| كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير | |
|
|
|
كاتب الموضوع | رسالة |
---|
الشيخ عودة الشيخ عودة
عدد المساهمات : 1748 تاريخ التسجيل : 28/09/2008 العمر : 74
| موضوع: كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير الخميس فبراير 06, 2014 8:22 am | |
| كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير
المجلد الأول بسم الله الرحمن الرحيم الحمد للّه القديم فلا أول لوجوده، الدائم الكريم فلا آخر لبقائه ولا نهاية لجوده، الملك حقاً فلا تدرك العقول حقيقة كنهه، القادر فكلّ ما في العالم من أثر قدرته، المقدّس فلا تقرب الحوادث حماه، المنزَّهِ عن التغيير فلا ينجو منه سواه، مصرّف الخلائق بين رفع وخفض، وبسط وقبض، وإبرام ونقض، وإماتة وإحياء، وإيجاد وإفناء، وإسعاد وإضلال، وإعزاز وإذلال، يؤتي الملك من يشاء، وينزعه ممن يشاء، ويعز من يشاء، ويذلّ من يشاء، بيده الخير وهو على كل شيء قدير، مبيد القرون السالفة، والأمم الخالفة، لم يمنعهم منه ما تخذوه معقلاً وحرزاً ف (هل تحسّ منهم من أحد أو تسمع لهم ركزاً) مريم 19 : 98، بتقديره النفع والضرّ، (له الخلق والأمر، تبارك الله رب العالمين) الأعراف 7 : 54. أحمده علي ما أولى من نعمه، وأجذل للناس من قسمه، وأصلي على رسوله محمد سيد العرب والعجم، المبعوث الى جميع الأمم، وعلى آله وأصحابه أعلام الهدى ومصابيح الظّلم، صلى الله عليه وسلم. أمّا بعد، فإني لم أزل محبّاً لمطالعة كتب التواريخ ومعرفة ما فيها، مؤثراً للاطلاع على الجليّ من حوادثها وخافيها، مائلاً إلى المعارف والآداب والتجارب المودعة في مطاويها، فلمّا تأمّلتها رأيتها متباينةً في تحصيل الغرض، يكاد جوهر المعرفة بها يستحيل إلى العرض، فمن بين مطوّل قد استقصى الطرق والروايات، ومختصر قد أخلّ بكثير ممّا هو آت، ومع ذلك فقد ترك كلّهم العظيم من الحادثات، والمشهور من الكائنات، وسوّد كثيرٌ منهم الأوراق بصغائر الأمور التي الإعراض عنها أولى، وترك تسطيرها أحى، كقولهم خلع فلان الذميّ صاحب العيار، وزاد رطلاً في الأسعار، وأكرم فلان، وأهين فلان، وقد أرّخ كلّ منهم إلى زمانه وجاء بعده من ذيل عليه، وأضاف المتجددات بعد تاريخه إليه، والشرقيّ منهم قد أخلّ بذكر أخبار الغرب، والغربيّ قد أهمل أحوال الشرق؛ فكان الطالب إذا أراد أن يطالع تاريخاً متصلاً إلى وقته يحتاج إلى مجلدات كثيرة وكتب متعددّة مع ما فيها من الإخلال والإملال. فلمّا رأيتُ الأمر كذلك شرعتُ في تأليف تاريخ جامع لأخبار ملوك الشرق والغرب وما بينهما، ليكون تذكرةً لي أراجعه خوف النسيان، وآتي فيه بالحوادث والكائنات من أوّل الزمان، متتابعةً يتلو بعضها بعضاً إلى وقتنا هذا. ولا أقولُ إني أتيتُ على جميع الحوادث المتعلّقة بالتاريخ، فإنّ من هو بالموصل لا بدّ أن يشذّ عنه ما هو بأقصي الشرق والغرب، ولكن أقول إنني قد جمعت في كتابي هذا ما لم يجتمع في كتاب واحد، ومن تأمّله علم صحّة ذلك. فابتدأت بالتاريخ الكبير الذي صنّفه الإمام أبو جعفر الطبريّ إذ هو الكتاب المعوّل عند الكافة عليه، والمرجوعُ عند الاختلاف إليه، فأخذت ما فيه من جميع تراجمه، لم زخلّ بترجمة واحدة منها، وقد ذكر هو في أكثر الحوادث روايات ذوات عدد، كلّ رواية منها مثل التي قبلها أو أقل منها، وربّما زاد الشيء اليسير أو نقصه، فقصدتُ أتمّ الروايات فنقلتها وأضفت إليها من غيرها ما ليس فيها، وأودعت كل شيء مكانه، فجاء جميع ما في تلك الحادثة على اختلاف طرقها سياقاً واحداً على ما تراه. فلمّا فرغتُ منه وأخذتُ غيره من التواريخ المشهورة فطالعتها وأضفت منها الى ما نقلته من تاريخ الطبري ما ليس فيه، ووضعتُ كلّ شيء منها موضعه، إلاّ ما يتعلّق بما جري بين أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فإني لم أضف إلى ما نقله أبو جعفر شيئاً، إلاّ ما فيه زيادةُ بيان، أو اسم إنسان، أو ما لا يطعن على أحد منهم في نقله، وإنّما اعتمدت علهي من بين المؤرخين إذ هو الإمام المتقنُ حقّاً، الجامع علماً وصحّة اعتقاده وصدقاً. على أني لم أنقل إلاّ من التواريخ المذكورة، والكتب المشهورة، ممّن يُعلم بصدقهم فيما نقلوه، وصحّة ما دوّنوه، ولم أكن كالخابط في ظلماء الليالي، ولا كمن يجمع الحصباءواللآلي. ورأيتهم أيضاً يذكرون الحادثة الواحدة في سنين، ويذكرون منها في كلّ شهر أشياء، فتأتي الحادثةُ مقطّعة لا يحصل منها على غرض، ولا تُفهم إلاّ بعد إمعان النظر، فجمعت أنا الحادثة في موضع واحد وذكرت كلّ شيء منها في أيّ شهر أو سنة كانت، فأتت متناسقة متتابعة، قد أخذ بعضها برقاب بعض.
وذكرت في كلّ سنة لكلّ حادثة كبيرة مشهورة ترجمة تخصّها، فأمّا الحوادث الصغار التي لا يحتمل منها كلّ شيء ترجمة فإني أفردتُ لجميعها ترجمةً واحدةً في آخر كلّ سنة، فأقول: ذكر عدة حوادث، وإذا ذكرت بعض من نبغ وملك قطراً من البلاد ولم تطل أيّامه فإني أذكر جميع حاله من أوّله إلى آخره، عند ابتداء أمره، لأنّه إذا تفرق خبره لم يعرف للجهل به. وذكرت في آخر كلّ سنة من توفّي فيها من مشهوري العلماء والأعيان والفضلاء، وضبطت الأسماء المشتبهة المؤتلفة في الخط المختلفة في اللّفظ الواردة فيه بالحروف ضبطاً يزيل الإشكال، ويُغني عن الأنقاط والأشكال. فلما جمعتُ أكثره أعرضتُ عنه مدّةً طويلة لحوادث تجددت، وقواطع توالت وتعدّدت، ولأن معرفتي بهذا النوع كملت وتمت. ثمّ إن نفراً من إخواني، وذوي المعارف والفضائل من خُلاّني، ممن أرى محادثتهم نهاية أوطاري، وأعدّهم من أماثل مُجالسيّ وسمّاري، رغبوا إليّ في أن يسمعوه مني، ليرووه عني؛ فاعتذرتُ بالأعراض عنه وعدم الفراغ منه، فإنني لم أعاود مطالعة مسوَّدته ولم أصلح ما أصلح فيها من غلط وسهو، ولا اسقطت منها ما يحتاج إلى إسقاط ومحو، وطالت المراجعة مدّةً وهم للطلب ملازمون، وعن الإعراض مُعرضون، وشرعوا في سماعه قبل إتمامه وإصلاحه، وإثبات ما تمسّ الحاجة إليه وحذف ما لا بدّ من اطراحه، والعزمُ على إتمامه فاتر، والعجز ظاهر، للاشتغال بما لا بدّ منه، لعدم المعين والمظاهر؛ ولهموم توالت، ونوائب تتابعت، فأنا ملازم الإهما والتواني، فلا أقول: إني لأسير إليه سير الشواني. فبينما الأمر كذلك إذ برز أمرُ من طاعته فرض واجب، واتّباع أمره حكم لازب، من أعلاق الفضل بإقباله عليها نافقة، وأرواح الجهل بإعراضه عنها نافقة، من أحيا المكارم وكانت أمواتاً، وأعادها خلقاً جديداً بعد أن كانت رفاتاً؛ من عمّ رعيّته عدله ونواله، وشملهم إحسانه وإفضاله، مولانا مالك الملك الرحيم، العالم المؤيّد، المنصور، المظفر بدر الدين، ركن الإسلام والمسلمين، محي العدل في العالمين، خلَد الله دولته. فحينئذ ألقيت عني جلباب المهل، وأبطلت رداء الكسل، وألقيت الدواة وأصلحت القلم، وقلت: هذا زوان الشدّ فاشتدي زيم، وجعلت الفراغ أهم مطلب، وإذا أراد اللّه أمراً هيّأ له السبب، وشرعت في إتمامه مسابقاً، ومن العجب أن السكّيت يروم أن يجيء سابقاً، ونصبت نفسي غرضاً للسهام، وجعلتها مظنّة لأقوال اللّوام، لأن المآخذ إذا كانت تتطرّق إلى التصنيف المهذّب، والاستدراكات تتعلّق بالمجموع المرتَّب، الذي تكرّرت مطالعته وتنقيحه، وأجيد تأليفه وتصحيحه، فهي بغيره أولى، وبه أحرى، على أنّي مقرّ بالتقصير، فلا أقول إن الغلط سهو جرى به القلم، بل أعترف بأن ما أجهل أكثر ممّا أعلم. وقد سمّيته اسماً يناسب معناه، وهو: الكامل في التاريخ. ولقد رأيت جماعة ممّن يدّعي المعرفة والدراية، ويظنّ بنفسه التبحّر في العلم والرواية، يحتقر التواريخ ويزدريها، ويعرض عنها ويلغيها، ظنّاً منه أن غاية فائدتها إنّما هو القصص والأخبار، ونهاية معرفتها الأحاديث والأسمار، وهذه حال من اقتصر على القشر دون اللبّ فنظره، وأصبح مخشلباً جوهره، ومن رزقه اللّه طبعاً سليماً، وهداه صراطاً مستقيماً، علم أنّ فوائدها كثيرة، ومنافعها الدنيويّة والأخرويّة جمّة غزيرة، وها نحن نذكر شيئاً ممّا ظهر لنا فيها، ونكل إلى قريحة الناظر فيه معرفة باقيها. فزمّا فوائدها الدنيويّة فمنها: أنّ الإنسان لا يخفى أنّه يحبّ البقاء، ويؤثرُ أن يكون في زمرة الأحياء، فيا ليت شعري أيّ فرق بين ما رآه أمس أو سمعه، وبين ما قرأه في الكتب المتضمنة أخبار الماضين وحوادث المتقدمين؟ فإذا طالعها فكأنّه عاصرهم، وإذا علمها فكأنّه حاضرهم.
ومنها: أن الملوك ومن إليهم الأمر والنهي إذا وقفوا على ما فيها من سيرة أهل الجور والعدوان ورأها مدوّنةً في الكتب يتناقلها الناس، فيرويها خلف عن سلف، ونظروا الى ما أعقبت من سوء الذكر، وقبيح الأحدوثة، وخراب البلاد، وهلاك العباد، وذهاب الأموال، وفساد الأحوال، استقبحوها، وأعرضوا عنها واطَّرحوها، وإذا رأوا سيرة الولاة العادلين وحسنها، وما يتبعهم من الذكر الجميل بعد ذهابهم، وأنّ بلادهم وممالكهم عمرت، وأموالهم درّت، استحسنوا ذلك ورغبوا فيه، وثابروا عليه وتركوا ما يُنافيه، هذا سوى ما يحصل لهم من معرفة الآراء الصائبة التي دفعوا بها مضرات الأعداء، وخلصوا بها من المهالك، واستصانوا نفائس المدن وعظيم الممالك، ولو لم يكن فيها غير هذا لكفى به فخراً. ومنها ما يحصل للإنسان من التجارب والمعرفة بالحوادث وما تصير إليه عواقبها، فإنّه لا يحدث أمر إلاّ قد تقدّم هو أو نظيره، فيزداد بذلك عقلاً، ويصبح لأن يقتدى به أهلاً، ولقد أحسن القائل حيث يقول شعراً: رأيت العقل عقلين ... فمطبوعٌ ومسموع فلا ينفع مسموع ... إذا لم يك مطبوع كما لا تنفع الشمس ... وضوء العين ممنوع يعني بالمطبوع العقل الغريزي الذي خلقه الله تعالى للإنسان، وبالمسموع ما يزداد به العقل الغريزي من التجربة، وجعله عقلاً ثانياً توسّعاً وتعظيماً له، وإلاّ فهو زيادة في عقله الأوّل. ومنها ما يتجمّل به الإنسان في المجالس والمحافل من ذكر شيء من معارفها، ونقل طريفة من طرائفها، فترى الأسماع مصغيةً إليه، والوجوه مقبلةً عليه، والقلوب متأملةً ما يورده ويصدره، مستحسنةً ما يذكره. وأمّا الفوائد الأخرويّة: فمنها أن العاقل اللبيب إذا تفكّر فيها، ورأى تقلّب الدنيا بأهلها، وتتابع نكباتها إلى أعيان قاطنيها، وأنّها سلبت نفوسهم وذخائرهم، وأعدمت أصاغرهم وأكابرهم، فلم تُبقِ على جليل ولا حقير، ولم يسلم من نكدها غنيّ ولا فقير، زهد فيها وأعرض عنها، وأقبل على التزوّد للآخرة منها، ورغب في دار تنزّهت عن هذه الخصائص، وسلم أهلها من هذه النقائص، ولعلّ قائلاً يقول: ما نرى ناظراً فيها زهد في الدنيا، وأقبل على الآخرة ورغب في درجاتها العليا، فيا ليت شعري كم رأى هذا القائل قارئاً، للقرآن العزيز، وهو سيّد المواعظ وأفصح الكلام، يطلب به اليسير من هذا الحطام؟ فإنّ القلوب مولعة بحبّ العاجل. ومنها التخلّق بالصبر والتأسّي وهما من محاسن الأخلاق، فإن العاقل إذا رأى أن مصاب الدنيا لم يسلم منه نبي مكرَّم، ولا ملك معظّم، بل ولا أحد من البشر، علم أنه يصيبه ما أصابهم، وينوبه ما نابهم. ولهذه الحكمة وردت القصص في القرآن المجيد (إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد) ق:50 : 37، فإن ظنّ هذا القائل أن الله سبحانه أراد بذكرها الحكايات والأسمار فقد تمسّك من أقوال الزيغ بمحكم سببها حيث قالوا: هذه أساطير الأوّلين اكتتبها. نسأل الله تعالى أن يرزقنا قلباً عقولاً ولساناً وصادقاً، ويوفقنا للسداد في القول والعمل، هو حسبنا ونعم الوكيل. ذكر الوقت الذي ابتدئ فيه بعمل التاريخ في الإسلام قيل: لما قدم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، المدينة أمر بعمل التاريخ، والصحيح المشهور أن عمر بن الخطاب أمر بوضع التاريخ. وسبب ذلك أن أبا موسى الأشعري كتب إلى عمر: إنّه يزتينا منك كتب ليس لها تاريخ، فجمع عمر الناس للمشورة، فقال بعضهم: أرّخْ لمبعث النبيّ، صلى الله عليه وسلم، وقال بعضهم: لمهاجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عمر: بل نؤرخ لمهاجرة رسول الله، فإن مهاجرته فرق بين الحق والباطل؛ قاله الشعبيّ. وقال ميمون بن مهران: رفع إلى عمر صكّ محلّه شعبان فقال: أيّ شعبان؟ أشعبان الذي هو آتٍ أم شعبان الذي نحن فيه؟ ثمّ قال لأصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم: ضعوا للناس شيئاً يعرفونه، فقال بعضهم: اكتبوا علي تاريخ الروم فإنهم يؤرخون من عهد ذي القرنين، فقال: هذا يطول، فقال: اكتبوا على تاريخ الفرس، فقيل: إن الفرس كلّما قام ملك طرح تاريخ من كان قبله، فاجتمع رأيهم على أن ينظروا كم أقام رسول الله بالمدينة، فوجدوه عشر سنين، فكتبوا التاريخ من هجرة رسول الله، صلى الله عليه وسلم.
وقال محمد بن سيرين: قام رجل إلى عمر فقال: أرّخوا، فقال عمر: ما أرّخوا؟ فقال: شيء تفعله الأعاجم في شهر كذا من سنة كذا، فقال عمر: حسن، فأرّخوا، فاتفقوا على الهجرة ثم قالوا: من أي الشهور؟ فقالوا: من رمضان، ثمّ قالوا: فالمحرم هو منصرف الناس من حجهم وهو شهر حرام، فأجمعوا عليه. وقال سعيد بن المسيب: جمع عمر الناس فقال: من أيّ يوم نكتب التاريخ؟ فقال عليّ: من مهاجرة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وفراقه أرض الشرك، ففعله عمر. وقال عمرو بن دينار: أوّل من أرّخ يعلى بن أميّة وهو باليمن. وأمّا قبل الإسلام فقد كان بنو ابراهيم يؤرخون من نار إبراهيم إلى بنيان البيت حين بناه ابراهيم واسماعيل، عليهما السلام، ثمّ أرّخ بنو اسماعيل من بنيان البيت حتى تفرقوا، فكان كلّما خرج قومٌ من تهامة أرخوا بمخرجهم، ومن بقي بتهامة من بني اسماعيل يؤرخون من خروج سعد ونهد وجهينة بني زيد من تهامة حتى مات كعب بن لؤي وأرّخوا من موته إلى الفيل، ثمّ كان التاريخ من الفيل حتى أرّخ عمر بن الخطاب من الهجرة، وذلك سنة سبع عشرة أو ثماني عشرة. وقد كان كلّ طائفة من العرب تؤرّخ بالحادثات المشهورة فيها، ولم يكن لهم تاريخ يجمعهم، فمن ذلك قول بعضهم: ها أنا ذا آمل الخلود وقد ... أدرك عقلي مولدي حجرا وقال الجعديّ: فمن يك سائلاً عني فإني ... من الشبّان أيّام الختان وقال آخر: وما هي إلاّ في إزار وعلقة ... بغار ابن همّام على حيّ خثعما وكلّ واحد أرّخ بحادث مشهور عندهم، فلو كان لهم تاريخ يجمعهم لم يختلفوا في التاريخ، واللّه أعلم. القول في الزمانالزمانُ عبارة عن ساعات الليل والنهار، وقد يقال ذلك للطويل والقصير منهما، والعرب تقول: أتيتك زمان الصّرام؛ وزمان الصّرام يعني به وقت الصّرام، وكذلك: أتيتك أزمان الحجّاج أمير، ويجمعون الزمان يريدون بذلك أنّ كلّ وقت من أوقات إمارته زمن من الأزمنة. القول في جميع الزمان من أوله إلى آخره اختلف الناس في ذلك فقال ابن عبّاس من رواية سعيد بن جبير عنه: سبعة آلاف سنة. وقال وهب بن منبّه: ستة آلاف سنة، قال أبو جعفر: والصحيح من ذلك ما دلّ على صحته الخبرُ الذي رواه ابن عمر عن النبيّ، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: (أجلكم في أجل من قبلكم، من صلاة العصر إلى مغرب الشمس). وروى نحو هذا المعنى أنس وأبو سعيد إلاّ أنهما قالا إنه قال: إلى غروب الشمس، وبدل صلاة العصر: بعد العصر، وروى أبو هريرة عن البنيّ، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: (بُعثت أنا والساعة كهاتين)، وأشار بالسبابة والوسطى. وروى نحوه جابر بن سمرة، وأنس، وسهل بن سعد، وبريدة بن الحصيب، والمستورد بن شدّاد، وأشياخ من الأنصار كلهم عن النبي، صلى الله عليه وسلم. وهذه أخبار صحيحة. قال: وقد زعم اليهود أن جميع ما ثبت عندهم على ما في التوراة من لدن خلق آدم إلى الهجرة أربعة آلاف سنة وست مئة واثنتان وأربعون سنة. وقالت اليوناينة من النصارى: إن من خلق آدم إلى الهجرة خمسة آلاف سنة وتسع مئة واثنتين وتسعين سنة وشهراً. وزعم قائل أن اليهود إنما نقصوا من السنين دفعاً منهم لنبوة عيسى، إذ كانت صفته ومبعثه في التوراة، وقالوا: لم يأت الوقت الذي في التوراة أن عيسى يكون فيه، فهم ينتظرون بزعمهم خروجه ووقته. قال: وأحسب أن الذي ينتظرونه ويدّعون صفته في التوراة هو الدجال. وقالت المجوس: إن قدر مدة الزمان من لدن ملك جيومرث إلى وقت الهجرة ثلاثة آلاف ومائة وتسع وثلاثون سنة، وهم لا يذكرون مع ذلك شيئاً يُعرف فوق جيومرث ويزعمون أنّه هو آدم. وأهل الأخبار مختلفون فيه، فمن قائل مثل قول المجوس، ومن قائل: إنه يسمى بآدم بعد أن ملك الأقاليم السبعة وإنه حام بن يافث بن نوح، وكان بارّاً بنوح، فدعا له ولذريته بطول العمر، والتمكين في البلاد، واتصال الملك، فاستجيب له، فملك جيومرث وولده الفرس، ولم يزل الملك فيهم إلى أن دخل المسلمون المدائن وغلبوهم على ملكهم، ومن قائل غير ذلك؛ كذا قال أبو جعفر.
قلت: ثمّ ذكر أبو جعفر بعد هذا فصولاً تتضمّن الدلالة على حدوث الأزمان والأوقات، وهل خلق الله قبل خلق الزمان شيئاً أم لا؟ وعلى فناء العالم وأن لا يبقى إلاّ الله تعالى، وأنّه أحدث كلّ شيء، واستدلّ على ذلك بأشياء يطول ذكرها ولا يليق ذلك بالتواريخ لا سيما المختصرات منه، فإنه بعلم الأصول أولى، وقد فرغ المتكلّمون منه في كتبهم فرأينا تركه أولى. بُرَيْدَة: بضم الباء الموحدة وسكون الياء تحتها نقطتان وآخرها هاء. القول في ابتداء الخلق وما كان أولهصحّ في الخبر عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فيما رواه عنه عبادة بن الصامت أنّه سمعه يقول: (إنّ أول ما خلق الله تعالى القلم، وقال له: اكتب، فجرى في تلك الساعة بما هو كائن)، وروي نحو ذلك عن ابن عباس. وقال محمد بن اسحاق: أول ما خلق الله النور والظلمة، فجعل الظلمة ليلاً أسود، وجعل النور نهاراً أبيض مضيئاً، والأول أصحّ للحديث، وابن اسحاق لم يسند قوله إلى أحد. واعترض أبو جعفر علي نفسه بما روى سفيان عن أبي هاشم، عن مجاهد، عن ابن عبّاس أنّه قال: إن اللّه تعالى كان على عرشه قبل أن يخلق شيئاً، فكان أوّل ما خلق اللّه القلم، فجرى بما هو كائن إلى يوم القيامة؛ وأجاب بأن هذا الحديث إن كان صحيحاً فقد رواه شعبة أيضاً عن أبي هاشم ولم يقل فيه: إن الله كان على عرشه، بل روى أنّه قال: أوّل ما خلق الله القلم. القول فيما خُلِق بعد القلم ثمّ إنّ الله خلق، بعد القلم وبعد أن أمره فكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة، سحاباً رقيقاً، وهو الغمام الذي قال فيه النبيّ، صلى الله عليه وسلم، وقد سأله أبو رزين العقيلي: أين كان ربنا قبل أن يخلق الخلق؟ فقال: في غمام ما تحته هواء وما فوقه هواء، ثمّ خلق عرشه على الماء، وهو الغمام الذي ذكره الله في قوله: (هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام) قلت: هذا فيه نظر، لأنه قد تقدم أن أوّل ما خلق الله تعالى القلم وقال له: اكتب، فجرى في تلك الساعة، ثمّ ذكر ي أوّل هذا الفصل أن الله خلق بعد القلم وبعد أن جرى بما هو كائن سحاباً، ومن المعلوم أن الكتابة لا بدّ فيها من آلة يُكتبُ بها، وهو القلم، ومن شيء يكتب فيه، وهو الذي يعبّر عنه ههنا باللوح المحفوظ، وكان ينبغي زن يذكر اللوح المحفوظ ثانياً للقلم، والله أعلم. ويحتمل أن يكون ترك ذكره لزنه معلوم من مفهوم اللفظ بطريق الملازمة. ثمّ اختلف العلماء فيمن خلق الله بعد الغمام، فروى الضحاك بن مزاحم عن ابن عبّاس: أول ما خلق الله العرش، فاستوى عليه، وقال آخرون: خلق الله الماء قبل العرش، وخلق العرش فوضعه على الماء؛ وهو قول أبي صالح عن ابن عباس، وقول ابن مسعود، ووهب بن منبه. وقد قيل: إن الذي خلق الله تعالى بعد القلم الكرسي، ثم العرش، ثم الهواء، ثم الظلمات، ثم الماء فوضع العرش عليه. قال: وقول من قال: إن الماء خلق قبل العرش، أولي بالصواب لحديث أبي رزين عن النبي، صلى الله عليه وسلم، وقد قيل: إن الماء كان على متن الريح حين خلق العرش؛ قاله سعيد بن جبير عن ابن عبّاس، فإن كان كذلك فقد خلقا قبل العرش. وقال غيره: إن الله خلق القلم قبل أن يخلق شيئاً بألف عام. واختلفوا أيضاً في اليوم الذي ابتدأ الله تعالى فيه خلق السموات والأرض، فقال عبد الله بن سلام، وكعب، والضحاك، ومجاهد: ابتداء الخلق يوم الأحد. وقال محمد بن اسحاق: ابتداء الخلق يوم السبت، وكذلك قال أبو هريرة. واختلفوا أيضاً فيما خَلَقَ كلّ يوم، فقال عبد الله بن سلام: إن الله تعالى بدأ الخلق يوم الأحد، فخلق الأرضين يوم الأحد والاثنين، وخلق الأقوات والرواسي في الثلاثاء والأربعاء، وخلق السموات يوم الخميس والجمعة، ففرغ آخر ساعة من الجمعة فخلق فيها آدم، عليه السلام، فتلك الساعة التي تقوم فيها الساعة. ومثله قال ابن مسعود وابن عبّاس من رواية أبي صالح عنه، إلاّ أنّهما لم يذكرا خلق آدم ولا الساعة. وقال ابن عبّاس من رواية عليّ بن أبي طلحة عنه: إنّ الله تعالى خلق الأرض بأقواتها من غير أن يدحوها، ثمّ استوى إلى السماء فسوّاهنّ سبع سموات، ثمّ دحا الأرض بعد ذلك، فذلك قوله تعالى (والأرض بعد ذلك دحاها) النازعات: 79 : 30 وهذا القول عندي هو الصواب.
وقال ابن عبّاس أيضاً من رواية عكرمة عنه: إنّ الله تعالى وضع البيت على الماء على أربعة أركان قبل أن يخلق الدنيا بألفي عام، ثمّ دُحيت الأرض من تحت البيت، ومثله قال ابن عمر. وروى السّديّ عن أبي صالح، وعن أبي مالك عن ابن عبّاس، وعن مُرّة الهمداني وعن ابن مسعود في قوله تعالى: (هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سموات) البقرة: 2 : 29، قال: إن الله عز وجل كان عرشه على الماء، ولم يخلق شيئاً مما خلق قبل الماء، فلما أراد أن يخلق الخلق أخرج من الماء دخاناً، فارتفع فوق الماء، فسما عليه، فسمّاه سماءً، ثمّ أيبس الماء فجعله أرضاً واحدةً، ثمّ فتقها فجعلها سبع أرضين في يومين: يوم الأحد ويوم الأثنين، فخلق الأرض على حوت، والحوت النون الذي ذكره الله تعالى في القرآن في قوله: (ن والقلم) القلم:68 : 1، والحوت في الماء على ظهر صفاة، والصفاة على ظهر ملك، والملك على صخرة، والصخرة في الريح، وهي الصخرة التي ذكرها لقمان ليست في السماء ولا في الأرض، فتحرك الحوتُ، فاضطربت وتزلزلت الأرض، فأرسى عليها الجبال فقرّت، والجبال تفخر على الأرض، فذلك قوله تعالى: (وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بكم)، قال ابن عباس والضحاك ومجاهد وكعب وغيرهم: كل يوم من هذه الأيام الستة التي خلق الله فيها السماء والأرض كألف سنة. قلت: أما ما ورد في هذه الأخبار من أن الله تعالى خلق الأرض في يوم كذا والسماء في يوم كذا، فإنما هو مجاز، وإلا فلم يكن ذلك الوقت أيام وليال، لأن الأيام عبارة عما بين طلوع الشمس وغروبها، والليالي عبارة عما بين غروبها وطلوعها، ولم يكن ذلك الوقت سماء ولا شمس، وإنما المراد به أنه خلق كل شيء بمقدار يوم، كقوله تعالى: (ولهم رزقهم فيها بكرةً وعشيّاً) مريم: 19 : 62 وليس في الجنة بكرة وعشىً. سلام: والدُ عبد الله، بتخفيف اللام. القول في الليل والنهارأيّهما خلق قبل صاحبه قد ذكرنا ما خلق الله تعالى من الأشياء قبل خلق الأوقات، وأن الأزمنة والأوقات إنما هي ساعات الليل والنهار، وأن ذلك إنما هو قطع الشمس والقمر درجات الفلك. فلنذكر الآن بأيّ ذلك كان الابتداء، أبالليل أم بالنهار؟ فإن العلماء اختلفوا في ذلك، فإن بعضهم يقول: إنّ الليل خُلق قبل النهار؛ ويستدلّ على ذلك بأن النهار من نور الشمس فإذا غابت الشمس جاء الليل فبان بذلك أن النهار، وهو النور، وارد على الظلمة التي هي الليل، وإذا لم يرد نور الشمس كان الليل ثابتاً، فدّلّ ذلك على أنّ الليل هو الأوّل؛ وهذا قول ابن عباس. وقال آخرون: كان النهار قبل الليل، واستدلّوا بأن الله تعالى كان ولا شيء معه، ولا ليل ولا نهار، وأن نوره كان يضيءُ به كل شيء خلقه حتى خلق الليل. قال ابن مسعود: إن ربكم ليس عنده ليلٌ ولا نهار، نور السموات من نور وجهه. قال أبو جعفر: والأوّل أولى بالصواب للعلة المذكورة أوّلاً، ولقوله تعالى: (أأنتم أشد خلقاً أم السماء بناها، رفع سمكها فسواها، وأغطش ليلها وأخرج ضحاها) 79 : 27 - 29 فبدأ بالليل قبل النهار. قال عبيد بن عمير الحارثي: كنت عند عليّ فسأله ابن الكوّاء عن السواد الذي في القمر فقال: ذلك آية محيت، وقال ابن عباس مثله، وكذلك قال مجاهد وقتادة وغيرهما، لذلك خلقهما الله تعالى الشمس أنور من القمر. قلت: وروى أبو جعفر ههنا حديثاً طويلاً عدة أوراق عن ابن عبّاس عن النبي، صلى الله عليه وسلم، في خلق الشمس والقمر وسيرهما، فإنهما على عجلتين، لكل عجلة ثلاث مئة وستون عروة، يجرها بعددها من الملائكة، وإنهما يسقطان عن العجلتين فيغوصان في بحر بين السماء والأرض، فذلك كسوفهما، ثم إن الملائكة يخرجونهما فذلك تجليتهما من الكسوف، وذكر الكواكب وسيرها، وطلوع الشمس من مغربها، ثم ذكر مدينة بالمغرب تسمى جابرس وأخرى بالمشرق تسمّى جابلق ولكلّ واحدة منهما، عشرة آلاف باب يحرس كلّ باب منها عشرة آلاف رجل، لا تعود الحراسة إليهم إلى يوم القيامة. وذكر يأجوج ومأجوج ومنسك وثاريس، إلى أشياء أخرى لا حاجة إلى ذكرها، فأعرضت عنها لمنافاتها العقول، ولو صحّ إسنادها لذكرناها وقلنا به، ولكن الحديث غير صحيح، ومثل هذا الأمر العظيم لا يجوز أن يسطر في الكتب بمثل هذا الإسناد الضعيف.
وإذ كنّا قد بيّنا مقدار مدة ما بين أوّل ابتداء الله، عز وجل، في إنشاء ما أراد إنشاءه من خلقه إلى حين فراغه من إنشاء جميعه من سني الدنيا ومدة أزمانها، وكان الغرض في كتابنا هذا ذكر ما قد بينّا أنّا ذاكروه من تاريخ الملوك الجبابرة، والعاصية ربّها والمطيعة ربها، وأزمان الرسل والأنبياء، وكنّا قد أتينا على ذكر ما تصحّ به التأريخات وتُعرف به الأوقات وهو الشمس والقمر، فلنذكر الآن أوّل من أعطاه الله تعالى ملكاً وأنعم عليه فكفر نعمته، وجحد ربوبيّته واستكبر، فسلبه الله نعمته وأخزاه وأذله، ثمّ نتبعه ذكر من استن سنته واقتفى أثره وأحلّ الله به نقمته، ونذكر من كان بإزائه أو بعده من الملوك المطيعة ربها المحمودة آثارها ومن الرسل والأنبياء، إن شاء الله تعالى. قصة إبليس لعنه الله وابتداء أمره وإطغائه آدم عليه السلام فأوّلهم وإمامهم ورئيسهم إبليس، وكان الله تعالى قد حسّن خلقه وشرّفه وملّكه على سماء الدنيا والأرض فيما ذكر، وجعله مع ذلك خازناً من خُزّان الجنّة، فاستكبر على ربّه، وادّعى الربوبية، ودعا من كان تحت يده إلى عبادته، فمسخه الله تعالى شيطاناً رجيماً، وشوّه خلقه، وسلبه ما كان خوله، ولعنه وطرده عن سمواته في العاجل، ثمّ جعل مسكنه ومسكن أتباعه في الآخرة نار جهنم، نعوذ بالله تعالى من نار جهنم ونعوذ بالله تعالى من غضبه ومن الحور بعد الكور. ونبدأ بذكر الأخبار عن السلف بما كان الله أعطاه من الكرامة وبادعائه ما لم يكن له، ونتبع ذلك بذكر أحداث في سلطانه وملكه إلى حين زوال ذلك عنه والسبب الذي به زال عنه، إن شاء الله تعالى. ذكر الأخبار بما كان لإبليس لعنه الله من الملك وذكر الأحداث في ملكه روي عن ابن عباس وابن مسعود أن إبليس كان له ملك سماء الدنيا، وكان من قبيلة من الملائكة يقال لهم الجن، وإنما سمّوا الجنّ لأنهم خزان الجنة، وكان إبليس مع ملكه خازناً، قال ابن عبّاس: ثم إنه عصى الله تعالى فمسخه شيطاناً رجيماً. وروي عن قتادة في قوله تعالى: (ومن يقل منهم إني إله من دونه) الأنبياء: 21 : 29 إنما كانت هذه الآية في إبليس خاصة لما قال ما قال لعنه الله تعالى وجعله شيطاناً رجيماً، وقال: (فذلك نجزيه جهنَّم، كذلك نجزي الظالمين) وروي عن ابن جريح مثله. وأما الأحداث التي كانت في ملكه وسلطانه فمنها ما روي عن الضحّاك عن ان عبّاس قال: كان إبليس من حيّ من أحياء الملائكة يقال لهم الجن، خلقوا من نار السموم من بين الملائكة، وكان خازناً من خزّان الجنة، قال: وخُلقت الملائكة من نور، وخلقت الجن الذين ذكروا في القرآن من مارج من نار، وهو لسان النار الذي يكون في طرفها إذا التهبت، وخلق الإنسان من طين، فأوّل من سكن في الأرض الجن، فاقتتلوا فيها وسفكوا الدماء، وقتل بعضهم بعضاً، قال: فبعث الله تعالى إليهم إبليس في جند من الملائكة، وهم هذا الحيّ الذين يقال لهم الجن، فقاتلهم إبليس ومن معه حتى ألحقهم بجزائر البحور وأطراف الجبال، فلمّا فعل ذلك اغترّ في نفسه وقال: قد صنعتُ ما لم يصنعه أحد، فاطّلع الله تعالى على ذلك من قلبه، ولم يطلع عليه أحد من الملائكة الذين معه. وروي عن أنس نحوه. وروى أبو صالح عن ابن عبّاس ومُرّة الهمداني عن ابن مسعود أنهما قالا: لما فرغ الله تعالى من خلق ما أحبّ استوى على العرش، فجعل إبليس على ملك سماء الدنيا، وكان من قبيل من الملائكة يقال لهم الجن، وإنما سمّوا الجن لأنهم من خزنة الجنّة، وكان إبليس مع ملكه خازناً فوقع في نفسه كبر وقال: ما أعطاني الله تعالى هذا الأمر إلاّ لمزية لي على الملائكة، فاطلع الله على ذلك منه فقال: إني جاعل في الأرض خليفة، قال ابن عباس: وكان اسمه عزازيل وكان من أشدّ الملائكة اجتهاداً وأكثرهم علماً، فدعاه ذلك إلى الكبر، وهذا قولٌ ثالث في سبب كبره. وروى عكرمة عن ابن عباس أن الله تعالى خلق خلقاً، فقال: اسجدوا لآدم، فقالوا: لا نفعل، فبعث عليهم ناراً فأحرقتهم؛ ثمّ خلق خلقاً آخر، فقال: إني خالق بشراً من طين، فاسجدوا لآدم، فأبوا، فبعث الله تعالى عليهم ناراً فأحرقتهم، ثمّ خلق هؤلاء الملائكة فقال: اسجدوا لآدم، قالوا: نعم، وكان إبليس من أولئك الذين لم يسجدوا.
وقال شهر بن حوشب: إن إبليس كان من الجن الذين سكنوا الأرض وطردهم الملائكة، وأسره بعض الملائكة فذهب به إلى السماء، وروي عن سعيد بن مسعود نحو ذلك. وأولى الأقوال بالصواب أن يقال كما قال الله تعالى: (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه) الكهف: 18 : 50 وجائز أن يكون فسوقه من إعجابه بنفسه لكثرة عبادته واجتهاده، وجائز أن يكون لكونه من الجن. ومرّة الهمداني، بسكون الميم، والدال المهملة، نسبة إلى همدان: قبيلة كبيرة من اليمن. ذكر خلق آدم عليه السلامومن الأحاديث في سلطانه خلق أبينا آدم عليه السلام، وذلك لما أراد الله تعالى أن يطلع ملائكته على ما علم من انطواء إبليس على الكبر ولم يعلمه الملائكة حتى دنا أمره من البوار وملكه من الزوال فقال للملائكة: (إني جاعل في الأرض خليفةً، قالوا: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء) البقرة: روي عن ابن عباس أن الملائكة قالت ذلك للذي كانوا عهدوا من أمره وأمر الجنّ الذين كانوا سُكان الأرض قبل ذلك فقالوا لربهم تعالى: أتجعل فيها من يكون مثل الجن الذين كانوا يسفكون الدماء فيها ويفسدون ويعصونك ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك؟ فقال الله لهم: (إني أعلم ما لا تعلمون) يعني من انطواء إبليس على الكبر والعزم على خلاف أمري واغتراره، وأنا مبد ذلك لكم منه لتروه عياناً، فلما أراد الله أن يخلق آدم أمر جبرائيل أن يأتيه بطين من الأرض، فقالت الأرض: أعوذ بالله منك أن تنقص مني وتشينني، فرجع ولم يأخذ منها شيئاً وقال: يا ربّ إنها عاذت بك فأعذتها، فبعث ميكائيل، فاستعاذت منه فأعاذها، فرجع وقال مثل جبرائيل، فبعث إليها ملك الموت فعاذت منه، فقال: أنا أعوذ بالله أن أرجع ولم أنفذ أمر ربي، فأخذ من وجه الأرض فخلطه ولم يأخذ من مكان واحد وأخذ من تربة حمراء وبيضاء وسوداء وطيناً لازباً، فلذلك خرج بنو آدم مختلفين. وروى أبو موسى عن النبي، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: (إن الله تعالى خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض فجاء بنو آدم على قدر الأرض، منهم الأحمر والأسود والأبيض، وبين ذلك، والسهل والحزن، والخبيث والطيّب)، ثم بلّت طينته حتى صارت طيناً لازباً ثم تركت حتى صارت حمأً مسنوناً ثم تركت حتى صارت صلصالاً، كما قال ربّنا، تبارك وتعالى: (ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمأ مسنون)، الحجر:15 : 26 واللازب: الطين الملتزب بعضه ببعض، ثمّ تُرك حتى تغيّر وأنتن وصار حمأً مسنوناً، يعني منتناً، ثمّ صار صلصالاً، وهو الذي له صوت. وإنما سمّي آدم لأنه خلق من أديم الأرض، قال ابن عباس: أمر الله بتربة آدم فرفعت، فخلق ادم من طين لازب من حمأ مسنون، وإنما كان حمأ مسنوناً بعد التزاب فخلق منه آدم بيده لئلا يتكبّر إبليس عن السجود له، قال: فمكث أربعين ليلة، وقيل: أربعين سنة، جسداً ملقىً، فكان إبليس يأتيه فيضربه برجله فيصلصل، أي يصوِّت، قال: فهو قول الله تعالى: (من صلصال كالفخار) الرحمن: 55 : 14، يقول: منتن كالمنفوخ الذي ليس بمصمت، ثم يدخل من فيه فيخرج من دبره ويدخل من دبره ويخرج من فيه، ثم يقول: لست شيئاً، ولشيء ما خلقت، ولئن سلطت عليك لأهلكنك، ولئن سلطت عليّ لأعصينك، فكانت الملائكة تمرّ به فتخافه، وكان إبليس أشدّهم منه خوفاً.
فلما بلغ الحين الذي أراد الله أن ينفخ فيه الروح قال للملائكة: (فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين) الحجر: 15 : 29؛ فلما نفخ الروح فيه دخلت من قبل رأسه، وكان لا يجري شيء من الروح في جسده إلا صار لحماً، فلما دخلت الروح رأسه عطس، فقالت له الملائكة: قل الحمد لله، وقيل: بل ألهمه الله التحميد فقال: الحمد لله رب العالمين، فقال الله له: رحمك ربك يا آدم، فلما دخلت الروح عينيه نظر إلى ثمار الجنة، فلما بلغت جفوه اشتهى الطعام فوثب قبل أن تبلغ الروح رجليه عجلان إلى ثمار الجنة، فلذلك يقول الله تعالى: (خلق الإنسان من عجل) الأنبياء: 21 : 37، فسجد له الملائكة كلهم إلا إبليس استكبر وكان من الكافرين، فقال الله له: يا إبليس ما منعك أن تسجد إذ أمرتك؟ قال: أنا خير منه لم أكن لأسجد لبشر خلقته من طين، فلم يسجد كبراً وبغياً وحسداً، فقال الله له: (يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي)، إلى قوله: (لأملأنّ جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين) ص: 38 : 75 - 58، فلما فرغ من إبليس ومعاتبته وأبى إلا المعصية أوقع عليه اللعنة وأيأسه من رحمته وجعله شيطاناً رجيماً وأخرجه من الجنة. قال الشعبيّ: أُنزل إبليس مشتمل الصّمّاء عليه عمامة أعور في إحدى رجليه نعل. وقال حميد بن هلال: نزل إبليس مختصراً فلذلك كره الاختصار في الصلاة، ولما أنزل قال: يا ربّ أخرجتني من الجنة من أجل آدم وإنني لا أقوى عليه إلا بسلطانك، قال: فأنت مسلّط، قال: زدني، قال: لا يولد له ولد إلا ولد لك مثله، قال: زدني، قال: صدورهم مساكن لك وتجري منهم مجرى الدم، قال: زدني، قال: أجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الأموال والأولاد وعدهم. قال آدم: يا ربّ قد أنظرته وسلّطته عليَّ وإنني لا أمتنع منه إلا بك، قال: لا يولد لك ولد إلا وكّلت به من يحفظه من قرناء السوء، قال: يا ربّ زدني، قال: الحسنة بعشر أمثالها وأزيدها، والسيئة بواحدة وأمحوها، قال: يا ربّ زدني، قال: (يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً) الزمر: 39 : 53، قال: يا رب زدني، قال: التوبة لا أمنعها من ولدك ما كانت فيهم الروح، قال: يا ربّ زدني، قال: أغفر ولا أبالي، قال: حسبي، ثمّ قال الله لآدم: إيتِ أولئك النفر من الملائكة فقل السلام عليكم، فأتاهم فسلّم عليهم، فقالوا له: وعليك السلام ورحمة الله، ثمّ رجع إلى ربّه فقال: هذه تحيّتك وتحيّة ذريتك بينهم. فلمّا امتنع إبليس من السجود وظهر للملائكة ما كان مستتراً عنهم علّم الله آدم الأسماء كلها. واختلف العلماء في الأسماء فقال الضحّاك عن ابن عباس: علمه الأسماء كلها التي تتعارف بها الناس: إنسان ودابّة وأرض وسهل وجبل وفرس وحمار وأشباه ذلك، حتى الفُسْوة والفُسَية، وقال مجاهد وسعيد بن جُبير مثله. وقال ابن زيد: عُلّم أسماء ذرّيته، وقال الربيع: علم أسماء الملائكة خاصة، فلما علمها عرض الله أهل الأسماء على الملائكة فقال: (أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين) البقرة: 2 : 31 إني إن جعلت الخليفة منكم أطعتموني وقدّستموني ولم تعصوني، وإن جعلته من غيركم أفسد فيها وسفك الدماء، فإنكم إن لم تعلموا أسماء هؤلاء وأنتم تشاهدونهم فبأن لا تعلموا ما يكون منكم ومن غيركم وهو مغيب عنكم أولى وأحرى، وهذا قول ابن مسعود ورواية أبي صالح عن ابن عباس.
وروي عن الحسن وقتادة أنهما قالا: لما أعلم الله الملائكة بخلق آدم واستخلافه و(قالوا: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء؟) البقرة: 1 : 30 و(قال: إني أعلم ما لا تعلمون) البقرة: 2 : 30، قالوا فيما بينهم: ليخلق ربّنا ما يشاء فلن يخلق خلقاً إلا كنا أكرم على الله منه وأعلم منه، فلمّا خلقه وأمرهم بالسجود له علموا أنّه خير منهم وأكرم على الله منهم، فقالوا: إن يكُ خيراً منّا وأكرم على الله منا فنحن أعلم منه، فلمّا أعجبوا بعلمهم ابتلوا بأن علمه الأسماء كلها ثمّ عرضهم على الملائكة فقال: (أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين)، البقرة:2 : 31 إني لا أخلق أكرم منكم ولا أعلم منكم، ففزعوا إلى التوبة، وإليها يفزع كل مؤمن، ف (قالوا: سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم) البقرة: 2 : 32، قالا: وعلمه اسم كل شيء من هذه: الخيل والبغال والإبل والجن والوحش وكل شيء. ذكر إسكان آدم الجنة وإخراجه منهافلما ظهر للملائكة من معصية إبليس وطغيانه ما كان مستتراً عنهم وعاتبه الله على معصيته بتركه السجود لآدم فأصرّ على معصيته وأقام على غيّه لعنه الله وأخرجه من الجنة وطرده منها وسلبه ما كان إليه من ملك سماء الدنيا والأرض وخزن الجنّة، فقال الله له: (اخرج منها - يعني من الجنة - فإنّك رجيم وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين) ص: 38 : 77 - 78؛ وأسكن آدم الجنة. قال ابن عباس وابن مسعود: فلما أسكن آدم الجنة كان يمشي فيها فرداً ليس له زوج يسكن إليها، فنام نومة واستيقظ فإذا عند رأسه امرأة قاعدة خلقها الله من ضلعه، فسألها فقال: من أنت؟ قالت: امرأة، قال: ولم خلقت؟ قالت: لتسكن إليّ، قالت له الملائكة لينظروا مبلغ علمه: ما اسمها؟ قال: حواء، قالوا: ولم سميت حواء؟ قال: لأنها خلقت من حي، وقال الله له: (يا ادم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغداً حيث شئتما) البقرة: 2 : 35. وقال ابن اسحاق فيما بلغه عن أهل الكتاب وغيرهم، منهم عبد الله بن عباس قال: ألقى الله تعالى على آدم النوم وأخذ ضلعاً من أضلاعه من شقّه الأيسر ولأم مكانه لحماً وخلق منه حواً، وآدم نائم، فلمّا استيقظ رآها إلى جنبه فقال: لحمي ودمي وروحي، فسكن إليها، فلما زوجه الله تعالى وجعل له سكناً من نفسه قال له: (يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة : ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين) البقرة: 2 : 35. وعن مجاهد وقتادة مثله: فلمّا أسكن الله آدم وزوجته الجنة أطلق لهما أن يأكلا كلّ ما أرادا من كل ثمارها غير ثمرة شجرة واحدة، ابتلاءً منه لهما وليمضي قضاؤه فيهما وفي ذريتهما، فوسوس لهما الشيطان، وكان سبب وصوله إليهما أنه أراد دخول الجنة فمنعته الخزنة، فأتى كلّ دابة من دواب الأرض وعرض نفسه عليها أنها تحمله حتى يدخل الجنة لكلّم آدم وزوجته، فكلّ الدواب أبى عليه حتى أتى الحية، وقال لها: أمنعك من ابن آدم فأنت في ذمتي إن أنت أدخلتني، فجعلته بين نابين من أنيابها ثم دخلت به، وكانت كاسية على أرع قوائم من أحسن دابّة خلقها الله كأنها بختيّة، فأعراها الله وجعلها تمشي على بطنها. قال ابن عباس: اقتلوها حيث وجدتموها واخفروا ذمّة عدوّ الله فيها.
فلمّا دخلت الحية الجنة خرج إبليس من فيها فناح عليهما نياحة أحزنتهما حين سمعاها، فقالا له: ما يبكيك؟ قال: أبكي عليكما تموتان فتفارقان ما أنتما فيه من النعمة والكرامة، فوقع ذلك في أنفسهما، ثم أتاهما فوسوس لهما وقال: (يا آدم هل أدلّك على شجرة الخلد وملك لا يبلى) طه:120 (وقال: ما نهاكما ربّكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين، وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين) الأعراف: 7 : 20، أن تكونا ملكين، أو تخلدان إن لم تكونا ملكين في نعمة الجنة، يقول الله تعالى: (فدلاهما بغرور) الأعراف: 7 : 22، وكان انفعال حواء لوسوسته أعظم، فدعاها آدم لحاجته، فقالت: لا إلا أن تأتي ها هنا، فلما أتى قالت: لا إلا أن تأكل من هذه الشجرة، وهي الحنطة، قال: فأكلا منها، فبدت لهما سوءاتهما، وكان لباسهما الظفر، فطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة، قيل: كان ورق التين، وكانت الشجرة من أكل منها أحدث، وذهب آدم هارباً في الجنة، فناداه ربّه: أن يا آدم مني تفرّ؟ قال: لا ياربّ ولكن حياء منك، فقال: يا آدم من أين أتين؟ قال: من قبل حواء يا رب، فقال الله: فإن لها عليّ أن أدميها في كل شهر وأن أجعلها سفيهة، وقد كنت خلقتها حليمة، وأن أجعلها تحمل كرهاً وتضع كرهاً وتشرف على الموت مراراً، قد كنت جعلتها تحمل يسراً وتضع يسراً، ولوا بليّتها لكان النساء لا يحضن، ولَكُنّ حليمات ولكن يحملن يسراً ويضعن يسراً، وقال الله تعالى له: لألعنن الأرض التي خلقت منها لعنة يتحول بها ثمارها شوكاً، ولم يكن في الجنة ولا في الأرض شجرة أفضل من الطلح والسدر. وقال للحيّة: دخل الملعون في جوفك حتى غرّ عبدي، ملعونة أنتِ لعنةً يتحوّل بها قوائمك في بطنك ولا يكون لك رزق إلا التراب، أنت عدوّة بني آدم وهم أعداؤك، حيث لقيت واحداً منهم أخذت بعقبه وحيث لقيك شدخ رأسك، اهبطوا بعضكم لبعض عدوّ آدم وإبليس والحيّة، فأهبطهم إلى الأرض، وسلب الله آدم وحواء كلّ ما كانا فيه من النعمة والكرامة. قيل: كان سعيد بن المسيّب يحلف بالله ما أكل آدم من الشجرة وهو يعقل ولكن سقته حوّاء الخمر حتى سكر فلمّا سكر قادته إليها فأكل. قلت: والعجب من سعيد كيف يقول هذا والله يقول في صفة خمر الجنة (لا فيها غول) الصافات: 37 : 47. ذكر اليوم الذي أسكن آدم فيه الجنة واليوم الذي أخرج فيه منها واليوم الذي تاب فيه روى أبو هريرة عن النبيّ، صلى الله عليه وسلم، قال: (خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة، فيه خُلق آدم، وفيه أسكن الجنة، وفيه أهبط منها، وفيه تاب الله عليه، وفيه تقوم الساعة، وفيه ساعة يقلّلها لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله فيها خيراً إلا أعطاه إيّاه، قال عبد الله بن سلام: قد علمتُ أيّ ساعة هي، هي آخر ساعة من النهار. وقال أبو العالية: أخرج آدم من الجنة للساعة التاسعة أو العاشرة منه، وأهبط إلى الأرض لتسع ساعات مضين من ذلك اليوم، وكان مكثه في الجنّة خمس ساعات منه، وقيل: كان مكثه ثلاث ساعات منه. فإن كان قائل هذا القول أراد أنه سكن الفردوس لساعتين مضتا من يوم الجمعة من أيّام الدنيا التي هي على ما هي به اليوم، فلم يبعد قوله من الصواب لأن الأخبار كذا كانت واردة عن السلف من أهل العلم بأن آدم خُلق آخر ساعة من اليوم السادس التي مقدار اليوم منها ألف سنة من سنينا، فمعلوم أن الساعة الواحدة من ذلك اليوم ثلاثة وثمانون عاماً من أعوامنا، وقد ذكرنا أنّ آدم بعد أن خمّر ربنا طينته بقي قبل أن ينفخ فيه الروح أربعين عاماً، وذلك لا شكّ أنه عنى به أعوامنا، ثمّ بعد أن نفخ فيه الروح إلى أن تناهى أمره وأسكن الجنّة وأهبط إلى الأرض غير مستنكر أن يكون مقدار ذلك من سنينا قدر خمس وثلاثين سنة، وإن كان أراد أنّه سكن الجنّة لساعتين مضتا من نهار يوم الجمعة من الأيام التي مقدار اليوم منها ألف سنة من سنينا فقد قال غير الحقّ، لأنّ كل من له قول في ذلك من أهل العلم يقول إنّه نفخ فيه الروح آخر نهار يوم الجمعة قبل غروب الشمس. وقد روى أبو صالح عن ابن عباس أنّ مكث آدم كان في الجنّة نصف يوم كان مقداره خمسمائة عام، وهذا أيضاً خلاف ما وردت به الأخبار عن النبي، صلى الله عليه وسلم، وعن العلماء. ذكر الموضع الذي أهبط فيه آدم وحواء من الأرض
قيل: ثمّ إن الله تعالى أهبط آدم قبل غروب الشمس من اليوم الذي خلقه فيه، وهو يوم الجمعة، مع زوجته حوّاء من السماء، فقال عليّ وابن عباس وقتادة وأبو العالية: إنّه أهبط بالهند على جبل يقال له نود من أرض سرنديب، وحواء بجدّة، قال ابن عباس: فجاء في طلبها فكان كلّما وضع قدمه بموضع صار قرية، وما بين خطوتيه مفاوز، فسار حتى أتى جمعاً فازدلفت إليه حواء، فلذلك سميت المزدلفة، وتعارفا بعرفات فلذلك سميت عرفات، واجتمعا بجمع فلذلك سميت جمعاً، وأهبطت الحيّة بأصفهان، وإبليس بميسان، وقيل: أهبط آدم بالبرية، وإبليس بالأبلة. قال أبو جعفر: وهذا ما لا يصول الى معرفة صحته إلا بخبر يجيء مجيء الحجة، ولا نعلم خبراً في ذلك غير ما ورد في هبوط آدم بالهند، فإنّ ذلك مما لا يدفع صحته علماء الإسلام. قال ابن عباس: فلما أهبط آدم على جبل نود كانت رجلاه تمسان الأرض ورأسه بالسماء يسمع تسبيح الملائكة، فكانت تهابه، فسألت الله أن ينقص من طوله فنقص طوله الى ستين ذراعاً، فحزن آدم لما فاته من الأنس بأصوات الملائكة وتسبيحهم، فقال: يا ربّ كنت جارك في دارك ليس لي ربّ غيرك أدخلتني جنّتك آكل منها حيث شئت وأسكن حيث شئت فأهبطتني إلى الجبل المقدس فكنت أسمع أصوات الملائكة وأجد ريح الجنة فحططتني إلى ستين ذراعاً، فقد انقطع عني الصوت والنظر وذهبت عني ريح الجنّة فأجابه الله تعالى: بمعصيتك يا ادم فعلت بك ذلك. فلما رأى الله تعالي عريّ آدم وحواء أمره أن يذبح كبشاً من الضأن من الثمانية الأزواج التي أنزل الله من الجنة، فأخذ كبشاً فذبحه وأخذ صوفه، فغزلته حواء ونسجه آدم فعمل لنفسه جبّة ولحواء درعاً وخماراً فلبسا ذلك. وقيل: أرسل إليهما ملكاً يعلمهما ما يلبسانه من جلود الضأن والأنعام، وقيل: كان ذلك لباس أولاده، وأمّا هو وحوّاد فكان لباسهما ما كانا خصفا من ورق الجنّة، فأوحى الله إلى آدم: إن لي حرماً حيال عرشي فانطلق وابن لي بيتاً فيه ثم حفّ به كما رأيت ملائكتي يحفون بعرشي، فهنالك أتسجيب لك ولولدك من كان منهم في طاعتي، فقال آدم: يا ربّ وكيف لي بذلك لست أقوى عليه ولا أهتدي إليه، فقيّض الله ملكاً فانطلق به نحو مكّة، | |
|
| |
الشيخ عودة الشيخ عودة
عدد المساهمات : 1748 تاريخ التسجيل : 28/09/2008 العمر : 74
| موضوع: رد: كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير الخميس فبراير 06, 2014 8:24 am | |
| ملك شيث إلى أن ملك يرد ذكر أن قابيل لما قتل هابيل وهرب من أبيه آدم إلى اليمن أتاه إبليس فقال له: إنّ هابيل إنما قبل قربانه وأكلته النار لأنه كان يخدم النار ويعبدها، فانصب أنت أيضاً ناراً تكون لك ولعقبك، فبنى بيت نار، فهو أول من نصب النار وعبدها.
وقال ابن اسحاق: إن قيناً، وهو قابيل، نكح أخته أشوت بنت آدم فولدت له رجلاً وامرأة: خنوخ بن قين وعذب بنت قين، فنكح خوخ أخته عذب فولدت ثلاثة بنين وامرأة: غيرد ومحويل وزنوشيل وموليث ابنة خنوخ، فنكح أنوشيل بن خنوخ أخته موليث وولدت له رجلاً اسمه لامك، فنكح لامك امرأتين اسم إحداهما عدّى والأخرى صلّى، فولدت عدّى بولس بن لامك، فكان أول من سكن القباب واقتنى المال، وتوبلين فكان أول من ضرب بالونج والصنج، وولدت رجلاً اسمه توبلقين، وكان أول من عمل النحاس والحديد، وكان أولادهم فراعنة وجبابرة، وكانوا قد أعطوا بسطة في الخلق، قال: ثم انقرض ولد قين ولم يتركوا عقباً إلا قليلاً، وذرية آدم كلها جهلت أنسابهم وانقطع نسلهم إلا ما كان من شيث، فمنه كان النسل، وأنساب الناس اليوم كلهم إليه دون أبيه آدم، ولم يذكر ابن اسحاق من أمر قابيل وولده إلا ما حكيت. وقال غيره من أهل التوراة: إن أول من اتخذ الملاهي من ولد قابيل رجل يقال له ثوبان بن قابيل، اتخذها في زمان مهلائيل بن قينان، اتخذ المزامير والطنابير والطبول والعيدان والمعازف، فانهمك ولد قابيل في اللهو، وتناهى خبرهم الى من بالجبل من ولد شيث، فهم منهم مائة رجل بالنزول إليهم وبمخالفة ما أوصاهم به آباؤهم، وبلغ ذلك يارد فوعظهم ونهاهم فلم يقبلوا، ونزلوا إلى ولد قابيل فأعجبوا بما رأوا منهم، فلمّا أرادوا الرجوع حيل بينهم وبين ذلك لدعوة سبقت من آبائهم، فلمّا أرادوا الرجوع حيل بينهم وبين ذلك لدعوةٍ سبقت من آبائهم، فلما أبطأوا ظنّ من بالجبل ممن كان في نفسه زيغ أنهم أقاموا اغتباطاً، فتسلّلوا ينزلون من الجبل ورأوا اللهو فأعجبهم ووافقوا نساءً من ولد قابيل متشرّعات إليهم وصرن معهم وانهمكوا في الطغيان وفشت الفحشاء وشرب الخمر فيهم، وهذا القول غير بعيد من الحق، وذلك أنه قد روي عن جماعة من سلف علمائنا المسلمين نحو منه، وإن لم يكونوا بينوا زمان من حدث - ذلك في ملكه، إلا أنهم ذكروا أن ذلك كان فيما بين آدم ونوح؛ منهم ابن عباس أو مثله، ومثله روى الحكم بن عتيبة عن أبيه مع اختلاف قريب من القولين، والله أعلم. وأما نسّابو الفرس فقد ذكرت ما قالوا في مهلائيل بن قينان وأنه هو أوشهنج الذي ملك الأقاليم السبعة، وبينت قول من خالفهم، وقال هشام بن الكلبيّ: إنه أول من بني البناء واستخرج المعادن وأمر أهل زمانه باتخاذ المساجد، وبني مدينتين كانتا أول ما بني على ظهر الأرض من المدائن، وهما مدينة بابل، وهي بالعراق، ومدينة السوس بخوزستان، وكان ملكه أربعين سنة. وقال غيره: هو أوّل من استنبط الحديد وعمل منه الأدوات للصناعات وقدّر المياه في مواضع المنافع وحضّ الناس على الزراعة واعتماد الأعمال، وأمر بقتل السباع الضارية واتخاذ الملابس من جلودها والمفارش، وبذبح البقر والغنم والوحش وأكل لحومها، وإنه بنى مدينة الريّ، قالوا: وهي أول مدينة بنيت بعد مدينة جيومرث التي كان يسكنها بدنباوند، وقالوا: إنه أول من وضع الأحكام والحدود، وكان ملقبّاً بذلك يدعى بيشداد، ومعناه بالفارسية أول من حكم بالعدل، وذلك أن بيش معناه أول، وداد معناه عدل وقضى، وهو أول من استخدم الجواري وأوّل من قطع الشجر وجعله في البناء، وذكروا أنه نذل الهند وتنقل في البلاد وعقد على رأسه تاجاً، وذكروا أنه قهر إبليس وجنوده ومنعهم الاختلاط بالناس وتوعدهم على ذلك وقتل مردتهم، فهربوا من خوفه الى المفاوز والجبال، فلما مات عادوا. وقيل: إنه سمى شرار الناس شياطين واستخدمهم، وملك الأقاليم كلّها، وإنه كان بين مولد أوشهنج وموت جيومرث مائتا سنة وثلاث وعشرون سنة. عتيبة بالعين، وبعدها تاء فوقها نقطتان، وياد تحتها نقطتان، وباء موحدة. ذكر يرد
وقيل يارد بن مهلائيل أمّه خالته سمعن ابنة براكيل بن محويل بن حنوخ بن قين بن آدم، ولد بعدما مضى من عمر آدم أربعمائة سنة وستون سنة، وفي أيامه عملت الأصنام وعاد من عاد عن الاسلام، ثم نكح يرد، في قول ابن اسحاق، وهو ابن مائة واثنتين وستين سنة، بركتا ابنة الدرمسيل بن محويل بن خنوخ بن قين بن آدم، فولدت له خنوخ، وهو إدريس النبيّ، فكان أول بني آدم أعطي النبّوة وخط بالقلم، وأول من نظر في علوم النجوم والحساب، وحكماء اليونانيين يسمونه هرمس الحكيم، وهو عظيم عندهم، فعاش يرد بعد مولد إدريس ثمانمائة سنة، وولد له بنون وبنات، فكان عمره تسعمائة سنة واثنتين وستين سنة، وقيل: أنزل على إدريس ثلاثون صحيفة، وهو أول من جاهد في سبيل الله وقطع الثياب وخاطها، وأوّل من سبى من ولد قابيل بن آدم فاسترقَّ منهم، وكان وصيّ والده يرد فيما كان آباؤه وصّوا به إليه وفيما أوصى بعضهم بعضاً، وتوفي آدم بعد أن مضى من عمر إدريس ثلاثمائة وثماني سنين، ودعا إدريس قومه وعظهم وأمرهم بطاعة الله تعالى ومعصية الشيطان وأن لا يلابسوا ولد قابيل، فلم يقبلوا منه. قال: وفي التوراة أن الله رفع إدريس بعد ثلاثمائة سنة وخمس وستين سنة من عمره، وبعد أن مضى من عمر أبيه خمسمائة سنة وسبع وعشرون سنة، فعاش أبوه بعد ارتفاعه أربعمائة وخمساً وثلاثين سنة تمام تسعمائة واثنتين وستين سنة. قال النبي، صلى الله عليه وسلم: يا أبا ذرّ من الرسل أربعة سريانيون: آدم وشيث ونوح وخنوخ، وهو أول من خط بالقلم، وأنزل الله عليه ثلاثين صحيفة، وقيل: إن الله أرسله إلى جميع أهل الأرض في زمانه، وجمع له علم الماضين وزاده ثلاثين صحيفة، وقال بعضهم: ملك بيوراسب في عهد إدريس، وكان قد وقع عليه من كلام آدم، فاتخذه سحراً، وكان بيوراسب يعمل به، يارد بياء معجمة باثنتين من تحتها، وراء مهملة، وذال معجمة، وحنوخ بحاء مهملة مفتوحة، ونون بعدها واو، وخاء معجمة، وقيل: بخائين معجمتين). ذكر ملك طهمورثزعمت الفرس أنه ملك بعد موت أوشهنج طهمورث بن ويونجهان، يعني خير أهل الأرض، ابن حبايداد بن أوشهنج، وقيل في نسبه غير ذلك، وزعم الفرس أيضاً أنه ملك الأقاليم السبعة وعقد على رأسه تاجاً، وكان محموداً في ملكه مشفقاً على رعيّته، وأنه ابتنى سابور من فارس ونزلها وتنقل في البلدان، وأنه وثب بإبليس حتى ركبه فطاف عليه في أداني الأرض وأقاصيها، وأفزعه ومردته حتى تفرّقوا، وكان أوهل من اتخذ الصوف والشعر للّبس والفرش، وأول من اتخذ زينة الملوك من الخيل والبغال والحمير، وأمر باتخاذ الكلاب لحفظ المواشي وغيرها، وأخذ الجوارح للصيد، وكتب بالفارسية، وأنّ بيوراسب ظهر في أول سنة من ملكه ودعا إلى ملّة كذا قال أبو جعفر وغيره من العلماء: إنه ركب إبليس وطاف عليه، والعهدة عليهم، وإنما نحن نقلنا ما قالوه. قال ابن الكلبي: أول ملوك الأرض من بابل طهمورث، وكان لله مطيعاً، وكان ملكه أربعين سنة، وهو أوّل من كتب بالفارسية، وفي أيامه عبدت الأصنام، وأول ما عرف الصوم في ملكه، وسببه أن قوماً فقراء تعذّر عليهم القوت فأمسكوا نهاراً وأكلوا ليلاً ما يمسك رمقهم، ثم اعتقدوه تقرُّباً الى الله وجاءت الشرائع به. ذكر خنوخ وهو إدريس عليه السلامثم نكح خنوخ بن يرد هدانة، ويقال اذانة، ابنة باوبل بن محويل بن خنوخ بن قين بن آدم، وهو ابن خمس وستين سنة، فولدت له متوشلخ بن خنوخ، فعاش بعدما ولد متوشلخ ثلاثمائة سنة، ثمّ رفع واستخلفه خنوخ على أمر ولده وأمر الله وأوصاه وأهل بيته قبل أن يرفع وأعلمهم أن الله سوف يعذب ولد قابيل ومن خالطهم، ونهاهم عن مخالطتهم، وإنه كان أوّل من ركب الخيل لأنه سلك رسم أبيه خنوخ في الجهاد، ثم نكح متوشلخ عربا ابنة عزازيل بن أنوشيل بن خنوخ بن قين، وهو ابن مائة سنة وسبع وثلاثين سنة، فولدت له لمك بن متوشلخ، فعاش بعدما ولد له لمك سبع مائة سنة، وولد له بنون وبنات، فكان كلُّ ما عاش متوشلخ تسعمائة سنة وسبعاً وعشرين سنة ثم مات وأوصى الى ابنه لمك، فكان لمك يعظ قومه وينهاهم عن مخالطة ولد قابيل، فلم يقبلوا حتى نزل إليهم جميع من كان معهم في الجبل. وقيل: كان لمتوشلخ ابن آخر غير لمك يقال له صابي، وبه سمي الصابئون.
قلت: محويل بحاء مهملة، وياء معجمة باثنتين من تحت، وقين بقاف، وياء معجمة باثنتين من تحت، ومتوشلخ بفتح الميم، وبالتاء المعجمة باثنتين من فوق، وبالشين المعجمة، وبحاء مهملة، وقيل خاء معجمة. ونكح لمك بن متوشلخ قينوش ابنة براكيل بن محويل بن خنوخ بن قين، وهو ابن مائة سنة وسبع وثمانين سنة، فولدت له نوح بن لمك، وهو النبيّ، فعاش لمك بعد مولد نوح خمسمائة سنة وخمساً وتسعين سنة وولد له بنون بونات ثمّ مات، ونكح نوح بن لمك عزرة بنت براكيل بن محويل بن خنوخ بن قين، وهو ابن خمسمائة سنة، فولدت له ولده ساماً وحاماً ويافث بني نوح، وكان مولد نوح بعد موت آدم بمائة سنة وستّ وعشرين سنة، ولما أدرك قال له أبوه لمك: قد علمت أنه لم يبق في هذا الجبل غيرنا فلا تستوحش ولا تتبع الأمّة الخاطئة، وكان نوح يدعو قومه ويعظهم فيستخفّون به. وقيل: كان نوح في عهد بيوراسب وكانوا قومه فدعاهم الى الله تسعمائة وخمسين سنة كلّما مضى قرن اتبعهم قرن على ملّة واحدة من الكفر حتى أنزل الله عليهم العذاب. وقال ابن عبّاس فيما رواه ابن الكلبيّ عن أبي صالح عنه: فولد لمك نوحاً، وكان له يوم ولد نوح اثنتان وثمانون سنة، ولم يكن في ذلك الزمان أحد ينهى عن منكر، فبعث الله إليهم نوحاً وهو ابن أربع مائة وثمانين سنة فدعاهم مائة وعشرين سنة ثمّ أمره الله بصنعة الفلك فصنعها وركبها وهو ابن ستمائة سنة وغرق من غرق ثمّ مكث من بعد السفينة ثلاثمائة سنة وخمسين سنة. وروي عن جماعة من السلف أنه كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على ملّة الحقّ، وأن الكفر بالله حدث في القرن الذي بعث فيه إليهم نوح، فأرسله الله، وهو أوّل نبيّ بعث بالإنذار والدّعاء إلى التوحيد؛ وهو قول ابن عبّاس وقتادة. ذكر ملك جمشيدوأما علماء الفرس فإنهم قاولا: ملك بعد طهمورث جم شيد، والشيد عندهم الشعاع، وجم القمر، لقبوه بذلك لجماله، وهو جم بن ويونجهان، وهو أخو طهمورث، وقيل: إنه ملك الأقاليم السبعة وسخر له ما فيها من الجنّ والإنس، وعقد التاج على رأسه، وأمر لسنة مضت من ملكه إلى خمسين سنة بعمل السيوف والدروع وسائر الأسلحة والة الصنّاع من الحديد، ومن سنة خمسين من ملكه إلى سنة مائة بعمل الإبريسم وغزله والقطن والكتّان وكلّ ما يستطاع غزله وحياكة ذلك وصبغه ألواناً ولبسه، ومن سنة مائة الى سنة خمسين ومائة صنف الناس أربع طبقات: طبقة مقاتلة، وطبقة فقهاء، وطبقة كتّاب وصنّاع، وطبقة حرّاثين، واتخذ منهم خدماً، ووضع لكل أمر خاتماً مخصوصاً به، فكتب على خاتم الحرب: الرفق والمداراة، وعلى خاتم الخراج: العمارة والعدل، وعلى خاتم البريد والرسل: الصدق والأمانة، وعلى خاتم المظالم: السياسة والانتصاف، وبقيت رسوم تلك الخواتيم حتى محاها الإسلام. ومن سنة مائة وخمسين الى سنة خمسين ومائتين حارب الشياطين وأذلهم وقهرهم وسخروا له، ومن سنة خمسين ومائتين الى سنة ست عشرة وثلاثمائة وكّل الشياطين بقطع الأحجار والصخور من الجبال وعمل الرخام والجصّ والكلس والبناء بذلك الحمّامات والنقل من البحار والجبال والمعادن والذهب والفضّة وسائر ما يذاب من الجواهر وأنواع الطيب والأدوية، فنفذوا في ذلك بأمره، ثم أمر فصنعت له عجلة من الزجاج، فأصفد فيها الشياطين وركبها وأقبل عليها في الهواء من دنباوند الى بابل في يوم واحد، وهو يوم هرمزروز وافروز دين ماه، فاتخذ الناس ذلك اليوم عيداً وخمسة أيام بعده، وكتب الى الناس في اليوم السادس يخبرهم أنه قد سار فيهم بسيرة ارتضاها الله، فكان من جزائه إياه عليها أنه قد جنبهم الحرّ والبرد والأسقام والهرم والحسد، فمكث الناس ثلاثمائة سنة بعد الثلاثمائة والستّ عشرة سنة لا يصيبهم شيء مما ذكر.
ثم بنى قنطرة على دجلة فبقيت دهراً طويلاً حتى خرّبها الاسكندر، وأراد الملوك عمل مثلها فعجزوا فعدلوا الى عمل الجسور من الخشب، ثم إن جمّاً بطر نعمة الله عليه وجمع الإنس والجن والشياطين وأخبرهم أنه وليّهم ومانعهم بقوته من الأسقام والهرم والموت، وتمادى في غيّه، فلم يحر أحد منهم جواباً، وفقد مكانه وبهاءه وعزّه وتخلّت عنه الملائكة الذين كان الله أمرهم بسياسة أمره، فأحسّ بذلك بيوراسب الذي تسمّى الضحّاك فابتدر الى جم لينتهسه، فهرب منه، ثمّ ظفر به بعد ذلك بيوراسب فاستطرد امعاءه وأشره بمئشار. وقيل: إنه ادعى الربوبية فوثب عليه أخوه ليقتله واسمه استغتور فتوارى عنه مائة سنة، فخرج عليه في تواريه بيوراسب فغلبه على ملكه. وقيل: كان ملكه سبعمائة سنة وستّ عشرة سنة وأربعة أشهر. قلت: وهذا الفصل من حديث جم قد أتينا به تاماً بعد أن كنّا عازمين على تركه لما فيه من الأشياء التي تمجّها الأسماع وتأباها العقول والطباع، فإنها من خرافات الفرس مع أشياء أخرى قد تقدّمت قبلها، وإنما ذكرناها ليعلم جهل الفرس، فإنهم كثيراً ما يشنعون على العرب بجهلهم وما بلغوا هذا؛ ولأنّا لو كنّا تركنا هذا الفصل لخلا من شيد نذكره من أخبارهم. ذكر الأحداث التي كانت في زمن نوح عليه السلام قد اختلف العلماء في ديانة القوم الذي أرسل إليهم نوح، فمنهم من قال: إنهم كانوا قد أجمعا على العمل بما يكرهه الله تعالى من ركوب الفواحش والكفر وشرب الخمور والاشتغال بالملاهي عن طاعة الله، ومنهم من قال: إنهم كانوا أهل طاعة، وبيوراسب أول من أظهر القول بمذهب الصابئين وتبعه على ذلك الذين أرسل إليهم نوح، وسنذكر أخبار بيوراسب فيما بعد. وأما كتاب الله، قال: فينطق بأنهم أهل أوثان؛ قال تعالى: (وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودّاً ولا سواعاً ولا يغوث ويعوق ونسراً وقد أضلّوا كثيراً) نوح 71 : 23 - 24. قلت: لا تناقض بين هذه الأقاويل الثلاثة، فإنّ القول الحقّ الذي لا يشكّ فيه هو أنهم كانوا أهل أوثان يعبدونها، كما نطق به القرآن، وهو مذهب طائفة من الصابئين، فإن أصل مذهب الصابئين عدابة الروحانيين، وهم الملائكة لتقربهم الى الله تعالى زلفى، فإنهم اعترفوا بصانع العالم وأنه حكيم قادر مقدّس، إلا أنهم قالوا الواجب علينا معرفة العجز عن الوصول الى معرفة جلاله وإنما نتقرب إليه بالوسائط المقرِّبة لديه؛ وهم الروحانيون، وحيث لم يعاينوا الروحانيين تقربوا إليهم بالهياكل، وهي الكواكب السبعة السيارة لأنها مدبرة لهذا العالم عندهم، ثم ذهبت طائفة منهم، وهم أصحاب الأشخاص، حيث رأوا أن الهياكل تطلع وتغرب وترى ليلاً ولا ترى نهاراً، إلى وضع الأصنام لتكون نصب أعينهم ليتوسّلوا بها الى الهياكل، والهياكل الى الروحانيين، والروحانيون الى صانع العالم؛ فهذا كان أصل وضع الأصنام أولاً، وقد كان أخيراً في العرب من هو على هذا الاعتقاد، وقال تعالى: (ما نعبدهم إلا ليقربونا الى الله زلفى) الزمر: 39 : 3، فقد حصل من عبادة الأصنام مذهب الصابئين والكفر والفواحش وغير ذلك من المعاصي. فلما تمادى قوم نوح على كفرهم وعصيانهم بعث الله إليهم نوحاً يحذّرهم بأسه ونقمته ويدعوهم الى التوبة والرجوع إلى الحقّ والعمل بما زمر الله تعالى، وأرسل نوح، وهو ابن خمسين سنة، فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً. وقال عون بن أبي شداد: إن الله تعالي أرسل نوحاً وهو ابن ثلاثمائة وخسمين سنة فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً ثم عاش بعد ذلك ثلاثمائة وخسمين سنة، وقيل غير ذلك، وقد تقدّم.
قال ابن إسحاق وغيره: إن قوم نوح كانوا يبطشون به فيخنقونه حتى يغشى عليه، فإذا أفاق قال: اللهم اغفر لي ولقومي فإنهم لا يعلمون حتى إذا تمادوا في معصيتهم وعظمت في الأرض منهم الخطيئة وتطاول عليه وعليهم الشأن اشتد عليه البلاء وانتظر النجل بعد النجل فلا يأتي قرن إلا كان أخبث من الذي كان قبله حتى إن كان الآخر ليقول: قد كان هذا مع آبائنا وأجدادنا مجنوناً لا يقبلون منه شيئاً، وكان يضرب ويلفّ ويلقى في بيته، ويرون أنه قد مات، فإذا أفاق اغتسل وخرج إليهم يدعوهم الى الله، فلما طال ذلك عليه ورأى الأولاد شرّاً من الآباء قال: ربّ قد ترى ما يفعل بي عبادك، فإن تك لك فيهم حاجة فاهدهم، وإن يك غير ذلك فصيرني الى أن تحكم فيهم، فأوحى إليه: (إنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن) هود: 36، فلما يئس من إيمانهم دعا عليهم فقال: (ربّ لا تذر على الأرض من الكافرين ديّاراً) نوح 71 : 26، الى آخر القصة، فلما شكا الى الله واستنصره عليهم، أوحى الله إليه أن: (اصنع الفلك بأعيننا ووحينا ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون) هود: 11 : 37، فأقبل نوح على عمل الفلك ولها عن دعاء قومه وجعل يهيء عتاد الفلك من الخشب والحديد والقار وغيرها مما لا يصلحه سواه، وجعل قومه يمرون به وهو في عمله فيسخرون منه، فيقول: (إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون، فسوف تعلمون) هود: 11 : 38 - 39، قال: ويقولون: يا نوح قد صرت نجّاراً بعد النبوّة وأعقم الله أرحام النساء فلا يولد لهم، وصنع الفلك من خشب الساج وأمره أن يجعل طوله ثمانين ذراعاً وعرضه خمسين ذراعاً وطوله في السماء ثلاثين ذراعاً، وقال قتادة: كان طولها ثلاثمائة ذراع، وعرضها خمسين ذراعاً، وطولها في السماء ثلاثين ذراعاً، وقال الحسن: كان طولها ألف ذراع ومائتي ذراع، وعرضها ستمائة ذراع، والله أعلم. وأمر نوحاً أن يجعله ثلاث طبقات: سفلى ووسطى وعليا، ففعل نوح كما أمره الله تعالى، حتى إذا فرغ منه وقد عهد الله إليه (حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن وما آمن معه إلا قليل) هود:11 : 40؛ وقد جعل التنور ايةً فيما بينه وبينه، فلمّا فار التنور، وكان فيما قيل من حجارة كان لحواء: وقال ابن عباس: كان ذلك تنوراً من أرض الهند، وقال مجاهد والشعبيّ: كان التنور بأرض الكوفة، وأخبرته زوجته بفوران الماء من التنور، وأمر الله جبرائيل فرفع الكعبة إلى السماء الرابعة، وكانت من ياقوت الجنة، كما ذكرناه، وخبز الحجر الأسود بجبل أبي قُبيس، فبقي فيه إلى أن بنى إبراهيم البيت فأخذه فجعله موضعه، ولما فار التنور حمل نوح من أمر الله بحمله، وكانوا أولاده الثلاثة: سام وحام ويافث ونساءهم وستة أناسي، فكانوا مع نوح ثلاثة عشر. وقال ابن عبّاس: كان في السفنية ثمانون رجلاً، أحدهم جرهم، كلهم بنو شيث، وقال قتادة: كانوا ثمانية أنفس: نوح وامرأته وثلاثة بنوه ونساؤهم، وقال الأعمش: كانوا سبعة، ولم يذكر فيهم زوج نوح، وحمل معه جسد آدم ثمّ أدخل ما أمر الله به من الدواب، وتخلّف عنه ابنه يام، وكان كافراً، وكان آخر من دخل السفينة الحمار، فلما دخل صدره تعلّق إبليس بذنبه فلم ترتفع رجلاه، فجعل نوح يأمره بالدخول فلا يستطيع حتى قال: ادخل وإن كان الشيطان معك، فقال كلمة زلّت على لسانه، فلمّا قالها دخل الشيطان معه، فقال له نوح: ما أدخلك يا عدوّ الله؟ فقال: ألم تقل ادخل وإن كان الشيطان معك؟ فتركه، ولما أمر نوح بإدخال الحيوان السفينة قال: أي ربّ كيف أصنع بالأسد والبقرة؟ وكيف أصنع بالعناق والذئب والطير والهر؟ قال: الذي ألقى بينها العداوة هو يؤلف بينها، فألقى الحمى على الأسد وشغله بنفسه، ولذلك قيل: وما الكلب محموماً وإن طال عمره ... ولكنما الحمى على الأسد الورد
وجعل نوح الطير في الطبق الأسفل من السفينة، وجعل الوحش في الطبق الأوسط، وركب هو ومن معه من بني آدم في الطبق الأعلى، فلما أطمأن نوح في الفلك وأدخل فيه كلّ من أمر به، وكان ذلك بعد ستمائة سنة من عمره في قول بعضهم، وفي قول بعضهم ما ذكرناه، وحمل معه من حمل، جاء الماء كما قال الله تعالى: (ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر وفجرنا الأرض عيوناً فالتقي الماء على أمر قد قدر) القمر: 54 : 44 - 12، فكان بين أن أرسل الماء وبين أن احتمل الماء الفلك أربعون يوماً وأربعون ليلة، وكثر واشتدّ وارتفع وطمى، وغطى نوح وعلى من معه طبق السفينة، وجعلت الفلك تجري بهم في موج كالجبال، ونادي نوح ابنه الذي هلك، وكان في معزل: (يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين) هود: 11 : 42، وكان كافراً؛ (قال: سآوي إلى جبل يعصمني من الماء)، وكان عهد الجبال وهي حرز وملجأ، فقال نوح: (لا عاصم اليوم من أمر الله إلاّ من رحم، وحال بينهما الموج فكان من المغرقين) هو:11 : 43، وعلا الماء على رؤوس الجبال، فكان على أعلى جبل في الأرض خمسة عشر ذراعاً، فهلك ما على وجه الأرض من حيوان ونبات، فلم يبق إلا نوح ومن معه وإلا عوج بن عنق، فيما زعم أهل التوراة، وكان بين إرسال الماء وبين أن غاض ستّة أشهر وعشر ليال. قال ابن عباس: أرسل الله المطر أربعين يوماً، فأقبلت الوحش حين أصابها المطر والطين إلى نوح وسخّرت له، فحمل منها كما أمره الله، فركبوا فيها لعشر ليال مضين من رجب، وكان ذلك لثلاث عشرة خلت من آب، وخرجوا منها يوم عاشوراء من المحرّم، فلذلك صام من صام يوم عاشوراء، وكان الماء نصفين: نصف من السماء ونصف من الأرض، وطافت السفينة بالأرض كلها لا تستقر حتى أتت الحرم فلم تدخله، ودارت بالحرم أسبوعاً ثم ذهبت في الأرض تسير بهم حتى انتهت الى الجودي، وهو جبل بقردى بأرض الموصل، فاستقرت عليه، فقيل عند ذلك: (بعداً للقوم الظالمين) هود: 11 : 44، ولما استقرت قيل: (يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي، وغيض الماء) هود: 11 : 44، نشفته الأرض، وأقام نوح في الفلك إلى أن غاض الماء، فلما خرج منها اتخذ بناحية من قردى من أرض الجزيرة موضعاً وابتنى قريةً سمّوها ثمانين، وهي الآن تسمى بسوق الثمانين لأن كلّ واحد ممن معه بنى لنفسه بيتاً وكانوا ثمانين رجلاً. قال بعض أهل التوراة: لم يولد لنوح إلا بعد الطوفان، وقيل: إن ساماً ولد قبل الطوفان بثمان وتسعين سنة، وقيل: إنّ اسم ولده الذي أغرق كان كنعان وهو يام. وأما المجوس فإنهم لا يعرفون الطوفان ويقولون لم يزل الملك فينا من عهد جيومرث، وهو آدم، قالوا: ولو كان كذلك لكان نسب القوم قد انقطع وملكهم قد اضمحلّ، وكان بعضهم يقرّ بالطوفان ويزعم أنه كان في إقليم بابل وما قرب منه، وأن مساكن ولد جيومرث كانت بالمشرق فلم يصل ذلك إليهم، وقول الله تعالى أصدق في أن ذرّية نوح هم الباقون فلم يعقب أحد ممن كان معه في السفينة غير ولده سام وحام ويافث. ولما حضرت نوحاً الوفاة قيل له: كيف رأيت الدنيا؟ قال: كبيت له بابان دخلت من أحدهما وخرجت من الآخر، وأوصى إلى ابنه سام وكان أكبر ولده. ذكر بيوراسب وهو الازدهاق الذي يسميه العرب الضحّاك وأهل اليمن يدّعون أنّ الضحاك منهم، وأنه أول الفراعنة، وكان ملك مصر لما قدمها إبراهيم الخليل، والفرس تذكر أنه منهم وتنسبه إليهم وأنه بيوراسب بن أرونداسب بن رينكار بن وندريشتك بن يارين بن فروال بن سيامك بن ميشي بن جيومرث، ومنهم من ينسبه غير هذه النسبة، وزعم أهل الأخبار أنه ملك الأقاليم السبعة، وأنه كان ساحراً فاجراً. قال هشام بن الكلبيّ: ملك الضحاك بعد جم فيما يزعمون، والله أعلم، ألف سنة، ونزل السواد في قرية يقال لها برس في ناحية طريق الكوفة، وملك الأرض كلها، وسار بالجور والعسف، وبسط يده في القتل، وكان أول من سن الصلب والقطع، وأول من وضع العشور وضرب الدراهم، وأول من تغنى وغني له، قال: وبلغنا أنّ الضحاك هو نمرود، وأن ابراهيم، عليه السلام، ولد في زمانه، وأنه صاحبه الذي أراد إحراقه، وتزعم الفرس أن الملك لم يكن إلا للبطن الذي منه أوشهنج وجم وطهمورث، وأن الضحّاك كان غاصباً، وأنه غصب أهل الأرض بسحره وخبثه وهوّل عليهم بالحيّتين اللّتين كانتا على منكبيه.
