرة إن أمير المؤمنين قد ولاني الكوفة وأنا غادٍ إليها بالغداة وقد استخلفت عليكم أخي عثمان بن زياد، فإياكم والخلاف والإرجاف، فوالله لئن بلغني عن رجل منكم خلاف لأقتلنه وعريفه ووليه، ولآخذن الأدنى بالأقصى، حتى تستقيموا ولا يكون فيكم مخالف ولا مشاق، وإني أنا ابن زياد أشبهته من بين من وطىء الحصى فلم ينتزعني شبه خال ولا ابن عم.
ثم خرج من البصرة ومعه مسلم بن عمرو الباهلي وشريك بن الأعور الحارثي وحشمة وأهل بيته، وكان شريك شيعياً، وقيل: كان معه خمسمائة فتساقطوا عنه، فكان أول من سقط شريك، ورجوا أن يقف عليهم ويسبقه الحسين إلى الكوفة، فلم يقف على أحد منهم حتى دخل الكوفة وحده، فجعل يمر بالمجالس فلا يشكون أنه الحسين فيقولون: مرحباً بك يا ابن رسول الله! وهو لا يكلمهم، وخرج إليه الناس من دورهم، فساءه ما رأى منهم، وسمع النعمان فأغلق عليه الباب وهو لا يشك أنه الحسين، وانتهى إليه عبيد الله ومعه الخلق يصيحون، فقال له النعمان: أنشدك الله ألا تنحيت عني! فوالله ما أنا بمسلم إليك أمانتي وما لي في قتالك من حاجة! فدنا منه عبيد الله وقال له: افتح لا فتحت - فسمعها إنسان خلفه فرجع إلى الناس وقال لهم: إنه ابن مرجانة. ففتح له النعمان فدخل، وأغلقوا الباب وتفرق الناس، وأصبح فجلس على المنبر، وقيل: بل خطبهم من يومه فقال: أما بعد فإن أمير المؤمنين ولاني مصركم وثغركم وفيئكم، وأمرني بإنصاف مظلومكم، وإعطاء محرومكم، وبالإحسان إلى سامعكم ومطيعكم، وبالشدة على مريبكم وعاصيكم، وأنا متبع فيكم أمره، ومنفذٌ فيكم عهده، فأنا لمحسنكم كالوالد البر، ولمطيعكم كالأخ الشقيق، وسيفي وسوطي على من ترك أمري وخالف عهدي، فليبق امرء على نفسه.
ثم نزل فأخذ العرفاء والناس أخذاً شديداً وقال: اكتبوا إلي الغرباء، ومن فيكم من طلبة أمير المؤمنين، ومن فيكم من الحرورية وأهل الريب الذين رأيهم الخلاف والشقاق، فمن كتبهم إلي فبرىء، ومن لم يكتب لنا أحداً فليضمن لنا ما في عرافته أن لا يخالفنا فيهم مخالف ولا يبغي علينا منهم باغٍ، فمن لم يفعل فبرئت منه الذمة وحلال لنا دمه وماله، وأيما عريف وجد في عرافته من بغية أمير المؤمنين أحدٌ لم يرفعه إلينا صلب على باب داره وألقيت تلك العرافة من العطاء وسير إلى موضع بعمان الزارة. ثم نزل.
وسمع مسلم بمقالة عبيد الله فخرج من دار المختار وأتى دار هانىء بن عروة المرادي فدخل بابه واستدعى هانئاً، فخرج إليه، فلما رآه كره مكانه فقال له مسلم: أتيتك لتجيرني وتضيفني. فقال له هانىء: لقد كلفتني شططاً، ولولا دخولك داري لأحببت أن تنصرف عني، غير أنه يأخذني من ذلك ذمام، ادخل. فآواه، فاختلفت الشيعة إليه في دار هانىء.
ودعا ابن زياد مولى له وأعطاه ثلاثة آلاف درهم وقال له: اطلب مسلم ابن عقيل وأصحابه والقهم وأعطهم هذا المال وأعلمههم أنك منهم واعلم أخبارهم. ففعل ذلك وأتى مسلم بن عوسجة الأسدي بالمسجد فسمع الناس يقولون: هذا يبايع للحسين، وهو يصلي، فلما فرغ من صلاته قال له: يا عبد الله إني امرؤ من أهل الشام أنعم الله علي بحب أهل هذا البيت، وهذه ثلاثة آلاف درهم أردت بها لقاء رجل منهم بلغني أنه قدم الكوفة يبايع لابن بنت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وقد سمعت نفراً يقولون إنك تعلم أمر هذا البيت وإني أتيتك لتقبض المال وتدخلني على صاحبك أبايعه، وإن شئت أخذت بيعتي له قبل لقائي إياه.
فقال: لقد سرني لقاؤك إياي لتنال الذي تحب وينصر الله بك أهل بيت نبيه، وقد ساءني معرفة الناس هذا الأمر مني قبل أن يتم مخافة هذا الطاغية وسطوته. فأخذ بيعته والمواثيق المعظمة ليناصحن وليكتمن، واختلف إليه أياماً ليدخله على مسلم بن عقيل.
ومرض هانىء بن عروة، فأتاه عبيد الله يعوده، فقال له عمارة بن عبد السلولي: إنما جماعتنا وكيدنا قتل هذا الطاغية وقد أمكنك الله فاقتله. فقال هانىء: ما أحب أن يقتل في داري. وجاء ابن زياد فجلس عنده ثم خرج، فما مكث إلا جمعة حتى مرض شريك بن الأعور، وكان قد نزل على هانىء وكان كريماً على ابن زياد وعلى غيره من الأمراء، وكان شديد التشيع، قد شهد صفين مع عمار، فأرسل إليه عبيد الله: إني رائحٌ إليك العشية. فقال لمسلم: إن هذا الفاجر عائدي العشية فإذا جلس اخرج إليه فاقتله ثم اقعد في القصر ليس أحد يحول بينك وبينه، فإن برأت من وجعي سرت إلى البصرة حتى أكفيك أمرها. فلما كان من العشي أتاه عبيد الله، فقام مسلم بن عقيل ليدخل، فقال له شريك: لا يفوتنك إذا جلس. فقال هانىء بن عروة: لا أحب أن يقتل في داري. فجاء عبيد الله فجلس وسأل شريكاً عن مرضه، فأطال، فلما رأى شريك أن مسلماً لا يخرج خشي أن يفوته فأخذ يقول:
ما تنظرون بسلمى لا تحيوها ... اسقونيها وإن كانت بها نفسي
فقال ذلك مرتين أو ثلاثاً، فقال عبيد الله: ما شأنه؟ أترونه يخلط؟ فقال له هانىء: نعم، ما زال هذا دأبه قبيل الصبح حتى ساعته هذه، فانصرف.