وقال كثير من أهل الكتب: إن الذي كان على منكبيه كان لحمتين طويلتين كلّ واحدة منهما كرأس الثعبان، وكان يسترهما بالثياب، ويذكر على طريق التهويل أنهما حيتان تقتضيانه الطعام، وكانتا تتحركان تحت ثوبه إذا جاعتا، ولقي الناس منه جهداً شديداً، وذبح الصبيان لأنّ اللحمتين اللتين كانتا على منكبيه كانتا تضطربان فإذا طلاهما بدماغ إنسان سكنتا، فكان يذبح كلّ يوم رجلين، فلم يزل الناس كذلك حتى إذا أراد الله هلاكه وثب رجل من العامة من أهل أصبهان يقال له كابي بسبب ابنين له أخذهما أصحاب بيوراسب بسبب اللحمتين اللتين على منكبيه، وأخذ كابي عصاً كانت بيده فعلّق بطرفها جراباً كان معه ثمّ نصب ذلك كالعلم ودعا الناس الى مجاهدة بيوراسب ومحاربته، فأسرع الى إجابته خلق كثير لما كانوا فيه من البلاء وفنون الجور، فلما غلب كابي تفاءل الناس بذلك العلم فعظّموه وزادوا فيه حتى صار عند ملوك العجم علمهم الأكبر الذي يتبركون به وسموه درفش كابيان، فكانوا لا يسيرونه إلا في الأمور الكبار العظام، ولا يرفع إلا لأولاد الملوك إذا وجهوا في الأمور الكبار. وكان من خبر كابي أنه من أهل أصبهان، فثار بمن اتبعه، فالتفت الخلائق إليه، فلمّا أشرف على الضحّاك قذف في قلب الضحاك منه الرعب فهرب عن منازله وخلّى مكانه، فاجتمع الأعجام إلى كابي، فأعلمهم أنه لا يتعرض للملك لأنه ليس من أهله، وأمرهم أن يملكوا بعض ولد جم لأنه ابن الملك أوشهنق الأكبر بن فروال الذي رسم الملك وسبق في القيام به، وكان أفريدون بن أثغيان مستخفياً من الضحاك فوافى كابي ومن معه، فاستبشروا بموافاته فملّكوه، وصار كابي والوجوه لأفريدون أعواناً على أمره، فلمّا ملك وأحكم ما احتاج إليه من أمر الملك احتوى على منازل الضحاك وسار في أثره فأسره بدنباوند في جبالها. وبعض المجوس تزعم أنه وكل به قوماً ن الجن، وبعضهم يقول: إنه لقي سليمان بن داود، وحبسه سليمان في جبل دنباوند، وكان ذلك الزمان بالشام، فما برح بيوراسب بحبسه يجرّه حتى حمله الى خراسان، فلمّا عرف سليمان ذلك أمر الجنّ فأوثقوه حتى لا يزول وعملوا عليه طلسماً كرجلين يدقّان باب الغار الذي حبس فيه أبداً لئلا يخرج، فإنه عندهم لا يموت. وهذا أيضاً من أكاذيب الفرس الباردة، ولهم فيه أكاذيب أعجب من هذا تركنا ذكرها. وبعض الفرس زعم أن أفريدون قتله يوم النّيروز، فقال العجم عند قتله: إمروز نوروز، أي استقبلنا الدهر بيوم جديد، فاتخذوه عيداً، وكان أسره يوم المهرجان، فقال العجم: آمد مهرجان لقتل من كان يذبح، وزعموا أنهم لم يسمعوا في أمور الضحاك بشيء يستحسن غير شيء واحد، وهو أن بليته لما اشتدت ودام جوره وتراسل الوجوه في أمره فأجمعوا على المصير الى بابه فوافاه الوجوه، فاتفقوا على أن يدخل عليه كابي الأصبهاني، فدخل عليه ولم يسلم، فقال: أيها الملك أي السلام أسلم عليك؟ سلام من يملك الأقاليم كلها أم سلام من يملك هذا الإقليم؟ فقال: بل سلام من يملك الأقاليم كلها لأني ملك الأرض، فقال كابي: إذ كنت تملك الأقاليم كلها فلم خصصتنا بأثقالك وأسبابك من بينهم ولم لا تقسم الأمور بيننا وبينهم؟ وعدّد عليه أشياء كثيرة، فصدّقه، فعمل كلامه في الضحّاك، فأقرّ بالإساءة وتألّف القوم ووعدهم بما يحبون وأمرهم بالانصراف ليعودوا ويقضي حوائجهم ثم ينصرفوا إلى بلادهم. وكانت أمّه حاضرة تسمع معاتبتهم، وكانت شرّاً منه، فلمّا خرج القوم دخلت مغتاظة من احتماله وحلمه عنهم فوبخته وقالت له: ألا أهلكتهم وقطعت أيديهم؟ فلما أكثرت عليه قال لها: ياهذه لا تفكري في شيء إلا وقد سبقت إليه، إلا أن القوم بدهوني بالحقّ وقرعوني به، فكلما هممت بهم تخيل لي الحق بمنزلة الجبل بيني وبينهم فما أمكنني فيهم شيء، ثم جلس لأهل النواحي فوفى لهم بما وعدهم وقضى أكثر حوائجهم. وقال بعضهم: كان ملكه ستمائة سنة، وكان عمره ألف سنة، وإنه كان في باقي عمره شبيهاً بالملك لقدرته ونفوذ أمره، وقيل: كان ملكه ألف سنة وكان عمره ألف سنة ومائة سنة. وإنما ذكرنا خبر بيوراسب ها هنا لأن بعضهم يزعم أن نوحاً كان في زمانه، وإنما أرسل إليه والى أهل مملكته، وقيل: إنه هو الذي بنى مدينة بابل ومدينة صور ومدينة دمشق. ذكر ذرية نوح عليه السلام
قال النبي، صلى الله عليه وسلم، في قوله تعالى: (وجعلنا ذريته هم الباقين) الصافات: 37 : 77؛ إنهم سام وحام ويافث، وقال وهب بن منبّه: إن سام بن نوح أبو العرب وفارس والروم، وإن حاماً أبو السودان، وإنّ يافث أبو الترك ويزجوج ومأجوج، وقيل: إنّ القبط من ولد قوط بن حام، وإنما كان السواد في نسل حام لأن نوحاً نام فانكشفت سوأته فرآها حام فلم يغطها ورآها سام ويافث فألقيا عليه ثوباً، فلما استيقظ علم ما صنع حام وإخوته فدعا عليهم. قال ابن اسحاق: فكانت امرأة سام بن نوح صل ابنة بتأويل بن محويل بن خانوخ بن قين بن آدم فولدت له نقراً: أرفخشذ واشوذ ولاوذ وإرم، قال: ولا أدري أإرم لأمّ أرفخشذ وإخوته أم لا، فمن لود لاوذ بن سام فارس وجرجان وطسم وعميلق، وهو أبو العماليق، ومنهم كانت الجبابرة بالشام الذين يقال لهم الكنعانيون، والفراعنة بمصر، وكان أهل البحرين وعمان منهم ويسمون جاشم، وكان منهم بنو أميم بن لاوذ أهل وبار بأرض الرمل، وهي بين اليمامة والشحر، وكانوا قد كثروا فأصابتهم نقمة من الله من معصية أصابوها فهلكوا وبقيت منهم بقيّة، وهم الذين يقال لهم النسناس، وكان طسم ساكني اليمامة الى البحرين، فكانت طسم والعماليق وأميم وجاشم قوماً عرباً لسانهم عربيّ، ولحقت عبيل بيثرب قبل أن تبنى، ولحقت العماليق بصنعاء قبل أن تسمى صنعاء، وانحدر بعضهم الى يثرب فأخرجوا منها عبيلاً فنزلوا موضع الجحفة، فأقبل سيل فاجتحفهم، أي أهلكهم، فسميت الجحفة. قال: وولد إرم بن سام عوضاً وغائراً وحويلاً، فولد عوض غاثراً وعاداً وعبيلاً، وولد غائر بن إم ثمود وجديساً، وكانوا عرباً يتكلّمون بهذا اللسان المصريّ، وكانت العرب تقول لهذه الأمم ولجرهم العرب العاربة، ويقولون لبني اسماعيل العرب المتعربة لأنهم إنما تكلموا بلسان هذه الأمم حين سكنوا بين أطهرهم، فكانت عاد بهذا الرمل الى حضرموت، وكانت ثمود بالحجر بين الحجاز والشام الى وادي القرى، ولحقت جديس بطسم وكانوا معهم باليمامة إلى البحرين، واسم اليمامة إذ ذاك جوّ، وسكنت جاشم عمام، والنبط من ولد نبيط بن ماش بن إرم بن سام، والفرس بنو فارس بن تيرش بن ماسور بن سام. قال: وولد لأرفخشذ بن سام ابنه قينان، كان ساحراً، وولد لقينان شالخ بن أرفخشذ من غير ذكر قينان لما ذكر من سحره، وولد لشالخ غابر، ولغابر فالغ، ومعناه القاسم، لأن الأرض قسمت والألسن تبلبلت في أيامه، وقحطان بن غابر، فولد لقحطان يعرب ويقظان، فنزلا اليمن، وكان أول من سكن اليمن وأول من سلم عليه بأبيت اللعن، وولد لفالغ بن غابر أرغو، وولد لأرغو ساروغ، وولد لساروغ ناخور، وولد لناخور تارخ، واسمه بالعربية آزر، وولد لآزر إبراهيم، عليه السلام، وولد لأرفخشذ أيضاً نمرود، وقيل هو نمرود بن كوش بن حام بن نوح. قال هشام بن الكلبي: السند والهند بنو توقير بن يقطن بن غابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح، وجرهم من ولد يقطن بن غابر، وحضرموت ابن يقطن، ويقطن هو قحطان في قول من نسبه الى غير اسماعيل، والبربر من ولد ثميلا بن مارب بن فاران بن عمرو بن عمليق بن لاود بن سام بن نوح ما خلا صنهاجة وكتامة، فإنهما بنو فريقش بن صيفي بن سبأ. وأما يافث فمن ولده جامر وموعع ومورك وبوان وفوبا وماشج وتيرش، فمن ولد جامر ملوك فارس في قول، ومن ولد تيرش الترك والخزر، ومن ولد ماشج الأشبان كانوا في القديم بأرض الروم قبل أن يقع بها من وقع من ولد العيص بن إسحاق وغيرهم، وقصد كلّ فريق من هؤلاء الثلاثة سام وحام ويافث أرضاً فسكنوها ودفعوا غيرهم عنها، ومن ولد يافث الروم، وهم بنو لنطى بن يوان بن نافث بن نوح. وأما حام فولد له كوش ومصرايم وقوط كنعان، فمن ولد كوش نمرود بن كوش، وقيل: هو من ولد سام، وصارت بقية ولد حام بالسواحل من النوبة والحبشة والزنج، ويقال: إن مصرايم ولد القبط والبربر. وأما قوط فقيل إنه سار الى الهند والسند فنزلها وأهلها من ولده. وأما الكنعانيون فلحق بعضهم بالشام ثم جاءت بنو إسرائيل فقتلوهم بها ونفوهم عنها وصار الشام لبني إسرائيل، ثمّ وثبت الروم على بني إسرائيل فأجلوهم عن الشام الى العراق إلا قليلاً منهم، ثم جاءت العرب فغلبوا على الشام، وكان يقال لعاد عاد إرم، فلمّا هلكوا قيل لثمود ثمود إرم، قال:
وزعم أهل التوراة أن أرفخشذ ولد لسام بعد أن مضى من عمر سام مائة سنة وسنتان، وكان جميع عمر سام ستمائة سنة. ثم ولد لأرفخشذ قينان بعد أن مضى من عمر أرفخشذ خمس وثلاثون سنة، وكان عمره أربعمائة وثمانياً وثلاثين سنة، ثم ولد لقينان شالخ بعد أن مضي من عمره تسع وثلاثون سنة، ولم تذكر مدّة عمر قينان في الكتب لما ذكرنا من سحره، ثمّ ولد لشالخ غابر بعدما مضى من عمره ثلاثون سنة، وكان عمره كله أربعمائة وثلاثاً وثلاثين سنة، ثم ولد لغابر فالغ وأخوه قحطان، وكان مولد فالغ بعد الطوفان بمائة وأربعين سنة، وكان عمره أربعمائة وأربعاً وسبعين سنة، ثم ولد لفالغ أرغو بعد ثلاثين سنة من عمر فالغ، وكان عمره مائتين وتسعاً وثلاثين سنة، وولد لأرغو ساروغ بعدما مضى من عمره اثنتان وثلاثون سنة، وكان عمره مائتين وتسعاً وثلاثين سنة، وولد لساروغ ناخور بعد ثلاثين سنة من عمره، وكان عمره كلّه مائتين وثلاثين سنة، ثمّ ولد لناخور تارخ أبو إبراهيم بعدما مضى من عمره سبع وعشرون سنة، وكان عمره كله مائتين وثمانياً وأربعين سنة، وولد لتارخ، وهو آزر، ابراهيم، عليه السلام، وكان بين الطوفان ومولد ابراهيم ألف سنة ومائتا سنة وثلاث وستون سنة، وذلك بعد خلق آدم بثلاثة آلاف سنة وثلاثمائة وسبع وثلاثين سنة، وولد لقحطان بن غابر يعرب، فولد ليعرب يشجب، فولد يشجب سبأ، فولد سبأ حمير وكهلان وعمراً والأشعر وأنمار ومرّاً، فولد عمرو بن سبأ عديّاً، وولد عديّ لخماً وجذاماً. ذكر ملك أفريدونوهو أفريدون بن اثغيان، وهو من ولد جم شيد، وقد زعم بعض نسّابة الفرس أن نوحاً هو أفريدون الذي قهر الضحّاك وسلبه ملكه، وزعم بعضهم أنّ أفريدون هو ذو القرنين صاحب إبراهيم الذي ذكره الله في كلامه العزيز، وإنما ذكرته في هذا الموضع لأن قصته في أولاده الثلاثة شبيهة بقصة نوح على ما سيأتي ولحسن سيرته وهلاك الضحّاك على يديه ولأنه قيل إنّ هلاك الضحّاك كان على يد نوح. وأما باقي نسابة الفرس فإنهم ينسبون أفريدون إلى جم شيد الملك، وكان بينهما عشرة آباء كلهم يسمى اثغيان خوفاً من الضحّاك، وإنما كانوا يتميزون بألقاب لقبوها، فكان يقال لأحهم اثغيان صاحب البقر الحمر واثغيان صاحب البقر البلق وأشباه ذلك، وكان أفريدون أول من ذلّل الفيلة وامتطاها ونتج البغال واتخذ الإوز والحمام وعلم الترياق وردّ المظالم وأمر النّاس بعبادة الله والإنصاف والإحسان، وردّ على الناس ما كان الضحّاك غصبه من الأرض وغيرها إلاّ ما لم يجد له صاحباً فإنه وقفه على المساكين. وقيل: إنه أول من سمّي الصوفي، وهو أوّل من نظر في علم الطبّ، وكان له ثلاثة بنين، اسم الأكبر شرم، والثاني طوج، والثالث إيرج، فخاف أن يختلفوا بعده فقسم ملكه بينهم أثلاثاً وجعل ذلك في سهام كتب أسماءهم عليها وأمر كلّ واحد منهم فأخذ سهماً، فصارت الروم وناحية العرب لشرم، وصارت الترك والصين لطوج، وصارت العراق والسند والهند والحجاز وغيرها لإيرج، وهو الثالث، وكان يحبّه، وأعطاه التاج والسرير، ومات أفريدون ونشبت العداوة بين أولاده وأولادهم من بعدهم، ولم يزل التحاسد ينمو بينهم إلى أن وثب طوج وشرم على أخيهما إيرج فقتلاه وقتلا ابنين كانا لإيرج وملكا الأرض بينهما ثلاثمائة سنة، ولم يزل أفريدون يتبع من بقي بالسواد من آل نمرود والنبط وغيرهم حتى أتى على وجوههم ومحا أعلامهم، وكان ملكه خمسمائة سنة. ذكر الأحداث التي كانت بين نوح وإبراهيمقد ذكرنا ما كان من أمر نوح وأمر ولده واقتسامهم الأرض بعده ومساكن كلّ فريق منهم، فكان ممن طغى وبغى فأرسل الله إليهم رسولاً فكذبوه فأهلكهم الله، هذان الحيّان من ولد إرم بن سام بن نوح، أحدهما عاد والثاني ثمود.
فأمّا عاد: فهو عاد بن عوض بن إرم بن سام بن نوح، وهو عاد الأولى، وكانت مساكنهم ما بين الشحر وعمان وحضرموت بالأحقاف، فكانوا جبّارين طوال القامة لم يكن مثلهم، يقول الله تعالى: (واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوحٍ وزادكم في الخلق بسطة) الأعراف: 7 : 69؛ فأرسل الله إليهم هود بن عبد الله بن رباح بن الجلود بن عاد بن عوض، ومن الناس من يزعم أنه هو دوهو غابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح، وكانوا أهل أوثان ثلاثة يقال لأحدها ضراً وللآخر ضمور وللثالث الهبا، فدعاهم إلى توحيد الله وإفراده بالعبادة دون غيره وترك ظلم الناس، فكذّبوه وقالوا: من أشدُّ منا قوّةً ولم يؤمن بهود منهم إلاّ قليل، وكان من أمرهم ما ذكره ابن اسحاق قال: إن عاداً أصابهم قحط تتابع عليهم بتكذيبهم هوداً، فلمّا أصابهم قالوا: جهزوا منكم وفداً الى مكة يستسقون لكم، فبعثوا قيل بن عير ولقيم بن هزّال ومرثد بن سعد، وكان مسلماً يكتم إسلامه، وجلهمة بن الخيبري، خال معاوية بن بكر، ولقمان بن عاد بن فلان بن عاد الأكبر في سبعين رجلاً من قومهم، فلمّا قدموا مكّة نزلوا على معاوية بن بكر بظاهر مكّة خارجاً عن الحرم، فأكرمهم، وكانوا أخواله وصهره لأنّ لقيم بن هزال كان تزوّج هزيلة بنت بكر أخت معاوية فأولدها أولاداً كانوا عند خالهم معاوية بمكّة، وهم: عبيد وعمرو وعامر وعمير بنو لقيم، وهم عاد الآخرة التي بقيت بعد عاد الأولى، فلمّا نزلوا على معاوية أقاموا عنده شهراً يشربون الخمر وتغنيهم الجرادتان، فينتان لمعاوية، فلما رأى معاوية طول مقامهم وتركهم ما أرسلوا له شقّ عليه ذلك وقال: هلك أخوالي، واستحيا أن يأمر الوفد بالخروج إلى ما بعثوا له، فذكر ذلك للجرادتين فقال: قل شعراً نغنّيهم به لا يدرون من قائله لعلّهم يتحركون؛ فقال معاوية: ألا يا قيل ويحك قم فهينم ... لعل الله يصبحنا غماما فيسقي أرض عاد إنّ عاداً ... قد أمسوا لا يُبينون الكلاما في أبيات ذكرها، والهيمنة: الكلام الخفي، فلما غنتهم الجرادتان ذلك الشعر وسمعه القوم قال بعضهم لبعض: يا قوم بعثكم قومكم يتغوثون بكم من البلاء الذي نزل بهم فأبطأتم عليها فادخلوا الحرم واستسقوا لقومكم، فقال مرثد بن سعد: إنهم والله لا يسقون بدعائكم ولكن أطيعوا نبيكم فأنتم تسقون، وأظهر إسلامه عند ذلك، فقال جلهمة بن الخيبري، خال معاوية، لمعاوية بن بكر: احبس عنّا مرثد بن سعد، وخرجوا الى مكة يستسقون بها لعاد، فدعوا الله تعالى لقومهم واستسقوا، فأنشأ الله سحائب ثلاثاً بيضاء وحمراء وسوداء ونادى منادٍ منها: يا قيل اختر لنفسك وقومك، فقال: قد اخترت السحابة السوداء فإنها أكثر ماء فناداه مناد: اخترت رماداً رمددا، لا تبقي من عاد أحداً، لا ولداً تترك ولا والداً إلا جعلته همدا، إلا بني اللوذيّة المهدى، وبنو اللوذية: بنو لقيم بن هزّال، كاوا بمكة عندهم خالهم معاوية ابن بكر، وساق الله السحابة السوداء بما فيها من العذاب الى عاد، فخرجت عليهم من واد يقال له المغيث، فلمّا رأوها استبشروا بها وقالوا: (هذا عارض ممطرنا) يقول الله تعالى: (بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم تدمّر كل شيءٍ بأمر ربها) الاحقاف: 46 : 24 - 25؛ أي كل شيء أمرت به، وكان أول من رأى ما فيها وعرف أنها ريح مهلكة امرأة من عاد يقال لها فهدد، فلمّا رأت ما فيها صاحت وصعقت، فلمّا خرجت الريح ن الوادي قال سبعة رهط منهم، أحدهم الخلجان: تعالوا حتى نقوم على شفير الوادي فنردّها، فجعلت الريح تدخل تحت الواحد منهم فتحمله ثم ترمي به فتدقّ عنقه، وبقي الخلجان فمال إلى الجبل وقال: لم يق إلا الخلجان نفسه ... يالك من يوم دهاني أمسه بثابت الوطء شديدٍ وطسه ... لو لم يجئني جئته أجسّه فقال له هود: أسلم تسلم، فقال: ومالي؟ قال: الجنة، فقال: فما هؤلاء الذين في السحاب كأنهم البخت؟ قال: الملائكة، قال: أيعيذني ربك منهم إن أسلمت؟ قال: هل رأيت ملكاً يعيذ من جنده؟ قال: لو فعل ما رضيت.
ثم جاءت الريح وألحقته بأصحابه و(سخرها الله عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوماً) الحاقة 69 : 7، كما قال تعالى، والحسوم: الدائمة، فلم تدع من عاد أحداً إلا هلك، واعتزل هود والمؤمنون في حظيرة لم يصبه ومن معه منها إلاّ تليين الجلود، وإنها لتمرّ من عاد بالظعن ما بين السماء والأرض وتدمغهم بالحجارة، وعاد وفد عاد الى معاوية بن بكر فنزلوا عليه، فأتاهم رجل على ناقة فأخبرهم بمصاب عاد وسلامة هود. قال: وكان قد قيل للقمان بن عاد: اختر لنفسك إلا أنه لا سبيل الى الخلود، فقال: يا ربّ أعطني عمراً، فقيل له: اختر، فاختار عمر سبعة أنسر، فعمّر فيما يزعمون عمر سبعة أنسر، فكان يأخذ الفرخ الذكر حين يخرج من بيضته حتى إذا مات أخذ غيره، وكان يعيش كل نسر ثمانين سنة، فلما مات السابع مات لقمان معه، وكان السابع يسمى لبداً، قال: وكان عمر هود مائة وخمسين سنة، وقبره بحضرموت، وقيل بالحجر من مكّة، فلمّا هلكوا أرسل الله طيراً سوداً فنقلتهم الى البحر، فذلك قوله تعالى: (فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم) الاحقاف: 46 : 25، ولم تخرج ريح قطّ إلا بمكيال إلا يومئذٍ فإنها عتت على الخزنة، فذلك قوله: (أهلكوا بريح صرصر عاتية) الحاقة: 69 : 6، وكانت الريح تقلع الشجرة العظيمة بعروقها وتهدم البيت على من فيه. وأما ثمود: فهم ولد ثمود بن جاثر بن إرم بن سام، وكانت مساكن ثمود بالحجر بين الحجاز والشام، وكانوا بعد عاد قد كثروا وكفروا وعتوا، فبعث الله إليهم صالح بن عبيد بن أسف بن ماشج بن عبيد بن جادر بن ثمود، وقيل أسف بن كماشج بن اروم بن ثمود يدعوهم إلى توحيد الله تعالى وإفراده بالعبادة (فقالوا: يا صلاح قد كنت فينا مرجوّاً قبل هذا) هود: 11 : 62 الآية؛ وكان الله قد أطال أعمارهم حتى إن كان أحدهم يبني البيت من المدر فينهدم وهو حيّ، فلمّا رأوا ذلك اتخذوا من الجبال بويتاً فارهين فنحتوها، وكانوا في سعة من معايشهم، ولم يزل صالح يدعوهم فلم يتبعه منهم إلا قليل مستضعفون، فلما ألح عليهم بالدّعاء والتحذير والتخويف سألوه فقالوا: يا صالح اخرج معنا إلى عيدنا، وكان لهم عيد يخرجون إليه بأصنامهم، فأرنا آية فتدعو إلهك وندعو آلهتنا فإن استجيب لك اتبعناك وإن استجيب لنا اتبعتنا، فقال: نعم، فخرجوا بأصنامهم وصالح معهم، فدعوا أصنامهم أن لا يستجاب لصالح ما يدعو به، وقال له سيّد قومه: يا صالح أخرج لنا من هذه الصخرة - لصخرة منفردة - ناقة جوفاء عشراء، فإن فعلت ذلك صدّقناك. فأخذ عليهم المواثيق بذلك وأتى الصخرة وصلّى ودعا ربّه عز وجل فإذا هي تتمخض كما تتمخض الحامل ثم انفجرت وخرجت من وسطها الناقة كما طلبوا وهم ينظرون ثمّ نتجت سقباً مثلها في العظم، فآمن به سيد قومه، واسمه جندع بن عمرو، ورهط من قومه، فلما خرجت الناقة قال لهم صالح: (هذه ناقة لها شرب ولكم شرب يوم معلوم) الشعراء: 26 : 155، ومتى عقرتموها أهلككم الله، فكان شربها يوماً وشربهم يوماً معلوماً، فإذا كان يوم شربها خلّوا بينها وبين الماء وحلبوا لبنها وملأوا كلّ وعاء وإناء، وإذا كان يوم شربهم صرفوها عن الماء فلم تشرب منه شيئاً وتزوّدوا من الماء للغد.
فأوحى الله الى صالح أن قومك سيعقرون الناقة، فقال لهم ذلك، فقالوا: ما كنّا لنفعل، قال: إلاّ تعقروها أنتم يوشك أن يولد فيكم مولود يعقرها، قالوا: وما علامته؟ فوالله لا نجده إلا قتلناه قال: فإنه غلام أشقر أزرق أصهب أحمر، قال: فكان في المدينة شيخان عزيزان منيعان لأحدهما ابن رغب له عن المناكح وللآخر ابنة لا يجد لها كفؤاً فزوّج أحدهما ابنه بابنة الآخر فولد بينهما المولود، فلمّا قال لهم صالح إنما يعقرها مولود فيكم اختاروا قوابل من القرية وجعلوا معهنّ شرطاً يطوفون في القرية فإذا وجدوا امرأة تلد نظروا ولدها ما هو، فلّما وجدوا ذلك المولد صرخ النسوة وقلن: هذا الذي يريد نبيّ الله صالح، فأراد الشرط أن يأخذوه فحال جدّاه بينهم وبينه وقالا: لو أراد صالح هذا لقتلناه، فكان شرّ مولود وكان يشبّ في اليوم شباب غيره في الجمعة، فاجتمع تسعة رهط منهم يفسدون في الأرض ولا يصلحون، كانوا قتلوا أبناءهم حين ولدوا خوفاً أن يكون عاقر الناقة منهم، ثمّ ندموا فأقسموا ليقتلنَّ صالحاً وأهله وقالوا: نخرج فترى الناس أننا نريد السفر فنأتي الغار الذي على طريق صالح فنكون فيه، فإذا جاء الليل وخرج صالح الى مسجده قتلناه ثمّ رجعنا الى الغار ثم انصرفنا الى رحالنا وقلنا ما شهدنا قتله فيصدّقنا قومه، وكان صالح لا يبيت معهم، كان يخرج إلى مسجد له يعرف بمسجد صالح فيبيت فيه، فلمّا دخلوا الغار سقطت عليهم صخرة فقتلتهم، فانطلق رجال ممن عرف الحال إلى الغار فرأوهم هلكى، فعادوا يصيحون: إنّ صالحاً أمرهم بقتل أولادهم ثمّ قتلهم. وقيل: إنما كان تقاسم التسعة على قتل صالح بعد عقر الناقة وإنذار صالح إيّاهم بالعذاب، وذلك أنّ التسعة الذين عقروا الناقة قالوا: تعالوا فلنقتل صالحاً فإن كان صادقاً عجّلنا قتله، وإن كان كاذباً ألحقناه بالناقة، فأتوه ليلاً في أهله فدمغتهم الملائكة بالحجارة فهلكوا، فأتى أصحابهم فرأوهم هلكى فقالوا لصالح: أنت قتلتهم، وأرادوا قتله، فمنعهم عشيرته وقالوا: إنه قد أنذركم العذاب، فإن كان صادقاً فلا تزيدوا رب | |
|
| |
الشيخ عودة الشيخ عودة
عدد المساهمات : 1748 تاريخ التسجيل : 28/09/2008 العمر : 74
| موضوع: رد: كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير الخميس فبراير 06, 2014 8:26 am | |
| ذهب عمربن الخطاب وعليّ والعبّاس بن عبد المطلب وابنه عبد الله، رضي الله عنهم، فيما رواه عنه عكرمة وعبد الله بن مسعود وكعب وابن سابط وابن أبي الهذيل ومسروق الى أنّ الذبيح إسحاق، عليه السلام.حدّث عمرو بن أبي سفيان بن أبي أسيد بن أبي جارية الثقفي أن كعباً قال لأبي هريرة: ألا أخبرك عن إسحاق بن ابراهيم؟ قال: بلى، قال كعب: لما رأى إبراهيم ذبح إسحاق قال الشيطان: والله لئن لم أفتتن عند هذا آل إبراهيم لم أفتتن أحداً منهم بعد ذلك أبداً، فتمثّل رجلاً يعرفونه فأقبل حتى إذا خرج ابراهيم بإسحاق ليذبحه دخل على سارة امرأة ابراهيم فقال لها: أين أصبح ابراهيم غادياً بإسحاق؟ قالت: لبعض حاجته، قال: لا والله إنما غدا به ليذبحه قالت سارة: لم يكن ليذبح ولده، قال الشيطان: بلى والله لأنّه زعم أنّ الله قد أمره بذلك، قالت سارة: فهذا أحسن أن يطيع ربّه، ثمّ خرج الشيطان فأدرك إسحاق وهو مع أبيه فقال له: إنّ ابراهيم يريد أن يذبحك قال إسحاق: ما كان ليفعل، قال: بلى والله إنه زعم أنّ ربّه أمره بذلك، قال اسحاق: فوالله لئن أمره ربّه بذلك ليطيعنّه فتركه ولحق ابراهيم فقال: أين أصبحت غادياً بابنك؟ قال: لبعض حاجتي، قال: لا والله إنما تريد ذبحه قال: ولِمَ؟ قال: لأنك زعمت أنّ الله أمرك بذلك، قال ابراهيم: فو الله إن كان الله أمرني بذلك لأفعلن. فلما أخذ ابراهيم اسحاق ليذبحه أعفاه الله من ذلك وفداه بذبح عظيم، وأوحى الله إلى إسحاق: إنّي معطيك دعوة أستجيب لك فيها، قال اسحاق: اللهم فأيّما عبد لقيك من الأولين والآخرين لا يشرك بك شيئاً فأدخله الجنّة. وقال عبيد بن عمير: قال موسى: يا ربّ يقولون يا إله ابراهيم واسحاق ويعقوب، فبم نالوا ذلك؟ قال: إن ابراهيم لم يعدل بي شيئاً قط إلا اختارني، وإن اسحاق جاد لي بالذبح وهو بغير ذلك أجود، وإنّ يعقوب كلما زدته بلاءً زادني حسن ظنّ بي. أسيد بفتح الهمزة، وكسر السين، وجارية بالجيم. ذكر من قال ان الذبيح إسماعيل عليه السلام روى سعيد بن جبير ويوسف بن مهران والشعبي ومجاهد وعطاء بن أبي رباح كلّهم عن أبن عبّاس أنّه قال: إنّ الذبيح اسماعيل، وقال: زعمت اليهود أنه اسحاق، وكذبت اليهود، وقال أبو الطفيل والشعبيّ: رأيت قرني الكبش في الكعبة. قال محمد بن كعب: إنّ الذي أمر الله إبراهيم بذبحه من ابنيه اسماعيل، وإنا لنجد ذلك في كتاب الله في قصة الخبر عن ابراهيم وما أمر به من ذبحه ابنه أنّه اسماعيل، وذلك أنّ الله تعالى حين فرغ من قصّة المذبوح من ابني ابراهيم قال: (وبشرناه بإسحق نبيّاً من الصالحين) الصافات: 37 : 100، ويقول: وبشرناه بإسحاق نبيّاً، ومن وراء إسحاق يعقوب بابن وابن ابن، فلم يكن يأمره بذبح اسحاق، وله فيه من الله عزّ وجلّ ما وعده، وما الذي أمر بذبحه إلاّ اسماعيل؛ فذكر ذلك محمد بن كعب لعمر بن عبد العزيز وهو خليفة، فقال: إنّ هذا الشيء ما كنتُ أنظر فيه وإنّي لأراه كما قلت. ذكر السبب الذي من أجله أُمر إبراهيم بالذبح وصفة الذبحقيل: أمر الله ابراهيم، عليه السلام، بذبح ابنه فيما ذكر أنّه دعا الله أن يهب له ولداً ذكراً صالحاً، فقال: (رب هب لي من الصالحين) الصافات: 37 : 112، فلما بشرته الملائكة بغلام حليم قال: إذن هو لله ذبيح، فلمّا ولد الغلامُ وبلغ معه السعي قيل له: أوفِ نذرك الذي نذرت، وهذا على قول من زعم أن الذبيح اسحاق، وقائل هذا يزعم أن ذلك كان بالشام على ميلين من إيليا، وأما من زعم أنه إسماعيل فيقول: إنّ ذلك كان بمكة. قال محمّد بن اسحاق: إنّ ابراهيم قال لابنه حين أمر بذبحه: يا بني خذ الحبل والمدية ثم انطلق بنا الى هذا الشعب لنحتطب لأهلك، فلمّا توجه اعترضه إبليس ليصدّه عن ذلك، فقال: إليك عني يا عدوّ الله فو الله لأمضينّ لأمر الله فاعترض اسماعيل فأعلمه ما يريد ابراهيم يصنع به، فقال: سمعاً لأمر ربيّ وطاعة، فذهب الى هاجر فأعلمها، فقالت: إن كان ربّه أمره بذلك فتسليماً لأمر الله، فرجع بغيظه لم يصبْ منهم شيئاً.
فلمّا خلا ابراهيم بالشعب، وهو شعب ثبير، قال له: (يابني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى، قال: يا أبت افعل ما تؤمر، ستجدني إن شاء الله من الصابرين)، الصافات: 37 : 102، ثم قال له: يا أبتِ إن أردت ذبحي فاشدد رباطي لا يصبك من دمي شيء فينتقص أجري، فإنّ الموت شديد، واشحذ شفرتك حتى تريحني، فإذا أضجعتني فكبّني على وجهي فإني أخشى إن نظرت في وجهي أنّك تدركك رحمةٌ فتحول بينك وبين أمر الله، وإن رأيت أن تردّ قميصي الى هاجر أمّي فعسى أن يكون أسلى لها عني، فافعل، فقال ابراهيم: نعم المعين أنت، أي بني، على أمر الله فربطه كما أمره ثم حدّ شفرته (وتلّه للجبين)، ثم ادخل الشفرة لخلقه، فقلبها الله لقفاها ثمّ اجتذبها إليه ليفرغ منه، فنودي: (أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا) الصافات: 37 : 104، هذه ذبيحتك فداء لابنك فاذبحها. وقيل: جعل الله على خلقه صحيفة نحاس، قال ابن عباس: خرج عليه كبش من الجنة قد رعى فيها أربعين خريفاً، وقيل: هو الكبش الذي قرّبه هابيل، وقال عليّ، عليه السلام: كان كبشاً أقرن أعين أبيض، وقال الحسن: ما فُدي إسماعيل إلاّ بتيس من الأروى هبط عليه من ثبير فذبحه، قيل: بالمقام، وقيل: بمنىً في المنحر. ذكر ما امتحن الله به إبراهيم عليه السلام بعد ابتلاء الله تعالى ابراهيم بما كان من نمرود وذبح ولده بعد أن رجا نفعه ابتلاه الله بالكلمات التي أخبر أنّه ابتلاه بهنّ فقال تعالى: (وإذ ابتلى ابراهيم ربّه بكلمات فأتمهن) البقرة: 2 : 124، واختلف السلف من العلماء الأئمة في هذه الكلمات، فقال ابن عباس من رواية عكرمة عنه في قوله تعالى: (وإذ ابتلى ابراهيم ربّه بكلمات فأتمهن): لم يبتل أحد بهذا الدين فأقامه إلا ابراهيم، وقال الله: (وإبراهيم الذي وفّى) النجم: 53 : 37، قال: والكلمات عشر في براءة، وهي: (العابدون الحامدون) الآية التوبة: 112، وعشر في الأحزاب، وهي: (إن المسلمين والمسلمات) الآية الاحزاب: 35، وعشر في المؤمنين من أولها الى قوله تعالى: (والذين هم على صلاتهم يحافظون) المعارج: 34، وقال آخرون: هي عشر خصال. قال ابن عباس من رواية طاووس وغيره عنه: الكلمات عشر، وهي خمس في الرأس: قصّ الارب والمضمضة والاستنشاق والسواك وفرق الرأس، وخمس في الجسد، وهي: تقليم الأظفار وحلق العانة والحيتان ونتف الإبط وغسل أثر الغائط ، وقال آخرون: هي مناسك الحج، وقوله تعالى: (إني جاعلك للناس إماماً) البقرة: 2 : 124 وهو قول أبي صالح ومجاهد، وقال آخرون: هي ستّ، وهي: الكواكب والقمر والشمس والنار والهجرة والختان. وذبح ابنه، وهو قول الحسن، قال: ابتلاه بذلك فعرف أنّ ربّه دائم لا يزول فوجّه وجهه للذي فطر السموات والأرض وهاجر من وطنه وأراد ذبح ابنه وختن نفسه، وقيل غير ذلك ممّا لا حاجة إليه في التاريخ المختصر، وإنما ذكرنا هذا القدر لئلا يخلو من فصول الكتاب. ذكر عدو الله نمرود وهلاكهونرجع الآن إلى خبر عدوّ الله نمرود وما آل إليه أمره في دنياه وتمرّده على الله تعالى وإملاء الله له، وكان أول جبّار في الأرض، وكان إحراقه ابراهيم ما قدّمنا ذكره، فأخرج إبراهيم، عليه السلام، من مدينته وحلف أنه يطلب إله ابراهيم، فأخذ أربعة أفرخ نسور فربّاهنّ باللّحم والخمر حتى كبرن وغلظن، فقرنّنّ بتابوت وقعد في ذلك التابوت فأخذ معه رجلاً ومع لحم لهنّ، فطرن به حتى إذا ذهبن أشرف ينظر الى الأرض فرأى الجبال تدبّ كالنّمل، ثم رفع لهنّ اللحم ونظر إلى الأرض فرآها يحيط بها بحر كأنّها فلك في ماء، ثمّ رفع طويلاً فوقع في ظلمة فلم ير ما فوقه وما تحته، ففزع وألقى اللحم، فاتّبعته النسور منقضّات، فلمّا نظرت الجبال إليهن وقد أقبلن منقضات وسمعن حفيفهنّ فزعت الجبال وكادت تزول ولم يفعلن، وذلك قول الله تعالى: (وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال) ابراهيم: 14 : 47، وكانت طيرورتهنّ من بيت المقدس، ووقوعهنّ في جبل الدخان. فلمّا رأى أنه لايطيق شيئاً أخذ ف يبنيان الصرخ فبناه حتى علا وارتقى فوقه ينظر إلى إله ابراهيم بزعمه وأحدث، ولم يكن يحدث، وأخذ الله بنيانهم من القواعد من أساس الصرخ فسقط وتبلبلت الألسن يومئذ من الفزع، فتكلّموا بثلاثة وسبعين لساناً، وكان لسان الناس قبل ذلك سُريانياً.
هكذا روي أنه لم يحدث، وهذا ليس بشيء، فإن الطبع البشريّ لم يخل منه إنسان حتى الأنبياء، صلوات الله عليهم، وهم أكثر اتصالاً بالعالم العلويّ وأشرف أنفساً، ومع هذا فيأكلون ويشربون ويبولون ويتغوّطون، فلو نجا منه أحد لكان الأنبياء أولى لشرفهم وقربهم من الله تعالى، وإن كان لكثرة ملكه فالصحيح أنه لم يملك مستقلاً، ولو ملك مستقلاً لكان الإسكندر أكثر ملكاً منه ومع هذا فلم يقل فيه شيء من هذا. قال زيد بن أسلم: إن الله تعالى بعث الى نمرود بعد ابراهيم ملكاً يعدوه الى الله أربع مرات فأبى وقال: أربّ غيري؟ فقال له الملك: اجمع جموعك الى ثلاثة أيام، فجمع جموعه، ففتح الله عليه باباً من البعوض، فطلعت الشمس فلم يروهامن كثرتها، فبعثها الله عليهم فأكلتهم ولم يبق منهم إلا العظام والملك كما هو لم يصبه شيء، فأرسل الله عليه بعوضةً فدخلت في منخره فمكث يضرب رأسه بالمطارق فأرحم الناس به من يمع يديه ويضرب بهما رأسه، وكان ملكه ذلك أربعمائة سنة، وأماته الله تعالى، وهو الذي بنى الصرح. وقال جماعة: إن نمرود ن كنعان ملك مشرق الأرض ومغربها، وهذا قول يدفعه أهل العلم بالسير وأخبار الملوك، وذلك أنهم لا ينكرون ان مولد ابراهيم كان أيام الضحّاك الذي ذكرنا بعض أخباره فيما مضى، وأنه كان ملك شرق الأرض وغربها، وقول القائل إنّ الضحّاك الذي ملك الأرض هو نمرود ليس بصحيح، لأن أهل العلم المتقدّمين يذكرون أنّ نسب نمرود في النّبط معروف، ونسب الضحّاك في الفرس مشهور، وإنما الضحّاك استعمل نمرود على السواد وما اتصل به يمنة ويسرة وجعله وولده عمّالاً على ذلك، وكان هو ينتقل في البلاد، وكان وطنه ووطن أجداده دنباوند من جبال طبرستان، وهناك رمى به أفريدون حين ظفر به، وكذلك بخت نصّر. ذكر بعضهم أنه ملك الأرض جميعها، وليس كذلك، وإنما كان اصبهبذ ما بين الأهواز الى أرض الروم من غربيّ دجلة من قبل لُهراسب، لأنّ لهراسب كان مشتغلاً بقتال الترك مقيماً بإزائهم ببلخ، وهو بناها لما تطاول مقامه هناك لحرب الترك، ولم يملك أحد من النبط شبراً من الأرض مستقلاً برأسه، فكيف الأرض جميعها وإنما تطاولت مدّة نمرود بالسواد أربعمائة سنة ثمّ دخل من نسله بعد هلاكه جيل يقال له نبط بن قعود ملك بعده مائة سنة، ثمّ كداوص بن نبط ثمانين سنة، ثم بالش بن كداوص مائة وعشرين سنة، ثمّ نمرود بن بالش سنة وشهراً، فذلك سبع مائة سنة وسنة، وشهد أيام الضحّاك، وظنّ الناس في نمرود ما ذكرناه، فلمّا ملك أفريدون وقهر لازدهاق قتل نمرود بن بالش وشرد النبط وقتل فيهم مقتلةً عظيمة. ذكر قصة لوط وقومهقد ذكرنا مهاجر لوط مع ابراهيم، عليه السلام، الى مصر وعودهم الى الشام ومقام لوط بسدوم. فلمّا أقام بها أرسله الله إلى أهلها، وكانوا أه كفر بالله تعالى وركوب فاحشة، كما قال تعال: (إنكم لتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين، أئنكم لتأتون الرجال وتقطعون السبيل وتأتون في ناديكم المنكر) فكان قطعهم السبيل أنهم كانوا يأخذون المسافر إذا مر بهم ويعلمون به ذلك العمل الخبيث، وهو اللّواطة، وأما إتيانهم المنكر في ناديهم فقيل كانوا يحذفون من مرّ بهم ويسخرون منهم، وقيل: كانوا يتضارطون في مجالسهم، وقيل: كان يأتي بعضهم بعضاً في مجالسهم. وكان لوط يدعوهم إلى عبادة الله وينهاهم عن الأمور التي يكرهها الله منهم من قطع السبيل وركوب الفواحش وإتيان الذكور في الأدبار ويتوعدهم على إصرارهم وترك التوبة بالعذاب الأليم، فلا يزجرهم ذلك ولا يزيدهم وعظه إلا تمادياً واستعجالاً لعقاب الله إنكاراً منهم لوعيده ويقولون له: ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين، حتى سأل لوط ربّه النصرة عليهم لما تطاول عليه أمرهم وتماديهم في غيّهم. فبعث الله، لما أراد هلاكهم ونصر رسوله، جبرائيل وملكين آخرين معه أحدهما ميكائيل والآخر إسرافيل، فأقبلوا فيما ذكر مشاة في صورة رجال وأمرهم أن يبدأوا بإبراهيم وسارة ويبشّروه باسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب.
فلمّا نزلوا على إبراهيم، وكان الضيف قد أبطأ عنه خمسة عشر يوماً حتى شقّ ذلك عليه، وكان يضيف من نزل به، وقد وسّع الله عليه الرزق، فرح بهم ورأى ضيفاً لم ير مثلهم حسناً وجمالاً، فقال: لا يخدم هؤلاء القوم أحد إلاّ أنا بيدي، فخرج إلى أهله فجاء بعجل سمين قد حنّذه، أي أنضجه، فقرّبه إليهم، فأمسكوا أيديهم عنه، (فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفةً، قالوا لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوطٍ، وامرأته - سارة - قائمة فضحكت - لما عرفت من أمر الله ولما تعلم من قوم لوط - فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب) فقالت، وصكّت وجهها: (أألد وأنا عجوز)، إلى قوله: (حميد مجيد)، وكانت ابنة تسعين سنة وابراهيم ابن عشرين ومائة. فلما ذهب عن ابراهيم الروع وجاءته البشرى ذهب يجادل جبرائيل في قوم لوط، فقال له: أرأيت إن كان فيهم خمسون من المسلمين؟ قالوا: وإن كان فيهم خمسون من المسلمين؟ قالوا: وإن كان فيهم خمسون من المسلمين لم يعذّبهم؟ قال: وأربعون، قالوا: وأربعون؟ قال: وثلاثون، حتى بلغ عشرة، قالوا: وإن كان فيهم عشرة؟ قال: ما قم لا يكون فيهم عشرة فيهم خير ثم قال: (إنّ فيها لوطاً، قالوا: نحن أعلم بمن فيها لننجينّه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين). ثمّ مضت الملائكة نحو سدوم قرية لوط، فلمّا انتهوا إليها لقوا لوطاً في أرض له يعمل فيها، وقد قال الله تعالى لهم: لاتهلكوهم حتى يشهد عليهم لوط أربع شهادات، فأتوه فقالوا: إنّا متضيفوك اللّيلة، فانطلق بهم، فلّما مشى ساعة التفت إليهم فقال لهم: أما تعلمون ما يعمل أهل هذه القرية؟ والله ما أعلم على ظهر الأرض إنساناً أخبث منهم، حتى قال ذلك أربع مرّات. وقيل: بل لقوا ابنته فقالوا: يا جارية هل من منزل؟ قالت: نعم، مكانكم لا تدخلوا حتى آتيكم، خافت عليهم من قومها، فأتت أباها فقالت: يا أبتاه أدرك فتياناً على باب المدينة ما رأيت أصبح وجوهاً منهم لئلا يأخذهم قومك فيفضحوهم، وكان قومه قد نهوه أن يضيف رجلاً، فجاء بهم فلم يعلم إلاّ أهل بيت لوط، فخرجت امرأته فأخبرت قومها وقالت لهم: قد نزل بنا قوم ما رأيت أحسن وجوهاً منهم ولا أطيب رائحة، فجاءه قومه يهرعون إليه، فقال: يا قوم (اتقوا الله ولا تخزون في ضيفي أليس منكم رجل رشيد)، فنهاهم ورغبّهم وقال: (هؤلاء بناتي هن أطهر لكم) مما تريدون، (قالوا: لقد علمت ما لنا في بناتك من حق وإنك لتعلم ما نريد) هود: 11 : 79 (أولم ننهك عن العالمين) الحجر: 15 : 70، فلما لم يقبلوا منه (قال: لو أنّ لي بكم قوّة أو اوي الى ركن شديد) هود: 11 : 80 يعني لو أنّ لي أنصاراً أو عشيرة يمنعوني منكم، فلمّا قال ذلك وجد عليه الرسل فقالوا: إنّ ركنك لشديد ولم يبعث الله نبياً إلا في ثروة من قومه ومنعة من عشيرته، وأغلق لوط الباب، فعالجوه، وفتح لوط الباب، فدخلوا، واستأذن جبرائيل ربّه في عقوبتهم فأذن له فبسط جناحه ففقأ أعينهم وخرجوا يدوس بعضهم بعضاً عمياناً يقولون: النجاء النجاء فنّ في بيت لوط أسحر قوم في الأرض وقالوا للوط: (إنا رسل ربّك لن يصلوا إليك فأسر بأهلك بقطع من الليل ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك) هود: 11 : 81 (واتبع أدبارهم : وامضوا حيث تؤمرون) الحجر: 15 : 65. فأخرجهم الله الى الشام وقال لوط: أهلكوهم الساعة؛ فقالوا: لن نؤمر إلاّ بالصبح، (أليس الصبح بقريب) هود: 11 : 81، فملا كان الصبح أدخل جبرائيل، وقيل ميكائيل، جناحه في أرضهم وقراهم الخمس فرفعها حتى سمع أهل المساء صياح ديكتهم ونباح كلابهم، ثمّ قلبها فجعل عاليها سافلها وأمطر عليهم حجارة من سجيل فأهلكت من لم يكن بالقرى، وسمعت امرأة لوط الهدّة فقالت: واقوماه فأدركها حجر فقتلها، ونجّى الله لوطاً وأهله إلاّ امرأته، وذكر أنه كان فيها أربعمائة ألف، وكان ابراهيم يتشرّف عليها ويقول: سدوم يوماً هالك، ومدائن قوم لوط خمس: سدوم وصبعة وعمرة ودوما وصعوة، وسدوم هي القرية العظمى. قوله يهرعون إليه، هو مشيٌ بين الهرولة والجمز. ذكر وفاة سارة زوج إبراهيم عليه السلام وذكر أولاده وأزواجه
لا يدفع أحد من أهل العلم أن سارة توفيّت بالشام ولها مائة وسبع وعشرون سنة، وقيل: إنها كانت بقرية الجبابرة من أرض كنعان، وقيل: عاشت هاجر بعد سارة مدّة، والصحيح أن هاجر توفيّت قبل سارة، كما ذكرنا في مسير إبراهيم الى مكّة، وهو الصحيح إن شاء الله تعالى. فلمّا ماتت سارة تزوج بعدها قطوراً ابنة يقطن امرأة من الكنعانيين فولدت له ستّة نفر: نفشان ومران ومديان ومدن ونشق وسرح، وكان جميع أولاد ابراهيم مع اسماعيل واسحاق ثمانية نفر، وكان اسماعيل بكره؛ وقيل في عدد أولاده غير ذلك، فالبربر من ولد نفشان، وأهل مدين قوم شعيب من ولد مديان. وقيل: تزوج بعد قطورا امرأة اخرى اسمها حجون ابنة اهير. ذكر وفاة ابراهيم وعدد ما أنزل عليهقيل: لما أراد الله قبض روح ابراهيم أرسل اليه ملك الموت في صورة شيخ هرم، فرآه ابراهيم وهو يطعم الناس وهو شيخ كبير في الحرّ، فبعث إليه بحمار فركبه حتى أتاه، فجعل الشيخ يأخذ اللقمة يريد أن يدخلها فاه فيدخلها في عينه وأذنه ثمّ يدخلها فاه، فإذا دخلت جوفه خرجت من دبره، وكان ابراهيم سأل ربّه أن لا يقبض روحه حتى يكون هو الذي يسأله الموت، فقال: يا شيخ مالك تصنع هذا؟ قال: يا إبراهيم الكبر، قال: ابن كم أنت؟ فزاد على عمر ابراهيم سنتين، فقال ابراهيم: إنّما بيني وبين أن أصير هكذا سنتان، اللهم اقبضني إليك فقام الشيخ وقبض روحه ومات وهو ابن مائتي سنة. وقيل مائة وخمس وسبعين سنة، وهذا عندي فيه نظر لأن ابراهيم لا يخلو أن يكون قد رأى من هو أكبر منه بسنتين أو أكثر من ذلك، فإنّ من عاش مائتي سنة كيف لا يرى من هو أكبر منه بهذا القدر القريب؟ ولكن هكذا روي، ثمّ إنه قد بلغه عمر نوح ولم يصبه شيء مما رأى بذلك الرجل. وروى أبو ذرّ عن النبي، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: وأنزل الله على ابراهيم عشر صحائف، قال: قلت: يا رسول الله فما كانت صحف ابراهيم؟ قال: كانت أمثالاً كلّها: أيها الملك المسلط المبتلى المغرور إني لم أبعثك لتجمع الدنيا بعضها الى بعض ولكن بعثتك لتردّ عني دعوة المظلوم فإني لا أردها ولو كانت من كافر. وكان فيها أمثال، منها: وعلى العاقل ما لم يكن مغلوباً على عقله أن يكون له ساعات، ساعة يناجي فيها ربّه، وساعة يفكر فيها في صنع الله، وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يخلو فيها بحاجته من الحلال في المطعم والمشرب، وعلى العاقل أن لا يكون ظاعناً إلا في ثلاث: تزوده لمعاده ومرَّمة لمعاشه ولذّة ي غير محرّم، وعلى العاقل أن يكون بصيراً بأمانه، مقبلاً على شانه، حافظاً للسانه، ومن حسب كلامه من عمله قلّ كلامه إلاّ فيما يعنيه. وهو أوّل من اختتن، وأوّل من أضاف الضيف، وأوّل من اتخذ السراويل، إلى غير ذلك من الأقاويل. ذكر خبر ولد اسماعيل بن إبراهيمقد ذكرنا فيما مضى سبب إسكان إسماعيل الحرم وتزوّجه امرأة من جرهم وفراقه إيّاها بأمر إبراهيم ثمّ تزوّج أخرى، وهي السيدة بنت مضاض الجرهمي، وهي التي قال لها: قولي لزوجك: قد رضيت لك عتبة بابك، فولدت لإسماعيل اثني عشر رجلاً: نابت وقيدار واذيل وميشا ومسمع ورما وماش وآذر وقطورا وقافس وطميا وقيدمان، وكان عمر إسماعيل فيما يزعمون سبعاً وثلاثين ومائة سنة، ومن نابت وقيدار ابني اسماعيل نشر الله العرب، وأرسله الله تعالى إلى العماليق وقبائل اليمن، وقد ينطق أولاد اسماعيل بغير الألفاظ التي ذكرت، ولما حضرت اسماعيل الوفاة أوصى إلى أخيه إسحاق، وزوج ابنته من العيص بن إسحاق، ودفن عند قبر أمّه هاجر بالحجر. ذكر إسحاق بن إبراهيم وأولادهقيل: ونكح إسحاق رفقا بنت بتويل فولدت له عيصاً ويعقوب توأمين، وإن عيصاً كان أكبرهما، وكان عمر إسحاق لما ولد له ستين سنة، ثمّ نكح عيص بن إسحاق نسمة بنت عمه اسماعيل فولدت له الروم بن عيص، وكلّ بني الأصفر من ولد، وزعم بعض الناس أنّ اشبان من ولده. ونكح يعقوب بن إسحاق - وهو اسرائيل - ابنة خاله ليا بنت لبان بن بتويل فولدت له روبيل، وكان أكبر ولده، وشمعون ولاوي ويهوذا وزبالون ولشحر، وقيل ويشحر، ثمّ توفّيت ليا فتزوج أختها راحيل فولدت له يوسف وبنيامين، وهو بالعربية شداد، وولد له من سرِّيتين أربعة نفر: دان ونفتالي وجاد واشر، وكان ليعقوب اثنا عشر رجلاً.
قال السّدّيّ: تزوّج إسحاق بجارية فحملت بغلامين، فلما أرادت أن تضع زراد يعقوب أن يخرج قبل عيص فقال عيص: والله لئن خرجت قبلي لاعترضنّ في بطن أمّي ولأقتلنّها، فتأخّر يعقوب وخرج عيص فقال عيص: والله لئن خرجت قبلي لاعترضنّ في بطن أمّي ولأقتلنّها، فتأخّر يعقوب وخرج عيص وأخذ يعقوب بعقب عيص، فسمّي يعقوب وسمّي أخوه عيصاً لعصيانه، وكان عيص أحبّهما إلي أبيه ويعقوب أحبّهما الى أمه، وكان عيص صاحب صيد، فقال له اسحاق لما كبر وعمي: يا بنيّ أطعمني لحم صيد واقترب مني أدع لك بدعاء دعا لي به أبي، وكان عيص رجلاً أشعر، وكان يعقوب أجرد، وسمعت أمهما ذلك وقالت ليعقوب: يا بنيّ أذبح شاة واشوها والبس جلدها وقرّبها الى أبيك وقل له: أنا ابنك عيص، ففعل ذلك يعقوب، فلما جاء قال: يا أبتاه كلْ، قال: من أنت؟ قال: أنا ابنك عيص، فمسحه اسحاق فقال: المسّ مسّ عيص والريح ريح يعقوب، فقالت أمّه: إنّه عيص فكلْ، فأكل ودعا له أن يجعل الله في ذرّيته الأنبياء والملوك. وقام يعقوب وجاء عيص، وكان في الصيد، فقال لأبيه: قد جئتك بالصيد الذي طلبت، فقال: يا بنيّ قد سبقك أخوك، فحلف عيص ليقتلنّ يعقوب، فقال: يا بنيّ قد بقيت لك دعوة، فدعا له أن يكون ذرّيّتُه عدد التراب وأن لا يملكهم غيرهم. وهرب يعقوب خوفاً من أخيه الى خاله، وكان يسري بالليل ويكمن بالنهار، فلذلك سمي إسرائيل، ثم إن يعقوب تزوج ابنتي خاله جمع بينهما، فلذلك قال الله تعالى: (وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف) النساء: 4 : 23، وولد له منهما، فماتت راحيل في نفاسها ببنيامين، وأراد يعقوب الرجوع الى بيت المقدس فأعطاه خاله قطيع غنم، فلمّا ارتحلوا لم يكن لهم نفقة، فقالت زوجة يعقوب ليوسف: اسرق صنماً من أصنام أبي نستنفق منه، فسرق صنماً من أصنام أبيها. وأحبّ يعقوب يوسف وأخاه بنيامين حبّاً شديداً ليتمهما، وقال يعقوب لراع من الرّعاة: إذا أتاكم أحد يسألكم من أنتم فقولوا: نحن ليعقوب عبد عيص، فلقيهم عيص فسألهم فأجابه الراعي بذلك الجواب، فكفّ عيص عن يعقوب ونزل يعقوب الشام، ومات إسحاق بالشام وعمره مائة وستون سنة ودفن عند أبيه إبراهيم، عليه السلام. قصّة أيوب عليه السلام وهو رجل من الروم من ولد عيص، وهو أيّوب بن موص بن رازج بن عيص بن اسحاق بن ابراهيم، وقيل: موص بن روعيل بن عيص، وكانت زوجته التي أمر أن يضربها بالضغّث ليا ابنة يعقوب بن اسحاق، وقيل: هي رحمة ابنة ابراهيم بن يوسف، وكانت أمه من ولد لوط، وكان دينه التوحيد والإصلاح بين النّاس، وإذا أراد حاجة سجد ثمّ طلبها. وكان من حديثه وسبب بلائه أنّ إبليس سمع تجاوب الملائكة بالصلاة على أيّوب حين ذكره الله فحسده وسأل الله أن يسلّطه عليه ليفتنه عن دينه، فسّلطه على ماله حسب، فجمع إبليس عظماء أصحابه من العفاريت، وكان لأيّوب البثنيّة جميعها من أعمال دمشق بما فيها، وكان له فيها ألف شاة برعاتها وخمسمائة فدّان يتبعها خمسمائة عبد لكل عبد امرأة وولد ومال ويحمل آلة الفدّان أتان وكلّ أتان ولد واثنان وما فوق ذلك، فلمّا جمعهم إبليس قال: ما عندكم من القوّة والمعرفة فإني قد تسلطت على مال أيوب، فقال كل منهم قولاً، فأرسلهم فأهلكوا ماله كله وأيوب يحمد الله ولا يرجع عن الجدّ في عبادته والشكر له على ما أعطاه والصرب على ما ابتلاه. فلما رأى ذلك إبلس من أمره سأل الله أن يسلطه على ولده، فسلّطه عليهم ولم يجعل له سلطاناً على جسده ولا عقله وقلبه، فأهلك ولده كلهم، ثمّ جاء إليه متمثلاً بمعلمهم الذي كان يعلمهم الحكمة جريحاً مشدوخاً يرقّقه حتى رق أيوب فبكى وقبض قبضة من التراب فوضعها على رأسه، فسرّ بذلك إبليس.
ثمّ إنّ أيّوب ندم لذلك وجدّ واستغفر، فصعد حفظته من الملائكة بتوبته الى الله قبل إبليس، فلما لم يرجع أيوب عن عبادة ربّه والصبر على ما ابتلاه به سأل الله تعالى أن يسلّطه على جسده، فسّلطه عليه خلا لسانه وقلبه وعقله فإنه لم يجعل له على ذلك سلطاناً، فجاءه وهو ساجد فنفخ في منخره نفخة اشتعل منها جسده وصار أمره الى أن انتثر لحمه وامتلأ جسده دوداً، فإن كانت الدودة لتسقط من جسده فيردّها إليه ويقول: كُلي من رزق الله، وأصابه الجُذام، وكان أشدّ من ذلك عليه أنه كان يخرج في جسده مثل ثدي المرأة ثم يتفقّأ، وأنتن حتى لم يطق أحد يشمّ ريحه، فأخرجه أهل القرية منها الى الكُناسة خارج القرية لا يقربه أحد، إلا زوجته، وكانت تختلف إليه بما يصلحه، فبقي مطروحاً على الكناسة سبع سنين ما يسأل الله أن يكشف ما به، وما على وجه الأرض أكرم على الله منه. وقيل: كان سبب بلائه أن أرض الشام أجدبت فأرسل فرعون إلى أيّوب أن هلمّ إلينا فإنّ لك عندنا سعة، فأقبل بأهله وخيله وماشيته، فأقطعهم فرعون القطائع، ثم إنّ شعيباً النبيّ دخل إلى فرعون فقال: يافرعون أما تخاف أن يغضب الله غضبة فيغضب لغضبه أهل السماء وأهل الأرض والبحار والجبال؟ وأيوب ساكت لا يتكلم، فلمّا خرجا أوحى الله الى أيوب: يا أيّوب سكتَّ عن فرعون لذهابك الى أرضه، استعد للبلاء، فقال أيوب: أما كنت أكفل اليتيم وآوي الغريب وأشبع الجائع وأكفت الأرملة؟ فمرّت سحابة يسمع فيها عشرة آلاف صوت من الصواعق يقولون: من فعل ذلك يا أيوب؟ فأخذ تراباً فوضعه على رأسه وقال: أنت ياربّ، فأوحى الله إليه: استعدّ للبلاء، قال: فديني؟ قال: أسلّمه لك، قال: فما أبالي. وقيل: كان السبب غير ذلك، وهو نحو مما ذكرنا. فلما ابتلاه الله واشتد عليه البلاء قالت له امرأته: إنك رجل مجاب الدعوة فادع الله أن يشفيك، فقال: كنّا في النعماء سبعين سنة فلنصبر في البلاء سبعين سنة، والله لئن شفاني الله لأجلدنك مائة جلدة، وقيل: إنما أقسم ليجلدها لأن إبليس ظهر لها وقال: بم أصابكم ما أصابكم؟ قالت: بقدر الله، قال: وهذا أيضاً بقدر الله فاتبعيني، فاتبعته، فأراها جميع ما ذهب منهم في وادٍ وقال: اسجدي لي وأرده عليكم، فقالت: إنّ لي زوجاً أستأمره، فلم أخبرت أيوب قال: ألم تعلمي أن ذلك الشيطان؟ لئن شفيت لأجلدنك مائة جلدة، وأبعدها وقال لها: طعامك وشرابك علي حرام لا أذوق مما تأتيني به شيئاً فابعدي عني فلا أراك، فذهبت عنه، فلما رأى أيوب أن امرأته قد طردها وليس عنده طعام ولا شراب ولا صديق خرّ ساجداً وقال: ربّ (إني مسّني الضرّ وأنت أرحم الراحمين) الأنبياء: 21 : 83 كرّر ذلك، فقيل له: ارفع رأسك فقد استجيب لك، (اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب ص: 38 : 42، ورد الله إليه جسده وصورته. وأما امرأته فقالت: كيف أتركه، وليس عنده أحد، يموت جوعاً وتأكله السبّاع؟ فرجعت إليه فرأت أيوب وقد عوفي، فلم تعرفه، فعجبت حيث لم تره على حاله، فقالت له: يا عبد الله هل رأيت ذلك ارجل المبتلى الذي كان ههنا؟ قال: وهل تعرفينه إذا رأيته؟ قالت: نعم، قال: هو أنا، فعرفته. وقيل: إنما قال: مسني الضرّ لما وصل الدود إلى لسانه وقلبه خاف أن يبطل عن ذكر الله تعالى والفكر، وردّ الله إليه أهله ومثلهم معهم، قيل هم بأعيانهم، وقيل: ردّ الله إليه امرأته وردّ إليها شبابها فولدت له ستّة وعشرين ذكراً، وأنزل الله إليه ملكاً فقال: يا أيّوب نّ الله يقرئك السلام لصبرك على البلاء، اخرج الى أندرك، فخرج إليه، فبعث الله سحابةً فألقت عليه جراداً من ذهب، وكانت الجرادة تذهب فيتبعها حتى يردّها في أندره، فقال الملك: أما تشبع من الداخل حتى تتّبع الخارج؟ فقال: إن هذه البركة من بركات ربّي لست أشبع منها. وعاش أيوب بعد أن رفع عنه البلاد سبعين سنة، ولما عوفي أمره الله أن يأخذ عرجوناً من النخل فيه مائة شمراخ فيضرب به زوجته ليبرّ من يمينه، ففعل ذلك. وقول أيّوب: ربّ إنّي مسّني الضرّ، دعاء ليس بشكوى، ودليله قوله تعالى: (فاستجبنا له) الأنبياء: 21 : 84.
وكان من دعاء أيّوب: أعوذ بالله من جارٍ عينه تراني إن رأى حسنة سترها وإن رأى سيئة ذكرها، وقيل: كان سبب دعائه أنّه كان قد اتبعه ثلاثة نفر على دينه اسم أحدهم يلدد والآخر اليفر والثالث صافر، فانطلقوا إليه وهو في البلاء فبكّتوه أشدّ تبكيت وقالوا له: لقد أذنبت ذنباً ما أذنبه أحد، فلهذا لم يكشف العذاب عنك، وطال الجدال بينهم وبينه، فقال فتى كان معهم لهم كلاماً يردّ عليهم، فقال: قد تركتم من القول أحسنه، ومن الرأي أصوبه، ومن الأمر أجمله، وقد كان لأيّوب عليكم من الحقّ والذمام أفضل من الذي وصفتم، فهل تدرون حقّ من انتقصتم وحرمة من انتهكتم ومن الرجل الذي عبتم؟ ألم تعلموا أن أيوب نبيّ الله وخيرته من خلقه يومكم هذا؟ ثمّ لم تعلموا ولم يعلمكم الله أنه سخط شيئاً من أمره ولا أنه نزع شيئاً من الكرامة التي كرم الله بها عباده ولا أن أيوب فعل غير الحقّ في طول ما صحبتموه، فإن كان البلاء هو الذي أزرى به عندكم ووضعه في نفوسكم، فقد علمتم أنّ الله يبتلي النبيّين والصدّيقين والشهداء والصالحين وليس بلاوه لأولئك دليلاً على سخطه عليهم ولا على هوانهم عليه ولكنها كرامة وخيرة لهم، وأطال في هذا النحو من الكلام. ثمّ قال لهم: وقد كان في عظمة الله وجلاله وذكر الموت ما يكلّ ألسنتكم ويكسر قلوبكم ويقطع حجتكم، ألم تعلموا أن لله عباداً أسكتتهم خشيته عن الكلام من غير عيّ ولا بكم؟ وإنهم لهم الفصحاء الألبّاء العلامون بالله وآياته ولكنّهم إذا ذكروا عظمة الله انكسرت قلوبهم وانقطعت ألسنتهم وطاشت أحلامهم وعقولهم فزعاً من الله وهيبة له، فإذا أفاقوا استبقوا إلى الله بالأعمال الزاكية يعدّون أنفسهم مع الظالمين وإنّهم لأبرار، ومع المقصرين وإنّهم لأكياس أتقياء، ولكنهم لا يستكثرون لله عزّ وجلّ الكثير ولا يرضون له القليل ولا يدلّون عليه بالأعمال فهم أينما لقيتهم خائفون مهيمون وجلون. فلمّا سمع أيوب كلامه قال: إنّ الله يزرع الحكمة بالرحمة في قلب الصغير والكبير، فمتى كانت في القلب ظهرت على اللسان ولا تكون الحكمة من قبل السنّ والشيبة ولا طول التجربة، وإذا جعل اله تعالى عبداً حكيماً عند الصِّبا لم تسقط منزلته عند الحكّام، ثمّ أقبل على الثلاثة فقال: رهبتم قبل أن تسترهبوا، وبكيتم قبل أن تضربوا، كيف بكم لو قلت لكم تصدّقوا عني بأموالكم لعل الله أن يخلصني، أو قربوا قرباناً لعل الله أن يتقبّل ويرضى عني؟ وإنكم قد أعجبتكم أنفسكم فظننتم أنّكم عوفيتم بإحسانكم فبغيتم وتعزّزتم، لو صدّقتم ونظرتم بينكم وبين ربّكم لوجدتم لكم عيوباً سترها الله بالعافية، وقد كنت فيما خلا والرجال يوقّرونني وأنا مسموع كلامي، معروف من حقّي، مستنصف من خصمي، فأصبحت اليوم وليس لي رأي ولا كلام معكم، فأنتم أشدّ عليَّ من مصيبتي. ثمّ أعرض عنهم وأقبل على ربّه مستغيثاً به متضرّعاً إليه فقال: ربّ لأيّ شيء خلقتني ليتني إن كرهتني لم تخلقني، يا ليتني كنت حيصةً ملقاةً، ويا ليتني عرفت الذنب الذي أذنبت فصرفت وجهك الكريم عني لو كنت أمتّني فالموت أجمل لي ألم أكن للغريب داراً وللمسكين قراراً ولليتيم وليّاً وللأرملة قيِّماً؟ إلهي أنا عبد ذليل إن أحسنت فالمنّ لك، وإن أسأت فبيدك عقوبتي جعلتني للبلاء عرضاً فقد وقع عليّ البلاء لو سلّطته على جبل لضعف عن حمله فكيف يحمله ضعفي ذهب المال فصرتُ أسأل بكفّي فيطعمني من كنتُ أعوله اللّقمة الواحدة فيمنّها عليّ ويعيِّرني هلك أولادي، ولو بقي أحدهم أعانني، قد ملّني أهلي وعقّني أرحامي فتنكّرت معارفي، ورغب عني صديقي، وجحدت حقوقي، ونسيت صنائعي، أصرخ فلا يصرخونني، وأعتذر فلا يعذرونني، دعوتُ غلامي فلم يجبني، وتضرّعت إلى أمتي فلم ترحمني، وإنّ قضاءك هو الذي آذاني وأقمأني، وإن سلطانك هو الذي أسقمني، فلو أنّ ربيّ نزع الهيبة التي في صدري وأطلق لساني حتى أتكلّم ملء فمي ثمّ كان ينبغي للعبد أن يحاجّ مولاه عن نفسه، لرجوتُ أن تعافيني عند ذلك، ولكنّه ألقاني وعلا عني فهو يراني ولا أراه، ويسمعني ولا أسمعه، لا نظر إليّ فرحمني، ولا دنا مني فأتكلّم ببراءتي وأخاصم عن نفسي.
فلمّا قال أيّوب ذلك أظلّتهم غمامة ونودي منها: يا أيوب إنّ الله يقول قد دنوت منك ولم أزل منك قريباً فقم فأدلِ بحجتك وتكلّم ببراءتك وقم مقام جبّار فإنه لا ينبغي أن يخاصمني إلا جبار. تجعل الزيار في فم الأسد واللّجام في فم التنين وتكيل مكيالاً من التنور وتزن مثقالاً من الريح وتصرّ صرّة من الشمس وتردّ أمس، لقد منتك نفسك أمراً لا تبلغه بمثل قوّتك، أردت أن تكابرني بضعفك أم تخاصمني بعيّك أم تحاجّني بخطلك أين أنت مني يوم خلقت الأرض؟ هل علمت بأيّ مقدار قدرتها؟ أين كنت معي يوم رفعت السماء سقفاً في الهواء لا بعلائق ولا بدعائم تحملها؟ هل تبلغ حكمتك أن تجري نورها أو تسيّر نجومها أو يختلف بأمرك ليلها ونهارها؟ وذكر أشياء من مصنوعات الله. فقال أيوب: قصرت عن هذا الأمر ليت الأرض انشقت لي فذهبت فيها ولم أتكلّم بشيء يسخطك إلهي اجتمع عليّ البلاء وأنا أعلم أنّ كلّ الذي ذكرت صنع يديك وتدبير حكمتك لا يعجزك شيء ولا تخفى عليك خافية، تعلم ما تخفي القلوب، وقد علمت في بلائي ما لم أكن أعلمه، كنت اسمع بسطوتك سمعاً فأمّا الآن فهو نظر العين، إنّما تكلّمت بما تكلّمت به لتعذرني، وسكتّ لترحمني، وقد وضعت يدي على فمي وعضضت على لساني وألصقت بالتراب خديّ فدسستُ فيه وجهي فلا أعود لشيء تكرهه، ودعا. فقال الله: يا أيوب نفذ فيك حكمي وسبقت رحمتي غضبي، قد غفرت لك ورددت عليك أهلك ومالك ومثلهم معهم لتكون لمن خلفك آية وعبرة لأهل البلاء وعزاءً للصابرين، ف (اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب) ص: 38 : 42 فيه شفاء، وقرّب عن اصحابك قرباناً واستغفر لهم فإنهم قد عصوني فيك، فركض برجله فانفجرت له عين ماء فاغتسل فهيا، فرفع الله عنه البلاء، ثمّ خرج فجلس وأقبلت امرأته فسألته عنه فقال: هل تعرفينه؟ قالت: نعم، مالي لا أعرفه فتبسّم، فعرفته بضحكه، فاعتنقته فلم تفارقه من عناقه حتى مرّ بهما كلّ مال لهما وولد. وإنما ذكرته قبل يوسف وقصّته لما ذكر بعضهم من أمره وأنه كان نبيّاً في عهد يعقوب. وذكر أن عمر أيوب كان ثلاثاً وتسعين سنة، وأنه أوصى عند موته الى ابنه حومل، وأن الله بعد بعده ابنه بشر بن أيوب نبيّاً وسمّا ذا الكفل، وكان مقيماً بالشام حتى مات، وكان عمره خمساً وسبعين سنة، فأوصي إلى ابنه عيدان، وأنّ الله بعث بعده شعيب بن ضيعون بن عنقا بن ثابت بن مدين بن إبراهيم، عليه السلام. ذكر قصة يوسف عليه السلامذكروا أنّ اسحاق توفّي وعمره ستون ومائة سنة، وقبره عند أبيه ابراهيم، قبره ابناه يعقوب وعيص في مزرعة حبرون، وكان عمر يعقوب مائة وسبعاً وأربعين سنة، وكان ابنه يوسف قد قسم له ولأمّه شطر الحسن، وكان يعقوب قد دفعه إلى أخته ابنة اسحاق تحضنه، فأحبّته حبّاً شديداً وأحبّه يعقوب أيضاً حبّاً شديداً، فقال لأخته: يا أخيّه سلّمي إليّ يوسف فوالله ما أقدر أن يغيب عني ساعة، فقالت: والله ما أنا بتاركته ساعة، فأصرّ يعقوب على أخذه منها، فقالت: أتركه عندي أيّاماً لعلّ ذلك يسليني، ثمّ عمدت الى منطقة اسحاق، وكانت عندها، لأنها كانت أكبر ولده، فحزمتها على وسط يوسف ثمّ قالت: قد فقدت المنطقة فانظروا من أخذها، فالتمست، فقالت: اكشفوا أهل البيت، فكشفوهم فوجدوها مع يوسف، وكان من مذهبهم أن صاحب السرقة يأخذ السارق له لا يعارضه فيه أحد، فأخذت يوسف فأمسكته عندها حتى ماتت وأخذه يعقوب بعد موتها، فهذا الذي تأوّل إخوة يوسف: (إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل) يوسف: 12 : 77، وقيل في سرقته غير هذا، وقد تقدّم. فلمّا رأى إخوة يوسف محبّة أبيهم له وإقباله عليه حسدوه وعظم عندهم. ثمّ إنّ يوسف رأى في منامه كأنّ أحد عشر كوكباً والشمس والقمر تسجد له، فقصها على أبيه، وكان عمره حينئذٍ اثنتي عشرة سنة، فقال له أبوه: (يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيداً إنهَ الشيطان للإنسان عدوٌّ مبين) يوسف: 12 : 5، ثمّ عبّر له رؤياه، فقال: (وكذلك يجتبيك ربّك ويعلمك من تأويل الأحاديث).
وسمعت امرأة يعقوب ما قال يوسف لأبيه فقال لها يعقوب: اكتمي ما قال يوسف ولا تخبرين أولادك، قالت: نعم، فلمّا أقبل أولاد يعقوب من الرعي أخبرتهم بالرّؤيا، فازدادوا حسداً وكراهةً له وقالوا: ما عني بالشمس غير أبينا، ولا بالقمر غيرك، ولا بالكواكب غيرنا، إنّ ابن راحيل يريد أن يتملك علينا ويقول أنا سيدّكم، وتآمروا بينهم أن يفرّقوا بينه وبني أبيه وقالوا: (ليوسف وأخوه أحبُّ إلى أبينا منا ونحن عصبة، إن أبانا لفي ضلال مبين) يوسف: 12 : 8 - في خطأ بين في إيثارهما علينا - (اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضاً يخل لكم وجه أبيكم وتكونوا من بعده قوماً صالحين) يوسف: 12 : 9 أي تائبين. فقال قائل منهم، وهو يهودا، وكان أفضلهم وأعقلهم: لا تقتلوا يوسف فإنّ القتل عظيم، وألقوه في غيابة الجبّ يلتقطه بعض السيارة، وأخذ عليهم العهود أنّه لا يقتلونه، فأجمعوا عند ذلك أن يدخلوا على يعقوب ويكلّموه في إرسال يوسف معهم الى البريّة، وأقبلوا إليه ووقفوا بين يديه، وكذلك كانوا يفعلون إذا أرادوا منه حاجة، فلمّا رآهم قال: ما حاجتكم؟ قالوا: يا أبانا ما لك لا تأمنّا على يوسف وإنّا له لناصحون) يوسف: 12 : 11 نحفظه حتى نرده أرسله معنا الى الصحراء (غداً يرتع ويلعب وإنّا له لحافظون)، فقال لهم يعقوب: (إني ليحزنني أن تذهبوا به وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون) يوسف: 12 : 13 لا تشعرون، وإنما قال لهم ذلك لأنه كان رأى في منامه كأنّ يوسف على رأس جبل وكأنّ عشرة من الذئاب قد شدّوا عليه ليقتلوه، وإذا ذئب منها يحمي عنه، وكأنّ الأرض انشقّت فذهب فيها فلم يخرج منها إلا بعد ثلاثة أيّام، فلذلك خاف عليه الذئب. فقال له بنوه: (لئن أكله الذئب ونحن عصبة إنا إذاً لخاسرون) يوسف: 12 : 14، فاطمأنّ إليهم، فقال يوسف: يا أبتِ أرسلني معهم، قال: أوتحبّ ذلك؟ قال: نعم، فأذن له، فلبس ثيابه وخرج معهم وهم يكرمونه، فلمّا برزوا الى البريّة أظهروا له العداوة وجعله بعض إخوته يصربه فيستغيث بالآخر فيضربه، فجعل لا يرى منهم رحيماً، فضربوه حتى كادوا يقتلونه، وجعل يصيح: يا أبتاه يا يعقوب لو تعلم ما يصنع بابنك بنو الإماء. فلمّا كادوا يقتلونه قال لهم يهوذا: أليس قد أعطيتموني موثقاً ألا تقتلوه؟ فانطلقوا به الى الجبّ فأوثقوه كتافاً ونزعوا قميصه وألقوه فيه، فقال: يا إخوتاه ردّوا عليّ قميصي أتوارى به في الجبّ فقالوا: ادعُ الشمس والقمر والأحد عشر كوكباً تؤنسك، قال: إنّي لم أرَ شيئاً، فدّلوه في الجبّ، فلما بلغ نصفه ألقوه وأرادوا أن يموت، وكان في البئر ماء، فسقط فيه ثمّ زوى إلى صخرة فأقام عليها، ثمّ نادوه فظنّ أنهم قد رحموه فأجابهم، فأرادوا أن يرضخوه بالحجارة فمنعهم يهوذا،ثم أوحى الله إليه: (لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون) يوسف: 12 : 15 بالوحي، وقيل لا يشعرون أنه يوسف. والجبّ بأرض بيت المقد س معروف. ثم عادوا إلى أبيهم عشاءً يبكون فقالوا: (يا أانا إنا ذهنبا نستبق وتركنا يوسف عدن متاعنا فأكله الذئب) يوسف: 12 : 17، فقال لهم أبوهم: (بل سوّلت لكم أنفسكم أمراً فصبر جميل) يوسف: 12 : 18، ثم قال لهم: أروني قميصه، فزروه، فقال: تالله ما رأيتُ ذئباً أحلم من هذا أكل ابني ولم يشقّ قميصه ثم صاح وخرّ مغشيّاً عليه ساعة، فلمّا أفاق بكى بكاء طويلاً فأخذ القميص يقبّله ويشمّه. وأقام يوسف في الجب ثلاثة أيام، وأرسل الله ملكاً فحلّ كتافه، ثمّ (جاءت سيارةٌ فأرسلوا واردهم)، وهم الذي يتقدّم إلى الماء، (فأدلى دلوه) إلى البئر، فتعلّق به يوسف فأخرجه من الجبّ، و(قال: يا بشرى هذا غلام)، تباشروا وقيل يا بشر اسم غلام (وأسروه بضاعةً) يعني الوارد وأصحابه فخافوا أن يقولوا اشتريناه فيقول الرفقة اشركونا فيه فقالوا: إنّ أهل الماء استبضعونا هذا الغلام.
وجاء يهوذا بطعام ليوسف فلم يره في الجبّ فنظر فرآه عند مالك في المنزل فأخبر إخوته بذلك، فأتوا مالكاً وقالوا: هذا عبد ابق منّا، وخافهم يوسف فلم يذكر حاله واشتروه من إخوته بثمن بخس؛ قيل عشرون درهماً، وقي لأربعون درهماً، وذهبوا به الى مصر، فكساه مالك وعرضه للبيع، فاشتراه قطفير، وقيل اطفير، وهو العزيز، وكان على خزائن مصر، والملك يومئذٍ الريّان بن الوليد رجل من العمالقة، قيل: إنّ هذا الملك لم يمت حتى آمن بيوسف ومات ويوسف حيّ، وملك بعده قابوس بن مصعب، فدعاه يوسف فلم يؤمن. فلمّا اشترى يوسف وأتى به إلى منزله قال لامرأته، واسمها راعيل: (أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا) فيكفينا إذا هو بلغ و فهم الأمور بعض ما نحن بسبيله من أمورنا (أو نتخذه ولداً يوسف: 12 : 21، وكان لايأتي النساء، وكانت امرأته حسناء ناعمة في ملك ودنيا. فلما خلا من عمر يوسف ثلاث وثلاثون سنة آتاه الله العلم والحكمة قبل النبوّة، وراودته راعيل عن نفسه وأغلقت الأبواب عليه وعليها ودعته إلى نفسها، فقال: (معاذ الله إنه ربي - يعني أن زوجك سيدي - أحسن مثواي، إنه لا يفلح الظالمون) يوسف: 12 : 23، يعني أنّ خيانته ظلم، وجعلت تذكر محاسنه وتشوّقه إلى نفسها، فقالت له: يا يوسف ما أحسن شعرك قال: هو أوّل ما ينتثر من جسدي، قالت: يا يوسف ما أحسن عينيك قال: هما أول ما يسيل من جسدي، قالت: ما أحسن وجهك قال: هو للتراب، فلم تزل به حتى همّت وهمّ بها وذهب ليحلّ سراويله، فإذا هو بصورة يعقوب قد عضّ على إصبعه يقول: يا يوسف لا تواقعها إنّما مثلك ما لم تواقعها مثل الطير في جوّ السماء لا يطاق، ومثلك إذا واقعتها مثله إذا مات وسقط الى الأرض. وقيل: جلس بين رجليها فرأى في الحائط: (ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلاً) الاسراء: 17 : 32، فقام حين رأى برهان ربّه هارباً يريد الباب، فأدركته قبل خروجه من الباب فجذبت قميصه من قبل ظهره فقدّته، (وألفيا سيدها لدى الباب) - وابن عمها معه، فقالت له - : (ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً إلا أن يسجن) يوسف: 12 : 26، قال يوسف: بل (هي راودتني عن نفسي) فهربت منها فأدركتني فقدّت قميصي، قال لها ابن عمّها: تبيان هذا في القميص فإن كان قُدّ من قُبُلٍ فصدقتِ، وإن كان قُدّ من دُبُرٍ فكذبت، فأُتي بالقميص فوجده قُدّ من دبر فقال: (إنه من كيدكنّ إنّ كيدكنّ عظيم) يوسف: 12 : 28. وقيل: كان الشاهد صبيّاً في المهد، قال ابن عباس: تكلّم أربعة في المهد وهم صغار، ابن ماشطة امرأة فرعون، وشاهد يوسف، وصاحب جريح، وعيسى بن مريم. وقال زوجها ليوسف: (أعرض عن هذا) أي ذكر ما كان منها فلا نذكره لأحد، ثم قال لزوجته، (استغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين) يوسف: 12 : 29. وتحدّث النساء بأمر يوسف وامرأة العزيز، وبلغ ذلك امرأة العزيز، فأرسلت إليهنّ وأعتدت لهن متّكأً يتّكئن عليه من وسائد، وحضرن، وقدّمت لهنّ أترنجاً وأعطت كلّ واحدة منهنّ سكّيناً لقطع الأترنج، وقد أجلست يوسف في غير المجلس الذي هنّ فيه وقالت له: (اخرج عليهن - فخرج - فلما رأينه أكبرنه - وأعظمنه - وقطّعن أيديهن) بالسكاكين ولا يشعرن، وقلن: معاذ الله (ما هذا بشراً، إن هذا إلا ملك كريم) يوسف: 12 : 31. فلمّا حلّ بهنّ ما حلّ من قطعهنّ أيديهن وذهاب عقولهن وعرفن خطأهنّ فيما قلن أقرّت على نفسها وقالت: (فذلكن الذي لمتنّني فيه، ولقد راودته عن نفسه فاستعصم، ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونا من الصاغرين) يوسف 12 : 32، فاختار يوسف السجن على معصية الله، فقال: (رب السجن أحبّ إليّ مما يدعونني إليه وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن) يوسف: 12 : 33، (فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن) يوسف: 12 : 34، ثمّ بدا للعزيز من بعد ما رأي الآيات من القميص وخمش الوجه وشهادة الطفل وتقطيع النسوة أيديهنّ في ترك يوسف مطلقاً.
وقيل: إنها شكت إلى زوجها وقالت: إنّ هذا العبد قد فضحني في الناس يخبرهم أنني راودته عن نفسه، فسجنه سبع سنين، فلما حُبس يوسف أُدخل معه السجن فتيان من أصحاب فرعون مصر، أحدهما صاحب طعامه، والآخر صاحب شرابه، لأنهما نقل عنهما أنهما يريدان أن يسمّا الملك، فلمّا دخل يوسف السجن قال: إني أعبِّر الأحلام، فقال أحد الفتيين للآخر: هلمّ فلنجرّبه، فقال الخباز: (إني أراني أحمل فوق رأسي خبزاً تأكل الطير منه) وقال الآخر: (إني أراني أعصر خمراً) يوسف: 12 : 3، كره أن يعبر لهما ما سألاه عنه، وأخذ في غير ذلك وقال: (يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار؟) يوسف: 12 : 39 وكان اسم الخبّاز مخلت، واسم الآخر نبو، فلم يدعاه حتى أخبرهما بتأويل ما سألاه عنه، فقال: (أما أحدكما)، وهو الذي رأى أنه يعصر الخمر، (فيسقي ربّه خمراً)، يعنى سيده الملك (وأما الآخر فيصلب فتأكل الطير من رأسه)، يوسف 12 : 41، فلما عبّر لهما قالا: ما رأينا شيئاً قال: (قضي الأمر الذي فيه تستفتيان)، ثم قال لنبو، وهو الذي ظنّ أنه ناج منهما: (اذكرني عند ربك) يوسف: 12 : 42 الملك وأخبره أني محبوس ظلماً، (فأنساه الشيطان ذكر ربه)، غفلة عرضت ليوسف من قبل الشيطان، فأوحى الله إليه: يا يوسف اتخذت من دوني وكيلاً لأطيلنّ حبسك، فلبث في | |
|
| |
الشيخ عودة الشيخ عودة
عدد المساهمات : 1748 تاريخ التسجيل : 28/09/2008 العمر : 74
| موضوع: رد: كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير الخميس فبراير 06, 2014 8:27 am | |
| ثم إنّ الملك الريّان زوّج يوسف راعيل امرأة سيّده، فلمّا دخل بها قال: أليس هذا خيراً مما كنت تريدين؟ فقالت: أيها الصدّيق لا تلمني فإني كنت امرأة حسناء جميلة في ملك ودنيا وكان صاحبي لا يأتي النساء، وكنت كما جعلك الله في حسنك فغلبتني نفسي، ووجدها بكراً، فولدت له ولدين افرائيم ومنشا. فلمّا ولي يوسف خزائن أرضه ومضت السنون السبع المخصبات وجمع فيها الطعام في سنبله ودخلت السّنون المجدبة وقحط النّاس وأصابهم الجوع وأصاب بلاد يعقوب التي هو بها بعث بنيه إلى مصر وأمسك بنيامين أخا يوسف لأمّه، فلمّا دخلوا على يوسف عرفهم وهم له منكرون، وإنّما أنكروه لعبد عهدهم منه ولتغير لبسته، فإنّه لبس ثياب الملوك، فلما نظر إليهم قال: أخبروني ما شأنكم، قالوا: نحن من الشام جئنا نمتار الطعام، قال: كذبتم، أنتم عيون، فأخبروني خبركم، قالوا: نحن عشرة أولاد رجل واحد صدّيق، كنّا اثني عشر، وإنّه كان لنا أخ فخرج معنا إلى البرية فهلك، وكان أحبّنا الى أبينا، قال: فإلى من سكن أبوكم بعده؟ قالوا: إلى أخ لنا أصغر منه، قال: فأتوني به أنظر إليه (فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي ولا تقربون، قالوا: سنراود عنه أباه) يوسف: 12 : 60 - 61، قال: فاجعلوا بعضكم عندي رهينة حتى ترجعوا، فوضعوا شمعون، أصابته القرعة، وجهّزهم يوسف بجهازهم وقال لفتيانه: اجعلوا بضاعتهم، يعني ثمن الطعام، في رحالهم لعلّهم يرجعون، لما علم أنّ أمانتهم وديانتهم تحملهم على ردّ البضاعة فيرجعون إليه لأجلها. وقيل: ردّ مالهم لأنّه خشي أن لا يكون عند أبيه ما يرجعون به مرّةً أخرى، فإذا رأوا معهم بضاعة عادوا، وكان يوسف حين رأى ما بالنّاس من الجهد قد أسّى بينهم، وكان لا يحمل للرجل إلا بعيراً. فلما رجعوا الى أبيهم بأحمالهم قالوا: يا أبانا إنّ عزيز مصر قد أكرمنا كرامة لو أنه بعض أولاد يعقوب مازاد على كرامته، وإنه ارتهن شمعون وقال: ائتوني بأخيكم الذي عطف عليه أبوكم بعد أخيكم، (فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي ولا تقربون)، قال: (هل آمنكم عليه إلا كما أمنتكم على أخيه من قبل ولما فتحوا متاعهم وجدوا بضاعتهم ردت إليهم، قالوا: يا أبانا ما نبغي، هذه بضاعتنا ردت إلينا ونمير أهلنا ونحفظ أخانا ونزداد كيل بعير) يوسف: 12 : 63 - 65، قال يعقوب: (ذلك كيلٌ يسير)، فقال يعقوب: (لن أرسله معكم حتى تؤتوني موثقاً من الله لتأتنني به إلا أن يحاط بكم، فلمّا آتوه موثقهم قال: الله على ما نقول وكيل) يوسف: 12 : 66، ثم أوصاهم أبوهم بعد أن أذن لأخيهم في الرحيل معهم (وقال: يا بنيّ لاتدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة) يوسف: 12 : 67، خاف عليهم العين، وكانوا ذوي صورة حسنة، ففعلوا كما أمرهم أبوهم، (ولما دخلوا على يوسف آوى إليه أخاه) يوسف: 12 : 69 وعرفه وأنزلهم منزلاً وأجرى عليهم الوظائف وقدّم لهم الطعام وأجلس كلّ اثنين على مائدة، فبقي بنيامين وحده، فبكى وقال: لو كان أخي يوسف حيّاً لأجلسني معه فقال يوسف: لقد بقي أخوكم هذا وحيداً، فأجلسه معه وقعد يؤاكله، فلما كان الليل جاءهم بالفرش وقال: لينم كلّ أخوين منكم على فراش، وبقي بنيامين وحده، فقال: هذا ينام معي، فبات معه على فراشه، فبقي يشمّه ويضمّه إليه حتى أصبح، وذكر له بنيامين حزنه على يوسف، فقال له: أتحبّ أن أكون أخاك عوض أخيك الذاهب؟ فقال بنيامين: ومن يجد أخاً مثلك ولكن لم يلدك يعقوب ولا راحيل، فبكى يوسف وقام إليه فعانقه وقال له: إنّي أنا أخوك يوسف فلا تبتئس بما فعلوه بنا فيما مضى، فإنّ الله قد أحسن إلينا، ولا تعلمهم بما علّمتك. وقيل: لما دخلوا على يوسف نقر الصّواع وقال: إنه يخبرني أنكم كنتم اثني عشر رجلاً وأنكم بعتم أخاكم، فلمّا سمعه بنيامين سجد له وقال: سل صواعك هذا عن أخي أحيّ هو؟ فنقره ثم قال: هو حيّ وستراه، قال: فاصنع بي ما شئت فإنّه إن علم بي فسوف يستنقذني؛ قال: فدخل يوسف فبكى ثمّ توضّأ وخرج إليهم، قال: فلمّا حمّل يوسف إبل إخوته من الميرة جعل الإناء الذي يكيل به الطعام، وهوالصواع، وكان من فضّة، في رحل أخيه، وقيل: كان إناء يشرب فيه، ولم يشعر أخوه بذلك.
وقيل: إنّ بنيامين لما علم أنّ يوسف أخوه قال: لا أفارقك، قال يوسف: أخاف غمّ أبوينا ولا يمكنني حبسك إلاّ بعد أن أشهرك بأمر فظيع، قال: افعل، قال: فإني أجعل الصواع في رحلك ثمّ أنادي عليك بالسرقة لآخذك منهم، قال: افعل، فلمّا ارتحلوا (أذّن مؤذّن: أيتها العير إنكم لسارقون) يوسف: 12 : 70، (قالوا: تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض وما كنا سارقين) يوسف: 12 : 73 لأننا رددنا ثمن الطعام الى يوسف، فلما قالوا ذلك (قالوا: فما جزاؤه إن كنتم كاذبين قالوا جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه) يوسف: 12 : 74 - 75 تأخذونه لكم، فبدأ بأوعيتهم ففتشها قبل وعاء أخيه ثمّ استخرجها من وعاد أخيه، فقالوا: (إن يسرق فقد سرق أخٌ له من قبل) يوسف: 12 : 75، يعنون يوسف، وكانت سرقته حين سرق صنماً لجدّه أبي أمّه فكسره فعيروه بذلك، وقيل ما تقدّم ذكره من المنطقة. فلما استخرجت السرقة من رحل الغلام قال إخوته: يا بني راحيل لا يزال لنا منكم بلاء فقال بنيامين: بل بنو راحيل ما يزال لهم منكم بلاء وضع هذا الصواع في رحلي الذي وضع الدراهم في رحالكم. فأخذ يوسف أخاه بحكم إخوته، فلمّا رأوا أنهم لا سبيل لهم عليه سألوه أن يتركه لهم و(قالوا: يا أيها العزيز إنّ له أباً شيخاً كبيراً فخذ أحدنا مكانه) يوسف: 12 : 78، فقال: (معاذ الله أن نأخذ إلاّ من وجدنا متاعنا عنده) يوسف: 12 : 79، فلما يأسوا من خلاصه خلصوا نجيّاً لا يختلط بهم غيرهم، فقال كبيرهم، وهو شمعون: (ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقاً من الله) يوسف: 12 : 80 أن نأتيه بأخينا إلاّ أن يحاط بنا، ومن قبل هذه المرّة (ما فرطتم في يوسف، فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي) يوسف: 80 بالخروج، وقيل: بالحرب، فارجعوا الى أبيكم فقصّوا عليه خبركم. فلما رجعوا إلى أبيهم فأخبروه بخبر بنيامين وتخلف شمعون (قال: بل سوّلت لكم أنفسكم أمراً، فصبر جميلٌ عسى الله أن يأتيني بهم جميعاً) يوسف: 12 : 83، بيوسف وأخيه وشمعون، ثم أعرض عنهم وقال: واحزناه على يوسف (وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم) يوسف: 12 : 84 مملوء من الحزن والغيظ، فقال له بنوه: (تالله تفتأ تذكر يوسف حتى تكون حرضاً - أي دنفاً - أو تكون من الهالكين)، يوسف: 12 : 85، فأجابهم يعقوب فقال: (إنما أشكو بثي وحزني الى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون) من صدق رؤيا يوسف. وقيل: بلغ من وجد يعقوب وجد سبعين مبتلىً، وأعطي على ذلك أجر مائة شهيد. قيل: دخل على يعقوب جارٌ له فقال: يا يعقوب قد انهشمت وفنيت ولم تبلغ من السنّ ما بلغ أبوك فقال: هشمني وأفناني ما ابتلاني الله به من همّ يوسف، فأوحى الله إليه: أتشكوني إلى خلقي؟ قال: يا ربّ خطيئة فاغفرها، قال: قد غفرتها لك، فكان يعقوب إذا سئل بعد ذلك قال: (إنما أشكو بثي وحزني الى الله)، فأوحى الله إليه: لو كانا ميتين لأحييتهما لك، إنّما ابتليتك لأنك قد شويت وقترت على جارك ولم تطعمه. وقيل: كان سبب ابتلائه أنه كان له بقرة لها عجول فذبح عجولها بين يديها وهي تخور فلم يرحمها يعقوب، فابتلي بفقد أعزّ ولده عنده؛ وقيل: ذبح شاة، فقام ببابه مسكين فلم يطعمه منها، فأوحى الله إليه في ذلك وأعلمه أنه سبب ابتلائه، فصنع طعاماً ونادى: من كان صائماً فليفطر عند يعقوب. ثمّ إن يعقوب أمر بنيه الذين قدموا عليه من مصر بالرجوع اليها وتجسّس الأخبار عن يوسف وأخيه، فرجعوا الى مصر فدخلوا على يوسف وقالوا: (يا أيها العزيز مسّنا وأهلنا الضرّ وجئنا ببضاعة مزجاة - يعني قليلة - فأوف لنا الكيل) يوسف: 12 : 88 قيل: كانت بضاعتهم دراهم زيوفاً، وقيل: كانت سمناً وصوفاً، وقيل غير ذلك، (وتصدق علينا) بفضل ما بين الجيّد والرّديء، وقيل: بردّ أخينا علينا، فلما سمع كلامهم غلبته نفسه فارفضّ دمعه باكياً ثمّ باح لهم بالذي كان يكتم، وقيل: إنما أظهر لهم ذلك لأن أباه كتب إليه، حين قيل له إنّه أخذ ابنه لأنه سرق، كتاباً:
من يعقوب اسرائيل الله ابن اسحاق ذبيح الله ابن ابراهيم خليل الله الى عزيز مصر المظهر العدل، (أما بعد فإنّا أهل بيت موكل بنا البلاء، أما جدّي فشدّت يداه ورجلاه وألقي في النار فجعلها الله عليه برداً وسلاماً، وأما أبي فشدّت يداه ورجلاه ووضع السكين على حلقه ليذبح ففداه الله، وأما أنا فكان لي ابن وكان أحبّ أولادي إليّ فذهب به إخوته الى البرية فعادوا ومعهم قميصه ملطخاً بدم وقالوا: أكله الذئب، وكان لي ابن آخر أخوه لأمّه فكنتُ أتسلّى به فذهبوا به ثم رجعوا وقالوا: إنه سرق وإنك حبسته، وإنّا أهل بيت لا نسرق ولا نلد سارقاً فإن رددته عليّ ورلا دعوت عليك دعوة تدرك السابع من ولدك). فلمّا قرأ الكتاب لم يتمالك أن بكى وأظهر لهم فقال: (هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون؟ قالوا: أإنك لأنت يوسف قال: أنا يوسف وهذا أخي، قد منّ الله علينا) يوسف: 12 : 89 - 90 بأن جمع بيننا، فاعتذروا و(قالوا: تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين)، قال: (لا تثريب عليكم الوم) يوسف: 91 : 92، أي لا أذكر لكم ذنبكم، (يغفر الله لكم)، ثم سألهم عن أبيه، فقالوا: لما فاته بنيامين عمي من الحزن، فقال: اذهبوا بقميصي هذا فألقوه عليوجه أبي يأت بصيراً وأتوني بأهلكم أجمعين) يوسف: 12 : 93، فقال يهودا: أنا أذهب به لأنّيذهبت إليه بالقميص ملطّخاً بالدم وزخبرته أن يوسف أكله الذئب، فأنا أخبره أنه حيّ فأفرحه كما أحزنته، وكان هو البشير، (ولما فصلت) العير عن مصر حملت الريح الى يعقوب ريح يوسف، وبينهما ثمانون فرسخاً، يوسف بمصر ويعقوب بأرض كنعان، فقال يعقوب: (إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون) يوسف: 12 : 94؟ فقال له من حضره من أولاده: (تالله إنك) من ذكر يوسف (لفي ضلالك القديم، فلمّا أن جاء البشير) بقميص يوسف (ألقاه) على وجه يعقوب فعاد بصيراً و(قال: ألم أقل لكم إني أعلم من الله ما لا تعلمون)، يعني تصديق الله تأويل رؤيا يوسف؛ و(لما أن جاء البشير) يوسف: 12 : 95 - 96 قال له يعقوب: كيف تركت يوسف؟ قال: إنه ملك مصر، قال: ما أصنع بالمللك علي أيّ دين تركته؟ قال: على الإسلام، قال: الآن تمّت النعمة، فلما رأى من عنده من أولاده قميص يوسف وخبره قالوا له: (يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا، قال: سوف أستغفر لكم) يوسف: 12 : 96 - 97 آخر الدّعاء الى السّحر من ليلة الجمعة. ثم ارتحل يعقوب وولده، فلمّا دنا من مصر خرج يوسف يتلقّاه ومعه أهل مصر، وكانوا يعظمونه، فلما دنا أحدهما من صاحبه نظر يعقوب الى الناس والخيل، وكان يعقوب يمشي ويتوكّأ على ابنه يهودا، فقال له: يا بنيّ هذا فرعون مصر، قال: لا، هذا ابنك يوسف، فلما قرب منه أراد يوسف أن يبدأه بالسلام، فمنع من ذلك، فقال يعقوب: السلام عليك يا مُذهب الأحزان، لأنّه لم يفارقه الحزن والبكاء مدّة غيبة يوسف عنه. قال: فلما دخلوا مصر رفع أبويه، يعني أمّه وأباه، وقيل: كانت خالته، وكانت أمه قد ماتت، وخّر له يعقوب وأمّه وإخوته سجداً، وكان السجود تحيّة الناس للملوك، ولم يرد بالسجود وضع الجبهة على الأرض، فإنّ ذلك لا يجوز إلا لله تعالى ، وإنما أراد الخضوع والتواضع والانحناء عند السلام، كما يفعل الآن بالملوك، والعرش: السرير، وقال: (يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقاً) يوسف: 12 : 100. وكان بين رؤيا يوسف ومجيء يعقوب أربعون سنة، وقيل: ثمانون سنة، فإنه ألقي في الجبّ وهو ابن سبع عشرة سنة، ولقيه وهو ابن سبع وتسعين سنة، وعاش بعد جمع شمله ثلاثاً وعشرين سنة، وتوفي وله مائة وعشرون سنة، وأوصى إلي أخيه يهودا، وقيل: كانت غيبة يوسف عن يعقوب ثماني عشرة سنة، وقيل: إنّ يوسف دخل مصر وله سبع عشرة سنة، واستوزره فرعون بعد ثلاث عشرة سنة من قدومه إلى مصر، وكانت مدّة غيبته عن يعقوب اثنتين وعشرين سنة، وكان مُقام يعقوب بمصر وأهله معه سبع عشرة سنة، وقيل غير ذلك، والله أعلم. ولما مات يعقوب أوصي الى يوسف أن يدفنه مع أبيه اسحاق، ففعل يوسف، فسار به الى الشام فدفنه عند أبيه، ثمّ عاد إلى مصر وأوصى يوسف أن يحمل من مصر ويدفن عند آبائه، فحمله موسى لما خرج ببني إسرائيل.
وولد يوسف افرائيم ومنشى، فولد لافراثيم نون ولنون يوشع فتى موسى، وولد لمنشى موسى، قيل موسى بن عمران، وزعم أهل التوراة أنه موسى الخضر، وولد له رحمة امرأة أيّوب في قولك. قصة شعيب عليه السلامقيل: إن اسم شعيب يثرون بن ضيعون بن عنقا بن ثابت بن مدين بن ابراهيم، وقيل: هو شعيب بن ميكيل من ولد مدين، وقيل: لم يكن شعيب من ولد ابراهيم، وإنما هو من ولد بعض من آمن بإبراهيم وهاجر معه الى الشام، ولكنه ابن بنت لوط، فجدّة شعيب ابنة لوط، وكان ضرير البصر، وهو معنى قوله تعالى: (وإنا لنراك فينا ضعيفاً) هود: 11 : 91؛ أي ضرير البصر. وكان النبيّ، صلى الله عليه وسلم، إذا ذكره قال: ذاك خطيب الأنبياء؛ بحسن مراجعته قومه؛ وإن الله أرسله الى أهل مدين وهم أصحاب الأيكة، والأيكة: شجر ملتفّ، وكانوا أهل كفر بالله، وبخس للناس في المكاييل والموازين وإفساد أموالهم، وكان الله وسع عليهم في الرزق وبسط لهم في العيش استدراجاً لهم منه مع كفرهم بالله، فقال لهم شعيب: (يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إلهٍ غيره ولا تنقصوا المكيال والميزان إني أراكم بخير وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط) هود:11 : 84. فلما طال تماديهم في غيّهم وضلالهم ولم يزدهم تذكير شعب إيّاهم وتحذيره عذاب الله إياهم إلا تمادياً، ولما أراد إهلاكهم سلّط عليهم عذاب يوم الظّلّة، وهو ما ذكره ابن عباس في تفسير قوله تعالى: (فأخذهم عذاب يوم الظلّة إنه كان عذاب يوم عظيم) الشعراء: 26 : 189، فقال: بعث الله عليهم وقدة وحرّاً شديداً فأخذ بأنفسهم، فخرجوا من البيوت هراباً إلى البرية، فبعث الله عليهم سحابة فأظلّتهم من الشمس، فوجدوا لها برداً ولذّة فنادى بعضهم بعضاً حتى اجتمعوا تحتها، فأرسل الله عليهم ناراً، قال عبد الله بن عبّاس: فذلك عذاب يوم الظلّة. وقال قتادة: بعث الله شعيباً الي أمّتين: الى قومه أهل مدين، والى أصحاب الأيكة، وكانت الأيكة من شجر ملتف، فلما أراد الله أن يعذبهم بعث عليهم حرّاً شديداً ورفع لهم العذاب كأنه سحابة، فلما دنت منهم خرجوا إليها رجاء بردها، فلمّا كانوا تحتها أمطرت عليهم ناراً، قال: فذلك قوله: (فأخذهم عذاب يوم الظلّة). وأما أهل مدين فمنهم من ولد مدين بن ابراهيم الخليل، فعذّبهم الله بالرجفة، وهي الزلزلة، فأهلكوا. قال بعض العلماء: كان قوم شعيب عطلوا حدّاً، فوسع الله عليهم في الرزق، ثم عطلوا حدّاً فوسع الله عليهم في الرزق، فجعلوا كلّما عطلوا حدّاً وسع الله عليهم في الرزق، حتى إذا أراد هلاكهم سلّط عليهم حرّاً لا يستطيعون أن يتقارّوا ولا ينفعهم ظلّ ولا ماد حتي ذهب ذاهب منهم فاستظل تحت ظلّة فودج روحاً فنادى أصحابه: هلمّوا الى الروح، فذهبوا اليه سراعاً حتى اذا اجتمعوا إليها ألهبها الله عليهم ناراً، فذلك عذاب يوم الظلّة. وقد روى عامر عن ابن عباس أنه قال له: من حدثك ما عذاب يوم الظلّة فكذّبه، وقال مجاهد: عذاب يوم الظلّة هو إظلال العذاب على قوم شعيب، وقال زيد بن أسلم في قوله تعالى: (يا شعيب أصلواتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء) هود: 11 : 87؛ قال: مما كان ينهاهم عنه قطع الدراهم. قصة الخضر وخبره مع موسىقال أهل الكتاب: إن موسى صاحب الخضر هو موسى بن منشى بن يوسف بن يعقوب، والحديث الصحيح عن النبيّ، صلى الله عليه وسلم، أن موسى صاحب الخضر هو موسى بن عمران على ما نذكره، وكان الخضر ممّن كان في أيام أفريدون الملك ابن اثغيان في قول علماء أهل الكتاب الأول قبل موسى بن عمران، وقيل: إنه كان على مقدمة ذي القرنين الأكب الذي كان في أيام ابراهيم الخليل، وإنه بلغ مع ذي القرنين نهر الحياة فرشب من مائه ولا يعلم ذو القرنين ومن معه، فخلّد وهو حيّ عندهم الى الآن، وزعم بعضهم: أنّه كان من ولد من آمن مع ابراهيم وهاجر معه، واسمه يليا بن ملكان بن فالغ بن غابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح، وكان أبوه ملكاً عظيماً، وقال آخرون: ذو القرنين الذي كان على عهد ابراهيم أفريدون بن اثغيان، وعلى مقدمته كان الخضر.
قال عبد الله بن شوذب: الخضر من ولد فارس، والياس من بني اسرائيل يلتقيان كلّ عام بالموسم، وقال ابن اسحاق: استخلف الله على بني اسرائيل رجلاً منهم يقال له ناشية بن أموص، فبعث الله لهم الخضر معه نبيّاً، قال: واسم الخضر فيما يقول بنو اسرائيل إرميا بن حلقيا، وكان من سبط هارون بن عمران، وبين هذا الملك وبين أفرويدون أكثر من ألف عام. وقول من قال إن الخضر كان في أيّام أفريدون وذي القرنين الأكبر قبل موسى بن عمران أشبه للحديث الصحيح أنّ موسى بن عمران أمره الله بطلب الخضر، ورسول الله، صلى الله عليه وسلم، كان أعلم الخلق بالكائن من الأمور، فيحتمل أني كون الخضر على مقدمة ذي القرنين قبل موسى، وأنه شرب من ماء الحياة فطال عمره، ولم يرسل في أيّام ابراهيم، وبعث في أيام ناشية بن أموص، وكان ناشية هذا في أيّام بشتاسب بن لهراسب، والحديث ما رواه أبيّ بن كعب عن النبي، صلى الله عليه وسلم. قال سعيد بن جبير: قلت لابن عباس: إنّ نوفا يزعم أنّ الخضر ليس بصاحب موسى بن عمران، قال : كذب عدوّ الله، حذّثني أبيّ بن كعب عن النبيّ، صلى الله عليه وسلم، قال: إن موسى قام في بني اسرائيل خطيباً فقيل له: أيّ الناس أعلم؟ فقال: أنا، فعتب الله عليه حين لم يردّ العلم إليه، فقال: يا ربّ هل هناك أعلم مني؟ قال: بلى، عبد لي بمجمع البحرين، قال: يا رب كيف لي به؟ قال: تأخذ حوتاً فتجعله في مكتل فحيث تفقده فهو هناك، فأخذ حوتاً فجعله في مكتل ثمّ قال لفتاه: إذا فقدت هذا الحوت فأخبرني، فانطلقا يمشيان على ساحل البحر حتى أتيا الصخرة وذلك الماء، وهو ماء الحياة، فمن شرب منه خلد ولا يقاربه شيد ميت إلاّ حيي، فمسّ الحوت منه فحيي، وكان موسى راقداً، واضطرب الحوت في المكتل فخرج في البحر، فأمسك الله عنه جرية الماء فصار مثل الطاق، فصار للحوت سرباً، وكان لهما عجباً، ثم انطلقا، فلما كان حين الغداء قال موسى لفتاه: آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصباً، قال: ولم يجد موسى النصب حتى تجاوز حيث أمره الله، فقال: (أرأيت إذ أوينا الى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره، واتخذ سبيله في البحر عجباً؛ قال ذلك ما كنا نبغ، فارتدا على آثارهما قصصاً) الكهف: 18 : 63 - 46، قال: يقصّان آثارهما حتى أتيا الصخرة، فإذا رجل نائم مسجّى بثوبه، فسلّم موسى عليه، فقال: وأنَّى بأرضنا السلام قال: أنا موسى، قال: موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم، قال: يا موسى إني على علم من علم الله علّمنيه الله لا تعلمه، وأنت على علم من علم الله لا أعلمه، قال: فإني أتبعك علي أن تعلّمني مما علّمت رشداً، (قال: فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيءٍ حتى أحدث لك منه ذكراً) الكهف: 18 : 70، فانطلقا يمشيان على ساحل البحر ثمّ ركبا سفينة، فجاء عصفور فقعد علي حرف السفينة فنقر في الماء، فقال الخضر لموسى: ما ينقص علمي وعلمك من علم الله إلاّ مقدار ما نقر هذا العصفور من البحر.
قال: فبينا هم في السفينة لم يفجأ موسي إلا وهو يوتد وتداً أو ينزع تختاً منها، فقال له موسى: حملنا بغير نول فتخرقها (لتغرق أهلها، لقد جئت شيئاً إمراً؛ قال: ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبراً؟ قال: لا تؤاخذني بما نسيت) الكهف: 18 : 71 - 73، قال: وكانت الأولي من موسى نسياناً، قال: فخرجا فانطلقا يمشيان فأبصرا غلاماً يلعب مع الغلمان، فأخذ برأسه فقتله، فقال له موسى: (أقتلت نفساً زكيّةً بغير نفسٍ لقد جئت شيئاً نكراً؛ قال: ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبراً؟ قال: إن سألتك عن شيءٍ بعدها فلا تصاحبني، قد بلغت من لدنّي عذراً، فانطلقا حتى رذا أتيا زهل قريةٍ استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما) الكهف: 18 : 74 - 77 فلم يجدا أحداً يطعمهما ولا يسقيهما، (فوجدا فيها جداراً يريد أن ينقض فأقامه)، فقال له موسى: لم يضيّفونا ولم ينزلونا، (لو شئت لاتّخذت عليه أجراً؛ قال: هذا فراق بيني وبينك، سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبراً؛ أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر، فزردت أن أعيبها، وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصباً) الكهف: 18 : 77 - 79 وفي قراءة أبيّ: سفينة صالحة - وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين، فخشينا أن يرهقهما طغياناً وكفراً؛ فأردنا أن يبدلهما ربهما خيراً منه زكاة وأقرب رحماً؛ وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة، وكان تحته كنز لهما، وكان أوبهما صالحاً - إلى - ما لم تسطع عليه صبراً) الكهف: 18 : 79 - 82. فكان ابن عبّاس يقول: ما كان الكنز إلا علماً، قيل لابن عبّاس: لم نسمع لفتى موسى بذكر؛ فقال: شرب الفتى من الماء فخلّد، فأخذه العالم فطابق به سفينته ثمّ أرسلها في البحر، فإنها لتموج به إلى يوم القيامة. الحديث يدلّ على أن الخضر كان قبل موسى وفي أيّامه، ويدلّ على خطأ من قال إنه إرميا، لأنّ إرميا كان أيّام بخت نصّر، وبين أيام موسى وبخت نصّر من المدة ما لا يشكل على عالم بأيام الناس، فإن موسى إنما نُبّئ في أيام منوجهر، وكان ملكه بعد جدّه أفريدون. ذكر الخبر عن منوجهر والحوادث في أيامهثمّ ملك بعد أفريدون بن اثغيان بن كاو منوجهر، وهو من ولد إيرج بن أفريدون، وكان مولده بدُنباوند، وقيل الريّ، فلما ولد منوجهر أخفى أمره خوفاً من طوج وسلم عليه، ولما كبر منوجهر سار الى جدّه أفريدون فتوسّم فيه الخير وجعل له ما كان جعله لجدّه إريج من المملكة وتوجه بتاجه. وقد زعم بعضهم أنّ منوجهر بن شجر بن افريقش بن اسحاق بن ابراهيم انتقل إليه الملك، واستشهد بقول جرير بن عطية: وأبناء إسحاق الليوث إذا ارتدوا ... حمائل موتٍ لابسين السنورا إذا انتسبوا عدّوا الصّبهبذ منهم ... وكسرى وعدّوا الهرمزان وقيصرا وكان كتاب فيهم ونبوّة ... وكانوا باصطخر الملوك وتسترا فيجمعنا والغرّ أبناء فارس ... أب لا نبالي بعده من تأخرا أبونا خليل الله والله ربنا ... رضينا بما أعطى الإله وقدّرا وأما الفرس فتنكر هذا النسب ولا تعرف لها ملكاً إلا في أولاد أفريدون ولا تقرّ بالملك لغيرهم. قلت: والحقّ ما قاله الفرس، فإن أسماء ملوكهم قبل الإسكندر معروفة وبعد أيامه ملوك الطوائف، وإذا كان منوجهر أيّام موسى وكل ما بين موسى واسحاق خمسة آباء معروفون ولم يزالوا بمصر ففي أيّ زمان كثروا وانتشروا وملكوا بلاد الفرس؟ ومن أين لجرير هذا العلم حتى يكون قوله حجّة لا سيّما وقد جعل الجميع أبناء إسحاق قال هشام بن الكلبي: ملك طوج وسلم الأرض بعد أخيهما إيرج ثلاثمائة سنة، ثمّ ملك منوجهر مائة وعشرين سنة، ثمّ وثب به ابن لطوج التركيّ على رأس ثمانين سنة فنفاه عن بلاد العراق اثنتي عشرة سنة، ثمّ أديل منه منوجهر، فنفاه عن بلاده وعاد إلى ملكه، وملك بعد ذلك ثمانياً وعشرين سنة. وكان منوجهر يوصف بالعدل والإحسان، وهو أول من خندق الخنادق وجمع آلة الحرب، وأول من وضع الدهقنة فجعل لكلّ قرية دهقاناً وأمر أهلها بطاعته، ويقال: إنّ موسى ظهر في سنة ستين من ملكه.
وقال غير هشام؛ إنه لما ملك سار نحو بلاد الترك طالباً بدم جدّه إيرج بن أفريدون، فقتل طوج بن أفريدون وأخاه سلماً، ثم إنّ افراسياب بن فشنج بن رستم بن ترك، الذي ينسب إليه الأتراك من ولد طوج بن أفريدون، حرب منوجهر بعد قتله طوج بستين سنة وحاصره بطبرستان، ثمّ اصطلحا أن يجعلا حدّ ما بين ملكيهما منتى رمية سهم رجل من أصحاب منوجهر اسمه إيرشى، وكان رايماً شديد النزع، فرمى سهماً من طبرستان فوقع بنهر بلخ، وصار النهر حدّ ما بين الترك ولد طوج وعمل منوجهر. قلت: وهذا من أعجب ما يتداوله الفرس في أكاذيبهم، أن رمية سهم تبلغ هذا كله. وقد ذكر أن منوجهر اشتق من الفرات ودجلة ونهر بلخ أنهاراً عظاماً وأمر بعمارة الأرض، وقيل: إن الترك تناولت من أطراف رعيته بعد خمس وثلاثين سنة من ملكه، فوبّخ قومه وقال لهم: أيها الناس إنكم لم تلدوا الناس كلهم وإنما الناس ناس ما عقلوا من أنفسهم ودفعوا العدوّ عنهم، وقد نالت الترك من أطرافكم وليس ذلك إلا بترككم جهاد عدوّكم ، وإن الله أعطانا هذا الملك ليبلونا أنشكر أم نكفر فيعاقبنا، فإذا كان غد فاحضروا. فحضر الناس والأشراف، فقام على قدميه، فقام له الناس، فقال: اقعدوا، إنما قمت لأسمعكم، فجلسوا، فقال: أيها الناس إنما الخلق للخالق والشكر للمنعم والتسليم للقادر، ولا بدّ مما هو كائن، وإنه لا أضعف من مخلوق طالباً كان أو مطلوباً، ولا أقوى من خالق ولا أقدر ممن طلبته في يده ولا أعجز ممن هو في يد طالبه، وإن التفكّر نور والغفلة ظلمة، فالضلالة جهالة، وقد ورد الأوّل ولا بدّ للآخر من اللحاق بالزوّل، إن الله أعطانا هذا الملك فله الحمد ونسأله إلهام الرشد والصدق واليقين، وإنه لا بدّ أن يكون للملك على أهل مملكته حقّ ولأهل مملكته عليه حقّ، فحقّ الملك عليهم أن يطيعوه ويناصحوه ويقاتلوا عدوّه، وحقّهم على الملك أن يعطيهم أرزاقهم في زوقاتها إذ لا معوّل لهم إلا عليها، وإنه خازنهم، وحق الرعية علي الملك أن ينظر إليهم ويرفق بهم ولا يحملهم على ما لا يطيقون، وإن أصابتهم مصيبة تنقص من ثمارهم أن يسقط عنهم خراج ما نقص، وإن اجتاحتهم مصيبة أن يعوضهم ما يقوّيهم على عمارتهم، ثمّ يأخذ منهم بعد ذلك قدر ما لا يجحف بهم في سنة أو سنتين، ألا وإن الملك ينبغي أن يكون فيه ثلاث خصال: أن ذلك قدر ما لا يجحف بهم في سنة أو سنتين، ألا وإن الملك ينبغي أن يكون فيه ثلاث خصال: أن يكون صدوقاً لا يكذب، وأن يكون سخيّاً لا يبخل، وأن يملك نفسه عند الغضب فإنه مسلط ويده مبسوطة، والخراج يأتيه، فلا يستأثر عن جنده ورعيّته بما هم أهل له، وأن يكثر العفو فإنه لا ملك أقوى ولا أبقى من ملك فيه العفو، فإن الملك إن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة. ألا وإنّ الترك قد طمعت فيكم فاكفونا فإنّما تكفون أنفسكم، وقد أمرت لكم بالسلاح والعدّة وأنا شريككم في الرأي، وإنّما لي من هذا الملك اسمه مع الطاعة منكم، ألا وإنما الملك ملك إذا أطيع، فإن خولف فهو مملوك وليس بملك، ألا وإن أكمل الأداة عند المصيبات الزخذ بالصبر والراحة إلي اليقين، فمن قُتل في مجاهدة العدوّ ورجوت له بفوز رضوان الله، وإنما هذه الدنيا سفر لأهلها لا يحلّون عقد الرحال إلاّ في غيرها، وهي خطبة طويلة. ثم أمر بالطعام فزكلوا وشربوا وخرجوا وهم له شاكرون مطيعون. وكان ملكه مائة وعشرين سنة. وزعم ابن الكلبيّ أنّ الرايش، واسمه الحرث بن قيس بن صيفي بن سبأ بن يعرب بن قحطان، وكان قد ملك اليمن بعد يعرب بن قحطان، كان ملكه باليمن أيّام ملك منوجهر، وإنما سمّي الرايش لغنيمة غنمها فأدخلها اليمن فسمّي الرايش، ثمّ غزا الهند فتل بها وأسر وغنم ورجع الى اليمن، ثمّ سار على جبلي طيّء، ثمّ على الأنبار، ثم على الموصل ووجه منها خيله وعليها رجل من أصحابه يقال له شمر بن العطّاف، فدخل على الترك بزرض أذربيجان فقتل المقاتلة وسبهى الذرّية وكتب ما كان من مسيره على حجرين، وهما معروفان بأذربيجان.
ثمّ ملك بعده ابنه أبرهة، ولقبه ذو المنار، وإنما لقّب بذلك لأنه غزا بلاد المغرب وأوغل فيها برّاً وبحراً، وخاف على جيشه الضلال عند قفوله فبنى المنار ليهتدوا بها، وقد زعم أهل اليمن أنه وجه ابنه العبد بن أبرهة في غزواته الى ناحية من أقاصي المغرب فغنم وقدم بسبي له وحشة منكرة، فذعر الناس منهم، فسمّي ذو الأذعار؛ فأبرهة أحد ملوكهم الذين توغّلوا في البلاد. وإنما ذكرت من ذكرت من ملوك اليمن ها هنا لقول من زعم أن الرايش كان أيام منوجهر وأن ملوك اليمن كانوا عمالاً لملوك فارس. قصة موسى عليه السلام ونسبه وما كان في أيامه من الأحداث قيل: هو موسى بن عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب بن اسحاق بن ابراهيم، وولد لاوي ليعقوب وهو ابن تسع وثمانين سنة، وولد قاهث للاوي وهو ابن ست وأربعين سنة، وولد لقاهث يصهر، وولد عمران ليصهر وله ستون سنة، وكان عمره جميعه مائة وسبعاً وأربعين سنة وولد موسى ولعمران سبعون سنة وكان عمر عمران جميعه مائة وسبعاً وثلاثين سنة، وأم موسى يوخابد، واسم امرأته صفوراً بنت شعيب النبيّ. وكان فرعون مصر في أيامه قابوس بن مصعب بن معاوية صاحب يوسف الثاني، وكانت امرأته آسية بنت مزاحم بن عبيد بن الريّان بن الوليد فرعون يوسف الأول، وقيل: كانت من بني اسرائيل، فلمّا نودي موسى أعلم أنّ قابوس فرغون مصر مات وقام أخوه الوليد بن مصعب مكانه، وكان عمره طويلاً، وكان أعتى من قابوس وأفجر، وأمر بأن يأتيه هو وهارون بالرسالة، ويقال: إنّ الوليد تزوج آسية بعد أخيه، ثم سار موسى إلى فرعون رسولاً مع هارون، فكان من مولد موسى إلى أن أخرج بني إسرائيل من مصر ثمانون سنة، ثم سار الى التيه بعد أن مضى عبر البحر، وكان مقامهم هنالك إلى أن خرجوا مع يوشع بن نون أربعين سنة، فكان ما بين مولد موسى الى وفاته مائة وعشرين سنة. قال ابن عبّاس وغيره، دخل حديث بعضهم في بعض: إنّ الله تعالى لما قبض يوسف وهلك الملك الذي كان معه وتوارثت الفراعنة ملك مصر ونشر الله بني اسرائيل لم يزل بنو اسرائيل تحت يد الفراعنة وهم على بقايا من دينهم مما كان يوسف ويعقوب واسحاق وابراهيم شرعوا فيهم من الاسلام حتى كان فرعون موسى، وكان زعتاهم علي الله وأعظمهم قولاً وأطولهم عمراً، واسمه فيما ذكر الويد بن مصعب، وكان سيء الملكة على بني اسرائيل يعذبهم ويجعلهم خولاً ويسومهم سوء العذاب. فلما أراد الله أن يستنفذهم بلغ موسى الأشدّ وأعطي الرسالة، وكان شأن فرعون قبل ولادة موسى أنه رأى في منامه كأن ناراً أقبلت من بيت المقدس حتى اشتملت علي بيوت مصر فأحرقت القبط وتركت بني اسرائيل وأخربت بيوت مصر، فدعا السحرة والحزاة والكهنة فسألهم عن رؤياه، فقالوا: يخرج من هذا البلد، يعنون بيت المقدس، الذي جاء بنو اسرائيل منه، رجل يكون على وجهه هلاك مصر، فأمر أن لا يولد لبني اسرائيل مولود إلا ذبح ويترك الجواري. وقيل: إنه لما تقارب زمان موسى أتى منجمو فرعون وحزاته إليه فقالوا: اعلم أنّا نجد في علمنا أن مولوداً من بني اسرائيل قد أظلّك زمانه الذي يولد فيه يسلبك ملكك ويغلبك على سلطانك ويبدل دينك، فأمر بقتل كلّ مولود يولد في بني اسرائيل.
وقيل: بل تذاكر فرعون وجلساؤه معاً ما وعد الله عزّ وجل إبراهيم أن يجعل في ذريته أنبياء وملوكاً، فقال بعضهم: إ بني اسرائيل لينتظرون ذلك، وقد كانوا يظنونه يوسف بن يعقوب، فلما هلك قالوا: ليس هكذا وعد الله إبراهيم، فقال فرعون: كيف ترون؟ فأجمعوا على أن يبعث رجالاً يقتلون كل مولود في بني اسرائيل، وقال للقبط: انظروا مماليككم الذين يعملون خارجاً فأدخولهم واجعلوا بني اسرائيل يلون ذلك، فجعل بني اسرائيل في أعمال غلمانهم، فذلك حين يقول الله عز وجل: (إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعاً يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم) القصص: 82 : 4؛ فجعل لا يولد لبني اسرائيل مولود إلا ذبح، وكان يأمر بتعذيب الحبالى حتى يضعن، فكان يشقق القصب ويوقف المرأة عليه فيقطع أقدامهن، وكانت المرأة تضع فتتقي بولدها القصب، وقذف الله الموت في مشيخة بني اسرائيل، وفدخل رؤوس القبط على فرعون وكلموه وقالوا: إنّ هؤلاء القوم قد وقع فيهم الموت فيوشك أن يقع العمل على غلماننا، تذبح الصغار وتفني الكبار، فلو أنك كتبت تبقي من أولادهم، فأمرهم أن يذبحوا سنة ويتركوا سنة، فلما كان في تلك السنة التي تركوا فيها ولد هارون، وولد موسى في السنة التي يقتلون فيها، وهي السنة المقبلة، قلما أرادت أمه وضعه حزنت من شزنه ، فأوحى الله إليها، أي ألهمها: (أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم - وهو النيل - ولا تخافي ولا تحزني إنا رادّوه إليك وجاعلوه من المرسلين) القصص: 28 : 7. فلما وضعته أرضعته ثمّ دعت نجّاراً فجعل له تابوتاً وجعل مفتاح التابوت من داخل وجعلته فيه وألقته في اليم، فلما توارى عنها زتاها إبليس، فقالت في نفسها: ما الذي صنعت بنفسي لو ذبح عندي فواريته وكفنته كان أحبّ إليّ من أن ألقيه بيدي إلى حيتان البحر ودوابه، فلمّا ألقته (قالت لأخته) - واسمها مريم (قصيه) يعني قصّي أثره (فبصرت به عن جنب وهم لا يشعرون) القصص: 28 : 11 انها أخته، فأقبل الموج بالتابوت يرفعه مرة ويخفضه أخرى حتى ادخله بين أشجار عند دور فرعون، فخرج جواري آسية امرأة فرعون يغتسلن فوجدن التابوت فأدخلنه إلى آسية، وظنن أن فيه مالاً، فلما فتح ونظرت إليه آسية وقعت عليها رحمته وأحبته، فلما أخبرت به فرعون وأتته قالت: (قرّة عين لي ولك لا تقتلوه) القصص: 28 : 9، فقال فرعون: يكون لكِ، وأما أنا فلا حاجة لي فيه. قال النبي، صلى الله عليه وسلم، والذي يحلف به لو أقرّ فرعون أن يكون له قرة عين كما أقرت لهداه الله كما هداها. وأراد أن يذبحه فلم تزل اسية تكلّمه حتى تركه لها وقال: إني أخاف أن يكون هذا من بني اسرائيل وأن يكون هذا الذي على يديه هلاكنا، فذلك قوله عز وجل: (فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدواً وحزناً) القصص: 28 : 8، وأرادوا له المرضعات فلم يزخذ من أحد من النساد، فذلك قوله: (وحرمنا عليه المراضع من قبل فقالت - أخته مريم - هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون؟) القصص: 28 : 12، فزخذوها وقالوا: ما يدريك ما نصحهم له؟ هل يعرفونه؟ حتى شكوا في ذلك فقالت: نصحهم له شفقتهم عليه ورغبتهم في قضاء حاجة الملك ورجاء منفعته، فانطلقت إلى أمّه فأخبرتها الخبر، فجاءت أمه، فلما أعطته ثديها أخذه منها، فكادت تقول: هذا ابني، فعصمها الله. وإنما سمي موسى لأنه وجد في ماء وشجر، والماء بالقبطيّة مو، والشجر سا، فذلك قوله تعالى: (فرددناه إلى أمه كي تقر عينها ولا تحزن) القصص: 28 : 13.
وكان غيبته عنها ثلاثة أيام، وزخذته معها إلى بيتها، واتخذه فرعون ولداً فدعي ابن فرعون، فلما تحرك الغلام حملته أمه إلى آسية، فأخذته ترقصه وتلعب به وناولته فرعون، فلما أخذه إليه أخذ الغلام بلحيته فنتفها، قال فرعون: عليّ بالذبّاحين يذبحونه، هو هذا قالت آسية: (لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولداً) القصص: 28 : 9، إنما هو صبيّ لا يعقل وإنما فعل هذا من جهل، وقد علمت أنه ليس في مصر امرأة أكثر حليّاً مني، أنا أضع له حليّاً من ياقوت وجمراً فإن أخذ الياقوت فهو يعقل فاذبحه وإن أخذ الجمرة فإنما هو صبيّ، فأخرجت له ياقوتها ووضعت له طشتاً من جمر فجاء جبرائيل فوضع يده في جمرة فأخذها فطرحها موسى في فمه، فأحرقت لسانه، فهو الذي يقول الله تعالى: (واحلل عقدةً من لساني يفقهوا قولي) طه: 27 : 28، فدرأت عن موسى بتلك القتل. وكبر موسى ، وكان يركب مركب فرعون ويلبس ما يلبس، وإنما يدعى موسى بن فرعون، وامتنع به بنو اسرائيل ولم يبق قبطيّ يظلم اسرائيلياً خوفاً منه. ثم إن فرعون ركب مركباً وليس عنده موسى، فلما جاء موسى قيل له: فرعون قد ركب، فركب موسى في أثره فأدركه المقيل بأرض يقال لها منف، وهذه منف (بفتح الميم وسكون النون) مصر القديمة التي هي مصر يوسف الصديق، وهي الآن قرية كبيرة، فدخل نصف النهار، وقد أغلقت أسواقها، (على حين غفلة من أهلها، فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته) القصص: 28 : 15 - 17 يقول هذا اسرائيلي قيل إنه السامريّ (وهذا من عدوّه)، فغضب موسى لأنه تناوله وهو يعلم منزلة موسى من بني اسرائيل وحفظه لهم، وكان قد حماهم من القبط، وكان الناس لايعلمون أنه منهم بل كانوا يظنون أن ذلك بسبب الرّضاع، فلما اشتدّ غضبه وكزه فقضى عليه، فقال: إن (هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين؛ قال ربّ إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له، إنه هو الغفور الرحيم) القصص: 28 : 16؛ فأوحى الله تعالى إلى موسى: وعزّتي لو أن النفس التي قتلت أقرّت لي ساعة واحدة أني خالق رازق لأذقتك العذاب، (قال: رب بما أنعمت عليّ فلن أكون ظهيراً للمجرمين) القصص: 28 : 17، فأصبح في المدينة خائفاً يترقب أن يؤخذ، (فإذا الذي استنصره بالزمس يستصرخه - يقول يستعينه : قال له مسوى: إنك لغويّ مبين) القصص: 28 : 18، ثمّ أقبل لينصره، فلما نظر الي موسى وقد أقبل نحوه ليبطش بالرجل الذي يقاتل الاسرائيلي خاف أن يقتله من أجل أنه أغلظ له في الكلام قال: (أتريد أن تقتلني كما قتلت نفساً بالأمس؟ إن تريد إلا أن تكون جباراً في الأرض وما تريد أن تكون من المصلحين) القصص: 28 : 19، فترك القبطيّ، فذهب فأفشى عليه أنّ موسى هو الذي قتل الرجل، فطلبه فرعون وقال: خذوه فإنّه صاحبنا، فجاء رجل فأخبره وقال له: (إنّ الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج) القصص: 28 : 20. قيل: كان خربيل مؤمن آل فرعون، كان على بقيّة من دين إبراهيم، عليه السلام، وكان أول من آمن بموسى، فلما أخبره خرج من بينهم (خائفاً يترقب، قال: رب نجني من القوم الظالمين) القصص: 28 : 21، وأخذ في ثنيات الطريق، فجاءه ملك علي فرس وفي يده عنزة، وهي الحربة الصغيرة، فلمّا رآه موسى سجد له من الفَرَق، فقال له: لا تسجد لي ولكن ابتعني؛ فهداه نحو مدين، وقال موسى وهو متوجه إليها: (عسى ربي أن يهديني سواء السبيل) القصص: 28 : 22، فانطلق به الملك حتي انتهى به إلي مدين، فكان قد سار وليس معه طعام، وكان يزكل ورق الشجر، ولم يكن له قوة على الشمي، فما بلغ مدين حتى سقط خف قدمه، (ولما ورد ماء مدين - قصد الماء - وجد عليه أمّةً من الناس يسقون، ووجد من دونهم امرأتين تذودان) القصص: 28 : 23، أي تحبسان غنمهما، وهما ابنتا شعيب النبي، وقيل: ابنتا يثرون، وهو ابن أخي شعيب، فلما رآهما موسى سألهما: (ما خطبكما؟ قالتا: لا نسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير) القصص: 28 : 23، فرحمهما موسى فأتى البئر فاقتلع صخرة عليها كان النفر من أهل مدين يجتمعون عليها حتى يرفعوها فسقى لهما غنمهما، فرجعتا سريعاً، وكانتا إنما تسقيان من فضول الحياض، وقصد موسى شجرة هناك ليستظل بها فقال: (رب إني لما أنزلت إليه من خير فقير) القصص: 28 : 24. قال ابن عباس: لقد قال موسى ذلك ولو شاء إنسان أن ينظر الى خضرة أمعائه من شدّة الجوع لفعل وما سأل إلا أكلة.
فلما رجعت الجاريتان إلى أبيهما سريعاً سألهما فأخبرتاه، فأعاد إحداهما الى موسى تستدعيه، فأتته وقالت له: (إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا) القصص: 25، فقام معها، فمشت بين يديه، فضربت الريح ثوبها فحكى عجيزتها، فقال لها: امشي خلفي ودلّيني على الطريق فإنّا أهل بيت لا ننظر في أعقاب النساء. فلما أتاه (وقص عليه القصص قال: لا تخف نجوت من القوم الظالمين)، قالت إحداهما، وهي التي أحضرته: (يا أبت استأجره، إن خير من استأجرت القوي الأمين) القصص: 26، قال لها أبوها: القوة قد رأيتها فما يدريك بأمانته؟ فذكرت له ما أمرها به من المشي خلفه، فقال له أبوها: (إني زريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني - نفسك - ثماني حجج، فإن أتممت عشراً فمن عندك) القصص: 27، فقال له موسى: (ذلك بيني وبينك أيما الزجلين قضيت فلا عدوان عليّ، والله على ما نقول وكيل) القصص: 28، فأقام عنده يومه، فلمّا أمسى أحضر شعيب العشاد، فامتنع موسى من الأكل، فقال: ولم ذلك؟ قال: إنها من أهل بيت لا نأخذ على اليسير من عمل الآخرة الدنيا بأسرها، فقال شعيب: ليس لذلك أطعمتك إنما هذه عادتي وعادة آبائي، فأكل، وازدادت رغبة شعيب في موسى فزوّجه ابنته التي أحضرته، واسمها صفورا، وأمرها أن تأتيه بعصاً، فأتته بعصاً، وكانت تلك العصا قد استودعها إيّاه ملك في صورة رجل، فدفعتها إليه، فلمّا رآها أبوها أمرها بردّها والإتيان بغيرها، فألقتها وأرادت أن تأخذ غيرها، فلم تقع بيدها سواها، وجعل يرددّها، وكل ذلك لا يخرج في يدها غيرها، فزخذها موسى ليرعى بها فندم أبوها حيث أخذها وخرج إليه ليأخذها منه حيث هي وديعة، فلمّا رآه مسوى يريد أخذها منه مانعه، فحكّما أوّل رجل يلقاهما، فزتاهما ملك في صورة آدميّ فقضى بينهما أن يضعها موسى في الأرض، فمن حملها فهي له، فألقاها موسى فلم يطق أبوها حملها وأخذها موسى بيده فتركها له، وكانت من عوسج لها شعبتان وفي رأسها محجن، وقيل: كانت من آس الجنة، حملها آدم معه، وقيل في أخذها غير ذلك. وأقام موسى عند شعيب يرعى له غنمه عشر سنين، وسار بأهله في زمن شتاء وبرد، فلما كانت الليلة التي أراد الله عز وجل لموسى كرامته وابتداءه فيها بنبوّته وكلامه أخطأ فيها الطريق حتى لا يدري أين يتوجه، وكانت امرأته حاملاً، فأخذها الطلق في ليلة شاتية ذات مطر ورعد وبرق، فأخرج زنده ليقدح ناراً لأهله ليصطلوا ويبيتوا حتى يصبح ويعلم وجه طريقه، فأصلد زنده فقدح حتى أعيا، فرفعت له نار، فلمّا رآها ظنّ أنها نار، وكانت من نور الله، ف (قال لأهله: امكثوا إني آنست ناراً لعلي آتيكم منها بخبر) القصص: 29، فإن لم أجد خبراً (آتيكم بشهاب قبس لعلكم تصطلون) النمل: 7، فحين قصدها رآها نوراً ممتداً من السماء إلى شجرة عظيمة من العوسج، وقيل: من العناب، فتحيّر موسى وخاف حين رأى ناراً عظيمة بغير دخان، وهي تلتهب في شجرة خضراء لا تزداد النار إلا عظماً ولا تزداد الشجرة إلا خضرة، فلما دنا منها استأخرت عنه، ففزع ورجع، فنودي منها، فلما سمع الصوت استأنس فعاد، (فلما أتاها نودي من شاطئ الوادي الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة) القصص: 30: أن بورك من في النار ومن حولها يا موسى، (إن أنا الله ربّ العالمين)، فلمّا سمع النداء ورأى تلك الهيبة علم أنه ربّه تعالى، فخفق قلبه وكلّ لسانه وضعفت قوته وصار حيّاً كميت إلاّ أن الروح يتردد فيه، فأرسل الله إليه ملكاً يشدّ قلبه، فلمّا ثاب إليه عقله نودي: (اخلع نعليك إنك بالوادي المقدس طوىً) طه: 12؛ وإنّما أمر بخلع نعله لأنهما كانتا من جلد حمار ميت، وقيل: لينال قدمه الأرض المباركة، ثمّ قال له تسكيناً لقلبه: (وما تلك بيمينك يا موسى؟ قال: هي عصاي أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي) طه: 17 : 18؛ يقول: أضرب الشجر فيسقط ورقة للغنم؛ (ولي فيها مآرب أخرى) أحمل عليها المزود والسّقاء. وكانت تضيء لموسى في الليلة المظلمة، وكانت إذا أعوزه الماء أدلاها في البئر فينال الماء ويصير في رأسها شبه الدلو، وكان إذا اشتهى فاكهة غرسها في الأرض فنبتت لها أغصان تحمل الفاكهة لوقتها.
قال له: ألقها يا موسى، فألقاها موسى، فإذا هي حيّة تسعى عظيمة الجثة في خفّة حركة الجانّ، فلمّا رآها موسى (وولى مدبراً ولم يعقب)، فنودي: (يا موسى لا تخف إني لا يخافُ لديّ المرسلون) النمل: 10، أقبل ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولي عصاً؛ وإنما أمره الله بإلقاء العصا حتى إذا ألقاها عند فرعون لا يخاف منها، فلمّا أقبل قال: خذها ولا تخف وأدخل يدك في فيها، وكان على موسي جبّة صوف، فلّ يده بكمّه وهو لها هائب، فنودي: ألقِ كمّك عن يدك، فألقاه، وأدخل يده بين لحييها، فلمّا أدخل يده عادت عصاً كما كانت لا ينكر منها شيئاً. ثمّ قال له: (أدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء) النمل: 12، يعني برصاً، فأدخلها وأخرجها بيضاء من غير سوء مثل الثلج لها نور، ثمّ ردّها فعادت كما كانت، فقيل له: (فذانك برهانان من ربك إلي فرعون وملإه إنهم كانوا قوماً فاسقين؛ قال: ربّ إني قتلت منهم نفساً فأخاف أن يتقلون؛ وأخي هارون هو أفصح مني لساناً فأرسله معي ردءاً: يصدقني) القصص: 32 - 34، أي يبين لهم عني ما زكلّمهم به، فإنه يفهم عني ما لا يفهمون، (قال: سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطاناً فلا يصلون رليكما بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون) القصص: 35. فأقبل موسى إلى أهله فسار بهم نحو مصر حتى أتاها ليلاً، فتضيّف على أمّه وهو لا يعرفهم ولا يعرفونه، فجاء هارون فسألها عنه، فأخبرته أنه ضيف، فدعاه فأكل معه، وسأله هارون: من أنت؟ قال: أنا موسى، فاعتنقا، وقيل: إنّ الله ترك موسى سبعة أيام ثم قال: أجب ربك فيما كلّمك، فقال: (رب اشرح لي صدري) طه: 25 الآيات، فزمره بالمسير الى فرعون، ولم يزل أهله مكانهم لا يدرون ما فعل حتى مرّ راعٍ من أهل مدين فعرفهم فاحتملهم إلى مدين، فكانوا عند شعيب حتى بلغهم خبر موسى بعدما فلق البحر، فساروا إليه. وأمّا مسوى فإنه سار الى مصر، وأوحى اللّه إلى هارون يعلمه بقفول موسى ويأمره بتلقّيه، فخرج من مصر فالتقى به، قال موسى: يا هارون إنه الله تعالى قد أرسلنا إلى فرعون فانطلق معي إليه، قال: سمعاً وطاعة، فلمّا جاء إلى بيت هارون وزظهر أنهما ينطلقان الى فرعون سمعت ذلك ابنة هارون فصاحت أمهما فقالت: أنشدكما الله أن لا تذهبا الى فرعون فيقتلكما جميعاً فأبيا فانطلقا إليه ليلاً، فضربا بابه، فقال فرعون لبوّابهك من هذا الذي يضرب بابي هذه الساعة؟ فأشرف عليهما البّواب فكلّمهما، فقال له موسى: إنّا رسولا ربّ العالمين، فأخبر فرعون، فأدخلا إليه. وقيل: إن موسى وهارون مكثا سنتين يغدوان الى باب فرعون ويروحان يلتمسان الدخول إليه فلم يجسر أحد يخبره بأمرهما، حتى أخبره مسخرة كان يضحكه بقوله، فأمر حينئذٍ فرعون بإدخالهما، فلمّا دخلا قال له موسى: إنّي رسول من ربّ العالمين، فعرفه فرعون فقال له: (ألم نربّك فينا وليداً ولبثت فينا من عمرك سنين؛ وفعلت فعلتك التي فعلت وأنت من الكافرين؟ قال: فعلتها إذاً وأنا من الضالين، ففررت منكم لما خفتكم فوهب لي ربي حكماً، يعني نبوّة، وجعلني من المرسلين) الشعراء: 18 - 21، فقال له فرعون: (إن كنت جئت بايةٍ فأت بها إن كنت من الصادقين، فألقي عصاه فإذا هي ثعبان مبين) الاعراف: 106 - 107 قد فتح فاه فوضع اللحي الأسفل في الأرض والأعلى على القصر وتوجّه نحو فرعون ليأخذه، فخافه فرعون ووثب فزعاً فز | |
|
| |
الشيخ عودة الشيخ عودة
عدد المساهمات : 1748 تاريخ التسجيل : 28/09/2008 العمر : 74
| موضوع: رد: كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير الخميس فبراير 06, 2014 8:28 am | |
| وأوحى الله تعالى إلي موسى وهارون أن (قولا له قولاً ليّناً لعله يتذكر أو يخشى) طه: 44، فقال له موسى: هل لك في أن أعطيك شبابك فلا تهرم، وملكك فلا ينزع، وأردّ إليك لذّة المناكح والمشارب والركوب، فإذا مُتَّ دخلت الجنّة وتؤمن بي؟ فقال: لا حتى يأتي هامان، فلمّا حضر هامان عرض عليه قول موسى، فعجهزه وقال له: تصير تعبد بعد أن كنت تعبد ثم قال له: أنا أردّ عليك شبابك، فعمل له الوسمة فخصبه بها، فهو أول من خصب بالسواد، فلمّا رآه موسى هاله ذلك، فأوحى الله إليه: لا يهولنّك ما ترى فلن يلبث إلاّ قليلاً، فلمّا سمع فرعون ذلك خرج إلى قومه فقال: إن هذا لساحر عليم، وأراد قتله، فقال مؤمن آل فرعون، واسمه خربيل: (أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات؟) غافر: 28 وقال الملأ من قوم فرعون: (أرجه وزخاه وابعث في المدائن حاشرين يأتوك بكل سحار عليم) الشعراء: 36 - 37، ففعل وجمع السحرة، فكانوا سبعين ساحراً، وقيل: اثنين وسبعين، وقيل: خمسة عشر ألفاً، وقيل ثلاثين ألفاً، فوعدهم فرعون واتعدوا يوم عيد كان لفرعون، فصفّهم فرعون وجمع النّاس، وجاء موسى ومعه أخوه هارون وبيده عصاه حتى زتى الجمع وفرعون في مجلسه مع أشراف قومه، فقال موسى للسحرة حين جاءهم: (ويلكم لا تفتروا على الله كذباً فيسحتكم بعذاب) طه: 61، فقال السحرة بعضهم لبعض: ما هذا بقول ساحر ثم قالوا: لنأتينك بسحر لم تر مثله (وقالوا: بعزّة فرعون إنّا لنحن الغالبون) الشعراء: 44، فقال له السحرة: يا (موسى إما أن تلقي وإما زن نكون نحن الملقين) الاعراف: 115، قال: بل ألقوا، (فألقوا حبالهم وعصيهم) فإذا هي في رأي العين حيّات أمثال الجبال قد ملأت الوادي يركب بعضها بعضاً، فأوجس موسى خوفاً، فأوحي الله إليه: أن (ألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا) طه: 69، فألقى عصاه من يده فصارت ثعباناً عظيماً فاستعرضت ما زلقوا من حبالهم وعصيّهم، وهي كالحيّات في أعين الناس، فجعلت تلقفها وتلقفها وتبتلعها حتى لم تبق منها شيئاً، ثم أخذ موسى عصاه فإذا هي في يده كما كانت. وكان رئيس السحرة أعمى، فقال له أصحابه: إن عصا موسى صارت ثعباناً عظيماً وتلقف حبالنا وعصيّنا، فقال لهم: ولم يبقَ لها أثر ولا عادت إلى حالها الأول؟ فقالوا: لا، فقال: هذا ليس بسحر، فخرّ ساجداً وتبعه السحرة أجمعون و(قالوا: آمنا بربّ العالمين ربّ موسى وهارون) الشعراء: 47 - 48، قال فرعون: (آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنّكم في جذوع النخل) طه: 71، فقطعهم وقتلهم وهم يقولون: (ربنا أفرغ علينا صبراً وتوفّنا مسلمين) الأعراف: 126، فكانوا أول النهار كفّاراً وآخر النهار شهداء. وكان خربيل مؤمن آل فرعون يكتم إيمانه، قيل: كان من بني إسرائيل، وقيل: كان من القبط، وقيل: هو النّجّار الذي صنع التابوت الذي جُعل فيه موسى وألقي في النيل، فلما رأى غلبة موسى السحرة أظهر إيمانه، وقيل: أظهر إيمانه قبل فقتل وصلب مع السحرة، وكان له امرأة مؤمنة تكتم إيمانها أيضاً، وكانت ماشطة ابنة فرعون، فبينما هي تمشطها إذ وقع المشط من يدها، فقالت: بسم الله، فقالت ابنة فرعون: أبي؟ قالت: لا بل ربيّ وربّك وربّ أبيك، فأخبرت أباها بذلك، فدعا بها وبولدها وقال لها: من ربّك؟ قالت: ربي وربّك الله، فزمر بتنّور نحاس فأحمي ليعذّبها وأولادها، فقالت: لي إليك حاجة، قال: وما هي؟ قالت: تجمع عظامي وعظام ولدي فتدفنها، قال: ذلك لكِ، فأمر بأولادها فألقوا في التنور واحداً واحداً، وكان آخر أولادها صبياً صغيراً، فقال: اصبري يا أمّاه فإنّك على حق، فألقيت في التنور مع ولدها. وكانت آسية امرأة فرعون من بني اسرائيل، وقيل: كانت من غيرهم، وكانت مؤمنة تكتم إيمانها، فلمّا قتلت الماشطة رأت آسية الملائكة تعرج بروحها، كشف الله عن بصيرتها، وكانت تنظر إليها وهي تعذب، فلمّا رأت الملائكة قوي إيمانها وازدادت يقيناً وتصديقاً لموسى، فبينما هي كذلك إذ دخل عليها فرعون فأخبرها خبر الماشطة، قالت له آسية: الويل لك ما أجرأك على الله فقال لها: لعلّك اعتراك الجنون الذي اعترى الماشطة؟ فقالت: ما بي جنون ولكنّي آمنت بالله تعالى ربي وربّك وربّ العالمين.
فدعا فرعون أمّها وقال لها: إنّ ابنتك قد أصابها ما أصاب الماشطة فأقسم لتذوقنّ الموت أو لتكفرنّ بإله موسى، فخت بها أمّها وأرادتها على موافقة فرعون، فأبت وقالت: أمّا أنزكفر بالله فلا والله فأمر فرعون حتى مدّت بين يديه أربعة أوتاد وعذّبت حتى ماتت، فلما عاينت الموت قالت: (ربّ ابن لي عندك بيتاً في الجنة ونجني من فرعون وعمله ونجني من القوم الظالمين) التحريم: 11، فكشف الله عن بصيرتها فرأت الملائكة وما أعدّ لها من الكرامة، فضحكت، فقال فرعون: انظروا الى الجنون الذي بها تضحك وهي في العذاب ثم ماتت. ولما رأى فرعون قومه قد دخلهم الرعب من موسى خاف أن يؤمنوا به ويتركوا عبادته فاحتال لنفسه وقال لوزيره: يا هامان ابن لي صرحاً لعلّي (أطلع إلى إله موسى وإني لأظنّه كاذباً) غافر: 37، فأمر هامان بعمل الآجرّ، وهو أوّل من عمله، وجمع الصّناع وعمله في سبع سنين، وارتفع البنيان ارتفاعاً لم يبلغه بنيان آخر، فشقّ ذلك على موسى واستعظمه، فأوحى الله إليه: أن دعه وما يريد فإنّي مستدرجه ومبطل ما عمله في ساعة واحدة، فلما تمّ بناؤه أمر الله جبرائيل فخرّبه وأهلك كلّ من عمل فيه من صانع ومستعمل، فلمّا رأى فرعون ذلك من صنع الله أمر أصحابه بالشدّة على بني اسرائيل وعلى موسى، ففعلوا ذلك، وصاروا يكلّفون بني إسرائيل من العمل ما لا يطيقونه، وكان الرجال ولانساء في شدّة، وكانوا قبل ذلك يطعمون بني اسرائيل إذا استعملوهم، فصاروا لا يسعمونهم شيئاً، فيعودون بأسوأ حال يريدون يكسبون ما يقوتهم، فشكوا ذلك إلى موسى، فقال لهم: استعينوا بالله واصبروا، إن العاقبة للمتقين، (عسى ربّكم أن يهلك عدوّكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون) الأعراف: 129. فلمّا أبى فرعون وقومه إلا الثبات على الكفر، تابع الله عليه الآيات، فأرسل عليهم الطوفان، وهو المطر المتتابع، فغرق كلّ شيء لهم، فقالوا: يا موسى ادعُ ربّك يكشف عنّا هذا ونحن نؤمن بك ونرسل معك بني إسرائيل، فكشفه الله عنهم ونبتت زروعهم، فقالوا: ما يسرّنا أنّا لم نمطر، فبعث الله عليهم الجراد فأكل زروعهم، فسألوا موسى أن يكشف ما بهم ويؤمنوا به، فدعا الله فكشفه، فلم يؤمنوا وقالوا: قد بقي من زروعنا بقيّة، فأرسل الله عليهم الدبّا، وهو القمل، فأهلك الزروع والنبات أجمع، وكان يهلك أطعمتهم، ولم يقدروا أن يحترزوا منه، فسألوا موسى أن يكشفه عنهم؛ ففعل، فلم يؤمنوا، فأرسل الله عليهم الضفادع، وكانت تسقط في قدورهم وأطعمتهم وملأت البيوت عليهم، فسألوا موسى أن يكشفه عنهم ليؤمنوا به، ففعل، فلم يؤمنوا، فأرسل الله عليهم الدّم، فصارت مياه الفرعونيين دماً، وكان الفرعونيّ والاسرائيلي يستقيان من ماء واحد، فيأخذ الاسرائيلي ماء ويأخذ الفرعوني دماً، وكان الاسرائيلي يأخذ الماء في فمه فيمجّه في فم الفرعوني فيصير دماً، فبقي ذلك سبعة أيام، فسألوا موسى أن يكشفه عنهم ليؤمنوا، ففعل، فلم يؤمنوا. فلمّا يئس من إيمانهم ومن إيمان فرعون دعا موسى وأمّن هارون فقال: (ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينةً وأموالاً في الحياة الدنيا، ربّنا ليضلّوا عن سبيلك، ربّنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم) يونس: 88، فاستجاب الله لهما، فمسخ الله أموالهم، ما عدا خيلهم وجواهرهم وزينتهم، حجارةً، والنخل والأطعمة والدقيق وغير ذلك، فكانت إحدى الآيات التي جاء بها موسى.
فلما طال الأمر على موسى أوحى الله إليه يأمره بالمسير ببني اسرائيل وأن يحمل معه تابوت يوسف بن يعقوب ويدفنه بالأرض المقدّسة، فسأل موسى عنه فلم يعرفه إلا امرزة عجوز فأرته مكانه في النيل، فاستخرجه موسى، وهو في صندوق مرمر، فزخذه معه فسار، وأمر بني اسرائيل أن يستعيروا من حلي القبط ما أمكنهم، ففعلوا ذلك وأخذوا شيئاً كثيراً، وخرج موسى ببني اسرائيل ليلاً والقبط لا يعلمون، وكان موسى على ساقة بني اسرائيل، وهارون على مقدّمتهم، وكان بنو اسرائيل لما ساروا من مصر ستمائة ألف وعشرين ألفاً وعشرين ألفاً، وتبعهم فرعون وعلى مقدمتهم هامان، (فلمّا تراءى الجمعان قال أصحاب موسى: إنا لمدركون) الشعراء: 61 يا موسى أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا، أمّا الأول فكانوا يذبحون أبناءنا ويستحيون نساءنا، وأمّا الآن فيدركنا فرعون فيقتلنا، قال موسى: (كلا إنّ معي ربي سيهدين). وبلغ بنو اسرائيل إلى البحر وبقي بين أيديهم وفرعون من ورائهم، فأيقنوا بالهلاك، فتقدّم موسى فضرب البحر بعصاه فانفلق، فكان كلّ فرق كالطود العظيم، وصار فيه اثنا عشر طريقاً لكلّ سبط طريق، فقال كل سبط: قد هلك أصحابنا، فأمر الله الماء فصار كالشباك، فكان كل سبط يرى من عن يمينه وعن شماله حتى خرجوا، ودنا فرعون وأصابه من البحر فرأى الماء علي هيئته والطرق فيه، فقال لأصحابه: ألا ترون البحر قد فرق مني وانفتح لي حتى أدرك أعدائي؟ فلمّا وقف فرعون على أفواه الطرق لم تقتحمه خيله، فنزل جبرائيل على فرس أنثى وديق، فشمّت الحصن ريحها فاقتحمت في أثرها حتى إذا همّ أولهم أن يخرج ودخل آخرهم أمر البحر أن يأخذهم فالتطم عليهم فأغرقهم، وبنو اسرائيل ينظرون إليهم، وانفرد جبرائيل بفرعون يأخذ من حمأة البحر فيجعلها في فيه، وقال حين أدركه الغرق: آمنت أنّه لا إله إلاّ الذي آمنت به بنو إسرائيل، وغرق، فبعث الله إليه ميكائيل يعيره، فقال له: (الآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين) يونس: 91، وقال جبرائيل للنبي، صلى الله عليه وسلم: لو رزيتني وأنا أدسّ من حمأة البحر في فم فرعون مخافة أن يقول كلمة يرحمه الله بها). فلما نجا بنو اسرائيل قالوا: إنّ فرعون لم يغرق، فدعا موسى فأخرج الله فرعون غريقاً، فأخذه بنو اسرائيل يتمثلون به، ثمّ ساروا فزتوا علي قوم يعبدون الأصنام فقالوا: (يا موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة، قال: إنكم قوم تجهلون) الأعراف: 138، فتركوا ذلك، ثم بعث موسى جندين عظيمين كلّ جند اثنا عشر ألفاً إلى مدائن فرعون، وهي يومئذٍ خالية من زهلها قد زهلك الله عظماءهم ورؤساءهم ولم يبق غير النساء والصبيان والزمنى والمرضى والمشايخ والعاجزين، فدخلوا البلاد وغنموا الأموال وحملوا ما أطاقوا وباعوا ما عجزوا عن حمله من غيرهم، وكان على الجندين يوشع بن نون وكالب بن يوفنّا. وكان موسى قد وعده الله وهو بمصر أنّه إذا خرج مع بني اسرائيل منها وأهلك الله عدوّهم أن يأتيهم بكتاب فيه ما يأتون وما يذرون، فلمّا أهلك الله فرعون وأنجى بني إسرائيل قالوا: يا موسى ائتنا بالكتاب الذي وعدتنا، فسأل موسى ربّه ذلك، فأمره أن يصوم ثلاثين يوماً ويتطهّر ويطهّر ثيابه ويأتي إلى الجبل جبل طور سينا ليكلّمه ويعطيه الكتاب، فصام ثلاثين يوماً أوّلها أوّل ذي القعدة، وسار الى الجبل واستخلف أخاه هارون على بني اسرائيل، فلمّا قصد الجبل أنكر ريح فمه فتسوّك بعود خرنوب، وقيل: تسوّك بلحاء شجرة، فأوحى الله رليه: أما علمت أنّ خلوف فم الصائم أطيب عندي من ريح المسك؟ وأمره أن يصوم عشرة أيام أخرى، فصامها، وهي عشر ذي الحجة، (فتمّ ميقات ربّه أربعين ليلة) الاعراف: 142.
ففي تلك الليالي العشر افتتن بنو إسرائيل لأنّ الثلاثين انقضت ولم يرجع إليهم موسى، وكان السامريّ من زهل باجرمى، وقيل: من بني اسرائيل، فقال هارون: يا بني اسرائيل إن الغنائم لا تحل لكم والحلي الذي استعمرتموه من القبط غنيمة فاحفروا حفيرة وألقوه فيها حتى يرجع موسى فيرى فيه رأيه، ففعلوا ذلك، وجاء السامري بقبضة من التراب الذي أخذه من أثر حافر فرس جبرائيل فألقاه فيه، فصار الحلي عجلاً جسداً له خوار، وقيل: إنّ الحلي أُلقي في النار فذاب فألقي السامري ذلك التراب فصار الحلي عجلاً جسداً له خوار، وقيل: كان يخور ويمشي، وقيل: ما خار رلاّ مرة واحدة ولم يعد، وقيل: إنّ الاسمريّ صاغ العجل من ذلك الحلي في ثلاثة أيام ثم قذف فيه التراب فقام له خوار. فلما رأوه قال لهم السامري: (هذا إلهكم وإله موسى، فنسي) طه: 88 موسى وتركه ههنا وذهب يطلبه، فعكفوا عليه يعبدونه فقال لهم هارون: (يا قوم إنما فتنتم به وإن ربّكم الرحمن فاتبعوني وأطيعوا أمري) طه: 90، فأطاعه بعضهم وعصاه بعضهم، فأقام بمن معه ولم يقاتلهم، ولما ناجى الله تعالى موسى قال له: (وما أعجلك عن قومك يا موسى؟ قال: هم أولاء على أثري وعجلت إليك رب لترضى، قال: فإنا قد فتنّا قومك من بعدك - يا موسى - وأضلهم السامري) طه: 83 - 85، فقال موسى: يا ربّي هذا السامريّ قد أمرهم، أن يتخذوا العجل، من نفخ فيه الروح؟ قال: أنا، قال: فأنت إذاً أضللتهم. ثم إنّ موسي لما كلمه الله تعالي زحبّ أن ينظر إليه قال: (ربّ أرني أنظر إليك، قال: لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقرّ مكانه فسوف تراني، فلمّا تجلّى ربّه للجبل جعله دكّاً، وخرّ موسى صعقاً، فلمّا أفاق قال: سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين) الأعراف: 143، وأعطاه الألواح فيها الحلال والحرام والمواعظ، وعاد موسى ولا يقدر أحد أن ينظر إليه، وكان يجعل عليه حريرة نحو أربعين يوماً، ثمّ يكشفها لما تغشّاه من النور، فلمّا وصل إلى قومه ورأى عبادتهم العجل ألقى الألواح وأخذ برأس أخيه ولحيته يجرّه إليه، (قال: يا ابن أمّ لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي إني خشيت أن تقول فرقت بين بني اسرائيل ولم ترقب قولي) طه: 94 - 97، فترك هارون وأقبل علي السامريّ وقال: (ما خطبك يا سامري؟ قال: بصرت بما لم يبصروا به، فقبضت قبضةً من أثر الرسول فنبذتها وكذلك سوّلت لي نفسي، قال: فاذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مِسَاسَ)، ثم أخذ العجل وبرده بالمبارد وأحرقه وأمر السامريّ فبال عليه وذراه في البحر. فلمّا ألقى موسي الألواح ذهب ستّة أسباعها وبقي سبع، وطلب بنو اسرائيل التوبة فأبى الله أن يقبل توبتهم وقال لهم موسى: (يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا إلي بارئكم فاقتلوا أنفسكم) البقرة: 54، فاقتتل الذين عبدوه والذين لم يعبدوه، فكان من قتل من الفريقين شهيداً، فقتل منهم سبعون ألفاً، وقام موسى وهارون يدعوان الله، فعفا عنهم وأمرهم بالكفّ عن القتال وتاب عليهم، وأراد موسى قتل السامري فأمره الله بتركه وقال: إنه سخيٌّ، فلعنه موسى. ثمّ إنّ موسى اختار من قومه سبعين رجلاً من زخيارهم وقال لهم: انطلقوا معي إلى الله فتوبوا مما صنعتم وصوموا وتطهروا، وخرج بم الى طور سينا للميقات الذي وقّته الله له، فقالوا: اطلب أن نسمع كلام ربّنا، فقال: أفعل، فلمّا دنا موسى من الجبل وقع عليه الغمام حتي تغشَّى الجبل كلّه ودخل فيه موسى وقال للقوم: ادنوا، فدنوا حتى دخلوا في الغمام، فوقعوا سجوداً، فسمعوه وهو يكلّم موسى يأمره وينهاه، فلمّا فرغ انكشف من موسى الغمام فأقبل إليهم، فقالوا لموسى: (لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرةً) البقرة: 55 فأخذتهم الصّاعقة فماتوا جميعاً، فقام موسى يناشد الله تعالى ويدعوه ويقول: يا ربّ اخترت أخيار بني اسرائيل وأعود إليهم وليسوا معي فلا يصدّقونني، ولم يزل يتضرّع حتى ردّ الله إليهم أرواحهم فعاشوا رجلاً رجلاً ينظر بعضهم إلى بعض كيف يحيون، فقالوا: ياموسى أنت تدعو الله فلا تسأله شيئاً إلا أعطاكه، فادعه يجعلنا أنبياء، فدعا الله فجعلهم أنبياء. وقيل: أمرُ السبعين كان قبل أن يتوب الله على بني اسرائيل، فلمّا مضوا للميقات واعتذروا قَبِل توبتهم وأمرهم أن يقتل بعضهم بعضاً، والله أعلم.
ولما رجع موسى إلى بني اسرائيل ومعه التوراة أبوا أن يقبولها وبعملوا بما فيها للأثقال والشدّة التي جاء بها، وأمر الله جبرائيل فقلع جبلاً من فلسطين على قدر عسكرهم، وكان فرسخاً في فرسخ، ورفعه فوق رؤوسهم مقدار قامة الرجل مثل الظّلّة وبعث ناراً من قبل وجوههم وأتاهم البحر من خلفهم، فقال لهم موسى: خذوا ما آتيناكم بقوّة واسمعوا فإن قبلتموه وفعلتم ما أمرتم به وإلا رضختم بهذا الجبل وغرقتم في هذا البحر وأحرقتكم بهذه النار، فلمّا رأوا أن لا مهرب لهم قبلوا ذلك وسجدوا على شقّ وجوههم وجعلوا يلاحظون الجبل وهم سجود، فصارت سنّة في اليهود يسجدون على جانب وجوههم وقالوا: سمعنا وأطعنا. ولما رجع موسى من المناجاة بقي أربعين يوماً لا يراه أحد إلاّ مات، وقيل: ما رآه إلاّ عمي، فجعل على وجهه ورأسه برنساً لئلا يُرى وجهه. ثم إنّ رجلاً من بني اسرائيل قتل ابن عمّ له ولم يكن له وارث غيره ليرث ماله وحمله وألقاه بموضع آخر، ثمّ أصبح يطلب دمه عند موسى من بعض بني اسرائيل، فجحدوا، فسأل موسى ربّه، فأمرهم أن يذبحوا بقرة، فقالوا: (أتتخذنا هزواً؟ قال: أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين) البقرة: 67 المستهزئين، فقالوا له: ما هي؟ ولو ذبحوا بقرة ما لأجزأت عنهم، ولكنهم شدّدوا فشدّد الله عليهم، وإنما كان تشديدهم لأنّ رجلاً منهم كان براً بأمّه وكان له بقرة على النعت المذكور فنفعه برّه بأمّه، فلم يجدوا على الصفة المذكورة إلاّ بقرته، فباعها منهم بملء جلدها ذهباً، فلمّا سألوا موسى عنها قال: (إنها بقرة لا فارض ولا بكر) البقر: 68، يقول: لا كبيرة ولا صغيرة نصف بين السنين، (قالوا: ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها، قال: إنه يقول إنهابقرة صفراء فاقع لونها تسرّ الناظرين، قالوا: ادع لنا ربك يبين لناما هي، إن البقر تشابه علينا - قال: إنه يقول إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث مسلمة لا شية فيها) يعني لا عيب فيها، وقيل لا بياض فيها - قالوا: الآن جئت بالحق) البقرة: 69 - 71، وطلبوها فلم يجدوا إلا بقرة ذلك الرجل البارّ بأمّه، فاشتروها، فغالى بها حتى أخذ ملء جلدها ذهباً، فذبحوها وضربوا القتيل بلسانها، وقيل: بغيره، فحيي وقام وقال: قتلني فلان، ثم مات. ذكر أمر بني إسرائيل في التيه ووفاة هارون عليه السلامثم إنّ الله تعالى أمر موسى، عليه السلام، أن يسير ببني اسرائيل إلى أريحا بلد الجبّارين، وهي أرض بيت المقدس، فساروا حتى كانوا قريباً منهم، فبعث موسى اثني عشر نقيباً من سائر أسباط بني اسرائيل، فساروا ليأتوا بخبر الجبّارين، فلقيهم رجل من الجبّارين يقال له: (عوج بن عناق) فأخذ الاثني عشر فحملهم وانطلق بهم الى امرأته فقال: انظري الى هؤلاءالقوم الذين يزعمون أنّهم يريدون أن يقاتلونا، وأراد أن يطأهم برجله؛ فمنعته امرأته وقالت: أطلقهم ليرجعوا ويخبروا قومهم بما رأوا، ففعل ذلك، فلمّا خرجوا قال بعضهم لبعض: إنّكم إن أخبرتم بني اسرائيل بخبر هؤلاء لا يقدموا عليهم، فاكتموا الأمر عنهم؛ وتعاهدوا على ذلك ورجعوا، فنكث عشرة منهم العهد وأخبروا بما رأوا، وكتم رجلان منهم، وهما: يوشع بن نون وكالب بن يوفنّا ختن موسى، ولم يخبروا إلاّ موسى وهارون، فلمّا سمع بنو اسرائيل الخبر عن الجبّارين امتنعوا عن المسير إليهم، فقال لهم موسى: (يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين، قالوا: ياموسي إنّ فيها قوماً جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها، فإن يخرجوا منها فإنا داخلون، قال رجلان) وهما يوشع وكالب (من الذين يخافون أنعم الله عليهما: ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون) المائدة: 21 - 23، (قالوا: يا موسى إنا لن ندخلها أبداً ما داموا فيها، فاذهب أنت وربك فقاتلا، إنا ها هنا قاعدون) المائدة: 24.
فغضب موسي فدعا عليهم فقال: (رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي، فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين) المائدة: 25، وكانت علجة من موسى، فقال الله تعالى: (فإنها محرمة عليهم أربعين سنةً يتيهون في الأرض) المائدة: 26، فندم موسي حينئذ، فقالوا له: فكيف لنا بالطعام؟ فأنزل الله المنّ والسلوى، فزمّا المنّ فقيل هو كالصمغ وطعمه كلاشهد يقع على الأشجار، وقيل: هو الترنجبين، وقيل: هو الخبز الرقاق، وقيل: هو عسل كان ينزل لكل إنسان صاع، وأمّا السلوى فهو طاذر يشبه السّماني، فقالوا: أين الشراب؟ فزمر موسي فضرب بعصاه الحجر (فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً) البقرة: 60، لكلّ سبط عين، فقالوا: أين الظلّ؟ فظلّل عليهم الغمام، فقالوا: أين اللبّاس؟ فكانت ثيابهم تطول معهم ولا يتمزّق لهم ثوب، ثمّ قالوا: (يا موسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربّك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وففومها وعدسها وبصلها، قال: أتستبدولن الذي هو أدنى بالذي هو خير؟ اهبطوا مصراً فإن لكم ما سألتم) البقرة: 61، فلما خرجوا من التيه رفع عنهم المنّ والسلوى. ثم إن موسي التقي هو وعوج بن عناق، فوثب موسي عشرة أذرع، وكانت عصاه عشرة أذرع، وكان طوله عشرة أذرع، فأصاب كعب عوج فقتله، وقيل: عاش عوج ثلاثة آلاف سنة. ثمّ إنّ الله أوحى إلى موسى: إني متوفٍّ هارون فأت به جبل كذا وكذا، فانطلقا نحوه فإذا هم فيه بشجرة لم يروا مثلها وفيه بيت مبني وسرير عليه فرش وريح طيّبة، فلما رآه هارون أعجبه، قال: يا موسى إني أريد أن أنام على هذا السرير، فقال له موسى: نم، قال: إني أخاف ربّ هذا البيت أن يأتي فيغضب عليّ، قال موسى: لا تخف أنا أكفيك ، قال: فنم معي، فلمّا ناما أخذ هارون الموت، فلمّا وجد حسّه قال: يا موسى خدعتني فتوفّي ورفع على السرير إلى السماء، ورجع موسى إلى بني اسرائيل، فقال له بنو اسرائيل: إنك قتلت هارون لحبّنا إيّاه، فقال: ويحكم أفترون أني أقتل أخي فلمّا أكثروا عليه صلى ودعا الله، فنزل بالسرير حتى نظروا إليه ما بين السماء والأرض، فأخبرهم أنه مات وأن موسى لم يقتله، فصدّقوه، وكان موته في التيه. ذكر وفاة موسى عليه السلامقيل: بينما موسى، عليه السلام، يمشي ومعه يوشع بن نون فتاه إذ أقبلت ريح سوداء، فلمّا نظر إليها يوشع ظنّ أنها الساعة، فالتزم موسى وقال: لاتقوم الساعة وأنا ملتزم نبيّ الله، فاستلّ موسي من تحت القميص وبقي القميص في يدي يوشع، فلمّا جاء يوشع بالقميص أخذه بنو اسرائيل وقالوا: قتلت نبيّ الله فقال: ما قتلته ولكنه استلّ مني، فلم يصدّقوه، قال: فإذا لم تصدّقوني فأخروني ثلاثة أيام، فوكّلوا به من يحفظه، فدعا الله، فأتي كلّ رجل كان يحرسه في المنام فأُخبر أنّ يوشع لم يقتل موسى، وأنّا قد رفعناه إلينا، فتركوه. وقيل: إنّ موسى كره الموت فأراد الله أن يحبّب إليه الموت، فأوحى الله إلى يوشع بن نون، وكان يغدو عليه ويروح، ويقول له موسى: يا نبيّ الله ما أحدث الله إليك؟ فقال له يوشع بن نون: يا نبيّ الله ألم أصحبك كذا وكذا سنة فهل كنت أسألك عن شيء مما أحدث الله لك؟ ولا يذكر له شيئاً، فلمّا رأى موسى ذلك كره الحياة وأحبّ الموت، وقيل: إنه مرّ منفرداً برهط من المالذكة يحفرون قبراً، فعرفهم فوقف عليهم، فلم يرَ أحسن منه ولم يَر مثل ما فيه من الخضرة والبهجة، فقال لهم: يا ملائكة الله لمن تحفرون هذا القبر؟ فقالوا: نحفره لعبد كريم على ربّه، فقال: إنّ هذا العبد له منزلٌ كريم ما رأيتُ مضجعاً ولا مدخلاً مثله، فقالوا: أتحبّ أن يكون لك؟ قال: وددت، قالوا: فانزل واضطجع فيه وتوجّه إلى ربك وتنفّس أسهل تنفس تتنفسّه، فنزل فيه وتوجّه إلى ربه ثم تنفس، فقبض الله روحه ثمّ سوت الملائكة عليه التراب. وكان، صلى الله عليه وسلم، زاهداً في الدنيا راغباً فيما عند الله، إنما كان يستظل في عريش ويأكل ويشرب من نقير من حجر تواضعاً إلى الله تعالى.
وقال النبي، صلى الله عليه وسلم: إنّ الله أرسل ملك الموت ليقبض روحه فلطمه ففقأ عينه، فعاد وقال: يا ربّ أرسلتني إلى عبد لا يحبّ الموت، قال الله: رجع له وقل له يضع يده على ظهر ثور وله بكلّ شعرة تحت يده سنة، وخيّره بين ذلك وبين أن يموت الآن، فأتاه ملك الموت وخيّره، فقال له: فما بعد ذلك؟ قال: الموت، قال: فالآن إذن، فقبض روحه، وهذا القول صحيح قد صحّ النقل به عن النبيّ، صلى الله عليه وسلم، فكان موته في التيه أيضاً. وقيل: بل هو الذي فتح مدينة الجبّارين على ما نذكره. وكان جميع عمر موسى مائة وعشرين سنة، من ذلك في ملك أفريدون عشرون، وفي ملك منوجهر مائة سنة، وكان ابتداء أمره منذ بعثه الله إلي أن قبضه في ملك منوجهر. ثمّ نبّئ بعده يوشع بن نون فكان في زمن منوجهر عشرين سنة، وفي زمن أفراسياب سبع سنين. ذكر يوشع بن نون عليه السلام وفتح مدينة الجبارين لما توفي موسى بعث الله يوشع بن نون بن افرائيم بن يوسف بن يعقوب بن اسحاق بن ابراهيم الخليل، عليه السلام، نبيّاً الى بني اسرائيل وأمره بالمسير الى أريحا مدينة الجبّارين، واختلف العلماء في فتحها على يد من كان، فقال ابن عبّاس: إنّ موسي وهارون توفيّا في التيه وتوفّي فيه كل من دخله، وقد جاوز العشرين سنة، غير يوشع بن نون وكالب بن يوفنا، فلما انقضى أربعون سنة أوحى الله الى يوشع بن نون فزمره بالمسير إليها وفتحها، ففتحها؛ ومثله قال قتادة والسّدّيّ وعكرمة. وقال آخرون: إنّ موسى عاش حتى خرج من التيه وسار الى مدينة الجبّارين وعلى مقدمته يوشع بن نون ففتحها؛ وهو قول ابن اسحاق، قال ابن اسحاق: سار موسى بن عمران الى أرض كنعان لقتال الجبّارين، فقدّم يوشع بن نون وكالب بن يوفنّا، وهو صهره على أخته مريم بنت عمران، فلمّا بلغوها اجتمع الجبّارون الى بلعم بن باعور، وهو من ولد لوط، فقالوا له: رن موسي قد جاء ليقتلنا ويخرجنا من ديارنا فادع الله عليهم، وكان بعلم يعرف اسم الله الأعظم، فقال لهم: كيف أدعو على نبيّ الله والمؤمنين ومعهم الملائكة فراجعوه في ذلك وهو يمتنع عليهم، فأتوا امرأته وأهدوا لها هديّة، فقبلتها، وطلبوا إليها أن تحسّن لزوجها أن يدعو على بني اسرائيل، فقالت له في ذلك، فامتنع، فلم تزل به حتى قال: أستخير الله، فاستخار الله تعالى، فنهاه في المنام، فأخبرها بذلك، فقالت: راجع ربّك، فعاود الاستخارة فلم يرد إليه جواب، فقالت: لو أراد ربّك لنهاك، ولم تزل تخدعه حتى أجابهم، فركب حماراً له متوجّهاً إلى جبل مشرف على بني إسرائيل ليقف عليه ويدعو عليهم، فما سار عليه إلاّ قليلاً حتى ربض الحمار، فنزل عنه وضربه حتى قام فركبه فسار به قليلاً فبرك، فعل ذلك ثلاث مرّات، فلمّا اشتدّ ضربه في الثالثة أنطقه الله فقال له: ويحك يا بلعم أين تذهب؟ أما ترى الملائكة ترى تردّني؟ فلم يرجع، فأطلق الله الحمار حينئذ، فسار عليه حتى أشرف على بني اسرائيل، فكان كلّما أراد أن يدعو عليهم ينصرف لسانه الى الدعاء لهم، وإذا أراد أن يدعو لقومه انقلب دعاؤه عليهم، فقالوا له في ذلك، فقال: هذا شيء غلبنا الله عليه، واندلع لسانه فوقع على صدره، فقال: الآن قد ذهبت مني الدنيا والآخرة ولم يبقَ غير المكر والحيلة، وأمرهم أن يزيّنوا نساءهم ويعطوهنّ السلع للبيع ويرسلوهنّ إلى العسكر ولا تمنع امرأة نفسها ممن يريدها، وقال: إن زنى منهم رجل واحد كفيتموهم، ففعلوا ذلك، ودخل النساء عسكر بني اسرائيل، فأخذ زمرى بن شلوم، وهو رأس سبط شمعون بن يعقوب، امرأة وأتى بها موسى فقال له: أظنك تقول هذا حرام فوالله لا نطيعك، ثمّ أدخلها خيمته فوقع عليها، فأنزل الله عليهم الطاعون، وكان فنحاص بن العزار بن هارون صاحب أمر عمّه موسى غائباً، فلما جاء رأى الطاعون قد استقر في بني اسرائيل، وأُخبر الخبر، وكان ذا قوّة وبطش، فقصد زمرى فرآه وهو مضاجع المرأة، فطعنهما بحربة في يده فانتظمهما، ورفع الطاعون، وقد هلك في تلك الساعة عشرون ألفاً، وقيل: سبعون ألفاً، فأنزل الله في بلعم: (واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين).
ثم إن موسى قدّم يوشع الي أريحا في بني اسرائيل فدخلها وقتل بها الجبارين، وبقيت منهم بقيّة، وقد قاربت الشمس الغروب، فخشي أن يدركهم الليل فيعجزوه، فدعا الله تعالى أن يحبس عليهم الشمس، ففعل وحبسها حتى استأصلهم، ودخلها موسى فأقام بها ما شاء الله أن يقيم، وقبضه الله إليه لا يعلم بقبره أحد من الخلق. وأما من زعم أن موسى كان قد توفّي قبل ذلك فقال: إنّ الله أمر يوشع بالمسير الى مدينة الجبارين، فسار ببني اسرائيل، ففارقه رجل يقال له بلعم بن باعور، وكان يعرف الاسم الأعظم، وساق من حديثه نحو ما تقدّم، فلمّا ظفر يوشع بالجبارين أدركه المساء ليلة السبت فدعا الله فردّ الشمس عليه وزاد في النهار ساعة فهزم الجبارين ودخل مدينتهم وجمع غنائمهم ليأخذها القربان، فلم تأتِ النّار، فقال يوشع: فيكم غلول فبايعوني، فبايعوه، فلصقت يده في يد من غلّ، فزتاه برأس ثور من ذهب مكلّل بالياقوت فجعله في القربان وجعل الرجل معه، فجاءت النار فأكلتهما. وقيل: بل حصرها ستّة أشهر، فلما كان السابع تقدّموا الى المدينة وصاحوا صيحة واحدة فسقط السور، فدخلوهاوهزموا الجبارين وقتلوا فيهم فأكثروا، ثمّ اجتمع جماعة من ملوك الشام وقصدوا يوشع فقاتلهم وهزمهم وهرب الملوك الى غار، فأمر بهم يوشع بن نون فقتلوا وصلبوا، ثمّ ملك الشام جميعه فصار لبني اسرائيل وفرّق عمّاله فيه، ثمّ توفّاه الله فاستخلف على بني اسرائيل كالب بن يوفنّا، وكان عمر يوشع مائة وستّاً وعشرين سنة، وكان قيامه بالأمر بعد موسى سبعاً وعشرين سنة. وأما من بقي من الجبارين فإن إفريقش بن قيس بن صيفي بن سبأ بن كعب بن زيد بن حمير بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان مإه بهم متوجهاً الى افريقية فاحتملهم من سواحل الشام فقدم بهم افريقية فافتتحها وقتل ملكها جرجير وأسكنهم إياها، فهم البرابرة، وأقام من حمير في البربر صنهاجة وكتامة، فهم فيهم إلى اليوم. ذكر أمر قارونوكان قارون بن يصهر بن قاهث، وهو ابن عمّ موسى بن عمران بن قاهث، وقيل: كان عمّ موسى؛ والأوّل أصحّ، وكان عظيم المال كثير الكنوز، قيل: إن مفاتيح خزائنه كانت تحمل على أربعين بغلاً، فبغى على قومه بكثرة ماله، فوعظوه ونهوه وقالوا له ما قصّ الله تعالى في كتابه: (لا تفرح إن الله لايحبّ الفرحين، وابتغ فيما آتالك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين) القصص: 76 - 77؛ فأجابهم جواب مغترّ لحلم الله عنه فقال: إنما أوتيته، يعني المال والخزائن، على علم عندي، قيل على خبر ومعرفة مني، وقيل: لولا رضى الله عني ومعرفته بفضلي ما أعطاني هذا، فلم يرجع عن غيّه ولكنّه تمادى في طغيانه حتى (خرج على قومه في زينته) القصص: 79، وهي أنه ركب برذوناً أبيض بمراكب الأرجوان المذهبّة وعليه الثياب المعصفرة وقد حمل معه ثلاثمائة جارية على مثل برذونه وأربعة آلاف من أصحابه، وبنى داره وضرب عليها صفائح الذهب وعمل لهاباباً من ذهب، فتمنى أهل الغفلة والجهل مثل ماله، فنهاهم أهل العلم بالله. وأمره الله تعالى بالزكاة، فجاء إي موسى من كلّ ألف دينار دينار، وعلى هذا من كلّ ألف شيء شيء، فلمّا عاد الى بيته وجده كثيراً، فجمع نفراً يثق بهم من بني اسرائيل فقال: إنّ موسى أمركم بكلّ شيء فأطعتموه، وهو الآن يريد أخذ أموالكم، فقالوا: أنت كبيرنا وسيّدنا فمرنا بما شئت، فقال: آمركم أن تحضروا فلانة البغيّ فتجعلوا لها جُعلاً فتقذفه بنفسها، ففعلوا ذلك، فأجابتهم إليه. ثمّ أتى موسى فقال: إنّ قومك قد اجتمعوا لك لتأمرهم وتنهاهم، فخرج إليهم فقال: من سرق قطعناه، ومن افترى جلدناه، ومن زنى وليس له امرأة جلدناه مائة جلدة، وإن كان له امرأة رجمناه حتى يموت فقال له قارون: وإن كنت أنت؟ فقال: نعم، قال: فإنّ بني اسرائيل يزعمون أنك فجرت بفلانة، فقال: ادعوها فإن قالت فهو كما قالت. فلما جاءت قال لها موسى: أقسمت عليك بالذي أنزل التوراة إلا صدقت: أنا فعلتُ بك ما يقول هؤلاء؟ قالت: لا، كذبوا، ولكن جعلوا لي جعلاً على أن أقذفك، فسجد ودعا عليهم، فأوحى الله إليه: مُرِ الأرض بما شئت تطعك، فقال: يا أرض خديهم.
وقيل: إنّ هذا الأمر بلغ موسى، فدعا الله تعالى عليه، فأوحى الله إليه: مُر الأرض بما شئت تطعك، فجاء موسى الى قارون، فلما دخل عليه عرف الشر في وجهه فقال له: يا موسى ارحمني، فقال موسى: يا أرض خذيهم، فاضطربت داره وساخت بقارون وأصحابه إلى الكعبين، وجعل يقول: يا موسي ارحمني، قال: يا أرض خذيهم، فأخذتهم الى ركبهم، فلم يزل يستعطفه وهو يقول: يا أرض خذيهم، حتى خسف بهم، فأوحى الله إلى موسى: ما أفظّك أما وعزّتي لو إيّاي نادى لأجبته، ولا أعيد الأرض تُطيع أحداً أبداً بعدك، فهو يخسف به كلّ يوم، فلما أنزل الله نقمته حمد المؤمنون الله، وعرف الذين تمنّوا مكانه بالأمس خطأ أنفسهم واستغفروا وتابوا. ذكر من ملك من الفرس بعد منوجهرلما هلك منوجهر ملك فارس سار أفراسياب بن فشنج بن رستم ملك الترك الى مملكة الفرس واستولى عليهم وسار الى أرض بابل وأكثر المقام بها وبمهرجا نقذق وأكثر الفساد في مملكة فارس، وعظم ظلمه، وأخرب ما كان عامراً، ودفن الأنهار والقنى، وقحط النّاس سنة خمس من ملكه، إلي زن خرج عن مملكة فارس، ولم يزل النّاس منه فيزعظم البليّة إلى أن ملك زوّ بن طهماسب، وكان منوجهر قد سخط على ولده طهماسب ونفاه عن بلاده، فأقام في بلاد الترك عن ملك لهم يقال له وامن وتزوّج ابنته، فولدت له زوّ بن طهماسب، وكان المنجّمون قد قالوا لأبيها: إن ابنته تلد ولداً يقتله، فسجنها، فلمّا تزوّجها طهماسب وولدت منه كتمت أمرها وولدها، ثمّ إنّ منوجهر رضي عن طهماسب وأحضره إليه، فاحتال في إخراج زوجته وابنه زوّ من محبسهما، فوصلت رليه، ثمّ إنّ زوّاً فيما ذكر قتل جدّه وأمّن في بعض الحروب الترك وطرد أفراسياب التركي عن مملكة فارس حتى ردّه الى الترك بعد حروب جرت بينهما، فكانت غلبة أفراسياب على أقاليم بابل ومملكة الفرس اثنتي عشرة سنة من لدن توفّي منوجهر الى أن أخرجه عنها زوّ، وكان إخراجه عنها في روزابن من شهر ابان ماه، فاتخذه لهم هذا اليوم عيداً وجعلوه الثالث لعيديهم النوروز والمهرجان. وكان زوّ محموداً في ملكه محسناً الى رعيّته فأمر بإصلاح ما كان أفراسياب أفسده من مملكتهم، وبعمارة الحصون، وإخراج المياه اليت غوّر طرقها، حتى عادت البلادُ إلى أحسن ما كانت، ووضع عن الناس الخراج سبع سنين، فعمرت البلاد في ملكه وكثرت المعايش، واستخرج بالسواد نهراً وسمّاه الزاب، وبنى عليه مدينة، وهي التي تسمّى العتيقة، وجعل لها طسّوج الزاب الأعلي وسسّوج الزاب الأوسط وطسوج الزاب الأسفل، وكان أوهل من اتخذ ألوان الطبيخ أمر بها وبأصناف الزطعمة، وأعطى جنوده ما غنم من الترك وغيرهم. وكان جميع ملكه إلى أن انقضت مدّته ثلاث سنين، وكان كرشاسب بن أنوط وزيره في ملكه ومعينه فيه، وقيل: كان شريكه في الملك؛ والزوّل أصحّ، وكان عظيم الشأن في فارس إلا أنّه لم يملك. ذكر ملك كيقباذثمّ ملك بعد زوّ كيقباذ بن راع بن ميسرة بن نوذر بن منوجهر وقدّر مياه الأنهاروالعيون لشرب الأرض، وسمى البلاد بأسمائها وحدّها بحدودها، وكوّر الكور وبيّن حيّز كلّ كورة، وأخذ العشر من غلاّتها لأرزاق الجند، وكان - فيما ذكر كيقباذ حريصاً علي عمارة البلاد، ومنعها من العدوّ، كثير الكنوز؛ وقيل: إنّ الملوك الكيانيّة وأبناءهم من نسله، وجرت بينه وبين الترك حروب كثيرة، فكان مقيماً بالقرب من نهر بلخ، وهو جيحون، لمنع الترك من تطرّق شيء من بلاده، وكان ملكه مائة سنة. ذكر الأحداث في بني إسرائيلفي عهد زوّ وكيقباذ ونبوة حزقيل لما توفي يوشع بن نون قام بأمر بني اسرائيل بعده كالب بن يوفنّا، ثمّ حزقيل بن نورى، وهو الذي يقال له ابن العجوز، وإنما قيل له ذلك لأنّ أمّه سألت الله الولد وقد كبرت، فوهبه الله لها، وهو الذي دعا للقوم الموتى فأحياهم الله.
وكان سبب ذلك: أنّ قرية يقال لها راوردارة، وقع بها الطاعون، فهرب عامّة أهلها ونزلوا ناحية، فهلك أكثر من بقي بالقرية وسلم الآخرون، فلمّا ارتفع الطاعون رجعوا، فقال الذين بقوا: أصحابنا هولاء كانوا أحزم منّا ولو صنعنا كما صنعوا بقينا، فوقع الطاعون من قابل، فهرب عامّة أهلها، وهم بضعة وثلاثون ألفاً، وقيل: ثلاثة آلاف، وقيل: أربعة آلاف، وقيل غير ذلك، حتي نزلوا ذلك المكان، فصاح بهم ملك فماتوا ونخرت عظامهم، فمرّ بهم حزقيل فلمّا رآهم جعل يتفكر في بعثهم، فأوحى الله إليه: أتريد أن أريك كيف أحييهم؟ قال: نعم، فقيل: ناد، فنادى: يا أيتها العظام البالية إنّ الله يأمرك أن تجتمعي، فجعلت العظام تطير بعضها الى بعض حتى صارت أجساداً من عظام، ثم نادى: يا أيتها العظام إن الله أمرك أن تكتسي فألبست لحماً ودماً وثيابها التي ماتت فيها، ثم نادى: يا أيتها الأرواح! إن الله يأمرك أن تعودي إلى أجسادك فعادت،وقامت الأجساد أحياء؛ وقالوا: حين أحيوا سبحانك ربنا وبحمدك لا إله إلا أنت ، فرجعوا إلى قومهم أحياء يعرفون انهم كانوا موتى سحنة الموت على وجوههم لا يلبسون ثوبا الا عاد كفنا دسما ثم ماتوا ثم مات حزقيل ولم تذكر مدته في بني اسرائيل، وقيل: كانوا قوم حزقيل فلما أن ماتوا بكى حزقيل وقال يا رب كنت في قوم يعبدونك ويذكرونك فبقيت وحيدا فقال الله أتحب أن أحييهم؟ قال: نعم قال: فإني قد جعلت حياتهم إليك، فقال حزقيل: أحيوا بإذن الله تعالى فعاشوا. ذكر الياس عليه السلاملما توفي حزقيل كثرت الأحداث في بني إسرائيل، وتركوا عهد الله وعبدوا الأوثان فبعث اللهم اليهم الياس بن ياسين بن فنحاص بن العزار بن هرون بن عمران نبياً، وكان الأنبياء في بني إسرائيل بعر موسى بن عمران يبعثون بتجديد ما نسوا من التوراة، وكان الياس مع ملك من ملوكهم يقال له أخاب وكان يسمع منه ويصدقه وكان الياس يقيم له أمره، وكان بنو إسرائيل قد اتخذوا صنماً يعبدونه يقال له: بعل، فجعل الياس يدعوهم إلى الله وهم لا يسمعون إلا من ذلك الملك، وكان ملوك بني إسرائيل متفرقة كل ملك قد تغلب على ناحية يأكلها، فقال ذلك الملك الؤي كان الياس معه والله ما أرى الذي تدعو إليه إلا باطلاً لأني فلانا وفلانا يعد ملوك بني إسرائيل قد عبدوا الأوثان، فلم يضرهم ذلك شيئاً يأكلون ويشربون ويتمتعون ما ينقص ذلك من ديارهم وما نري لنا عليهم من فضل؟ ففارقه الياس وهو يسترجع، فعبد ذلك الملك الأوثان أيضاً. وكان للملك جار صالح مؤمن يكتم إيمانه، وله بستان إلى جانب دار الملك، والملك يحسن جواره، وللمك زوجة عظيمة الشر والكفر، فقالت له ليأخذ بستان الرجل فلم يفعل، فكانت تخلف زوجها عئيمة الشر والكفر، فقالت له ليأخذ بستان الرجل فلم يفعل، فكانت تخلف زوجها إذا سار عن بلده وتظهر للناس، فغاب مرة فوضعت إمرأته على صاحب البستان من شهد عليه أنه سب الملك، فقتلته، وأخذت بستانه، فلما عاد الملك غضب من ذلك واستعظمه وأنكره، فقالت: فات أمره فأوحى الله إلى الياس يأمره أن يقول للملك وامرأته أن يرد البستان على ورثة صاحبه فإن لم يفعلا غضب عليهما وأهلكهما في البستان ولم يتمتعا به إلا قليلا، فأخبرهما الياس بذلك فلم يراجعا الحق.
فلما رأى الياس أن بني إسرائيل قد أبوا إلا الكفر والظلم دعا عليهم، فأمسك الله عنهم المطر ثلاث سنين، فهلكت الماشية والطيور والهوامّ والشجر وجهد الناس جهداً شديداً واستخفى الياس خوفاً من بني إسرائيل، فكان يأتيه رزقه، ثم أنه أوى ليلة إلى أمرأة من بني إسرائيل لها ابن يقال له اليسع بن أخطوب - به ضر شديد فدعا له فعوفى من الضر الذي كان به واتبع الياس، وكان معه وصحبه وصدقه، وكان الياس قد كبر، فأوحى الله إليه إنك قد أهلكت كثيراً من الخلق من البهائم والدواب والطير وغيرها، ولم يعص سوى بني إسرائيل، فقال الياس: أي رب: دعني أكن أنا الذي أدعو لهم وأبتهج بالفرج لعلهم يرجعون، فجاء الياس إليهم، وقال لهم: انكم قد هلكتم وهلكت الدواب بخطاياكم، فإن أحببتم أن تعلموا أن الله ساخط عليكم بفعلكم، وأن الذي أدعوكم إليه هو الحق، فاخرجوا باصنامكم وادعوها، فان استجابت لكم فذلك الحق كما تقولون، وان هي لم تفعل علمتم أنكم على باطل فنزعتم ودعوت الله ففرّج عنكم، قالوا أنصفت فخرجوا بأصنامهم فدعوها فلم يستجب لهم ولم يفرح عنهم، فقالوا: لالياس انا قد هلكنا فادع الله لنا فدعا لهم بالفرج وان يسقوا، فخرجت سحابة مثل الترس وعظمت وهم ينظرون، ثم أرسل الله منها المطر فحييت بلادهم، وفرج الله عنهم ما كانوا فيه من البلاء فلم ينزعوا ولم يراجعوا الحق، فلما رأى ذلك الياس سأل الله أن يقبضه فيريحه منهم، فكساه الله الريش وألبسه النور وقطع عنه لذة المعطعم والمشرب، فصار ملكياً إنسياً سماوياً أرضياً، وسلط الله على الملك وقومه عدواً فظفر بهم وقتل الملك وزوجته بذلك البستان وألقاهما فيه حتى بليت لحومهما. ذكر نبوّة اليسوع عليه السلام وأخذ التابوت من بني إسرائيلفلمّا انقطع إلياس عن بني اسرائيل بعث الله أليسع، فكان فيهم ما شاء اللّه، ثمّ قبضه الله وعظمت فيهم الزحداث وعندهم التابوت يتوارثونه فيه السكينة وبقيّة ممّا ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة، فكانوا لا يلقاهم عدوّ فيقدّمون التابوت إلاّ هزم الله العدوّ، وكانت السكينة شبه رأس هر، فإذا صرخت في التابوت بصراخ هرّ أيقنوا بالنصر وجاءهم الفتح، ثمّ خلف فيها ملك يقال له إيلاف، وكان الله يمنعهم ويحميهم، فلمّا عظمت أحداثهم نزل بهم عدوّ فخرجوا إليه وأحرجوا التابوت، فاقتتلوا فغلبهم عدوّهم على التابوت وزخذه منهم وانهزموا، فلمّا علم ملكهم أن التابوت أخذ مات كَمَداً، ودخل العدوّ أرضهم ونهب وسبى وعاد، فمكثوا على اضطراب من أمرهم واختلاف، وكانوا يتمادون أحياناً في غيّهم فيسلّط الله عليهم من ينتقم منهم، فإذا راجعوا التوبة كفّ الله عنهم شرّ عدوهم، فكان هذا حالهم من لَدُن توفي يوشع بن نون إلى أن بعث الله اشمويل وملكهم طالوت وردّ عليهم التابوت. وكانت مدّة ما بين وفاة يوشع، الذي كان يلي أمر بني إسرائيل بعضها القضاة وبعضها الملوك وبعضها المتغلّبون الى أن ثبت الملك فيهم ورجعت النبوّة إلى اشمويل، أربعمائة سنة وستّين سنة. فكان أوّل من سُلّط عليهم رجل من نسل لوط يقال له كوشان فقهرهم وأذلّهم ثماني سنين، ثمّ أنقذهم من يده أخ لكالب الأصغر يقال له عتنيل، فقال بأمرهم أربعين سنة. ثمّ سُلّط عليهم ملك يقال له عجلون فملكهم ثماني عشرة سنة، ثم استنقذهم منه رجل من سبط بنيامين يقال له أهوذ، وقام بزمرهم ثمانين سنة. ثم سلط عليهم ملك من الكنعانيّين يقال له يابين، فملكهم عشرين سنة، واستنقذهم منه امرأة من بين أنبيائهم يقال لها دبورا، ودبّر الأمر رجل من قبلها يقال له باراق أربعين سنة. ثمّ سُلّط عليهم قوم من نسل لوط فملكوهم سبع سنين، واستنقذهم رجل يقال له جدعون إبن يواش من ولد نفتالي بن يعقوب، فدبّر أمرهم أربعين سنة وتوفيّ، ودبّر أمرهم بعده ابنه ابيمالخ ثلاث سنين، ثمّ دبّرهم بعده فولع بن فوّا ابن خال ابيمالخ، ويقال إنّه ابن عمّه، ثلاثاً وعشرين سنة، ثمّ دبّر أمرهم بعده رجل يقال له يائير اثنتين وعشرين سنة.
ثمّ ملكهم قوم من أهل فلسطين بني عمون ثماني عشرة سنة، ثمّ قام بأمرهم رجل منهم يقال له يفتح ست سنين، ثم دبّرهم بعده يبحسون سبع سنين، ثمّ بعده آلون عشر سنين، ثم بعده لترون، ويسميه بعضهم عكرون، ثماني سنين، ثم قهرهم أهل فلسطين وملكوهم أربعين سنة، ثمّ وليهم شمسون عشرين سنة، ثمّ بقوا بعده عشر سنين بغير مدبّر ولا رئيس، ثمّ قام بأمرهم بعد ذلك عالي الكاهن، وفي أيامه غلب أهل فلسطين على التابوت في قول، فلمّا مضى من وقت قيامه أربعون سنة بعث اشمويل نبياً فدبرهم عشر سنين، ثمّ سألوا اشمويل أن يبعث لهم ملكاً يقاتل بهم أعداءهم. ذكر حال اشمويل وطالوتكان من خبر اشمويل بن بالي أن بني إسرائيل لما طال عليهم البلاء، وطمع فيهم الأعداء، وأخذ التابوت منهم، فصاروا بعده لا يلقون ملكاً إلا خائفين، فقصدهم جالوت ملك الكنعانيين، وكان ملكه ما بين مصر وفلسطين، فظفر بهم، فضرب عليهم الجزية، وأخذ منهم التوراة، فدعوا الله أن يبعث لهم نبياً يقاتلون معه، وكان سبط النبوّة هلكوا، فلم يبق منهم غير امرأة حبلى، فحبسوها في بيت خيفة أن تلد جارية فتبدّلها بغلام لما ترى من رغبة بني اسرائيل في ولدها، فولدت غلاماً سمّته اشمويل، ومعناه: سمع الله دعائي. وسبب هذه التسمية أنها كانت عاقراً، وكان لزوجها امرأة أخرى قد ولدت له عشرة أولاد فبغت عليها بكثرة الزولاد، فانكسرت العجوز ودعت الله أن يرزقها ولداً، فرحم الله انكسارها وحاضت لوقتها وقرب منها زوجها، فحملت، فلما انقضت مدة الحمل ولدت غلاماً فسمّته اشمويل، فلما كبر أسلمته في بيت المقدس يتعلم التوراة، وكفله شيخ ن علمائهم وتبناه. فلمّا بلغ أن يبعثه الله نبياً أتاه جبرائيل وهو يصلي فناداه بصوت يشبه صوت الشيخ، فجاء إليه، فقال: ما تريد؟ فكره أن يقول لم أدعك فيفزع، فقال: ارجع فنم، فرجع، فعاد جبرائيل لمثلها، فجاء إلى الشيخ، فقال له: يا بنيّ عُدْ فإذا دعوتك فلا تجبني، فلمّا كانت الثالثة ظهر له جبرائيل وأمره بإنذار قومه وأعلمه أن الله بعثه رسولاً، فدعاهم، فكذبوه، ثم أطاعوه، وأقام يدبّر زمرهم عشر سنين، وقيل: أربعين سنة. وكان العمالقة مع ملكهم جالوت قد عظمت نكايتهم في بني اسرائيل حتى كادوا يُهلكونهم، فلما رأى بنو إسرائيل ذلك قالوا: (ابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله، قال: هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا؟ قالوا: وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأ | |
|
| |
الشيخ عودة الشيخ عودة
عدد المساهمات : 1748 تاريخ التسجيل : 28/09/2008 العمر : 74
| موضوع: رد: كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير الخميس فبراير 06, 2014 8:29 am | |
| ثم إنّ طالوت ندم وأراد التوبة وأقبل على البكاء حتى رحمه الناس، فكان كلّ ليلة يخرج الى القبور فيبكي ويقول: أنشد الله عبداً علم لي توبة إلا أخبرني بها، فلما أكثر ناداه مناد من القبور: يا طالوت أما رضيت قتلتنا أحياء حتى تؤذينا أمواتاً فازداد بكاء وحزناً، فرحمه الرجل الذي أمره بقتل تلك المرأة فقال له: إن دللتك علي عالم لعلك تقتله قال: لا، فزخذ عليه العهود والمواثيق ثمّ أخبره بتلك المرأة فقال: سلها هل لي من توبة؟ فحضر عندها وسألها هل به من توبة؟ فقالت: ما أعلم له من توبة، ولكن هل تعلمون قبر نبيّ؟ قالوا: نعم، قبر يوشع بن نون، فانطلقت وهم معها فدعت، فخرج يوشع، فلمّا رآهم قال: مالكم؟ قالوا: جئنا نسألك هل لطالوت من توبة؟ قال: ما أعلم له توبة إلا أن يتخلى من ملكه ويخرج هو وولده فيقاتلوا في سبيل الله حتى تقتل أولاده ثمّ يقاتل هو حتي يقتل، فعسى أن يكون له توبة، ثم سقط ميتاً، ورجع طالوت أحزن مما كان يخاف أن لا يتابعه ولده، فبكى حتى سقطت أشفار عينيه ونحل جسمه، فسأله بنوه عن حاله، فأخبرهم، فتجهزوا للغزو فقاتلوا بين يديه حتى قتلوا، ثم قاتل هو بعدهم حتى قتل. وقيل: إن النبيّ الذي بعث لطالوت حتى أخبره بتوبته أليسع، وقيل: اشمويل، والله أعلم. وكانت مدّة ملك طالوت إلى أن قتل أربعين سنة. ذكر ملك داودهو داود بن إيشي بن عويد بن باعز بن سلمون بن نحشون بن عمّي نوذب بن رام بن حصرون بن فارض بن يهوذا بن يعقوب بن اسحاق، وكان قصيراً أزرق قليل الشعر، فلما قتل طالوت أتى بنو إسرائيل داود فأعطوه خزائن طالوت وملّكوه عليهم، وقيل: إن داود ملك قبل أن يُقتل جالوت؛ وسبب ملكه حينئذٍ أن الله أوصى الى اشمويل ليأمر طالوت بغزو مدين وقتل من بها، فسار إليها وقتل من بها رلا ملكهم، فإنه أخذه أسيراً، فأوحى الله إلى اشمويل: قل لطالوت آمرك بأمر فتركته لأنزعن الملك منك ومن بنيك ثمّ لا يعود فيكم إلى يوم القيامة، وأمر اشمويل بتمليك داود، فملّكه وسار إلى جالوت فقتله، والله أعلم. فلما ملك بني اسرائيل جعله الله نبيّاً وملكاً وأنزل عليه الزبور وعلمه صنعة الدروع، وهو أول من عملها، وألان له الحديد، وأمر الجبال والطير يسبحون معه إذا سبح، ولم يعط الله أحداً مثل صوته، كان إذا قرأ الزبور تدنو الوحوش حتى يأخذ بأعناقها وإنها لمصيخة تسمع صوته. وكان شديد الاجتهاد كثير العبادة والبكاء، وكان يقوم الليل ويصوم نصف الدهر، وكان يحرسه كل يوم وليلة أربعة آلاف، وكان يزكل من كسب يده. وفي ملكه مسخ أهل أيلة قردة؛ وسبب ذلك أنهم كانوا تزتيهم يوم السبت حيتان البحر كثيراً، فإذا كان غير يوم السبت لا يجيء إليهم منها شيء، فعملوا على جانب البحر حياضاً كبيرة وأجروا إليها الماء، فإذا كان آخر نهار يوم الجمعة فتحوا الماء إلى الحياض فتدخلها الحيتان ولا تقدر على الخروج عنها، فيأخذونها يوم الأحد، فنهاهم بعض أهلها فلم ينتهوا، فمسخهم الله قردة وبقوا ثلاثة أيام وهلكوا. ذكر فتنته بزوجة أورياثم إن الله ابتلاه بزوجة أوريا، وكان سبب ذلك أنه قد قسم زمانه ثلاثة أيام، يوماً يقضي فيه بين الناس، ويوماً يخلوا فيه للعبادة، ويوماً يخلو فيه مع نسائه، وكان له تسع وتسعون امرأة، وكان يحسد فضل إبراهيم وإسحاق ويعقوب: أي ربيّ أرى الخير قد ذهب به آبائي فأعطني مثل ما أعطيتهم فأوحى الله إليه: إن آباءك ابتلوا ببلاء فصبروا، ابتلي ابراهيم بذبح ابنه، وابتلي اسحاق بذهاب بصره، وابتلي يعقوب بحزنه على يوسف، فقال: ربّ ابتلني بمثل ما ابتليتهم وأعطني مثل ما أعطيتهم، فأوحى الله إليه: إنك مبتلىً فاحترس.
وقيل: كان سبب البليّة أنه حدّث نفسه أنه يطيق أن يقطع يوماً بغير مقارفة سوء، فلما كان اليوم الذي يخلو فيه للعبادة عزم على أن يقطع ذلك اليوم بغير سوء وأغلق بابه وأقبل على العبادة، فإذا هو بحمامة من ذهب فيها كل لون حسن قد وقعت بين يديه، فأهوى ليأخذها، فطارت غير بعيد من غير أن ييأس من أخذها، فما زال يتبعها وهي تفرّ منه حتى أشرف على امرأة تغتسل فأعجبه حسنها، فلما رأت ظلّه في الأرض جلّلت نفسها بشعرها فاستترت به، فزاده ذلك رغبةً، فسأل عنها فأخبر أن زوجها بثغر كذا، فبعث الى صاحب الثغر بأن يقدّم أوريا بين يدي التابوت في الحرب، وكان كل من يتقدّم بين يدي التابوت لا ينهزم، إمّا أن يظفر أو يقتل، ففعل ذلك به فقُتل. وقيل: إنّ داود لما نظر إلى المرأة فزعجبته فسأل عن زوجها، فقيل: إنّه في جيش كذا، فكتب إلى صاحب الجيش أن يبعثه في سريّة إلى عدوّ كذا ففعل ذلك، ففتح الله عليه، فكتب إلى داود فأمر داود أن يرسل أيضاً إلى عدوّ كذا أشدّ منه، ففعل، فظفر، فأمر داود أن يرسل إلى عدوّ ثالث، ففعل، فقتل أوريا في المرّة الثالثة، فلمّا قتل تزوج داود امرأته، وهي أم سليمان في قول قتادة. وقيل: إن خطيئة داود كانت أنه لما بلغه حسن امرأة أوريا تمنّى أن تكون له حلالاً، فاتفق أن أوريا سار إلى الجهاد فقتل فلم يجد له من الهم ما وجده لغيره، فبينما داود في المحراب يوم عبادته وقد أغلق الباب إذ دخل عليه ملكان أرسلهما الله إليه من غير الباب، فراعه ذلك فقالا: (لا تخف، خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق، إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة، فقال: أكفلنيها وعزَّني في الخطاب) ص:22 : 32، أي قهرني، وأخذ نعجتي، فقال للآخر: ما تقول؟ قال: صدق، إني أردت أن أُكمل نعاجي مائة فزخذت نعجته، فقال داود: إذاً لا ندعك وذاك، فقال الملك: ما أنت بقادر عليه، قال داود: فإن لم تردّ عليه ماله ضربنا منك هذا وهذا، وأومأ إلى أنفه وجبهته، قال: يا داود أنت أحقّ أن يُضرب منك هذا وهذا حيث لك تسع وتسعون امرأة ولم يكن لأوريا إلاّ امرأة واحدة فلم تزل به حتى قتل وتزوجت امرأته، ثمّ غابا عنه. فعرف ما ابتلي به وما وقع فيه، فخرّ ساجداً أربعين يوماً لا يرفع رأسه إلا لحاجة لا بدَّ منها، وأدام البكاء حتى نبت من دموعه عشب غطى رأسه، ثمّ نادى: ياربّ قرح الجبين وجمدت العين وداود لم يرجع إليه في خطيئته بشيء، فودي: أجائع فتطعم أم مريض فتشفى أم مظلوم فتنصر؟ قال: فنحب نحبةً هاج ما كان نبت، فعند ذلك قبل الله توبته وأوحى إليه: ارفع رأسك فقد غفرتُ لك، قال: يا ربّ كيف أعلم أنك قد غفرت لي؟ وأنت حكم عدل لا تحيف في القضاء إذا جاء أوريا يوم القيامة آخذاً رأسه بيمينه تشخب أوداجه دماً قبل عرشك يقول: يا ربّ سلْ هذا فيم قتلني، فأوحى الله إليه: إذا كان ذلك دعوته وأستوهبك منه فيهبك لي فأهبه بذلك الجنة، قال: يا ربّ الآن علمت أنك قد غفرت لي. قال: فما استطاع داود بعدها أن يملأ عينه من السماء حياء من ربه حتى قبض، ونقش خطيئته في يده، فكان إذا رأها اضطربت يده، وكان يؤتى بالشراب في الإناء ليشربه فكان يشرب نصفه أو ثلثيه فيذكر خطيئته فينتحب حتى تكاد مفاصله يزول بعضها من بعض ثمّ يملأ الإناء من دموعه، وكان يقال: إنّ دمعة داود تعدل دموع الخلائق، وهو يجيء يوم القيامة وخطيئته مكتوبة بكفّه فيقول: يا ربّ ذنبي ذنبي قدِّمني، فيقدَّم، فلا يأمن فيقول: يا ربّ أخرني، فلا يأمن. وأزالت الخطيئة طاعة داود عن بني إسرائيل واستخفّوا بأمره، ووثب عليه ابن له يقال له إيشي وأمّه ابنة طالوت فدعا إلى نفسه، فكثر أتباعه من أهل الزيغ من بني إسرائيل، فلمّا تاب الله على داود اجتمع إليه طائفة من الناس فحارب ابنه حتى هزمه ووجّه إليه بعض قوّاده وأمره بالرفق به والتلطف لعله يأسره ولا يقتله، وطلبه القائد وهو منهزم فاضطره إلى شجرة فقتله، فحزن عليه داود حزناً شديداً وتنكّر لذلك القائد. ذكر بناء بيت المقدس ووفاة داود عليه السلام
قيل: أصاب النّاس في زمان داود طاعون جارف، فخرج بهم الى موضع بيت المقدس، وكان يرى الملائكة تعرج منه إلى السماء، فلهذا قصده ليدعو فيه، فلمّا وقف موضع الصخرة دعا الله تعالى في كشف الطاعون عنهم، فاستجاب له ورفع الطاعون، فاتخذوا ذلك الموضع مسجداً، وكان الشروع في بنائه لإحدى عشرة سنة مضت من ملكه، وتوفي قبل أن يستتمّ بناءه، وأوصى إلى سليمان بإتمامه وقتل القائد الذي قتل أخاه إيشي بن داود. فلّما توفي داود ودفنه سليمان تقدّم بإنفاذ أمره فقتل القائد واستتم بناء المسجد، بناه بالرخام وزخرفه بالذهب ورصعه بالجواهر، وقوي على ذلك جميعه بالجنّ والشياطين، فلمّا فرغ اتخذ ذلك اليوم عيداً عظيماً وقرّب قرباناً، فتقبّله الله منه، وكان ابتداؤه أوّلاً ببناء المدينة، فلمّا فرغ منها ابتدأ بعمارة المسجد، وقد أكثر الناس في صفة البناء مما يستبعد ولا حاجة إلى ذكره. وقيل: إنّ سليمان هو الذي ابتدأ بعمارة المسجد، وكان داود أراد أن يبنيه فأوحى الله إليه: إن هذا بيت مقدّس وإنك قد صبغت يدك في الدماء فلست ببانيه، ولكن ابنك سليمان يبنيه لسلامته من الدماء، فلمّا ملك سليمان بناه. ثمّ إنّ داود توفي وكان له جارية تغلق الأبواب كل ليلة وتأتيه بالمفاتيح فيقوم إلى عبادته، فأغلقتها ليلة فرأت في الدار رجلاً فقالت: من أدخلك الدار؟ فقال: أنا الذي أدخل على الملوك بغير إذن، فسمع داود قوله فقال: أنت ملك الموت؟ قال: نعم، قال: فهلاّ أرسلت إليّ لأستعدّ للموت؟ قال: قد أرسلتُ إليك كثيراً، قال: من كان رسولك؟ قال: أين أبوك وأخوك وجارك ومعارفك؟ قال: ماتوا، قال: فهم كانوا رسلي إليك لأنك تموت كما ماتوا ثمّ قبضه، فلمّا مات ورث سليمان ملكه وعلمه ونبوّته. وكان له تسعة عشر ولداً، فورثه سليمان دونهم، وكان عمر داود لما توفي مائة سنة، صحّ ذلك عن النبي، صلى الله عليه وسلم، وكانت مدّة ملكه أربعين سنة. ذكر ملك سليمان بن داود عليه السلاملما توفي داود ملك بعده ابنه سليمان على بني إسرائيل، وكان ابن ثلاث عشرة سنة، وآتاه مع الملك النبوّة، وسأل الله أن يؤتيه ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده، فاستجاب له وسخّر له الإنس والجنّ والشياطين والطير والريح، فكان إذا خرج من بيته إلى مجلسه عكفت عليه الطير وقام له الإنس والجنّ حتى يجلس. وقيل: إنهما سخّر له الريح والجنّ والشياطين والطير وغير ذلك بعد أن زال ملكه وأعاده الله سبحانه إليه على ما نذكره. وكان أبيض جسيماً كثير الشعر يلبس البياض، وكان أبوه يستشيره في حياته ويرجع إلى قوله، فمن ذلك ما قصّه الله في كتابه في قوله: (وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث) الأنبياء: 21 : 78؛ الآية، وكان خبره: أنّ غنماً دخلت كرماً فزكلت عناقيده وأفسدته، فقضى داود بالغنم لصاحب الكرم، فقال سليمان: أو غير ذلك، أن تسلّم الكرم إلى صاحب الغنم فيقوم عليه حتى يعود كما كان وتدفع الغنم إلى صاحب الكرم فيصيب منها إلى أن يعود كرمه إلى حاله ثمّ يأخذ كرمه ويدفع الغنم إلى صاحبها، فأمضى داود قوله، وقال الله تعالى: (ففهّمناها سليمان وكلاًّ آتينا حكماً وعلما) الأنبياء:79. قال بعض العلماء: في هذا دليل على أنّ كلّ مجتهد في الأحكام الفرعيّة مصيب، فإن داود أخطأ الحكم الصحيح عند الله تعالى وأصابه سليمان، فقال الله تعالى: (وكلاًّ آتينا حكماً وعلماً). وكان سليمان يأكل من كسب يده، وكان كثير الغزو، وكان إذا أراد الغزو أمر بعمل بساط من خشب يسع عسكره ويركبون عليه هم ودوابهم وما يحتاجون إليه، ثمّ زمر الريح فحملته فسارت في غدوته مسيرة شهر وفي روحته كذلك، وكان له ثلاثمائة زوجة وسبعمائة سرّيّة، وأعطاه الله أجراً أنّه لا يتكلّم أحد بشيء إلاّ حملته الريح إليه فيعلم ما يقول. ذكر ما جرى له مع بلقيسنذكر أولاً ما قيل في نسبها وملكها، ثمّ ما جرى له معها، فنقول: قد اختلف العلماء في اسم آبائها، فقيل: إنها هي بلقمة ابنة ليشرح بن الحارث بن قيس بن صيفي بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، وقيل: هي بلقمة ابنة هادد واسمه ليشرح بن تبّع ذي الأذعار بن تبّع ذي المنار بن تبّع الرايش، وقيل في نسبها غير ذلك لا حاجة إلى ذكره.
وقد اختلف النّاس في التبابعة وتقديم بعضهم على بعض وزيادة في عددهم ونقصان، اختلافاً لا يحصل الناظر فيه على طائل، وكذا أيضاً اختلفوا في نسبها اختلافاً كثيراً، وقال كثير من الرواة: إنّ أمّها جنّيّة ابنة ملك الجنّ واسمها رواحة بنت السكر، وقيل: اسم أمّها يلقمة بنت عمرو بن عمير الجنّيّ، وإنّما نكح أبوها إلى الجنّ لأنّه قال: ليس في الإنس لي كفوة، فخطب إلى الجنّ فزوّجوه. واختلفوا في سبب وصوله إلى الجنّ حتى خطب إليهم فقيل: إنّه كان لهجاً بالصيد، فربّما اصطاد الجنّ على صور الظباء فيخلّي عنهنّ، فظهر له ملك الجنّ وشكره علي ذلك واتخذه صديقاً، فخطب ابنته فأنكحه على أن يعطيه ساحل البحر ما بين يبرين إلى عدن؛ وقيل: إنّ أباها خرج يوماً متصيّداً فرأي حديتين تقتتلان بيضاء وسوداء وقد ظهرت السوداء علي البيضاء فزمر بقتل السوداء وحمل البيضاء وصبّ عليها ماء، فأفاقت، فأطلقها وعاد إلى داره وجلس منفرداً، وإذا معه شابّ جميل، فذعر منه، فقال له: لا تخف أنا الحيّة التي أنجيتني، والأسود الذي قتلته غلامٌ لنا تمرّد علينا وقتل عدّة من أهل بيتي؛ وعرض عليه المال وعلم الطبّ، فقال: أمّا المال فلا حاجة لي به، وأمّا الطبّ فهو قبيح بالملك، ولكن إن كان لك بنت فزوّجنيها، فزوّجه على شرط أن لا يغيّر عليها شيئاً تعمله ومتى غيّر عليها فارقته، فأجابه إلى ذلك، فحملت منه فولدت له غلاماً فألقته في النّار، فجزع لذلك وسكت للشرط، ثمّ حملت منه فولدت جارية فألقتها إلى كلبة فأخذتها، فعظم ذلك عليه وصبر للشرط، ثمّ إنّه عصي عليه بعضُ أصحابه فجمع عسكره فسار إليه ليقاتله وهي معه، فانتهى إلي مفازة، فلمّا توسّطها رأى جميع ما معهم من الزاد يخلط بالتراب، وإذا الماء يُصبّ من القرب والمزاود، فأيقنوا بالهلاك وعلموا أنّه من فعال الجنّ عن أمر زوجته، فضاق ذرعاً عن حمل ذلك، فأتاها وجلس وأومأ إلى الأرض وقال: يا أرض صبرتُ لكِ على إحراق ابني وإطعام الكلبة إبنتي ثمّ أنتِ الآن قد فجعتنا بالزاد والماء وقد أشرفنا على الهلاك فقالت المرأة: لو صبرت لكان خيراً لك، وسأخبرك: إنّ عدوّك خدع وزيرك فجعل السمّ في الأزواد والمياه ليقتلك وأصحابك، فمر وزيرك ليشرب ما بقي من الماء ويأكل من الزاد، فأمره فامتنع، فقتله، ودلّتهم على الماء والميرة من قريب وقالت: أما ابنك فدفعته إلى حاضنة تربيّه وقد مات، وأمّا ابنتك فهي باقية، وإذا بجويرية قد خرجت من الأرض، وهي بلقيس، وفارقته امرأته وسار إلى عدوّ فظفر به. وقيل في سبب نكاحه إليهم غير ذلك، والجميع حديث خرافة لا أصل له ولا حقيقة. وأمّا ملكها اليمن فقيل: إنّ أباها فوّض إليها الملك فملكت بعده، وقيل: بل مات عن غير وصيّة بالملك لأحد، فأقام النّاس ابن أخ له، وكان فاحشاً خبيثاً فاسقاً لا يبلغه عن بنت قيل ولا ملك ذات جمال إلاّ أحضرها وفضحها، حتى انتهى إلى بلقيس بنت عمّه، فأراد ذلك منها فوعدته أن يحضر عندها الى قصرها وأعدّت له رجلين من أقاربها وأمرتهما بقتله إذا دخل إليها وانفرد بها، فلما دخل إليها وثبا عليه فقتلاه، فلما قتل أحضرت وزراءه فقرّعتهم فقالت: أما كان فيكم من يزنف لكريمته وكرائم عشيرته ثمّ أرتهم إيّاه قتيلاً وقالت: اختاروا رجلاً تملّكونه، فقالوا: لا نرضى بغيرك؛ فملكوها. وقيل: إنّ أباها لم يكن ملكاً وإنما كان وزير الملك، وكان الملك خبيثاً، قبيح السيرة يأخذ بنات الأقيال والأعيان والأشراف، وإنها قتلته، فملّكها الناس عليهم. وكذلك أيضاً عظموا ملكها وكثرة جندها فقيل: كان تحت يدها أربعمائة ملك، كلّ ملك منهم على كورة، مع كلّ ملك منهم أربعة آلاف مقاتل، وكان لها ثلاثمائة وزير يدبّرون ملكها، وكان لا اثنا عشر قائداً يقود كلّ قائد منهم اثني عشر ألف مقاتل.
وبالغ آخرون مبالغة تدلّ على سخف عقولهم وجهلهم، قالوا: كان لها اثنا عشر ألف قَيْل، تحت يد كلّ قيل مائة ألف مقاتل، مع كل مقاتل سبعون ألف جيش، في كل جيش سبعون ألف مبارز، ليس فيهم إلا أبناء خمس وعشرين سنة، وما أظنّ الساعة راوي هذا الكذب الفاحش عرف الحساب حتى يعلم مقدار جهله، ولو عرف مبلغ العدد لأقصر عن إقدامه على هذا القول السخيف، فإن أهل الزرض لا يبلغون جميعهم شبابهم وشيوخهم وصبيانهم ونساؤهم هذا العدد، فيكف أن يكونوا أبناء خمس وعشرين سنة فيا ليت شعري كم يكون غيرهم ممن ليس من أسنانهم، وكم تكون الرعيّة وأرباب الحرف والفلاحة وغير ذلك، وإنما الجند بعض أهل البلاد، وإن كان الحاصل من اليمن قد قلّ في زماننا فإنّ رقعة أرضه لم تصغر، وهي لا تسع هذا العدد قياماً كلّ واحد إلى جانب الآخر. ثمّ إنهم قالوا: أنفقت على كوة بيتها التي تدخل الشمس منها فتسجد لها ثلاثمائة ألف أوقية من الذهب، وقالوا غير ذلك، وذكروا من أمر عرشها ما يناسب كثرة جيشها، فلا نطول بذكره، وقد تواطأوا على الكذب والتلاعب بعقول الجهّال واستهانوا بما يلحقهم من استجهال العقلاء لهم، وإنما ذكرنا هذا على قبحه ليقف بعض من كان يصدق به عليه فينتهي إلى الحقّ. وأما سبب مجيئها الى سليمان وإسلامها فإنه طلب الهدهد فلم يره، وإنما طلبه لأنّ الهدهد يرى الماء من تحت الأرض فيعلم هل في تلك الأرض ماء أم لا، وهل هو قريب أم بعيد، فبينما سليمان في بعض مغازيه احتاج إلى الماء فلم يعلم أحد ممن معه بعده، فطلب الهدهد ليسأله عن ذلك فلم يره، وقيل: بل نزلت الشمس إلى سليمان، فنظر ليرى من أين نزلت لأنّ الطير كانت تظلّه، فرأى موضع الهدهد فارغاً، فقال: (لأعذبنه عذاباً شديداً أو لأذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين) النمل: 21. وكان الهدهد قد مرّ على قصر بلقيس فرأى بستاناً لها خلف قصرها، فمال إلى الخضرة، فرأى فيه هدهداً فقال له: أين أنت عن سليمان وما تصنع ها هنا؟ فقال له: ومن سليمان؟ فذكر له حاله وما سخّر له من الطير وغيره، فعجب من ذلك، فقال له هدهد سليمان: وأعجب من ذلك أنّ كثرة هؤلاء القوم تملكهم امرأة (وأوتيت من كلّ شيء ولها عرش عظيم) النمل: 23، وجعلوا الشكر لله أن سجدوا للشمس من دونه، وكان عرشها سريراً من ذهب مكلّل بالجواهر النفيسة من اليواقيت والزبرجد واللؤلؤ. ثمّ إنّ الهدهد عاد الى سليمان فأخبره بعذره في تأخيره، فقال له: اذهب بكتابي هذا فألقه إليها، فوافاها وهي في قصرها فألقاه في حجرها، فأخذته وقرأته وأحضرت قومها وقالت: (إني ألقي إليّ كتاب كريم، إنه من سليمان، وإنه بسم الله الرحمن الرحيم ألا تعلو عليّ وأتوني مسلمين يا أيها الملأ : ما كنت قاطعةً أمراً حتى تشهدون) النمل: 29 - 32. (قالوا: نحن أولو قوة وأولو بأس شديد، والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين) النمل: 33، قالت: (إني مرسلة إليهم بهدية) النمل: 35 فإن قبلها فهو من ملوك الدنيا فنحن أعزّ منه وأقوى، وإن لم يقبلها فهو نبيّ من الله. فلما جاءت الهدية إلى سليمان قال للرسل: (أتمدونني بمال فما آتاني الله خير مما آتاكم) إلى قوله: (وهم صاغرون) النمل: 36 - 37، فلما رجع الرسل إليها سارت إليه وزخذت معها الأقيال من قومها، وهم القوّاد، وقدمت عليه، فلمّا قاربته وصارت منه على نحو فرسخ قال لأصحابه: (أيهكم يزتين بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين؟ قال عفريت من الجنّ: أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك) النمل: 38 - 39، يعني قبل أن تقوم في الوقت الذي تقصد فيه بيتك للغداء، قال سليمان: أريد أسرع من ذلك، ف (قال الذي عنده علم من الكتاب) وهو آصف بن برخيّا، وكان يعرف اسم الله الأعظم: (أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك) النمل: 40، وقال له: انظر إلى السماء وأدم النظر فلا تردّ طرفك حتى أحضره عندك، وسجد ودعا، فرأى سليمان العرش قد نبع من تحت سيريره، فقال: (هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر) إذ أتاني به قبل أن يرتدّ إليّ طرفي (أم أكفر) إذ جعل تحت يدي من هو أقدر مني على إحضاره. فلما جاءت قيل: (أهكذا عرشك؟ قالت: كأنه هو) النمل: 42 ولقد تركته في حصون وعنده جنود تحفظه فكيف جاء الى ها هنا؟.
فقال سليمان للشياطين: ابنوا لي صرحاً تدخل عليّ فيه بلقيس، فقال بعضهم: إنّ سليمان قد سخّر له من سخّر وبلقيس ملكة سبأ ينكحها فتلد غلاماً فلا ننفك من العبودية أبداً، وكانت امرزة شعراء الساقين، فقال الشياطين: ابنوا له بنياناً يرى ذلك منها فلا يتزوجها، فبنوا له صرحاً من قوارير خضر وجعلوا له طوابيق من قوارير بيض، فبقي كأنّه الماء، وجعلوا تحت الوطابيق صور دوابّ البحر من السمك وغيره، وقعد سليمان على كرسيّ ثمّ أمر فأدخلت بلقيس عليه، فلمّا أرادت أن تدخله ورأت صور السمك ودواب الماء حسبته لجة ماء فكشفت عن ساقيها لتدخل، فلمّا رآها سليمان صرف نظره عنها و(قال إنه صرح ممرد من قوارير، قالت: رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين) النمل: 44. فاستشار سليمان في شيء يزيل الشعر ولا يضرّ الجسد، فعمل له الشياطين النّورة، فهي أول ما عملت النّورة، ونكحها سليمان وأحبها حبّاً شديداً وردّها إلى ملكها باليمن، فكان يزورها كل شهر مرة يقيم عندها ثلاثة أيام. وقيل: إنّه أمرها أن تنكح رجلاً من قومها فامتنعت وأنفت من ذلك، فقال: لا يكون في الإسلام إلاّ ذلك، فقالت: إن كان لا بدّ من ذلك فزوجني ذا تبّع ملك همدان، فزوجه إياها ثم ردها إلى اليمن، وسلط زوجها ذا تبّع على الملك، وأمر الجن من أهل اليمن بطاعته، فاستعملهم ذو تبّع، فعملوا له عدّة حصون باليمن، منها سلحين ومراوح وفليون وهنيدة وغيرها، فلما مات سليمان لم يطيعوا ذا تبّع وانقضى ملك ذي تبّع وملك بلقيس مع ملك سليمان. وقيل: إن بلقيس ماتت قبل سليمان بالشام وإنّه دفنها بتدمر وأخفى قبرها. ذكر غزوته أبا زوجته جرادة ونكاحها وعبادة الصنم في داره وأخذ خاتمه وعوده إليه قيل: سمع سليمان بملك في جزيرة من جزائر البحر وشدّة ملكه وعظم شأنه، ولم يكن للنّاس إليه سبيل، فخرج سليمان الى تلك الجزيرة وحملته الريح حتى نزل بجنوده بها فقتل ملكها وغنم ما فيها غنم بنتاً للملك لم ير الناس مثلها حسناً وجمالاً فاصطفاها لنفسه ودعاها إلى الإسلام، فأسلمت على قلّة رغبة فيه، وأحبها حباً شديداً، وكانت لا يذهب حزنها ولا تزال تبكي، فقال لها: ويحك ما هذا الحزن والدمع الذي لا يرقأ؟ قالت: إنّي أذكر أبي وملكه وما أصابه فيحزنني ذلك، قال: فقد أبدلك الله ملكاً خيراً من ملكه وهداك إلى الاسلام، قالت: إنه كذلك ولكني إذا ذكرته أصابني ما ترى، فلو أمرت الشياطين فصوّروا صورته في داري أراها بُكرة وعشية لرجوت أن يذهب ذلك حزني. فزمر الشياطين فعملوا لها مثل صورته لا ينكر منها شيئاً، وألبستها ثياباً مثل ثياب أبيها، وكانت إذا خرج سليمان من دارها تغدو عله في جواريها فتسجد له ويسجدن معها، وتروح عشيّة ويرحن، فتفعل مثل ذلك، ولا يعلم سليمان بشيء من أمرها أربعين صباحاً. وبلغ الخبر آصف بن برخيّا، وكان صدّيقاً، وكان لا يُردّ من منازل سليمان أيّ وقت أراد من ليل أو نهار سواء كان سليمان حاضراً أو غائباً، فزتاه فقال: يا نبيّ الله قد كبر سني ودقّ عظمي وقد حان منّي ذهاب عمري وقد أحببت أن أقوم مقاماً أذكر فيه أنبياء الله وأثني عليهم بعلمي فيهم وأعلم الناس بعض ما يجهلون، قال: افعل، فجمع له سليمان الناس، فقام آصف خطيباً فيهم فذكر من مضي من الأنبياء وأثنى عليهم حتى انتهى الى سليمان فقال: ما كان أحلمك في صغرك، وأبعدك من كلّ ما يكره في صغرك، ثم انصرف. فملئ سليمان غضباً، فأرسل إليه وقال له: يا آصف لمّا ذكرتني جعلت تثني عليّ في صغري وسكتّ عمّا سوى ذلك، فما الذي أحدثت في آخر أمري؟ قال: إن غير الله ليعبد في دارك أربعين يوماً في هوى امرأة، قال: (إنا لله وإنا إليه راجعون) البقرة: 156، لقد علمت أنك ما قلت إلاّ عن شيء بلغك، ودخل داره وكسر الصنم وعاقب تلك المرأة وجواريها، ثمّ أمر بثياب الطهارة فأتى بها، وهي ثياب تغزلها الأبكار اللائي لم يحضن ولم تمسّها امرأة ذات دمٍ، فلبسها وخرج الى الصحراء وفرش الرماد ثمّ أقبل تائباً إلى الله وتمعك في الرماد بثيابه تذلّلاً لله تعالى وتضرعاً، وبكى واستغفر يومه ذلك ثم عاد الى داره.
وكانت أمّ ولد له لا يثق إلا بها يسلّم خاتمه إليها، وكان لا ينزعه إلا عند دخول الخلاء، وإذا أراد أن يصيب امرأة فيسلمه إليها حتى يتطهّر، وكان ملكه في خاتمه، فدخل في بعض تلك الأيام الخلاء وسلم خاتمه إليها، فأتاها شيطان اسمه صخر الجّنّي في صورة سليمان فأخذ الخاتم وخرج إلى كرسي سليمان، وهو في صورة سليمان، فجلس عليه، وعكفت عليه الإنس والجن والطير، وخرج سليمان وقد تغيّرت حاله وهيذته، فقال: خاتمي فقالت؛ ومن أنت؟ قال: أنا سليمان، قالت: كذبت لست بسليمان قد جاء سليمان وأخذ خاتمه مني وهو جالس على سريره فعرف سليمان خطيئته فخرج وجعل يقول لبني اسرائيل: أنا سليمان، فيحثون عليه التراب، فلمّا رأى ذلك قصد البحر وجعل ينقل سمك الصيادين ويعطونه كل يوم سمكتين يبيع إحداهما بخبز ويأكل الأخرى، فبقي كذلك أربعين يوماً. ثمّ إنّ آصف وعظماء بني اسرائيل أنكروا حكم الشيطان المتشبّه بسليمان، فقال آصف: يا بني اسرائيل هل رأيتم من اختلاف حكم سليمان ما رأيت؟ قالوا: نعم، قال: أمهلوني حتى أدخل على نسائه وأسألهنّ هل أنكرن ما أنكرنا منه، فدخل عليهنّ وسألهنّ، فذكرن أشدّ مما عنده، فقال: (إنا لله وإنا إليه راجعون)، (إن هذا لهو البلاء المبين) الصافات: 106. ثمّ خرج إلى بني اسرائيل فأخبرهم، فلما رأى الشيطان أنهم قد علموا به طار من مجلسه فمرّ بالبحر فألقى الخاتم فيه، فبلعته سمكة واصطادها صيّاد وحمل له سليمان يومه ذلك فأعطاه سمكتين، تلك السمكة إحداهما، فأخذها فشقّها ليصلحها ويأكلها فرأى خاتمه في جوفها، فأخذه وجعله في إصبعه وخرّ لله ساجداً، وعكفت عليه الإنس والجنّ والطير وأقبل عليه الناس ورجع إلى ملكه وأظهر التوبة من ذنبه وبث الشياطين في إحضار صخر الذي أخذ الخاتم، فأحضروه، فنقب له صخرة وجعله فيها وسدّ النقب بالحديد والرصاص وألقاه في البحر. وكان مقامه في الملك أربعين يوماً، بمقدار عبادة الصنم في دار سليمان. وقيل: كان السبب في ذهاب ملكه أنّ امرأة له كانت أبرّ نسائه عنده تسمّى جرادة ولا يأتمن على خاتمه سواها، فقالت له: إنّ أخي بينه وبين فلان حكومة وأنا أحبّ أن تقضي له، فقال: أفعل، ولم يفعل، فابتُلي، وأعطاها خاتمه ودخل الخلاء، فخرج الشيطان في صورته فأخذه، وخرج سليمان بعده فطلب الخاتم فقالت: ألم تأخذه؟ قال: لا، وخرج من مكانه تائهاً وبقي الشيطان أربعين يوماً يحكم بين النّاس، ففطنوا له وأحدقوا به ونشروا التوراة فقرأوها، فطار من بين أيديهم وألقى الخاتم في البحر، فابتعله حوت، ثمّ إن سليمان قصد صياداً وهو جائع فاستطعمه وقال: أنا سليمان، فكذبه وضربه فشجّه، فجعل يغسل الدّم، فلام الصيادون صاحبهم وأعطوه سمكتين إحداهما التي ابتلعت الخاتم، فشقّ بطنها وأخذ الخاتم، فردّ الله إليه ملكه، فاعتذروا إليه، فقال: لا أحمدكم على عذركم ولا ألومكم على ما كان منكم. وسخر الله له الجن والشياطين والريح، ولم يكن سخّرها له قبل ذلك، وهو أشبه بظاهر القرآن، وهو قوله تعالى: (قال رب اغفر لي وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب، فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاءً حيث أصاب والشياطين كلّ بناءٍ وغواص وآخرين مقرنين في الأصفاد) ص:37. وقيل في سب زوال ملكه غير ذلك، والله أعلم. ذكر وفاة سليمانلما ردّ الله إلى سليمان الملك لبث فيه مطاعاً والجنّ تعمل له (ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات) سبأ: 13 وغير ذلك ويعذّب من الشياطين من شاء ويطلب من شاء، حتى إذا دنا أجله وكان عادته إذا صلى كل يوم رأى شجرة نابتة بين يديه، فيقول: ما اسمك؟ فتقول: كذا، فيقول: لأيّ شيء أنت؟ فإن كانت لغرس غرست وإن كانت لدواء كتبت، فبينما هو يصلّي ذات يوم إذ رأى شجرة بين يديه فقال لها: ما اسمك؟ فقالت: الخرنوبة، فقال لها: لأيّ شيء أنتِ؟ قالت: لخراب هذا البيت، يعني بيت المقدس، فقال سليمان: ما كان الله ليخرّبه وأنا حيّ، أنت التي على وجهك هلاكي وخراب البيت وقلعها، ثم قال: اللهم عم على الجنّ موتي حتى يعلم النّاس أن الجنّ لا يعلمون الغيب.
وكان سليمان يتجرّد للعبادة في بيت المقدس السنة والسنتين والشهروالشهرين وأقلّ وأكثر، يدخل معه طعامه وشرابه، فأدخله في المرّة التي توفي فيها، فبينما هو قائم يصلي متوكئاً على عصاه أدركه أجله فمات ولا تعلم به الشياطين ولا الجن، وهم في ذلك يعملون خوفاً منه، فأكلت الأرضة عصاه فانكسرت فسقط، فعلموا أنه قد مات، وعلم الناس أنّ الجن لا يعلمون الغيب ولو علموا (الغيب ما لبثوا في العذاب المهين) سبأ: 14 ومقاساة الأعمال الشاقة. ولما سقط أراد بنو اسرائيل أن يعلموا منذ كم مات، فوضعوا الأرضة على العصا يوماً وليلة فأكلت منها، فحسبوا بنسبته فكان أكل تلك العصا في سنة، ثمّ إن الشياطين قالوا للأرضة: لو كنت تأكلين الطعام لأتيناك بأطيب الطعام، ولو كنت تشربين الشراب لأتيناك بأطيب الشراب، ولكنّا سننقل لك الماء والطين، فهم ينقلون إليها ذلك حيث كانت، ألم تر إلى الطين يكون في وسط الخشبة؟ فهو ما ينقلونه لها. قيل: إن الجن والشياطين شكوا ما يحلقهم من التعب والنصب إلى بعض أولي التجربة منهم، وقيل: كان إبليس، فقال لهم: ألستم تنصرفون بأحمال وتعودون بغير أحمال؟ قالوا: بلى، قال: فلكم في كلّ ذلك راحة، فحملت الريح الكلام فألقته في أذن سليمان، فأمر الموكّلين بهم أنهم إذا جاءوا بالأحمال والآلات التي يبنى بها إلى موضع البناءوالعمل يحملهم من هناك في عودهم ما يلقونه من المواضع التي فيها الأعمال ليكون أشقّ عليهم وأسرع في العمل، فاجتازوا بذلك الذي شكوا إليه حالهم فأعلموه حالهم، فقال لهم: انتظروا الفرج فإنّ الأمور إذا تناهت تغيّرت، فلم تطل مدّة سليمان بعد ذلك حتى مات؛ وكان مدّة عمره ثلاثاً وخسمين سنة، وملكه أربعين سنة. ذكر من ملك من الفرس بعد كيقباذلما توفي كيقباذ ملك بعده ابنه كيكاووس بن كينية بن كيقباذ، فلما ملك حمى بلاده وقتل جماعة من عظماء البلاد المجاورة له، وكان يسكن بنواحي بلخ، وولد له ولد سماه سياروخش وضمّه إلى رستم الشديد بن داستان بن نريمان بن جوذنك بن كرشاسب، وكان أصبهبذ سجستان وما يليها، وجعله عنده ليربّيه، فأحسن تربيته وعلّمه العلوم ولفروسيّة والآداب وما يحتاج الملوك إليه، فلمّا كمل ما أراد حمله إلى أبيه، فلمّا رآه سرّ به صورةً ومعنى. وكان أبوه كيكاووس قد تزوج ابنة أفراسياب ملك الترك، وقيل: إنها ابنة ملك اليمن، فهويت سياوخش ودعته الى نفسها، فامتنع، فسعت به الى أبيه حتى أفسدته عليه، فسأل سياوخش رستم الشديد ليتوصل مع أبيه لينفذه الى محاربة أفراسياب بسبب منعه بعض ما كان قد استقرّ بينهما، وأراد البعد عن أبيه ليأمن كيد امرأته، ففعل ذلك رستم، فسيّره أبوه وضمّ إليه جيشاً كثيفاً، فسار الى بلاده الترك للقاء أفراسياب، فلمّا سار الى تلك الناحية جرى بينهما صلح، فكتب سياوخش الى أبيه يعرفه ما جري بينه وبين أفراسياب، فلمّا سار الى تلك الناحية جرى بينهما صلح، فكتب سياوخش الى أبيه يعرفه ما جرى بينه وبين أفرسياب من الصلح، فكتب إليه والده يأمره بمناهضة أفراسياب ومحاربته وفسخ الصلح، فاستقبح سياوخش الغدر وأنف منه، فلم ينفذ ما أمره به، ورأى أن ذلك من فعل زوجة والده ليقبّح فعله، فراسل أفراسياب في الأمان لنفسه لينتقل إليه، فأجابه أفراسياب إلى ذلك، وكان السفير في ذلك قيران بن ويسعان، ودخل سياوخش الى بلاد الترك، فزكرمه أفراسياب إلى ذلك، وكان السفير في ذلك قيران بن ويسعان، ودخل سياوخش الى بلاد الترك، فزكرمه أفراسياب وأنزله وأجرى عليه وزوّجه بنتاً له يقال لها وسفافريد، وهي أمّ كيخسرو، فظهر له من أدب سياوخش ومعرفته بالملك وشجاعته ما خاف على ملكه منه، وزاد الفساد بينهما بسعي ابني أفراسياب وأخيه كيدر حسداً منهم لسياوخش، فزمرهم أفراسياب بقتله، فقتلوه ومثلوا به، وكانت زوجته ابنة أفراسياب حاملة منه بابنه كيخسرو، فطلبوا الحيلة في إسقاط ما في بطنها، فلم يسقط، فأنكر قيران الذي كان أمان سياوخش إليه لتضع ما في بطنها ويقتله، فلمّا وضعت رقّ قيران لها وللمولود ولم يقتله وستر أمره حتى بلغ، فسيّر كيكاووس إلى بلاد الترك من كشف أمره وأخذه إليه. وحين بلغ خبر قتله الى فارس لبس شادوس بن جودرز السواد حزناً، وهو أوّل من لبسه، ودخل على كيكاووس فقال له: ما هذا؟ فقال: إنّ هذا اليوم يوم ظلام وسواد.
ثم إنّ كيكاووس لما علم بقتل ابنه سيّر الجيوش مع رستم الشديد وطو أصبهبذ أصبهان لمحاربة أفراسياب، فدخلا بلاد الترك فقتلا وأسرا وأثخنا فيها، وجرى لهما مع أفراسياب حروب شديدة قُتل فيها ابنا أفراسياب وأخوه الذين أشاروا بقتل سياوخش. وزعمت الفرس أن الشياطين كانت مسخرّة له، وأنها بنت له مدينة طولها في زعمهم ثلاثمائة فرسخ وبنوا عليها سوراً من صرف وسوراً من شبه وسوراً من فضة، وكانت الشياطين تنقلها بين السماء والأرض وما بينهما، وأن كيكاووس لا يأكل ولا يشرب ولا يحدث، ثمّ إنّ الله أرسل إلى المدينة من يخرّبها فعجزت الشياطين عن المنع عنها، فقتل كيكاووس جماعة من رؤوسائهم. وقال بعض العلماء بأخبار المتقدّمين: إنّما سخّر له فعل الشياطين بأمر سليمان بن داود، وكان مظفّراً لا يناوئه أحدٌ من الملوك إلا ظهر عليه، فلم يزل كذلك حتى حدّثته نفسه بالصعود الى السماء، فسار من خراسان الى بابل، وأعطاه الله تعالى قوّة ارتفع بها هو ومن معه حتى بلغوا السحاب، ثم سلبهم الله تلك القوة، فسقطوا وهلكوا وأفلت بنفسه وأحدث يومئذ. وهذا جميعه من أكاذيب الفرس الباردة. ثمّ إنّ كيكاووس بعد هذه الحادثة تمزّق ملكه وكثرت الخوارج عليه وصاروا يغزونه، فيظفر مرّة ويظفرون أخرى، ثمّ غزا بلاد اليمن وملكها يومئذ ذو الأذعار بن أبرهة ذي المنار بن الرايش، فلما ورد اليمن خرج إليه ذو الأذعار، وكان قد أصابه الفالج، فلم يكن يغزو، فلمّا وطئ كيكاووس بلاده خرج إليه بنفسه وعساكره وظفر بكيكاووس فأسره واستباح عسكره وحبسه في بئر وأطبق عليه، فسار رستم من سجستان الى اليمن وأخرج كيكاووس وأخذه، وأراد ذو الأذعار منعه فجمع العساكر وأراد القتال ثمّ خاف البوار فاصطلحا علي أخذ كيكاووس والعود الى بلاد الفرس، فأخذ وزعاده الى ملكه، فأقطعه كيكاووس سجستان وزابلستان، وهي من أعمال غزنة، وأزال عنه اسم العبودية، ثم توفي كيكاووس، وكان ملكه مائة وخمسين سنة. ذكر ملك كيخسرو بن سياوخش بن كيكاووسلما مات كيكاووس ملك بعده ابن ابنه كيخسرو بن سياوخش بن كيكاوس، وأمه وسفافريد ابنة أفراسياب ملك الترك، فلما ملك كتب الى الأصبهذين جميعهم أن يزتوا بعساكرهم جميعها، فلما اجتمعوا جهّز ثلاثين ألفاً مع طوس وأمره بدخول بلاد الترك، وأن لا يمرّ بقرية ولا مدينة لهم إلا قتل كل من فيها إلا مدينة من مدنهم كان بها أخ له اسمه فيروزد بن سياوخش، كان أبوه قد تزوج أمه في بعض مدائن الترك، فاجتاز طوس بها فجرى بينه وبين فيروزد حرب قتل فيها فيروزد، فبلغ خبره كيخسرو فعظم عليه وكتب إلى عمّ له كان مع طوس يأمره بالقبض على طوس وإرساله مقيّداً والقيام بأمر الجيش، ففعل ذلك وسار بالعسكر نحو أفراسياب، فسيّر أفراسياب العساكر إليه فاقتتلوا قتالاً شديداً كثرت فيه القتلى وانحازت الفرس الى رؤوس الجبال وعادوا الى كيخسرو، فوبّخ عمّه ولامه واهتمّ بغزو الترك، فأمر بجمع العساكر جميعها وأن لا يتخلّف أحدٌ، فلما اجتمعوا أعلمهم أنه يريد قصد بلاد الترك من أربعة وجوه، فسير جودرز في أعظم العساكر وزمره بالخدول الى بلاد الترك مما يلي بلخ وأعطاه درفش كابيان، وهو العلم الزكبر الذي لهم، وكانوا لا يرسلونه إلا مع بعض أولاد الملوك لزمر عظيم، وسيّر عسكراً آخر من ناحية الصين، وسيّر عسكراً آخر مما يلي الخزر، وعسكراً آخر بين هذين العسكرين، فدخلت العساكر بلاد الترك من كل جهاتها وأخربتها، لا سيما جودرز، فإنّه قتل وأخرب وسبى، وتبعه كيخسرو بنفسه في طريقه، فوصل إليه وقد قتل جماعة كثيرة من زهل أفراسياب وأثخن فيهم، ورآه قد قتل خمسمائة ألف ونيّفاً وستين ألفاً وأسر ثلاثين ألفاً وغنم ما لا يعدّ ولا يحصى، وعرض عليه من قتل من أهل أفراسياب طراحنته، فعظم جودرز عنده وشكره وأقطعه أصبهان وجرجان، ووردت عليه الكتب من عساكره الداخلة من تلك الوجوه الى الترك بما قتلوا وغنموا وأخربوا وأنهم هزموا لأفراسياب عسكراً بعد عسكر، فكتب إليهم أن يجدّوا في محاربتهم ويوافوه بموضع سمّاه لهم.
فلما بلغ أفراسياب قتل من قتل من طراخنته وأهله وعساكره عظم ذلك عليه فسقط في يديه ولم يكن بقي عنده من أولاده غير ولده شيده، فوجّهه في جيش نحو كيخسرو، فسار إليه واقتتلوا قتالاً شديداً أربعة أيام، ثم انهزمت الترك وتبعهم الفرس يقتلونهم ويأسرون، وأدركوا ابن أفراسياب فقتلوه، وسمع أفراسياب بالحادثة وقتل ابنه فأقبل فيمن عنده من العساكر فلقي كيخسرو فاقتتلوا قتالاً شديداً لم يسمع بمثله، واشتدّ الأمر، فانهزم أفراسياب وكثر القتل في الترك فقتل منهم مائة ألف، وجدّ كيخسرو في طلب أفراسياب، ولم يزل يهرب من بلد الى بلد حتى بلغ أذربيجان فاستتر، وظفر به وأتى به إلى كيخسرو، فلما حضر عنده سأله عن غدره بأبيه، فلم يكن له حجّة ولا عذر، فأمر بقتله، فذبح كما ذبح سياوخش، ثم انصرف من أذربيجان مظفّراً منصوراً فرحاً. فلما قتل أفراسياب ملك الترك بعده أخوه كي سواسف، فلما توفي ملك بعده ابنه جرازسف، وكان جبّاراً عاتياً. فلما فرغ كيخسرو من الأخذ بثأر أبيه واستقرّ في ملكه زهد في الدنيا وترك الملك وتنسّك، واجتهد أهله وأصحابه به ليلازم الملك فلم يفعل، فقالوا له: فاعهد إلى من يقوم بالملك بعدك، فعهد إلى لهراسب، وفارقهم كيخسرو وغاب عنهم، فلا يدري ما كان منه ولا أين مات، وبعض يقول غير ذلك. وكان ملكه ستين سنة، وملك بعده لهراسب. ذكر أمر بني إسرائيل بعد سليمانقيل: ثم ملك بعد سليمان على بني اسرائيل ابنه رحبعم بن سليمان، وكان ملكه سبع عشرة سنة، ثمّ افترقت ممالك بني اسرائيل بعد رحبعم، فملك أبيا بن رحبعم سبط يهوذا وبنيامين دون سائر الأسباط، وذلك أنّ سائر الأسباط ملّكوا عليهم يوربعم بن بايعا عبد سليمان بسبب القربان الذي كانت جرادة زوجة سليمان فيما زعموا قرّبته في دره للصنم، فتوعّده الله تعالي أن ينزع بعض الملك عن ولده، فكان ملك أبيا بن رحبعم ثلاث سنين، ثمّ ملك أسا بن أبيا أمر السبطين اللذين كان أبوه يملكهما إحدى وأربعين سنة؛ وكان رجلاً صالحاً، وكان أعرج. ذكر محاربة آسا بن أفيا ورزح الهنديقيل: كان أسا بن أبيا رجلاً صالحاً، وكان أبوه قد عبد الأصنام ودعا الناس الى عبادتها، فلما ملك ابنه أسا أمر منادياً فنادى: ألا إنّ الكفر قد مات وأهله وعاش الإيمان وأهله، فليس كافر في بني اسرائيل يطلع رأسه بكفر إلا قتلته، فإن الطوفان لم يغرق الدنيا وأهلها ولم يخسف بالقرى ولم تطمر الحجارة والنار من السماء إلى الأرض إلا بترك طاعة الله والعمل بمعصيته وشدد في ذلك. فأتى بعضهم ممن كان يعبد الأصنام ويعمل بالمعاصي إلى أم أسا الملك، وكانت تعبد الأصنام، فشكوا إليها، فجاءت إليه ونهته عما كان يفعله وبالغت في زجره، فلم يصغ الى قولها بل تهددها على عبادة الأصنام وأظهر البراءة منها، فحينئذٍ أيس الناس منه وانتزح من كان يخافه وساروا إلى الهند. وكان بالهند ملك يقال له رزح، وكان جبّاراً عاتياً عظيم السلطان قد أطاعه أكثر البلاد، وكان يدعو الناس الى عبادته، فوصل اليه أولذك النفر من بني اسرائيل وشكوا إليه ملكهم ووصفوا له البلاد وكثرتها وقلّة عسكرها وضعف ملكها وأطمعوه فيها. فأرسل الجواسيس فأتوه بأخبارها، فلما تيقن الخبر جمع العساكر وسار الى الشام في البحر، وقال له بنو اسرائيل: إن لأسا صديقاً ينصره ويعينه، قال: فأين أسا وصديقه من كثرة عساكري وجنودي وبلغ خبرُه إلى أسا، فتضرّع الى الله تعالي وأظهر الضعف والعجز عن الهنديّ وسأل الله النصرة عليه، فاستجاب الله له وأراه في المنام: إنّي سأظهر من قدرتي في رزح الهنديّ وعساكره ما أكفيك شرهم وأغنمكم أموالهم حتى يعلم أعداؤك أن صديقك لا يُطاق وليّه ولا ينهزم جنده.
ثمّ سار رزح حتى أرسى بالساحل، وسار الى بيت المقدس، فلما صار على مرحلتين منه فرق عساكره، فامتلأت منهم تلك الأرض وملئت قلوب بني إسرائيل رعباً، وبعث أسا العيون فعادوا وأخبروه من كثرتهم بما لم يُسمع بمثله، وسمع الخبر بنو اسرائيل فصاحوا وبكوا وودّع بعضهم بعضاً وعزموا على أن يخرجوا الى رزح ويستسلموا إليه وينقادوا له، فقال لهم ملكهم: إنّ ربي قد وعدني بالظفر ولا خلف لوعده، فعاودوا الدعاء والتضرّع، ففعلوا ودعوا جميعهم وتضرّعوا، فزعموا أن الله أوحى إليه: يا أسا إنّ الحبيب لا يُسلم حبيبه، وأنا الذي أكفيك عدوّك فإنّه لا يهون من توكل عليّ، ولا يضعف من تقوى بي، وقد كنت تذكرني في الرخاء فلا أسلمك في الشدّة، وسأرسل بعض الزبانية يقتلون أعدائي، فاستبشر وأخبر بني اسرائيل، فأما المؤمنون فاستبشروا وأما المنافقون فكذبوه. وزمره الله بالخروج إلى رزح في عساكره، فخرج في نفر يسير، فوقفوا على رابية من الأرض ينظرون الى عساكره، فلمّا رآهم رزح احتقرهم واستصغرهم وقال: إنما خرجت من بلادي وجمعت عساكري وأنفقت أموالي لهذه الطائفة ودعا النفر من بني اسرائيل الذين قصدوه والجواسيس الذين أرسلهم ليختبروا له وقال: كذبتموني وأخبرتموني بكثرة بني اسرائيل حتى جمعت العساكر وفرقت أموالي ثم أمر بهم فقتلوا، وأرسل إلى أسا يقول له: أين صديقك الذي ينصرك ويخلّصك من سطوتي؟ فأجابه أسا: يا شقيّ إنّك لا تعلم ما تقول أتريد أن تغالب الله بقوتك أم تكاثره بقلتك؟ وهو معي في موقفي هذا، ولن يغلب أحد كان الله معه، وستعلم ما يحل بك فغضب رزح من قوله وصفّ عساكره وخرج الى قتال أسا وأمر الرّماة فرموهم بالسهام، وبعث الله من الملائكة مدداً لبني اسرائيل، فأخذوا السهام ورموا بها الهنود، فقتلت كل إنسان منهم نشّابته، فقتل جميع الرماة، فضج بنو اسرائيل بالتسبيح والدّعاء، وتراءت الملائكة للهنود، فلمّا رآهم رزح ألقي الله الرعب في قلبه وسقط في يده ونادى في عساكره يأمرهم بالحملة عليهم، ففعلوا، فقتلتهم الملائكة ولم يبق منهم غير رزح وعبيده ونسائه، فلما رأى ذلك ولّى هارباً وهو يقول: قتلني صديق أسا. فلما رآه أسا مدبراً قال: اللهم إنك إن لم تهلكه استنفر علينا نائبه، وبلغ رزح ومن معه الى البحر فركبوا السفن، فلما سارت بهم أرسل الله عليهم الرياح فعرّقتهم أجمعين. ثم ملك بعد أسا ابنه سافاط الى أن هلك خمساً وعشرين سنة، ثم ملكت عزليا بنت عمرم أخت أخزيا، وكانت قتلت أولاد ملوك بني اسرائيل ولم يبق منهم إلا يواش بن أخزيا، وهو ابن ابنها، فإنه ستر عنها، ثم قتلها بواش وأصحابه، وكان ملكها سبع سنين؛ ثم ملك يواش أربعين سنة، ثم قتله أصحابه، وهو الذي قتل جدّته؛ ثم ملك عوزيا بن امصيا بن يواش، ويقال له غوزيا، الى أن توفي اثنتين وخمسين سنة؛ ثم ملك يوثام بن عوزيا الى أن توفّي ستّ عشرة سنة؛ ثم ملك حزقيا بن أحاز الى أن توفي، فيقال: إنه صاحب شعيا الذي أعلمه شعيا انقضاء عمره، فتضرّع الى ربّه فزاده، وأمر شعيا بإعلامه ذلك، وقيل: إن صاحب شعيا في هذه القصة اسمه صدقيا، على ما يرد ذكره. ذكر شعيا والملك الذي معه من بني إسرائيل ومسير سنحاريب إلى بني إسرائيلقيل: كان الله تعالى قد أوحى الى موسى ما ذكر في القرآن: (وقضينا الى بني اسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علواً كبيراً، فإذا جاء وعد أولادهما بعثنا عليكم عباداً لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعداً مفعولاً، ثم رددنا لكم الكرة عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجلعناكم أكثر نفيراً، إن أحسنتم أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها، فإذا جاء وعد الآخرة ليسؤوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبّروا ما علوا تتبيراً عسى ربّكم أن يرحمكم وإن عدتم عدنا وجعلنا جهنم للكافرين حصيراً).
فكثر في بني اسرائي لالزحداث والذنوب، وكان الله يتجاوز عنهم متعطفاً عليهم، وكان من أول ما أنزل الله عليهم عقوبة لذنوبهم أنّ ملكاً منهم يقال له صدقية، وكانت عادتهم إذا ملك عليهم رجل بعث الله إليه نبياً يرشده ويوحي إليه ما يريد، ولم يكن لهم غير شريعة التوراة، فلما ملك صدقية بعث الله تعالى إليه شعيا، وهو الذي بشر بعيسى وبمحمد، عليهما السلام، فلما قارب أن ينقضي ملكه عظمت الأحداث في بني اسرائيل، فأرسل الله عليهم سنحاريب ملك بابل في عساكر يغصّ بها الفضاء، فسار حتى نزل بيت المقدس وزحاط به وملك بني اسرائيل مريض في ساقه قرحة، فأتاه النبيّ شعيا وقال له: إنّ الله يأمرك أن توصي وتعهد فإنك ميت، فأقبل الملك على الدعاء والتضرّع، فاستجاب الله له، فأوحى الله إلى شعيا أنه قد زاد في عمر الملك صدقية خمس عشرة سنة وأنجاه من عدّوه سنحاريب، فلما قال له ذلك زال عنه الألم وجاءته الصحة. ثم إن الله أرسل على عساكر سنحاريب ملكاً صاح بهم فماتوا غير ستة نفر منهم: سنحاريب وخمسة من كتّابه، أحدهم بخت نصّر في قول بعضهم، فخرج صدقية وبنو اسرائيل الى معسكرهم فغنموا ما فيه والتمسوا سنحاريب فلم يجدوه، فأرسل الطلب في أثره فوجدوه ومعه أصحابه، فأخذوهم وقيدوهم وحم | |
|
| |
الشيخ عودة الشيخ عودة
عدد المساهمات : 1748 تاريخ التسجيل : 28/09/2008 العمر : 74
| موضوع: رد: كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير الخميس فبراير 06, 2014 8:31 am | |
| وقد زعم بعض أهل الكتاب أن بني اسرائيل سار إليهم قبل سنحاريب ملك من ملوك بابل يقال له كفرو، وكان بخت نصّر ابن عمّه وكاتبه، وأنّ الله أرسل عليهم ريحاً فأهلكت جيشه وأفلت هو وكاتبه، وأن هذا البابليّ قتله ابن له، وأن بخت نصر غضب لصاحبه فقتل ابنه الذي قتله، وأن سنحاريب سار بعد ذلك وكان ملكه بنينوي وغزا مع ملك أذربيجان يومئذٍ بني اسرائيل فأوقع بهم، ثم اختلف سنحاريب وملك أذربيجان وتحاربا حتى تفانى عسكراهما، فخرج بنو اسرائيل وغنموا ما معهم. وقيل: كان ملك سنحاريب الى أن توفّي تسعاً وعشرين سنة، وكان ملك بني اسرائيل الذي حصره سنحاريب حزقياً، فلمّا توفّي حزقيا ملك بعده ابنه منشى خسماً وخمسين سنة، ثم ملك بعده آمون الى أن قتله أصحابه ثنتي عشرة سنة، ثم ملك ابنه يوشيا الي أن قتله فرعون مصر الزجدع إحدى وثلاثين سنة؛ ثم ملك بعده ابنه ياهو أحاز بن يوشيا، فعزله فرعون الأجدع واستعمل بعده يوياقيم بن ياهو أحاز ووظف عليه خراجاً يحمله إليه، وكان ملكه اثنتي عشرة سنة، ثم ملك بعده ابنه يوياحين، فغزاه بخت نصّر وأشخصه الى بابل بعد ثلاثة أشهر من ملكه، وملك بعده يقونيا ابن عمه، وسماه صدقية، وخالفه فغزاه وظفر به وحمله الى بابل وذبح ولده بين يديه وسمل عينيه وخرّب بيت المقدس والهيكل وسبى بني اسرائيل وحملهم الى بابل، فمكثوا الى أن عادوا إليه، على ما نذكره إن شاء الله؛ وكان جميع ملك صدقية إحدى عشرة سنة. وقيل: إن شعيا أوحى الله إليه ليقوم في بني اسرائيل يذكرهم بما يوحي الله على لسانه لما كثرت فيهم الأحداث، ففعل، فعدوا عليه ليقتلوه، فهرب منهم، فلقيته شجرة فانفلقت له، فدخلها، وأخذ الشيطان بهدب ثوبه وأراه بني اسرائيل، فوضعوا المنشار على الشجرة فنشروها حتي قطعوه في وسطها. وقيل في أسماء ملوكهم غير ذلك، ركناه كراهة التطويل ولعدم الثقة بصحة النقل به. ذكر ملك لهراسب وابنه بشتاسب وظهور زرادشتقد ذكرنا أن كيخسرو لما حضرته الوفاة عهد الى ابن عمّه لهراسب بن كيوخى بن كيكاووس، فهو ابن ابن كيكاووس، فلمّا ملك اتخذ سريراً من ذهب وكلّله بأنواع الجواهر وبنيت له بزرض خراسان مدينة بلخ وسمّاها الحسناء، ودوّن الدواوين، وقوّى ملكه بانتخابه الجنود، وعمر الأرض، وجبى الخراج لأرزاق الجند. واشتدّت شوكة الترك في زمانه فنزل بلخ لقتالهم، وكان محموداً عند زهل مملكته شديد القمع لزعدائه المجاورين له، شديد التفقد لأصحابه، وبعيد الهمة، عظيم البنيان، وشقّ عدّة أنهار، وعمر البلاد، وحمل إليه ملوك الهند الروم والمغرب الخراج، وكاتبوه بالتمليك هيبةً له وحذراً منه.
ثم إنه تنسّك وفارق الملك واشتغل بالعبادة واستخلف ابنه بشتاسب في الملك، وكان ملكه مائة وعشرين سنة، وملك بعده ابنه بشتاسب، وفي أيامه ظهر زرادشت بن سقيمان الذي ادّعى النبوّة وتبعه المجوس، وكان زرادشت فيما يزعم أهل الكتاب من أهل فلسطين يخدم لبعض تلامذة إرميا النبيّ خاصّاً به، فخانه وكذب عليه، وفدعا الله عليه فبرص ولحق ببلاد أذربيجان وشرع بها دين المجوس. وقيل: إنّه من العجم، وصنّف كتاباً وطاف به الأرض، فما عرف أحد معناه، وزعم أنها لغة سماوية خوطب بها، وسمّاه: اشتا، فسار من أذربيجان إلى فارس، فلم يعرفوا ما فيه ولم يقبلوه، فسار الى الهند وعرضه على ملوكهم، ثمّ أتى الصين والترك فلم يقبله أحد وأخرجوه من بلادهم، وقصد فرغانة، فأراد ملكها أن يقتله فهرب منها وقصد بشتاسب بن لهراسب، فأمر بحبسه، فحبس مدّة، وشرح زرادشت كتابه وسمّاه: زند، ومعناه: التفسير، ثم شرح الزند بكتاب سمّاه: بازند، يعني: تفسير التفسير، وفيه علوم مختلفة كالرياضات وأحكام النجوم والطبّ وغير ذلك من أخبار القرون الماضية وكتب الأنبياء، وفي كتابه: تمسّكوا بما جئتكم به الى أن يجيئكم صاحب الجمل الأحمر، يعني محمّداً، صلى الله عليه وسلم، وذلك على رأس ألف سنة وستّ مائة سنة، وبسبب ذلك وقعت البغضاء بين المجوس والعرب، ثم يذكر عند أخبار سابور ذي الأكتاف أنّ من جملة الأسباب الموجبة لغزوة العرب هذا القول؛ والله أعلم. ثمّ إنّ بشتاسب زحضر زرادشت، وهو ببلخ، فلمّا قدم عليه شرع له دينه، فأعجبه واتبعه وقهر الناس على اتباعه وقتل منهم خلقاً كثيراً حتى قبلوه ودانوا به. وأمّا المجوس فيزعمون أن أصله من أذربيجان، وأنه نزل على الملك من سقف إيوانه وبيده كبّة من نار يلعب بها ولا تحرقه، وكلّ من أخذها من يده لم تحرقه، وأنه اتبعه الملك ودان بدينه وبنى بيوت النيران في البلاد وأشعل من تلك النار في بيوت النيران، فيزعمون أن النيران التي في بيوت عباداتهم من تلك إلى الآن. وكذبوا فإنّ النار التي للمجوس طفئت في جميع البيوت لما بعث الله محمداً، صلى الله عليه وسلم، على ما نذكره إن شاء الله تعالى. وكان هظور زرادشت بعد مضيّ ثلاثين سنة من ملك بشتاسب، وأتاه بكتاب زعم أنه وحي من الله تعالى، وكتب في جلد اثني عشر ألف بقرة حفراً ونقشاً بالذهب، فجعله بشتاسب في موضع بإصطخر ومنع من تعليمه العامة. وكان بشتاسب وآباؤه قبله يدينون بدين الصابئة، وسيرد باقي أخباره. ذكر مسير بختنصّر إلى بني إسرائيل قد اختلف العلماء في الوقت الذي أرسل فيه بخت نصّر على بني اسرائيل، فقيل: كان في عهد إرميا النبيّ ودانيال وحنانيا وعزاريا وميشائيل، وقيل: إنما أرسله الله على بني اسرائيل لما قتلوا يحيى بن زكرياء، والأول أكثر. وكان ابتداء أمر بخت نصّر ما ذكره سعيد بن جبير قال: كان رجل من بني اسرائيل يقرأ الكتب، فلما بلغ الى قوله تعالى: (بعثنا عليكم عباداً لنا أولي بأس شديد) الاسراء:5، قال: أي ربّ أرني هذا الرجل الذي جعلت هلاك بني اسرائيل على يده، فزري في المنام مسكيناً يقال له بخت نصر ببابل، فسار على سبيل التجارة الى بابل وجعل يدعو المساكين ويسأل عنهم حتى دلّوه على بخت نصّر، فأرسل من يحضره، قرآه صعلوكاً مريضاً، فقام عليه في مرضه يعالجه حتى برأ، فلمّا برأ أعطاه نفقة وعزم على السفر، فقال له بخت نصّر وهو يبكي: فعلت معي ما فعلت ولا أقدر على مجازاتك قال الإسرائيلي: بلى تقدر عليه، تكتب لي كتاباً إن ملكت أطلقتني، فقال: أتستهزئ بي؟ فقال: إنما هذا أمر لا محالة كائن.
ثمّ إن ملك الفرس أحب أن يطلع على أحوال الشام، فأرسل إنساناً يثق به ليتعرّف له أخباره وحال من فيه، فسار إليه ومعه بخت نصّر فقير لم يخرج إلا للخدمة، فلما قدم الشام رأى أكبر بلاد الله خيلاً ورجالاً وسلاحاً، ففتّ ذلك في ذرعه، فلم يسأل عن شيء، وجعل بخت نصّر يجلس مجالس أهل الشام فيقول لهم: ما يمنعكم أن تغزوا بابل، فلو غزوتموها ما دون بيت ما لها شيء فكلّهم يقول له: لا نحسن القتال ولا نراه، فلما عادوا أخبر الطليعة بما رأوا من الرجال والسلاح والخيل، وأرسل بخت نصّر الى الملك يطلب إليه أن يحضره ليعرفه جليّة الحال، فأحضره، فأخبره بما كان جميعه، ثمّ إنّ الملك أراد أن يبعث عسكراً إلى الشام أربعة آلاف راكب جريدة، واستشار فيمن يكون عليهم، فأشاروا ببعض أصحابه، فقال: لا بل بخت نصّر، فجعله عليهم، فساروا فغنموا وأوقعوا ببعض البلاد وعادوا سالمين. ثم إنّ لهراسب استعلمه أصبهبذ على ما بين الأهواز إلى أرض الروم من غربيّ دجلة؛ وكان السبب في مسيره إلى بني اسرائيل أنه لما استعمله لهراسب كما ذكرنا سار الى الشام فصالحه أهل دمشق وبيت المقدس، فعاد عنهم وأخذ رهائنهم، فلمّا عاد من القدس الى طبرية وثب بنو اسرائيل على ملكهم الذي صالح بخت نصّر فقتلوه وقالوا: داهنت أهل بابل وخذلتنا، فلمّا سمع بخت نصّر بذلك قتل الرهائن الذين معه وعاد الى القدس فأخبره. وقيل: إن الذي استعمله إنما كان الملك بهمن بن بشتاسب بن لهراسب، وكان بخت نصّر قد خدم جدّه وأباه وخدمه وعمّر عمراً طويلاً، فأرسل بهمن رسلاً الى ملك بني اسرائيل ببيت المقدس فقتلهم الإسرائيليّ، فغضب بهمن من ذلك واستعمل بخت نصّر على أقاليم بابل وسيّره في الجنود الكثيرة، فعمل بهم ما نذكره. هذه الأسباب الظاهرة وإنما السبب الكلّيّ الذي أحدث هذه الأسباب الموجبة للانتقام من بني اسرائيل هو معصية الله تعالى ومخالفة أواره، وكانت سنة الله تعالى في بني اسرائيل أنه إذا ملك عليهم ملكاً أرسل معه نبيّاً يرشده ويهديه الى أحكام التوراة، فلما كان قبل مسير بخت نصّر إليهم كثرت فيهم الأحداث والمعاصي، وكان الملك فيهم يقونيا بن يوياقيم، فبعث الله إليه إرميا، قيل: هو الخضر، عليه السلام، فأقام فيهم يعدوهم الى الله وينهاهم عن المعاصي ويذكر لهم نعمة الله عليهم بإهلاك سنحاريب، فلم يرعووا، فأمره الله أن يحذرهم عقوبته وأنه إن لم يراجعوا الطاعة سلّط عليهم من يقتلهم ويسبي ذراريّهم ويخرب مدينتهم ويستعبدهم ويأتيهم بجنود ينزع من قلوبهم الرأفة والرحمة، فلم يراجعوها فأرسل الله إليه: لأقيضنّ لهم فتنة تذر الحليم حيران ويضلّ فيها رأي ذي الرأي وحكمة الحكيم، ولأسلطن عليهم جبّاراً قاسياً عاتياً ألبسه الهيبة وأنزع من صدره الرحمة، يتبعه عدد مثل سواد الليل، وعساكر مثل قطع السحاب، يهلك بني اسرائيل وينتقم منهم ويخرب بيت المقدس. فلمّا سمع إرميا ذلك صاح وبكى وشقّ ثيابه، وجعل الرماد على رأسه وتضرّع إلى الله في رفع ذلك عنهم في أيّامه. فأوحى الله إليه: وعزّتي لا أهلك بيت المقدس وبني اسرائيل حتى يكون الأمر من قبلك في ذلك، ففرح إرميا، وقال: لا والذي بعث موسى وأنبياءه بالحقّ لا آمر بهلاك بني اسرائيل أبداً. وأتى ملك بني اسرائيل فأعلمه بما أوحي إليه، فاستبشر وفرح، ثمّ لبثوا بعد هذا الوحي ثلاث سنين ولم يزدادوا إلا معصيةً وتمادياً في الشرّ، وذلك حين اقترب هلاكهم، فقل الوحي حيث لم يكونوا هم يتذكّرون، فقال لهم ملكهم: يا بني اسرائيل انتهوا عمّا أنتم عليه قبل أن يأتيكم عذاب الله فلم ينتهوا، فألقى الله في قلب بخت نصّر أن يسير الى بني اسرائيل ببيت المقدس، فسار في العساكر الكثيرة التي تملأ الفضاء. وبلغ ملك بني اسرائيل الخبر، فاستدعى إرميا النبيّ، فلمّا حضر عنده قال له: يا إرميا أين ما زعمت أنّ ربّك أوحي إليك أن لا يهلك بيت المقدس حتى يكون الأمر منك؟ فقال إرميا: إن ربي لا يخلف الميعاد وأنا به واثق.
فلما قرب الأجل ودنا انقطاع ملكهم وأراد الله إهلاكهم أرسل الله ملكاً في صورة آدمي إلى إرميا وقال له: استفته، فأتاه وقال له: يا إرميا أنا رجل من بني اسرائيل أستفتيك في ذوي رحمي، وصلت أرحامهم بما أمرني الله به وأتيت إليهم حسناً وكرامة فلا تزيدهم كرامتي إيّاهم إلا سخطاً لي وسوء سيرة معي فأفتني فيهم، فقال له: أحسن فيما بينك وبين الله وصل ما أمرك الله به أن تصله، فانصرف عنه الملك ثم عاد إليه بعد أيام ف يتلك الصورة، فقال له إرميا: أما طهرت أخلاقهم وما رأيت منهم ما تريد؟ فقال: والذي بعثك بالحق ما أعلم كرامة يأتيها أحد من الناس الى ذوي رحمه إلا وقد زتيتها إليهم وأفضل من ذلك فلم يزدادوا إلا سوء سيرة، فقال: ارجع الى أهلك وأحسن إليهم، فقام الملك من عنده فلبث أياماً، ونزل بخت نصّر على بيت المقدس بأكثر من الجراد، ففزع منهم بنو إسرائيل وقال ملكهم لإرميا: أين ما وعدك ربك؟ فقال: إني بربي واثق. ثمّ إن الملك الذي أرسله الله يستفتي إرميا عاد إليه وهو قاعد على جدار بيت المقدس فقال مثل قوله الأول وشكا أهله وجورهم وقال له: يا نبيّ الله كلّ شيء كنت أصبر عليه قبل اليوم لأنّ ذلك كان فيه سخطي، وقد رأيتهم اليوم على عمل عظيم من سخط الله تعالى، فلو كانوا على ما كانوا عليه اليوم لم يشتدّ عليهم غضبي، وإنما غضبت اليوم لله وأتيتك لأخبرك خبرهم، وإني أسألك بالله الذي بعثك بالحق إلا ما دعوت الله عليهم أن يهلكوا، فقال إرميا: يا ملك السموات والأرض إن انوا على حقّ وصواب فأبقهم، وإن كانوا على سخطك وعمل لا ترضاه فأهلكهم، فلمّا خرجت الكلمة من فيه أرسل الله صاعقة من السماء في بيت المقدس والتهب مكان القربان وخسف بسبعة أبواب من أبوابها. فلما رأى ذلك إرميا صاح وشقّ ثيابه ونبذ الرماد على رأسه وقال: يا ملك السموات والأرض، يا أرحم الراحمين أين ميعادك، أيا ربّ، الذي وعدتني به؟ فأوحى الله إليه أنه لم يصبهم ما أصابهم إلا بفتياك التي أفتيت رسولنا، فاستيقن أنها فتياه وأنّ السائل كان من عند الله، وخرج إرميا حتى خالط الوحش، ودخل بخت نصّر وجنوده بيت المقدس، فوطئ الشام وقتل بني اسرائيل حتى أفناهم، وخرّب بيت المقدس وأمر جنوده، فحملوا التراب وألقوه فيه حتى ملأوه ثمّ انصرف راجعاً الى بابل وأخذ معه سبايا بني اسرائيل، وأمرهم، فجمعوا من كان في بيت المقدس كلّهم، فاجتمعوا واختار منهم مائة ألف صبيّ فقسمهم على الملوك والقوّاد الذين كانوا معه، وكان من أولئك الغلمان دانيال النبيّ وحنانيا وعزاريا وميشائيل، وقسّم بني اسرائيل ثلاث فرق، فقتل ثلثاً، وأقرّ بالشام ثلثاً، وسبى ثلثاً، ثمّ عمر الله بعد ذلك إرميا، فه الذي رئي بفلوات الأرض والبلدان. ثم إنّ بخت نصّر عاد الى بابل وأقام في سلطانه ما شاء الله أن يقيم، ثمّ رأى رؤيا، فبينما هو قد أعبجه ما رأى، فدعا دانيال وحنانيا وعزاريا وميشائيل وقال: أخبروني عن رؤيا رأيتها فأنسيتها، ولذن لم تخبروني بها وبتأويلها لأنزعنّ أكتافكم فخرجوا من عنده ودعوا الله وتضرّعوا إليه وسألوه أن يعلمهم إيّاها، فأعلمهم الذي سألهم عنه، فجاءوا الى بخت نصّر فقالوا: رأيت تمثالاً، قال: صدقتم، قالوا: قدماه وساقاه من فخّار وركبتاه وفخذاه من نحاس وبطنه من فضّة وصدره من ذهب ورأسه وعنقه من حديد، فبينما أنت تنظر إليه قد أعجبك أرسل الله عليه صخرة من السماء فدقّته، وهي التي أنستك الرؤيا قال: صدقتم، فما تأويلها؟ قالوا: أريت ملك الملوك، وبعضهم كان ألين ملكاً من بعض، وبعضهم كان أحسن ملكاً من بعض، وبعضهم أشدّ، وكان أوّل الملك الفخّار، وهو أضعفه وألينه، ثمّ كان فوقه النحاس، وهو أفضل منه وأشدّ، ثمّ كان فوق النحاس الفضّة، وهي أفضل من ذلك وأحسن، ثمّ كان فوقها الذهب، وهو أحسن من الفضّة وأفضل، ثمّ كان الحديد، وهو ملكك، فهو أشد الملوك وأعزّ، وكانت الصخرة التي رأيت قد أرسل الله من السماء فدقّت ذلك جميعه نبيّاً يبعثه الله من السماء ويصير الأمر إليه.
فلما عبّر دانيال ومن معه رؤيا بخت نصّر قرّبهم وأدناهم واستشارهم في أمره، فحسدهم أصحابه وسعوا بهم إليه وقالوا عنهم ما أوحشه منهم، فأمر، فحفر لهم أخدود وألقاهم فيه، وهم ستّة رجال، وألقى معهم سبعاً ضارياً ليأكلهم، ثم قال أصحاب بخت نصّر: انطلقوا فلنأكل ولنشرب، فذهبوا فأكلوا وشربوا، ثمّ راحوا فوجدوهم جلوساً والسبع مفترش ذراعيه بينهم لم يخدش منهم أحداً، ووجدوا معهم رجلاً سابعاً، فخرج إليهم السابع، وكان ملكاً من الملائكة، فلطم بخت نصّر لطمةً فمسخه وصار في الوحش في صورة أسد، وهو مع ذلك يعقل ما يعقله الإنسان، ثم رده الله الى صورة الإنس وأعاد عليه ملكه، فلما عاد الي ملكه كان دانيال وأصحابه أكرم الناس عليه، فعاد الفرس وسعوا بهم الى بخت نصّر وقالوا له في سعايتهم: إنّ دانيال إذا شرب الخمر لا يملك نفسه من كثرة البول، وكان ذلك عندهم عاراً؛ فصنع لهم بخت نصّر طعاماً وأحضره عنده وقال للبواب: انظر أوّل من يخرج ليبول فاقتله، وإن قال لك: أنا بخت نصّر، فقل له: كذبت، بخت نصّر أمرني بقتلك واقتله. فحبس الله عن دانيال البول، وكان أول من قام من الجمع بخت نصّر فقام مدلاً أنه الملك، وكان ذلك ليلاً، فلما رآه البواب شد عليه ليقتله، فقال له: أنا بخت نصّر فقال: كذبت، بخت نصّر أمرني بقتلك، وقتله. وقيل في سبب قتله: إن الله أرسل عليه بعوضة فدخلت في منخره وصعدت الى رأسه، فكان لا يقرّ ولا يسكن حتى يدقّ رأسه، فلما حصره الموت قال لأهله: شقّوا رأسي فانظروا ما هذا الذي قتلني، فلما مات شقّوا رأسه فوجدوا البعوضة بزمّ رأسه، ليرى الله العباد قدرته وسلطانه وضعف بخت نصّر، لما تجبّر قتله بأضعف مخلوقاته، تبارك الذي بيده ملكوت كلّ شيء، يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد. وأما دانيال فإنه أقام بأرض بابل وانتقل عنها ومات ودفن بالسوس من أعمال خوزستان. ولما أراد الله تعالى أن يردّ بني اسرائيل الى بيت المقدس كان بخت نصّر قد مات، فإنه عاش بعد تخريب بيت المقدس أربعين سنة، في قول بعض أهل العلم، وملك بعده ابن له يقال له أولمردج، فملك الناحية ثلاثاً وعشرين سنة، ثم هلك وملك ابن له بلتاصر سنة، فلما ملك تخلط في أمره، فعزله ملك الفرس حينئذٍ؛ وهو مختلف فيه علي ما ذكرناه؛ واستعمل بعده داريوش على بابل الشام، وبقي ثلاثين سنة، ثمّ عزله واستعمل مكانه أخشويرش، فبقي أربع عشرة سنة، ثمّ ملك ابنه كيرش العلميّ، وهو ابن ثلاث عشرة سنة، وكان قد تعلّم التوراة ودان باليهودية، وفهم عندانيال ومن معه مثل حنانيا وعزاريا وغيرهما، فسألوه أن يأذن لهم في الخروج الى بيت المقدس، فقال: لو كان بقي منكم منكم ألف نبيّ ما فارقتكم، وولّى دانيال القضاء وجعل إليه جميع أمره، وأره أن يقسم ما غنمه بخت نصّر من بني اسرائيل عليهم، وأمره بعمارة بيت المقدس، فعمّر في أيّامه، وعاد إليه بنو اسرائيل. وهذه المدّة لهؤلاء الملوك معدودة من خراب بيت المقدس منسوبة الى بخت نصر، وكان ملك كيرش اثنتين وعشرين سنة. وقيل: إنّ الذي أمر بعود بني اسرائيل الى الشام بشتاسب بن لهراسب، وكان قد بلغه خراب بلاد الشام، وزنها لم يبق بها من بني اسرائيل أحد، فنادى في أرض بابل: من شاء من بني اسرائيل أن يرجع الى الشام فليرجع، وملك عليهم رجلاً من ال داود وأمره أن يعمر بيت المقدس، فرجعوا وعمروه.
وكان إرميا بن خلقيا من سبط هارون بن عمران، فلمّا وطئ بخت نصّر الشام وخرّب بيت المقدس وقتل بني اسرائيل وسباهم، فارق البلاد واختلط بالوحش، فلما عاد بخت نصّر الى بابل أقبل إرميا على حمار له معه عصير عنب وفي يده سلّة تين فرأى بيت المقدس خراباً فقال: (أنى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام) البقرة: 259 ثم أمات حماره وأعمى عنه العيون، فلما انعمر بيت المقدس أحيا الله من إرميا عينيه، ثمّ أحيا جسده، وهو ينظر إليه، وقيل له: (كم لبثت؟ قال: لبثت يوماً أو بعض يوم)، قيل: (بل لبثت مائة عام، فانظر الى طعامك وشرابك لم يتسنه - يتغيّر - وانظر الى حمارك) فنظر الى عظام حماره وهي تجتمع بعضها الى بعض، ثم كسي لحماً، ثم قام حيّاً بإذن الله، ونظر الى المدينة وهي تبنى، وقد كثر فيها بنو إرسرائيل وتراجعوا إليها من البلاد، وكان عهدها خراباً، وأهلها ما بين قتيل وأسير، فلما رآها عامرة (قال: أعلم أن الله على كل شيء قدير) البقرة: 259. وقيل: إنّ الذي أماته الله مائة عام ثمّ أحياه كان عزيزاً، فلما عاش قصد منزله من بيت المقدس على وهم منه فرأى عنده عجوزاً عمياء زمنه كانت جارية له، ولها من العمر مائة وعشرون سنة، فقال لها: هذا منزل عزيز؟ قالت: نعم، وبكت وقالت: ما أرى أحداً يذكر عزيزاً غيرك فقال: أنا عزيز، فقالت: إنّ عزيزاً كان مجاب الدعوة، فادع الله لي بالعافية، فدعا لها فعاد بصرها وقامت ومشت، فلما رأته عرفته، وكان لعزيز ولد وله من العمر مائة وثلاث عشرة سنة، وله أولاد شيوخ، فذهبت إليهم الجارية وأخبرتهم به، فجاؤوا، فلما رأوه عرفه ابنه بشامة كانت في ظهره. وقيل: إنّ عزيزاً كان مع بني اسرائيل بالعراق، فعاد الى بيت المقدس فجدّد لبني اسرائيل التوراة لأنهم عادوا الى بيت المقدس، ولم يكن معهم التوراة لأنها كانت قد أُخذت فيما أخذ وأحرقت وعدمت، وكان عزيز قد أخذ مع السبي، فلما عاد عزيز الى بيت المقدس مع بني اسرائيل جعل يبكي ليلاً ونهاراً وانفرد عن الناس، فبينما هو كلذكل في حزنه إذ أقبل إليه رجل، وهو جالس، فقال: يا عزيز ما يبكيك؟ فقال: أبكي لأنّ كتاب الله وعهده كان بين أظهرنا فعدم، قال: فتريد أن يردّه الله عليكم؟ قال: نعم، قال: فارجع وصم وتطهر والميعاد بيننا غداً هذا المكان، ففعل عزيز ذلك وأتي المكان فانتظره، وأتاه ذلك الرجل بإناء فيه ماء، وكان ملكاً بعثه الله في صورة رجل، فسقاه من ذلك الإناء، فتمثلت التوراة في صدره، فرجع الى بني اسرائيل فوضع لهم التوراة يعرفونها بحلالها وحرامها وحدودها، فزحبّوه حبّاً شديداً لم يحبّوا شيئاً قطّ مثله، وأصلح أمرهم، وأقام عزيز بينهم، ثمّ قبضه الله إليه على ذلك، وحدثت فيهم الأحداث، حتى قال بعضهم: عزيز ابن الله ولم يزل بنو اسرائيل ببيت المقدس، وعادوا وكثروا حتى غلبت عليهم الروم زمن ملوك الطوائف، فلم يكن لهم بعد ذلك جماعة. وقد اختلف العلماء في أمر بخت نصّر وعمارة بيت المقدس اختلافاً كثيراً تركنا ذكره اختصاراً. ذكر غزو بختنصّر العرب قيل: أوحى الله إلى برخيا بن حنيا يأمره أن يقول لبخت نصّر ليغزو العرب فيقتل مقاتلتهم ويسبي ذراريهم ويستبيح أموالهم عقوبة لهم على كفرهم، فقال برخيا لبخت نصّر ما أمر به، فابتدأ بمن في بلاده من تجار العرب فأخذهم وبنى لهم حران بالنجف وحبسهم فيه ووكل بهم، وانتشر الخبر في العرب، فخرجت إليه طوائف منهم مستأمنين، فقبلهم وعفا عنهم فأنزلهم السواد، فابتنوا الزنبار، وخلّى عن أهل الحيرة فاتخذوها منزلاً حياة بخت نصّر.
فلمّا مات انضمّوا الى أهل الأنبار، وهذا أول سكنى العرب السواد بالحيرة والأنبار، وسار الى العرب بنجد والحجاز، فأوحى الله إلى برخيا وإرميا يأمرهما أن يسير الى معدّ بن عدنان فيأخذاه ويحملاه الى حرّان، وأعلمهما أنه يخرج من نسله محمد، صلى الله عليه وسلم، الذي يختم به الأنبياء؛ فسارا تطوى لهما المنازل والأرض حتى سبقا بخت نصّر الى معد، فحملاه الى حرّان في ساعتهما، ولمعدّ حينئذٍ اثنتا عشرة سنة، وسار بخت نصّر فلقي جموع العرب فقاتلهم فهزمهم وأكثر القتل فيهم، وسار الى الحجاز فجمع عدنان العرب والتقى هو وبخت نصّر بذات عرق قاتتلوا قتالاً شديداً، فانهزم عدنان وتبعه بخت نصّر الى حصون هناك، واجتمع عليه العرب وخندق كلّ واحد من الفريقين على نفسه وأصحابه، فكمّن بخت نصّر كميناً، وهو أول كمين عمل، وأخذتهم السيوف، فنادوا بالويل، ونهي عدنان عن بخت نصّر، وبخت نصّر عن عدنان، فافترقا، فلما رجع بخت نصّر خرج معد بن عدنان مع الأنبياء حتى أتى مكّة فأقام أعلامها وحج ّوحجّ معه الأنبياء، وخرج معدّ حتى أتى ريشوب وسأل عمّن بقي منولد الحرث بن مضاض الجرهميّ، فقيل له: بقي جوشم بن جلهمة، فتزوج معد ابنته معانة، فولدت له نزار بن معدّ. ذكر بشتاسب والحوادث في ملكه وقتل أبيه لهراسبلما ملك بشتاسب بن لهراسب ضبط الملك وقرّر قوانينه وابتنى بفارس مدينة فسا ورتّب سبعة من عظماء أهل مملكته مراتب وملك كلّ واحد منهم مملكة على قدر مرتبته، ثمّ إنّه أرسل إلى ملك الترك، واسمه خرزاسف، وهو أخو أفراسياب، وصالحه، واستقرّ الصلح على أن يكون لبشتاسب دابّة واقفة على باب ملك الترك لا تزال علي عادتها على أبواب الملوك، فلما جاء زرادشت الى بشتاسب واتبعه على ما ذكرناه أشار زرادشت على بشتاسب بنقض الصلح مع ملك الترك، وقال: أنا أعيّن لك طالعاً تسير فيه الى الحرب فتظفر؛ وهذا أول وقت وضعت فيه الاختيارات للملوك بالنجوم؛ وكان زرادشت عالماً بالنجوم جيّد المعرفة بها، فأجابه بشتاسب الى ذلك، فأرسل الى الدابّة التي بباب ملك الترك والى الموكّل بها فصرفهما، فغضب ملك الترك وأرسل اليه يتهدده وينكر عليه ذلك ويأمره بإنفاذ زرادشت إليه وإن لم يفعل غزاه وقتله وأهل بيته. فكتب إليه بشتاسب كتاباً غليظاً يؤذنه فيه بالحرب، وسار كلّ واحد منهما الى صاحبه والتقيا واقتتلا قتالاً شديداً، فكانت الهزيمة على الترك، وقتلوا قتلاً ذريعاً، ومرّوا منهزمين، وعاد بشتاسب الى بلخ، وعظم أمر زرادشت عند الفرس، وعظم شأنه حيث كان هذا الظفر بقوله. وكان أعظم الناس غناء في هذه الحرب إسفنديار بن بشتاسب، فلما انجلت الحرب سعى الناس بي بشتاسب وابنه اسفنديار وقالوا: ويريد الملك لنفسه، فندبه لحرب بعد حرب، ثمّ أخذه وحبسه مقيّداً. ثم إنّ بشتاسب سار الى ناحية كرمان وسجستان وسار الى جبل يقال له طمبدر لدراسة دينه والتنسّك هناك، وخلف أباه لهراسب ببلخ شيخاً قد أبطله الكبر، وترك بها خزائنه وأولاده ونساءه، فبلغت الأخبار إلى ملك الترك خرزاسف، فلمّا تحققها جمع عساكره وحشد وسار الى بلخ وانتهز الفرصة بغيبة بشتاسب عن مملكته، ولما بلغ بلخ ملكها وقتل لهراسب وولدين لبشتاسب والهرابذة وأحرق الدواوين وهدم بيوت النيران وأرسل السرايا إلى البلاد، فقتلوا وسبوا وأخربوا، وسَبى ابنتين لبشتاسب إحداهما خُمانى والاخرى باذافره، وأخذ علمهم الأكبر المعروف بدرفش كابيان، وسار متبعاً لبشتاسب، وهرب بشتاسب من بين يديه فتحصّن بتلك الجبال مما يلي فارس، وضاق ذرعاً بما نزل به. فلما اشتدّ عليه الأمر أرسل الى ابنه اسفنديار مع عالمهم جاماسب، فأخرجه من محبسه واعتذر إليه ووعده أن يعهد إليه بالملك من بعده، فلمّا سمع إسفنديار كلامه سجد له ونهض من عنده وجمع من عنده من الجند وبات ليلته مشغولاً بالتجهّز وسار من الغد نحو عسكر الترك وملكهم، والتقوا واقتتلوا والتحمت الحرب وحمي الوطيس، وحمل إسفنديار على جانب من العسكر فأثّر فيه ووّهنه، وتابع الحملات، وفشا في الترك أنّ إسفنديار هو المتولّي لحربهم، فانهزموا لا يلوون على شيء، وانصرف إسفنديار وقد ارتجع درفش كابيان.
فلمّا دخل على أبيه استبشر به وأمره باتباع الترك ووصّاه بقتل ملكهم ومن قدر عليه من أهله ويقتل من الترك من أمكنه قتله وأن يستنقذ السبايا والغنائم التي أُخذت من بلادهم، فسار إسفنديار ودخل بلاد الترك وقتل وسبى وأخرب وبلغ مدينتهم العظمى ودخلهم عنوة وقتل الملك وإخوته ومقاتلته واستباح أمواله وسبى نساءه واستنقذ أختيه ودوّخ البلاد وانتهى الى آخر حدود بلاد الترك والى التّبّت، وأقطع بلاد الترك، وجعل كلّ ناحية الى رجل من وجوه الترك بعد أن آمنهم ووظف عليهم خراجاً يحملونه كلّ سنة الى أبيه بشتاسب، ثم عاد الى بلخ. فحسده أبوه بما ظهر منه من حفظ الملك والظفر بالترك، وأسرّ ذلك في نفسه، وأمره بالتجهّز والمسير الى قتال رستم الشديد بسجستان، وقال له: هذا رستم متوسّط بلادنا ولا يعطينا الطاعة لأن الملك كيكاووس وأعتقه فأقطعه إيّاها؛ وقد ذكرنا ذلك في ملك كيكاوو؛ وكان عغرض بشتاسب أن يقتله رستمُ أو يقتل هو رستم، فإنه كان أيضاً شديد الكراهة لرستم، فجمع العساكر وسار الى رستم لينزع سجستان منه، فخرج إليه رستم وقاتله، فجمع العساكر وسار الى رستم لينزع سجستان منه، فخرج إليه رستم وقاتله، فقتل إسفنديار، قتله رستم. ومات بشتاسب، وكان ملكه مائة سنة واثنتي عشرة سنة، وقيل: مائة وعشرين سنة، وقيل: مائة وخمسين سنة. وقيل: إنه جاءه رجل من بني اسرائيل زعم أنه نبيّ أرسل إليه واجتمع به ببلخ، فكان يتكلّم بالعبريّ وزرادشت نبيّ المجوس يعبّر عنه، وجاماسب العالم هو حاضر معهم يترجم أيضاً عن الاسرائيلي، وكان بشتاسب ومن قبله من آبائه وسائر الفرس يدينون بدين الصابئة قبل زرادشت. ذكر الخبر عن ملوك بلاد اليمن من أيام كيكاووس الى أيام بهمن بن اسفنديار قد مضي ذكر الخبر عمّن زعم أنّ كيكاووس كان في عهد سليمان بن داود، وقد ذكرنا من كان في عهد سليمان من ملوك اليمن والخبر عن بلقيس بنت ايلشرح، وصار الملك بعد بلقيس الى ياسر بن عمرو بن يعفر الذي يقال له أنعم الانعامة، قال أهل اليمن: إنّه سار غازياً نحو المغرب حتى بلغ وادياً يقال له وادي الرمل، ولم يبلغه أحد قبله، فلمّا انتهى اليه لم يجد وراءه مجازاً لكثرة الرمل، فبينما هو مقيم عليه إذ انكشف الرمل فأمر رجلاً يقال له عمرو أن يعبر هو وأصحابه، فعبروا، فلم يرجعوا، فلمّا رأى ذلك أمر بنصب صنم نحاس، فصُنع ثمّ نُصب على صخرة على شفير الوادي وكتب على صدره بالمسند: هذا الصنم لياسر أنعم الحميريّ، ليس وراءه مذهب فلا يتكلّفنّ أحد ذلك فيعطب. وقيل: إنّ وراء ذلك الرمل قوماً من أمّه موسى، وهم الذين عنى الله بقوله: (ومن قوم موسى أمّة يهدون بالحق وبه يعدلون) الاعراف: 951؛ والله أعلم. ثمّ ملك بعده تُبّع، وهو تُبّان، وهو أسعد، وهو أبو كرب بن ملكيكرب تّبع بن زيد بن عمرو بن تبّع، وهو ذو الأذعار بن أبرهة تبّع ذي المنار بن الرايش بن قيس بن صيفي بن سبأ، وكان يقال له الزايد، وكان تبّع هذا في أيام بشتاسب وأردشير بهمن بن إسفنديار بن بشتاسب، وإنه شخص متوجّهاً من اليمن في الطريق الذي سلكه الرايش حتى خرج على جبلي طيّء، ثمّ سار يريد الأنبار، فلمّا انتهى الى موضع الحيرة تحيّر، وكان ليلاً، فأقام بمكانه، فسمّي ذلك المكان بالحيرة، وخلّف به قوماً من الأزد ولخم وجُذام وعاملة وقُضاعة، فبنوا وأقاموا به، ثمّ انتقل إليهم بعد ذلك ناس من طيّء وكلب والسكون وبلحرث بن كعب وإياد، ثم توجّه الى الموصل، ثم الى أذربيجان، فلقي الترك فهزمهم، فقتل المقاتلة وسبى الذرّيّة، ثم عاد الى اليمن، فهابته الملوك وأهدوا إليه، وقدمت عليه هديّة ملك الهند، وفيها تحف كثيرة من الحرير والمسك والعود وسائر طرف الهند، فرأى ما لم يرَ مثله، فقال للرسول: كلّ هذا في بلدكم؟ فقال: أكثره من بلد الصين، ووصف له بلد الصين، فحلف ليغزونها، فسار بحمير حتى أتى الى الركائك وأصحاب القلانس السود، ووجّه رجلاً من أصحابه يقال له ثابت نحو الصين في جمع عظيم، فأصيب، فسار تبّع حتى دخل الصين، فقتل مقاتلتها واكتسح ما وجد فيها، وكان مسيره ومقامه ورجعته في سبع سنين. ثمّ إنهّ خلّف بالتّبّت اثني عشر ألف فارس من حمير، فهم أهل التّبّت، ويزعمون أنهم عرب، وألوانهم ألوان العرب وخلقهم.
وهكذا ذكر، وقد خالف هذه الرواية كثير من أصحاب السير والتواريخ، وكل واحد منهم خالف الآخر، وقدّم بعضهم من أخره الآخر، فلم يحصل منهم كثير فائدة، ولكن ننقل ما وجدنا مختصراً. ذكر خبر أردشير بهمن وابنته خمانيثم ملك بعد بشتاسب ابن ابنه أردشير بهمن بن اسفنديار، وكان مظفراً في مغازيه، وملك أكثر من أبيه، وقيل: إنه ابتنى بالسواد مدينة وسمّاها أياوان أردشير، وهي القرية المعروفة بهمينيا بالزاب الأعلى، وابتنى بكور دجلة الأبلّة، وسار الى سجستان طالباً بثأر أبيه، فقتل رستم وأباه دستان وابنه فرامرز. وبهمن هو أبو دارا الأكبر، وأبو ساسان أبي ملوك الفرس الأحرار أردشير ابن بابك وولده، وأمّ دارا خمانى ابنة بهمن، فهي أخته وأمّه. وغزا بهمن رومية الداخلة في ألف ألف مقاتل، وكان ملوك الأرض يحملون إليه الإتاوة، وكان أعظم ملوك الفرس شأناً وأفضلهم تدبيراً. وكانت أمّ بهمن من نسل بنيامين بن يعقوب، وأم ابنه ساسان من نسل سليمان بن داود، وكان ملك بهمن مائة وعشرين سنة، وقيل: صمانين سنة، وكان متواضعاً مرضيّاً فيهم، وكانت كتبه تخرج: من عبد الله خادم الله السائس لأموركم. ثمّ ملكت بعده ابنته خمانى، ملكوها حبّاً لأبيها ولعقلها وفروسيتها، وكانت تلقّب بشهرزاد، وقيل: إنما ملكت لأنها حين حملت منه دارا الأكبر سألته أن يعقد التاج له في بطنها ويؤثره بالملك، ففعل بهمن وعقد التاج عليه حملاً في بطنها، وساسان بن بهمن رجل يتصنع للملك، فلمّا رأى فعل أبيه لحق باصطخر وتزهّد ولحق برؤوس الجبال واتخذ غنماً، وكان يتولاها بنفسه، فاستبشعت العامّة ذلك منه. وهلك بهمن وابنه دارا في بطن أمه، فملكوها، ووضعته بعد أشهر من ملكها، فأنفت من إظهار ذلك وجعلته في تابوت وجعلت معه جواهر وأجرته في نهر الكرّ من اصطخر، وقيل: بنهر بلخ، وسار التابوت الى طحّان من أهل اصطخر، ففرح لما فيه من الجوهر، فحضنته امرأته، ثم ظهر أمره حين شبّ، فأقرّت خمانى بإساءتها، فلما تكامل امتحن فوجد على غاية ما يكون أبناء الملوك، فحوّلت التاج إليه وسارت الى فارس وبنت مدينة اصطخر، وكانت قد أوتيت ظفراً وزغزت الروم وشغلت الأعداء عن تطرّق بلادها، وخفّفت عن رعيّتها الخراج؛ وكان ملكها ثلاثين سنة. وقيل: إنّ خمانى أم دارا حضنته حتى كبر فسلّمت إليه وعزلت نفسها، فضبط الملك بشجاعة وحزم. ونرجع إلى ذكر بني اسرائيل ومقابلة تاريخ أيّامهم إلى حين تصرّمها ومدّة من كان في أيامهم من ملوك الفرس. قد ذكرنا فيما مضي سبب انصراف من انصرف الى بيت المقدس من سبايا بني اسرائيل الذي كان بخت نصّر سباهم، وكان ذلك في أيّام كيرش بن اخشويرش، وملكه ببابل من قبل بهمن وأربع سنين بعد وفاته في ملك ابنته خُمانى، وكانت مدّة خراب بيت المقدس من لدن خرّبّه بخت نصّر مائة سنة، كلّ ذلك في أيّام بهمن بعضه وفي أيّام ابنته خُمانى بعضه، وقيل غير ذلك، وقد تقدّم ذكر الاختلاف. وقد زعم بعضهم أنّ كيرش هو بشتاسب، وأنكر عليه قوله ولم يملك كيرش منفرداً قطّ. ولما عمر بيت المقدس ورجع إليه أهله كان فيهم عزير، وكان الملك عليهم بعد ذلك من قبل الفرس إما رجل منهم وإما رجل من بني اسرائيل، إلى أن صار الملك بناحيتهم لليونانية والروم لسبب غلبة الإسكندر على الناحية حين قتل داراً بن دارا، وكان جملة مدّة ذلك فيما قيل ثمانياً وثمانين سنة. ذكر خبر دارا الأكبر وابنه دارا الأصغر وكيف كان هلاكه مع خبر ذي القرنينوملك دارا بن بهمن بن إسفنديار، وكان يلقّب جهرازاد، يعني كريم الطبع، فنزل ببابل، وكان ضابطاً لملكه قاهراً لمن حوله من الملوك، يؤدّون إليه الخراج، وبنى بفارس مدينة سمّاها دارابجرد، وحذّف دوابّ البرد ورتّبها، وكان معجباً بابنه دارا ومن حبّه له سمّاه باسم نفسه وصيّر له الملك بعده. وكان ملكه اثنتين وعشرين سنة. ثم ملك بعده ابنه دارا وبنى بأرض الجزيرة بالقرب من نصيبين مدينة دارا، وهي مشهورة إلى الآن، واستوزر إنساناً لا يصلح لها، فأفسد قلبه على أصحابه، فقتل رؤساء عسكره واستوحش منه الخاصّة والعامّة، وكان شابّاً غرّاً جميلاً حقوداً سيّء السيرة في رعيّته. وكان ملكه أربع عشرة سنة. ذكر الإسكندر ذي القرنين
كان فيلفوس أبو الاسكندر اليونانيّ من أهل بلدة يقال لها مقدونية، كان ملكاً عليها وعلى بلاد أخرى، فصالح دارا على خراج يحمله إليه في كلّ سنة، فلما هلك فيلفوس ملك بعده ابنه الاسكندر واستولى على بلاد الروم أجمع، فقوي على دارا فلم يحمل إليه من الخراج شيئاً، وكان الخراج الذي يحمله بيضاً من ذهب، فسخط عليه دارا وكتب إليه يؤنّبه بسوء صنيعه في ترك حمل الخراج، وبعث إليه بصولجان والرة ويترك الملك، وإن لم يفعل ذلك واستعصى عليه بعث إليه من يأتيه به في وثاق، وإنّ عدّة جنوده كعدّة حبّ السمسم الذي بعث به إليه. فكتب إليه الاسكندر: إنه قد فهم ما كتب به، وقد نظر الى ما ذكر في كتابه إليه من إرساله الصولجان والكرة وتيمّن به لإلقاء الملقي الكرة الى الصولجان واحترازه إيّاها؛ وشبّه الأرض بالكرة، وأنّه يجرّ ملك دارا إلى ملكه، وتيمّنه بالسمسم الذي بعث كتيمّنه بالصولجان والكرة لدسمه وبعده من المرارة والحرافة، وبعث إليه بصرّة فيها خردل، وزعلمه في ذلك أنّ ما بعث به إليه قليل ولكنّه مرّ حرّيف، وأنّ جنوده مثله، فلمّا وصل كتباه إلى دارا تأهّب لمحاربته. وقد زعم بعض العلماء بأخبار الأوّلين أنّ الإسكندر الذي حارب دارا بن دارا هو أخو دارا الأصغر الذي حربه، وأنّ أباه دارا الأكبر كان تزّوج أمّ الإسكندر، وهي ابنة ملك الروم، فلمّا حُملت إليه وجد نتن ريحها وسهكها، فأمر أن يحتال لذلك منها؛ فاجتمع رأي أهل المعرفة في مداواتها على شجرة يقال لها بالفارسيّة سندر، فغسلت بمائها فأذهب ذلك كثيراً من نتنها ولم يذهب كلّه، وانتهت نفسه عنها، فردّها الى أهلها، وقد علقت منه فولدت في أهلها غلاماً فسمّته باسم الشجرة التي غُسلت بمائها مضافاً إلى اسمها، وقد هلك أبوها وملك الإسكندر بعده، فمنع الخراج الذي كان يؤديه جدّه، إلى دارا، فأرسل يطلبه، وكان بيضاً من ذهب، فأجابه: إنّي قد ذبحت الدجاجة التي كانت تبيض ذلك البيض وأكلت لحمها، فإن زحببت وادعناك، وإن أحببت ناجزناك. ثم خاف الإسكندر من الحرب فطلب الصلح، فاستشار دارا أصحابه، فأشاروا عليه بالحرب لفساد قلوبهم عليه، فعند ذلك ناجزه دارا القتال، فكتب الإسكندر إلى حاجبي دارا وحكّمهما على الفتك بدارا، فاحتكما شيئاً، ولم يشترطا أنفسهما، فلمّا التقيا للحرب طعن دارا حاجباه في الوقعة، وكان الحرب بينهما سنة، فانهزم أصحاب دارا ولحقه الاسكندر وهو بآخر رمق. وقيل: بل فتك به رجلان من حرسه من أهل همذان حبّاً للراحة من ظلمه، وكان فتكهما به لما رأيا عسكره قد انهزم عنه، ولم يكن ذلك بأمر الإسكندر، وكان قد أمر الإسكندر منادياً ينادي عند هزيمة عسكر دارا أن يؤسر دارا ولا يُقتل، فأخبر بقتله، فنزل إليه ومسح التراب عن وجهه وجعل رأسه في حجره وقال له: إنما قتلك أصحابك وإنني لم أهمّ بقتلك قطّ، ولقد كنتُ أرغب بك يا شريف الأشراف ويا ملك الملوك وحُرّ الأحرار عن هذا المصرع، فأوص بما أحببت، فأوصاه دارا أن يتزوّج ابنته روشنك ويرعى حقها ويعظّم قدرها ويستبقي أحرار فارس ويأخذ له بثزره ممّن قتله، ففعل الاسكندر ذلك أجمع وقتل حاجبي دارا، وقال لهما: إنكما لم تشترطا نفوسكما، فقتلهما بعد أن وفى لهما بما ضمن لهما، وقال: ليس ينبغي أن يُستبقى قاتل الملوك إلا بذمّة لا تخفر، وكان التقاؤهما بناحية خراسان مما يلي الخزر، وقيل: ببلاد الجزيرة عند دارا. وكان ملك الرّوم قبل الإسكندر متفرّقاً فاجتمع، وملك فارس مجتمعاً فتفرّق، حمل الإسكندر كتباً وعلوماً لأهل فارس من علوم ونجوم وحكمة ونقله الى الرومية. وقذ ذكرنا قول من قال إنّ الإسكندر أخو دارا لأبيه، وأمّا الروم وكثير من أهل الأنساب فيزعمون أنّه الإسكندر بن فيلفوس، وقيل فيلبوس بن مطريوس، وقيل: ابن مصريم بن هرمس بن هردس بن ميطون بن رومي بن ليطي بن يونان بن يافث بن ثوبة بن سرحون بن روميط بن زنط بن توقيل بن رومي بن الأصفر بن اليفز بن العيص بن اسحاق بن ابراهيم.
فجمع بعد هلك دارا مُلك دارا فملك العراق والشام والروم ومصر والجزيرة، وعرض جنده فوجدهم على ما قيل ألف ألف وأربعماذة ألف رجل، منهم من جنده ثمانمائة ألف رجل، ومن جند دارا ستّمائة ألف رجل، وتقدّم بهدم حصون فارس وبيوت النيران وقتل الهرابذة، وأحرق كتبهم، واستعمل على مملكة فارس رجالاً، وسار قدماً الى أرض الهند فقتل ملكها وفتح مدنها وخرّب بيوت الأصنام وأحرق كتب علومهم، ثم سار منها الى الصين، فلمّا وصل إليها أتاه حاجبه في الليل وقال: هذا رسول ملك الصين، فزحضره فسلّم وطلب الخلوة، ففّتّشوه فلم يروا معه شيئاً، فخرج من كان عند الإسكندر، فقال: أنا ملك الصين جئت أسألك عن الذي تريده، فإن كان مما يمكن عمله عملته وتركت الحرب، فقال له الاسكندر: ما الذي آمنك مني؟ قال: علمت أنك عاقل حكيم ولم يكن بيني وبينك عداوة ولا دخل، وأنت تعلم أنك إن قتلتني لم يكن قتلي سبباً لتسليم أهل الصين مُلكي إليك، ثم إنّك تنسب إلى الغدر. فعلم أنه عاقل فقال له: أريد منك ارتفاع ملكك لثلاث سنين عاجلاً ونصف الارتفاع لكل سنة، قال: قد أجبتك ولكن أسألني كيف حالي، قال: قل كيف حالك؟ قال: أكون أوّل قتيل لمحارب وأول أكلة لمفترس، قال: فإن قنعت منك بارتفاع سنتين؟ قال: يكون حالي أصلح قليلاً، قال: فإن قنعت منك بارتفاع سنة؟ قال: يبقى ملكي وتذهب لذّاتي، قال: وأنا أترك لك ما مضى وآخذ الثلث لكلّ سنة فكيف يكون حالك؟ قال: يكون السدس للفقراء والمساكين ومصالح البلاد، والسدس لي، والثلث للعسكر، والثالث لك، قال: قد قنعتُ منك بذلك، فشكره وعاد، وسمع العسكر بذلك ففرحوا بالصلح. فلمّا كان الغد خرج ملك الصين بعسكر عظيم أحاط بعسكر الإسكندر، فركب الإسكندر والناس، فظهر ملك الصين على الفيل وعلى رأسه التاج، فقال له الإسكندر: أغدرت؟ قال: لا ولكنّي أردت أن تعلم أني لم أطعك من ضعف ولكني لما رأيت العالم العلويّ مقبلاً عليك أردت طاعته بطاعتك والقرب منه بالقرب منك، فقال له الإسكندر: لايسأم مثلك الجزية، فما رأيت بيني وبينك من يستحق الفضل والوصف بالعقل غيرك، وقد زعفيتك من جميع ما أردته منك وأنا منصرف عنك، فقال له ملك الصين: فلست تخسر، وبعث إليه بضعف ما كان قرّره معه، وسار الإسكندر عنه من يومه ودانت له عامّة الأرضين في الشرق والغرب وملك التّبّت وغيرها. فلمّا فرغ من بلاد المغرب والمشرق وما بينهما قصد بلاد الشمال، وملك تلك البلاد ودان له من بها من الأمم المختلفة إلى أن اتّصل بديار يأجوج ومأجوج، وقد اختلفت الأقوال فيهم، والصحيح أنهم نوع من الترك لهم شوكة وفيهم شرّ، وهم كثيرون، وكانوا يفسدون فيما يجاورهم من الأرض ويخربون ما قدروا عليه من البلاد ويؤذون من يقرب منهم، فلمّا رأى أهلُ تلك البلاد الإسكندر شكوا إليه من شرّهم، كما أخبر اللّه عنهم في قوله: (ثمَّ زتبع سبباً حتى إذا بلغ بين السدّين) الكهف: 93 وهما جبلان متقابلان لا يرتقى فيهما وليس لهما مخرج إلا من الفرجة التي بينهما فلما بلغ إلى تلك وقارب السدين - (وجد من دونهما قوماً لا يكادون يفقهون قولاً؛ قالوا ياذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض فهل نجعل لك خرجاً على أن تجعل بيننا وبينهم سدّاً؟ قال ما مكّنّي فيه ربيّ خيرٌ فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردماً) الكهف: 93 - 95، يقول: ما مكّنّي فيه ربيّ خير من خرجكم، ولكن أعينوني بالقوّة، والقوّة الفعلة والصُّناع والآلة التي يبنى بها، فقال: (آتوني زبر الحديد) الكهف: 96، أي قطع الحديد، فأتوه بها، فحفر الأساس حتى بلغ الماء، ثمّ جعل الحديد والحطب صفوفاً بعضها فوق بعض (حتى إذا ساوى بين الصّدفين)، وهما جبلان، أشعل النار في الحطب فحمي الحديد وأفرغ عليه القطر، وهو النحاس المذاب، فصار موضع الحطب وبين قطع الحديد، فبقي كأنّه برد محبّر من حمرة النحاس وسواد الحديد، وجعل أعلاه شرفاً من الحديد، فامتنعت يأجوج ومأجوج من الخروج الى البلاد المجاورة لهم، قال الله تعالى: (فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقباً) الكهف: 97.
فلمّا فرغ من أمر السدّ دخل الظلمات مما يلي القطب الشمالي، والشمس جنوبية، فلهذا كانت ظلمة، وإلا فليس في الأرض موضع إلا تطلع الشمس عليه أبداً، فلمّا دخل الظلمات أخذ معه زربعمائة من أصحابه يطلب عين الخلد، فسار فيها ثمانية عشر يوماً، ثم خرج ولم يظفر بها، وكان الخضر على مقدّمته، فظفر بها وسبح فيها وشرب منها، والله أعلم. ورجع إلى العراق فمات في طريقه بشهر زور بعلّة الخوانيق، وكان عمره ستّاً وثلاثين سنة في قول، ودفن في تابوت من ذهب مرصّع بالجوهر وطلي بالصبر لئلا يتغيّر وحمل إلى أمه بالاسكندرية. وكان ملكه أربع عشرة سنة، وقتل دارا في السنة الثالثة من ملكه، وبنى اثني عشرة مدينة، منها: أصبهان، وهي التي يقال لها جَبّي، ومدينة هراة، ومرو، وسمرقند، وبنى بالسواد مدينة لروشنك ابنة دارا، وبأرض اليونان مدينة، وبمصر الاسكندرية. فلمّا مات الإسكندر أطاف به من معه من الحكماء اليونانيين والفرس والهند وغيرهم، فكان يجمعهم ويستريح إلى كلامهم، فوقفوا عليه، فقال كبيرهم: ليتكلم كلّ واحد منكم بكلام يكون للخاصّة معزّياً وللعامّة واعظاً، ووضع يده على التابوت وقال: أصبح آسر الأسراء أسيراً، وقال آخر: هذا الملك كان يخبأ الذهب فقد صار الذهب يخبأه، وقال آخر: ما أزهد النّاس في هذا الجسد وما أرغبهم في التابوت، وقال آخر: من أعجب العجب أنّ القويّ قد غلب والضعفاء لا هون مغترّون، وقال آخر: هذا الذي جعل أجله ضماراً وجعل أمله عياناً، هلاّ باعدت من أجلك لتبلغ بعض أملك، بل هلاّ حقّقت من أملك بالامتناع من وفور أجلك، وقال آخر: أيّها الساعي المنتصب جمعت ما خذلك عند الاحتياج إليه فغودرت عليه أوزاره وقارفت آثامه فجمعت لغيرك وإثمه عليك، وقال آخر: قد كنت لنا واعظاً فما وعظتنا موعظة أبلغ من وفاتك فمن كان له معقول فليعقل، ومن كان معتبراً فليعتبر، وقال آخر: رُبّ هائب لك يخافك من ورائك وهو اليوم بحضرتك ولا يخافك، وقال آخر: رُبّ حريص على سكوتك إذ لا تسكت، وهو اليوم حريص على كلامك إذ لا تتكلّم، وقال آخر: كم أماتت هذه النفس لئلاّ تموت وقد ماتت، وقال آخر، وكان صاحب كتب الحكمة: قد كنت تزمرني أن لا أبعد عنك فاليوم لا أقدر على الدنّو منك، وقال آخر: هذا يوم عظيم أقبل من شرّه ما كان مدبراً، وأدبر من خيره ما كان مقبلاً، فمن كان باكياً على مَنْ زال ملكه فليبك، وقال آخر: يا عظيم السلطان اضمحل سلطانك كما اضمحلّ ظلّ السحاب، وعفت آثار مملكتك كما عفت آثار الذباب، وقال آخر: يا من ضاقت عليه الأرض طولاً وعرضاً ليت شعري كيف حالك بما احتوى عليك منها وقال آخر: اعجبوا مّمن كان هذا سبيله كيف شهر نفسه بجمع الأموال الحطام البائد والهشيم النافد، وقال آخر: أيّها الجمع الحافل والملقى الفاضل لا ترغبوا فيما لا يدوم سروره وتنقطع لذّته، فقد بان لكم الصلاح والرشاد من الغيّ والفساد، وقال آخر: يا من كان غضبُه الموت هلاّ غضبت على الموت وقال آخر: قد رأيتم هذا الملك الماضي فليتعظ به هذا الملك الباقي، وقال آخر: إن الذي كانت الآذان تنصت له قد سكت فليتكلّم الآن كلّ ساكت، وقال آخر: سيلحق بك مَنْ سرّه موتك كما لحقت بمن سرّك موته، وقال آخر: ما لك لا تقلّ عضواً من أعضائك وقد كنت تستقلّ بملك الأرض بل ما لك لا ترغب | |
|
| |
الشيخ عودة الشيخ عودة
عدد المساهمات : 1748 تاريخ التسجيل : 28/09/2008 العمر : 74
| موضوع: رد: كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير الخميس فبراير 06, 2014 8:32 am | |
| فمن ذلك ذكر المسيح عيسى بن مريم ويحيى بن زكريا عليهم السلام إنّما جمعنا هذين الأمرين العظيمين في هذه الترجمة لتعلّق أحدهما بالآخر، فنقول: كان عمران بن ماثان من ولد سليمان بن داود، وكان آل ماثان رؤوس بني اسرائيل وأحبارهم، وكان متزوجاً بحنة بنت فاقوراء، وكان زكريّاء بن برخيا متزوّجاً بأختها إيشاع، وقيل: كانت إيشاع أخت مريم بنت عمران، وكانت حنّة قد كبرت وعجزت ولم تلد ولداً، فبينما هي في ظلّ شجرة أبصرت طائراً يزقّ فرخاً له فاشتهت الولد فدعت الله أن يهب لها ولداً، ونذرت إن يرزقها ولداً أن تجعله من سدنة بيت المقدس وخدمه، فحرّرت ما في بطنها، ولم تعلم ما هو، وكان النذر المحرّر عندهم أن يجعل للكنيسة يقوم بخدمتها ولا يبرح منها حتى يبلغ الحلم، فإذا بلغ خُيّر، فإن أحبّ أن يقيم فيها أقام، وإن أحبّ أن يذهب ذهب حيث شاء، ولم يكن يحرر إلاّ الغلمان، لأن الإناث لا يصلحن لذلك لما يصيبهنّ من الحيض والأذى.
ثمّ هلك عمران وحنّة حامل بمريم، فلمّا وضعتها إذا هي أنثى فقالت عند ذلك: (ربّ إني وضعتها أنثى، والله أعلم بما وضعت، وليس الذكر كالأنثى) آل عمران: 36 في خدمة الكنيسة والعباد الذين فيها، (وإني سميّتها مريم)، وهي بلغتهم العبادة، ثمّ لفّتها في خرقة وحملتها إلى المسجد ووضعتها عند الأحبار أبناء هارون، وهم يلون من بيت المقدس ما يلي بنو شيبة من الكعبة، فقالت: دونكم هذه المنذورة، فتنافسوا فيها لأنها بنت إمامهم وصاحب قربانهم، فقال زكريّاء: أنا أحقّ بها لأنّ خالتها عندي، فقالوا: لكنّا نقترع عليها، فألقوا أقلامهم في نهر جار، قيل هو نهر الأدن، فألقوا فيه أقلامهم التي كانوا يكتبون بها التوراة، فارتفع قلمُ زكريّاء فوق الماء ورسبت أقلامهم، فأخذها وكفلها وضمّها إلى خالتها أمّ يحيى واسترضع لها حتى كبرت، فبنى لها غرفة في المسجد لا يُرقى إليها إلا بسلّم ولا يصعد إليها غيره، وكان يجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف، وفاكهة الصيف في الشتاء، فيقول: أنّيى لك هذا؟ فتقول: هو من عند الله، فلمّا رأى زكريّاء ذلك منها دعا الله تعالى ورجا الولد حيث رأى فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف، فقال: إنّ الذي فعل هذا بمريم قادر على أن يصلح زوجتي حتى تلد، ف (قال: ربّ هب لي من لدنك ذرّيّةً طيبةً إنّك سميع الدعاء) آل عمران: 38. فبينما هو يصلّي في المذبح الذي لهم إذا هو برجل شابّ، هو جبرائيل، ففزغ زكريّاء منه، فقال له: (إن الله يبشرك بيحيى مصدّقاً بكملة من الله) آل عمران: 39، يعني عيسى بن مريم، عليه السلام، ويحيى أوهل من آمن بعيسى وصدّقه، وذلك أنّ زمّه كانت حاملاً به فاستقبلت مريم وهي حامل بعيسى فقالت لها: يا مريم أحامل أنتِ؟ فقالت: لماذا تسأليني؟ قالت: إنّي أرى ما في بطني يسجد لما في بطنك، فذلك تصديقه. وقيل: صدّق المسيح، عليه السلام، وله ثلاث سنين، وسمّاه الله تعالى يحيى ولم يكن قبله من تسمّى هذا الاسم، قال الله تعالى: (لم نجعل له من قبل سميّاً) مريم: 7، وقال تعالى: (وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويمو يبعث حيّاً) مريم: 15، قيل: أوحش ما يكون ابن آدم في هذه الأيام الثلاثة، فسلّمه الله تعالى من وحشتها، وإنّما ولد يحيى قبل المسيح بثلاث سنين، وقيل بستّة أشهر، وكان لا يأتي النساء، ولا يلعب مع الصبيان. (قال: ربّ أنّى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر) آل عمران: 40 وكان عمره اثنتين وتسعين سنة، وقيل: مائة وعشرين سنة، وكانت امرأته ابنة ثمان وتسعين سنة، فقيل له: (كذلك الله يفعل ما يشاء)، وإنما قال ذلك استخباراً هل يرزق الولد من امرأته العاقر أم غيرها، لا إنكاراً لقدرة الله تعالى، (قال: ربّ اجعل لي آيةً، قال: آيتك ألا تكلّم الناس ثلاثة أيّامٍ إلاّ رمزاً) آل عمران: 41، قال: أمسك الله لسانه عقوبة لسؤاله الآية، والرمز الإشارة. فلمّا ولد رآه أبوه حسن الصورة، قليل الشعر، قصير الأصابع، مقرون الحاجبين، دقيق الصوت، قويّاً في طاعة الله مذ كان صبيّاً، قال الله تعالى: (وآتيناه الحكم صبيّاً)، قيل: إنه قال له يوماً الصبيان أمثاله: يا يحيى اذهب بنا نلعب، فقال لهم: ما للعب خُلقت، وكان يأكل العشب وأوراق الشجر، وقيل: كان يأكل خبز الشعير، ومرّ به إبليس ومعه رغيف شعير فقال: أنت تزعم أنك زاهد وقد ادخرت رغيف شعير؟ فقال يحيى: يا ملعون هو القوت، فقال إبليس: إنّ الأقلّ من القوت يكفي لمن يموت، فأوحى الله الله إليه: اعقل ما يقول لك.
ونبّئ صغيراً فكان يدعو الناس إلى عبادة الله، ولبس الشعر، فلم يكن له دينار ولا درهم ولا مسكن يسكن إليه، أينما جنّه الليل أقام، ولم يكن له عبد ولا أمَة، واجتهد في العبادة، فنظر يوماً إلى بدنه وقد نحل فبكى، فأوحى الله إليه: يا يحيى أتبكي لما نحل من جسمك؟ وعزّتي وجلالي لو اطلعت في النار اطلاعة لتدرّعت الحديد عوض الشعر فبكى حتى أكلت الدموع لحم خدّيه وبدت أضراسه للناظرين، فبلغ ذلك أمه فدخلت عليه وأقبل زكرياء ومعه الأحبار فقال: يا بنيّ ما يدعوك إلى هذا؟ قال: أنت أمرتني بذلك حيث قلت: إنّ بين الجنة والنار عقبة لا يجوزها إلا الباكون من خشية الله، فقال: فابكِ واجتهد إذن، فصنعت له أمه قطعتي لبد على خدّيه تواريان أضراسه، فكان يبكي حتى يبلّهما، وكان زكريّاء إذا أراد يعظ أن الناس نظر فإن كان يحيى حاضراً لم يذكر جنّة ولاناراً. وبعث الله عيسى رسولاً نسخ بعض أحكام التوراة، فكان ممّا نسخ أنه حرّم نكاح بنت الأخ، وكان لملكهم، واسمه هيرودس، بنت أخ تعجبه يريد أن يتزوجها، فنهاه يحيّى عنها، وكان لها كلّ يوم حاجة يقضيها لها، فلما بلغ ذلك أمها قالت لها: إذا سألك الملك ما حاجتك فقولي أن تذبح يحيى بن زكرياء، فلمّا دخلت عليه وسألها ما حاجتك قالت: أريد أن تذبح يحيى بن زكرياء، فقال: اسألي غير هذا، قالت: ما أسألك غيره، فلمّا أبت دعا بيحيى ودعا بطست فذبحه، فلما رأت الرأس قالت: اليوم قرّت عيني فصعدت الى سطح قصرها فسقطت منه إلى الأرض ولها كلاب ضارية تحته، فوثبت الكلاب عليها فأكلتها وهي تنظر، وكان آخر ما أُكل منها عيناها لتعتبر، فلمّا قتل بذرت قطرة من دمه على الأرض، فلم تزل تغلي حتى بعث الله بخت نصّر عليهم، فجاءته امرأة فدلته على ذلك الدم، فألقى الله في قلبه أن يقتل منهم على ذلك الدم حتى يسكن، فقتل منهم سبعين ألفاً حتى سكن الدّم. وقال السّدّيّ نحو هذا، غير أنّّ قال: أراد الملك أن يتزوّج بنت امرأة له، فنهاه يحيى عن ذلك، فطلبت المرأة من الملك قتل يحيى، فأرسل إليه فقتله وأحضر رأسه في طست وهو يقول له: لا تحلّ لك، فبقي دمه يغلي، فطرح عليه تراب حتى بلغ سور المدينة، فلم يسكن الدم، فسلّط الله عليهم بخت نصّر في جمع عظيم فحصرهم فلم يظفر بهم، فأراد الرجوع فأتته امرأة من بني اسرائيل فقالت: بلغني أنك تريد العود قال: نعم، قد طال المقام وجاع الناس وقلّت الميرة بهم وضاف عليهم، فقالت: إن فتحتُ لك المدينة أتقتل من آمرك بقتله وتكف إذا أمرتك؟ قال: نعم، قالت: اقسم جندك أربعة أقسام على نواحي المدينة، ثم ارفعوا أيديكم إلى السماء وقولوا: اللهمّ إنّا نستفتحك على دم يحيى بن زكرياء، ففعلوا، فخرب سور المدينة، فدخلوها، فأمرتهم العجوز أن يقتلوا علي دم يحيى بن زكرياء حتى يسكن، فلم يزل يقتل حتى قتل سبعين ألفاً وسكن الدم، فأمرته بالكفّ، وكفّ. وخرّب بيت المقدس، وزمر أن تُلقى فيه الجيف، وعاد ومعه دانيال وغيره من وجوه بني اسرائيل، منهم عزريا وميشائيل ورأس الجالوت، فكان دانيال أكرم النّاس عليه، فحسدهم المجوس وسعوا بهم الى بخت نصّر، وذكر نحو ما تقدّم من إلقائهم إلى السبع ونزول الملك عليهم ومسخ بخت نصّر ومقامه في الوحش سبع سنين. وهذا القول وما لم نذكره من الروايات من أنّ بخت نصّر هو الذي خرّب بيت المقدس وقتل بني اسرائيل عدن قتلهم يحيى بن زكرياء باطل عند أهل السّير والتاريخ وأهل العلم بأمور الماضين، وذلك أنهم أجمعين مجمعون على أنّ بخت نصّر غزا بني اسرائيل عند قتلهم نبيّهم شعيا في عهد إرميا بن حلقيا، وبين عهد إرميا وقتل يحيى أربعمائة سنة وإحدى وستّون سنة عند اليهود والنصارى، ويذكرون أن ذلك في كتبهم وأسفارهم مبين، وتوافقهم المجوس في مدّة غزو بخت نصّر بني اسرائيل الى موت الإسكندر، وتخالفهم في مدّة ما بين موت الاسكندر ومولد يحيى، فيزعمون أنّ مدّة ذلك كانت إحدى وخمسين سنة.
وأما ابن اسحاق فإنّه قال: الحقّ أن بني اسرائيل عمروا بيت المقدس بعد مرجعهم من بابل وكثروا ثمّ عادوا يحدثون الأحداث ويعود الله سبحانه عليهم ويبعث فيهم الرسل، ففريقاً يكذبّون وفريقاً يقتلون، حتى كان آخر من بعث الله فيهم زكرياء وابنه يحيى وعيسى بن مريم، عليهم السلام، فتلوا يحيى وزكرياء، فابتعث الله عليهم ملكاً من ملوك بابل يقال له جودرس، فسار إليهم حتى دخل عليهم الشام، فلمّا دخل عليهم بيت المقدس قال لقائد عظيم من عسكره اسمه نبوزاذان، وهو صاحب الفيل: إني كنت حلفت لئن أنا ظفرت ببني إسرائيل لأقتلنّهم حتى يسيل دماؤهم في وسط عسكري إلى أن لا أجد من أقتله؛ وأمره أن يدخل المدينة ويقتلهم حتى يبلغ ذلك منهم، فدخل نبوزاذان المدينة فأقام في المدينة التي يقربون فيها فربانهم، فوجد فيها دماً يغلي، فقال: يا بني اسرائيل ما شأن هذا الدم يغلي؟ فقالوا: هذا دم قربان لنا لم يُقبل فلذلك هو يغلي. فقال: ما صدقتموني الخبر فقالوا: إنه قد انقطع منّا الملك والنبوة فلذلك لم يقبل منا، فذبح منهم على ذلك الدم سبعمائة وسبعين رجلاً من رؤوسهم، فلم يهدأ، فأمر بسبعمائة من علمائهم فذُبحوا على الدم، فلم يهدأ، فلمّا رأى الدّم لا يبرد قال لهم: يا بني اسرائيل اصدقوني واصبروا على أمر ربّكم، فقد طال ما ملكتم في الأرض تفعلون ما شئتم، قبل أن لا أدع منكم نافخ نار أنثى ولا ذكراً إلا قتلته. فلمّا رأوا الجهد وشدّة القتل صدقوه الخبر وقالوا: هذا دم نبي كان ينهانا عن كثير مما يسخط الله ويخبرنا بخبركم، فلم نصدّقه وقتلناه فهذا دمه، فقال: ما كان اسمه؟ قالوا: يحيى بن زكرياء، قال: الآن صدقتموني، لمثل هذا انتقم ربّكم منكم، وخرّ ساجداً وقال لمن حوله: أغلقوا أبواب المدينة وأخرجوا من ها هنا من جيش جودرس، ففعلوا، وخلا في بني اسرائيل ثمّ قال للدّم: يا يحيى قد علم ربيّ وربّك ما قد أصاب قومك من زجلك وما قُتل منهم، فاهدأ بإذن الله قبل أن لا يبقى من قومك أحد، فسكن الدمُ، ورفع نبوزاذان القتل، وقال: آمنتُ بما آمنت به بنو اسرائيل وصدّقت به وأيقنت أنّه لا ربّ غيره، ثمّ قال لبني اسرائيل: إنّ جودرس أمرني أن أقتل فيكم حتى تسيل دماؤكم في عسكره، ولست أستطيع أن أعصيه، قالوا: افعل، فأمرهم أن يحفروا حفيرة، وأمر بالخيل والبغال والحمير والبقر والغنم والإبل فذبحها حتى كثر الدّم وأجرى عليه ماء، فسال الدّم في العسكر، فأمر الدم بالقتلى الذين كان قتلهم، فألقوا فوق المواشي، فلمّا نظر جودرس إلى الدم قد بغل عسكره أرسل إلى نبوزاذان: أن ارفع القتل عنهم فقد انتقمت منهم بما فعلوا. وهي الوقعة الأخيرة التي أنزل الله ببني اسرائيل، يقول الله تعالى لنبيّه محمد، صلى الله عليه وسلم: (وقضينا الى بني اسرائيل في الكتاب لتفسدنّ في الأرض مرتين ولتعلنّ علوّاً كبيراً، فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عباداً لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار، وكان وعداً مفعولاً، ثمَّ رددنا لكم الكرة عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيراً، إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها، فإذا جاء وعد الآخرة ليسؤوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرةٍ وليتبروا ما علوا تتبيراً، عسى ربكم أن يرحمكم، وإن عدتم عدنا وجعلنا جهنّم للكافرين حصيراً) الاسراء: 4 - 8، و: (عسى) وعدٌ من الله حقّ. وكانت الوقعة الأولى بخت نصّر وجنوده، ثم ردّ الله سبحانه لهم الكرّة، ثم كانت الوقعة الأخيرة جودرس وجنوده، وكانت أعظم الوقعتين، فيها كان خراب بلادهم وقتل رجالهم وسبْي ذراريهم ونسائهم، يقول الله تعالى: (وليتبِّروا ما علوا تتبيراً). وزعم بعضُ أهل العلم أنّ قتل يحيى كان أيّام أردشير بن بابك، وقيل: كان قتله قبل رفع المسيح، عليه السلام، بسنة ونصف؛ والله أعلم. ذكر قتل زكريا
لما قُتل يحيى وسمع أبوه بقتله فرّ هارباً فدخل بستاناً عند بيت المقدس فيه أشجار، فأرسل الملك في طلبه، فمرّ زكرياء بالشجرة، فنادته: هلمّ إليّ يا نبيّ الله فلمّا أتاها انشقّت فدخلها، فانطبقت عليه وبقي في وسطها، فأتى عدوّا الله إبليس فأخذ هدب ردائه فأخرجه من الشجرة ليصدّقوه إذا أخبرهم، ثمّ لقي الطلب فأخبرهم، فقال لهم: ما تريدون؟ فقالوا: نلتمس زكرياء، فقال: إنّه سحر هذه الشجرة فانشقت له فدخلها، قالوا: لا نصدّقك قال: فإنّ لي علامة تصدّقوني بها؛ فأراهم طرف ردائه، فزخذوا الفؤوس وقطعوا الشجرة باثنتين وشقّوها بالمنشار، فمات زكرياء فيها، فسلّط الله عليهم أخبث أهل الأرض فانتقم به منهم. وقيل: إنّ السبب في قتله أنّ إبليس جاء إلى مجالس بني اسرائيل فقذف زكريّاء بمريم وقال لهم: ما أحبلها غيره، وهو الذي كان يدخل عليها، فطلبوه فهرب، وذكر من دخوله الشجرة نحو ما تقدّم. ذكر ولادة المسيح عليه السلام ونبوته إلى آخر أمره كانت ولادة المسيح أيّام ملوك الطوائف، قالت المجوس: كان ذلك بعد خمس وستّين سنة من غلبة الإسكندر على أرض بابل، وبعد إحدى وخمسين سنة مضت من ملك الأشكانيّين، وقالت النصارى: إنّ ولادته كانت لمضيّ ثلاثمائة وثلاث وستّين سنة من وقت غلبة الإسكندر على أرض بابل، وزعموا أنّ مولد يحيى كان قبل مولد المسيح بستّة أشهر، وأنّ مريم، عليها السلام، حملت بعيسى ولها ثلاث عشرة سنة، وقيل: خمس عشرة، وقيل: عشرون، وأن عيسى عاش إلى أن رفع اثنتين وثلاثين سنة وأياماً، وأن مريم عشات بعده ستّ سنين، فكان جميع عمرها إحدى وخمسين سنة، وأن يحيى قُتل قبل أن يرفع المسيح، وأتت المسيح النبوّة والرسالة وعمره ثلاثون سنة. وقد ذكرنا حال مريم في خدمة الكنيسة، وكانت هي وابن عمّها يوسف بن يعقوب بن ماثان النجّار يليان خدمة الكنيسة، وكان يوسف حكيماً نجّاراً يعمل بيديه ويتصدّق بذلك، وقالت النصارى: إنّ مريم كان قد تزوّجها يوسف ابن عمّها إلا أنّه لم يقربها إلاّ بعد رفع المسيح، والله أعلم. وكانت مريم إذا نفد ماؤها وماء يوسف ابن عمّها أخذ كلّ واحد منهما قُلّته وانطلق إلى المغارة التي فيها الماء يستعذبان منه ثمّ يرجعان الى الكنيسة، فلمّا كان اليوم الذي لقيها فيه جبرائيل نفد ماؤها فقالت ليوسف ليذهب معها إلى الماء، فقال: عندي من الماء ما يكفيني إلى غد، فأخذت قلّتها وانطلقت وحدها حتى دخلت المغارة، فوجدت جبرائيل قد مثله الله (لها بشراً سويّاً) مريم: 17، فقال لها: يا مريم إنّ الله قد بعثني إليك (لأهب لك غُلاماً زكيّاً) مريم: 19، (قالت: إني أعوذ بالرّحمن منك إن كنت تقيّاً) مريم: 18 أي مطيعاً لله، وقيل: هو اسم رجل بعينه، وتحسبه رجلاً، (قال: إنما أنا رسول ربّك لأهب لك غلاماً زكيّاً، قالت: أنّى يكون لي غلامٌ ولم يمسسني بشرٌ ولم أك بغيّاً - أي زانية - قال: كذلك قال ربّك)، إلى قوله: (أمراً مقضياً) مريم: 19 - 21.
فلمّا قال ذلك استسلمت لقضاء الله، فنفخ في جيب درعها ثمّ انصرف عنها وقد حملت بالمسيح، وملأت قلّتها وعادت، وكان لا يُعلم في أهل زمانها أعبد منها ومن ابن عمّها يوسف النجّار، وكان معها، وهو أوّل من أنكر حملها، فلمّا رأى الذي بها استعظمه ولم يدرِ على ماذا يضع ذلك منها، فإذا أراد يتّهمها ذكر صلاحها وأنّها لم تغبْ عنه ساعة قطّ، وإذا أراد يبرئها رأى الذي بها، فلمّا اشتدّ ذلك عليه كلّمها فكان أوّل كلامه لها أن قال لها: إنّه قد وقع من أمرك شيء قد حرصتُ على أن أميته وأكتمه فغلبني، فقالت: قلْ قولاً جميلاً، فقال: حدّثيني هل ينبت زرع بغير بذر؟ قالت: نعم، قال: فهل ينبت شجر بغير غيث يصيبه؟ قالت: نعم، قال: فهل يكون ولد بغير ذكر؟ قالت له: نعم، ألم تعلم أنّ الله أنبت الزّرع يوم خلقه بغير بذر ألم تعلم أن الله خلق الشجر من غير مطر وأنّّه جعل بتلك القدرة الغيث حياة للشجر بعدما خلق كلّ واحد منهما وحده أو تقول لن يقدر الله على أن ينبت حتى يستعين بالبذر والمطر قال يوسف: لا أقول هكذا ولكنّي أقول إنّ الله يقدر على ما يشاء، إنّما يقول لذلك كن فيكون، قالت له: ألم تعلم أنّ الله خلق آدم وحوّاء من غير ذكر ولا أنثى قال: بلى، فلمّا قالت له ذلك وقع في نفسه أنّ الذي بها شيء من الله لا يسعه أن يسألها عنه لما رأى من كتمانها له. وقيل: إنها خرجت إلى جانب الحجرات لحيض أصابها فاتخذت من دونهم حجاباً من الجدران، فلمّا طهرت إذا برجل معها، وذكر الآيات، فلمّا حملت أتتها خالتُها امرأة زكرياء ليلة تزورها، فلمّا فتحت لها الباب التزمتها، فقالت امرأة زكرياء: إني حبلى، فقالت لها مريم: وأنا أيضاً حبلى، قالت امرأة زكرياء: فإني وجدت ما في بطني يسجد لما في بطنك. وولدت امرأة زكرياء يحيى، وقد اختلف في مدّة حملها، فقيل: تسعة أشهر، وهو قول النصارى، وقيل: ثمانية أشهر، فكان ذلك آية أخرى لأنّه لم يعش مولود لثمانية أشهر غيره، وقيل: ستة أشهر، وقيل: ثلاث ساعات، وقيل: ساعة واحدة، وهو أشبه بظاهر القرآن العزيز لقوله تعالى: (فحملته فانتبذت به مكاناً قصيّاً) مريم: 22؛ عقبه بالفاء. فلمّا أحست مريم خرجت الي جانب المحراب الشرقيّ فأتت أقصاه (فاجاءها المخاض إلى جذع النخلة، قالت) وهي تطلق من الحبل استحياء من الناس - (يا ليتني متّ قبل هذا، وكنت نسياً منسياً)، مريم: 23 يعني نسي ذكري وأثري فلا يرى لي أثر ولا عين، قالت مريم: كنت إذا خلوت حدّثني عيسى وحدّثته، فإذا كان عندنا إنسان سمعت تسبيحه في بطني، (فناداها) جبرائيل (من تحتها) - أي من أسفل الجبل - (ألا تحزني قد جعل ربّك تحتك سريّاً) مريم: 24، وهو النهر الصغير، أجراه تحتها، فمن قرأ: من تحتها، بكسر الميم، جعل المنادي جبرائيل، ومن فتحها قال إنّه عيسى، أنطقه الله، (وهزّي إليك بجذع النخلة) مريم: 25، كان جذعاً مقطوعاً فهزّته فإذا هو نخلة، وقيل: كان مقطوعاً فلمّا أجهدها الطلق احتضنته فاستقام واخضرّ وأرطب، فقيل لها: (وهزي إليك بجذع النخلة)، فهزّته فتساقط الرطب فقال لها: (فكلي واشربي وقرّي عيناً، فإمّا ترينّ من البشر أحداً فقولي: إني نذرت للرّحمن صوماً فلن أكلّم اليوم إنسيّاً) مريم: 26، وكان من صام في ذلك الزمان لا يتكلم حتى يمسي. فلمّا ولدته ذهب إبليس فأخبر بني إسرائيل أنّ مريم قد ولدت، فأقبلوا يشتدون بدعوتها، (فأتت به قومها تحمله) مريم: 27. وقيل: إنّ يوسف النجّار تركها في مغارة أربعين يوماً ثمّ جاء بها الى أهلها، فلمّا رأوها قالوا لها: (يا مريم لقد جئت شيئاً فريّاً، يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيّاً) مريم: 27 - 28 فما بالك أنت؟ وكانت من نسل هارون أخي موسى، كذا قيل. قلت: إنها ليست من نسل هارون إنما هي من سبط يهوذا بن يعقوب من نسل سليمان بن داود، وإنما كانوا يدعون بالصالحين، وهارون من ولد لاوي بن يعقوب.
قالت لهم ما زمرها الله به، فلمّا أرادوها بعد ذلك على الكلام (أشارت إليه)، فغضبوا وقالوا: لسخريّتها بنا أشدّ علينا من زنائها، (قالوا: كيف نكلّم من كان في المهد صبياً) مريم: 29، فتكلّم عيسى فقال: (إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبياً وجعلني مباركاً أينما كنت وأوصاني بالصاة والزكاة ما دمت حيّاً) مريم: 30 - 31، فكان أول ما تكلّم به العبودية ليكون أبلغ في الحجة على من يعتقد أنه إله. وكان قومها قد أخذوا الحجارة ليرجموها، فلما تكلّم ابنها تركوها، ثمّ لم يتكلّم بعدها حتى كان بمنزلة غيره من الصبيان، وقال بنو اسرائيل: ما زحبلها غير زكريّاء فإنّه هو الذي كان يدخل عليها ويخرج من عندها، فطلبوه ليقتلوه، ففرّ منه، ثمّ أدركوه فقتلوه. وقيل في سبب قتله غير ذلك، وقد تقدّم ذكره. وقيل: إنّه لما دنا نفاسها أوحى الله إليها: أن اخرجي من أرض قومك فإنهم إن ظفروا بك عيّروك وقتلوك وولدك، فاحتملها يوسف النجّار وسار بها إلى أرض مصر، فلمّا وصلا إلى تخوم مصر أدركها المخاض، فلمّا وعضت وهي محزونة قيل لها: (لا تحزني)، الآية إلى (إنسيّاً) فكان الرطب يتساقط عليها، وذلك في الشتاء، وأصبحت الأصنام منكوسة على رؤوسها، فوزعت الشياطين فجاؤوا إلى إبليس، فلمّا رأى جماعتهم سألهم فأخبروه، فقال: قد حدث في الأرض حادث، فطار عند ذلك وغاب عنهم فمرّ بالمكان الذي ولد فيه عيسى فرأى الملائكة محدقين به، فعلم أنّ الحدث فيه، ولم تمكنه الملائكة من الدنّو من عيسى، فعاد الى أصحابه وأعلمهم بذلك وقال لهم: ما ولدت امرأة إلاّ وأنا حاضر، وإنّي لأرجو أن أُضلّ به أكثر ممّن يهتدي. واحتملته مريم الي أرض مصر فمكثت اثنتي عشرة سنة تكتمه من النّاس، فكانت تلتقط السنبل والمهد في منكبيها. قلتُ: والقول الأوّل في ولادته بأرض قومها للقرآن أصحّ لقول الله تعالى: (فأتت به قومها تحمله) مريم: 27، وقوله: (كيف نكلّم من كان في المهد صبيّاً) مريم: 29. وقيل إن مريم حملت المسيح الى مصر بعد ولادته ومعها يوسف النجّار، وهي الربوة التي ذكرها الله تعالى، وقيل: الربوة دمشق، وقيل: بيت المقدس، وقيل غير ذلك، فكان سبب ذلك الخوف من ملك بني اسرائيل، وكان من الروم، واسمه هيرودس، فإنّ اليهود أغروه بقتله، فساروا الى مصر وأقاموا بها اثنتي عشرة سنة الى أن مات ذلك الملك، وعادوا الى الشام، وقيل: إنّ هيرودس لم يرد قتله ولم يسمع به إلاّ بعد رفعه، وإنما خافوا اليهود عليه، والله أعمل. ذكر نبوّة المسيح وبعض معجزاته لما كانت مريم بمصر نزلت على دهقان، وكانت داره يزوي إليها الفقراء والمساكين، فسرق له مال، فلم يتهم المساكين، فحزنت مريم، فلمّا رأى عيسى حزن أمّه قال: أتريدين أن أدلّه على ماله؟ قالت: نعم، قال: إنّه أخذه الأعمى والمقعد، اشتركا فيه، حمل الأعمى المقعد فأخذه، فقيل للأعمى ليحمل المقعد، فأظهر العجز، فقال له المسيح: كيف قويت على حمله البارحة لما أخذتما المال؟ فاعترفا وأعاداه. ونزل بالدهقان أضياف ولم يكن عندهم شراب، فاهتمّ لذلك، فلمّا رآه عيسى دخل بيتاً للدهقان فيه صفّان من جرار فأمرّ عيسى يده على أفواهها وهو يمشي، فامتلأت شراباً، وعمره حينئذٍ اثنتا عشرة سنة. وكان في الكتّاب يحدّث الصبيان بما يصنع أهلوهم وبما كانوا يأكلون. قال وهب: بينما عيسى يلعب مع الصبيان إذ وثب غلام على صبّي فضربه برجله فقتله فألقاه بين رجلي المسيح متلطّخاً بالدم، فانطلقوا به الى الحاكم في ذلك البلد فقالوا: قتل صبيّاً، فسأله الحاكم، فقال: ما قتلته، فأرادوا أن يبطشوا به، فقال: إيتوني بالصبيّ حتى أسأله من قتله، فتعجبوا من قوله وأحضروا عنده القتيل، فدعا الله فأحياه، فقال: من قتلك؟ فقال: قتلني فلان، يعني الذي قتله، فقال بنو اسرائيل للقتيل: من هذا؟ قال: هذا عيسى بن مريم، ثمّ مات الغلام من ساعته.
وقال عطاء: سلّمت مريم الى صبّاغ يتعلّم عنده، فاجتمع عند الصبّاغ ثياب وعرض له حاجة، فقال المسيح: هذه ثياب مختلفة الألوان وقد جعلتُ في كلّ ثوب منها خيطاً على اللّون الذي يُصبغ به فاصبغها حتى أعود من حاجتي هذه، فأخذها المسيحُ وألقاها في حُبّ واحد، فلمّا عاد الصبّاغ سأله عن الثياب فقال: صبغتها، فقال: أين هي؟ قال: في هذا الحُبّ، قال: كلّها؟ قال: نعم، قال: لقد أفسدتها على أصحابها وتغيّظ عليه، فقال له المسيح: لا تعجل وانظر إليها، وقام وأخرجها كلّ ثوب منها على اللّون الذي أراد صاحبه فتعجّب الصبّاغُ منه وعلم أن ذلك من الله تعالى. ولما عاد عيسى وأمّه الى الشام نزلا بقرية يقال لها ناصرة، وبها سميت النصارى، فأقام إلى أن بلغ ثلاثين سنة، فأوحى الله إليه أن يبرز للناس ويدعوهم إلى الله تعالى ويداوي المرضى والزمنى والأكمه والأبرص وغيرهم من المرضى، ففعل ما أمر به، وأحبّه الناس، وكثر أتباعه، وعلا ذكره. وحضر يوماً طعام بعض الملوك كان دعا الناس إليه، فقعد على قصعة يزكل منها ولا تنقص، فقال الملك: من أنت؟ قال: أنا عيسى بن مريم، فنزل الملك عن ملكه وابتعه في نفر من أصحابه فكانوا الحواريّين. وقيل: إنّ الحواريّين هم الصبّآغ الذي تقدّم ذكره وأصحابٌ له، وقيل: كانوا صيّادين، وقيل: قصّارين، وقيل: ملاّحين، والله أعلم، وكانت عدّتهم اثني عشر رجلاً، وكانوا إذا جاعوا أو عطشوا قالوا: يا روح الله قد جعنا وعطشنا، فيضرب يده إلى الأرض فيخرج لكل إنسان منهم رغيفين وما يشربون، فقالوا: من أفضل منّا، إذا شئنا أطعمتنا وسقيتنا فقال: أفضل منكم من يأكل من كسب يده، فصاروا يغسلون الثياب بالأجرة. ولما أرسله الله أظهر من المعجزات أنهّه صوّر من الطين صورة طائر ثمّ نفخ فيه فيصير طائراً بإذن الله، قيل هو الخفّاش. وكان غالباً على زمانه الطبّ فأتاهم بما أبرأ الأكمه والأبرص وأحيا الموتى تعجيزاً لهم، فممّن أحياه عازر، وكان صديقاً لعيسى، فمرض، فأرسلت أختُه إلى عيسى أنّ عازر يموت، فسار إليه وبينهما ثلاثة أيّام، فوصل إليه وقد مات منذ ثلاثة أيام، فأتى قبره فدعا له فعاش، وبقي حتى ولد له، وأحيا امرأةً وعاشت وولد لها، وأحيا سام بن نوح، كان يوماً مع الحواريّين يذكر نوحاً والغرق والسفينة فقالوا: لوبعثت لنا من شهد ذلك فأتى تلاً وقال: هذا قبر سام بن نوح، ثمّ دعا الله فعاش، وقال: قد قامت القيامة؟ فقال المسيح: لا ولكن دعوت الله فأحياك، فسألوه فأخبرهم، ثمّ عاد ميتاً، وأحيا عزيراً النبيّ، قال له بنو اسرائيل، احي لنا عزيراً وإلاّ أحرقناك، فدعا الله فعاش، فقالوا: ما تشهد لهذا الرجل؟ قال: أشهد أنه عبد الله ورسوله، وأحيا يحيى بن زكرياء. ذكر نزول المائدةوكان من المعجزات العظيمة نزول المائدة. وسبب ذلك: أنّ الحواريين قالوا له: يا عيسى (هل يستطيع ربك أن ينزّل علينا مائدةً من السماء؟) المائدة: 112 فدعا عيسى فقال: (اللهمّ ربّنا أنزل علينا مائدةً من السماء تكون لنا عيداً لأوّلنا وآخرنا) المائدة: 114، فأنزل الله المائدة عليها خبز ولحم يأكلون منها ولا تنفد، فقال لهم: إنّها مقيمة ما لم تذخروا منها، فما مضي يومهم حتى اذّخروا، وقيل: أقبلت الملائكة تحمل المائدة عليها سبعة أرغفة وسبعة أحوات حتى وضعوها بين أيديهم، فأكل منها آخر النّاس كما أكل أوّلهم؛ وقيل: كان عليها منثمار الجنّة، وقيل: كانت تمدّ بكلّ طعام إلاّ اللّحم، وقيل: كانت سمكة فيها طعم كلّ شيء، فلمّا زكلوا منها، وهم خمسة آلاف، وزادت حتى بلغ الطعام ركبهم، قالوا: نشهد أنك رسول الله، ثمّ تفرّقوا فتحدّثوا بذلك، فكذَّب به من لم يشهده، وقالوا: سحر أعينكم، فافتتن بعضهم وكفر، فمسخوا خنازير ليس فيهم امرأة ولا صبيّ، فبقوا ثلاثة أيام ثمّ هلكوا ولم يتوالدوا.
وقيل: كانت المائدة سفرة حمراء تحتها غمامة وفوقها غمامة وهم ينظرون إليها تنزل حتى سقطت بين أيديهم، فبكى عيسى وقال: اللهم اجعلني من الشاكرين اللهمّ اجعلها رحمةً ولا تجعلها مُثلة ولا عقوبة واليهود ينطرون إلى شيء لم يروا مثله ولم يجدوا ريحاً أطيب من ريحها، فقال شمعون: يا روح الله أمن طعام الدنيا أم من طعام الجنّة؟ فقال المسيح: لا من طعام الدنيا ولا من طعام الآخرة، إنّما هو شيء خلقه الله بقدرته، فقال لهم: كُلوا مما سألتم، فقالوا له: كل أنت يا روح الله، فقال: معاذ الله أن آكل منها فلم يأكل ولم يأكلوا منها، فدعا المرضى والزمنى والفقراء، فأكلوا منها، وهم ألف وثلاثمائة، فشبعوا، وهي بحالها لم تنقص، فصحّ المرضى والزمنى، واستغنى الفقراء، ثمّ صعدت وهم ينظرون إليها حتى توارت، وندم الحواريّون حيث يأكلوا منها. وقيل: إنّها نزلت أربعين يوماً، كانت تنزل يوماً وتنقطع يوماً، وأمر الله عيسى أن يعدو إليها الفقراء دون الأغنياء، ففعل ذلك، فاشتدّ على الأغنياء وجحدوا نزولها وشكّوا في ذلك وشكّكوا غيرهم فيها، فأوحى الله إلى عيسى: إنّي شرطت أن أعذّب المكذّبين عذاباً لا أعذّب به أحداً من العالمين، فمسخ منهم ثلاثمائة وثلاثة وثلاثين رجلاً فأصبحوا خنازير، فلمّا رأى الناس ذلك فزعوا الى عيسى وبكوا وبكى عيسى على الممسوخين، فلما أبصرت الخنازير عيسى بكوا وطافوا به وهو يعدوهم بأسمائهم ويشيرون برؤوسهم ولا يقدرون على الكلام، فعاشوا ثلاثة أيام ثم هلكوا. ذكر رفع المسيح إلى السماءونزوله إلى أمّه وعوده إلى السماء قيل: إنّ عيسى استقبله ناسٌ من اليهود، فلمّا رأوه قالوا: قد جاء الساحر ابن الساح الفاعل ابن الفاعلة وقذفوه وأمّه، فسمع ذلك ودعا عليهم، فاستجاب الله دعاءه ومسخهم خنازير، فلمّا رأى ذلك رأى بني اسرائيل فزع وخاف وجمع كلمة اليهود على قتله، فاجتمعوا عليه، فسألوه، فقال: يا معشر اليهود إنّ الله يبغضكم، فغضبوا من مقالته وثاروا إليه ليقتلوه، فبعث إليه جبرائيل فأدخله في خوخة إلى بيت فيها روزنة في سقفها فرعه إلى السماء من تلك الروزنة، فأمر رأس اليهود رجلاً من أصحابه اسمه قطيبانوس أن يدخل إليه فيقتله، فدخل فلم ير أحداً، وألقى الله عليه شبه المسيح، فخرج إليم فظنّوه عيسى، فقتلوه وصلبوه. وقيل: إن عيسى قال لأصحابه: أيّكم يحبّ أن يُلقى عليه شبهي وهو مقتول؟ فقال رجل منهم: زنا يا روح الله، فألقي عليه شبهه، فقتل وصلب. وقيل: إنّ الذي شبّه بعيسى وصلب رجل اسرائيلي اسمه يوشع أيضاً. وقيل لما أعلم الله المسيح أنه خارج من الدنيا جزع منالموت فدعا الحواريّين فصنع لم طعاماً فقال: احضروني اللّيلة فإنّ لي إليكم حاجة، فلمّا اجتمعوا عشّاهم وقام يخدمهم، فلما فرغوا أخذ يغسل أيديهم بيده ويمسحها بثيابه، فتعاظموا ذلك وكرهوه، فقال: من يردّ عليّ الليّلة شيئاً مما أصنع فليس مني، فأقرّوه حتى فرغ من ذلك، ثمّ قال: أمّا ما خدمتكم على الطعام وغسلت أيديكم بيدي فليكن لكم بي أسوة فلا يتعاظم بعضكم على بعض، وأمّا حاجتي التي أستغيثكم عليها فتدعون الله لي وتجتهدون في الدعاء أن يؤخّر أجلي، فلمّا نصبوا أنفسهم للدّعاء أخذهم النومُ حتى ما يستطيعون الدعاء، فجعل يوقظهم ويقول: سبحان الله ما تصبرون لي ليلة قالوا: والله ما ندري ما لنا، لقد كنّا نسمر فنكثر السمر ومانقدر عليه اللّيلة، وكلّما أردنا الدعاء حيل بيننا وبينه، فقال: يذهب بالراعي ويتفرّق الغنم؛ وجعل ينعى نفسه، ثمّ قال: ليكفرنّ بي أحدكم قبل أن يصيح الديكُ ثلاث مرات، وليبيعني أحدكم بدراهم يسيرة وليأكلنّ ثمني. فخرجوا وتفرّقوا، وكانت اليهود تطلبه، فزخذوا شمعون، أحد الحواريين، وقالوا: هذا صاحبه.
واختلف العلماء في موته قبل رفعه إلى السماء، فقيل: رُفع ولم يمت، وقيل: توفّاه الله ثلاث ساعات وقيل سبع ساعات، ثمّ أحياه ورفعه، ولما رُفع إلى السماء قال الله له: انزل: فلمّا قالوا لشمعون عن المسيح جحد وقال: ما أنا صاحبه فتركوه، فعلوا ذلك ثلاثاً، فلما سمع صياح الديك بكى وأحزنه ذلك، وأتى أحد الحواريين الى اليهود فدّلّهم على المسيح وأعطوه ثلاثين درهماً فأتى معهم إلى البيت الذي فيه المسيح، فدخله، فرفع الله المسيح وألقى شبهه على الذي دلهم عليه، فأخذوه وأوثقوه وقادوه وهم يقولون له: أنت كنت تحيي الموتى وتفعل كذا وكذا فهلاّ تنجي نفسك؟ وهو يقول: أنا الذي دلّكم عليه، فلم يصغوا إلى قوله ووصلوا به إلى الخشبة وصلبوه عليها. وقيل: إنّ اليهود لما دلّهم عليه الحواريّ اتّبعوه وأخذوه من البيت الذي كان فيه ليصلبوه، فأظلمت الأرض، وأرسل الله ملائكة فحالوا بينهم وبينه، وألقى شبه المسيح على الذي دلّهم عليه، فأخذوه ليصلبوه، فقال: أنا الذي دلّكم عليه، فلم يلفتوا إليه فقتلوه وصلبوه عليها، ورفع الله المسيح إليه بعد أن توفّاه ثلاث ساعات، وقيل: سبع ساعات، ثمّ أحياه ورفعه، ثمّ قال له: انزل إلى مريم، فإنّه لم يبكِ عليك أحد بكاءها ولم يحزن أحد حزنها، فنزل عليها بعد سبعة أيام، فاشتعل الجبل حين هبط نوراً، وهي عند المصلوب تبكي ومعها امرأة كان أبرأها من الجنون، فقال: ما شأنكما تبكيان؟ قالتا: عليك قال: إني رفعني الله إليه ولم يصبني إلا خير، وإنّ هذا شيء شُبّه لهم، وأمرها فجمعت له الحواريّين، فبثّهم في الأرض رسلاً عن الله وأمرهم أن يبلغوا عنه ما أمره الله به، ثمّ رفعه الله إليه وكساه الريش وألبسه النّور وقطع عنه لذّة المطعم والمشرب، وطار مع الملائكة، فهو معهم، فصار إنسيّاً ملكيّاً أرضيّاً، فتفرّق الحواريّون حيث أمرهم، فتلك الليلة التي أهبطه الله فيها هي التي تدخن فيها النصارى، وتعدّى اليهود على بقيّة الحواريّين يعذّبونهم ويشتمونهم، فسمع بذلك ملك الروم، واسمه هيرودس، وكانوا تحت يده، وكان صاحب وثن، فقيل: له: إنّ رجلاً كان في بني اسرائيل وكان يفعل الآيات من إحياء الموتى وخلق الطير من الطين والإخبار عن الغيوب فعدوا عليه فقتلوه، وكان يخبرهم أنّه رسول الله، فقال الملك: ويحكم ما منعكم أن تذكروا هذا من زمره، فوالله لو علمتُ ما خلّيتُ بينهم وبينه ثم بعث إلى الحواريين فانتزعهم من أيدي اليهود وسألهم عن دين عيسى، فزخبروه، وتابعهم على دينهم واستنزل المصلوب الذي شُبّه لهم فغيّبه، وأخذ الخشبة التي صُلب عليها فأكرمها وصانها، وعدا على بني اسرائيل فقتل منهم قتلى كثيرة، فمن هناك كان أصل النصرانيّة في الروم. وقيل: كان هذا الملك هيرودس ينوب عن ملك الروم الأعظم الملقّب قيصر، واسمه طيباريوس، وكان هذا أيضاً يسمّى ملكاً، وكان ملك طيباريوس ثلاثاً وعشرين سنة، منها إلى ارتفاع المسيح ثماني عشرة سنة وأيام. ذكر من ملك من الروم بعد رفع المسيحإلى عهد نبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم
زعموا أن ملك الشام جميعه صار بعد طيباريوس إلى ولده جايوس، وكان ملكه أربع سنين، ثمّ ملك بعده ابن له آخر اسمه قلوديوس أربع عشرة سنة، ثمّ ملك بعده نيرون الذي قتل بطرس وبولس فصلبهما منكّسين أربع عشرة سنة، ثمّ ملك بعده بوطلايس أربعة أشهر، ثمّ ملك اسفسيانوس، وهذا الذي وجّه ابنه طيطوس الى البيت المقدس فهدمه وقتل من بني اسرائيل غضباً للمسيح، ثم ملك ابنه طيطوس، ثمّ ملك أخوه دومطيانوس ستّ عشرة سنة، ثم ملك بعده نارواس ستّ سنين، ثم ملك من بعده طرايانوس تسع عشرة سنة، ثم ملك بعده هدريانوس إحدى وعشرين سنة، ثمّ ملك من بعده أنطونينوس بن بطيانوس اثنتين وعشرين سنة، ثمّ ملك مرقوس وأولاده تسع عشرة سنة، ثمّ ملك بعده قومودوس ثلاث عشرة سنة، ثمّ ملك من بعده فرطيناجوس ستّة أشهر، ثمّ ملك بعده سيواروش أربع عشرة سنة، ثمّ ملك بعده انطينانوس سبع سنين، ثم ملك من بعده مرقيانوس ستّ سنين، ثمّ ملك من بعده انطينانوس أربع سنين، وفي ملكه مات جالينوس الطبيب، ثمّ ملك الخسندروس ثلاث عشرة سنة، ثم ملك مكسيمانوس ثلاث سنين، ثمّ ملك جورديانوس ستّ سنين، ثمّ فيلفوس سبع سنين، ثم ملك داقيوس ستّ سنين، ثمّ ملك قالوس ستّ سنين، ثمّ ملك والرييانوس وقالينوس خمس عشرة سنة، ثمّ ملك قلوديوس سنة، ثمّ ملك قريطاليوس شهرين، ثمّ ملك أورليانوس خمس سنين، ثمّ ملك طيقطوس ستة أشهر، ثمّ ملك فولورنوس خمسة وعشرين يوماً، ثمّ ملك فروبوس ستّ سنين ثم قوروس وابناه سنتين، ثم ملك دقلطيانوس ستّ سنين، ثم ملك مخسيميانوس عشرين سنة، ثمّ قسطنطين ثلاثين سنة، ثمّ ملك يليانوس سنتين، ثم ملك يويانوس سنة، ثم ملك والنطيانوس وغرطيانوس عشر سنين، ثمّ ملك خرطيانوس ووالنطيانوس الصغير سنة، ثمّ ملك تيداسيس الأكبر سبع عشرة سنة، ثمّ ارقاديوس وانورويوس عشرين سنة، ثمّ ملك تياداسيس الأصغر ووالنطيانوس ستّ عشرة سنة، ثم ملك مرقيانوس سبع سنين، ثم لاو ستّ عشرة سنة، ثمّ ملك زانون ثماني عشرة سنة، ثمّ ملك انسطاس سبعاً وعشرين سنة، ثمّ ملك يوسطينانوس تسع سنين، ثم ملك يوسطينانوس الشيخ عشرين سنة، ثمّ ملك يوسطينس اثنتي عشرة سنة، ثمّ ملك طيباريوس ستّ سنين، ثمّ مريقيش وتاداسيس ابنه عشرين سنة، ثمّ ملك فوقا الذي قتل سبع سنين وستّة أشهر، ثمّ هرقل الذي كتب إليه النبيّ، صلى الله عليه وسلم، ثلاث سنين. فمن لدن عُمر البيت المقدس بعد زن أخربه بخت نصّر إلى الهجرة، علي قولهم، ألف سنة ونيف، ومن ملك الإسكندر رليها تسعمائة ونيف وعشرون سنة، فمن ذلك من وقت ظهوره الى مولد عيسى، عليه السلام، ثلاثمائة سنة وثلاث سنين، ومن مولده الى ارتفاعه اثنتان وثلاثون سنة، ومن وقت ارتفاعه الى الهجرة خمسمائة وخسم وثمانون سنة وأشهر. هذا الذي ذكره أبو جعفر من عدد ملوك الروم، وقد زخلى ذكرهم عن شيء من الحوادث التي كانت في أيّامهم، وقد سطرها غيره من العلماء بالتاريخ وخالفه في كثير منها ووافقه في الباقي مع مخالفة الاسم وضاف الى أسمائهم ذكر شيء من الحوادث في أيّامهم، وأنا أذكره مختصراً، إن شاء الله. ذكر ملوك الروم وهم ثلاث طبقات فالطبقة الأولى الصابئون
ذكر غير واحد من علماء التاريخ أن الروم غلبت الوينان، وهم ولد صوفير، والاسرائيليون يدعون أن صوفير، هو الأصفر بن نفر بن عيص بن اسحاق بن ابراهيم، وكانوا ينزلون رومية قبل غلبتهم على اليونان، وكانوا يدينون قبل النصرانيّة بمذهب الصابئين، ولهم أصنام يعبدونها على عادة الصابئين، فكان أول ملوكهم برومية غاليوس، وكان ملكه ثماني عشرة سنة، وقيل: كان ملك قبله روملس وارمانوس، وهما بنياها، وإليهما نُسبت، وأضيف الروم إليها، وإنما غاليوس أوّل من يعدّ في التاريخ لشهرته، ثمّ ملك بعده يوليوس أربع سنين وأربعة أشهر، ثم ملك أوغسطس، ومعناه الصباء، وهو أوّل من سمي قيصر، وتفسير ذلك أنّه شُقّ عنه بطن أمّه لأنّها ماتت وهي حامل به، فزخرج من بطنها، ثم صار ذلك لقباً لملوكهم، وكان ملكه ستّاً وخمسين سنة وخمسة أشهر، وأكثر المؤرخين يبتدئون باسمه لأنه أول من خرج من رومية وسيّر الجنود براً وبحراً، وغزا اليونانيين، واستولى على ملكهم، وقتل قلوبطرة آخر ملوكهم، واستولى على الاسكندرية ونقل ما فيها الى رومية، وملك الشام، واضمحلّ ملك اليونانيين، ودخلوا في الروم، واستخلف على البيت المقدس هيرودس بن أنطيقوس؛ ولاثنتين وأربعين سنة من ملكه كانت والدة المسيح، وهو الذي بنى قيصارية. ثمّ ملك بعده طيباريوس ثلاثاً وعشرين سنة، وهو الذي بنى مدينة طبرية، فأضيفت إليه، وعرّبها العرب؛ وفي ملكه رفع المسيح، عليه السلام، وملك بعد رفعه ثلاث سنين. ثم ملك بعده ابنه غايوس أبرع سنين، وهو الذي قتل اصطفنوس رئيس الشمامسة عند النصارى ويعقوب أخا يوحنّا بن زبدي، وهما من الحواريّين، وقتل خلقاً من النصارى، وهو أوّل الملوك من عبّاد الأصنام قتل النصارى. ثم ملك قلوديوس بن طيباريوس أربع عشرة سنة، وفي ملكه حبس شمعون الصفا، ثم خلص شمعون من الحبس وسار الى انطاكية، فدعا الى النصرانية، ثم سار الى رومية فدعا أهلها أيضاً، فأجابته زوجة الملك وسارت إلى البيت المقدس وأخرجت الخشبة التي تزعم النصارى أن المسيح صلب عليها، وكانت في أيدي اليهود، فأخذتها وردتها الى النصارى. ثمّ ملك نيرون ثلاث عشرة سنة وثلاثة أشهر، وفي آخر ملكه قتل بطرس وبولس بمدينة رومية وصلبهما منكّسين، وفي أيّامه ظفرت اليهود بيعقوب بن يوسف، وهو أول الاساقفة بالبيت المقدس، فقتلوه وأخذوا خشبة الصليب فدفنوها، وفي أيّامه كان مارينوس الحكيم صاحب كتاب الجغرافيا في صورة الأرض. ثمّ ملك بعده غلباس سبعة أشهر؛ ثم ملك أوثون ثلاثة أشهر؛ ثم ملك بيطاليس أحد عشر شهراً، ثمّ ملك اسباسيانوس سبع سنين وسبعة أشهر، وفي أيامه خالف أهل البيت المقدس قيصر فحصرهم وافتتح المدينة عنوةً وقتل كثيراً من زهلها من اليهود والنصارى وعمّهم الأذى في أيّامه. ثمّ ملك بانه طيطوس سنتين وثلاثة أشهر، وفي أيّامه أظهر مرقيون مقالته بالاثنين، وهما: الخير والشرّ، وبعد ثالث بينهما، وإليه تنسب المرقونية؛ وهو من أهل حرّان. ثمّ ملك ذومطيانش بن اسباسيانوس خمس عشرة سنة وعشرة أشهر، ولتسع سنين من ملكه بمدينة أفسيس، ثمّ ملك إيليا اندريانوس عشرين سنة، وقتل من اليهود والنصارى خلقاً كثيراً لخلاف كان منهم عليه، وأخرب البيت المقدس، وهو آخر خرابه، فلمّا مضى من ملكه ثماني سنين عمره أيضاً وسمّاه إيليا، فبقي الاسم عليه، فكان قبل ذلك يسمّى أورشلم، وأسكن المدينة جماعةً من الروم واليونان، وبنى هيكلاً عظيماً للزّهرة، وكان علاي البنيان، فهدم من أعلاه كثير، وهو باق الى يومنا هذا، وهو سنة ثلاث وستّمائة، وقد رأيته، وهو محكم البناء، ولا أدري كيف نُسب الى داود وقد بني بعده بدهر طويل، على أنني سمعت بالبيت المقدّس من جماعة يذكرون أنّ داود بناه وكان يتفرّغ فيه لعبادته. وفي أيّام هذا الملك كان ساقيدس الفيلسوف الصامت.
ثمّ ملك أنطنينس بيوس اثنتين وعشرين سنة، وفي أيّامه كان بطلميوس صاحب المجسطي والجغرفايا وغيرهما؛ وقيل: إنّه من ولد قلوديوس، ولهذا قيل له القلوديّ نسبة إليه، وهو السادس من ملوك الروم، ودليل كونه في هذا الزمان وليس من ملوك اليونان أنّه ذكر في كتاب المجسطي أنه رصد الشمس بالإسكندرية سنة ثمانمائة وثمانين لبخت نصّر، وكان من ملك بخت نصّر الى قتل دارا أربعمائة وتسع وعشرون سنة وثلاثمائة وستّة عشر يوماً، ومن قتل دارا الى زوال ملك قلوبطرة لملكة آخر ملوك اليونان على يد أوغسطس مائتا سنة وستّ وثمانون سنة، ومذ غلبة أوغسطس الى انطنينوس مائة وسبع وستّون سنة، فمذ ملك بخت نصّر الى أدريانوس ثمانمائة وثلاث وثمانون سنة تقريباً، وهذا موافق لما حكاه بطلميوس. قال: ومن زعم أنّ ابن قلوبطرة آخر ملوك اليونانيهين فقد أبطل ذكر هذا بعض العلماء بالتاريخ وعدّ موك اليونان وذكر مدّة ملكهم على ما قال، وأمّا أبو جعفر الطبريّ فإنّه ذكر في مدّة مُلكهم ماذتي سنة وسبعاً وعشرين سنة، على ما تقدّم ذكره. ثمّ ملك بعده مرقس، ويسمّي أورليوس، تسع عشرة سنة، وفي ملكه أظهر ابنُ ديصان مقالته، وكان أسقفاً بالرّهاء، وهو من القائلين بالاثنين، ونسب الى نهر على باب الرّهاء يسمى ديصان وجد عليه منبوذاً، وبنى على هذا النهر كنيسة. ثم ملك فومودوس اثنتي عشرة سنة، وفي أيّامه كان جالينوس قد أردك بطلميوس القلودي، وكان دين النصرانيّة قد ظهر في أيّامه وذكرهم في كتابه في : جوامع كتاب أفلاطون في السياسة. ثمّ ملك برطينقش ثلاثة أشهر؛ ثمّ ملك يوليانوس شهرين، ثمّ ملك سيوارس سبع شعرة سنة، وشمل اليهود في أيّامه القتل والتشريد، وبنى بالاسكندرية هيكلاً عظيماً سمّاه هيكل الآلهة. ثمّ ملك انطونيوس ستّ سنين، ثمّ ملك مقرونيوس سنة وشهرين، ثمّ ملك أنطونيوس الثاني زربع سنين، ثمّ ملك الاكصندروس، ويلقّب مامياس، ثلاث عشرة سنة، ثم مل مقسميانوس ثلاث سنين، ثم ملك مقسموس ثلاثة أشهر، ثم ملك غرديانوس ستّ سنين، ثم ملك فيلبوس ستّ سنين، وتنصّر وترك دين الصابئين وتبعه كثيرٌ من زهل مملكته واختلفوا لذلك، وكان فيمن خالفه بطريق يقال له داقيوس، قتل فيلبوس واستولى على الملك، ثم ملك بعد فيلبوس داقيوس ينتين وتتبّع النصارى، فهرب منه أصحاب الكهف الى غار في جبل شرقيّ مدينة أفسيس، وقد خربت المدينة، وكان لبثهم فيه مائة وخمسين سنة. وهذا باطل لأنّه علي هذا السياق من حين رفع المسيح الى الآن نحو مائتي سنة وخمس عشرة سنة، وكان لبث أصحاب الكهف علي ما نطق به القرآن المجيد (ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعاً) الكهف: 25 فذلك خمسمائة سنة وأربع وعشرون سنة، فعلى هذا يكون ظهورهم قبل الإسلام بنحو ستّين سنة، وقد ذكرنا من لدن ظهورهم الى الهجرة زيادة على مائتي سنة، فهذه الجملة أكثر من الفترة بين المسيح والنبيّ، عليهما الصلاة والسلام، إلا أنّ هذا الناقل قد ذكر أن غيبتهم كانت ماذة وخمسين سنة على ما نراه مذكوراً، وفيه مخالفة للقرآن، ولولا نصّ القرآن لكان استقام له ما يريد. ثمّ ملك بعده غاليوس سنتين، وكان شريكه في الملك يوليانوس، ملك خمس عشرة سنة، ثم ملك قلوديوس، ثم ملك ابنه اورليانوس ستّ سنين، ثم ملك طافسطوس وأخوه فورس تسعة أشهر، ثمّ بروبس تسع سنين، ثمّ ملك قاروس سنتين وخمسة أشهر، ثمّ ملك دقلطيانوس سبع عشرة سنة، ثمّ ملك مقسيمانوس وشاركه مقسنطيوس، ثمّ اقتتلا فاقتسما الملك، فملك الأب علي الاشم وبلاد الجزيرة وبعض الروم، وملك الابن رومية وما اتصل بها من أرض الفرنج، وملكا تسع سنين، وتملك معهما قسطنس أبو قسطنطين بلاد بورنطيا وما يليها، وهي نواحي القسطنطينيّة، ولم تكن بنيت حينئذٍ، ثمّ مات قسطنس وملك بعده ابنه قسطنطين المعروف بزمّه هيلاني، وهو الذي تنصّر.
قال: ومن أول ملوك الروم الى ها هنا كانوا شبيهاً بملوك الطوائُ لا ينضبط عددهم، وقد اختلف الناس فيهم كاختلافهم في ملوك الطوائف، وإنّما الذي يعوَّل عليه من قسطنطين الى هرقل الذي بعث محمد، صلى الله عليه وسلم، في أيامه، ولقد صدق قائل هذا فإنّ فيه من الاختلاف والتناقض ما ذكرنا بعضه عند ذكر دقيوس وأصحاب الكهف، ولهذه العلّة لم يذكر الطبريّ أصحاب الكهف في زمان أيّ الملوك كانوا، وإنّما ذكرناه نحن لما في أيّام الملوك من الحوادث. الطبقة الثانية من ملوك الروم المتنصّرة ثم ملك قسطنطين المعروف بزمّه هيلانى في جميع بلاد الروم، وجرى بينهوبين مقسيمانوس وابنه حروب كثيرة، فلمّا ماتا استولى على الملك وتفرّد به، وكان ملكه ثلاثاً وثلاثين سنة وثلاثة أشهر، وهو الذي ت | |
|
| |
الشيخ عودة الشيخ عودة
عدد المساهمات : 1748 تاريخ التسجيل : 28/09/2008 العمر : 74
| موضوع: رد: كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير الخميس فبراير 06, 2014 8:33 am | |
| ثمّ ملك بعده أرقاديوس بن تدوس ثلاث عشرة سنة، ثمّ ملك تدوس الصغير بن تدوس الكبير اثنتين وأربعين سنة، ولإحدي وعشرين سنة من ملكه كان السنهودس الثالث بمدينة أفسس، وحضر هذا المجمع مائتا أسقف، وكان سببه ما ظهر من نسطورس بطرق القسطنطينيّة، وهو رأس النسطورية من النصارى، من مخالفة مذهبهم، فلعنوه ونفوه، فسار الى صعيد مصر فأقام ببلاد إخميم ومات بقرية يقال لها سيصلح، وكثر أتباعه، وصار بسبب ذلك بينهم وبين مخالفيهم حرب وقتال، ثمّ دثرت مقالته إلى أن أحياها برصوما مطران نصيبين قديماً. ومن العجائب أن الشهرستاني مصنّف كتاب: نهاية الاقدام في الأصول، ومصنّف كتاب: الملل والنحل، في ذكر المذاهب والآراء القديمة والجديدة، ذكر فيه أنّ نسطور كان أيّام المأمون، وهذا تفرّد به، ولا أعلم له في ذلك موافقاً. ثمّ ملك بعده مرقيان ستّ سنين، وفي أوّل سنة من ملكه كان السنهودس الرابع على قسقرس برطق القسطنطينية، اجتمع فيه ثلاثمائة وثلاثون أسقفاً، وفي هذا المجمع خالفت اليعقوبية سائر النصارى. ثمّ ملك ليون الكبير ستّ عشرة سنة، ثمّ ملك ليون الصغير سنة، وكان يعقوبيّ المذهب، ثمّ ملك زينون سبع سنين، وكان يعقوبياً، فزهد في الملك فاستخلف ابناً له، فهلك، فعاد الى الملك، ثمّ ملك نسطاس سبعاً وعشرين سنة، وكان يعقوبيّ المذهب، وهو الذي بنى عمّورية، فلمّا حفر أساسها أصاب فيه مالاً وفي بالنفقة على بنائها وفضل منه شيء بنى به بيعاً وأديرة. ثم ملك يوسطين سبع سنين، واكثر القتل في اليعقوبية. ثمّ ملك يوسطانوس تسعاً وعشرين سنة، وبنى بالرّهاء كنيسة عجيبة، وفي أيّامه كان السنهودس الخامس بالقسطنطينية، فحرموا أدريحا أسقف منبج لقوله بتناسخ الأرواح في أجساد الحيوان، وإنّ الله يفعل ذلك جزاء لما ارتكبوه، وفي أيّامه كان بين اليعاقبة والملكيّة ببلاد مصر فتن؛ وفي أيّامه ثار اليهود بالبيت المقدس وجبل الخليل على النصارى فقتلوا منهم خلقاً كثيراً؛ وبنى الملك من البيع والأديرة شيئاً كثيراً؛ ثم ملك يوسطينوس ثلاث عشرة سنة وفي أيامه كان كسرى أنوشروان؛ ثمّ ملك طباريوس ثلاث سنين وثمانية أشهر، وكان بينه وبين أنوشروان مراسلات ومهاداة، وكان مغرىً بالبناء وتحسينه وتزويقه. ثمّ ملك موريق عشرين سنة وأربعة أشهر، وفي أيّامه ظهر رجل من زهل مدينة حماه يُعرف بمارون إليه تنسب المارونيّة من النصارى، وأحدث رأياً يخالف من تقدّمه، وتبعه خلقٌ كثير بالشام، ثمّ إنهم انقرضوا ولم يعرف الآن منهم أحد. وهذا موريق هو الذي قصده كسرى أبرويز حين انهزم من بهرام جوبين فزوّجه ابنته وأمدّه بعساكره وأعاده الى ملكه، على ما نذكره إن شاء الله. ثمّ ملك بعده فوقاس، وكان من بطارقة موريق، فوثب به فاغتاله فقتله وملك الروم بعده، وكان ملكه ثماني سنين وأربعة أشهر، ولما ملك تتبّع ولد موريق وحاشيته بالقتل، فلمّا بلغ ذلك أبرويز غضب وسيّر الجنود الى الشام ومصر فاحتوى عليهما وقتلوا من النصارى خلقاً كثيراً، وسيرد ذلك عند ذكر أبرويز. ثمّ ملك هرقل، وكان سبب ملكه أن عساكر الفرس لما فتكت في الروم ساروا حتى نزلوا على خليج القسطنطينية وحصروها، وكان هرقل يحمل الميرة في البحر الى أهلها، فحسن موقع ذكل من الروم وبانت شهامته وشجاعته وأحبّ الروم فحملهم على الفتك بفوقاس وذكرهم سوء آثاره، ففعلوا ذلك وقتلوه وملّكوا عليهم هرقل. ذكر الطبقة الثالثة من ملوك الروم بعد الهجرةفأولهم هرقل، قد ذكر سبب ملكه، وكان مدّة ملكه خمساً وعشرين سنة، وقيل: إحدي وثلاثين سنة؛ وفي أيّامه كان النبيّ، صلى الله عليه وسلم، ومنه ملك المسلمون الشام. ثمّ ملك بعده ابنه قسطنطين، وقيل: هو ابن أخيه قسطنطين، وكان ملكه تسع سنين وستّة أشهر، وسيرد خبره عند ذكر غزاة الصواري، إن شاء الله. وفي أيّامه كان السنهودس السادس على لعن رجل يقال له قورس الإسكندري خالف الملكية ووافق المارونية.
ثمّ ملك بعده ابنه قسطا خمس عشرة سنة في خلافة عليّ، عليه السلام، ومعاوية، ثمّ ملك هرقل الأصغر بن قسطنطين أربع سنين وثلاثة أشهر، ثمّ ملك قسطنطين بن قسطا ثلاث عشرة سنة بعض أيّام معاوية وأيّام يزيد وبانه معاوية ومروان بن الحكم وصدراً من أيّام عبد الملك، ثمّ ملك أسطنان، المعروف بالأخرم، تسع سنين أيّام عبد الملك، ثمّ خلعه الروم وخرموا أنفه وحمل إلى بعض الجزائر، فهرب ولحق بملك الخزر واستنجده فلم ينجده، فانتقل الى ملك برجان؛ ثم ملك بعده لونطش ثلاث سنين أيّام عبد الملك، ثمّ ترك الملك وترّهب؛ ثم ملك ابسمير، المعروف بالطرسوسي، سبع سنين، فقصده أسطينان ومعه برجان وجرى بينهما حروب كثيرة وظفر به أسطنان وخلعه وعاد الى ملكه، فكان ذلك أيّام الوليد بن عبد الملك، واستقرّ أسطينان، وكان قد شرط لملك برجان أن يحمل إليه خراجاً كل سنة، فعسف الروم وقتل بها خلقاً كثيراً، فاجتمعوا عليه وقتلوه، فكان ملكه الثاني سنتين ونصفاً، وكان قتله أول دولة سليمان بن عبد الملك؛ ثم ملك نسطاس بن فيلفوس، وكان في أيّامه اختلاف بين الروم فخلعوه ونفوه. ثمّ ملك تيدوس المعروف بالأرمنيّ في أيّام سليمان بن عبد الملك أيضاً، وهو الذي حصره مسلمة بن عبد الملك؛ ثمّ ملك بعده اليون بن قسطنطين لضعفه عن الملك، وضمن أليون للروم ردّ المسلمين عن القسطنطينية، فملّكوه، فكان ملكه ستاً وعشرين سنة، ومات في السنة التي بويع فيها الوليد بن يزيد بن عبد الملك. ثمّ ملك بعده ابنه قسطنطين إحدى وعشرين سنة، وفي أيّامه انقرضت الدولة الزموية، وتوفي لعشر سنين مضت من أيام المنصور، ثم ملك بعده ابنه اليون تسع عشرة سنة وأربعة أشهر بقيّة أيّام المنصور، وتوفي في خلافة المهدي، ثمّ ملك بعده ريني امرأة اليون بن قسطنطين، ومعها ابنها قسطنطين بن اليون، وهي تدبّر الزمر بقية أيام المهديّ والهادي وصدراً من خلافة الرشيد، فلما كبر ابنها أفسد ما بينه وبين الرشيد، وكانت أمّه مهادنة له، فقصده الرشيد وجرى له معه وقعة، فانهزم وكاد يؤخذ، فكحلته أمّه وانفردت بالملك بعده خمس سنين وهادنت الرشيد. ثمّ ملك بعدها نقفور، أخذ الملك منها، وكان ملكه سبع سنين وثلاثة أشهر، وهو نقفور أبو استبراق، وكنت قد رأيته مضبوطاً بكثير من الكتب بسكون القاف، حتى رأيت رجلاً زعم أن اسمه نقفور، بفتح القاف. وعهد نقفور الى ابنه استبراق بالملك بعده، وهو أول من فعل ذلك في الروم، ولم يكن يعرف قبله، وكانت ملوك الروم قبل نقفور تحلق لحاها، وكذلك ملوك الفرس، فلم يفعله نقفور، وكانت ملوك الروم قبله تكتب: من فلان ملك النصرانيّة، فكتب نقفور: من فلان ملك الروم، وقال: لست ملك النصرانيّة كلها، وكانت الروم تسمّي العرب سارقيوس، يعني: عبيد سارة، بسبب هاجر أم اسماعيل، فنهاهم عن ذلك وجرى بين نقفور وبين برجان حرب سنة ثالث وتسعين ومائة فقتل فيها. ثمّ ملك بعده ابنه استبراق بعهد من أبيه إليه، وكان ملكه شهرين، ثمّ ملك بعده ميخائيل بن جرجس، وهو ابن عمّ نقفور، وقيل: ابن استبراق، وكان ملكه سنتين في أيّام الأمين، وقيل أكثر من ذلك، فوثب به اليون المعروف بالبطريق وغلب على الأمر وحبسه، ثم ملك بعده اليون البطريق سبع سنين وثلاثة أشهر، فوثب به أصحابُ ميخائيل في خلاص صاحبهم وقتل اليون ثم فتح لم ذلك وعاد ميخائيل الى الملك، وقيل: إنه كان قد ترهب أيام اليون، وكان لمكه هذه الدفعة الثانية تسع سنين، وقيل أكثر من ذلك. ثمّ ملك بعده ابنه توفيل بن ميخائيل أربع عشرة سنة، وهو الذي فتح زبطرة، وسار المعتصم بسبب ذلك وفتح عمّورية، وكان موته أيّام الواثق. ثمّ ملك بعده ابنه ميخائيل ثمانياً وعشرين سنة، وكانت أمّه تدبر الملك معه، وزراد قتلها فترهبت، وخرج عليه رجل من أهل عمّورية من أبناء الملوك السالفة يعرف بابن بقراط، فلقيه ميخائيل فيمن عنده من أسارى المسلمين، فظفر به ميخائيل فمثل به، ثمّ خرج عليه بسيل الصقلبي فاستولى على الملك وقتل ميخائيل سنة ثلاث وخمسين ومائتين. ثمّ ملك بعده بسيل الصقلبيّ عشرين سنة أيّام المعتزّ والمهتدي وصدراً من أيام المعتمد، وكانت أمّه صقلبية فنسب إليها.
وقد غلط حمزة الأصفهاني فيه فقال عند ذكر ميخائيل: ثم انتقل الملك عن الروم وصار في الصقلب فقتله بسيل الصقلبيّ ظناً منه أنّ أباه كان صقلبياً. ثمّ ملك بعده ابنه اليون بن بسيل ستاً وعشرين سنة أيّام المعتمد والمعتضد والمكتفي وصدراً من أيّام المقتدر، وقيل: إنّ وفاته كانت سنة سبع وتسعين ومائتين. ثمّ ملك أخوه الأسكندروس سنة وشهرين ومات بالدبيلة، وقيل: إنه اغتيل لسوء سيرته، ثم ملك بعده قسطنطين بن اليون، وهو صبيّ، وتولى الأمر له بطريق البحر، واسمه ارمانوس، وشرط على نفسه شروطاً، منها أنه لا يطلب الملك ولا يلبس التاج لا هو ولا زحد من أولاده، فلم يمض غير سنتين حتى خوطب هو وأولاده بالملوك وجلس مع قسطنطين على السرير، وكان له ثلاثة من الولد، فخصى أحدهم وجعله بطرقاً ليأمن من المنازعة، فإنّ البطرق يحكم على الملك، فبقي على حاله إلى سنة ثلاثين وثلاثمائة من الهجرة، فاتفق ابناه مع قسطنطين الملك على إزالة أبيهما، فدخلا عليه وقبضاه وسيّراه الى دير له في جزيرة بالقرب من القسطنطينية، وأقام ولداه مع قسطنطين نحو أربعين يوماً وأرادا الفتك به، فسبقهما إلى ذلك وقبض عليهما وسيرهما الى جزيرتين في البحر، فوثب أحدهما بالموكّل به فقتله، وأخذه أهل تلك الجزيرة فقتلوه وأرسلوا رأسه الى قسطنطين الملك، فجزع لقتله. وأمّا ارمانوس فإنه مات بعد أربع سنين من ترهبّه، ودام ملك قسطنطين بقيّة أيّام المقتدر والقاهر والراضي والمستكفي وبعض أيّام المطيع، ثمّ خرج على قسطنطين هذا قسطنطين بن أندرونقس، وكان أبوه قد توجّه إلى المكتفي سنة أربع وتسعين ومائتين وأسلم على يده وتوفّي، فهرب ابنه هذا علي طريق أرمينية وأذربيجان الى بلاد الروم، فاجمع عليه خلق كثير وكثر أبتاعه، فسار الى القسطنطينية ونازع الملك قسطنطين في ملكه، وذلك سنة إحدى وثلاثمائة، فظفر به الملك فقتله. وخرج عن طاعته أيضاً صاحب رومية، وهي كرسيّ ملك الإفرنج، وتسمى بالملك، ولبس ثياب الملوك، وكانوا قبل ذلك يطيعون ملوك الروم أصحاب القسطنطينية ويصدرون عن أمرهم، فلمّا كان سنة أربعين وثلاثمائة قوي ملك رومية، فخرج عن طاعته، فأرسل إليه قسنطين العساكر يقاتلونه ومن معه من الفرنج، فالتقوا واقتتلوا، فانهزمت الروم وعادت الى القسطنطينية منكوبة، فكفّ حينئذٍ قسطنطين عن معارضته ورضي بالمسالمة وجرى بينهما مصاهرة، فزوّج قسنطين ابنه أرمانوس بابنة ملك رومية، ولم يزل أمر الإفرنج بعد هذا يقوى ويزداد ويتسع ملكهم كالاستيلاء على بعض بلاد الأندلس، على ما نذكره، وكأخذهم جزيرة صقلية وبلاد ساحل الشام والبيت المقدس، وعلى ما نذكره، وفي آخر الأمر ملكوا القسطنطينيّة سنة إحدي وستمائة، على ما نذكره إن شاء الله. ومما ينبغي أن يلحق بهاذ أنّ الطوائف من الترك اجتمعت، منهم: البجناك والبختي وغيرهما، وقصدوا مدينة للروم قديمة تسمى وليدر سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة وحصروها، فبلغ خبرهم الى أرمانوس، فسيّر إليهم عسكراً كثيفاً فيهم من المتنصّرة اثنا عشر ألفاً، فاتتلوا قتالاً شديداً، فانهزم الروم، واستولى الترك على المدينة وخرّبوها بعد أن أكثروا القتل فيها والسبي والنهب، ثمّ ساروا الى القسطنطينية وحصروها أربعين يوماً وأغاروا على بلاد الروم واتّصلت غاراتهم الى بلاد الإفرنج، ثمّ عادوا راجعين. ذكر وصول قبائل العرب الى العراق ونزولهم الحيرة
قال ابن الكلبيّ: لما مات بخت نصّرانضمّ الذين أسكنهم الحيرة من العرب إلى أهل الأنبار وبقيت الحيرة خراباً دهراً طويلاً وأهلها بالأنبار لا يطلع عليهم قادم من العرب، فلمّا كثر أولد معدّ بن عدنان ومن كان معهم من قبائل العرب ومزّقتهم الحروب خرجوا يطلبون الريف فيما يليهم من اليمن ومشارف الشام، وأفلت منهم قبائل حتى نزلوا بالبحرين وبها جماعة من الأزد، وكان الذين أقبلوا من تهامة مالك وعمرو ابنا فهم بن تيم بن أسد بن وبرة بن قضاعة، ومالك بن زهير بن عمرو بن فهم في جماعة من قومهم، والحيقاد بن الحنق بن عمير بن قبيص بن معدّ بن عدنان في قبيص كلّها، ولحق بهم غطفان بن عمرو بن الطمثان بن عوذ مناة بن يقدم بن أفصى بن دُعمي بن إياد بن نزار بن معدّ بن عدنان وغيره من إياد، فاجتمع بالبحرين قبائل من العرب وتحالفوا على التنُّوخ، وهو المقام، وتعاقدوا علي التناصر والتساعد، فصاروا يداً واحدةً وضمّهم اسم تنوخ، وتنخ عليهم بطون من نمارة بن لخم، ودعا مالك بن زهير جديمة الأبرش بن مالك بن فهم بن غانم بن دوس الأزدي الى التنوخ معه وزوجه أخته لميس، فتنخ جديمة، وكان اجتماعهم أيام ملوك الطوائف، وإنما سمّوا ملوك الطوائف لأن كل ملك منهم كان ملكه على طائفة قليلة من الأرض. قال: ثم تطلّعت أنفس من كان بالبحرين إلى ريف العراق فطمعوا في أن يغلبوا الأعاجم في ما يلي بلاد العرب منه أو مشاركتهم فيه لاختلاف بين ملوك الطوائف، فأجمعوا علي المسير الى العراق، فكان أول من يطلع منهم الحيقاد بن الحنق في جماعة من قومه وأخلاط من الناس، فوجدوا الأرمانيين، وهم الذين ملكوا أرض بابل وما يليها الى ناحية الموصل، يقاتلون الأردوانيين، وهم ملوك الطوائف، وهو ما بين نفر، وهي قرية من سواد العراق إلى الأبلّة، فدفعوهم عن بلادهم، والأرمانيّون من بقايا إرم فلهذا سمّوا الأرمانيين، وهم نبط السواد. ثم طلع مالك وعمرو ابنا فهم بن تيم الله وغيرهما من تنوخ الى الأنبار على ملك الأرمانيين، وطلع نمارة ومن معه الى نفّر على ملك الأردوانيين، وكانوا لاي دينون للأعاجم حتى قدمها تُبّع وهو أسعد أبو كرب بن ملكيكرب في جيوشه، فخلف بها من لم يكن فيه قوّة من عسكره، وسار تُبّع ثم رجع إليهم فأقرّهم على حالهم، ورجع الى اليمن وفيهم من كلّ القبائل، ونزلت تنوخ من الأنبار الى الحيرة في الأخبية لا يسكنون بيوت المدر، وكان أول من ملك منهم مالك بن فهم، وكان منزله مما يلي الأنبار، ثم مات مالك فملك بعده أخوه عمرو بن فهم بن غانم بن دوس الأزديّ، ثمّ مات فملك بعده جديمة الأبرش بن مالك بن فهم، وقيل: إنّ جذيمة من العاربة الأولى من بني دمار بن أميم بن لوذ بن سام بن نوح، عليه السلام؛ والله أعلم. ذكر جذيمة الأبرشقال: وان جذيمة من أفضل ملوك العرب رأياً، وأبعدهم مغاراً، وأشدّهم نكاية، وأول من استجمع له الملك بأرض العراق، وضمّ إليه العرب، وغزا بالجيوش، وكان به برص فكنت العرب عنه، فقيل: الوضّاح، والأبرش، إعظاماً له، وكانت منازله ما بين الحيرة والأنبار وبقّة وهيت وعين التّمر وأطراف البّر الى العمير وخفية، تجبى إليه الأموال، وتفد إليه الوفود، وكان غزا طسماً وجديساً في منازلهم من اليمامة، فأصاب حسّان بن تبّع أسعد أبي كرب قد زغار عليهم فعاد بمن معه، وأصاب حسّان سريّة لجذيمة فاجتاحها، وكان له صنمان يقال لهما الضيزنان، وكانت إياد بعين أباغ، فذكر لجذيمة غلام من لخم في أخواله من إياد يقال له عديّ بن نصر بن ربيعة له جمال وظرف، فغزاهم جذيمة، فبعثت إياد من سرق صنميه وحملها الى إياد، فأرسلت إليه: إن صنميك أصبحا فينا زهداً فيك ورغبة فينا، فإن أوثقت لنا أن لا تغزونا دفعناهما رليك، قال: وتدفعون معهما عديّ بن نصر، فزجابوه الى ذلك وأرسلوه مع الصنمين، فضمه الى نفسه وولاه شرابه. فأبصرته رقاض أخت جذيمة فعشقته وراسلته ليخطبها الى جذيمة، فقال: لا أجترئ على ذلك ولا أطمع فيه، قالت: إذا جلس على شرابه فاسقه صرفاً واسق القوم ممزوجاً، فإذا أخذت الخمر فيه فاخطبني إليه فلن يردّك، فإذا زوّجك فأشهد القوم.
ففعل عديّ ما أمرته، فزجابه جذيمة وأملكه إيّاها، فانصرف إليها فأعرس بها من ليلته وأصبح بالخلوق، فقال له جذيمة، وأنكر ما رأى به: ما هذه الآثار يا عديّ؟ قال: اثار العرس، قال: أيّ عسر؟ قال: عرس رقاش، قال: من زوّجكها ويحك قال: الملك، فندم جذيمة وأكبّ على الأرض متفكّراً، وهرب عدّي، فلم ير له أثر ولم يسمع له بذكر، فأرسل إليها جذيمة: خبّريني وأنت لا تكذبيني ... أبحرّ زنيت أن بهجين أم بعبد فأنت أهل لعبد ... أم بدون فأنت أهل لدون فقالت: لا بل أنت زوّجتني أمرأً عربياً حسيباً ولم تستأمرني في نفسي، فكفّ عنها وعذرها، ورجع عديّ إلى إياد فكان فيهم، فخرج يوماً مع فتية متصيدين، فرمى به فتى منهم في ما بن جبلين، فتنكس فمات. فحملت رقاش فولدت غلاماً فسمته عمراً، فلمّا ترعرع وشبّ ألبسته وعطّرته وأزارته خاله، فلمّا رآه أحبّه وجلعه مع ولده، وخرج جذيمة متبديّاً بأهله وولده في سنة خصيبة، فأقام في روضة ذات زهر وغدر، فخرج ولده وعمرو معهم يجتنون الكمأة، فكانوا إذا أصابوا كمأة جيدة أكلوها، وإذا أصابها عمرو خبأها، فانصرفوا إلى جذيمة يتعادون، وعمرو يقول: هذا جناي وخياره فيه ... إذ كل جان يده في فيه فضمّه جذيمة إليه والتزمه وسرّ بقوله وفعله، وأمر فجعل له حلى من فضّة وطوق، فكان أوهل عربيّ ألبس طوقاً. فبينا هو على أحسن حالة إذ استطارته الجنّ، فطلبه جذيمة في الآفاق زماناً فلم يقدر عليه، ثمّ أقبل رجلان من بلقين قضاعة يقال لهما مالك وعقيل ابنا فارج بن مالك من الشام يريدان جذيمة، وأهديا له طرفاً، فنزلا منزلاً ومعهما قينة لهما تسمى أم عمرو، فقدّمت طعاماً، فبينما هما يزكلان إذا أقبل فتى عريان قد تلبّد شعره وطالت أظفاره وساءت حاله فجلس ناحيةً عنهما ومدّ يده يطلب الطعام، فناولته القينة كراعاً، فزكلها، ثمّ مدّ يده ثانية، فقالت: لا تعط العبد كراعاً فيطمع في الذراع فذهبت مثلاً، ثمّ سقتهما من شراب معها وأوكت زقّها، فقال عمرو بن عدي: صددت الكأس عنّا أمّ عمرو ... وكان الكأس مجراها اليمينا وما شرّ الثلاثة أمَّ عمرو ... بصاحبك الذي لا تصبحينا فسألاه عن نفه، قال: إن تنكراني أو تنكرا نسبي، فإنني أنا عمرو بن عدي، بن تنوخيّة، اللخمي، وغداً ما ترياني في نمارة غير معصي. فنهضا وغسلا رأسه وأصلحا حاله وألبساه ثياباً وقالا: ما كنّا لنهدي لجذيمة أنفس من ابن أخته فخرجا به إلى جذيمة، فسُرّ به سروراً شديداً وقال: لقد رأيته يوم ذهب وعليه طوق، فما ذهب من عيني وقلبي الى الساعة، وأعادوا عليه الطوق، فنظر إليه وقال: شبّ عمرو عن الطوق، وأرسلها مثلاً، وقال لمالك وعقيل: حكمكما، قالا: حكمنا منادمتك ما بقينا وبقيت؛ فهما ندمانا جذيمة اللذان يضربان مثلاً. وكان ملك العرب بأرض الجزيرة ومشارف الشام عمرو بن الظرب بن حسّان بن أذينة العمليقيّ من عاملة العمالقة، فتحارب هو وجذيمة، فقتل عمرو وانهزمت عساكره، وعاد جذيمة سالماً، وملكت بعد عمرو ابنته الزّبّاء، واسمها نائلة، وكان جنود الزبّاء بقايا العماليق وغيرهم، وكان لها من الفرات إلى تدمر، فلمّا استجمع لها أمرها واستحكم ملكها اجتمعت لغزو جذيمة تطلب بثأر أبيها، فقالت لها زختها ربيبة، وكانت عاقلة: إن غزوت جذيمة فإنّما هو يوم له ما بعده والحرب سجال، وأشارت بترك الحرب وإعمال الحيلة، فأجابتها إلى ذلك وكتبت إلى جذيمة تدعوه الى نفسها وملكها، وكتبت إليه أنها لم تجد ملك النساء إلاّ قبحاً في السماع وضعفاً في السلطان، وأنها لم تجد لملكها ولا لنفسها كفواً غيره. فلمّا انتهى كتاب الزبّاء إليه استخفّ ما دعته إليه وجمع إليه ثقاته، وهو ببقّة من شاطئ الفرات، فعرض عليهم ما دعته إليه واستشارهم؛ فأجمع رأيهم علي أن يسير إليها ويستولي على ملكها. وكان فيهم رجلٌ يقال له قصير بن سعد من لخم، وكان سعد تزوّج أمة لجذيمة فولدت له قصيراً، وكان أديباً حازماً ناصحاً لجذيمة قريباً منه، فخالفهم فيما أشاروا به عليه وقال: رأي فاتر، وغدر حاضر؛ فذهبت مثلاً؛ وقال لجذيمة: اكتب إليها فإن كانت صادقة فلتقبل إليك وإلا لم تمكنها من نفسك وقد وترتها وقتلت أباها.
فلم يوافق جذيمة ما أشار به قصير وقال له: لا ولكنّك امرؤ رأيك في الكِنّ لا في الضحّ؛ فذهبت مثلاً. ودعا جذيمة ابن أخته عمرو بن عديّ فاستشاره، فشجعه على المسير وقال: إنّ نمارة قومي مع الزبّاء فلو رأوك صاروا معك، فأطاعه. فقال قصير: لا يُطاع لقصير أمر، وقالت العرب: ببقّة أُبرم الأمر؛ فذهبتا مثلاً. واستخلف جذيمة عمرو بن عديّ على ملكه، وعمرو بن عبد الجنّ على خيوله معه، وسار في وجوه أصحابه، فلمّا نزل الفرضة قال لقصير: ما الرأي؟ قال: ببقّة تركت الرأي؛ فذهبت مثلاً. واستقبله رسل الزبّاء بالهدايا والألطاف، فقال: يا قصير كيف ترى؟ قال: خطرٌ يسير، وخطب كبير؛ فذهبت مثلاً؛ وستلقاك الخيول، فإن سارت أمامك فإنهّ المرأة صادقة، وإن أخذت جنبيك وأحاطت بك فإنّ القوم غادرون، فاركب العصا، وكانت فرساً لجذيمة لا تُجارى، فإني راكبها ومساريك عليها. فلقيته الكتائب فحالت بينه وبين العصا، فركبها قصير، ونظر اليه جذيمة مولياً على متنها، فقال: ويل أمّه حزماً على متن العصا فذهبت مثلاً، وقال: ما ضلّ من تجري به العصا؛ فذهبت مثلاً؛ وجرت به الى غروب الشمس، ثمّ نفقت وقد قطعت أرضاً بعيدة، فبنى عليها برجاً يقال له برج العصا، وقالت العرب: خيرٌ ما جاءت به العصا؛ مثل تضربه. وسار جذيمة وقد أحاطت به الخيول حتى دخل على الزبّاء، فلمّا رأته تكشّفت، فإذا هي مضفورة الاسب بالباء الموحدة هو شعر الاست، وقالت له: يا جذيمة أدأب عروس ترى؟ فذهبت مثلاً، فقال: بلغ المدى، وجفّ الثرى، وأمر غدر أرى؛ فذهبت مثلاً، فقالت له: أما وإلهي ما بنا من عدم مواس، ولا قلّة أواس، ولكنها شيمة من أناس؛ فذهبت مثلاً، وقالت له: أنبئت أنّ دماء الملوك شفاء من الكلب، ثمّ أجلسته على نطع وأمرت بطست من ذهب، فزعدّ له، وسقته الخمر حتى أخذت منه مأخذها ثمّ زمرت براهشيه فقطعا، وقدّمت إليه الطست، وقد قيل لها: إن قطر من دمه شيء في غير الطست طلب بدمه، وكانت الملوك لا تقتل بضرب الرقبة إلاّ في قتال تكرمةً للملك، فلما ضعفت يداه سقطتا، فقطر من دمه في غير الطست، فقالت: لا تضيعوا دم الملك فقال جذيمة: دعوا دماً ضيّعه أهله فذهبت مثلاً. فهلك جذيمة وخرج قصير من الحيّ الذين هلكت العصا بين أظهرهم حتى قدم على عمرو بن عديّ ، وهو بالحيرة، فوجده قد اختلف هو وعمرو بن عبد الجنّ فأصلح بينهما، وأطاع الناس عمرو بن عديّ، وقال له قصير: تهيّأ واستعدّ ولا تطلَّ دم خالك، فقال: كيف لي بها وهي أمنع من عقاب الجو؟ فذهبت مثلاً. وكانت الزبّاء سألت كهنةً عن أمرها وهلاكها، فقالوا لها: نرى هلاكك بسبب عمرو بن عديّ، ولكنّ حتفك بيدك، فحذرت عمراً واتخذت نفقاً من مجلسها إلى حصن لها داخل مدينتها، ثمّ قالت: إن فجأني أمر دخلت النفق الى حصني، ودعت رجلاً مصوّراً حاذقاً فأرسلته إلي عمرو بن عديّ متنكرّاً وقالت له: صوّره جالساً وقائماً ومتفضّلاً متنكرّاً ومتسلحاً بهيئته ولبسه ولونه ثم أقبل إليّ، ففعل المصوّر ما أوصته الزباء وعاد إليها، وأرادت أن تعرف عمروبن عديّ فلا تراه على حال إلاّ عرفته وحذرته. وقال قصير لعمرو: اجدع أنفي واضرب ظهري ودعني وإياها، فقال عمرو: ما أنا بفاعل، فقال قصير: خلّ عني إذاً وخلاك ذمّ؛ فذهبت مثلاً، فقال عمرو: فأنت أبصرُ، فجدع قصيرٌ زنفه ودقّ بظهره وخرج كزنه هارب وأظهر أنّ عمراً فعل ذلك به، وسار حتى قدم على الزباء، فقيل لها: إنّ قصيراً بالباب؛ فأمرت به أفدخل عليها، فإذا أنفه قد جدع وظهره قد ضرب، فقالت: لأمر ما جدع قصير أنفه؛ فذهبت مثلاً، قالت: ما الذي أرى بك يا قصير؟ قال: زعم عمرو أني غدرت خاله وزيّنت له المسير إليك ومالأتكِ عليه ففعل بي ما ترين فأقبلت إليك وعرفت أني لا أكون مع أحد هو أثقل عليه منك، فأكرمته، وأصابت عنده بعض ما أرادت من الحزم والرأي والتجربة والمعرفة بأمور الملك.
فلما عرف أنها قد استرسلت إليه ووثقت به، قال لها: إنّ لي بالعراق أموالاً كثيرة، ولي بها طرائف وعطر، فابعثيني لأحمل مالي وأحمل إليكِ من طرائفها وصنوف ما يكون بها من التجارات فتصيبين أرباحاً وبعض ما لا غناء للملوك عنه، فسرّحته ودفعت إليه أموالاً وجهّزت معه عيراً، فسار حتى قدم العراق وأتى عمرو بن عديّ متخفياً وأخبره الخبر وقال: جهزني بالبزّ والطّرف وغير ذلك لعل الله يمكن من الزباء فتصيب ثأرك وتقتل عدوك، فأعطاه حاجته، فرجع بذلك كله إلي الزباء فعرضه عليها، فأعجبها وسرها وازدادات به ثقة، ثم جهزته بعد ذلك بأكثر مماجهزته به في المرة الزولى، فسار حتى قدم العراق وحمل من عند عمرو حاجته ولم يدع طرفةً ولا متاعاً قدر عليه، ثم عاد الثالثة فأخبر عمراً الخبر وقال: اجمع لي ثقات أصحابك وجندك وهيّد لهم الغرائز، وهو أوّل من عملها، واحمل كلّ رجلين على بعير في غرارتين واجعل معقد رؤوسهما من باطنهما، وقال له: إذا دخلت مدينة الزبّاء أقمتك على باب نفقها وخرجت الرجال من الغرائز فصاحوا بأهل المدينة، فمن قاتلهم قاتلوه، وإن أقبلت الزبّاء تريد نفقها قتلتها. ففعل عمرو ذلك وساروا، فلمّا كانوا قريباً من الزباء تقدّم قصير إليها فبشّرها وأعلمها كثرة ماحمل من الثياب والطرائف وسألها أن تخرج وتنظر إلى الإبل وما عليها، وكان قصير يكمن النهار ويسري الليل، وهو أول من فعل ذلك، فخرجت الزباء فأبصرت الإبل تكاد قوائمها تسوخ في الأرض، فقالت: يا قصير. ما للجمال مشيها وثيدا ... أندلاً يحملن أم حديدا أم صرفاناً بارداً شديدا ... أم الرجال جثّماً قعودا ودخلت الإبلُ المدينة، فلما توسطتها أنيخت وخرج الرجال من الغرائر، ودلّ قصير عمراً على باب النفق وصاحوا بزهل المدينة ووضعوا فيهم السلاح، وقام عمرو علي باب النفق، وأقبلت الزبّاء تريد الخروج من النفق، فلمّا أبصرت عمراً قائماً على باب النفق عرفته بالصورة التي عملها المصور، فمصّت سمّاً كان في خاتمها، فقالت: بيدي لا بيد عمرو فذهبت مثلاً، وتلقاها عمرو بالسيف فقتلها وأصاب ما أصاب من المدينة ثم عاد الى العراق. وصار الملك بعد جذيمة لابن أخته عمرو بن عديّ بن نصر بن ربيعة بن عمرو بن الحارث ابن سعود بن مالك بن عمرو بن نمارة بن لخم، وهو أول من اتخذ الحيرة منزلاً من ملوك العرب، فلم يزل ملكاً حتى مات، وهو ابن مائة وعشرين سنة، وقيل: مائة وصماني عشرة سنة، منها أيّام ملوك الطوائف خمس وتسعون سنة، وأيام أردشير بن بابك أربع عشرة سنة وأشهر، وأيّام ابنه سابور بن زردشير ثماني سنين وشهران، وكان منفرداً بملكه يغزو المغازي ولا يدين لملوك الطوائف الى أن ملك أردشير بن بابك أهل فارس، ولم يزل الملك في ولده إلى أن كان آخرهم النعمان بن المنذر، الى أيام ملوك كندة، على ما نذكره إن شاء الله. وقيل في سبب مسير ولد نصر بن ربيعة الى العراق غير ما تقدّم، وهو رؤيا رآها ربيعة، وسيرد ذكرها عند أمر الحبشة، إن شاء الله تعالى. ذكر طسم وجديس وكانوا أيّام ملوك الطوائف كان طسم بن لوذ بن أذهر بن سام بن نوح، وجديس بن عامر بن أزهر بن سام ابني عمّ، وكانت مساكنهم موضع اليمامة، وكان اسمها حينئذٍ جوّاً، وكانت من أخصب البلاد وأكثرها خيراً، وكان ملكهم أيّام ملوك الطوائف عمليق، وكان ظالماً قد تمادى في الظلم والغشم والسيرة الكثيرة القبح، وإنّ امرأة من جديس يقال لها هزيلة طلّقها زوجها وأراد أخذ ولدها منها، فخاصمته الى عمليق وقالت: أيّها الملك حملته تسعاً، ووضعته دفعاً، وأرضعته شفعاً؛ حتى إذا تمت أوصاله، ودنا فصاله، أراد أن يأخذه مني كرهاً، ويتركين بعده ورها، فقال زوجها: أيها الملك إنها أعطيت مهرها كاملاً، ولم أصب منها طالاً، إلاّ وليداً خاملاً، فافعل ما كنت فاعلاً، فأمر الملك بالغلام فصار في غلمانه وأن تُباع المرأة وزوجها فيعطى زوجها خمس ثمنها وتعطى المرأة عشر ثمن زوجها، فقالت هزيلة: أتينا أخا طسم ليحكم بيننا ... فأنفذ حكماً في هزيلة ظالما لعمري لقد حكمت لا متورعاً ... ولا كنت فيمن يبرم الحكم عالما ندمت ولم أندم وأنى بعترتي ... وأصبح بعلي في الحكومة نادما
فلمّا سمع عمليق قولها أمر أن لا تزوّج بكرٌ من جديس وتهدى إلى زوجها حتى يفترعها، فلقوا من ذلك بلاء وجهداً وذلاًّ، ولم يزل يفعل ذلك حتى زوّجت الشموس، وهي عفيرة بنت عباد زخت الأسود، فلمّا أرادوا حملها إلى زوجها انطلقوا بها إلى عمليق لينالها قبله، ومعها الفتيان، فلمّا دخلت عليه افترعها وخلّى سبيلها، فخرجت الى قومها في دمائها وقد شقّت درعها من قبل ودبر والدم يبين وهي في أقبح منظر تقول: لا أحد أذلّ من جديس ... أهكذا يفعل بالعروس يرضى بذا يا قوم بعل حرّ ... أهدى وقد أعطى وسيق المهر وقالت أيضاً لتحرض قومها: أيجمل ما يؤتى إلى فتياتكم، ... وأنتم رجال فيكم عدد النمل وتصبح تمشي في الدماء عفيرة ... جهاراً وزفّت في النساء الى بعل ولو أننا كنّا رجالاً وكنتم ... نساءً لكنا لا نقرُّ بذا الفعل فموتوا كراماً أو أميتوا عدوّكم ... ودبّوا لنار الحرب بالحطب الجزل وإلاّ فخلّوا بطنها وتحملوا ... إلى بلد قفر وموتوا من الهزل فللبين خير من مقام على الأذى ... وللموت خير من مقام على الذل وإن أنتم لم تغضبوا بعد هذه ... فكونوا نساء لا تعاب من الكحل ودونكم طيب النساء فإنما ... خلقتم لأثواب العروس وللنسل فبعداً وسحقاً للذي ليس دافعاً ... ويختال يمشي بيننا مشية الفحل فلما سمع أخوها الأسود قولها، وكان سيداً مطاعاً، قال لقومه: يا معشر جديس إن هؤلاء القوم ليسوا بأعزّ منكم في داركم إلاّ بملك صاحبهم علينا وعليهم، ولوا عجزنا لما كان له فضل علينا، ولو امتنعنا لانتصفنا منه، فأطيعوني فيما آمركم فإنّه عز الدّهر. وقد حمي جديس لما سمعوا من قولهم فقالوا: نطيعك ولكنّ القوم أكثر منا قال: فإني أصنع الملك طعاماً وأدعوه وأهله إليه، فإذا جاؤوا يرفلون في الحلل أخذنا سيوفنا وقتلناهم، فقالوا: افعل، فصنع طعاماً فأكثر وجعله بظاهر البلد ودفن هو وقومه سيوفهم ف يالرمل ودعا الملك وقومه، فجاؤوا يرفلون في حللهم، فلمّا أخذوا مجالسهم ومدّوا أيديهم يأكلون، أخذت جديس سيوفهم من الرمل وقتلوهم وقتلوا ملكهم وقتلوا بعد ذلك السفلة. ثم إنّ بقيّة طسم قصدوا حسّان بن تُبّع ملك اليمن فاستنصروه، فسار الى اليمامة، فلما كان منها على مسيرة ثلاث قال له بعضهم: إنّ لي أختاً متزوجة في جديس يقال لها اليمامة تبصر الراكب من مسيرة ثلاث، وإني أخاف أن تنذر القوم بك، فمر أصحابك فليقطع كلّ رجل منهم شجرة فليجعلها أمامه. فأمرهم حسان بذلك، فنظرت اليمامة فأبصرتهم فقالت لجديس: لقد سارت إليكم حمير، قالوا: وما ترين؟ قالت: أرى رجلاً في شجرة معه كتف يتعرّقها أو نعل يخصفها؛ وكان كذلك، فكذبوها، فصبحهم حسّان فأبادهم، وأتي حسان باليمامة ففقأ عينها، فإذا فيها عروق سود، فقال: ما هذا؟ قالت: حجر أسود كنت أكتحل به يقال له الإثمد، وكانت زوّل من اكتحل به، وبهذه اليمامة سميت الميامة، وقد أكثر الشعراء ذكرها في أشعارهم. ولما هلكت جديس هرب الأسود قاتل عمليق الى جبل طيّء فأقام بهما، ذلك قبل أن تنزلهما طيّء، وكانت طيّء تنزل الجرف من اليمن، وهو الآن لمراد وهمدان، وكان يأتي الى طيّء بعير أزمان الخيف عظيم السمن ويعود عنهم، ولم يعلموا من أين يأتي، ثمّ إنّهم اتّبعوه يسيرون بسيره حتي هبط بهم على أجأ وسلمى جبلي طيّء، وهما بقرب فيد، فرأوا فيهما النخل والمراعي الكثيرة ورأوا الأسود بن عفار، فقتلوه، وأقامت طيّء بالجبلين بعده، فهم هناك إلى الآن، وهذا أول مخرجهم إليهما. ذكر أصحاب الكهف وكانوا أيام ملوك الطوائف كان أصحاب الكهف أيّام ملك اسمه دقيوس، ويقال دقيانوس، وكانوا بمدينة للروم اسمها أفسوس، وملكهم يعبد الأصنام، وكانوا فتية آمنوا بربّهم كما ذكر الله تعالى، فقال: (أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجباً) الكهف: 9؛ والرّقيم خبرهم كتب في لوح وجع على باب الكهف اذي أووا رليه، وقيل: كتبه بعض أهل زمانهم وجعله في البناءوفيه أسماؤهم وفي أيّام من كانوا وسبب وصولهم الى الكهف.
وكانت عدّتهم، فما ذكر ابن عبّاس، سبعة وثامنهم كلبهم، وقال: إنّا من القليل الذين تعلمونهم، وقال ابن اسحاق: كانوا ثمانية، فعلى قوله يكون تاسعهم كلبهم، وكانوا من الروم، وكانوا يعبدون الأوثان، فهداهم الله، وكانت شريعتهم شريعة عيسى، عليه السلام. وزعم بعضهم أنهم كانوا قبل المسيح، وأنّ المسيح أعلم قومه بهم، وأن الله بعثهم من رقدتهم بعد رفع المسيح، والأول أصح. وكان سبب إيمانهم أنه جاء حواريّ من أصحاب عيسى إلى مدينتهم فأراد أن يدخلها، فقيل له: إنّ على بابها صنماً لا يدخلها أحد حتى يسجد له، فلم يدخلها وأتى حمّاماً قريباً من المدينة، فكان يعمل فيه، فرأى صاحب الحمّام البركة وعلقه الفتية، فجعل يخبرهم خبر السماءوالأرض وخبر الآخرة حتى آمنوا به وصدّقوه، فكان على ذلك حتى جاء ابن الملك بامرأة فدخل بها الحمّام، فعيّره الحواريّ، فاستحيا، ثمّ رجع مرّة أخرى فعيّره فسبّه وانتهره ودخل الحمّام ومعه المرأة، فماتا في الحمّام، فقيل للملك: إنّ الذي بالحمّام قتلهما، فطلب فلم يوجد، فقيل: من كان يصحبه؟ فذكر الفتية، فطلبوا فهربوا فمرّوا بصاحب لهم على حالهم في زرع له فذكروا له أمرهم، فسار معهم وتبعهم الكلب الذي له حتى آواهم الليل الى الكهف، فقالوا: نبيت ههنا حتى نصبح ثمّ نرى رأينا، فدخلوه فرأوا عنده عين ماء وثماراً، فأكلوا من الثمار وشربوا من الماء، فلمّا جنّهم اللّيلُ ضرب الله على آذانهم ووكّل بهم ملائكة يقلّبّونهم ذات اليمن وذات الشمال لئلاّ تأكل الأرض أجسادهم، وكانت الشمس تطلع عليهم. وسمع الملك دقيانوس خبرهم فخرج في أصحابه يتبعون أثرهم حتى وجدهم قد دخلوا الكهف، وأمر أصحابه بالدخول إليهم وإخراجهم، فكلّما أراد رجل أن يدخل أرعب فعاد، فقال بعضهم: أليس لو كنت ظفرت بهم قتلتهم؟ قال: بلى، قال: فابن عليهم باب الكهف ودعهم يموتوا جوعاً وعطشاً، ففعل، فبقوا زماناً بعد زمان. ثمّ إنّ راعياً أدركه المطر فقال: لو فتحت باب هذا الكهف فأدخلت غنمي فيه، ففتحه، فردّ الله إليهم أرواحهم من الغد حين أصبحوا، فبعثوا أحدهم بورق ليشتري لهم طعاماً، واسمه تلميخا، فلّما أتى باب المدينة رأى ما زنكره حتى دخل علي رجل فقال: بعني بهذه الدراهم طعاماً، فقال: فمن أين لك هذه الدراهم؟ قال: خرجت أنا وأصحاب لي أمس ثمّ أصبحوا فأرسلوني، فقال: هذه الدراهم كانت على عهد الملك الفلانيّ، فرفعه إلى الملك، وكان ملكاً صالحاً، فسأله عنها، فأعاد عليه حالهم، فقال الملك: وأين أصحابك؟ قال: انطلقوا معي، فانطلقوا معه حتى أتوا باب الكهف، فقال: دعوني أدخل إلى أصحابي قبلكم لئلا يسمعوا أصواتكم فيخافوا ظنّاً منهم أنّ دقيانوس قد علم بهم، فدخل عليهم وأخبرهم الخبر، فسجدوا شكراً لله وسألوه أن يتوفّاهم، فاستجاب لهم، فضرب على أذنه وآذانهم، وأراد الملك الدخول عليهم فكانوا كلما دخل عليهم رجل أرعب، فلم يقدروا أن يدخلوا عليهم، فعاد عنهم، فبنوا عليهم كنيسة يصلّون فيها. قال عكرمة: لما بعثهم الله كان الملك حينئذٍ مؤمناً، وكان قد اختلف أهل مملكته في الروح والجسد وبعثهما، فقال قائل: يبعث الله الروح دون الجسد، وقال قائل: يبعثان جميعاً؛ فشقّ ذلك على الملك فلبس المسوح وسأل الله أن يبين له الحقّ، فبعث لله أصحاب الكهف بكرةً، فلمّا بزغت الشمس قال بعضهم لبعض: قد غفلنا هذه الليّلة عن العبادة، فقاموا إلى الماء، وكان عند الكهف عين وشجرة، فإذا العين قد غارت والأشجار قد يبست، فقال بعضهم لبعض: إنّ أمرنا لعبج هذه العين غارت وهذه الأشجار يبست في ليلة واحدة وألقى الله عليهم الجوع، فقالوا: أيّكم يذهب (إلى المدينة فلينظر أيّها أزكى طعاماً فليأتكم برزق منه وليتلطف ولا يشعرن بكم أحداً) الكهف: 19.
فدخل أحدهم يشتري الطعام، فلما رأى السوق عرف وأنكر الوجوه ورأى الإيمان ظاهراً بها، فأتى رجلاً يشتري منه، فأنكر الدراهم، فرفعه الى الملك، فقال الفتى: أليس ملككم فلان؟ فقال الرجل: لا بل فلان فعجب لذلك، فلمّا أحضر عند الملك أخبره بخبر أصحابه، فجمع الملك الناس وقال لهم: إنكم قد اختلفتم في الروح والجسد، وإن الله قد بعث لكم آية هذا الرجل من قوم فلان، يعني الملك الذي مضى، فقال الفتى: انطلقوا بي الى أصحابي، فركب الملك والناس معه، فلما انتهى إلى الكهف قال الفتى للملك: ذروني أسبقكم إلى أصحابي أعرفهم خبركم لئلا يخافوا إذا سمعوا وقع حوافر دوابّكم وأصواتكم فيظنّوكم دقيانوس، فقال: افعل، فسبقهم إلى أصحابه ودخل على أصحابه فأخبرهم الخبر، فعلموا حينئذٍ مقدار لبثهم في الكهف وبكوا فرحاً ودعوا الله أن يميتهم ولا يراهم أحد ممّن جاءهم، فماتوا لساعتهم، فضرب الله على أذنه وآذانهم معه، فلما استبطأوه دخلوا إلي الفتية فإذا أجسادهم لا ينركون منها شيئاً غير أنها لا أرواح فيها، فقال الملك: هذه آية لكم، ورأى الملك تابوتاً من نحاس مختوماً بخاتم، ففتحه، فرأى فيه لوحاً من رصاص مكتوباً فيه أسماء الفتية وأنهم هربوا من دقيانوس الملك مخافة على نفوسهم ودينهم فدخلوا هذا الكهف، فلمّا علم دقيانوس بمكانهم بالكهف سدّه عليهم، فليعلم من قرأ كتابنا هذا شأنهم. فلمّا قرأوه عجبوا وحمدوا الله تعالى الذي أراهم هذه الآية للبعث ورفعوا أصواتهم بالتحميد والتسبيح. وقيل: إنّ الملك ومن معه دخلوا على الفتية فرأوهم أحياء مشرقة وجوههم وألوانهم لم تبل ثيابهم، وأخبرهم الفتية بما لقوا من ملكهم دقيانوس، واعتنقهم الملك، وقعدوا معه يسبّحون الله ويذكرونه، ثم قالوا: له: نستودعك الله، ورجعوا الى مضاجعهم كما كانوا، فعمل الملك لكل رجل منهم تابوتاً من الذهب، فلمّا نام رآهم في منامه وقالوا: إننا لم نخلق من الذهب إنّما خلقنا من التراب وإليه نصير، فعمل لهم حينئذٍ توابيت من خشب، فحجبهم الله بالرعب، وبنى الملك على باب الكهف مسجداً وجعل لهم عيداً عظيماً. وأسماء الفتية: مكسلمينيا ويمليخا ومرطوس ونيرويس وكسطومس ودينموس وريطوفس وقالوس ومخسيلمينيا، وهذه تسعة أسماء، ويه أتمّ الروايات، والله أعلم، وكلبهم قطمير. ذكر يونس بن متىوكان أمره من الأحداث أيام ملوك الطوائف. قيل: لم ينسب أحد من الأنبياء إلى أمه إلا عيسى بن مريم ويونس بن متى، وهي أمه، وكان من قرية من قرى الموصل يقال لها نينوى، وكان قومه يعبدون الأصنام، فبعثه الله إليهم بالنهي عن عبادتها والأمر بالتوحيد، فأقام فيهم ثلاثاً وثلاثين سنة يدعوهم، فلم يؤمن غير رجلين، فلما أيس من إيمانهم دعا عليهم، فقيل له: ما أسرع ما دعوت على عبادي ! ارجع إليهم فادعهم أربعين يوماً، فدعاهم سبعة وثلاثين يوماً، فلم يجيبوه، فقال لهم: إن العذاب يأتيكم إلى ثلاثة أيام، وآية ذلك أن ألوانكم تتغير، فلما أصبحوا تغيرت ألوانهم، فقالوا: قد نزل بكم ما قال يونس ولم نجرب عليه كذباً فانظروا فإن بات فيكم فأمنوا من العذاب، وإن لم يبت فاعلموا أن العذاب يصبحكم. فلما كانت ليلة الأربعين أيقن يونس بنزول العذاب، فخرج من بين أظهرهم. فلما كان الغد تغشاهم العذاب فوق رؤوسهم، خرج عليهم غيم أسود هائل يدخن دخاناً شديداً، ثم نزل إلى المدينة فاسودت منه سطوحهم، فلما رأوا ذلك أيقنوا بالهلاك، فطلبوا يونس فلم يجدوه، فألهمهم الله التوبة، فأخلصوا النية في ذلك وقصدوا شيخاً وقالوا له: قد نزل بنا ما ترى فما نفعل ؟ فقال: آمنوا بالله وتوبوا وقولوا: يا حي يا قيوم، يا حي حين لا حي، يا حي محيي الموتى، يا حي لا إله إلا أنت. فخرجوا من القرية إلى مكان رفيع في براز من الأرض وفرقوا بين كل دابة وولدها ثم عجوا إلى الله واستقالوه وردوا المظالم جميعاً حتى إن كان أحدهم ليقلع الحجر من بنائه فيرده إلى صاحبه.
فكشف الله عنهم العذاب، وكان يوم عاشوراء يوم الأربعاء، وقيل: للنصف من شوال يوم الأربعاء، وانتظر يونس الخبر عن القرية وأهلها حتى مر به مار فقال: ما فعل أهل القرية ؟ فقال: تابوا إلى الله فقبل منهم وأخر عنهم العذاب. فغضب يونس عند ذلك فقال: والله لا أرجع كذاباً ! ولم تكن قرية رد الله عنهم العذاب بعدما غشيهم إلا قوم يونس، ومضى مغاضباً لربه. وكان فيه حدة وعجلة وقلة صبر، ولذلك نهى النبي، صلى الله عليه وسلم، أن يكون مثله، فقال تعالى: (وَلاَ تَكُنْ كَصَاحِبِ الحُوتِ) القلم: 48. ولما مضى ظن أن الله لا يقدر عليه، أي يقضي عليه العقوبة، وقيل: يضيق عليه الحبس، فسار حتى ركب في سفينة فأصاب أهلها عاصف من الريح، وقيل: بل وقفت فلم تسر، فقال من فيها: هذه بخطيئة أحدكم ! فقال يونس: هذه بخطيئتي فألقوني في البحر، فأبوا عليه حتى أفاضوا بسهامهم (فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ المُدْحَضِينَ) الصافات: 141، فلم يلقوه، وفعلوا ذلك ثلاثاً ولم يلقوه، فألقى نفسه في البحر، وذلك تحت الليل، فالتقمه الحوت، فأوحى الله إلى الحوت أن يأخذه ولا يخدش له لحماً ولا يكسر له عظماً، فأخذه وعاد إلى مسكنه من البحر، فلما انتهى إليه سمع يونس حساً فقال في نفسه: ما هذا ؟ فأوحى الله إليه في بطن الحوت: إن هذا تسبيح دواب البحر، فسبح وهو في بطن الحوت، فسمعت الملائكة تسبيحه، فقالوا: ربنا نسمع صوتاً ضعيفاً بأرض غريبة. فقال: ذلك عبدي يونس عصاني فحبسته في بطن الحوت في البحر. فقالوا: العبد الصالح الذي كان يصعد له كل يوم عمل صالح ؟ فشفعوا له عند ذلك، (فَنَادَى في الظُّلُمَات) - ظلمة البحر وظلمة بطن الحوت وظلمة الليل - (أنْ لا إلَهَ إلاّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إنّي كُنْتُ مِنَ الظّالِمِينَ) الأنبياء: 87 ! وكان قد سبق له من العمل الصالح، فأنزل الله فيه: (فَلَوْلاَ أَنّهُ كَانَ مِنَ المُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ في بَطْنِهِ إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) الصافات: 143، وذلك أن العمل الصالح يرفع صاحبه إذا عثر، (فَنَبَذْنَاهُ بِالعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ) الصافات: 145؛ ألقي على ساحل البحر وهو كالصبي المنفوس، ومكث في بطن الحوت أربعين يوماً، وقيل: عشرين يوماً، وقيل: ثلاثة أيام، وقيل: سبعة أيام، والله أعلم. وأنبت (الله) عليه شجرة من يقطين، وهو القرع، يتقطر إليه منه اللبن، وقيل: هيأ الله له أروية وحشية، فكانت ترضعه بكرة وعشية حتى رجعت إليه قوته وصار يمشي، فرجع ذات يوم إلى الشجرة فوجدها قد يبست، فحزن وبكى عليها، فعاتبه الله، وقيل له: أتبكي وتحزن على شجرة ولا تحزن على مائة ألف وزيادة أردت أن تهلكهم ! ثم إن الله أمره أن يأتي قومه فيخبرهم أن الله قد تاب عليهم، فعمد إليهم، فلقي راعياً، فسأله عن قوم يونس، فأخبره أنهم على رجاء أن يرجع إليهم رسولهم، قال: فأخبرهم أنك قد لقيت يونس. قال: لا أستطيع إلا بشاهد، فسمى له عنزاً من غنمه والبقعة التي كانا فيها وشجرة هناك، وقال: كل هذه تشهد لك. فرجع الراعي إلى قومه فأخبرهم أنه رأى يونس، فهموا به، فقال: لا تعجلوا حتى أصبح. فلما أصبح غدا بهم إلى البقعة التي لقي فيها يونس فاستنطقها، فشهدت له، وكذلك الشاة والشجرة، وكان يونس قد اختفى هناك. فلما شهدت الشاة قالت لهم: إن أردتم نبي الله فهو بمكان كذا وكذا، فأتوه، فلما رأوه قبلوا يديه ورجليه وأدخلوه المدينة بعد امتناع، فمكث مع أهله وولده أربعين يوماً وخرج سائحاً، وخرج الملك معه يصحبه وسلم الملك إلى الراعي، فأقام يدبر أمرهم أربعين سنة بعد ذلك. ثم إن يونس أتاهم بعد ذلك.
وقال ابن عباس وشهر بن حوشب: كانت رسالة يونس بعدما نبذه الحوت، وقالا: كذلك أخبر الله تعالى في سورة الصافات فإنه قال: (فَنَبَذْنَاهُ بِالعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ وَأَرْسَلْنَاهُ إلى مَائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ) الصافات: 145 - 147. وقال شهر: إن جبرائيل أتى يونس فقال له: انطلق إلى أهل نينوى فأنذرهم العذاب فإنه قد حضرهم. قال: ألتمس دابة. قال: الأمر أعجل من ذلك. قال: ألتمس حذاء. قال: الأمر أعجل من ذلك. قال: فغضب وانطلق إلى السفينة فركب، فلما ركب احتبست، قال: فساهموا، فسهم، فجاءت الحوت، فنودي الحوت: إنا لم نجعل يونس من رزقك إنما جعلناك له حرزاً، فالتقمه الحوت وانطلق به من ذلك المكان حتى مر به على الابلة، ثم انطلق به على دجلة حتى ألقاه بنينوى. ومما كان من الاحداث أيام ملوك الطوائفإرسال الله تعالى الرسل الثلاثة إلى مدينة إنطاكية. وكانوا من الحواريين أصحاب المسيح، أرسل أولاً اثنين، وقد اختلف في أسمائهما، فقدما إنطاكية فرأيا عندها شيخاً يرعى غنماً، وهو حبيب النجار، فسلما عليه، فقال: من أنتما ؟ قالا: رسولا عيسى ندعوكم إلى عبادة الله تعالى. قال: معكما آية ؟ قالا: نعم، نحن نشفي المرضى ونبرئ الأكمه والأبرص بإذن الله. قال حبيب: إن لي ابناً مريضاً مذ سنين، وأتى بهما منزله، فمسحا ابنه، فقام في الوقت صحيحاً، ففشا الخبر في المدينة، وشفى الله على أيديهما كثيراً من المرض. وكان لهم ملك اسمه أنطيخس يعبد الأصنام، فبلغ إليه خبرهما، فدعاهما، فقال: من أنتما ؟ قالا: رسل عيسى ندعوك إلى الله تعالى. قال: فما آيتكما ؟ قالا: نبرئ الأكمه والأبرص ونشفي المرضى بإذن الله. فقال: قوما حتى ننظر في أمركما، فقاما، فضربهما العامة. وقيل: إنهما قدما المدينة فبقيا مدة لا يصلان إلى الملك، فخرج الملك يوماً، فكبرا وذكرا الله، فغضب وحبسهما وجلد كل واحد منهما مائة جلدة، فلما كذبا وضربا بعث المسيح شمعون رأس الحواري | |
|
| |
الشيخ عودة الشيخ عودة
عدد المساهمات : 1748 تاريخ التسجيل : 28/09/2008 العمر : 74
| موضوع: رد: كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير الخميس فبراير 06, 2014 8:35 am | |
| الطبقة الأولى الفيشداذية ملوك الأرض بعد جيومرث أوشهنج؛ وملك فيشداذ أربعين سنة، ومعنى فيشداذ أول حاكم. ملك بعده طهمورث بن يوجهان ثلاثية سنة. ثم ملك أخوه جمشيد سبعمائة وست عشرة سنة. ثم ملك بيوراسف بن أرونداسف ألف سنة. ثم ملك أفريدون بن أثفيان خمسمائة سنة. ثم ملك منوجهر مائة وعشرين سنة. ثم ملك أفراسياب التركي اثنتي عشرة سنة. ثم ملك زوبن تهماسف ثلاث سنين. ثم ملك كرشاسب تسع سنين. الطبقة الثانية الكيانيةثم ملك كيقباذ مائة وستاً وعشرين سنة. ثم ملك كيكاووس مائة وخمسين سنة. ثم ملك كيخسرو ثمانين سنة. ثم ملك كي لهراسب مائة وعشرين سنة. ثم ملك كي بشتاسب مائة وعشرين سنة. ثم ملك كي بهمن مائة واثنتي عشرة سنة. ثم ملك خمانى جهرازاد ثلاثين سنة. ثم ملك أخوها دارا بن بهمن اثنتي عشرة سنة. ثم ملك ابنه دارا بن دارا أربع عشرة سنة، وهو الذي أخذ الإسكندر الملك منه. وكان ملك الإسكندر بعده أربع عشرة سنة. الطبقة الثالثة الأشغانيةوهم الذين استولوا على العراق والجبال، وكان سائر ملوك الطوائف يعظمونهم. فأول ملوك الأشغانيين أقام ملوك الطوائف أشك، ملك اثنتين وخمسين سنة. ثم ملك ابنه شابور بن أشك أربعاً وعشرين سنة. ثم ملك ابنه جوذرز بن شابور، وهو الذي غزا بني إسرائيل بعد قتل يحيى بن زكرياء، خمسين سنة. ثم ملك ابنه أخيه وبحن بن بلاش إحدى وعشرين سنة. ثم ملك جوذرز بن وبحن تسع عشرة سنة. ثم ملك أخوه نرسي ثلاثين سنة. ثم ملك عمه هرمزان بن بلاش بن شابور تسع عشرة سنة. ثم ملك ابنه فيروز بن هرمزان اثنتي عشرة سنة. ثم ملك ابنه خسرو أربعين سنة. ثم ملك أخوه بلاش بن فيروز أربعاً وعشرين سنة. ثم ملك ابنه أردوان بن بلاش خمساً وخمسين سنة. وقد ذكر بعضهم أنه ملك بعد هرمزان بن بلاش أردوان الأكبر اثنتي عشرة سنة. وقيل في عدد ملوك الطوائف غير ذلك، والفرس تعترف باضطراب التاريخ عليهم في أيام ملوك الطوائف وملك بيوراسف وملك أفراسياب التركي لأنهم زال الملك عنهم ولم يمكن ضبطه. الطبقة الرابعة الساسانيةفأولهم أردشير بن بابك. ذكر أخبار أردشير بن بابك وملوك الفرسقيل: لما مضى من لدن ملك الإسكندر أرض بابل، في قول النصرى وأهل الكتب الأول، خمسمائة سنة وثلاث وعشرون سنة، وفي قول المجوس: مائتان وست وستون، وثب أردشير بن بابك بن ساسان الأصغر بن بابك بن ساسان بن بابك بن مهرمس بن ساسان بن بهمن الملك ابن إسفنديار بن بشتاسب، وقيل في نسبته غير ذلك، يريد الأخذ بثأر الملك دارا بن دارا ورد الملك إلى أهله وإلى ما لم يزل عليه أيام سلفه الذين مضوا قبل ملوك الطوائف وجمعه لرئيس واحد.
وذكر أن ولده كان بقرية من قرى إصطخر يقال لها طيزودة من رستاق إصطخر، وكان جده ساسان شجاعاً مغرىً بالصيد، وتزوج امرأة من نسل ملوك فارس يعرفون بالبادرنجبين، وكان قيما على بيت نار بإصطخر يقال له بيت نار هيد، فولدت له بابك، فلما كبر قام بأمر الناس بعد أبيه، ثم ولد له ابنه أردشير، وكان ملك إصطخر يومئذ رجل من البادرنجيين يقال له جوزهر، وكان له خصي اسمه تيري قد صيره ارجيداً بدارابجرد. فلما أتى لأردشير سبع سنين قدمه أبوه إلى جوزهر وسأله أن يضمه إلى تيرى ليكون ربيباً له وارجيداً بعده في موضعه، فأجابه وأرسله إلى تيري، فقبله وتبناه. فلما هلك تيري تقلد أردشير الأمر وحسن قيماه به، وأعلمه قوم من المنجمين صلاح مولده وأنه يملك البلاد، فازداد في الخير، ورأى في منامه ملكاً جلس عند رأسه فقال له: إن الله يملكك البلاد؛ فقويت نفسه قوةً لم يعهدها؛ وكان أول ما فعل أنه سار إلى موضع من دارابجرد يسمى خوبابان فقتل ملكها، واسمه فاسين، ثم سار إلى موضع يقال له كوسن فقتل ملكها، واسمه منوجهر، ثم إلى موضع يقال له لزويز فقتل ملكها، واسمها دارا، وجعل في هذه المواضع قوماً من قبله، وكتب إلى أبيه بما كان منه، وأمره بالوثوب يجوزهر، وهو بالبيضاء، ففعل ذلك وقتل جوزهر وأخذ تاجه، وكتب إلى أردوان ملك الجبال وما يتصل بها يتضرع إليه ويسأله في تتويج ابنه سابور بتاج جوزهر، فمنعه من ذلك وهدده، فلم يحفل بابك بذلك وهلك في ثلاثة أيام، فتوج سابور بن بابك بالتاج وملك مكان أبيه، وكتب إلى أردشير يستدعيه، فامتنع، فغضب سابور وجمع جموعاً وسار بهم نحوه ليحاربه،وخرج من إصطخر وبها عدة من أصحابه وإخوانه وأقاربه وفيهم من هو أكبر سناً منه، فأخذوا التاج والسرير وسلموهما إلى أردشير، فتتوج وافتتح أمره بجد وقوة وجعل له وزيراً ورتب موبذان موبذ، وأحس من إخوته وقوم كانوا معه بالفتك به، فقتل جماعةً منهم، وعصى عليه أهل دارابجرد فعاد إليه فافتتحها وقتل جماعةً من أهلها، ثم سار إلى كرمان وبها ملك يقال له بلاش فاقتتلا قتالاً شديداً، وقاتل أردشير بنفسه وأسر بلاش، فاستولى على المدينة وجعل فيها ابناً له اسمه أردشير أيضاً. وكان في سواحل بحر فارس ملك اسمه أسيون يعظم فسار إليه أردشير فقتله وقتل من معه واستخرج له أموالاً عظيمة. وكتب إلى جماعة من الملوك، منهم: مهرك صاحب ابرساس من أردشير خره، يدعوهم إلى الطاعة، فلم يفعلوا، فسار إليهم فقتل مهرك ثم سار إلى جور فأسسها وبنى الجوسق المعروف بالطربال وبيت نار هناك. فبينا هو كذلك إذ ورد عليه رسول أردوان بكتاب، فجمع الناس فقرأه عليهم، فإذا فيه: إنك عدوت قدرك واجتلبت حتفك أيها الكردي ! من أذن لك في التاج والبلاد ؟ ومن أمرك ببناء المدينة ؟ وأعلمه أنه قد وجه إليه ملك الأهواز ليأتيه به في وثاق. فكتب إليه: إن الله حباني بالتاج وملكني البلاد، وأنا أرجو أن يمكنني منك فأبعث برأسك إلى بيت النار الذي أسسته. وسار أردشير نحو إصطخر وخلف وزيره أبرسام بأردشير خره، فلم يلبث إلا قليلاً حتى ورد عليه كتاب أبرسام بموافاة ملك الأهواز وعوده منكوباً، ثم سار إلى أصبهان فملكها وقتل ملكها، وعاد إلى فارس وتوجه إلى محاربة نيروفر صاحب الأهواز، وسار إلى أرجان وإلى ميسان وطاسار، ثم إلى سرق، فوقف على شاطئ دجيل فظفر بالمدينة وابتنى مدينة سوق الأهواز وعاد إلى فارس بالغنائم، ثم عاد من فارس إلى الأهواز على طريق خرة وكازرون، وقتل ملك ميسان وبنى هناك كرخ ميسان وعاد إلى فارس. فأرسل إلى أردوان يؤذنه بالحرب ويقول له ليعين موضعاً للقتال. فكتب إليه أردوان: إني أوافيك في صحراء هرمزجان لانسلاخ مهرماه. فوافاه أردشير قبل الوقت وخندق على نفسه واحتوى على الماء، ووافاه أردوان وملك الأرمانيين، وكانا يتحاربان على الملك فاصطلحا على أردشير وحارباه، وهما متساندان يقاتله هذا يوماً وهذا يوماً، فإذا كان يوم بابا ملك الأرمانيين لم يقم له أردشير، وإذا كان يوم أردوان لم يقم لأردشير، فصالح أردشير بابا ملك الأرمانيين على أن يكف ويفرغ أردشير لأردوان، فلم يلبث أن قتله واستولى على ما كان له، وأطاعه بابا وسمي أردشير: شاهنشاه.
ثم سار إلى همذان فافتتحها، وإلى الجبل وأذربيجان وأرمينية والموصل ففتحها عنوةً، وسار إلى السواد من الموصل فملكه وبنى على شاطئ دجلة قبالة طيسفون، وهي المدينة التي في شرق المدائن مدينة غربية، وسماها به أردشير، وعاد من السواد إلى إصطخر، وسار منها إلى سجستان، ثم إلى جرجان، ثم إلى نيسابور ومرو وبرخ وخوارزم، وعاد إلى فارس ونزل جور. فجاءه رسل ملك كوسان وملك طوران وملك مركان بالطاعة. ثم سار من جور إلى البحرين، فاضطر ملكها إلى أن رمى نفسه من حصنه فهلك. وعاد إلى المدائن فتوج ابنه سابور بتاجه في حياته وبنى ثماني مدن، منها: مدينة الخط بالبحرين، ومدينة بهرسير مقابل المدائن. وكان اسمه به أردشير فعربت به سير، وأردشير خره، هي مدينة فيروزاباذ، سماها عضد الدولة بن بويه كذلك، وبنى بكرمان مدينة أردشير أيضاً فعربت بردشير، وبنى بهمن أردشير على دجلة عند البصرة، والبصريون يسمونها بهمن شير، وفرات ميسان أيضاً، وبنى رامهرمز بخوزستان، وبنى سوق الأهواز، وبالموصل بودر أردشير، وهي حزة. ولم يزل محمود السيرة مظفراً منصوراً لا ترد له راية، ومدن المدن، وكور الكور، ورتب المراتب وعمر البلاد. وكان ملكه من قتله أردوان إلى أن هلك أربع عشرة سنة، وقيل: أربع عشرة سنة وعشرة أشهر، ولما استولى أردشير على العراق كره كثير من تنوخ المقام في مملكته فخرج من كان منهم من قضاعة إلى الشام، ودان له أهل الحيرة والأنبار، وقد كانت الحيرة والأنبار بنيتا زمن بخت نصر، فخربت الحيرة لتحول أهلها إلى الأنبار، وعمرت الأنبار خمسمائة سنة وخمسين سنة إلى أن عمرت الحيرة زمن عمرو بن عدي، فعمرت خمسمائة وبضعاً وثلاثين سنة إلى أن وضعت الكوفة ونزلها أهل الإسلام. ذكر ملك سابور بن أردشير بن بابكولما هلك أردشير بن بابك قام بالملك بعده ابنه سابور، وكان أردشير قد أسرف في قتل الأشكانية حتى أفناهم بسبب ألية آلاها جده ساسان بن أردشير بن بهمن، فإنه أقسم أنه إن ملك يوماً من الدهر لم يستبق من نسل أشك بن جزه أحداً، وأوجب ذلك على عقبه، فكان أول من ملك من عقبه أردشير، فقتلهم جميعاً نساءهم ورجالهم، غير أن جارية وجدها في دار المملكة فأعجبته، وكانت ابنة للملك المقتول، فسألها عن نسبها، فذكرت أنها خادم لبعض نساء الملك. فسألها أبكر أم ثيب، فأخبرته أنها بكر، فاتخذها لنفسه وواقعها، فعلقت منه، فلما أمنت منه بحبلها أخبرته أنها من ولد أشك، فنفر منها ودعا هرجد بن اسام، وكان شيخاً مسناً، فأخبره الخبر، وقال له ليقتلها ليبر قسم جده. فأخذها الشيخ ليقتلها، فأخبرته أنها حبلى، فأتى بالقوابل فشهدن بحبلها، فأودعها سرباً في الأرض ثم قطع مذاكيره ووضعها في حق وختم عليه، وحضر عند الملك فقال: ما فعلت ؟ فقال: استودعتها بطن الأرض، ودفع الحقف إليه، وسأله أن يختمه بخاتمه ويودعه بعض خزائنه، ففعل. ثم وضعت الجارية غلاماً، فكره الشيخ أن يسمى ابن الملك دونه، وخاف يعلمه به وهو صغير، فأخذ له الطالع وسماه شابور، ومعناه: ابن الملك، فيكون اسماً وصفة، وهو أول من سمي بهذا الاسم. وبقي أردشير لا يولد له، فدخل عليه الشيخ الذي عنده الصبي يوماً فوجده محزوناً، فقال له: ما يحزن الملك ؟ فقال: ضربت بسيفي ما بين المشرق والمغرب حتى ظفرت وصفا لي ملك آبائي ثم أهلك وليس لي عقب فيه. فقال له الشيخ: سرك الله أيها الملك وعمرك ! لك عندي ولد طيب نفيس، فادع لي بالحق الذي استودعتك أرك برهان ذلك. فدعا أردشير بالحق وفتحه، فوجد فيه مذاكير الشيخ وكتاباً فيه: لما أخبرتني ابنة أشك التي علقت من ملك الملوك حين أمر بقتلها لم أستحل إتلاف زرع الملك الطيب فأودعتها بطن الأرض كما أمر وتبرأنا إليه من أنفسنا لئلا يجد عاضهٌ إلى عضهها سبيلاً. فأمره أردشير أن يجعل مع سابور مائة غلام، وقيل: ألف غلام من أشباهه في الهيئة والقامة، ثم يدخلهم عليه جميعاً لا يفرق بينهم زي، ففعل الشيخ. فلما نظر إليهم أردشير قبلت نفسه ابنه من بينهم، ثم أعطوا صوالجة وكرة، فلعبوا بالكرة وهو في الإيوان، فدخلت الكرة الإيوان، فهاب الغلمان أن يدخلوه، وأقدم سابور من بينهم ودخل، فاستدل بإقدامه مع ما كان من قبوله له حين رآه أنه ابنه، فقال له أردشير: ما اسمك ؟ قال: شاه بور.
فلما ثبت عنده أنه ابنه شهر أمره وعقد له التاج من بعده، وكان عاقلاً بليغاً فاضلاً، فلما ملك ووضع التاج على رأسه فرق الأموال على الناس من قرب ومن بعد، وأحسن إليهم، فبان فضل سيرته وفاق جميع الملوك، وبنى مدينة نيسابور، ومدينة سابور بفارس، وبنى فيروز سابور، وهي الأنبار، وبنى جنديسابور. وقيل: إنه حاصر الروم بنصيبين وفيها جمع من الروم مدة ثم أتاه من ناحية خراسان من احتاج إلى مشاهدته، فسار إليها وأحكم أمرها، ثم عاد إلى نصيبين، فزعموا أن سورها تصدع وانفرجت منه فرجة دخل منها وقتل وسبى وغنم وتجاوزها إلى بلاد الشام فافتتح من مدائنها مدناً كثيرة، منها فالوقية وقدوقية، وحاصر ملكاً للروم بإنطاكية فأسره وحمله وجماعةً كثيرة معه فأسكنهم مدينة جنديسابور. ذكر خبر مدينة الحضركانت بجبال تكريت بين دجلة والفرات مدينة يقال لها الحضر، وكان بها ملك يقال له الساطرون، وكان من الجرامقة، والعرب تسميه الضيزن، وهو من قضاعة، وكان قد ملك الجزيرة وكثر جنده، وإنه تطرق بعض السواد إذ كان سابور بخراسان، فلما عاد سابور أخبر بما كان منه، فسار إليه وحاصره أربع سنين، وقيل: سنتين، لا يقدر على هدم حصنه ولا الوصول إليه. وكان للضيزن بنت تسمى النضيرة، فحاضت، فأخرجت إلى ربض المدينة، وكذلك كان يفعل بالنساء، وكانت من أجمل النساء، وكان سابور من أجمل النساء، فرأى كل واحد منهما صاحبه فتعاشقا، فأرسلت إليه: ما تجعل لي إن دللتك على ما تهدم به سور المدينة ؟ فقال: أحكمك وأرفعك على نسائي. فقالت: عليك بحمامة ورقاء مطوقة فاكتب على رجلها بحيض جارية بكر زرقاء ثم أرسلها فإنها تقع على سور المدينة فيخرب، وكان ذلك طلسم ذلك البلد. ففعل وتداعت المدينة، فدخلها عنوةً وقتل الضيزن وأصحابه، فلم يبق منهم أحد يعرف اليوم، وأخرب المدينة واحتمل النضيرة فأعرس بها بعين التمر فلم تزل ليلتها تتضور، فالتمس ما يؤذيها فإذا ورقة آس ملتزقة بعكنة من عكن بطنها، فقال لها: ما كان يغذوك به أبوك ؟ قالت: بالزبد والمخ وشهد الأبكار من النحل وصفو الخمر. فقال: وأبيك لأنا أحدث عهداً بك وآثر لك من أبيك ! فأمر رجلاً فرساً جموحاً ثم عصب غدائرها بذنبه ثم استركضها فقطعها قطعاً، وقد أكثر الشعراء ذكر الضيزن في أشعارهم. وفي أيام سابور ظهر ماني الزنديق وادعى النبوة، وتبعه خلقٌ كثير، وهم الذين يسمون المانوية. وكان ملكه ثلاثين سنة وخمسة عشر يوماًن وقيل: إحدى وثلاثين سنة وستة أشهر وتسعة أيام. ذكر ملك ابنه هرمز بن سابور بن أردشير بن بابكوكان يشبه في خلقه بأردشير غير لاحق به في تدبيره، وكان في البطش والجرأة على أمر عظيم، وكانت أمه من بنات مهرك الملك الذي قتله أردشير وتتبع نسله فقتلهم، لأن المنجمين أخبروه أنه يكون من نسله من يملك، فهربت أمه إلى البادية وأقامت عند بعض الرعاء، وخرج سابور متصيداً، فاشتد به العطش وارتفعت له الأخبية التي فيها أمر هرمز، فقصدها وطلب الماء، فناولته المرأة، فرأى منها جمالاً فائقاً، فلم يلبث أن حضر الرعاء فسألهم سابور عنها، فقال بعضهم: إنها ابنته، فتزوجها وسار بها إلى منزله، وكسيت ونظفت، فأرادها فامتنعت عليه مدة، فلما طال عليه سألها عن سبب ذلك فأخبرته أنها ابنة مهرك وأنها تفعل ذلك إبقاء عليه من أردشير، فعاهدها على ستر أمرها، ووطئها فولدت له هرمز، فستر أمره حتى صار له سنون. فركب أردشير يوماً إلى منزل ابنه سابور لشيء أراد ذكره له، فدخل منزله مفاجأة، فلما استقر خرج هرمز وبيده صولجان وهو يصيح في أثر الكرة، فلما رآه أردشير أنكره ووقف على المشابه التي فيه من حسن الوجه وعبالة الخلق وأمور غيرها، فاستدناه أردشير وسأل عنه سابور، فخرج مفكراً على سبيل الإقرار بالخطاء، وأخبر أباه أردشير الخبر، فسر، وأخبره أنه قد تحقق الذي ذكره المنجمون في ولد مهرك، وأن ذلك قد سلى ما كان في نفسه وأذهبه.
فلما ملك سابور ولى هرمز خراسان وسيره إليها، فقهر الأعداء واستقل بالأمر، فوشى به الوشاة إلى سابور أنه على عزم أن يأخذ الملك منه، وسمع هرمز بذلك فقيل إنه قطع يده وأرسلها إلى أبيه، فكتب إليه بما بلغه وأنه فعل ذلك إزالة للتهمة لأن رسمهم أنهم كانوا لا يملكون ذا عاهة، فلما وصلت يده إلى سابور تقطع أسفاً وأرسل إلى هرمز يعلمه ما ناله لذلك وعقد له على الملك وملكه، ولما ملك عدل في رعيته، وكان صادقاً، وسلك سبيل آبائه وكور كورة رامهرمز. وكان ملكه سنة وعشرة أيام. ذكر ملك ابنه بهرام بن هرمز بن سابوروكان حليماً متأنياً حسن السيرة، وقتل ماني الزنديق وسلخه وحشا جلده تبناً وعلق على باب من أبواب جنديسابور يسمى باب ماني. وكان ملكه ثلاث سنين وثلاثة أشهر وثلاثة أيام. وكان عامل سابور بن أردشير وابنه هرمز وبهرام بن هرمز - بعد ملك عمرو بن عدي على ربيعة ومضر وسائر من ببادية العراق والحجاز والجزيرة يومئذٍ - ابن لعمرو بن عدي، يقال له امرؤ القيس البدء، وهو أول من تنصر من آل نصر بن ربيعة وعمال الفرس، وعاش مملكاً فيعمله مائة سنة وأربع عشرة سنة، منها في زمن سابور بن أردشير ثلاثاً وعشرين سنة وشهراً، وفي زمن هرمز بن سابور سنة وعشرة أيام، وفي زمن بهرام ثلاث سنين وثلاثة أشهر وثلاثة أيام، وفي زمن بهرام بن بهرام بن هرمز ثماني عشرة سنة. ذكر ملك ابنه بهرام بن بهرام بن هرمز بن سابور بن أردشيروكان ملكه حسناً، وكان عالماً بالأمور، فلما عقد له التاج وعدهم بحسن السية، واختلف في سني ملكه، فقيل ثماني عشرة سنة، وقيل سبع عشرة سنة، والله أعلم. ذكر ملك ابنه بهرام بن بهرام بن بهرام بن هرمز بن سابورفلما عقد التاج على رأسه دعا له العظماء فأحسن الرد، وكان قبل أن يفضي إليه الأمر مملكاً على سجستان. وكان ملكه أربع سنين. ذكر ملك نرسي بن بهراموهو أخو بهرام الثالث، فلما عقد التاج على رأسه دخل عليه الأشراف والعظماء فدعوا له، فوعدهم خيراً وسار فيهم بأعدل السيرة، وقال: لن نضيع شكر ما أنعم الله به علينا. وكان ملكه تسع سنين. ذكر ملك هرمز بن نرسي بن بهرام بن بهرام بن هرمزوكان الناس قد وجلوا منه لفظاظته، فأعلمهم أنه قد علم بما كانوا يخافون من شدة ولايته، وأن الله قد أبدل ما كان فيه من الفظاظة رقةً ورأفةً، وساسهم أرفق سياسة، وكان حريصاً على انتعاش الضعفاء وعمارة البلاد والعدل، ثم هلك ولا ولد له، فشق ذلك على الناس، فسألوا عن نسائه، فذكر لهم أن بعضهن حبلى، وقيل: عن هرمز كان أوصى بالملك لذلك الحمل. وولدت المرأة سابور ذا الأكتاف. وكان ملك هرمز ست سنين وخمسة أشهر، وقيل سبع سنين وخمسة أشهر. وأسماء الملوك من سابور بن أردشير إلى هنا لم يحذف منها شيء. ذكر ملك ابنه سابور ذي الأكتافوهو سابور بن هرمز بن نرسي بن بهرام بن بهرام بن هرمز بن سابور بن أردشير ابن بابك، قيل: ملك بوصية أبيه له، فاستبشر الناس بولادته وبثوا خبره في الآفاق، وتقلدوا الوزراء والكتاب ما كانوا يعملونه في ملك أبيه. وسمع الملوك أن ملك الفرس صغير في المهد، فطمعت في مملكتهم الترك والعرب والروم، وكانت العرب أقرب إلى بلاد فارس، فسار جمعٌ منهم في البحر من عبد القيس والبحرين إلى بلاد فارس وسواحل أردشير خره وغلبوا أهلها على مواشيهم ومعايشهم وأكثروا الفساد، وغلبت إياد على سواد العراق وأكثروا الفساد فيهم، فمكثوا حيناً لا يغزوهم أحد من الفرس لصغر ملكهم.
فلما ترعرع سابور وكبر كان أول ما عرف من حسن فهمه أنه سمع في البحر ضوضاء وأصواتاً فسأل عن ذلك فقيل: إن الناس يزدحمون في الجسر الذي على دجلة مقبلين ومدبرين، فأمر بعمل جسر آخر يكون أحدهما للمقبلين والآخمر للمدبرين، فاستبشر الناس بذلك. فلما بلغ ست عشرة سنة وقوي على حمل السلاح جمع رؤساء أصحابه فذكر لهم ما اختل من أمرهم وأنه يريد الذب عنهم ويشخص إلى بعض الأعداء. فدعا له الناس وسألوه أن يقيم بموضعه ويوجه القواد والجنود ليكفوه ما يريد، فأبى واختار من عسكره ألف رجل، فسألوه الازدياد، فلم يفعل، وسار بهم ونهاه عن الإبقاء على أحد من العرب، وقصد بلاد فارس فأوقع بالعرب وهم غارون فقتل وأسر وأكثر. ثم قطع البحر إلى الخط فقتل من بالبحرين لم يلتفت إلى غنيمة، وسار إلى هجر وبها ناس من تميم وبكر بن وائل وعبد القيس، فقتل منهم حتى سالت دماؤهم على الأرض، وأباد عبد القيس، وقصد اليمامة وأكثر في أهلها القتل، وغور مياه العرب، وقصد بكراً وتغلب فيما بين مناظر الشام والعراق فقتل وسبى وغور مياههم وسار إلى قرب المدينة ففعل كذلك، وكان ينزع أكتاف رؤسائهم ويقتلهم إلى أن هلك فسموه سابور ذا الأكتاف لهذا، وانتقلت إياد حينئذٍ إلى الجزيرة وصارت تغير على السواد، فجهز سابور إليهم الجيوش، وكان لقيط الإيادي معهم، فكتب إلى إياد: ؟سلامٌ في الصحيفة من لقيطٍ ... إلى من بالجزيرة من إياد بأنّ اللّيث كسرى قد أتاكم ... فلا يشغلكم سوق النّقاد أتاكم منهم سبعون ألفاً ... يزجّون لكتائب كالجراد فلم يقبلوا منه وداموا على الغارة، فكتب إليهم أيضاً: أبلغ إياداً وطوّل في سراتهم ... أنّي أرى الرّأي إن لم أعص قد نصعا وهي قصيدة مشهورة من أجود ما قيل في صفة الحرب. فلم يحذروا، وأوقع بهم سابور وأبادهم قتلاً إلا من لحق بأرض الروم. فهذا فعله بالعرب. وأما الروم فإن سابور كان هادن ملكهم، وهو قسطنطين، وهو أول من تنصر من ملوك الروم، ونحن نذكر سبب تنصره عند الفراغ من ذكر سابور إن شاء الله. ومات قسطنطين وفرق ملكه بين ثلاثة بنين كانوا له، فملكوا، وملكت الروم عليهم رجلاً من أهل بيت قسطنطين يقال له اليانوس، وكان على ملة الروم الأولى ويكتم ذلك، فلما ملك أظهر دينه وأعاد ملة الروم وأخرب البيع وقتل الأساقفة ثم جمع جموعاً من الروم والخزر وسار نحو سابور. واجتمعت العرب للانتقام من سابور، فاجتمع في عسكر اليانوس منهم خلق كثير. وعادت عيون سابور إليه فاختلفوا في الأخبار، فسار سابور بنفسه مع جماعة من ثقاته نحو الروم، فلما قرب من يوسانوس، وهو على مقدمة اليانوس، اختفى وأرسل بعض من معه إلى الروم، فأخذوا، وأقر بعضهم على سابور، فأرسل يوسانوس إليه سراً ينذره فارتحل سابور إلى عسكره وتحارب هو والعرب والروم، فانهزم عسكره وقتل منهم مقتلة عظيمة، وملكت الروم مدينة طيسفون، وهي المدائن الشرقية، وملكوا أيضاً أموال سابور وخزائنه. وكتب سابور إلى جنوده وقواده يعلمهم ما لقي من الروم والعرب ويستحثهم على المسير إليه، فاجتمعوا إليه، وعاد واستنقذ مدينة طيسفون، ونزل اليانوس مدينة بهرسير، واختلف الرسل بينهما، فبينما اليانوس جالس أصابه سهم لا يعرف راميه فقتله، فسقط في أيدي الروم، ويئسوا من الخلاص من بلاد الفرس، فطلبوا من يوسانوس أن يملك عليهم، فلم يفعل وأبى إلا أن يعودوا إلى النصرانية، فأخبروه أنهم على ملته، وإنما كتموا ذلك خوفاً من اليانوس. فملك عليهم، وأرسل سابور إلى الروم يتهددهم ويطلب الذي ملك عليهم ليجتمع به. فسار إليه يوسانوس في ثمانين رجلاً، فتلقاه سابور وتساجدا وطعما، وقوى سابور أمر يوسانوس بجهده وقال للروم: إنكم أخربتم بلادنا وأفسدتم فيها، فإما أن تعطونا قيما ما أهلكتم وإما أن تعوضونا نصيبين، وكانت قديماً للفرس، فغلبت الروم عليها، فدفعوها إليهم، وتحول أهلها عنها، فحول إليها سابور اثني عشر ألف بيت من أهل إصطخر وأصبهان وغيرهما، وعادت الروم إلى بلادهم، وهلك ملكهم بعد ذلك بيسير.
وقيل: إن سابور سار إلى حد الروم وأعلم أصحابه أنه على قصد الروم مختفياً لمعرفة أحوالهم وأخبار مدنهم، وسار إليهم، فجال فيهم حيناً، وبلغه أن قيصر أولم وجمع الناس فحضر بزي سائل لينظر إلى قيصر على الطعام، ففطن به وأخذ وأدرج في جلد ثور، وسار قيصر بجنوده إلى أرض فارس ومعه سابور على تلك الحال، فقتل وأخرب حتى بلغ جند يسابور، فتحصن أهلها وحاصرها، فبينما هو يحاصرها إذ غفل الموكلون بحراسة سابور، وكان بقربه قوم من سبي الأهواز، فأمرهم أن يلقوا على القد الذي عليه زيتاً كان بقربهم، ففعلوا، ولان الجلد وانسل منه وسار إلى المدينة وأخبر حراسها فأدخلوه، فارتفعت أصوات أهلها، فاستيقظ الروم، وجمع سابور من بها وعباهم وخرج إلى الروم سحر لتك الليلة فقتلهم وأسر قيصر وغنم أمواله ونساءه واثقله بالحديد وأمره بعمارة ما أخرب وألزمه بنقل التراب من بلد الروم ليبني به ما هدم المنجنيق من جنديسابور وأن يغرس الزيتون مكان النخل، ثم قطع عقبه وبعث به إلى الروم على حمار وقال: هذا جزاؤك يبغيك علينا؛ فأقام مدة ثم غزا فقتل وسبى سبايا أسكنهم مدينة بناها بناحية السو سماها إيران شهر سابور، وبنى مدينة نيسابور بخراسان في قول، وبالعراق بزرج سابور. وكان ملكه اثنتين وسبعين سنة. وهلك في أيامه امرؤ القيس بن عمرو ابن عدي عامله على العرب، فاستعمل ابنه عمرو بن امرئ القيس، فبقي في عمله بقية ملك سابور وجميع أيام أخيه أردشير بن هرمز وبعض أيام سابور بن سابور. وكانت ولايته ثلاثين سنة. سبب تنصر قسطنطينوأما سبب تنصر قسطنطين فإنه كان قد كبر سنه وساء خلقه وظهر به وضح كبير، فأرادت الروم خلعه وترك ماله عليه، فشاور نصحاءه، فقالوا له: لا طاقة لك بهم فقد أجمعوا على خلعك وإنما تحتال عليهم بالدين. وكانت النصرانية قد ظهرت، وهي خفية، وقالوا له: استمهلهم حتى تزور البيت المقدس، فإذا زرته دخلت في دين النصرانية وحملت الناس عليه، فإنهم يعترفون، فتقاتل من عصاك بمن أطاعك، وما قاتل قوم على دين إلا نصروا. ففعل ذلك، فأطاعه عالم عظيم وخالفه خلق كثير وأقاموا على دين اليونانية، فقاتلهم وظفر بهم، فقتلهم فأحرق كتبهم وحكمتهم وبنى القسطنطينية ونقل الناس إليها، وكانت رومية دار ملكهم، وبقي ملكه عليه، وغلب على الشام، وكان الأكاسرة قبل سابور ذي الأكتاف ينزلون طيسفون، وهي المدينة الغربية من المدائن، فلما نشأ سابور بنى الإيوان بالمدائن الشرقية وانتقل إيه وصار هو دار الملك، وهو باقٍ إلى الآن، ونحن في سنة خمس وعشرين وستمائة. ذكر ملك أردشير بن هرمز بن نرسي بن بهرام بن سابور بن أردشير بن بابك أخي سابور فلما ملك واستقر له الملك عطف على العظماء وذوي الرئاسة فقتل منهم خلقاً كثيراً، فخلعه الناس بعد أربع سنين من ملكه. ذكر ملك سابور بن سابور ذي الأكتاففلما ملك بعد خلع عمه استبشر الناس بعود ملك أبيه إليه، وكتب إلى العمال بالعدل والرفق بالرعية وأمر بذلك وزراءه وحاشيته، وأطاعه عمه المخلوع وأحبته رعيته، ثم إن العظماء وأهل الشرف قطعوا أطناب خيمة كان فيها فسقطت عليه فقتلته. وكان ملكه خمس سنين. ذكر ملك أخيه بهرام بن سابور ذي الأكتافوكان يلقب كرمان شاه، لأن أباه ملكه كرمان في حياته، فكتب إلى القواد كتاباً يحثهم على الطاعة، وكان محموداً في أموره، وبنى بكرمان مدينة. وثار به ناس من الفتاك فقتله أحدهم بنشابة. وكان ملكه إحدى عشرة سنة. ذكر ملك يزدجرد الأثيم بن بهرام بن سابور ذي الأكتاف
ومن أهل العلم من يقول إن يزدجرد هذا هو أخو بهرام كرمان شاه بن سابور لا ابنه، وكان فظاً غليظاً ذا عيوب كثيرة يضع الشيء في غير مواضعه، كثير الرؤية في الصغائر، واستعمال كل ما عنده في المواربة والدهاء والمخاتلة مع فطنة بجهات الشر وعجب به، وكان غلقاً سيئ الخلق لا يغفر الصغيرة من الزلات ولا يقبل شفاعة أحد من الناس وإن كان قريباً منه، كثير التهمة، ولا يأتمن أحداً على شيء، ولم يكن يكافئ أحداً على حسن البلاء وإن هو أولى الخسيس من العرف استعظمه، وإذا بلغه أن أحداً من أصحابه صافى أحداً من أهل صناعته نحاه عن خدمته. وكان فيه مع ذلك ذكاء ذهن وحسن أدب، وقد مهر في صنوف من العلم، واستوزر نرسي حكيم زمانه، وكان فاضلاً قد كمل أدبه ولقبه هزار بيده، فأمل الناس أن يصلح نرسي منه، فكان ما أملوه بعيداً. فلما استوى له الملك واشتدت شوكته هابته الأشراف والعظماء، وحمل على الضعفاء فأكثر من سفك الدماء. فلما ابتليت الرعية به شكوا ما نزل بهم منه إلى الله تعالى وسألوه تعجيل إنقاذهم منه، فزعموا أنه كان بجرجان فرأى ذات يوم في صره فرساً عائراً لم ير مثله، فأخبر به، فأمر أن يسرج ويلجم ويدخل عليه، فلم يقدر أحد على ذلك، فأعلم بذلك، فخرج إليه بنفسه وألجمه بيده وأسرجه، فلما رفع ذنبه ليثفره رمحه على فؤاده رمحة هلك منها مكانه وملأ الفرس فروجه جرياً ولم يعلم له خبر، وكان ذلك من صنع الله ورأفته بهم. وكان ملكه اثنتين وعشرين سنة وخمسة أشهر وستة عشر يوماً. وأما العرب فقيل إنه لما هلك عمرو بن امرئ القيس البدء بن عمرو ابن عدي في عهد سابور استخلف سابور على عمله أوس بن قلام، وهو من العماليق، فملك خمس سنين وقتل في عهد بهرام بن سابور، ساستخلف بعده في عمله امرؤ القيس بن عمرو بن امرئ القيس البدء، فبقي خمساً وعشرين سنة، وهلك أيام يزدجرد الأثيم، فاستخلف بعده في عمله ابنه النعمان وأمه شقيقة ابنة أبي ربيعة بن ذهل بن شيبان، وهو صاحب الخورنق. وسبب بنائه له أن يزدجرد الأثيم كان لا يبقى له ولد، فسأل عن منزل مريء صحيح، فدل على ظاهرة الحيرة، فدفع ابنه بهرام جور إلى النعمان هذا وأمره ببناء الخورنق مسكناً له وأمره بإخراجه إلى بوادي العرب، وكان الذي بنى الخورنق رجلاً اسمه سنمار. فلما فرغ من بنائه تعجبوا منه، فقال: لو علمت أنكم توفونني أجري لعملته يدور مع الشمس. فقال: وإنك لتقدر على ما هو أفضل منه ! ثم أمر به فألقي من رأس الخورنق فهلك، فضربت العرب بجزائه المثل، وهو مذكور في أشعارها. وغزا النعمان هذا الشام مراراً وأكثر المصائب في أهلها وسبى وغنم وجعل معه ملك فارس كتيبتين يقال لإحداهما دوس وهي لتنوخ، وللأخرى الشهباء وهي لفارس، فكان يغزو بهما الشام ومن لم يطعه من العرب. ثم إنه جلس يوماً في مجلسه من الخورنق فأشرف منه على النجف وما يليه من البساتين والأنهار في يوم من أيام الربيع، فأعجبه ذلك، فقال لوزيره: هل رأيت مثل هذا المنظر قط ؟ قال: لا لو كان يدوم. قال: فما الذي يدوم ؟ قال: ما عند الله في الآخرة. قال: فبم ينال ذلك ؟ قال: بتركك الدنيا وعبادة الله. فترك ملكه من ليلته ولبس المسوح وخرج هارباً لا يعلم به، فأصبح الناس فلم يروه. وكان ملكه إلى أن تركه وساح تسعاً وعشرين سنة وأربعة أشهر، من ذلك في أيام يزدجرد خمس عشرة سنة، وفي زمن بهرام جور بن يزدجرد أربع عشرة سنة. وأما علماء الفرس فإنهم يقولون غير هذا، وسيرد ذكره. ذكر ملك بهرام بن يزدجرد الأثيم
لما ولد يزدجرد بهرام جور اختار لحضانته العرب، فدعا بالمنذر بن النعمان واستحضنه بهرام وشرفه وكرمه وملكه على العرب، فسار به المنذر واختار لرضاعه ثلاث نسوة ذوات أجسام صحيحة وأذهان ذكية وآداب حسنة من بنات الأشراف، منهن عربيتان وعجمية، فأرضعنه ثلاث سنين. فلما بلغ خمس سنين أحضر له مؤدبين فعلموه الكتابة والرمي والفقه بطلب من بهرام بذلك، وأحضر حكيماً من حماء الفرس بتعلم ووعى كل ما علمه بأدنى تعليم. فلما بلغ اثنتي عشرة سنة تعلم كل ما أفيد وفاق معلميه، فأمرهم المنذر بالانصراف، وأحضر معلمي الفروسية فأخذ عنهم كل ما ينبغي له، ثم صرفهم. ثم أمر فأحضرت خيل العرب للسباق فسبقها فرس أشقر للمنذر، وأقبل باقي الخيل بداد بداد فقرب المنذر الفرس بيده إليه، فقبله وركبه يوماً للصيد، فبصر بعانة حمرٍ وحش، فرمى عليها وقصدها وإذا هو بأسد قد أخذ عيراً منها فتناول ظهره بفيه، فرماه بهرام بسهم فنفذ في الأسد والعير، ووصل إلى الأرض فساخ السهم إلى ثلثه، فرآه من معه فعجبوا منه، ثم أقبل على الصيد واللهو والتلذذ. فمات أبوه وهو عند المنذر، فتعاهد العظماء وأهل الشرف على أن لا يملكوا أحداً من ذرية يزدجرد لسوء سيرته، فاجتمعت الكلمة على صرف الملك عن بهرام لنشوئه في العرب وتخلقه بأخلاقهم ولأنه من ولد يزدجرد، وملكوا رجلاً من عقب أردشير بن بابك يقال له كسرى. فانتهى هلاك يزدجرد وتمليك كسرى إلى بهرام، فدعا بالمنذر وابنه النعمان وناس من أشراف العرب وعرفهم إحسان والده إليهم وشدته على الفرس، وأخبرهم الخبر. فقال المنذر: لا يهولنك ذلك حتى ألطف الحيلة فيه، وجهز عشرة آلاف فارس ووجههم مع ابنه النعمان إلى طيسفون وبهرسير مدينتي الملك، وأمره أن يعسكر قرباً منهما ويرسل طلائعه إليهما وأن يقاتل من قاتله ويغير على البلاد، ففعل ذلك، وأرسل عظماء فارس حوابى صاحب رسائل يزدجرد إلى المنذر يعلمه أمر النعمان، فلما ورد حوابى قال له: الق الملك بهرام. فدخل عليه، فراعه ما رأى منه، فأغفل السجود دهشا، فعرف بهرام ذلك فكلمه ووعده أحسن الوعد ورده إلى المنذر وقال له: أجبه. فقال له: إ إن الملك بهرام أرسل النعمان إلى ناحيتكم حيث ملكه الله بعد أبيه. فلما سمع حوابى مقالة المنذر وتذكر ما رأى من بهرام علم أن جميع من تشاور في صرف الملك عن بهرام محجوج، فقال للمنذر: سر إلى مدينة الملوك فيجتمع إليك الأشراف والعظماء، وتشاوروا في ذلك فلن يخالفوا ما تشير به. وسار المنذر بعد عود حوابي من عنده بيوم في ثلاثين ألفاً من فرسان العرب إلى مدينتي الملك بهرام، فجمع الناس، وصعد بهرام على منبر من ذهب مكلل بالجوهر وتكلم عظماء الفرس فذكروا فظاظة يزدجرد أبي بهرام وسوء سيرته وكثرة قتله وإخراب البلاد وأنهم لهذا السبب صرفوا الملك عن ولده. فقال بهرام: لست أكذبكم وما زلت زارياً عليه ذلك ولم أزل أسأل الله أن يملكني لأصلح ما أفسد ومع هذا فإذا أتى على ملكي سنة ولم اف بما أعد تبرأت من الملك طائعاً وأنا راضٍ بأن تجعلوا التاج وزينة الملك بين أسدين ضاريين فمن تناولهما كان الملك له. فأجابوه إلى ذلك ووضعوا التاج والزينة بين أسدين، وحضر موبذان موبذ، فقال بهرام لكسرى: دونك التاج والزينة. فقال كسرى: أنت أولى لأنك تطلب الملك بوراثة وأنا فيه مغتصب. فحمل بهرام جرزاً وتوجه نحو التاج، فبدر إليه أحد الأسدين فوثب بهرام فعلاً ظهره وعصر جنبي الأسد بفخذيه وجعل يضرب رأسه بالجزر الذي معه، ثم وثب الأسد الآخر عليه، فقبض أذنيه بيده ولم يزل يضرب رأسه برأس الأسد الآخر الذي تحته حتى دمغهما ثم قتلهما بالجزر الذي معه وتناول بعد ذلك التاج والزينة. فكان أول من أطاعه كسرى، وقال جميع من حضر: قد أذعنا لك ورضينا بك ملكاً، وإن العظماء والوزراء والأشراف سألوا المنذر ليكلم بهرام في العفو عنهم. فسأل المنذر الملك بهرام ذلك فأجابه.
وملك بهرام وهو ابن عشرين سنة وأمر أن يلزم رعيته راحة ودعة، وجلس للناس يعدهم بالخير ويأمرهم بتقوى الله، ولم يزل مدة ملكه يؤثر اللهو على ما سواه حتى طمع فيه من حوله من الملوك في بلاده، وكان أول من سبق إلى قصده خاقان ملك الترك، فإنه غزاه في مائتي ألف وخمسين ألفاً من الترك، فعظم ذلك على الفرس، ودخل العظماء على بهرام وحذروه، فتمادى في لهوه ثم تجز وسار إلى أذربيجان ليتنسك في بيت نارها، ويتصيد بأمنيته في سبعة رهط من العظماء وثلاثمائة من ذوي البأس والنجدة، واستخلف أخاه نرسي، فما شك الناس في أنه هرب من عدوه، فاتفق رأي جمهورهم على الانقياد إلى خاقان، وبذل الخراج له خوفاً على نفوسهم وبلادهم. فبلغ ذلك خاقان فأمن ناحيتهم وسار بهرام من أذربيجان إلى خاقان في تلك العدة، فثبت للقتال وقتل خاقان بيده وقتل جنده وانهزم من سلم من القتل، وأمعن بهرام في طلبهم يقتل ويأسر ويغنم ويسبي، وعاد وجنده سالمين وظفر بتاج خاقان وإكليله وغلب على طرف من بلاده واستعمل عليها مرزباناً، وأتاه رسل الترك خاضعين مطيعين وجعلوا بينهم حداً لا يعدونه، وأرسل إلى ما وراء النهر قائداً من قواده فقتل وسبى وغنم، وعاد بهرام إلى العراق، وولى أخاه نرسي خراسان وأمره أن ينزل مدينة بلخ. واتصل به أن بعض رؤساء الديلم جمع جمعاً كثيراً وأغار على الري وأعمالها فغنم وسبى وخرب البلاد وقد عجز أصحابه في الثغر عن دفعه، وقد قرروا عليهم إتاوة يدفعونها إليه، فعظم ذلك عليه وسير مرزباناً إلى الري في عسكر كثيف وأمره أن يضع على الديلمي من يطمعه في البلاد ويغريه بقصدها، ففعل ذلك، فجمع الديلمي جموعه وسار إلى الري، فأرسل المرزبان إلى بهرام جور يعلمه خبره، فكتب إليه يأمره بالمسير نحو الديلمي والمقام بموضع سماه له، ثم سار جريدة في نفر من خواصه فأدرك عسكره بذلك المكان والديلمي لا يعلم بوصوله، وهو قد قوي طمعه لذلك، فعبى بهرام أصحابه وسار نحو الديلم، فلقيهم وباشر القتال بنفسه، فأخذ رئيسهم أسيراً، وانهزم عسكره، فأمر بهرام بالنداء فيهم بالأمان لمن عاد إليه، فعاد الديلم جميعهم، فآمنهم ولم يقتل منهم أحداً وأحسن إليهم وعادوا إلى أحسن طاعة، وأبقى على رئيسهم وصار من خواصه. وقيل: كانت هذه الحادثة قبل حرب الترك، والله أعلم. ولما ظفر بالديلم أمر ببناء مدينة سماها فيروز بهرام، فبنيت له هي ورستاقها. واستوزر نرسي، فأعلمه أنه ماضٍ إلى الهند متخفياً، فسار إلى الهند وهو لا يعرفه أحد، غير أن الهند يرون شجاعته وقتله السباع. ثم إن فيلاً ظهر وقطع السبيل وقتل خلقاً كثيراً، فاستدل عليه، فسمع الملك خبره فأرسل معه من يأتيه بخبره. فانتهى بهرام والهندي معه إلا الأجمة، فصعد الهندي شجرة ومضى بهرام فاستخرج الفيل وخرج وله صوت شديد، فلما قرب منه رماه بسهم بين عينيه كاد يغيب، ووقذه بالنشاب وأخذ مشفره، ولم يزل يطعنه حتى أمكن من نفسه فاحتز رأسه وأخرجه. وأعلم الهندي ملكهم بما رأى، فأكرمه وأحسن إليه وسأله عن حاله، فذكر أن ملك فارس سخط عليه فهرب إلى جواره، وكان لهذا الملك عدو فقصده، فاستسلم الملك وأراد أن يطيع ويبذل الخراج، فنهاه بهرام وأشار بمحاربته، فلما التقوا قال لأساورة الهندي: احفظوا لي ظهري، ثم حمل عليهم فجعل يضرب في أعراضهم ويرميهم بالنشاب حتى انهزموا، وغنم أصحاب بهرام ما كان في عسكر عدوه، فأعطى بهرام الدبيل ومكران وأنحكه ابنته، فأمر بتلك البلاد فضمت إلى مملكة الفرس. وعاد بهرام مسروراً وأغزى نرسي بلاد الروم في أربعين ألفاً وأمره أن يطالب ملك الروم بالإتاوة، فسار إلى القسطنطينية، فهادنه ملك الروم، فانصرف بكل ما أراد إلى بهرام. وقيل: إنه لما فرغ من خاقان والروم سار بنفسه إلى بلاد اليمن ودخل بلاد(السودان فقتل مقاتلتهم وسبى لهم خلقاً كثيراً وعاد إلى مملكته. ثم إنه في آخر ملكه خرج إلى الصيد فشد على عنز فأمعن في طلبه، فارتطم في جب فغرق، فبلغ والدته ذلك، فسارت إلى ذلك الموضع وأمرت بإخراجه، فنقلوا من الجب طيناً كثيراً حتى صار إكاماً عظاماً ولم يقدروا عليه. وكان ملكه ثماني عشرة سنة وعشرة أشهر وعشرين يوماً، وقيل: ثلاثاً وعشرين سنة.
هكذا ذكر أبو جعفر في اسم بهرام جور أن أباه أسلمه إلى المنذر بن النعمان، كما تقدم، وذكر عند يزدجرد الأثيم أنه سلم ابنه بهرام إلى النعمان بن امرئ القيس، ولا شك أن بعض العلماء قال هذا وبعضهم قال ذلك، إلا أنه لم ينسب كل قول إلى قائله. ذكر ملك ابنه يزدجرد بن بهرام جورلما لبس التاج جلس للناس ووعدهم وذكر أباه ومناقبه وأعلمهم أنهم إن فقدوا منه طول جلوسه لهم فإن خلوته في مصالحهم وكيد أعدائهم، وأنه قد استوزر نرسي صاحب أبيه. وعدل في رعيته وقمع أعداءه وأحسن إلى جنده، وكان له ابنان يقال لأحدهما هرمز وللآخر فيروز، وكان لهرمز سجستان، فغلب على الملك بعد هلاك أبيه يزدجرد، فهرب فيروز ولحق ببلاد الهياطلة واستنجد ملكهم، فأمده بعد أن دفع إليه الطالقان، فأقبل بهم فقتل أخاه بالري، وكانا من أم واحدة، وقيل لم يقتله وإنما أسره وأخذ الملك منه. وكان الروم منعوا الخراج عن يزدجرد، فوجه إليهم نرسي في العدة التي أنفذه أبوه فيها فبلغ إرادته. وكان ملك يزدجرد ثماني عشرة سنة وأربعة أشهر، وقيل تسع عشرة سنة. ذكر ملك فيروز بن يزدجرد بن بهرام بعد أن قتل أخاه هرمز وثلاثة من أهل بيته ولما ظفر فيروز بأخيه وملك أظهر العدل وأحسن السيرة، وكان يتدين، إلا أنه كان محدوداً مشؤوماً على رعيته، وقحطت البلاد في زمانه سبع سنين متوالية، وغارت الأنهار والقنى، وقل ماء دجلة، ومحلت الأشجار، وهاجت عام الزروع في السهل والجبل من بلاده، وماتت الطيور والوحوش، وعم أهل البلاد الجوع والجهد الشديد، فكتب إلى جميع رعيته يعلمهم أنه لا خراج عليهم ولا جزية ولا مؤونة، وتقدم إليهم بأن كل من عنده طعام مذخور يواسي به الناس وأن يكون حال الغني والفقير واحداً، وأخبرهم أنه إن بلغه أن إنساناً مات جوعاً بمدينة أو قرية عاقبهم ونكل بهم، وساس الناس سياسةً لم يعطب أحد جوعاً ما خلا رجلاً واحداً من رستاق أردشير خره، وابتهل فيروز إلى الله بالدعاء فأزال ذلك القحط وعادت بلاده إلى ما كانت عليه. فلما حيي الناس والبلاد وأثخن في أعدائه سار مريداً حرب الهياطلة، فلما سمع إخشنوار ملكهم خافه، فقال له بعض أصحابه: اقطع يدي ورجلي وألقني على الطريق وأحسن إلى عيالي لأحتال على فيروز. ففعل ذلك، واجتاز به فيروز فسأله عن حاله فقال له: إني قلت لإخشنوار لا طاقة لك بفيروز ففعل بي هذا، وإني أدلك على طريق لم يسلكها ملك وهي أقرب. فاغتر فيروز بذلك وتبعه، فسار به وبجنده حتى قطع بهم مفازة بعد مفازة حتى إذا علم أنهم لا يقدرون على الخلاص وأعلمهم حاله. فقال أصحاب فيروز لفيروز: حذرناك فلم تحذر، فليس إلا التقدم على كل حال، فتقدموا أمامهم فوصلوا إلى عدوهم وهم هلكى عطشى وقتل العطش منهم كثيراً. فلما أشرفوا على تلك الحال صالحوا إخشنوار على أن يخلي سبيلهم إلى بلادهم على أن يحلف له فيروز أنه لا يغزو بلاده، فاصطلحا، وكتب فيروز كتاباً بالصلح وعاد. فلما استقر في مملكته حملته الأنفة على معاودة إخشنوار، فنهاه وزراؤه عن نقض العهد، فلم يقبل وسار نحوه، فلما تقاربا أمر إخشنوار فحفر خلف عسكره خندقاً عرضه عشرة أذرع وعمقه عشرون ذراعاً وغطاه بخشب ضعيف وتراب، ثم عاد وراءه، فلما سمع فيروز بذلك اعتقده هزيمة فتبعه ولا يعلم عسكر فيروز بالخندق فسقط هو وأصحابه فيه فهلكوا، وعاد إخشنوار إلى عسكر فيروز وأخذ كل ما فيه وأسر نساءه وموبذان موبذ ثم استخرج جثة فيروز وجثة كل من سقط معه فجعلها في النواويس.
وقيل: إن فيروز لما انتهى إلى الخندق الذي حفره إخشنوار ولم يكن مغطى عقد عليه قناطر وجعل عليها أعلاماً له ولأصحابه يقصدونها في عودهم وجاء إلى القوم. فلما التقى العسكران احتج عليه إخشنوار بالعهود التي بينهما وحذره عاقبة الغدر، فلم يرجع، فنهاه أصحابه فلم ينته، فضعفت نياتهم في القتال. فلما أبى إلا القتال رفع إخشنوار نسخة العهد على رمح وقال: اللهم خذ بما في هذا الكتاب وقلده بغيه. فقاتله فانهزم فيروز وعسكره فضلوا عن مواضع القناطر فسقطوا في الخندق، فهلك فيروز وأكثر عسكره، وغنم إخشنوار أموالهم ودوابهم وجميع ما معهم، وغلب إخشنوار على عامة خراسان. فسار إليهم رجل من أهل فارس يقال له سوخرا، وكان فيهم عظيماً، وخرج كالمحتسب، وقيل: بل كان فيروز استخلفه على ملكه لما سار، وكان له سجستان، فلقي صاحب الهياطلة فأخرجه من خراسان واستعاد منه كل ما أخذ من عسكر فيروز مما هو في عسكره من السبي وغيره وعاد إلى بلاده، فعظمته الفرس إلى غاية لم يكن فوقه إلا الملك، وكانت مملكة الهياطلة طخارستان، فكان فيروز قد أعطى ملكهم لما ساعده على حرب أخيه الطالقان. وكان ملك فيروز ستاً وعشرين سنة، وقيل: إحدى وعشرين سنة. ذكر الأحداث في العرب أيام يزدجرد وفيروزكان يخدم ملوك حمير أبناء الأشراف من حمير وغيرهم، وكان ممن يخدم حسان بن تبع عمرو بن حجر الكندي سيد كندة، فلما قتل عمرة ابن تبع أخاه حسان بن تبع اصطنع عمرة بن حجر وزوجه ابنة أخيه حسان، ولم يطمع في التزوج إلى ذلك البيت أحد من العرب، فولدت الحارث بن عمرو. وملك بعد عمرة بن تبع عبد كلال بن مثوب، وإنما مملكوه لأن أولاد عمرو كانوا صغاراً، وكان الجن قبل ذلك قد استهامت تبع بن حسان، وكان عبد كلال على دين النصرانية الأولى ويكتم ذلك. ورجع تبع بن حسان من استهامته وهو أعلم الناس بما كان قبله، فملك اليمن، وهابته حمير، فبعث ابن أخته الحارث بن عمرو بن حجر في جيش إلى الحيرة، فسار إلى النعمان بن امرئ القيس، وهو ابن الشقيقة، فقاتله فقتل النعمان وعدةً من أهل بيته، وأفلت المنذر بن النعمان الأكبر وأمه ماء السماء امرأة من النمر ابن قاسط، فذهب ملك آل النعمان وملك الحارث بن عمرو الكندي ما كانوا يملكون؛ قاله بعضهم. وقال ابن الكلبي: ملك بعد النعمان المنذر بن النعمان بن المنذر بن النعمان أربعاً وأربعين سنة، من ذلك في زمن بهرام جور ثماني سنين، وفي زمن يزدجرد ابن بهرام ثماني عشرة سنة، وفي زمن فيروز بن يزدجرد سبع عشرة سنة، ثم ملك بعده الأسود بن المنذر عشرين سنة، منها في زمن فيروز بن يزدجرد عشر سنين، وفي زمن بلاش بن فيروز أربع سنين، وفي زمن قباذ بن فيروز ست سنين. وهكذا ذكر أبو جعفر ها هنا أن الحارث بن عمرو قتل النعمان بن امرئ القيس وأخذ بلاده وانقرض ملك أهل بيته، وذكر فيما تقدم أن المنذر بن النعمان أو النعمان، على الاختلاف المذكور، هو الذي جمع العساكر وملك بهرام جور على الفرس، ثم ساق فيما بعد ملوك الحيرة من أولاد النعمان هذا إلى آخرهم ولم يقطع ملكهم بالحارث بن عمرو، وسبب هذا أن أخبار العرب لم تكن مضبوطة على الحقيقة، فقال كل واحد ما نقل إليه من غير تحقيق. وقيل غير ذلك، وسنذكره في مقتل حجر بن عمرو والد امرئ القيس في أيام العرب إن شاء الله. والصحيح أن ملوك كندة عمرو والحارث كانوا بنجد على العرب، وأما اللخميون ملوك الحيرة المناذرة فلم يزالوا عليها إلى أن ملك قباذ الفرس وأزالهم واستعمل الحارث بن عمرو الكندي على الحيرة. ثم أعاد أنوشروان الحيرة إلى اللخميين، على ما نذكره إن شاء الله تعالى. ذكر ملك بلاش بن فيروز بن يزدجردثم ملك بعد فيروز ابنه بلاش وجرى بينه وبين أخيه قباذ منازعة استظهر فيها قباذ وملك، فلما ملك بلاش أكرم سوخرا وأحسن إليه لما كان منه، ولم يزل حسن السيرة حريصاً على العمارة، وكان لا يبلغه أن بيتاً خرب وجلا أهله إلا عاقب صاحب تلك القرية على تركه سد فاقتهم حتى لا يضطروا إلى مفارقة أوطانهم، وبنى مدينة ساباط بقرب المدائن، وكان ملكه أرب | |
|
| |
الشيخ عودة الشيخ عودة
عدد المساهمات : 1748 تاريخ التسجيل : 28/09/2008 العمر : 74
| موضوع: رد: كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير الخميس فبراير 06, 2014 8:35 am | |
| وكان قباذ قبل أن يصير الملك إليه قد سار إلى خاقان مستنصراً به على أخيه بلاش، فمر في طريقه بحدود نيسابور ومعه جماعة من أصحابه متنكرين وفيهم زرمهر بن سوخرا، فتاقت نفسه إلى النكاح، فشكا ذلك إلى زرمهر وطلب منه امرأة، فسار إلى امرأة صاحب المنزل، وكان من الأساورة، وكان لها بنت حسناء، فخطبها منها وأطمعها وزوجها، فزوجا فدخل بها من ليلته، فحملت بأنوشروان، وأمر لها بجائزةٍ سنية وردها، وسألتها أمها عن قباذ وحاله. فذكرت أنها لا تعرف من حاله شيئاً غير أن سراويله منسوجة بالذهب، فعلمت أنه من أبناء الملوك. ومضى قباذ إلى خاقان واستنصره على أخيه، فأقام عنده أربع سنين وهو يعده، ثم أرسل معه جيشاً. فلما صار بالقرب من الناحية التي بها زوجته سأل عنها فأحضرت ومعها أنوشروان وأعلمته أنه ابنه. وورد الخبر إليه بذلك المكان أن أخاه بلاش قد هلك، فتيمن بالمولود وحمله وأمه على مراكب نساء الملوك واستوثق له الملك وخص سوخرا وشكر لولده خدمته. وتولى سوخرا الأمر، فمال الناس إليه وتهاونوا بقباذ، فلم يحتمل ذلك. فكتب إلى سابور الرازي، وهو أصبهبذ ديار الجبل، ويقال للبيت الذي هو منه مهران، فاستقدمه ومعه جنده، فتقدم إليه فأعلمه عزمه على قتل سوخرا وأمره بكتمان ذلك، فأتاه يوماً سابور وسوخرا عند قباذ فألقى في عنقه وهقاً وأخذه وحبسه ثم خنقه قباذ وأرسله إلى أهله وقدم عوضه سابور الرازي. وفي أيامه ظهر مزدك وابتدع ووافق زرادشت في بعض ما جاء به وزاد ونقص، وزعم أنه يدعو إلى شريعة إبراهيم الخليل حسب ما دعا إليه زرادشت، واستحل المحارم والمنكرات، وسوى بين الناس في الأموال والأملاك والنساء والعبيد والإماء حتى لا يكون لأحد على أحد فضل في شيء البتة، فكثر أتباعه من السفلة والأغتام فصاروا عشرات ألوف، فكان مزدك يأخذ امرأة هذا فيسلمها إلى الآخر، وكذا في الأموال والعبيد والإماء وغيرها من الضياع والعقار، فاستولى وعظم شأنه وتبعه الملك قباذ. فقال يوماً لقباذ: اليوم نوبتي من امرأتك أم أنوشروان. فأجابه إلى ذلك، فقام أنوشروان إليه ونزع خفيه بيده وقبل رجليه وشفع إليه حتى لا يتعرض لأمه وله حكمه في سائر ملكه، فتركها. وحرم ذباحة الحيوان وقال: يكفي في طعام الإنسان ما تنبته الأرض وما يتولد من الحيوان كالبيض واللبن والسمن والجبن، فعظمت البلية به على الناس فصار الرجل لا يعرف ولده والولد لا يعرف أباه. فلما مضى عشر سنين من ملك قباذ اجتمع موبذان موبذ والعظماء وخلعوه وملكوا عليهم أخاه جامسب وقالوا له: إنك قد أثمت باتباعك مزدك وبما عمل أصحابه بالناس وليس ينجيك إلا إباحة نفسك ونسائك، وأرادوه على أن يسلم نفسه إليهم ليذبحوه ويقربوه إلى النار، فامتنع من ذلك، فحبسوه وتركوه لا يصل إليه أحد. فخرج زرمهر بن سوخرا فقتل من المزدكية خلقاً، وأعاد قباذ إلى ملكه وأزال أخاه جامسب. ثم إن قباذ قتل بعد ذلك زرمهر. وقيل: لما حبس قباذ وتولى أخوه دخلت أختٌ لقباذ عليه كأنها تزوره ثم لفته في بساط وحمله غلام، فلما خرج من السجن سأله السجان عما معه، فقالت: هو مرحل كنت أحيض فيه، فلم يمس البساط، فمضى الغلام بقباذ، وهرب قباذ فلحق بملك الهياطلة يستجيشه. فلما صار بإيران شهر، وهي نيسابور، نزل برجل من أهلها له ابنة بكر حسنة جميلة فنحكها، وهي أم كسرى أنوشروان، فكان نكاحه إياها في هذه السفرة لا في تلك، في قول بعضهم، وعاد ومعه أنوشروان، فغلب أخاه جامسب على الملك؛ وكان ملك جامسب ست سنين. وغزا قباذ بعد ذلك الروم ففتح مدينة آمد وبنى مدينة أرجان ومدينة حلوان ومات، فملك ابنه كسرى أنوشروان بعده، فكان ملك قباذ مع سني أخيه جامسب ثلاثاً وأربعين سنة، فتولى أنوشروان ما كان أبوه أمر له به. وفي أيامه خربت الخزر فأغاربت على بلاده فبلغت الدينور، فوجه قباذ قائداً من عظماء قواده في اثني عشر ألفاً، فوطئ بلاد أران وفتح ما بين النهر المعروف بالرس إلى شروان، ثم إن قباذ لحق به فبنى بأران مدينة البيلقان ومدينة برذعة، وهي مدينة الثغر كله، وغيرهما، وبقي الخزر، ثم بنى سداً للآن فيما بين أرض شروان وباب اللان، وبنى على السد مدناً كثيرة خربت بعد بناء الباب والأبواب. ذكر حوادث العرب أيام قباذ
لما ملك الحارث بن عمرو بن حجر الكندي العرب وقتل النعمان بن المنذر ابن امرئ القيس، كما ذكرناه، بعث إليه قباذ: إنه قد كان بيننا وبين الملك الذي كان قبلك عهد، وأحب لقاءك. وكان قباذ زنديقاً يظهر الخير ويكره الدماء ويداري أعداءه. فخرج إليه الحارث والتقيا واصطلحا على أن لا يجوز الفرات أحدٌ من العرب، فطمع الحارث الكندي فأمر أصحابه أن يقطعوا الفرات ويغيروا على السواد، فسمع قباذ فعلم أنه من تحت يد الحارث، فاستدعاه، فحضر، فقال له: إن لصوصاً من العرب صنعت كذا وكذا، فقال: ما علمت ولا أستطيع ضبط العرب إلا بالمال والجنود. وطلب منه شيئاً من السواد، فأعطاه ستة طساسيج، وأرسل الحارث بن عمرو إلى تبع، وهو باليمن، يطمعه في بلاد العجم، فسار تبع حتى نزل الحيرة، وأرسل ابن أخيه شمراً ذا الجناح إلى قباذ، فحاربه فهزمه شمرٌ حتى لحق بالري، ثم أدركه بها فقتله، ثم وجه تبع شمراً إلى خراسان، ووجه ابنه حسان إلى السغد، وقال: أيكما سبق إلى الصين فهو عليه، وكان كل واحد منهما في جيش عظيم، يقال: كانا في ستمائة ألف وأربعين ألفاً؛ وأرسل ابن أخيه يعفر إلى الروم، فنزل على القسطنطينية، فأعطوه الطاعة والإتاوة، ومضى إلى رومية فحاصرها فأصاب من معه طاعون، فوثب الروم عليهم فقتلوهم ولم يفلت منهم أحد. وسار شمر ذو الجناح إلى سمرقند فحاصرها، فلم يظفر بها، وسمع أن ملكها أحمق وأن له ابنةً، وهي التي تقضي الأمور، فأرسل إليها هديةً عظيمةً، وقال لها: إنني إنما قدمت لأتزوج بك ومعي أربعة آلاف تابوت مملوءة ذهباً وفضة أنا أدفعها إليك وأمضي إلى الصين، فإن ملكت كنت امرأتي وإن هلكت كان المال لك. فلما بلغتها الرسالة قالت: قد أجبته فليبعث المال؛ فأرسل أربعة آلاف تابوت في كل تابوت رجلان. ولسمرقند أربعة أبواب، ولكل باب ألفا رجل، وجعل العلامة بينهم أن يضرب بالجرس. فلما دخلوا البلد صاح شمر في الناس وضرب بالجرس، فخرجوا وملكوا الأبواب ودخل المدينة فقتل أهلها وحوى ما فيها وسار إلى الصين فهزم الترك ودخل بلادهم ولقي حسان بن تبع قد سبقه إليها بثلاث سنين، فأقاما بها حتى ماتا؛ وكان مقامهما فيما قيل إحدى وعشرين سنة، وقيل: عادا في طرقهما حتى قدما على تبع بالغنائم والسبي والجواهر، ثم انصرفوا جميعاً إلى بلادهم، ومات تبع باليمن فلم يخرج أحد من اليمن غازياً بعده. وكان ملكه مائة وإحدى وعشرين سنة؛ وقيل تهودٌ. قال ابن إسحاق: كان تبع الآخر وهو تبان أسعد أبو كرب حين أقبل من المشرق بعد أن ملك البلاد جعل طريقه على المدينة، وكان حين مر بها في بدايته لم يهج أهلها وخلف عندهم ابناً له فقتل غيلةً فقدمها عازماً على تخريبها واستئصال أهلها، فجمع له الأنصار حين سمعوا ذلك ورئيسهم عمرو ابن الطلة أحد بني عمرو بن مبذول من بني النجار وخرجوا لقتاله، وكانوا يقاتلونه نهاراً ويقرونه ليلاً. فبينما هو على ذلك إذ جاءه حبران من بني قريظة عالمان، فقالا له: قد سمعنا ما تريد أن تفعل، وإنك إن أبيت إلا ذلك حيل بينك وبينه ولم نأمن عليك عاجل العقوبة. فقال: ولم ذلك ؟ فقالا: إنها مهاجر نبي من قريش تكون داره. فانتهى عما كان يريد وأعجبه ما سمع منهما فاتبعهما على دينهما، واسمهما كعب وأسد، وكان تبع وقومه أصحاب أوثان. وسار من المدينة إلى مكة، وهي طريقه، فكسا الكعبة الوصائل والملاء، وكان أول من كساها، وجعل لها باباً ومفتاحاً، وخرج متوجهاً إلى اليمن فدعا قومه إلى اليهودية فأبوا عليه حتى حاكموه إلى النار، وكانت لهم نار تحكم بينهم فيما يزعمون تأكل الظالم ولا تضر المظلوم. فقال لقومه: أنصفتم. فخرج قومه بأوثانهم وخرج الحبران بمصاحفهما في أعناقهما حتى قعدوا عند مخرج النار، فخرجت النار فغشيتهم وأكلت الأوثان وما قربوا معها ومن حمل ذلك من رجال حمير، وخرج الحبران تعرق جباههما لم تضرهما، فأصفقت حمير على ديته.
وكان قدم على تبع قبل ذلك شافع بن كليب الصدفي، وكان كاهناً، فقال له تبع: هل تجد لقومٍ ملكاً يوازي ملكي ؟ قال: لا إلا لملك غسان. قال: فهل تجد ملكاً يزيد عليه ؟ قال: أجد لبار مبرور، أيد بالقهور، ووصف في الزبور، وفضلت أمته في السفور، يفرج الظلم بالنور، أحمد النبي، طوبى لأمته حين يجي، أحد بني لؤي، ثم أحد بني قصي ! فنظر تبع في الزبور فإذا هو يجد صفة النبي، صلى الله عليه وسلم. ثم ملك بعد تبع هذا، وهو تبان أسعد أبو كرب بن ملكيكرب، ربيعة بن نصر اللخمي، فلما هلك ربيعة رجع الملك باليمن إلى حسان بن تبان أسعد. فلما ملك ربيعة رأى رؤيا هالته فلم يدع كاهناً ولا ساحراً ولا عائفاً إلا أحضره وقال لهم: رأيت رؤيا هالتني فأخبروني بتأويلها. فقالوا: اقصصها علينا. فقال: إن أخبرتكم بها لم أطمئن إلى خبركم بتأويلها، فلما قال ذلك قال له رجلٌ منهم: إن كان الملك يريد ذلك فليبعث إلى سطيح وشق فهما يخبرانك عما سألت. واسم سطيح ربيع بن ربيعة بن مسعود بن مازن بن ذئب بن عدي بن غسان، وكان يقال له الذئبي نسبةً إلى ذئب بن عدي، وشق بن مصعب بن يشكر بن أنمار. فبعث إليهما، فقدم عليه سطيح قبل شق، فلما قدم عليه سطيح سأله عن رؤياه وتأويلها. فقال: رأيت جمجمة، خرجت من ظلمة، فوقعت بأرض بهمة، فأكلت منها كل ذات جمجمة ؟ قال له الملك: ما أخطأت منها شيئاً، فما عندك في تأويلها ؟ فقال: أحلف بما بين الحرتين من حنش ليهبطن أرضكم الحبش فليملكن ما بين أبين إلى جرش. قال الملك: وأبيك يا سطيح إن هذا لغائظ موجع، فمتى يكون أفي زماني أم بعده ؟ قال: بل بعده بحين ستين سنة أو سبعين يمضين من السنين. قال: هل يدوم ذلك من ملكهم أو ينقطع ؟ قال: بل ينقطع لبضع وسبعين يمضين من السنين، ثم يقتلون بها أجمعون ويخرجون منها هاربين. قال الملك: ومن الذي يلي ذلك ؟ قال: يليه إرم ذي يزن، يخرج عليهم من عدن، فلا يترك أحداً منهم باليمن. قال: فيدوم ذلك من سلطانهن أو ينقطع ؟ قال: بل ينقطع، يقطعه نبي زكي، يأتيه الوحي من العلي، وهو رجل من ولد غالب بن فهر بن مالك بن النضر، يكون الملك في قومه إلى آخر الدهر. قال: وهل للدهر من آخر ؟ قال: نعم، يوم يجمع فيه الأولون والآخرون، ويسعد فيه المحسنون، ويشقى فيه المسيئون. قال: أحق ما تخبرنا يا سطيح ؟ قال: نعم والشفق، والغسق، والفلق إذا اتسق، إن ما أنبأتك به لحق. ثم قدم عليه شق فقال: يا شق إني رأيت رؤيا هالتني فأخبرني عنها وعن تأويلها ! وكتمه ما قال سطيح لينظر هل يتفقان أم يختلفان. قال: نعم، رأيت جمجمة، خرجت من ظلمة، فوقعت بين روضة وأكمة، فأكلت منها كل ذات نسمة. فلما سمع الملك ذلك قال: ما أخطأت شيئاً، فما تأويلها ؟ قال: أحلف بما بين الحرتين من إنسان، لينزلن أرضكم السودان، وليملكن ما بين أبين إلى نجران. قال الملك: وأبيك يا شق ! إن هذا لغائظ، فمتى هو كائن ؟ قال: بعدك بزمان، ثم يستنقذكم منهم عظيم ذو شان، ويذيقهم أشد الهوان، وهو غلام ليس بدنيً ولا مزن، يخرج من بيت ذي يزن. فلا يترك أحداً منهم باليمن قال: فهل يدوم سلطانه أم ينقطع ؟ قال: بل ينقطع برسول مرسل، يأتي بالحق والعدل، بين أهل الدين والفضل، يكون الملك في قومه إلى يوم الفصل. قال: وما يوم الفصل ؟ قال: يوم تجزى فيه الولاة، ويدعى من السماء بدعوات، ويسمع منها الأحياء والأموات، ويجتمع فيه الناس للميقات. فلما فرغ من مسألتهما جهز بنيه وأهل بيته إلى العراق بما يصلحهم، فمن بقية ربيعة بن نصر كان النعمان بن المنذر ملك الحيرة، وهو النعمان بن المنذر بن النعمان بن المنذر بن عمرو بن امرئ القيس بن عمرو بن عدي بن ربيعة بن نصر ذلك الملك. فلما هلك ربيعة بن نصر واجتمع ملك اليمن إلى حسان بن تبان بن أبي كرب بن ملكيكرب بن زيد بن عمرو ذي الأذعار، كان مما هيج أمر الحبشة وتحول الملك عن حمير أن حسان سار بأهل اليمن يريد أن يطأ بهم أرض العرب والعجم، كما كانت التبابعة تفعل. فلما كان بالعراق كرهت قبائل العرب من اليمن المسير معه فكلموا أخاه عمراً في قتل حسان وتمليكه، فأجابهم إلى ذلك إلا ما كان من ذي رعين الحميري، فإنه نهاه عن ذلك، فلم يقبل منه، فعمد ذو رعين إلى صحيفة فكتب فيها. ألا من يشتري سهراً بنومٍ ؟ ... سعيدٌ من يبيت قرير عينٍ
فإمّا حميرٌ غدرت وخانت ... فمعذرة الإله لذي رعين ثم ختمها وأتى بها عمراً فقال: ضع هذه عندك، ففعل. فلما بلغ حسان ما أجمع عليه أخوه وقبائل اليمن قال لعمرو: يا عمرو لا تعجل عليّ منيتي ... فالملك تأخذه بغير حشود فأبى إلا قتله، فقتله بموضع رحبة مالك، فكانت تسمى فرضة نعم فيما قيل، ثم عاد إلى اليمن فمنع النوم منه، فسأل الأطباء وغيرهم عما به وشكا إليهم السهر، فقال له قائل منهم: ما قتل أحدٌ أخاه أو ذا رحم بغياً إلا منع منه النوم. فلما سمع ذلك قتل كل من أشار عليه بقتل أخيه حتى خلص إلى ذي رعين، فلما أراد قتله قال: إن لي عندك براءة. قال: وما هي ؟ قال: أخرج الكتاب الذي استودعتك. فأخرجه فإذا فيه البيتان، فكف عن قتله، ولم يلبث عمرو أن هلك، فتفرقت حمير عند ذلك. قلت: هذا الذي ذكره أبو جعفر من قتل قباذ بالري وملك تبع البلاد من بعد قتله من النقل القبيح والغلط الفاحش، وفساده أشهر من أن يذكر، فلولا أننا شرطنا أن لا نترك ترجمة من تاريخه إلا ونأتي بمعناها من غير إخلال بشيء لكان الإعراض عنه أولى. ووجه الغلط فيه أنه ذكر أن قباذ قتل بالري، ولا خلاف بين أهل النقل من الفرس وغيرهم أن قباذ مات حتف أنفه في زمان معلوم، وكان ملكه مدة معلومة، كما ذكرناه قبل، ولم ينقل أحد أنه قتل إلا في هذه الرواية. ولما مات ملك ابنه كسرى أنوشروان بعده، وهذا أشهر من: قفا نبك، ولو كان ملك الفرس انتقل بعد قباذ إلى حمير، كيف كان ملك ابنه بعده وتمكن في الملك حتى أطاعه ملوك الأمم وحملت الروم إليه الخراج ! ثم ذكر أيضاً أن تبعاً وجه ابنه حسان إلى الصين وشمراً إلى سمرقند وابن أخيه إلى الروم وأنه ملك القسطنطينية وسار إلى رومية فحاصرها، فيا ليت شعري ! ما هو اليمن وحضرموت حتى يكون بهما من الجنود ما يكون بعضهم في بلادهم لحفظها، وجيش مع تبع، وجيش مع حسان يسر بهم إلى مثل الصين في كثرة عساكره ومقاتلته، وجيش مع ابن أخيه تبع يلقى به مثل كسرى ويهزمه ويملك بلاده ويحاصر به مثل سمرقند في كبرها وعظمها وكثرة أهلها، وجيش مع يعفر يسير بهم إلى ملك الروم ويملك القسطنطينية ! والمسلمون مع كثرة ممالكهم واتساعها وكثرة عددهم قد اجتهدوا ليأخذوا القسطنطينية أو ما يجاورها واليمن من أقل بلادهم عدداً وجنوداً فلم يقدروا على ذلك، فكيف يقدر عليه بعض عساكر اليمن مع تبع ؟ هذا مما تأباه العقول، وتمجه الأسماع. ثم إنه قال: إن ملك تبع بلاد الفرس والروم والصين وغيرها كان بعد قتل قباذ، يعني أيام ابنه أنوشروان، ولا خلاف أن مولد النبي، صلى الله عليه وسلم، كان في زمن أنوشروان، وكان ملكه سبعاً وأربعين سنة، ولا خلاف أيضاً أن الحبشة لما ملكت اليمن انقرض ملك حمير منه، وكان آخر ملوكهم ذا نواس. وكان ملك حمير قد اختل قبل ذي نواس، وانقطع نظامهم حتى طمعت الحبشة فيه وملكته، وكان ملكهم اليمن أيام قباذ، وكيف يمكن أن يكون ملك الحبشة الذي هو مقطوع به أيام قباذ ويكون تبع هو الذي ملك اليمن قد قتل قباذ وملك بلاده قبل أن تملك الحبشة اليمن ؟ هذا مردود محال وقوعه، وكان ملك الحبشة اليمن سبعين سنة، وقيل أكثر من ذلك، وكان انقراض ملكهم في آخر ملك أنوشروان، والخبر في ذلك مشهور، وحديث سيف ذي يزن في ذلك ظاهر، ولم يزل اليمن بعد الحبشة في يد الفرس إلى أن ملكه المسلمون، فكيف يستقيم أن ينقضي ملك تبع الذي هو ملك بلاد فارس ومن بعده من ملوك حمير وملك الحبشة وهو سبعون سنة في ملك أنوشروان وكان ملكه نيفاً وأربعين سنة ؟ وهذا أعجب أن مدة بعضها سبعون سنة تنقضي قبل مضي نيف وأربعين سنة، ولو فكر أبو جعفر في ذلك لاستحيا من نقله. وأعجب من هذا أنه قال: ثم ملك بعد تبع هذا ربيعة بن نصر اللخمي، وهذا ربيعة هو جد عمرو بن عدي ابن أخت جذيمة، وكان ملك عمرو والحيرة بعد خاله جذيمة أيام ملوك الطوائف قبل ملك أردشير بن بابك بخمس وتسعين سنة، وبين أردشير وقباذ ما يقارب عشرين ملكاً، وكيف يكون جد عمرو وقد ملك بعد قباذ وهو قبله بهذا الدهر الطويل ؟ ولو لم يترجم أبو جعفر على هذه الحادثة بقوله: ذكر الحوادث أيام قباذ، لكان يحتمل تأويلاً فيه، ثم ما قنع بذلك حتى قال، بعد أن قص مسير تبع: وقتل قباذ وملك البلاد.
وأما ابن إسحاق فإنه قال: إن الذي سار إلى المشرق من التبابعة هو تبع الأخير، ويعني بقوله تبع الأخير أنه آخر من سار إلى المشرق وملك البلاد، فإن ابن إسحاق وغيره يقولون إن الذي ملك البلاد المشرقية لما توفي ملك بعده عدة تبابعة ثم اختل أمرهم زماناً طويلاً حتى طمعت الحبشة فيهم وخرجت إلى اليمن. فليت شعري إذا كان هذا تبع في أيام قباذ فلا شك أن تبعاً الأخير الذي أخذ منه اليمن يكون في زمن بني أمية ويكون ملك الحبشة اليمن بعد مدة من ملك بني العباس، ويكون أول الإسلام من ثلاثمائة سنة من ملكهم أيضاً مما بعدها حتى يستقيم هذا القول. ثم إنه قال: إن عمر بن طلحة الأنصاري خرج إلى تبع، وعمر هذا قيل إنه أدرك النبي، صلى الله عليه وسلم، شيخاً كبيراً ومات عند مرجعه من غزوة بدر. ومن الدليل على بطلانه أيضاً أن المسلمين لما قصدوا بلاد الفرس ما زالت الفرس تقول لهم عند مراسلاتهم ومحاوراتهم في حروبهم: كنتم أقل الأمم وأذلها وأحقرها والعرب تقر لهم بذلك، فلو كان ملك تبع قريب العهد لقالت العرب: إننا بالأمس قتلنا ملككم وملكنا بلادكم واستبحنا حريمكم وأموالكم، فسكوت العرب عن ذلك وإقرارها للفرس دليل على بعد عهده أو عدمه، على أن الفرس لا تقر بذلك لا في قديم الزمان ولا في حديثه، فإنهم يزعمون أن ملكهم لم ينقطع من عهد جيومرث، الذي هو آدم في قول بعضهم، إلى أن جاء الإسلام، إلا أيام ملوك الطوائف، وكان لملوك الفرس طرف من البلاد في ذلك الزمان لم ينقطع انقطاعاً كلياً، على أن أصحاب السير قد اختلفوا في تبع الذي سار وملك البلاد اختلافاً كثيراً، شمر بن غش، وقيل: تبع أسعد، وإنه بعث إلى سمرقند شمراً ذا الجناح، إلى غير ذلك من الاختلافات التي لا طائل فيها. وهذا القدر كافٍ في كشف الخطأ فيه. ذكر ملك لختيعةفلما هلك عمرو وتفرقت حمير وثب عليهم رجل من حمير لم يكن من بيوت المملكة يقال له لختيعة تنوف ذو شناتر فملكهم، في قول ابن إسحاق، فقتل خيارهم وعبث ببيوت أهل المملكة منهم، وكان امرأ فاسقاً يزعمون أنه كان يعمل عمل قوط لوط، فكان إذا سمع بغلام من أبناء الملوك أنه قد بلغ أرسل إليه فوقع عليه في مشربة لئلا يملك بعد ذلك، ثم يطلع إلى حرسه وجنده قد أخذ سواكاً في فيه يعلمهم أنه قد فرغ منه، ثم يخلي سبيله فيفضحه. ذكر ملك ذي نواس وقصة أصحاب الأخدودكان من أبناء الملوك زرعة ذو نواس بن تبان أسعد بن كرب، وكان صغيراً حين أصيب أخوه حسان، فشب غلاماً جميلاً ذا هيئة، فبعث إليه لختيعة ليفعل به ما كان يفعل بغيره، فأخذ سكيناً لطيفاً فجعله بين نعله وقدمه، ثم انطلق إليه مع رسوله، فلما خلا به في المشربة قتله ذو نواس بالسكين ثم احتز رأسه فجعله في كوة مشربته التي يطلع منها، ثم أخذ سواكه فجعله في فيه، ثم خرج، فقالوا: ذو نواس أرطب أم يباس؟ فقال: سل يحماس، استرطبان ذو نواس لا بأس. فذهبوا ينظرون حين قال لهم ما قال، فإذا رأس لختيعة مقطوع، فخرجت حمير والحرس في أثر ذي نواس حتى أدركوه فملكوه حيث أراحهم من لختيعة، واجتمعوا عليه، وكان يهودياً، وبنجران بقايا من أهل دين عيسى ابن مريم على استقامة لهم رئيس يقال له عبد الله بن الثامر، وكان أصل النصرانية بنجران.
| |
|
| |
الشيخ عودة الشيخ عودة
عدد المساهمات : 1748 تاريخ التسجيل : 28/09/2008 العمر : 74
| موضوع: رد: كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير الخميس فبراير 06, 2014 8:38 am | |
| قال وهب بن منبه: إن رجلاً من بقايا أهل دين عيسى يقال له فيميون، وكان رجلاً صالحاً مجتهداً زاهداً في الدنيا مجاب الدعوة، وكان سائحاً لا يعرف بقرية إلا خرج منها إلى غيرها، وكان لا يأكل إلا من كسب يده، وكان يعمل الطين ويعظم الأحد لا يعمل فيه شيئاً ويخرج إلى الصحراء يصلي جميع نهاره، فنزل قرية من قرى الشام يعمل عمله ذلك مستخفياً، ففطن به رجل اسمه صالح فأحبه حباً شديداً، وكان يتبعه حيث ذهب لا يفطن به فيميون، حتى خرج مرة يوم الأحد إلى الصحراء واتبعه صالح وفيميمون لا يعلم. فجلس صالح منه منظر العين مستخفياً، وقام فيميون يصلي، فبينما هو يصلي إذ أقبل نحوه تنين، فلما رآه فيميون دعا عليه فمات، ورآه صالح ولم يدر ما أصاهب فخاف على فيميون، فصاح: يا فيميون التنين قد أقبل نحوك ! فلم يلتفت إليه وأقبل على صلاته حتى أمسى، وعرف أن صالحاً عرفه، فكلمه صالح وقال له: يعلم الله أنني ما أحببت شيئاً حبك قط وقد أردت صحبتك حيثما كنت. قال: افعل. فلزمه صالح، وكان إذا ما جاءه العبد به ضرٌ شفي إذا دعا له، وإذا دعي إلس أحد به ضر لم يأته. وكان لرجل من أهل القرية ابن ضرير فجعل ابنه في حجرة ألقى عليه ثوباً ثم قال لفيميون: قد أردت أن تعمل في بيتي عملاً، فانطلق إليه لأشارطك عليه؛ فانطلق معه، فلما دخل الحجرة ألقى الرجل الثوب عن ابنه وطلب إليه أن يدعو له، فدعا له فأبصر. وعرف فيميون أنه قد عرف بالقرية فخرج هو وصالح ومر بشجرة عظيمة بالشام. فناداه رجل وقال: ما زلت أنتظرك، لا تبرح حتى تقوم علي فإني ميت، قال: فمات، فواراه فيميمون وانصرف ومعه صالح حتى وطئا بعض أرض العرب، وأخذهما بعض العرب فباعوهما بنجران، وأهل نجران على دين العرب تعبد نخلة طويلة بين أظهرهم، لها عيد كل سنة؛ إذا كان ذلك العيد علقوا عليها كل ثوب حسن وحلي جميل، فعكفوا عليها يوماً، فابتاع رجل من أشرافهم فيميون، وابتاع رجل آخر صالحاً، فكان فيميون إذا قام من الليل يصلي في بيته استسرج له البيت حتى يصبح من غير مصباح. فلما رأى سيده ذلك أعجبه، فسأله عن دينه فأخبره، وعاب دين سيده. وقال له: لو دعوت إلهي الذي أعبد لأهلك النخلة. فقال: افعل فإنك إن فعلت دخلنا في دينك وتركنا ما نحن عليه. فصلى فيميون ودعا الله تعالى، فأرسل الله عليها ريحاً فجففتها وألقتها، فاتبعه عند ذلك أهل نجران على دينه، فحملهم على شريعة من دين عيسى ودخل عليهم بعد ذلك الأحداث التي دخلت على أهل دينهم بكل أرض. فمن هنالك كان أصل النصرانية بنجران. وقال محمد بن كعب القرظي: كان أهل نجران يعبدون الأوثان، وكان في قرية من قراها ساحر كان أهل نجران يرسلون أولادهم إليه يعلمهم السحر. فلما نزلها فيميون وهو رجل كان يعبد الله على دين عيسى بن مريم، عليه السلام، فإذا عرف في قرية خرج منها إلى غيرها، وكان مجاب الدعوة يبرئ المرضى، وله كرامات، فوصل نجران فسكن خيمة بين نجران وبين الساحر، فأرسل الثامر ابنه عبد الله مع الغلمان إلى الساحر، فاجتاز بفيميون فرأى ما أعجبه من صلاته، فجعل يجلس إليه ويستمع منه، فأسلم معه ووحد الله تعالى وعبده، وجعل يسأله عن الاسم الأعظم - وكان يعلمه - فكتمه إياه وقال: لن تحتمله، والثامر يعتقد أن ابنه يختلف إلى الساحر مع الغلمان. فلما رأى عبد الله أن صاحبه قد ضن عليه بالاسم الأعظم عمد إلى قداح فكتب عليها أسماء الله جميعها ثم ألقاها في النار واحداً واحداً حتى إذا ألقى القدح الذي عليه الاسم الأعظم وثب منها فلم تضره شيئاً، فأخذه وعاد إلى صاحبه فأخبره الخبر، فقال له: امسك على نفسك، وما أظن أن تفعل، فكان عبد الله لا يلقى أحداً إذا أتى نجران به ضر إلا قال: يا عبد الله أتدخل في ديني حتى أدعو الله فيعافيك مما أنت فيه من البلاء ؟ فيقول: نعم، فيوحد الله ويسلم، ويدعو له عبد الله فيشفى، حتى لم يبق أحد من أهل نجران ممن به ضر إلا أتاه واتبعه ودعا له فعوفي.
فرفع شأنه إلى ملك نجران، فدعاه فقال له: أفسدت علي أهل قريتي وخالفت ديني، لأمثلن بك ! فقال: لا تقدر على ذلك. فجعل يرسله إلى الجبل الطويل فيلقى من رأسه فيقع على الأرض ليس به بأسٌ، فأرسله إلى مياه نجران، وهي بحور لا يقع فيها شيء إلا هلك، فيلقى فيها فيخرج ليس به بأسٌ. فلما غلبه قال عبد الله بن الثامر: إنك لا تقدر على قتلي حتى توحد الله وتؤمن كما آمنت، فإنك إذا فعلت قتلتني. فوحد الله الملك ثم ضربه بعصاً بيده فشجه شجة غير كبيرة فقتله، فهلك الملك مكانه، واجتمع أهل نجران على دين عبد الله بن الثامر. قال: فسار إليهم ذو نواس بجنوده فجمعهم ثم دعاهم إلى اليهودية وخيرهم بينها وبين القتل، فاختاروا القتل، فخد لهم الأخدود، فحرق بالنار وقتل بالسيف حتى قتل قريباً من عشرين ألفاً. وهم الذين أنزل الله فيهم: (قتل أصحاب الاخدود) البروج: 4. وقال ابن عباس: كان بنجران ملك من ملوك حمير يقال له ذو نواس واسمه يوسف بن شرحبيل، وكان قبل مولد النبي، صلى الله عليه وسلم، بسبعين سنة، وكان له ساحر حاذق. فلما كبر قال للملك: إني كبرت فابعث إلي غلاماً أعلمه السحر، فبعث إليه غلاماً اسمه عبد الله بن الثامر ليعلمه، فجعل يختلف إلى الساحر، وكان في طريقه راهب حسن القراءة، فقعد إليه الغلام، فأعجبه أمره، فكان إذا جاء إلى المعلم يدخل إلى الراهب فيقعد عنده، فإذا جاء من عنده إلى المعلم ضربه وقال له: ما الذي حبسك ؟ وإذا انقلب إلى أبيه دخل إلى الراهب فيضربه أبوه ويقول: ما الذي أبطأ بك ؟ فشكا الغلام ذلك إلى الراهب، فقال له: إذا أتيت المعلم فقل حبسني أبي، وإذا أتيت أباك فقل حبسني المعلم. وكان في ذلك البلد حية عظيمة قطعت طريق الناس، فمر بها الغلام فرماها بحجر فقتلها، وأتى الراهب فأخبره. فقال له الراهب: إن لك لشأناً، وإنك ستبتلى فإن ابتليت فلا تدلن علي. وصار الغلام يبرئ الأكمة والأبرص ويشفي الناس. وكان للملك ابن عم أعمى، فسمع بالغلام وقتل الحية فقال: ادع الله أن يرد علي بصري. فقال الغلام: إن رد الله عليك بصرك تؤمن به ؟ قال: نعم. قال: اللهم إن كان صادقاً فأردد عليه بصره، فعاد بصره، ثم دخل على الملك، فلما رآه تعجب منه وسأله، فلم يخبره، وألح عليه فدله على الغلام، فجيء به، فقال له: لقد بلغ من سحرك ما أرى. فقال: أنا لا أشفي أحداً إنما يشفي الله من يشاء، فلم يزل يعذبه حتى دله على الراهب، فجيء به، فقال له: ارجع عن دينك، فأبى، فأمر به فوضع المنشار على رأسه فشق بنصفين، ثم جيء بابن عم الملك، فقال: ارجع عن دينك، فأبى، فشقه قطعتين، ثم قال للغلام: ارجع عن دينك، فأبى فدفعه إلى نفر من أصحابه وقال لهم اذهبوا به إلى جبل كذا فان رجع وإلا فاطرحوه من رأسه، فذهبوا به إلى الجبل فقال اللهم اكفنيهم ! فرجف بهم الجبل وهلكوا، ورجع الغلام إلى الملك، فسأله عن أصحابه، فقال: كفانيهم الله. فغاظه ذلك وأرسله في سفينة إلى البحر ليلقوه فيه، فذهبوا به، فقال: اللهم اكفنيهم ! فغرقوا ونجا، وجاء إلى الملك فقال: اقتلوه بالسيف، فضربوه فنبا عنه. وفشا خبره في اليمن، فأعظمه الناس وعلموا أنه على الحق، فقال الغلام للملك: إنك لن تقدر على قتلي إلا أن تجمع أهل مملكتك وترميني بسهم وتقول: بسم الله رب الغلام. ففعل ذلك فقتله. فقال الناس: آمنا برب الغلام ! فقيل للملك: قد نزل بك ما تحذر. فأغلق أبواب المدينة وخد أخدوداً وملأه ناراً وعرض الناس، فمن رجع عن دينه تركه، ومن لم يرجع ألقاه في الأخدود فأحرقه. وكانت امرأة مؤمنة، وكان لها ثلاثة بنين، أحدهم رضيع، فقال لها الملك: ارجعي وإلا قتلتك أنت وأولادك، فأبت، فألقى ابنيها الكبيرين، فأبت، ثم أخذ الصغير ليلقيه فهمت بالرجوع. قال لها الصغير: يا أماه لا ترجعي عن دينك، لا بأس عليك ! فألقاه وألقاها في أثره، وهذا الطفل أحد من تكلم صغيراً. قيل: حفر رجل خربة بنجران في زمن عمر بن الخطاب، فرأى عبد الله ابن الثامر واضعاً يده على ضربة في رأسه، فإذا رفعت عنها يده جرت دماً، وإذا أرسلت يده ردها إليها وهو قاعد، فكتب فيه إلى عمر، فأمر بتركه على حاله. ذكر ملك الحبشة اليمن
قيل: لما قتل ذو نواس من قتل من أهل اليمن في الأخدود لأجل العود عن النصرانية أفلت منهم رجل يقال له دوس ذو ثعلبان حتى أعجز القوم، فقدم على قيصر فاستنصره على ذي نواس وجنوده وأخبره بما فعل بهم. فقال له قيصر: بعدت بلادك عنا، ولكن سأكتب إلى النجاشي ملك الحبشة وهو على هذا الدين وقريب منكم. فكتب قيصر إلى ملك الحبشة يأمره بنصره، فأرسل معه ملك الحبشة سبعين ألفاً وأمر عليهم رجلاً يقال له أرياط، وفي جنوده أبرهة الأشرم، فساروا في البحر حتى نزلوا بساحل اليمن، وجمع ذو نواس جنوده فاجتمعوا، ولم يكن له حرب غير أنه ناوش شيئاً من قتال ثم انهزموا، وخلها أرياط. فلما رأى ذو نواس ما نزل به وبقومه اقتحم البحر بفرسه فغرق، ووطئ أرياط اليمن فقتل ثلث رجالهم، وبعث إلى النجاشي بثلث سباياهم، ثم أقام بها وأذل أهلها. وقيل: إن الحبشة لما خرجوا إلى المندب من أرض اليمن كتب ذو نواس إلى أقيال اليمن يدعوهم إلى الاجتماع على عدوهم، فلم يجيبوه وقالوا: يقاتل كل رجل عن بلاده. فصنع مفاتيح وحملها على عدة من الإبل ولقي الحبشة وقال: هذه مفاتيح خزائن الأموال باليمن، فهي لكم ولا تقتلوا الرجال والذرية، فأجابوه إلى ذلك وساروا معه إلى صنعاء، فقال لكبيرهم: وجه أصحابك لقبض الخزائن. فتفرق أصحابه ودفع إليهم المفاتيح، وكتب إلى الأقيال بقتل كل ثور أسود، فقتلت الحبشة ولم ينج منهم إلا الشريد. فلما سمع النجاشي جهز إليهم سبعين ألفاً مع أرياط والأشرم، فملك البلاد وأقام بها سنين، ونازعه أبرهة الأشرم، وكان في جنده، فمال إليه طائفة منهم، وبقي أرياط في طائفة، وسار أحدهما إلى الآخر، وأرسل أبرهة: إنك لن تصنع بأن تلقي الحبشة بعضها على بعض شيئاً، فيهلكوا، ولكن ابرز إلي فأينا قهر صاحبه استولى على جنده. فتبارزا، فرفع أرياط الحربة فضرب أبرهة، فوقعت على رأسه فشرمت أنفه وعينه، فسمي الأشرم. وحمل غلام لأبرهة يقال له عتودة، كان قد تركه كميناً من خلف أرياط، على أرياط فقتله، واستولى أبرهة على الجند والبلاد وقال لعتودة: احتكم. فقال: لا تدخل عروس على زوجها من اليمن حتى أصيبها قبله، فأجابه إلى ذلك، فبقي يفعل بهم هذا الفعل حيناً، ثم عدا عليه إنسان من اليمن فقتله، فسر أبرهة بقتله وقال: لو علمت أنه يحتكم هكذا لم أحكمه. ولما بلغ النجاشي قتل أرياط غضب غضباً شديداً وحلف ألا يدع أبرهة حتى يطأ أرضه ويجز ناصيته، فبلغ ذلك أبرهة، فأرسل إلى النجاشي من تراب اليمن وجز ناصيته فبلغ ذلك أبرهة، فأرسل إلى النجاشي من تراب اليمن وجز ناصيته وأرسلها أيضاً، وكتب إليه بالطاعة وإرسال شعره وترابه ليبر قسمه بوضع التراب تحت قدميه، فرضي عنه وأقره على عمله. فلما استقر باليمن بعث إلى أبي مرة ذي يزن، فأخذ زوجته ريحانة بنت ذي جدن ونكحها، فولدت له مسروقاً، وكانت قد ولدت لذي يزن ولداً اسمه معدي كرب، وهو سيف، فخرج ذو يزن من اليمن فقدم الحيرة على عمرو بن هند وسأله أن يكتب له إلى كسرى كتاباً يعلمه محله وشرفه وحاجته، فقال: إني أفد إلى الملك كل سنة وهذا وقتها، فأقام عنده حتى وفد معه ودخل إلى كسرى معه، فأكرمه وعظمه وذكر حاجته وشكا ما يلقون من الحبشة، واستنصره عليهم، وأطمعه في اليمن وكثرة مالها، فقال له كسر أنوشروان: إني لأحب أن أسعفك بحاجتك ولكن المسالك إليها صعبة وسأنظر، وأمر بإنزاله، فأقام عنده حتى هلك. ونشأ ابنه معدي كرب بن ذي يزن في حجرة أبرهة، وهو يحسب أنه أبوه، فسبه انب لأبرهة وسب أباه، فسأل أمه عن أبيه، فصدقته، وأقام حتى مات أبرهة وابنه يكسوم وسار عن اليمن، ففعل ما نذكره إن شاء الله. ذكر ملك كسرى أنوشروان بن قباذابن فيروز بن يزدجرد بن بهرام بن يزدجرد الأثيم لما لبس التاج خطب الناس فحمد الله وأثنى عليه وذكر ما ابتلوا به من فساد أمورهم ودينهم وأولادهم، وأعلمهم أنه يصلح ذلك، ثم أمر برؤوس المزدكية فقتلوا وقسمت أموالهم في أهل الحاجة.
وكان سبب قتلهم أن قباذ كان، كما ذكرنا، قد اتبع مزدك على دينه وما دعاه إليه وأطاعه في كل ما يأمره به من الزندقة وغيرها مما ذكرنا أيام قباذ، وكان المنذر بن ماء السماء يومئذٍ عاملاً على الحيرة ونواحيها، فدعاه قباذ إلى ذلك، فأبى، فدعا الحارث بن عمرو الكندي، فأجابه، فسدد له ملكه وطرد المنذر عن مملكته، وكانت أم أنوشروان يوماً بين يدي قباذ، فدخل عليه مزدك. فلما رأى أم أنوشروان قال لقباذ: ادفعها إلي لأقضي حاجتي منها. فقال: دونكها. فوثب إليه أنوشروان، ولم يزل يسأله ويتضرع إليه أن يهب له أمه حتى قبل رجله، فتركها، فحاك ذلك في نفسه. فهلك قباذ على تلك الحال وملك أنوشروان، فجلس للملك، ولما بلغ المنذر هلاك قباذ أقبل إلى أنوشروان، وقد علم خلافه على أبيه في مذهبه واتباع مزدك، فإن أنوشروان كان منكراً لهذا المذهب كارهاً له، ثم إن أنوشروان أذن للناس إذناً عاماً، ودخل عليه مزدك، ثم دخل عليه المنذر، فقال أنوشروان: إني كنت تمنيت أمنيتين، أرجو أن يكون الله عز وجل قد جمعهما إلي. فقال مزدك: وما هما أيها الملك ؟ قال: تمنيت أن أملك وأستعمل هذا الرجل الشريف، يعني المنذر، وأن أقتل هذه الزنادقة. فقال مزدك: أوتستطيع أن تقتل الناس كلهم ؟ فقال: وإنك ها هنا يا ابن الزانية ؟! والله ما ذهب نتن ريح جوربك من أنفي منذ قبلت رجلك إلى يومي هذا. وأمر به فقتل وصلب. وقتل منهم ما بين جازر إلى النهروان وإلى المدائن في ضحوة واحدة مائة ألف زنديق وصلبهم، وسمي يومئذٍ أنوشروان. وطلب أنوشروان الحارث بن عمرو، فبلغه ذلك وهو بالأنبار، فخرج هارباً في صحابته وماله وولده، فمر بالثوية، فتبعه المنذر بالخيل من تغلب وإياد وبهراء، فلحق بأرض كلب ونجا وانتهبوا ماله وهجائنه، وأخذت بنو تغلب ثمانية وأربعين نفساً من بني آكل المرار فقدموا بهم على المنذر، فضرب رقابهم بحفر الأميال في ديار بني مرين العباديين بين دير بني هند والكوفة، فذلك قول عمرو بن كلثوم: فآبوا بالنّهاب وبالسبّايا ... وأبنا بالملوك مصفّدينا وفيهم يقول امرؤ القيس: ملوكٌ من بني حجر بن عمرو ... يساقون العشيّة يقتلونا فلو في يوم معركةٍ أصيبوا ... ولكن في ديار بني مرينا ولم تغسل جماجمهم بغسلٍ ... ولكن في الدماء ومرمّلينا تظلّ الطّير عاطفةً عليهم ... وتنتزع الحواجب والعيونا ولما قتل أنوشروان مزدك وأصحابه أمر بقتل جماعة ممن دخل على الناس في أموالهم ورد الأموال إلى أهلها، وأمر بكل مولود اختلفوا فيه أن يلحق بمن هو منهم إذا لم يعرف أبوه وأن يعطى نصيباً من ملك الرجل الذي يسند إليه إذا قبله الرجل، وبكل امرأة غلبت على نفسها أن يؤخذ مهرها من الغالب، ثم تخير المرأة بين الإقامة عنده وبين فراقه إلا أن يكون لها زوج فترد إليه. وأمر بعيال ذوي الأحساب الذين مات قيمهم فأنكح بناتهم الأكفاء، وجهزهن من بيت المال، وأنكح نساءهم من الأشراف، واستعان بأبنائهم في أعماله، وعمر الجسور والقناطر، وأصلح الخراب، وتفقد الأساورة وأعطاهم، وبنى في الطرق القصور والحصون، وتخير الولاة والعمال والحكام، واقتدى بسيرة أردشير، وارتجع بلاداً كانت مملكة الفرس، منها: السند وسندوست والرخج وزابلستان وطخارستان، وأعظم القتل في النازور وأجلى بقيتهم عن بلاده. واجتمع أبخز وبنجر وبلنجر واللان على قصد بلاده، فقصدوا أرمينية للغارة على أهلها، وكان الطريق سهلاً، فأمهلهم كسرى حتى توغلوا في البلاد وأرسل إليهم جنوداً، فقاتلوهم فأهلكوهم ما خلا عشرة آلاف رجل أسروا فأسكنوا أذربيجان.
وكان لكسرى أنوشروان ولد هو أكبر أولاده اسمه أنوشزاد، فبلغه عنه أنه زنديق، فسيره إلى جنديسابور وجعله معه جماعة يثق بدينهم ليصلحوا دينه وأدبه. فبينما هم عنده غذ بلغه خبر مرض والده لما دخل بلاد الروم، فوثب بمن عنده فقتلهم وأخرج أهل السجون فاستعان بهم وجمع عنده جموعاً من الأشرار، فأرسل إليهم نائب أبيه بالمدائن عسكراً، فحصروه بجنديسابور، وأرسل الخبر إلى كسرى، فكتب إليه يأمره بالجد في أمره وأخذه أسيراً، فاشتد الحصار حينئذٍ عليه ودخل العساكر المدينة عنوةً فقتلوا بها خلقاً كثيراً وأسروا أنوشزاد، فبلغه خبر جده لأمه الداور الرازي، فوثب بعامل سجستان وقاتله، فهزمه العامل، فالتجأ إلى مدينة الرخج وامتنع بها، ثم كتب إلى كسرى يعتذر ويسأله أن ينفذ إليه من يسلم له البلد، ففعل وآمنه. وكان الملك فيروز قد بنى بناحية صول واللان بناء يحصن به بلاده، وبنى عليه ابنه قباذ زيادة فلما ملك كسرى أنوشروان بنى في ناحية صول وجرجان بناء كثيراً وحصوناً حصن بها بلاده جميعها. وإن سيجيور خاقان قصد بلاده، وكان أعظم الترك، واستمال الخزر وأبخز وبلنجر، فأطاعوه، فأقبل في عدد كثير وكتب إلى كسرى يطلب منه الإتاوة ويتهدده إن لم يفعل، فلم يجبه كسرى إلى شيء مما طلب لتحصينه بلاده، وإن ثغر أرمينية قد حصنه، فصار يكتفي بالعدد اليسير، فقصده خاقان فلم يقدر على شيء منه، وعاد خائباً، وهذا خاقان هو الذي قتل ورد ملك الهياطلة وأخذ كثيراً من بلادهم. ذكر ملك كسرى بلاد الرومكان بين كسرى أنوشروان وبين غطيانوس ملك الروم هدنة، فوقع بين رجل من العرب، كان ملكه غطيانوس على عرب الشام يقال له خالد بن جبلة، وبين رجل من لخم كان ملكه كسرى على عمان والبحرين واليمامة إلى الطائف وسائر الحجاز يقال له المنذر بن النعمان، فتنةٌ، فأغار خالد على ابن النعمان فقتل من أصحابه مقتلةً عظيمةً وغنم أمواله، فكتب كسرى إلى غطيانوس يذكره ما بينهما من العهد والصلح ويعلمه ما لقي المنذر من خالد، وسأله أن يأمر خالد برد ما غنم إلى المنذر ويدفع له دية من قتل من أصحابه وينصفه من خالد، وإنه إن لم يفعل ينقض الصلح. ووالى الكتب إلى غطيانوس في إنصاف المنذر، فلم يحفل به. فاستعد كسرى وغزا بلاد غطيانوس في بضعة وسبعين ألفاً، وكان طريقه على الجزيرة، فأخذ مدينة دارا ومدينة الرهاء وعبر إلى الشام فملك منبج وحلب وإنطاكية، وكانت أفضل مدائن الشام، وفامية وحميص ومدناً كثيرة متاخمة لهذه المدائن عنوةً واحتوى على ما فيها من الموال والعروض، وسبى أهل مدينة إنطاكية ونقلهم إلى أرض السواد، وأمر فبنيت لهم مدينة إلى جانب مدينة طيسفون على بناء مدينة إنطاكية وأسكنهم إياها، وهي التي تسمى الرومية، وكور لها خمسة طساسيج: طسوج النهروان الأعلى، وطسوج النهروان الأوسط، وطسوج النهروان الأسفل، وطسوج بادرايا، وطسوج باكسايا، وأجرى على السبي الذين نقلهم إليها من إنطاكية الأرزاق، وولى القيام بأمرهم رجلاً من نصارى الأهواز ليستأنسوا به لموافقته في الدين؛ وأما سائر مدن الشام ومضر فإن غطيانوس ابتاعها من كسرى بأموال عظيمة حملها إليه وضمن له فدية يحملها إليه كل سنة على أن لا يغزو بلاده، فكانوا يحملونها كل عام. وسار أنوشروان من الروم إلى الخزر فقتل منهم وغنم وأخذ منهم بثأر رعيته. ثم قصد اليمن فقتل فيها وغنم وعاد إلى المدائن وقد ملك ما دون هرقلة وما بينه وبين البحرين وعمان. وملك النعمان بن المنذر على الحيرة وأكرمه، وسار نحو الهياطلة ليأخذ بثأر جده فيروز، وكان أنوشروان قد صاهر خاقان قبل ذلك، ودخل كسرى بلادهم فقتل ملكهم، واستأصل أهل بيته، وتجاوز بلخ وما وراء النهر وأنزل جنوده فرغانة، ثم عاد إلى المدائن. وغزا البرجان ثم رجع وأرسل جنده إلى اليمن، فقتلوا الحبشة وملكوا البلاد. وكان ملكه ثمانياً وأربعين سنة، وقيل: سبعاً وأربعين سنة. وكان مولد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في آخر ملكه، وقيل: ولد عبد الله بن عبد المطلب أبو رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لأربع وعشرين سنة مضت من ملك أنوشروان، وولد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، سنة اثنتين وأربعين من ملكه.
قال هشام بن الكلبي: ملك العرب من قبل ملوك الفرس بعد الأسود بن المنذر أخوه المنذر بن المنذر بن النعمان سبع سنين، ثم ملك بعده النعمان بن الأسود أربع سنين، ثم استخلف أبو يعفر بن علقمة بن مالك بن عدي اللخمي ثلاث سنين، ثم ملك المنذر بن امرئ القيس البدء ولقب ذو القرنين لضفيرتين كانتا له، وأمه ماء السماء، وهي ماوية ابنة عمرو بن جشم ابن النمر بن قاسط، تسعاً وأربعين سنة، ثم ملك ابنه عمرو بن المنذر ست عشرة سنة. قال: ولثماني سنين وثمانية أشهر من ولايته ولد النبي، صلى الله عليه وسلم، وذلك أيام أنوشروان عام الفيل. فلما دانت لكسرى بلاد اليمن وجه إلى سرنديب من بلاد الهند، وهي أرض الجوهر، قائداً من قواده في جند كثيف، فقاتل ملكها، فقتله واستولى عليها، وحمل إلى كسرى منها أموالاً عظيمة وجواهر كثيرة. ولم يكن ببلاد الفرس بنات اوى، فجاءت إليها من بلاد الترك في ملك كسرى أنوشروان، فشق عليه ذلك وأحضر موبذان موبذ وقال له: قد بلغنا تساقط هذه السباح إلى بلادنا وقد تعاظمنا ذلك، فأخبرنا برأيك فيها. فقال: سمعت فقهاءنا يقولون: متى لم يغلب العدل الجور في البلاد بل جار أهلها غزاهم أعداؤهم وأتاهم ما يكرهون. فلم يلبث كسرى أن أتاه أن فتياناً من الترك قد غزوا أقصى بلاده، فأمر وزراءه وعماله أن لا يتعدوا فيما هم بسبيله العدل ولا يعملوا في شيء منها إلا به، ففعلوا ما أمرهم، فصرف الله ذلك العدو عنهم من غير حرب. ؟ ذكر ما فعله أنوشروان بأرمينية وأذربيجان كانت أرمينية وأذربيجان بعضها للروح وبعضها للخزر، فبنى قباذ سوراً مما يلي بعض تلك الناحية، فلما توفي وملك ابنه أنوشروان وقوي أمره وغزا فرغانة والبرجان وعاد بنى مدينة الشابران ومدينة مسقط ومدينة الباب والأبواب، وإنما سميت أبواباً لأنها بنيت على طريق في الجبل، وأسكن المدن قوماً سماهم السياسجين، وبنى غير هذه المدن، وبنى لكل باب قصراً من حجارة، وبنى بأرض جرزان مدينة سغدبيل وأنزلها السغد وأبناء فارس، وبنى باب اللان، وفتح جميع ما كان بأيدي الروم من أرمينية، وعمر مدينة أردبيل وعدة حصون، وكتب إلى ملك الترك يسأله الموادعة والاتفاق ويخطب إليه ابنته، ورغب في صهره، وتزوج كل واحد بابنة الآخر. فأما كسرى فإنه أرسل إلى خاقان ملك الترك بنتاً كانت قد تبنتها بعض نسائه وذكر أنها ابنته، وأرسل ملك الترك ابنته، واجتمعا، فأمر أنوشروان جماعةً من ثقاته أن يكبسوا طرفاً من عسكر الترك ويحرقوا فيه، ففعلوا، فلما أصبحوا شكا ملك الترك ذلك، فأنكر أن يكون له علم به، ثم أمر بمثل ذلك بعد ليال، فضج التركي، فرفق به أنوشروان، فاعتذر إليه، ثم أمر أنوشروان أن تلقى النار في ناحية من عسكره فيها أكواخ من حشيش، فلما اصبح شكا إلى التركي، قال: كافأتني بالتهمة ! فحلف التركي أنه لم يعلم بشيء من ذلك، فقال أنوشروان له: إن جندنا قد كرهوا صلحنا لانقطاع العطاء والغارات، ولا أمن أن يحدثوا حدثاً يفسد قلوبنا فنعود إلى العدواة، والرأي أن تأذن لي في بناء سور يكون بيني وبينك نجعل عليه أبواباً فلا يدخل إليك إلا من تريده ولا يدخل إلينا إلا من نريده. فأجابه إلى ذلك. وبنى أنوشروان السور من البحر وألحقه برؤوس الجبال، وعمل عليه أبواب الحديد ووكل به من يحرسه. فقيل لملك الترك: إنه خدعك وزوجك غير ابنته وتحصن منك فلم تقدر له على حيلة. وملك أنوشروان ملوكاً رتبهم على النواحي، فمنهم صاحب السرير وفيلان شاه واللكز ومسقط وغيرها، ولم تزل أرمينية بأيدي الفرس حتى ظهر الإسلام، فرفض كثير من السياسجين حصونهم ومدائنهم حتى خربت واستولى عليها الخزر والروم، وجاء الإسلام وهي كذلك. ذكر أمر الفيللما دام ملك أبرهة باليمن وتمكن به بنى القليس بصنعاء، وهي كنيسة لم ير مثلها في زمانها بشيء من الأرض، ثم كتب إلى النجاشي: إني قد بنيت لك كنيسة لم ير مثلها ولست بمنتهٍ حتى أصرف إليها حاج العرب. فلما تحدثت العرب بذلك غضب رجل من النسأة من بني فقيم، فخرج حتى أتاها فقعد فيها وتغوط، ثم لحق بأهله، فأخبر بذلك أبرهة، وقيل له: إنه فعل رجل من أهل البيت الذي تحجه العرب بمكة غضب لما سمع أنك تريد صرف الحجاج عنه ففعل هذا.
فغضب أبرهة وحلف ليسيرن إلى البيت فيهدمه، وأمر الحبشة فتجهزت، وخرج معه بالفيل واسمه محمود، وقيل: كان معه ثلاثة عشر فيلاً وهي تتبع محموداً، وإنما وحد الله سبحانه الفيل لأنه عنى كبيرها محموداً، وقيل في عددهم غير ذلك. فلما سار سمعت العرب به فأعظموه ورأوا جهاده حقاً عليهم، فخرج عليه رجل من أشراف اليمن يقال له ذو نفر وقاتله، فهزم ذو نفر وأخذ أسيراً فأراد قتله ثم تركه محبوساً عنده، ثم مضى على وجهه، فخرج عليه نفيل ابن حبيب الجثعمي فقاتله، فانهزم نفيل وأخذ أسيراً، فضمن لأبرهة أن يدله على الطريق، فتركه وسار حتى إذا مر على الطائف بعثت معه ثقيف أبا رغالٍ يدله على الطريق حتى أنزله بالمغمس، فلما نزله مات أبو رغالٍ، فرجمت العرب قبره، فهو القبر الذي يرجم. وبعث أبرهة الأسود بن مقصود إلى مكة، فساق أموال أهلها وأصاب فيها مائتي بعير لعبد المطلب بن هاشم، ثم أرسل أبرهة حناطة الحميري إلى مكة فقال: سل عن سيد قريش وقل له إني لم آت لحربكم إنما جئت لهدم هذا البيت، فإن لم تمنعوا عنه فلا حاجة لي بقتالكم. فلما بلغ عبد المطلب ما أمره قال له: والله ما نريد حربه، هذا بيت الله وبيت خليله إبراهيم، فإن يمنعه فهو يمنع بيته وحرمه وإن يخل بيته وبينه فوالله ما عندنا من دفع، فقال له: انطلق معي إلى الملك. فانطلق معه عبد المطلب حتى أتى العسكر، فسأل عن ذي نفر، وكان له صديقاً، فدل عليه، وهو في محبسه، فقال له: هل عندك غناء فيما نزل بنا ؟ فقال: وما غناء رجل أسير بيدي ملك ينتظر أن يقتله ؟ ولكن أنيس سائس الفيل صديق لي فأوصيه بك وأعظم حقك وأسأله أن يستأذن لك على الملك فتكلمه بما تريد ويشفع لك عنده إن قدر. قال: حسبي. فبعث ذو نفر إلى أنيس، فحضره وأوصاه بعبد المطلب وأعلمه أنه سيد قريش. فكلم أنيس أبرهة وقال: هذا سيد قريش يستأذن، فأذن له. وكان عبد المطلب رجلاً عظيماً وسيماً، فلما رآه أبرهة أجله وأكرمه ونزل عن سريره إليه وجلس معه على بساط وأجلسه إلى جنبه وقال لترجمانه: قل له ما حاجتك ؟ فقال له الترجمان ذلك، فقال عبد المطلب: حاجتي أن يرد علي مائتي بعير أصابها لي فلما قال له ذلك فقال أبرهة لترجمانه: قل له قد كنت أعجبتني حين رأيتك ثم زهدت فيك حين كلمتني، أتكلمني في إبلك وتترك بيتاً هو دينك ودين آبائك قد جئت لهدمه ؟ قال عبد المطلب: أنا رب الإبل وللبيت رب يمنعه. قال: ما كان ليمنع مني. وأمر برد إبله، فلما أخذها قلدها وجعلها هدياً وبثها في الحرم لكي يصاب منها شيء فيغضب الله. وانصرف عبد المطلب إلى قريش وأخبرهم الخبر وأمرهم بالخروج معه من مكة والتحرز في رؤوس الجبال خوفاً من معرة الجيش، ثم قام عبد المطلب فأخذ بحلقه باب الكعبة وقام معه نفر من قريش يدعون الله ويستنصرونه على أبرهة، فقال عبد المطلب، وهو آخذ بحلقة باب الكعبة: يا ربّ لا أرجو لهم سواكا ... يا ربّ فامنع منهم حماكا إنّ عدوّ البيت من عاداكا ... إمنعهم أن يخربوا فناكا وقال أيضاً: لا همّ إنّ العبد يم ... نع رحله فامنع حلالك لا يغلبنّ صليبهم ... ومحالهم غدراً محالك ولئن فعلت فإنّه ... أمرٌ تتمّ به فعالك أنت الذي إن جاء با ... غٍ نرتجيك له كذلك ولّوا ولم يحووا سوى ... خزيٍ وتهلكهم هنالك لم أستمع يوماً بأر ... جس منهم يبغوا قتالك جرّوا جموع بلادهم ... والفيل كي يسبوا عيالك عمدوا حماك بكيدهم ... جهلاً وما رقبوا جلالك ثم أرسل عبد المطلب حلقة باب الكعبة وانطلق هو ومن معه من قريش إلى شعف والجبال فتحرزوا فيها ينتظرون ما يفعل أبرهة بمكة إذا دخل.
فلما أصبح أبرهة تهيأ لدخول مكة وهيأ فيله، وكان اسمه محموداً، وأبرهة مجمعٌ لهدم البيت والعود إلى اليمن، فلما وجهوا الفيل أقبل نفيل بن حبيب الخثعمي فمسك بأذنه وقال: ارجع محمود، ارجع راشداً من حيث جئت فإنك في بلد الله الحرام ؟! ثم أرسل أذنه، فألقى الفيل نفسه إلى الأرض واشتد نفيل فصعد الجبل، فضربوا الفيل، فأبى، فوجهوه راجعاً إلى اليمن، فقام يهرول، ووجهوه إلى الشام ففعل كذلك، ووجهوه راجعاً إلى اليمن، فقام يهرول، ووجهوه إلى الشام ففعل كذلك، ووجهوه إلى المشرق ففعل مثل ذلك، ووجهوه إلى مكة فسقط إلى الأرض. وأرسل الله عليهم طيراً أبابيل من البحر أمثال الخطاطيف مع كل طير منها ثلاثة أحجار تحملها، حجر في منقاره وحجران في رجليه، فقذفتهم بها وهي مثل الحمص والعدس لا تصيب أحداً منهم إلا هلك، ليس كلهم أصابت، وأرسل الله سيلاً ألقاهم في البحر وخرج من سلم مع أبرهة هارباً يبتدرون الطريق الذي جاءوا منه ويسألون عن نفيل بن حبيب ليدلهم على الطريق إلى اليمن، فقال نفير حين رأى ما أنزل الله بهم من نقمته: أين المفرّ والإله الطّالب ... والأشرم المغلوب غير الغالب وقال أيضاً: ألا حيّيت عنّا يا ردينا ... نعمناكم مع الإصباح عينا أتانا قابسٌ منكم عشاء ... فلم يقدر لقابسكم لدينا ردينة لو رأيت ولم تريه ... لدى جنب المحصّب ما رأينا إذا لعذرتني وحمدت رأيي ... ولم تأسي لما قد فات بينا حمدت الله إذ عاينت طيراً ... وخفت حجارةً تلقى علينا وكلّ القوم يسأل عن نفيلٍ ... كأنّ عليّ للحبشان دينا وأصيب أبرهة في جسده فسقطت أعضاؤه عضواً عضواً حتى قدموا به صنعاء وهو مثل الفرخ، فما مات حتى انصدع صدره عن قلبه. فلما هلك ملك ابنه يكسوم بن أبرهة، وبه كان يكنى، وذلت حمير واليمن له، ونكحت الحبشة نساءهم وقتلوا رجالهم واتخذوا أبناءهم تراجمة بينهم وبين العرب. ولما أهلك الله الحبشة وعاد ملكهم ومعه من سلم منهم ونزل عبد المطلب من الغد إليهم لينظر ما يصنعون ومعه أبو مسعود الثقفي لم يسمعا حساً، فدخلا معسكرهم فرأيا القوم هلكى، فاحتفر عبد المطلب حفرتين ملأهما ذهباً وجوهراً له ولأبي مسعود ونادى في الناس، فتراجعوا، فأصابوا من فضلهما شيئاً كثيراً، فبقي عبد المطلب في غنىً من ذلك المال حتى مات. ويبعث الله السيل فألقى الحبشة في البحر وقال كثير من أهل السير إن الحصبة والجدري أول ما رؤيا في العرب بعد الفيل وكذلك قالوا إن العشر والحرمل والشجر لم تعرف بأرض العرب إلا بعد الفيل. وهذا مما لا ينبغي أن يعرض عليه فإن هذه الأمراض والأشجار قبل الفيل مذ خلق الله العالم. ولما رد الله الحبشة عن الكعبة وأصابهم ما أصابهم عظمت العرب قريشاً وقالوا: أهل الله قاتل عنهم. ثم مات يكسوم وملك بعده أخوه مسروق. ذكر عود اليمن إلى حمير وإخراج الحبشة عنهلما هلك يكسوم ملك اليمن أخوه مسروق بن أبرهة، وهو الذي قتله وهرز، فلما تشد البلاء على أهل اليمن خرج سيف بن ذي يزن، وكنيته أبو مرة، وقيل: كنية ذي يزن أبو مرة، حتى قدم على قيصر، وتنكب كسرى لإبطائه عن نصر أبيه، فإنه كان قصد كسرى أنوشروان لما أخذت زوجته يستنصره على الحبشة، فوعده، فأقام ذو يزن عنده، فمات على بابه. وكان ابنه سيف مع أمه في حجر أبرهة، وهو يحسب أنه ابنه، فسبه ولد لأبرهة وسب أباه، فسأل أمه عن أبيه فأعلمته خبره بعد مراجعة بينهما، فأقام حتى مات أبرهة وابنه يكسوم، ثم سار إلى الروم فلم يجد عند ملكهم ما يحب لموافقته الحبشة في الدين، فعاد إلى كسرى، فاعترضه يوماً وقد ركب فقال له: إن لي عندك ميراثاً، فدعا به كسرى لما نزل فقال له: من أنت وما ميراثك ؟ قال: أنا ابن الشيخ اليماني الذي وعدته النصرة فمات ببابك، فتلك العدة حق لي وميراث. فرق كسرى له وقال له: بعدت بلادك عنا وقل خيرها والمسلك إليها وعرٌ ولست أغرر بجيشي. وأمر له بمال، فخرج وجعل ينثر الدراهم، فانتهبها الناس، فسمع كسرى فسأله ما حمله على ذلك، فقال: لم آتك للمال وإنما جئتك للرجال ولتمنعني من الذل والهوان، وإن جبال بلادنا ذهب وفضة.
فأعجب كسرى بقوله وقال: يظن المسكين أنه أعرف ببلاده مني؛ واستشار وزراءه في توجيه الجند معه، فقال له موبذان موبذ: أيها الملك إن لهذا الغلام حقاً بنزوعه إليك وموت أبيه ببابك وما تقدم من عدته بالنصرة، وفي سجونك رجال ذوو نجدة وبأس فلو أن الملك وجههم معه فإن أصابوا ظفراً كان للملك، وإن هلكوا فقد استراح وأراح أهل مملكته منهم. فقال كسرى: هذا الرأي. فأمر بمن في السجون، فأحضروا، فكانوا ثمانمائة، فقود عليهم قائداً من أساورته يقال له وهرز، وقيل: بل كان من أهل السجون سخط عليه كسرى لحدث فحبسه، وكان يعدله بألف أسوار، وأمر بحملهم في ثماني سفن، فركبوا البحر، فغرق سفينتان وخرجوا بساحل حضرموت، ولحق بابن ذي يزن بشرٌ كثير، وسار إليهم مسروق في مائة ألف من الحبشة وحمير والأعراب، وجعل وهرز البحر وراء ظهره وأحرق السفن لئلا يطمع أصحابه في النجاة، وأحرق كل ما معهم من زاد وكسوة إلا ما أكلوا وما على أبدانهم، وقال لأصحابه: إنما أحرقت ذلك لئلا يأخذه الحبشة إن ظفروا بكم، وإن نحن ظفرنا بهم فسنأخذ أضعافه، فإن كنتم تقاتلون معي وتصبروني أعلمتموني ذلك، وإن كنتم لا تفعلون اعتمدت على سيفي حتى يخرج من ظهري، فانظروا ما حالكم إذا فعل رئيسكم هذا بنفسه. قالوا: بل نقاتل معك حتى نموت أو نظفر. وقال لسيف بن ذي يزن: ما عندك ؟ قال: ما شئت من رجل عربي وسيف عربي، ثم اجعل رجلي مع رجلك حتى نموت جميعاً أو نظفر جميعاً. قال: أنصفت. فجمع إليه سيف من استطاع من قومه، فكان أول من لحقه السكاسك من كندة. وسمع بهم مسروق بن أبرهة فجمع إليه جنده، فعبأ وهرز أصحابه وأمرهم أن يوتروا قسيهم، وقال: إذا أمرتكم بالرمي فارموا رشقاً. وأقبل مسروق في جمع لا يرى طرفاه، وهو على فيل وعلى رأسه تاج وبين عينيه ياقوتة حمراء مثل البيضة لا يرى دون الظفر شيئاً. وكان وهرز كل بصره، فقال: أروني عظيمهم. فقالوا: هذا صاحب الفيل، ثم ركب فرساً، فقالوا: ركب فرساً، ثم انتقل إلى بلغة، فقالوا: ركب بغلة. فقال وهرز: ذل وذل ملكه ! وقال وهرز: ارفعوا لي حاجبي، وكانا قد سقطا على عينيه من الكبر، فرفعوهما له بعصابة، ثم جعل نشابة في كبد قوسه وقال: أشيروا إلى مسروق، فأشاروا إليه، فقال لهم: سأرميه فإن رأيتم أصحابه وقوفاً لم يتحركوا فاثبتوا حتى أوؤذنكم، فإني قد أخطأت الرجل، وإن رأيتموهم قد استداروا ولاثوا به فقد أصبته فاحملوا عليهم. ثم رماه فأصاب السهم بين عينيه، ورمى أصحابه، فقتل مسروق وجماعة من اصحابه، فاستدارت الحبشة بمسروق وقد سقط عن دابته، وحملت الفرس عليهم فلم يكن دون الهزيمة شيء، وغنم الفرس من عسكرهم ما لا يحد ولا يحصى. وقال وهرز: كفوا عن العرب واقتلوا السودان ولا تبقوا منهم أحداً. وهرب رجل من الأعراب يوماً وليلة ثم التفت فرأى في جعبته نشابة فقال: لأمك الويل ! أبعدٌ أم طول مسير ! وسار وهرز حتى دخل صنعاء وغلب على بلاد اليمن وأرسل عماله في المخاليف. وكان مدة ملك الحبشة اليمن اثنتين وسبعين سنة، توارث ذلك منهم أربعة ملوك: أرياط ثم أبرهة ثم ابنه يكسوم ثم مسروق بن أبرهة، وقيل: كان ملكهم نحواً من مائتي سنة، وقيل غير ذلك، والأول أصح.
فلما ملك وهرز اليمن أرسل إلى كسرى يعلمه بذلك وبعث إليه بأموال، وكتب إليه كسرى يأمره أن يملك سيف بن ذي يزن، وبعضهم يقول معدي كرب بن سيف بن ذي يزن على اليمن وأرضها، وفرض عليه كسرى جزية وخراجاً معلوماً في كل عام، فملكه وهرز وانصرف إلى كسرى وأقام سيف على اليمن ملكاً يقتل الحبشة ويبقر بطون الحبال عن الحمل، ولم يترك منهم إلا القليل جعلهم خولاً فاتخذ منهم جمازين يسعون بين يديه بالحراب، فمكث غير كثير، ثم إنه خرج يوماً والحبشة يسعون بين يديه بحرابهم فضربوه بالحراب حتى قتلوه، فكان ملكه خمس عشرة سنة، ووثب بهم رجل من الحبشة فقتل باليمن وأفسد، فلما بلغ ذاك كسرى بعث إليهم وهرز في أربعة آلاف فارس وأمره أن لا يترك باليمن أسود ولا ولد عربية من أسود إلا قتله، صغيراً أو كبيراً، ولا يدع رجلاً جعداً قططاً قد شرك فيه السودان إلا قتله، وأقبل حتى دخل اليمن ففعل ما أمره، وكتب إلى كسرى يخبره، فأقره على ملك اليمن، فكان يجيبها لكسرى حتى هلك، وأمر بعده كسرى ابنه المرزبان بن وهرز حتى هلك، ثم أمر بعده كسرى التينجان بن المرزبان، ثم أمر بعده خر خسرة بن التينجان بن المرزبان. ثم إن كسرى أبرويز غضب عليه فأحضره من اليمن، فلما قدم تلقاه رجل من عظماء الفرس فألقى عليه سيفاً كان لأبي كسرى، فأجاره كسرى بذلك من القتل وعزله عن اليمن، وبعث باذان إلى اليمن، فلم يزل ليها حتى بعث الله نبيه محمداً، صلى الله عليه وسلم. وقيل: إن أنوشروان استعمل بعد وهرز زرين، وكان مسرفاً، إذا أراد أن يركب قتل قتيلاً ثم سار بين أصواله، فمات أنوشروان وهو على اليمن، فعزله ابنه هرمز. وقد اختلفوا في ولاة اليمن للأكسارة اختلافاً كثيراً لم أر لذكره فائدة. ذكر ما أحدثه قريش بعد الفيللما كان من أمر أصحاب الفيل ما ذكرناه عظمت قريش عند العرب فقالوا لهم أهل الله وقطنه يحامي عنهم، فاجتمعت قريش بينها وقالوا: نحن بنو إبراهيم، عليه السلام، وأهل الحرم وولاة البيت وقاطنوا مكة، فليس لأحد من العرب مثل منزلتنا، ولا يعرف العرب لأحد مثل ما يعرف لنا، فهلموا فلنتفق على ائتلاف أننا لا نعظم شيئاً من الحل كما يعظم الحرم، فإننا إذا فعلنا ذلك استخفت العرب بنا وبحرمنا وقالوا: قد عظمت قريش من الحل مثل ما عظمت من الحرم، فتركوا الوقوف بعرفة والإفاضة منها، وهم يعرفون ويقرون أنها من المشاعر والحج ودين إبراهيم، ويروى سائر العرب أن يقفوا عليها وأن يفيضوا منها، وقالوا: نحن أهل الحرم فلا نعظم غيره، ونحن الحمس، وأصل الحماسة الشدة أنهم تشددوا في دينهم وجعلوا لمن ولد واحدة من نسائهم من العرب ساكني الحل مثل ما لهم بولادتهم، ودخل معهم في ذلك كنانة وخزاعة وعامر لولادة لهم، ثم ابتدعوا فقالوا: لا ينبغي للحمس أن يعملوا الأقط ولا يسلأوا السمن وهم حرم، ولا يدخلوا بيتاً من شعر، ولا يستظلوا إلا في بيوت الأدم ما كانوا حرماً. وقالوا: ولا ينبغي لأهل الحل أن يأكلوا من طعام جاؤوا به معهم من الحل في الحرم إذا جاؤوا حجاجاً أو عماراً. ولا يطوفون بالبيت طوافهم إذا قدموا إلا في ثياب الحمس، فإن لم يجدوا طافوا بالبيت عراة، فإن أنف أحد من عظمائهم أن يطوف عرياناً إذا لم يجد ثياب الحمس فطاف في ثيابه ألقاها إذا فرغ من الطواف ولا يمسها هو، ولا أحد غيره، وكانوا يسمونها اللقى. فدانت العرب لهم بذلك، فكانوا يطوفون كما شرعوا لهم ويتركون أزوادهم التي جاؤوا بها من الحل ويشترون من طعام الحرم ويأكلونه. هذا في الرجال، وأما النساء فكانت المرأة تضع ثيابها كلها إلا درعها مفرجاً ثم تطوف فيه وتقول: اليوم يبدو بعضه أو كلّه ... وما بدا منه فلا أحلّه
فكانوا كذلك حتى بعث الله محمّداً، صلى الله عليه وسلم، فنسخه، فأفاض من عرفاتٍ، وطاف الحجاج بالثياب التي معهم من الحل، وأكلوا من طعام الحل، في الحرم أيام الحج، وأنزل الله تعالى في ذلك: (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ أَفَاضَ النّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا الله إنّ الله غَفُورٌ رَحِيمٌ) البقرة: 199؛ أراد بالناس العرب، أمر قريشاً أن يفيضوا من عرفات، وأنزل الله تعالى في اللباس والطعام الذي من الحل وتركهم إياه في الحرم: (يَا بَني آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا، إلى قوله: لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) ذكر حلف المطيبين والأحلافقد ذكرنا ما كان قصي أعطى ولده عبد الدار من الحجابة والسقاية والرفادة والندوة واللواء، ثم إن هاشماً وعبد شمس والمطلب ونوفلاً بني عبد مناف ابن قصي رأوا أنهم أحق بذلك من بني عبد الدار لشرفهم عليهم ولفضلهم في قومهم، وأرادوا أخذ ذلك منهم، فتفرقت عند ذلك قريش، كانت طائفة مع بني عبد مناف، وطائفة مع بني عبد الدار يرون أنه لا يجوز أن يؤخذ منهم ما كان قصي جعله لهم إذ كان أمر قصي فيهم شرعاً متبعاً معرفة منهم لفضله تيمناً بأمره، وكان صاحب أمر بني عبد مناف بن قصي عبد شمس لأنه كان أكبرهم، وكان صاحب بني عبد الدار الذي قام في المنع عنهم عامر بن هاشم ابن عبد مناف بن عبد الدار، فاجتمع بنو أسد بن عبد العزى بن قصي، وبنو زهرة بن كلاب، وبنو تيم بن مرة، وبنو الحارث بن فهر بن مالك ابن النضر مع بني عبد مناف، واجتمع بنو مخزوم، وبنو سهم، وبنو جمح، وبنو عدي بن كعب مع بني عبد الدار، وخرجت عامر بن لؤي ومحارب ابن فهر من ذلك، فلم يكونوا مع أحد الفريقين، وعقد كل طائفة بينهم حلفاً مؤكداً على أن لا يتخاذلوا ولا يسلم بعضهم بعضاً ما بل بحرٌ صوفةً، فأخرجت بنو عبد مناف بن قصي جفنة مملوءة طيباً، قيل: إن بعض نساء بني عبد مناف أخرجتها لهم، فوضعوها في المسجد وغمسوا أيديهم فيها وتعاهدوا وتعاقدوا ومسحوا الكعبة بأيديهم توكيداً على أنفسهم، فسموا بذلك المطيبين. وتعاقد بنو عبد الدار ومن معهم من القبائل عند الكعبة على أن لا يتخاذلوا ولا يسلم بعضهم بعضاً فسموا لأحلاف، ثم تصافوا للقتال وأجمعوا على الحرب، فبينما هم على ذلك إذ تداعوا للصلح على أن يعطوا بني عبد مناف السقاية والرفادة وأن تكون الحجابة واللواء والندوة لبني عبد الدار، فاصطلحوا ورضي كل واحد من الفريقين بذلك وتحاجزوا عن الحرب، وثبت كل قوم مع من حالفوا حتى جاء الإسلام وهم على ذلك، فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ما كان من حلف في الجاهلية فإن الإسلام لم يزده إلا شدةً ولا حلف في الإسلام. فولي السقاية والرفادة هاشم بن عبد مناف لأن عبد شمس كان كثير الأسفار قليل المال كثير العيال، وكان هاشم موسراً جواداً. وكان ينبغي أن نذكر هذا قبل الفيل وما أحدثه قريش، وإنما أخرناه للزوم تلك حوادث بعضها ببعض. ذكر ما فعله كسرى في أمر الخراج والجندكان ملوك الفرس يأخذون من غلات كورهم قبل ملك كسرى أنوشروان في خراجها من بعضها الثلث ومن بعضها الربع، وكذلك الخمس والسدس على قدر شربها وعمارتها، ومن الجزية شيئاً معلوماً، فأمر الملك قباذ بمسح الأرضين ليصح الخراج عليها، فمات قبل الفراغ من ذلك، فلما ملك أنوشروان أمر باستتمام ذلك ووضع الخراج على الحنطة والشعير ون والكرم والرطب والنخل والزيتون والأرز على كل نوع من هذه الأنواع شيئاً معلوماً، ويؤخذ في السنة في ثلاثة أنجم، وهي الوضائع التي اقتدى بها عمر بن الخطاب، وكتب كسرى إلى القضاة في البلاد نسخة بالخراج ليمتنع العمال من الزيادة عليه، وأمر أن يوضع عمن أصابت غلته جائحة بقدر جائحته، وألزموا الناس الجزية ما خلا العظماء وأهل البيوتات والجند والهرابذة والكتاب ومن في خدمة الملك كل إنسان على قدره من اثني عشر درهماً وثمانية دراهم وستة دراهم وأربعة دراهم، وأسقطها عمر عمن لم يبلغ عشرين سنة أو جاوز خمسين سنة.
ثم إن كسرى ولى رجلاً من الكتاب من الكفاة والنبلاء اسمه بابك عرض جيشه، فطلب من كسرى التمكن من شغله إلى ذلك، فتقدم ببناء مصطبة موضع عرض الجيش وفرشها، ثم نادى أن يحضر الجند بسلاحهم وكراعهم للعرض، فحضروا، فحيث لم ير معهم كسرى أمرهم بالانصراف، فعل ذلك يومين، ثم أمر فنودي في اليوم الثالث أن لا يتخلف أحد ولا من أكرم بتاج، فسمع كسرى فحضر وقد لبس التاج والسلاح، ثم أتى بابك ليعرض عليه، فرأى سلاحه تاماً ما عدا وترين للقوس كان عادتهم أن يستظهروا بهما، فلم يرهما بابك معه فلم يجز على اسمه وقال له: هلم كل ما يلزمك. فذكر كسرى الوترين فتعلقهما، ثم نادى منادي بابك وقال: للكمي السيد، سيد الكماة، أربعة آلاف درهم، وأجاز على اسمه. فلما قام عن مجلسه حضر عند كسرى يعتذر إليه من غلظته عليه، وذكر له أن أمره لا يتم إلا بما فعل. فقال كسرى: ما غلظ علينا أمرٌ نريد به إصلاح دولتنا. ومن كلام كسرى: الشكر والنعمة كفتان ككفتي الميزان أيهما رجح بصاحبه احتاج الأخف إلى أن يزاد فيه حتى يعادل صاحبه، فإذا كانت النعم كثيرة والشكر قليلاً انقطع الحمد، فكثير النعم يحتاج إلى كثير من الشكر، وكلما زيد في الشكر ازدادت النعم وجاوزته، ونظرت في الشكر فوجدت بعضه بالقول وبعضه بالفعل، ونظرت أحب الأعمال إلى الله فوجدته الشيء الذي أقام به السموات والأرض وأرسى به الجبال وأجرى به الأنهار وبرأ به البرية، وهو الحق والعدل، فلزمته، ورأيت ثمرة لحق والعدل عمارة البلدان التي بها قوام الحياة للناس والدواب والطير وجميع الحيوانات. ولما نظرت في ذلك وجدت المقاتلة أجراء لأهل العمارة، وأهل العمارة أجراء للمقاتلة، فأما المقاتلة فإنهم يطلبون أجورهم من أهل الخراج وسكان البلدان لمدافعتهم عنهم ومجاهدتهم من ورائهم، فحق على أهل العمارة أن يوفرهم أجورهم، فإن العمارة والأمن والسلامة في النفس والمال لا يتم إلا بهم، ورأيت أن المقاتلة لا يتم لهم المقام والأكل والشرب وتثمير الأموال والأولاد إلا بأهل الخراج والعمارة، فأخذت للمقاتلة من أهل الخراج ما يقوم بأودهم وتركت على أهل الخراج من مستغلاتهم ما يقوم بمؤونتهم وعمارتهم ولم أجحف بواحد من الجانبين، ورأيت المقاتلة وأهل الخراج كالعينين المبصرتين واليدين المتساعدتين والرجلين على أيهما دخل الضرر تعدى إلى الأخرى. ونظرنا في سير آبائنا فلم نترك منها شيئاً يقترن بالثواب من الله والذكر الجميل بين الناس والمصلحة الشاملة للجند والرعية إلا اعتمدناه، ولا فساداً إلا أعرضنا عنه، ولم يدعنا إلى حب ما لا خير فيه حب الآبا. ونظرت في سير أهل الهند والروم وأخذنا محمودها، ولم تنازعنا أنفسنا إلى ما تميل إليه أهواؤنا، وكتبنا بذلك إلى جميع أ | |
|
| |
الشيخ عودة الشيخ عودة
عدد المساهمات : 1748 تاريخ التسجيل : 28/09/2008 العمر : 74
| موضوع: رد: كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير الخميس فبراير 06, 2014 8:40 am | |
| وكانت مدة رضاع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، سنتين، وردته حليمة إلى أمه وجده عبد المطلب وهو ابن خمس سنين في قول. وقال شداد بن أوس: بينما نحن عند رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إذ أقبل شيخ من بني عامر وهو ملك قومه وسيدهم شيخ كبير متوكئاً على عصاً فمثل قائماً وقال: يا ابن عبد المطلب إني أنبئت أنك تزعم أنك رسول الله، أرسلك بما أرسل به إبراهيم وموسى وعيسى وغيرهم من الأنبياء، ألا وإنك فهت بعظيم، ألا وقد كانت الأنبياء من بني إسرائيل وأنت ممن يعبد هذه الحجارة والأوثان وما لك وللنبوة، وإن لكل قول حقيقة، فما حقيقة قولك وبدء شأنك ؟
فأعجب النبي؛ صلى الله عليه وسلم، بمساءلته ثم قال: يا أخا بني عامر اجلس. فجلس، فقال له النبي، صلى الله عليه وسلم: إن حقيقة قولي وبدء شأني أني دعوة أبي إبراهيم وبشرى أخي عيسى، وكنت بكر أمي، وحملتني كأثقل ما تحمل النساء، ثم رأت في منامها أن الذي في بطنها نور، قالت: فجعلت أتبع بصري النور وهو يسبق بصري حتى أضاءت لي مشارق الأرض ومغاربها؛ ثم إنها ولدتني فنشأت، فلما نشأت بغضت إلي الأوثان والشعر، فكنت مستضعفاً في بني سعد بن بكر، فبينا أنا ذات يوم منتبذاً من أهلي مع أتراب من الصبيان إذ أتانا ثلاثة رهط معهم طست من ذهب مملوء ثلجاً فأخذوني من بين أصحابي، فخرج أصحابي هراباً حتى انتهوا إلى شفير الوادي ثم أقبلوا على الرهط فقالوا: ما أربكم إلى هذا الغلام فإنه ليس له أب وما يرد عليكم قتله ؟ فلما رأى الصبيان الرهط لا يردون جواباً انطلقوا مسرعين إلى الحي يؤذنونهم بي ويستصرخونهم على القوم، فعمد أحدهم فأضجعني على الأرض إضجاعاً لطيفاً، ثم شق ما بين مفرق صدري إلى منتهى عانتي، فأنا أنظر إليه لم أجد لذلك مساً، ثم أخرج أحشاء بطني فغسلها بالثلج فأنعم غسلها، ثم أخرج قلبي فصدعه ثم أخرج منه مضغةً سوداء فرمى بها، قال بيده يمنة منه وكأنه يتناول شيئاً، فإذا أنا بخاتم في يده من نور يحار الناظرون دونه، فختم به قلبي، فامتلأ نوراً، وذلك نور النبوة والحكمة، ثم أعاده مكانه، فوجدت برد ذلك الخاتم في قلبي دهراً، ثم قال الثالث لصاحبه: تنح، فتنحى عني، فأمر يده ما بين مفرق صدري إلى منتهى عانتي فالتأم ذلك الشق بإذن الله تعالى، ثم أخذ بيدي فأنهضني إنهاضاً لطيفاً ثم قال للأول الذي شق بطني زنه عشرة من أمته. فوزنوني بهم فرجحتهم. ثم قال: زنه مائة من أمته. فوزنوني بهم فرجحتهم. ثم قال زنه بألف من أمته. فوزنوني بهم فرجحتهم. فقال: دعوه فلو وزنته بأمته كلهم لرجح بهم. ثم ضموني إلى صدورهم وقبلوا رأسي وما بين عيني ثم قالوا: يا حبيب، لم ترع؛ إنك لو تدري ما يراد بكن من الخير لقرت عينك. قال: فبينا نحن كذلك إذ أنا بالحي قد جاؤوا بحذافيرهم، وإذ ظئري أمام الحي تهتف بأعلى صوتها وهي تقول: يا ضعيفاه ؟! قال: فانكبوا علي وقبلوا رأسي وما بين عيني وقالوا: حبذا أنت من ضعيف ! ثم قالت ظئري: يا وحيداه ! فانكبوا علي فضموني إلى صدورهم وقبلوا ما بين عيني وقالوا: حبذا أنت من وحيد وما أنت بوحيد ! إن الله معك ! ثم قالت ظئري: يا يتيماه استضعفت من بين أصحابك فقتلت لضعفك ! فانكبوا علي وضموني إلى صدورهم وقبلوا ما بين عيني وقالوا: حبذا أنت من يتيم ! ما أكرمك على الله ! لو تعلم ما يراد بك من الخير ! قال: فوصلوا بي إلى شفير الوادي. فلما بصرت بي ظئري قالت: يا بني ألا أراك حياً بعد ! فجاءت حتى انكبت علي وضمتني إلى صدرها، فوالذي نفسي بيده إني لفي حجرها وقد ضمتني إليها، وإن بدي في يد بعضهم، فجعلت ألتفت إليهم، وظننت أن القوم يبصرونهم، يقول بعض القوم: إن هذا الغلام أصابه لممٌ أو طائف من الجن، انطلقوا به إلى كاهننا حتى ينظر إليه ويداويه. فقلت: ما هذا ! ليس بي شيء مما يذكر، إن إرادتي سليمة، وفؤادي صحيح ليس في قلبةٌ. فقال أبي من الرضاع: ألا ترون كلامه صحيحاً ؟ إني لأرجو أن لا يكون بابني بأس. فاتفقوا على أن يذهبوا بي إلى الكاهن، فذهبوا بي إليه. فلما قصوا عليه قصتي قال: اسكتوا حتى أسمع من الغلام فإنه أعلم بأمره منكم. فقصصت عليه أمري من أوله إلى آخره، فلما سمع قولي وثب إلي وضمني إلى صدره، ثم نادى بأعلى صوته: يا للعرب اقتلوا هذا الغلام واقتلوني معه! فواللات والعزى لئن تركتموه فأدرك ليبدلن دينكم وليخالفن أمركم وليأتينكم بدين لم تسمعوا بمثله قط. فانتزعتني ظئري منه وقالت: لأنت أجن وأعته من ابني هذا، فاطلب لنفسك من يقتلك، فإنا غير قاتليه ! ثم ردوني إلى أهلي فأصبحت مفزعاً مما فعل بي وأثر الشق مما بين صدري إلى عانتي كأنه الشراك، فذلك حقيقة قولي وبدء شأني يا أخا بني عامر.
فقال العامري: أشهد بالله الذي لا إله إلا هو أن أمرك حق، فأنبئني بأشياء أسألك عنها. قال: سل. قال: أخبرني ما يزيد في العلم ؟ قال: التعلم. قال: فما يدل على العلم ؟ قال النبي، صلى الله عليه وسلم: السؤال. قال: فأخبرني ماذا يزيد في الشيء ؟ قال: التمادي. قال: فأخبرني هل ينفع البر مع الفجور ؟ قال: نعم، التوبة تغسل الحوبة، والحسنات يذهبن السيئات، وإذا ذكر العبد الله عند الرخاء أعانه عند البلاء. فقال العامري: فكيف ذلك ؟ قال: ذلك بأن الله، عز وجل، يقول: وعزتي وجلالي لا أجمع لعبدي أمنين ولا أجمع له خوفين، إن خافني في الدنيا أمنته يوم أجمع عبادي في حظيرة القدس فيدوم له أمنه ولا أمحقه فيمن أمحق، وإن هو أمنني في الدنيا خافني يوم أجمع عبادي لميقات يوم معلوم فيدوم له خوفه. قال: يا ابن عبد المطلب أخبرني إلى م تدعو ؟ قال: أدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له وأن تخلع الأنداد وتكفر بالات والعزى وتقر بما جاء من عند الله من كتاب ورسول، وتصلي الصلوات الخمس بحقائقهن، وتصوم شهراً من السنة، وتؤدي زكاة مالك يطهرك الله تعالى بها ويطيب لك مالك، وتحج البيت إذا وجدت إليه سبيلاً، وتغتسل من الجنابة، وتؤمن بالموت والبعث بعد الموت، وبالجنة والنار. قال: يا ابن عبد المطلب فإذا فعلت ذلك فما لي ؟ فقال النبي، صلى الله عليه وسلم: (جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فيهَا، وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكّى) طه: 76. فقال: هل مع هذا من الدنيا شيء ؟ فإنه يعجبني الوطأة من العيش. قال النبي: صلى الله عليه وسلم: نعم النصر والتمكين في البلاد. فأجاب وأناب. قال ابن إسحاق: هلك عبد الله بن عبد المطلب أبو رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، آمنة بنت وهب ابن عبد مناف بن زهرة حامل به. قال هشام بن محمد: توفي عبد الله أبو رسول الله بعدما أتى على رسول الله ثمانية وعشرون يوماً. وقال الواقدي: الثبت عندنا أن عبد الله بن عبد المطلب أقبل من الشام في عير لقريش ونزل بالمدينة وهو مريض فأقام بها حتى توفي ودفن بدار النابغة، الدار الصغرى. قال ابن إسحاق: وتوفيت أمه آمنة وله ست سنين بالأبواء بين مكة والمدينة، كانت قدمت به المدينة على أخواله من بني النجار تزيره إياهم. فماتت وهي راجعة، وقيل: إنها أتت المدينة تزور قبر زوجها عبد الله ومعها رسول الله وأم أيمن حاضنة رسول الله، فلما عادت ماتت بالأبواء. وقيل: إن عبد المطلب زار أخواله من بني النجار وحمل معه آمنة ورسول الله، فلما رجع توفيت بمكة ودفنت في شعب أبي ذر؛ والأول أصح. ولما سارت قريش إلى أحد هموا باستخراجها من قبرها، فقال بعضهم: إن النساء عورة وربما أصاب محمد من نسائكم، فكفهم الله بهذا القوم إكراماً لأم النبي، صلى الله عليه وسلم. قال ابن إسحاق: وتوفي عبد المطلب ورسول الله، صلى الله عليه وسلم، ابن ثماني سنين، وقيل: ابن عشر سنين، ولما مات عبد المطلب صار رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في حجر عمه أبي طالب بوصية من عبد المطلب إليه بذلك لما كان يرى من بره به وشفقته وحنوه عليه، فيصبح ولد أبي طالب غمصاً رمصاً، ويصبح رسول الله صقيلاً دهيناً. ذكر قتل تميم بالمشقر
قال هشام: أرسل وهرز بأموال وطرف من اليمن إلى كسرى، فلما كانت ببلاد تميم دعا صعصعة بن ناجية المجاشعي، جد الفرزدق الشاعر، بنى تميم إلى الوثوب عليها، فأبوا، فقال: كأني ببني بكر بن وائل وقد انتهبوا فاستعانوا بها على حربكم، فلما سمعوا ذلك وثبوا عليها وأخذوها، وأخذ رجل من بني سليط يقال له النطف خرجاً فيه جوهر، فكان يقال: أصاب كنز النطف، فصار مثلاً، وصار أصحاب العي إلى هوذة بن علي الحنفي باليمامة، فكساهم وحملهم وسار معهم حتى دخل على كسرى، فأعجب به كسرى ودعا بعقد من در فعقد على رأسه، فمن ثم سمي هوذة ذا التاج، وسأله كسرى عن تميم هل من قومه أو بينه وبينهم سلم، فقال: لا بيننا إلا الموت. قال: قد أدركت ثأرك، وأراد إرسال الجنود إلى تيم، فقيل له: إن ماءهم قليل وبلادهم بلاد سوء، وأشير عليه أن يرسل إلى عامله بالبحرين، وهو ازاد فيروز بن جشيش الذي سمته العرب المكعبر، وإنما سمي بذلك لأنه كان يقطع الأيدي والأرجل، فأمره بقتل بني تميم، ففعل، ووجه إليه رسولاً، ودعا هوذة وجدد له كرامة وصلة وأمره بالمسير مع رسوله، فأقبلا إلى المكعبرة أيام اللقاط، وكانت تيمم تصير إلى هجر للميرة واللقاط، فأمر المكعبر منادياً ينادي: ليحضر من كان ها هنا من بني تميم فإن الملك قد أمر لهم بميرة وطعام. فحضروا ودخلوا المشقر، وهو حصن، فلما دخلوا قتل المكعبر رجالهم واستبقى غلمانهم، وقتل يومئذ قعنب الرياحي، وكان فارس يربوع، وجعل الغلمان في السفن وعبر بهم إلى فارس. قال هبيرة بن حدير العدوي: رجع إلينا بعدما فتحت إصطخر عدة منهم، وشد رجل من بني تميم يقال له عبيد بن وهب على سلسلة الباب فقطعها وخرج، واستوهب هوذة من المكعبر مائة أسير منهم فأطلقهم. حدير بضم الحاء المهملة، وفتح الدال. ذكر ملك ابنه هرمز بن أنوشروانوكانت أمه ابنة خاقان الأكبر، وكان هرمز بن كسرى أديباً ذا نية في الإحسان إلى الضعفاء والحمل على الأشراف، فعادوه وأبغضوه، وكان في نفسه مثل ذلك، وكان عادلاً بلغ من عدله أنه ركب ذات يوم إلى ساباط المدائن فاجتاز بكروم، فاطلع أسوار من أساورته في كرم وأخذ منه عناقيد حصرم، فلزمه حافظ الكروم وصنع، فبلغ من خوف الأسوار من عقوبة كسرى هرمز أن دفع إلى حافظ الكرم منطقة محلاة بذهب عوضاً من الحصرم فتركه. وقيل: كان مظفراً منصوراً لا يمد يده إلى شيء إلا ناله، وكان داهياً ردي النية قد نزع إلى أخواله الترك، وإنه قتل من العلماء وأهل البيوتات والشرف ثلاثة عشر ألف رجل وستمائة رجل، ولم يكن له رأي إلا في تالف السفلة. وحبس كثيراً من العظماء وأسقهم وحط مراتبهم وحرم الجنود، ففسد عليه كثير ممن كان حوله، وخرج عليه شاية ملك الترك في ثلاثمائة ألف مقاتل في سنة ست عشرة من ملكه، فوصل هراة وباذغيس، وأرسل إلى هرمز والفرس يأمرهم بإصلاح الطرق ليجوز إلى بلاد الروم. ووصل ملك الروم في ثمانين ألفاً إلى الضواحي قاصداً له، ووصل ملك الخزر إلى الباب والأبواب في جمع عظيم، فإن جمعاً من العرب شنوا الغارة على السواد. فأرسل هرمز بهرام خشنش، ويعرف بجوبين، في اثني عشر ألفاً من المقاتلة اختارهم من عسكره، فسار مجداً وواقع شايه ملك الترك فقتله برمية رماها واستباح عسكره، ثم وافاه برموده بن شايه فهزمه أيضاً وحصره في بعض الحصون حتى استسلم، فأرسله إلى هرمز أسيراً وغنم ما في الحصن، فكان عظيماً. ثم خاف بهرام ومن معه هرمز فخلعوه وساروا نحو المدائن وأظهروا أن ابنه أبرويز أصلح للملك منه، وساعدهم على ذلك بعض من كان بحضرة هرمز، وكان غرض بهرام أن يستوحش هرمز من ابنه أبرويز ويستوحش ابنه منه فيختلفا، فإن ظفر أبرويز بأبيه كان أمره على بهرام سهلاً، وإن ظفر أبوه نجا بهرام والكلمة مختلفة فينال من هرمز غرضه، وكان يحدث نفسه بالاستقلال بالملك. فلما علم أبرويز ذلك خاف أباه فهرب إلى أذربيجان، فاجتمع عليه عدة من المرازبة والأصبهبذين، ووثب العظماء بالمدائن، وفيهم بندويه وبسطام خالا أبرويز، فخلعوا هرمز وسلموا عينيه وتركوه تحرجاً من قتله، وبلغ أبرويز الخبر فأقبل من أذربيجان إلى دار الملك. وكان ملك هرمز إحدى عشرة سنة وتسعة أشهر، وقيل: اثنتي عشرة سنة، ولم يسلم من ملوك الفرس غيره لا قبله ولا بعده.
ومن محاسن السير ما حكي عنه أنه لما فرغ من بناء داره التي تشرف على دجلة مقابلة المدائن عمل وليمة عظيمة وأحضر الناس من الأطراف، فأكلوا، ثم قال لهم: هل رأيتم في هذه الدار عيباً ؟ فكلهم قال: لا عيب فيها. فقام رجل وقال: فيها ثلاثة عيوب فاحشة، أحدها: أن الناس يجعلون دورهم في الدنيا وأنت جعلت الدنيا في دارك، فقد أفرطت في توسيع صحونها وبيوتها فتتمكن الشمس في الصيف والسموم فيؤذي ذلك أهلها ويكثر فيها في الشتاء البرد، والثاني أن الملوك يتوصلون في البناء على الأنهار لتزول همومهم وأفكارهم بالنظر إلى المياه ويترطب الهواء وتضيء أبصارهم، وأنت قد تركت دجلة وبنيتها في القفر، والثالث أنك جعلت حجرة النساء مما يلي الشمال من مساكن الرجال، وهو أدوم هبوباً، فلا يزال الهواء يجيء بأصوات النساء وريح طيبهن، وهذا ما تمنعه الغيرة والحمية. فقال هرمز: أما سعة الصحون والمجالس فخير المساكن ما سافر فيه البصر، وشدة الحر والبرد يدفعان بالخيش والملابس والنيران، وأما مجاورة الماء فكنت عند أبي وهو يشرف على دجلة فغرقت سفينة تحته فاستغاث من بها إليه وأبي يتأسف عليهم ويصيح بالسفن التي تحت داره ليلحقوهم، فإلى أن لحقهم غرق جميعهم، فجعلت في نفسي أنني لا أجاور سلطاناً هو أقوى مني، وأما عمل حجرة النساء في جهة الشمال فقصدنا به أن الشمال أرق هواء وأقل وخامة، والنساء يلازمن البيوت، فعمل لذلك، وأما الغيرة فإن الرجال لا يخلون بالنساء، وكل من يدخل هذه الدار إنما هو مملوك وعبد لقيم، وأما أنت فما أخرج هذا منك إلا بغض لي، فأخبرني عن سببه. فقال الرجل: لي قرية ملك كنت أنفق حاصلها على عيالي فغلبني المرزبان فأخذها مني فقصدتك أتظلم منذ سنتين فلم أصل إليك، فقصدت وزيرك وتظلمت إليه فلم ينصفني، وأنا أؤدي خراج القرية حتى لا يزول اسمي عنها، وهذا غاية الظلم أن يكون غيري يأخذ دخلها وأنا أؤدي خراجها. فسأل هرمز وزيره فصدقه وقال: خفت أعلمك فيؤذيني المرزبان. فأمر هرمز أن يؤخذ من المرزبان ضعف ما أخذ وأن يستخدمه صاحب القرية في أي شغل شاء سنتين، وعزل وزيره، وقال في نفسه: إذا كان الوزير يراقب الظالم فالأحرى أن غيره يراقبه، فأمر باتخاذ صندوق، وكان يقفله ويختمه بخاتم ويترك على باب داره وفيه خرقٌ يلقى فيه رقاع المتظلمين، وكان يفتحه كل أسبوع ويكشف المظالم، فأفكر وقال: أريد أعرف ظلم الرعية ساعة فساعة، فاتخذ سلسلة طرفها في مجلسه في السقف والطرف الآخر خارج الدار في روزنة وفيها جرس، وكان المتظلم يحرك السلسلة فيحرك الجرس فيحضره ويكشف ظلامته. ذكر ملك كسرى أبرويز بن هرمزوكان من أشد ملوكهم بطشاً وأنفذهم رأياً، وبلغ من البأس والنجدة وجمع الأموال ومساعدة الأقدار ما يبلغه ملك قبله، ولذلك لقب أبرويز، ومعناه المظفر، وكان في حياة أبيه قد سعى به بهرام جوبين إلى أبيه أنه يريد الملك لنفسه، فلما علم ذلك سار إلى أذربيجان سراً، وقيل غير ذلك، وقد تقدم، فلما وصلها بايعه من كان بها من العظماء واجتمع من بالمدائن على خلع أبيه، فلما سمع أبرويز بادر الوصول إلى المدائن قبل بهرام جوبين فدخلها قبله ولبس التاج وجلس على السرير، ثم دخل على أبيه، وكان قد سلم، فأعلمه أنه بريء مما فعل به، وإنما كان هربه للخوف منه، فصدقه وسأله أن يرسل إليه كل يوم من يؤنسه وأن ينتقم ممن خلعه وسلم عينيه، فاعتذر بقرب بهرام منه في العساكر وأنه لا يقدر على أن ينتقم ممن فعل به ذلك إلا بعد الظفر ببهرام.
وسار بهرام إلى النهروان وسار أبرويز إليه، فالتقيا هناك، ورأى أبرويز من أصحابه فتوراً في القتال فانهزم ودخل على أبيه وعرفه الحال فاستشاره، فأشار عليه بقصد موريق ملك الروم، وجهز ثانياً وسار في عدة يسير فيهم خالاه بندويه وبسطام وكردي أخو بهرام، فلما خرجوا من المدائن خاف من معه أن بهرام يرد هرمز إلى الملك ويرسل إلى ملك الروم في ردهم فيردهم إليه، فاستأذنوا أبرويز في قتل أبيه هرمز فلم يحر جواباً، فانصرف بندويه وبسطام وبعض من معهم إلى هرمز فقتلوه خنقاً، ثم رجعوا إلى أبرويز وساروا مجدين إلى أن جاوزوا الفرات ودخلوا ديراً يستريحون فيه، فلما دخلوا غشيتهم خيل بهرام جوبين ومقدمها رجل اسمه بهرام بن سياوش، فقال بندويه لأبرويز: احتل لنفسك. قال: ما عندي حيلة ! قال بنديوه: أنا أبذل نفسي دونك، وطلب منه بزته فلبسها، وخرج أبرويز ومن معه من الدير وتواروا بالجبل، ووافى بهرام الدير فرأى بندويه فوق الدير عليه بزة أبرويز، فاعتقده هو وسأله أن ينظره إلى غد ليصير إليه سلماً، ففعل، ثم ظهر من الغد على حيلته فحمله إلى بهرام جوبين فحبسه. ودخل بهرام جوبين دار الملك وقعد على السرير ولبس التاج، فانصرفت الوجوه عنه، ولكن الناس أطاعوه خوفاً، وواطأ بهرام بن سياوش بندويه على الفتك ببهرام جوبين، فعلم بهرام جوبين بذلك فقتل بهرام وأفلت بندويه فلحق بأذربيجان. وسار أبرويز إلى إنطاكية وأرسل أصحابه إلى الملك، فوعده النصرة وتزوج أبرويز ابنة الملك موريق، واسمها مريم، وجهز معه العساكر الكثيرة، فبلغت عدتهم سبعين ألفاً فيهم رجل يعد بألف مقاتل، فرتبهم أبرويز وسار بهم إلى أذربيجان، فوافاه بندويه وغيره من المقدمين والأساورة في أربعين ألف فارس من أصبهان وفارس وخراسان، وسار إلى المدائن. وخرج بهرام جوبين نحوه، فجرى بينهما حرب شديدة، فقتل فيها الفارس الرومي الذي يعد بألف فارس، ثم انهزم بهرام جوبين وسار إلى الترك، وسار أبرويز من المعركة ودخل المدائن وفرق الأموال في الروم، فبلغت جملتها عشرين ألف ألف فأعادهم إلى بلادهم. وأقام بهرام جوبين عند الترك مكرماً، فأرسل أبرويز إلى زوجة الملك وأجزل لها الهدية من الجواهر وغيرها، وطلب منها قتل بهرام، فوضعت عليه من قتله، فاشتد قتله على ملك الترك، ثم علم أن زوجته قتلته فطلقها. ثم إن أبرويز قتل بندويه، وأراد قتل بسطام فهرب منه إلى طبرستان لحصانتها، فوضع أبرويز عليه فقتله. وأما الروم فإنهم خلعوا ملكهم موريق بعد أربع عشرة سنة من ملك أبرويز وقتلوه وملكوا عليهم بطريقاً اسمه فوقاس، فأباد ذرية موريق سوى ابن له هرب إلى كسرى أبرويز، فأرسل معه العساكر وتوجه وملكه على الروم وجعل على عساكره ثلاثة نفر من قواده وأساورته، وأما أحدهم فكان يقال له بوران، وجهه في جيش منها إلى الشام، فدخلها حتى انتهى إلى البيت المقدس فأخذ خشبة الصليب التي تزعم النصارى أن المسيح، عليه السلام، صلب عليها فأرسلها إلى كسرى أبرويز، وأما القائد الثاني فكان يقال له شاهين، فسيره في جيش آخر إلى مصر، فافتتحها وأرسل مفاتيح الإسكندرية إلى أبرويز، وأما القائد الثالث، وهو أعظمهم، فكان يقال له فرخان، وتدعى مرتبته شهربراز، وجعل مرجع القائدين الأولين إليه، وكانت والدته منجبة لا تلد إلا نجيباً، فأحضرها أبرويز وقال لها: إني أريد أن أوجه جيشاً إلى الروم استعمل عليه بعض بنيك فأشيري علي أيهم أستعمل. فقالت: أما فلان فأروغ من ثعلب وأحذر من صقر، وأما فرخان فهو أنفذ من سنان، وأما شهربراز فهو أحلم من كذا. فقال: قد استعملت الحليم، فولاه أمر الجيش، فسار إلى الروم فقتلهم وخرب مدائنهم وقطع أشجارهم وسار في بلادهم إلى القسطنطينية حتى نزل على خليجها القريب منها ينهب ويغير ويخرب، فلم يخضع لابن موريق أحد ولا أطاعه، غير أن الروم قتلوا فوقاس لفساده وملكوا عليهم بعده هرقل، وهو الذي أخذ المسلمون الشام منه.
فلما رأى هرقل ما أهم الروم من النهب والقتل والبلاء تضرع إلى الله تعالى ودعاه، فرأى في منامه رجلاً كث اللحية رفيع المجلس عليه بزة حسنة، فدخل عليهما داخل فألقى ذلك الرجل عن مجلسه وقال لهرقل: إني قد أسلمته في يدك؛ فاستيقظ، فلم يقص رؤياه، فرأى في الليلة الثانية ذلك الرجل جالساً في مجلسه وقد دخل الرجل الثالث وبيده سلسلة، فألقاها في عنق ذلك الرجل وسلمه إلى هرقل وقال: قد دفعت إليك كسرى برمته فاغزه فإنك دمالٌ عليه وبالغ أمنيتك في أدعائك. فقص حينئذٍ هذه الرؤيا على عظماء الروم، فأشاروا عليه أن يغزوه، فاستعد هرقل واستخلف ابناً له على القسطنطينية وسلك غير الطريق الذي عليه شهربراز وسار حتى أوغل في بلاد أرمينية وقصد الجزيرة فنزل نصيبين، فأرسل إليه كسرى جنداً وأمرهم بالمقام بالموصل، وأرسل إلى شهربراز يستحثه على القدوم ليتضافرا على قتال هرقل. وقيل في مسيره غير هذا، وهو أن شهربراز سار إلى بلاد الروم فوطئ الشام حتى وصل إلى أذرعات ولقي جيوش الروم فهزمها وظفر بها وسبى وغنم وعظم شأنه. ثم إن فرخان أخا شهربراز شرب الخمر يوماً وقال: لقد رأيت في المنام كأني جالس في سرير كسرى، فبلغ الخبر كسرى فكتب إلى أخيه شهربراز يأمره بقتله، فعاوده وأعلمه شجاعته ونكايته في العدو، فعاد كسرى وكتب إليه بقتله، فراجعه، فكتب إليه الثالثة، فلم يفعل، فكتب كسرى بعزل شهربراز وولاية فرخان العسكر، فأطاع شهربراز فلما جلس على سرير الإمارة ألقى إليه القاصد بولايته كتاباً صغيراً من كسرى يأمره بقتل شهربراز فعزم على قتله، فقال له شهربراز: أمهلني حتى أكتب وصيتي، فأمهله، فأحضر درجاً وأخرج منه كتب كسرى الثلاثة وأطلعه عليها وقال: أنا راجعت فيك ثلاث مرات ولم أقتلك، وأنت تقتلني في مرة واحدة، فاعتذر أخوه إليه وأعاده إلى الإمارة واتفقا على موافقة ملك الروم على كسرى، فأرسل شهربراز إلى هرقل: إن لي إليك حاجةً لا يبلغها البريد ولا تسعها الصحف، فالقني في خمسين رومياً، فإني ألقاك في خمسين فارسياً. فأقبل قيصر في جيوشه جميعها ووضع عيونه تأتيه بخبر شهربراز، وخاف أن يكون مكيدة، فأتته عيونه فأخبروه أنه في خمسين فارسياً، فحضر عنده في مثلها واجتمعا وبينهما ترجمان فقال له: أنا وأخي خربنا بلادك وفعلنا ما علمت وقد حسدنا كسرى وأراد قتلنا وقد خلعناه ونحن نقاتل معك. ففرح هرقل بذلك واتفقا عليه وقتلا الترجمان لئلا يفشي سرهما، وسار هرقل في جيشه إلى نصيبين. وبلغ كسرى أبرويز الخبر وأرسل هرقل قائداً من قواده اسمه راهزار في اثني عشر ألفاً، وأمره أن يقيم بنينوى من أرض الموصل على دجلة يمنع هرقل من أن يجوزها، وأقام هو بدسكرة الملك، فأرسل راهزار العيون، فأخبروه أن هرقل في سبعين ألف مقاتل، فأرسل إلى كسرى يعرفه ذلك وأنه يعجز عن قتال هذا الجمع الكثير، فلم يعذره وأمره بقتاله، فأطاع وعبى جنده، وسار هرقل نحو جنود كسرى وقطع دجلة من غير الموضع الذي فيه راهزرا، فقصده راهزار ولقيه فاقتتلوا راهزار وستة آلاف من أصحابه وانهزم الباقون. وبلغ الخبر أبرويز وهو بدسكرة الملك، فهده ذلك وعاد إلى المدائن وتحصن بها لعجزه عن محاربة هرقل، وكتب إلى قواد الجند الذين انهزموا يتهددهم بالعقوبة فأحوجهم إلى الخلاف عليه، على ما نذكره إن شاء الله. وسار هرقل حتى قارب المدائن ثم عاد إلى بلاده.
وكان سبب عوده أن كسرى لما عجز عن هرقل أعمل الحيلة فكتب كتاباً إلى شهربراز يشكره ويثني عليه ويقول له: أحسنت في فعل ما أمرتك به من مواصلة ملك الروم وتمكينه من البلاد، والآن فقد أوغل وأمكن من نفسه فتجيء أنت من خلفه وأنا من بين يديه ويكون اجتماعنا عليه يوم كذا فلا يفلت منهم أحد. ثم جعل الكتاب في عكاز ابنوس وأحضر راهباً كان في دير عند المدائن وقال له: لي إليك حاجة. فقال الراهب: الملك أكبر من أن يكون له إلي حاجة ولكنني عبده. قال: إن الروم قد نزلوا قريباً منا وقد حفظوا الطرق عنا، ولي إلي أصحابي الذين بالشام حاجة وأنت نصراني إذا جزت على الروم لا ينكرونك، وقد كتبت كتاباً وهو في هذه العكازة فتوصله إلى شهربراز، وأعطاه مائتي دينار. فأخذ الكتاب وفتحه وقرأه ثم أعاده وسار، فلما صار بالعسكر ورأى الروم والرهبان والنواقيس رق قلبه وقال: أنا شر الناس إن أهلكت النصرانية ! فأقبل إلى سرادق الملك وأنهى حاله وأوصل الكتاب إليه. فقرأه ثم أحضر أصحابه رجلاً قد أخذوه من طريق الشام قد واطأه كسرى ومعه كتاب قد افتعله على لسان شهربراز إلى كسرى يقول: إنني ما زلت أخادع ملك الروم حتى اطمأن إلي وجاز إلى البلاد كما أمرتني فيعرفني الملك في أي يوم يكون لقاؤه حتى أهجم أنا عليه من ورائه والملك من بين يديه فلا يسلم هو ولا أصحابه، وآمره أن يتعمد طريقاً يؤخذ فيها. فلما قرأ ملك الروم الكتاب الثاني تحقق الخبر فعاد شبه المنهزم مبادراً إلى بلاده، ووصل خبر عودة ملك الروم إلى شهربراز فأراد أن يستدرك ما فرط منه فعارض الروم فقتل منهم قتلاً ذريعاً وكتب إلى كسرى: إنني عملت الحيلة على الروم حتى صاروا في العراق، وأنفذ من رؤوسهم شيئاً كثيراً. وفي هذه الحادثة أنزل الله تعالى: (آلم غُلِبَتِ الرُّومُ في آَدْنى الأرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ) الروم: 1 - 3؛ يعني بأدنى الأرض أذرعات، وهي أدنى أرض الروم إلى العرب، وكانت الروم قد هزمت بها في بعض حروبها، وكان النبي، صلى الله عليه وسلم، والمسلمون قد ساءهم ظفر الفرس أولاً بالروم لأن الروم أهل كتاب، وفرح الكفار لأن المجوس أميون مثلهم، فلما نزلت هذه الآيات راهن أبو بكر الصديق أبي بن خلف على أن الظفر يكون للروم إلى تسع سنين، والرهن مائة بعير، فغلبه أبو بكر، ولم يكن الرهن ذلك الوقت حراماً، فلما ظفرت الروم أتى الخبر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يوم الحديبية. ذكر ما رأى كسرى من الآيات بسبب رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن ذلك أن كسرى أبرويز سكر دجلة العوراء وأنفق عليها من الأموال ما لا يحصى كثرةً، وكان طاق مجلسه قد بني بنياناً لم ير مثله، وكان عنده ثلاثمائة وستون رجلا من الحزاة من بين كاهن وساحر ومنجم، وكان فيهم رجل من العرب اسمه السايب، بعث به باذان من اليمن، وكان كسرى إذا أحزنه أمر جمعهم فقال: انظروا في هذا الأمر ما هو. فلما بعث الله محمداً، صلى الله عليه وسلم، أصبح كسرى وقد انقصم طاق ملكه من غير ثقل، وانخرقت عليه دجلة العوراء، فلما رأى ذلك أحزنه فقال: انقصم طاق ملكي من غير ثقل، وانخرقت دجلة العوراء شاه بشكست، يقول: الملك انكسر. ثم دعا كهانه وسحاره ومنجميه، وفيهم السايب، فقال لهم: انظروا في هذا الأمر. فنظروا في أمره فأخذت عليهم أقطار السماء وأظلمت الأرض، فلم يمض لهم ما راموه، وبات السايب في ليلة ظلماء على ربوة من الأرض ينظر، فرأى برقاً من قبل الحجاز استطار فبلغ المشرق، فلما أصبح رأى تحت قدميه روضة خضراء، فقال فيما يعتاف: إن صدق ما أرى ليخرجن من الحجاز سلطان يبلغ المشرق تخصب عليه الأرض كأفضل ما أخصبت على ملك.
فلما خلص الكهان والمنجمون والسحار بعضهم إلى بعض ورأوا ما أصابهم، ورأى السايب ما رأى، قال بعضهم لبعض: والله ما حيل بينكم وبين علمكم إلا لأمرٍ جاء من السماء، وإنه لنبي بعث أو هو مبعوث يسلب هذا الملك ويكسره، ولئن نعيتم لكسرى ملكه ليقتلنكم، فاتفقوا على أن يكتموه الأمر وقالوا له: قد نظرنا فوجدنا أن وضع دجلة العوراء وطاق الملك قد وضع على النحوس، فلما اختلف الليل والنهار وقعت النحوس مواقعها فزال كل ما وضع عليها، وإنا نحسب لك حساباً تضع عليه بنيانك فلا يزول، فحسبوا وأمروه بالبناء، فبنى دجلة العوراء في ثمانية أشهر فأنفق عليها أموالاً جليلة حتى إذا فرغ منها قال لهم: اجلس على سورها ؟ قالوا: نعم، فجلس في أساورته، فبينما هو هنالك انتسفت دجلة البنيان من تحته فلم يخرج إلا بآخر رمق. فلما أخرجوه جمع كهانه وسحاره ومنجميه فقتل منهم قريباً من مائة وقال: قربتكم وأجريت عليكم الأرزاق ثم أنتم تلعبون بي ! فقالوا: أيها الملك أخطأنا كما أخطأ من قبلنا. ثم حسبوا له وبناه وفرغ منه وأمروه بالجلوس عليه، فخاف فركب فرساً وسار على البناء، فبينما هو يسير انتسفته دجلة فلم يدرك إلا بآخر رمق، فدعاهم وقال: لأقتلنكم أجمعين أو لتصدقونني. فصدقوه الأمر، فقال: ويحكم هلا بينتم لي فأرى فيه رأيي ؟ قالوا: منعنا الخوف. فتركهم ولها عن دجلة حين غلبته، وكان ذلك سبب البطائح، ولم تكن قبل ذلك، وكانت الأرض كلها عامرة. فلما كانت سنة ست من الهجرة أرسل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عبد الله بن حذافة السهمي إلى كسرى، فزادت الفرات والدجلة زيادة عظيمة لم ير قبلها ولا بعدها مثلها، فانبثقت البثوق وانتسفت ما كان بناه كسرى، واجتهد أن يسكرها فغلبه الماء، كما بينا، ومال إلى موضع البطائح فطما الماء على الزروع وغرق عدة طساسيج، ثم دخلت العرب أرض الفرس وشغلتهم عن عملها بالحروب واتسع الخرق. فلما كان زمن الحجاج تفجرت بثوق أخر فلم يسدها مضارة للدهاقين لأنه اتهمهم بممالأة ابن الأشعث، فعظم الخطب فيها وعجز الناس عن عملها، فبقيت على ذلك إلى الآن. وقال أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف: بعث الله إلى كسرى ملكاً وهو في بيت إيوانه الذي لا يدخل عليه فلم يرعه إلا به قائماً على رأسه في يده عصاً بالهاجرة في ساعته التي يقيل فيها، فقال: يا كسرى أتسلم أو أكسر هذه العصا ؟ فقال: بهل بهل ! وانصرف عنه، فدعا بحراسه وحجابه فتغيظ عليهم وقال: من أدخل هذا الرجل ؟ فقالوا: ما دخل علينا أحد ولا رأيناه ! حتى إذا كان العام المقبل أتاه في تلك الساعة وقال له: أتسلم أو أكسر العصا ؟ فقال: بهل بهل ! وتغيظ على حجابه وحراسه. فلما كان العام الثالث أتاه فقال: أتسلم أو أكسر العصا؟ فقال: بهل بهل ! فكسر العصا ثم خرج. فلم يكن إلا تهور ملكه وانبعاث ابنه والفرس حتى قتوله. وقال الحسن البصري: قال أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يا رسول الله ما حجة الله على كسرى فيك ؟ قال: بعث إليه ملكاً فأخرج يده إليه من جدار تلألأ نوراً، فلما رآها فزع فقال له: لا ترع يا كسرى ! إن الله قد بعث رسولاً وأنزل عليه كتاباً فاتبعه تسلم دنياك وآخرتك. قال: سأنظر. ذكر وقعة ذي قار وسببهاذكروا عن النبي، صلى الله عليه وسلم، أنه قال لما بلغه ما كان من ظفر ربيعة بجيش كسرى: هذا أول يوم انتصف العرب فيه من العجو وبي نصروا. فحفظ ذلك منه، وكان يوم الوقعة. قال هشام بن محمد: كان عدي بن زيد التميمي وأخواه عمار، وهو أبي، وعمرو، وهو سمي، يكونون مع الأكاسرة ولهم إليهم انقطاع، وكان المنذر ابن المنذر لما ملك جعل ابنه النعمان في حجر عدي بن زيد، وكان له غير النعمان أحد عشر ولداً، وكانوا يسمون الأشاهب لجمالهم. فلما مات المنذر بن المنذر وخلف أولاده أراد كسرى بن هرمز أن يملك على العرب من يختاره، فأحضر عدي بن زيد وسأله عن أولاد المنذر، فقال: هم رجال، فأمره بإحضارهم. فكتب عدي فأحضرهم وأنزلهم، وكان يفضل إخوة النعمان عليه ويريهم أنه لا يرجو النعمان ويخلو بواحد واحد ويقول له: إذا سألك الملك أتكفونني العرب ؟ فقولوا: نكفيكهم إلا النعمان. وقال للنعمان: إذا سألك الملك عن إخوتك فقل له: إذا عجزت عن إخوتي فأنا عن غيرهم أعجز.
وكان من بنيمرينا رجل يقال له عدي بن أوس بن مرينا، وكان داهياً شاعراً، وكان يقول للأسود بن المنذر: قد عرفت أني أرجوك وعيني إليك، وإنني أريد أن تخالف عدي بن زيد، فإنه والله لا ينصح لك أبداً ! فلم يلتفت إلى قوله. فلما أمر كسرى عدي بنزيد أن يحضرهم، أحضرهم رجلاً رجلاً وسألهم كسرى: أتكفونني العرب ؟ فقالوا: نعم إلا النعمان. فلما دخل عليه النعمان رأى رجلاً دميماً أحمر أبرش قصيراً فقال له: أتكفيني إخوتك والعرب ؟ قال: نعم، وإن عجزت عن إخوتي فأنا عن غيرهم أعجز. فملكه وكساه وألبسه تاجاً قيمته ستون ألف درهم، فقال عدي بن مرينا للأسود: دونك فقد خالفت الرأي. ثم صنع عدي بن زيد طعاماً ودعا عدي بن مرينا إليه وقال: إني عرفت أن صاحبك الأسود كان أحب إليك أن يملك من صاحبي النعمان، فلا تلمني على شيء كنت على مثله، وإني أحب أن لا تحقد علي وإن نصيبي من هذا الأمر ليس بأوفر من نصيبك، وحلف لابن مرينا أن لا يهجوه ولا يبغيه غائلة أبداً، فقام ابن مرينا وحلف أنه لا يزال يهجوه ويبغيه الغوائل. وسار النعمان حتى نزل الحيرة، وقال ابن مرينا للأسود: إذا فاتك الملك فلا تعجز أن تطلب بثأرك من عدي فإن معداً لا ينام مكرهاً، وأمرتك بمعصيته فخالفتني، وأريد أن لا يأتيك من مالك شيء إلا عرضته علي. ففعل. وكان ابن مرينا كثير المال، وكان لا يخلي النعمان يوماً من هدية وطرفة، فصار من أكرم الناس عليه، وكان إذا ذكر عدي بن زيد وصفه وقال: إلا أنه في مكر وخديعة، واستمال أصحاب النعمال، فمالوا إليه، وواضعهم على أن قالوا للنعمان: إن عدي بن زيد يقول إنك عامله، ولم يزالوا بالنعمان حتى اضغنوه عليه، فأرسل إلى عدي يستزيره، فاستأذن عدي كسرى في ذلك، فأذن له، فلما أتاه لم ينظر إليه حتى حبسه ومنع من الدخول عليه، فجعل عدي يقول الشعر وهو في السجن، وبلغ النعمان قوله فندم على حبسه إياه وخاف منه إذا أطلقه. فكتب عدي إلى أخيه أبي أبياتاً يعلمه بحاله، فلما قرأ أبياته وكتابه كلم كسرى فيه، فكتب إلى النعمان وأرسل رجلاً في إطلاق عدي، وتقدم أخو عدي إلى الرسول بالدخول إلى عدي قبل النعمان، ففعل ودخل على عدي وأعلمه أنه أرسل لإطلاقه، فقال له عدي: لا تخرج من عندي وأعطني الكتاب حتى أرسله، فإنك إن خرجت من عندي قتلني، فلم يفعل، ودخل أعداء عدي على النعمان فأعلموه الحال وخوفوه من إطلاقه، فأرسلهم إليه فخنقوه ثم دفنوه. وجاء الرسول فدخل على النعمان بالكتاب فقال: نعم وكرامةً، وبعث إليه بأربعة آلاف مثقال وجارية وقال: إذا أصبحت ادخل إليه فخذه. فلما أصبح الرسول غدا إلى السجن فلم ير عدياً، وقال له الحرس: إنه مات منذ أيام. فرجع إلى النعمان وأخبره أنه رآه بالأمس ولم يره اليوم، فقال: كذبت ! وزاده رشوة واستوثق منه أن لا يخبر كسرى، إلا أنه مات قبل وصوله إلى النعمان. قال: وندم النعمان على قتله، واجترأ أعداء عدي على النعمان وهابهم هيبة شديدة. فخرج النعمان في بعض صيده، فرأى ابناً لعدي يقال له زيد فكلمه وفرح به فرحاً شديداً واعتذر إليه من أمر أبيه وسيره إلى كسرى ووصفه له وطلب إليه أن يجعله مكان أبيه، ففعل كسرى، وكان يلي ما يكتب إلى العرب خاصة، وسأله كسرى عن النعمان فأحسن الثناء عليه وأقام عند الملك سنوات بمنزلة أبيه، وكان يكثر الدخول على كسرى. وكان لملوك الأعاجم صفة للنساء مكتوبة عندهم، وكان يبعثون في طلب من يكون على هذه الصفة من النساء ولا يقصدون العرب، فقال له زيد بن عدي: إني أعرف عند عبدك النعمان من بناته وبنات عمه أكثر من عشرين امرأة على هذه الصفة. قال: فتكتب فيهن. قال: أيها الملك إن شر شيء في العرب وفي النعمان أنهم يتكرمون بأنفسهم عن العجم، فأنا أكره أن تعنتهن، وإن قدمت أنا عليه لم يقدر على ذلك، فابعثني وابعث معي رجلاً يفقه العربية، فبعث معه رجلاً جلداً، فخرجا حتى بلغا الحيرة ودخلا على النعمان. قال له زيدك إن الملك احتاج إلى نساء لأهله وولده وأراد كرامتك فبعث إليك. قال: وما هؤلاء النسوة ؟ قال: هذه صفتهن قد جئنا بها.
وكانت الصفة أن المنذر أهدى إلى أنوشروان جارية أصابها عند الغارة على الحارث بن أبي شمر الغساني، وكتب يصفها أنها معتدلة الخلق، نقية اللون والثغر، بيضاء، وطفاء، قمراء، دعجاء، حوراء، عيناء، قنواء، شماء، شمراء، زجاء، برجاء، أسيلة الخد، شهية القد، جثيلة الشعر، بعيدة مهوى القرط، عيطاء، عريضة الصدر، كاعب الثدي، ضخمة مشاشة المنكب والعضد، حسنة المعصم، لطيفة الكف، سبطة البنان، لطيفة طي البطن، خميصة الخصر، غرثى الوشاح، رداح القبل، رابية الكفل، لفاء الفخذين، ريا الروادف، ضخمة المنكبين، عظيمة الركبة، مفعمة الساق، مشبعة الخلخال، لطيفة الكعب والقدم، قطوف المشي، مكسال الضحى، بضة المتجرد، سموع للسيد، ليست بحلساء ولا سفعاء، ذليلة الأنف، عزيزة النفر، لم تغذ في بؤس، حييه، رزينة، زكية، كريمة الخال، تقتصر بنسب أبيها دون فصيلتها، وبفصيلتها دون جماع قبيلتها، قد أحكمتها الأمور في الأدب، فرأيها رأي أهل الشرف، وعملها عمل أهل الحاجة، صنا الكفيين، قطيعة اللسان، رهوة الصوت، تزين البيت وتشين العدو، إن أردتها اشتهت، وإن تركتها انتهت، تحملق عيناها، ويحمر خداها، وتذبذب شفتاها، وتبادرك الوثبة. فقبلها كسرى وأمر بإثبات هذه الصفة، فبقيت إلى أيام كسرى بن هرمز. فقرأ زيد هذه الصفة على النعمان، فشق ذلك عليه وقال لزيد، والرسول يسمع: أما في عين السواد وفارس ما تبلغون حاجتكم ؟! قال الرسول لزيد: ما العين ؟ قال: البقر. وأنزلهما يومين وكتب إلى كسرى: إن الذي طلب الملك ليس عندي. وقال لزيد: اعذرني عنده. فلما عاد إلى كسرى قال لزيد: أين ما كنت أخبرتني ؟ قال: قد قلت للملك وعرفته بخلهم بنسائهم على غيرهم وأن ذلك لشقائهم وسوء اختيارهم، وسل هذا الرسول عن الذي قال، فإني أكرم الملك عن ذلك. فسأل الرسول، فقال: إنه قال: أما في بقر السواد ما يكفيه حتى يطلب ما عندنا ؟ فعرف الغضب في وجهه ووقع في قلبه وقال: رب عبدٍ أراد ما هو أشد من هذا فصار مره إلى التباب. وبلغ هذا الكلام النعمان، وسكت كسرى على ذلك أشهراً والنعمان يستعد، حتى أتاه كتاب كسرى يستدعيه. فحين وصل الكتاب أخذ سلاحه وما قوي عليه ثم لحق بجبلي طيء، وكان متزوجاً إليهم، وطلب منهم أن يمنعوه. فأبوا عليه خوفاً من كسرى، فأقبل وليس أحد من العرب يقبله حتى نزل في ذي قار في بني شيبان سراً، فلقي هانئ بن مسعود بن عامر بن عمرو الشيباني وكان سيداً منيعاً، والبيت من ربيعة في آل ذي الجدين لقيس بن مسعود بن قيس بن خالد بن ذي الجدين، وكان كسرى قد أطعمه الأبلة، فكره النعمان أن يدفع إليه أهله لذلك، وعلم أن هانئاً يمنعه مما يمنع منه أهله، فأودعه أهله وماله، وفيه أربعمائة درع، وقيل ثمانمائة درع. وتوجه النعمان إلى كسرى فلقي زيد بن عدي على قنطرة ساباط، فقال: انج نعيم. فقال: أنت يا زيد فعلت هذا ! أما والله لئن انفلت لأفعلن بك ما فعلت بأبيك. فقال به زيدك امض نعيم فقد والله وضعت لك عنده أخية لا يقطعها المهر الأرن. فلما بلغ كسرى أنه بالباب بعث إليه فقيده وبعث به إلى خانقين حتى وقع الطاعون فمات فيه، قال: والناس يظنون أنه مات بساباط ببيت الأعشى وهو يقول: فذاك وما أنجى من الموت ربّه ... بساباط حتى مات وهو محرزق وكان موته قبل الإسلام.
فلما مات استعمل كسرى إياس بن قبيصة الطائي على الحيرة وما كان عليه النعمان، وكان كسرى اجتاز به لماء سار إلى ملك الروم فأهدى له هدية، فشكر ذلك له وأرسل إليه، فبعث كسرى بأن يجمع ما خلفه النعمان ويرسله إليه، فبعث إياس إلى هانئ بن مسعود الشيباني يأمره بإرساله ما استودعه النعمان، فأبى هانئ أن يسلم ما عنده. فلما أبى هانئ غضب كسرى، وعنده النعمان بن زرعة التغلبي، وهو يحب هلاك بكر بن وائل، فقال لكسرى: أمهلهم حتى يقيظوا ويتساقطوا على ذي قار تساقط الفراش في النار فتأخذهم كيف شئت. فصبر كسرى حتى جاؤوا حنو ذي قار، فأرسل إليهم كسرى النعمان بن زرعة يخيرهم واحدة من ثلاث: إما أن يعطوا بأيديهم، وإما أن يتركوا ديارهم، وإما أن يحاربوا. فولوا أمرهم حنظلة بن ثعلبة العجلي، فاشار بالحرب، فآذنوا الملك بالحرب، فأرسل كسرى إياس بن قبيصة الطائي أمير الجيش ومعه مرازبة الفرس والهامرز النسوي وغيره من العرب تغلب وإياد وقيس بن مسعود بن قيس بن ذي الجدين، وكان على طف سفوان، فأرسل الفيول، وكان قد بعث النبي، صلى الله عليه وسلم، فقسم هانئ ابن مسعود دروع النعمان وسلاحه. فلما دنت الفرس من بني شيبان قال هانئ بن مسعود: يا معشر بكر، إنه لا طاقة لكم في قتال كسرى فاركنوا إلى الفلاة، فسارع الناس إلى ذلك، فوثب حنظلة بن ثعلبة العجلي وقال: يا هانئ أردت نجاءنا فألقيتنا في الهلكة، ورد الناس وقطع وضن الهوادج، وهي الحزم للرحال، فسمي مقطع الوضن، وضرب على نفسه قبة، وأقسم أن لا يفر حتى تقر القبة، فرجع الناس واستقوا ماء لنصف شهر. فأتتهم العجم فقاتلتهم بالحنو، فانهزمت العجم خوفاً من العطش إلى الجبابات، فتبعتهم بكرٌ وعجلٌ وأبلت يومئذٍ بلاء حسناً، واضطمت عليهم جنود العجم، فقال الناس: هلكت عجل، ثم حملت بكر فوجدت عجلاً تقاتل وامرأة منهم تقول: إن يظفروا يحرّزوا فينا الغرل ... إيهاً فداءٌ لكم بني عجل فقاتلوهم ذلك اليوم، ومالت العجم إلى بطحاء ذي قار خوفاً من العطش، فأرسلت إياد إلى بكر، وكانوا مع الفرس، وقالوا لهم: إن شئتم هربنا الليلة وإن شئتم أقمنا ونفر حين تلاقون الناس. فقالوا: بل تقيمون وتنهزمون إذا التقينا. وقال زيد بن حسان السكوني، وكان حليفاً لبني شيبان: أطيعوني واكنوا لهم، ففعلوا ثم تقاتلوا وحرض بعضهم بعضاً، وقالت ابنة القرين الشيبانية: ويهاً بني شيبان صفّاً بعد صفّ ... إن تهزموا يصبّغوا فينا القلف فقطع سبعمائة من بني شيبان أيدي أقبيتهم من مناكبهم لتخف أيديهم لضرب السيوف، فجالدوهم وبارز الهامرز، فبرز إليه برد بن حارثة اليشكري فقتله برد، ثم حملت مسيرة بكر وميمنتها وخرج الكمين فشدوا على قلب الجيش وفيهم إياس بن قبيصة الطائي، وولت إياد منهزمة كما وعدتهم، فانهزمت الفرس واتبعتهم بكر تقتل ولا تلتفت إلى سلب وغنيمة. وقال الشعراء في وقعة ذي قار فأكثروا. ذكر ملوك الحيرة بعد عمرو بن هندقد ذكرنا من ملك من آل نصر بن ربيعة إلا هلاك عمرة بن هند. فلما هلك عمرو ملك موضعه أخوه قابوس بن المنذر أربع سنين، من ذلك أيام أنوشروان ثمانية أشهر، وفي أيام هرمز ثلاث سنين وأربعة أشهر، ثم ولي بعد قابوس السهرب، ثم ملك بعده المنذر بن النعمان أربع سنين، ثم ولي بعده النعمان بن المنذر أبو قابوس اثنتين وعشرين سنة، من ذلك في زمان هرمز سبع سنين وثمانين أشهر، وفي زمانه ابنه أبرويز أربع عشرة سنة وأربعة أشهر، ثم ولي إياس بن قبيصة الطائي ومعه النخيرخان في زمان كسرى بن هرمز أربع عشرة سنة، ولثمانية أشهر من ولاية إياس بعث النبي صلى الله عليه وسلم ثم ولي ازادبه بن مابيان الهمداني سبع عشرة سنة، من ذلك في زمان كسرى بن هرمز أربع عشرة سنة وثمانية أشهر، وفي زمن بوران دخت ابنة كسرى شهراً. ثم ولي المنذر بن النعمان بن المنذر، وهو الذي يسميه العرب المغرور الذي قتل بالبحرين يوم جواثاء. وكانت ولايته إلى أن قدم عليه خالد بن الوليد الحيرة ثمانية أشهر، وكان آخر من بقي من آل نصر وانقرض ملكهم مع انقراض ملك فارس؛ فجميع ملوك آل نصر فيما زعم هشام عشرون ملكاً، ملكوا خمسمائة سنة واثنتين وعشرين سنة وثمانية أشهر. ذكر المروزان وولايته اليمن من قبل هرمز
قال هشام: استعمل كسرى هرمز المروزان بعد عزل زرين عن اليمن، وأقام باليمن حتى ولد له فيها، ثم إن أهل جبل يقال له المضايع منعوه الخراج، فقصدهم فرأس جبلهم لا يقدر عليه لحصانته وله طريق واحد يحميه رجل واحد، وكان يحاذي ذلك الجبل جبل آخر، وقد قارب هذا الجبل، فأجرى فرسه فعبر به ذلك المضيق، فلما رأته حمير قالوا: هذا شيطان ! وملك حصنهم وأدوا الخراج، وأرسل إلى كسرى يعلمه، فاستدعاه إليه فاستخلف ابنه خرخسره على اليمن وسار إليه فمات في الطريق، وعزل كسرى خرخسره عن اليمن وولى باذان، وهو آخر من قدم اليمن من ولاة العجم. ذكر قتل كسرى أبرويزكان كسرى قد طغى لكثرة ماله وما فتحه من بلاد العدو ومساعدة الأقدار وشره على أموال الناس، ففسدت قلوبهم، وقيل: كانت له اثنا عشر ألف امرأة، وقيل ثلاثة آلاف امرأة، يطؤهن، وألوف جوارٍ، وكان له خمسون ألف دابة، وكان أرغب الناس في الجوهر والأواني وغير ذلك، وقيل: إنه أمر أن يحصي ما جبي من خراج بلاده في سنة ثماني عشرة من ملكه، فكان من الورقة مائة ألف ألف مثقال وعشرون ألف ألف مثقال، وإنه احتقر الناس وأمر رجلاً اسمه زاذان بقتل كل مقيد في سجونه، فبلغوا ستة وثلاثين ألفاً، فلم يقدم زاذان على قتلهم، فصاروا أعداءه له، وكان أمر بقتل المنهزمين من الروم فصاروا أيضاً أعداء له، واستعمل رجلاً على استخلاص بواقي الخراج، فعسف الناس وظلمهم، ففسدت نياتهم، ومضى ناس من العظماء إلى بابل، فأحضروا ولده شيرويه بن أبرويز، فإن كسرى كان قد ترك أولاده بها ومنعهم من التصرف وجعل عندهم من يؤدبهم، فوصل إلى بهرسير فدخلها ليلاً فأخرج من كان في سجونها، واجتمع إليه أيضاً الذين كان كسرى أمر بقتلهم، فنادوا قباذ شاهنشاه وساروا حين أصبحوا إلى رحبة كسرى، فهرب حرسه، وخرج كسرى إلى بستان قريب من قصره هارباً فأخذ أسيراً، وملكوا ابنه، فأرسل إلى أبيه يقرعه بما كان منه، ثم قتلته الفرس وساعدهم ابنه، وكان ملكه ثمانياً وثلاثين سنة. ولمضي اثنتين وثلاثين سنة وخمسة أشهر وخمسة عشر يوماً هاجر النبي، صلى الله عليه وسلم، من مكة إلى المدينة. قيل: وكان لكسرى أبرويز ثمانية عشر ولداً، وكان أكبرهم شهريار، وكانت شيرين قد تبنته، فقال المنجمون لكسرى: إنه سيولد لبعض ولدك غلام يكون خراب هذا المجلس وذهاب الملك على يديه، وعلامته نقص في بعض بدنه، فمنع ولده عن النساء لذلك حتى شكا شهريار إلى شيرين الشنبق، فأرسلت إليه جاريةً كانت تحجمها، وكانت تظن أنها لا تلد، فلما وطئها علقت بيزدجرد فكتمته خمس سنين، ثم إنها رأت من كسرى رقة للصبيان حين كبر فقالت: أيسرك أن ترى لبعض بنيك ولداً ؟ قال: نعم، فأتته بيزدجرد، فأحبه وقربه، فبينما هو يلعب ذات يوم ذكر ما قيل | |
|
| |
الشيخ عودة الشيخ عودة
عدد المساهمات : 1748 تاريخ التسجيل : 28/09/2008 العمر : 74
| موضوع: رد: كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير الخميس فبراير 06, 2014 8:41 am | |
| والحروب الحادثة بمقتله إلى أن مات امرؤ القيس نذكر أولاً سبب ملكهم العرب بنجد ونسوق الحادث إلى قتله وما يتصل به فنقول: كان سفهاء بكر قد غلبوا على عقلائها وغلبوهم على الأمر وأكل القوي الضعيف، فنظر العقلاء في أمرهم فرأوا أن يملكوا عليهم ملكاً يأخذ للضعيف من القوي. فنهاهم العرب وعلموا أن هذا لا يستقيم بأن يكون الملك منهم لأنه يطيعه قوم ويخالفه آخرون، فساروا إلى بعض تبايعة اليمن، وكانوا للعرب بمنزلة الخلفاء للمسلمين، وطبوا منه أن يملك عليهم ملكاً، فملك عليهم حجر بن عمرو آكل المرار، فقدم عليهم ونزل ببطن عاقل وأغار ببكر فانتزع عامة ما كان بأيدي اللخميين من أرض بكر وبقي كذلك إلى أن مات فدفن ببطن عاقل. فلما مات صار عمرو بن حجر آكل المرار، وهو المقصور، ملكاً بعد أبيه، وإنما قيل له المقصور لأنه قصر على ملك أبيه، وكان أخوه معاوية، وهو الجون، على اليمامة، فلما مات عمرو ملك بعده ابنه الحارث، وكان شديد الملك بعيد الصوت، فلما ملك قباذ بن فيروز الفرس خرج في أيامه مزدك فدعا الناس إلى الزندقة، كما ذكرناه، فأجابه قباذ إلى ذلك، وكان المنذر بن ماء السماء عاملاً للأكاسرة على الحيرة ونواحيها، فدعاه قباذ إلى الدخول معه، فامتنع، فدعا الحارث بن عمرو إلى ذلك فأجابه، فاستعمله على الحيرة وطرد المنذر عن مملكته. وقيل في تمليكه غير ذلك، وقد ذكرناه أيام قباذ.
فبقوا كذلك إلى أن ملك كسرى أنوشروان بن قباذ بعد أبيه فقتل مزدك وأصحابه وأعاد المنذر بن ماء السماء إلى ولاية الحيرة وطلب الحارث بن عمرو، وكان بالأنباء، وبها منزله، فهرب بأولاده وماله وهجانته، وتبعه المنذر بالخيل من تغلب وإياد وبهراء فلحق بأرض كلب فنجا وانتهبوا ماله وهجانته، وأخذت تغلب ثمانية وأربعين نفساً من بني آكل المرار، فيهم عمرو ومالك ابنا الحارث، فقدموا بهم على المنذر، فقتلهم في ديار بني مرينا، وفيهم يقول عمرو بن كلثوم: فآبوا بالنّهاب وبالسبايا ... وأبنا بالملوك مصفّدينا وفيهم يقول امرؤ القيس: ملوكٌ من بني حجر بن عمروٍ ... يساقون العشيّة يقتلونا فلو في يوم معركة أصيبوا ... ولكن في ديار بني مرينا ولم تغسل جماجمهم بغسلٍ ... ولكن في الدماء مرمّلينا تظلّ الطّير عاكفة عليهم ... وتنتزع الحواجب والعيونا وأقام الحارث بديار كلب، فتزعم كلب أنهم قتلوه، وعلماء كندة تزعم أنه خرج يتصيد فتبع تيساً من الظباء فأعجزه فأقسم أن لا يأكل شيئاً إلا من كبده، فطلبته الخيل، فأتى به بعد ثلاثة، وقد كاد يهلك جوعاً، فشوي له بطنه فأكل فلذةً من كبده حارة فمات. ولما كان الحارث بالحيرة أتاه أشراف عدة قبائل من نزار فقالوا: إنا في طاعتك وقد وقع بيننا من الشر بالقتل ما تعلم وتخاف الفناء فوجه معنا بنيك ينزلون فينا فيكفون بعضنا عن بعض. ففرق أولاده في قبائل العرب، فملك ابنه حجراً على بني أسد بن خزيمة وغطفان، ومد لك ابنه شرحبيل، وهو الذي قتل يوم الكلاب، على بكر بن وائل بأسرها وعلى غيرها، وملك ابنه معدي كرب، وهو غلفاء، وإنما قيل له غلفاء لأنه كان يغلف رأسه بالطيب، على قييس عيلان وطوائف غيرهم، وملك ابنه سلمة على تغلب والنمر بن قاسط وبني سعد بن زيد مناة من تميم. فبقي حجر في بني أسد وله عليهم جائزة وإتاوة كل سنة لما يحتاج إليه، فبقي كذلك دهراً، ثم بعثإليهم من يجبي ذلك منهم، وكانوا بتهامة، وطردوا رسله وضربوهم، فبلغ ذلك حجراً، فسار إليهم بجند من ربيعة وجند من جند أخيه من قيس وكنانة، فأتاهم فأخذ سرواتهم وخيارهم وجعل يقتلهم بالعصا وأباح الأموال وسيره إلى تهامة وحبس منهم جماعة من أشرافهم، منهم عبيد بن الأبرص الشاعر، فقال شعراً يستعطفه لهم، فرق لهم وأرسل من يردهم، فلما صاروا على يوم منه تكهن كاهنهم، وهو عوف بن ربيعة ابن عامر الأسدي، فقال لهم: من الملك الصلهب، الغلاب غير المغلب، في الإبل كأنها الربرب، هذا دمه يتثعب، وهو غداً أول من يستلب ؟ قالوا: ومن هو ؟ قال: لولا تجيش نفسٍ خاشيه، لأخبرتكم أنه حجر ضاحيه، فركبوا كل صعب وذلول حتى بلغوا إلى عسكر حجر فهجموا عليه في قبته فقتلوه، طعنه علياء بن الحارث الكاهلي فقتله، وكان حجر قتل أباه، فلما قتل قالت بنو أسد: يا معشر كنانة وقيس أنتم إخواننا وبنو عمنا والرجل بعيد النسب منا ومنكم وقد رأيتم سيرته وما كان يصنع بكم هو وقومه فانتهبوهم. فشدوا على هجانته فانتهبوها ولفوه في ريطة بيضاء وألقوه على الطريق، فلما رأته قيس وكنانة انتهبوا أسلابه وأجار عمرو بن مسعود عياله. وقيل:إن حجراً لما رأى اجتماع بني أسد عليه خافهم فاستجار عويمر ابن شجنة أحد بني عطارد بن كعب بن زيد مناة بن تميم لبنته هند بنت حجر وعياله، وقال لبني أسد: إن كان هذا شأنكم فإني مرتحلٍ عنكم ومخليكم وشأنكم. فوادعوه على ذلك وسار عنهم وأقام في قومه مدةً ثم جمع لهم جمعاً عظيماً وأقبل إليهم مدلاً بمن معه، فتآمرت بنو أسد وقالوا: والله لئن قهركم ليحكمن عليكم حكم الصبي فما خير العيش حينئذ فموتوا كراماً. فاجتمعوا وساروا إلى حجر فلقوه فاقتتلوا قتالاً شديداً، وكان صاحب أمرهم علباء ابن الحارث، فحمل على حجر فطعنه فقتله، وانهزمت كندة ومن معهم، وأسر بنو أسد من أهل بيت حجر وغنموا حتى ملأوا أيديهم من الغنائم، وأخذوا جواريه ونساءه وما معهم فاقتسموه بينهم.
وقيل: إن حجراً أخذ أسيراً في المعركة وجعل في قبة، فوثب عليه ابن أخت علباء فضربه بحديدة كانت معه لأن حجراً كان قتل أباه، فلما جرحه لم يقض عليه، فأوصى حجر ودفع كتابه إلى رجل وقال له: انطلق إلى ابني نافع، وكان أكبر أولاده، فإن بكى وجزع فاتركه واستقرهم واحداً واحداً حتى تأتي امرأ القيس، وكان أصغرهم، فأيهم لم يجزع فادفع إليه خيلي وسلاحي ووصيتي. وقد كان بين في وصيته من قتله وكيف كان خبره. فانطلق الرجل بوصيته إلى ابنه نافع فوضع التراب على رأسه ثم أتاهم كلهم، ففعلوا مثله حتى أتى امرأ القيس فوجده مع نديم له يشرب الخمر ويلعب معه بالنرد، فقال: قتل حجر، فلم يلتفت إلى قوله، وأمسك نديمه، فقال له امرؤ القيس: اضرب، فضرب حتى إذا فرغ قال: ما كنت لأفسد دستك، ثم سأل الرسول عن أمر أبيه كله، فأخبره، فقال له: الخمر والنساء علي حرام حتى أقتل من بني أسد مائة وأطلق مائة. وكان حجر قد طرد امرأ القيس لقوله الشعر، وكان يأنف منه، وكانت أم امرئ القيس فاطمة بنت ربيعة بن الحارث أخت كليب بن وائل، وكان يسير في أحياء العرب يشرب الخمر على الغدران ويتصيد، فأتاه خبر قتل أبيه وهو بدمون من أرض اليمن، فلما سمع الخبر قال: تطاول الليل علينا دمّون ... دمّون إنّا معشرٌ يمانون وإنّنا لقومنا محبّون ثم قال: ضيعني صغيراً وحمّلني دمه كبيراً، لا صحو اليوم ولا سكر غداً، اليوم خمرٌ وغداً أمرٌ. فذهبت مثلاً. ثم ارتحل حتى نزل ببكر وتغلب فسألهم النصر على بني أسد، فأجابوه. فبعث العيون إلى بني أسد، فنذروا به، فلجأوا إلى بني كنانة، وعيون امرئ القيس معهم، فقال لهم علباء بن الحارث: اعلموا أن عيون امرئ القيس قد عادوا إليه بخبركم وأنكم عند بني كنانة، فارحلوا بليل ولا تعلموا بني كنانة. فارتحلوا. وأقبل امرؤ القيس بمن معه من بكر وتغلب وغيرهم حتى انتهى إلى بني كنانة، وهو يظنهم بني أسد، فوضع السلاح فيهم وقال: يا لثارات الملك يا لثارات الهمام ! فقيل له: أبيت اللعن ! لسنا لك بثأر، نحن بنو كنانة فدونك ثأرك فاطلبهم فإن القوم قد ساروا بالأمس. فتبع بني أسد، ففاتوه ليلتهم، فقال في ذلك: ألا يا لهف هندٍ إثر قوم ... هم كانوا الشفاء فلم يصابوا وقاهم جدّهم ببني أبيهم ... وبالأشقين ما كان العقاب وأفلتهّنّ علباءٌ جريضاً ... ولو أدركته صفر الوطاب يعني ببني أبيهم كنانة، فإن أسداً وكنانة ابني خزيمة هما أخوان. وقوله: ولو أدركته صفر الوطاب، قيل: كانوا قتلوه واستاقوا إبله فصفرت وطابه من اللبن، أي خلت، وقيل: كانوا قتلوه فخلا جلده، وهو وطابه، من دمه بقتله. فسار امرؤ القيس في آثار بني أسد فأدركهم ظهراً وقد تقطعت خيله وهلكوا عطشاً وبنو أسد نازلون على الماء، فقاتلهم حتى كثرت القتلى بينهم وهربت بنو أسد. فلما أصبحت بكر وتغلب أبوا أن يتبعوهم وقالوا: قد أصبت ثأرك. فقال: لا والله. فقالوا: بلى ولكنك رجل مشؤوم، وكرهوا قتلهم بني كنانة فانصرفوا عنه، ومضى إلى أزد شنوءة يستنصرهم، فأبوا أن ينصروه وقالوا: إخواننا وجيراننا. فسار عنهم ونزل بقيل يدعى مرثد الخير بن ذي جدن الحميري، وكان بينهما قرابة، فاستنصره على بني أسد، فأمده بخمسمائة رجل من حمير، ومات مرثد قبل رحيل امرئ القيس، وملك بعده رجل من حمير يقال له قرمل، فزود امرأ القيس ثم سير معه ذلك الجيش وتبعه شذاذ من العرب واستأجر غيرهم من قبائل اليمن، فسار بهم إلى بني أسد وظفر بهم. ثم إن المنذر طلب امرأ القيس ولج في طلبه ووجه الجيوش إليه، فلم يكن لامرئ القيس بهم طاقة وتفرق عنهم من كان معه من حمير وغيرهم، فنجا في جماعة من أهله ونزل بالحارث بن شهاب اليبروعي، وهو أبو عتيبة ابن الحارث، فأرسل إليه المنذر يتوعده بالقتال إن لم يسلمهم إليه، فسلمهم، ونجا امرؤ القيس ومعه يزيد بن معاوية بن الحارث وابنته هند ابنة امرئ القيس وأدراعه وسلاحه وماله، فخرج ونزل على سعد بن الضباب الإيادي سيد قومه، فأجاره، ومدحه امرؤ القيس ثم تحول عنه ونزل على المعلى بن تيم الطائي فأقام عنده واتخذ إبلاً هناك، فعدا قوم من جديلة يقال لهم بنو زيد عليها فأخذوها، فأعطاه بنو نبهان معزىً يحلبها فقال:
إذا ما لم يكن إبلٌ فمعزىً ... كأنّ قرون جلّتها العصيّ الأبيات. ثم رحل عنهم ونزل بعامر بن جوين، فأراد أن يغلب امرأ القيس على ماله وأهله، فعلم امرؤ القيس بذلك فانتقل إلى رجل من بني ثعلٍ يقال له حارثة بن مر فاستجاره، فأجاره. فوقعت بين عامر بن جوين والثعلي حرب، وكانت أمور كبيرة، فلما رأى امرؤ القيس أن الحرب قد وقعت بين طيئ بسببه خرج من عندهم فقصد السموأل بن عادياء اليهودي، فأكرمه وأنزله، فأقام عنده امرؤ القيس ما شاء الله ثم طلب منه أن يكتب له إلى الحارث بن أبي شمر الغساني ليوصله إلى قيصر، ففعل ذلك، وسار إلى الحارث وأودع أهله وأدراعه عند السموأل، فلما وصل إلى قيصر أكرمه. فبلغ ذلك بني أسد فأرسلوا رجلاً منهم يقال له الطماح، كان امرؤ القيس قتل أخاً له، فوصل الأسدي، وقد سير قيصر مع امرئ القيس جيشاً كثيفاً فيهم جماعة من أبناء الملوك. فلما سار امرؤ القيس، قال الطماح لقيصر: إن امرأو القيس غوي عاهر، وقد ذكر أنه كان يراسل ابنتك ويواصلها وقال فيها أشعاراً أشهرها بها في العرب، فبعث إليه قيصر بحلة وشي منسوجة بالذهب، مسمومة، وكتب إليه: إني أرسلت إليك بحلتي التي كنت ألبسها تكرمةً لك فالبسها واكتب إلي بخبرك من منزل منزل. فلبسها امرؤ القيس وسر بذلك، فأسرع فيه السم وسقط جلده، فلذلك سمي ذا القروح؛ فقال امرؤ القيس في ذلك: لقد طمح الطمّاح من نحو أرضه ... ليلبسني ممّا يلبّس ابؤسا فلو أنّها نفس تموت سويّةً ... ولكنّها نفس تساقط أنفسا فلما وصل إلى موضع من بلاد الروم يقال له أنقرة احتضر بها، فقال: رب خطبة مسحنفره، وطعنة مثعنجره، وجفنة متحيره، حلت بأرض أنقره. ربّ خطبة مسحنفره، ... وطعنةٍ مثعنجره وجفنةٍ متحيّره ... حلّت بأرض أنقره ورأى قبر أمراةً من بنات ملوك الروم وقد دفنت بجنب عسيب، وهو جبل، فقال: أجارتنا إنّ الخطوب تنوب ... وإنّي مقيمٌ ما أقام عسيب أجارتنا إنّا غريبان ها هنا ... وكلّ غريبٍ للغريب نسيب ثم مات فدفن إلى جنب المرأة، فقبره هناك. ولما مات امرؤ القيس سار الحارث بن أبي شمر الغساني إلى السموأل بن عادياء وطالبه بأدراع امرئ القيس، وكانت مائة درع، وبما له عنده، فلم يعطه، فأخذ الحارث ابناً للسموأل، فقال: إما أن تسلم الأدراع وإما قتلت ابنك. فأبى السموأل أن يسلم إليه شيئاً، فقتل ابنه، فقال السموأل في ذلك: وفيت بأدرع الكنديّ إنّي ... إذا ما ذمّ أقوامٌ وفيت وأوصى عاديا يوماً بأن لا ... تهدّم يا سموأل ما بنيت بنى لي عاديا حصناً حصيناً ... وماءً كلّما شئت استقيت وقد ذكر الأعشى هذه الحادثة، فقال: كن كالسموأل إذا طاف الهمام به ... في جحفلٍ كسواد اللّيل جرّار إذ سامه خطّتي خسفٍ فقال له: ... قل ما تشاء فإنّي سامعٌ حار فقال: غدرٌ وثكلٌ أنت بينهما ... فاختر فما فيهما حظّ لمختار فشك غير طويلٍ ثم قال له: اقتل أسيرك إني مانعٌ جاري وهي أكثر من هذا. يوم خزازوكان من حديثه أن ملكاً من ملوك اليمن كان في يديه أسرى من مضر وربيعة وقضاعة، فوفد عليه وفدٌ من وجوه بني معدّ، منهم: سدوس بن شيبان بن ذهل بن ثعلبة، وعوف بن محلم بن ذهل بن شيبان، وعوف ابن عمرو بن جشم بن ربيعة بن زيد مناة بن عامر اضحيان، وجشم بن ذهل بن هلال بن ربيعة بن زيد ابن عامر الضحيان، فلقيهم رجل من بهراء يقال له عبيد بن قراد، وكان في الأسرى، وكان شاعراً، فسألهم أن يدخلوه في عدة من يسألون فيه، فكلموا الملك فيه وفي الأسرى، فوهبهم لهم، فقال عبيد بن قراد البهراوي: نفسي الفداء لعوف الفعال ... وعوف ولاّبن هلالٍ جشم تداركني بعدما قد هوي ... ت مستمسكاً بعراقي الوذم ولولا سدوسٌ وقد شمّرت ... بي الحرب زلّت بنعلي القدم وناديت بهراء كي يسمعوا ... وليس بآذانهم من صمم ومن قبلا عصمت قاسطٌ ... معدّاً إذا ما عزيزٌ أزم
فاحتبس الملك عنده بعض الوفد رهينةً وقال للباقين: ايتوني برؤساء قومكم لآخذ عليهم المواثيق بالطاعة لي وإلا قتلت أصحابكم. فرجعوا إلى قومهم فأخروهم الخبر، فبعث كليب وائلإلى ربيعة فجمعهم، واجتمعت عليه معد، وهو أحد النفر الذين اجتمعت عليهم معد، على ما نذكره في مقتل كليب. فلما اجتمعوا عليه سار بهم وجعل على مقدمته السفاح التغلبي، وهو سلمة بن خالد بن كعب بن زهير بن تيم بن أسامة بن مالك بن بكر ابن حبيب بن تغلب، وأمرهم أن يوقدوا على خزاز ناراً ليهتدوا بها، وخزاز جبل بطخفة ما بين البصرة إلى مكة، وهو قريب من سالع، وهو جبل أيضاً؛ وقال له: إن غشيك العدو فأوقد نارين. فبلغ مذحجاً اجتماع ربيعة ومسيرها فأقبلوا بجموعهم واستنفروا من يليهم من قبائل اليمن وساروا إليهم، فلما سمع أهل تهامة بمسير مذحج انضموا إلى ربيعة، ووصلت مذحج إلى خزام ليلاً، فرفع السفاح نارين. فلما رأى كليب النارين اقبل إليهم بالجموع فصبحهم، فالتقوا بخراز فاقتتلوا قتالاً شديداً أكثروا فيه القتل، فانهزمت مذحج وانفضت جموعها، فقال السفاح في ذلك: وليلة بتّ أقود في خزاز ... هديت كتائباً متحيّرات ضللن من السّهاد وكنّ لولا ... سهاد القوم أحسب هاديات وقال الفرزدق يخاطب جريراً ويهجوه: لولا فوارس تغلب ابنة وائل ... دخل العدوّ عليك كلّ مكانٍ ضربوا الصنائع والملوك وأوقدوا ... نارين أشرفتا على النيران وقيل: إنه لم يعلم أحد من كان الرئيس يوم خزاز لأن عمرو بن كلثوم، وهو ابن ابنة كليب، يقول: ونحن غداة أوقد في خزاز ... رفدنا فوق رفد الرافدينا فلو كان جده الرئيس لذكره ولم يفتخر بأنه رفد، ثم جعل من شهد خزازاً متساندين فقال: فكنّا الأيمنين إذا التقينا ... وكان الأيسرين بنو أبينا فصالوا صولةً فيمن يليهم ... وصلنا صولةً فيمن يلينا فقالوا له: استأثرت على إخوتك، يعني مضر، ولما ذكر جده في القصيدة قال: ومنّا قبله الساعي كليبٌ ... فأيّ المجد إلاّ وقد ولينا فلم يدع له الرياسة يوم خزاز، وهي أشرف ما كان يفتخر له به. حبيب بضم الحاء المهملة، وفتح الباء الموحدة، وسكون الياء تحتها نقطتان، وآخره باء أخرى موحدة. ذكر مقتل كليب والأيام بين بكر وتغلب وكان من حديث الحرب التي وقعت بين بكر وتغلب ابني وائل بن هنب ابن أفصى بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان بسبب قتل كليب، واسمه وائل بن ربيعة بن الحارث بن زهير بن جشم بن بكر بن حبيب بن عمرو بن غنم بن تغلب، وإنما لقب كليباً لأنه كان إذا سار أخذ معه جرو كلب، فإذا مر بروضة أو موضع يعجبه ضربه ثم ألقاه في ذلك المكان وهو يصيح ويعوي فلا يسمع عواءه أحد إلا تجنبه ولم يقربه، وكان يقال له كليب وائل، ثم اختصروا فقالوا كليب، فغلب عليه. وكان لواء ربيعة بن نزال للأكبر فالأكبر من ولده، فكان اللواء في عنزة بن أسد بن ربيعة، وكانت سنتهم أنهم يصفرون لحاهم ويقصون شواربهم، فلا يفعل ذلك من ربيعة إلا من يخالفهم ويريد حربهم، ثم تحول اللواء في عبد القيس بن أفصى بن دعمي بن جديلة بن اسد بن ربيعة بن نزال، وكانت سنتهم إذا شتموا لطموا من شتمهم، وإذا لطموا قتلوا من لطمهم. ثم تحول اللواء في النمر بن قاسط بن هنب، وكان لهم غير سنة من تقدمهم. ثم تحول اللواء في النمر بن قاسط بن هنب، وكان لهم غير سنة من تقدمهم. ثم تحول اللواء في النمر بن قاسط بن هنب، وكان لهم غير سنة من لطمهم. ثم تحول اللواء في النمر بن قاسط بن هنب، وكان لهم غير سنة من تقدمهم. ثم تحول اللواء إلى بكر بن وائل فساءوا غيرهم في فرخ طائر، كانوا يوثقون الفرخ بقارعة الطريق، فإذا علم بمكانه لم يسلك أحد ذلك الطريق ويسلك من يريد الذهاب والمجيء عن يمينه ويساره، ثم تحول اللواء إلى تغلب، فوليه وائل بن ربيعة، وكانت سنته ما ذكرناه من جرو الكلب.
ولم تجتمع معد إلا على ثلاثة نفر، وهم: عامر بن الظرب بن عمرو ابن بكر بن يشكر بن الحارث، وهو عدوان بن عمرو بن قيس عيلان، وهو الناس بن مضر، بالنون، وهو أخو إليا بن مضر، وكان قائد معد حين تمذحجت مذحج وسارت إلى تهامة، وهي أول وقعة كانت بين تهامة واليمن؛ والثاني ربيعة بن الحارث بن مرة بن زهير بن جشم بن بكر ابن حبيب بن كلب، وكان قائد معد يوم السلان بين أهل اليمامة واليمن؛ والثالث وائل بن ربيعة، وكان قائد معد يوم خزاز ففض جموع اليمن وهزمهم وجعلت له معد قسم الملك وتاجه وطاعته وبقي زماناً من الدهر، ثم دخله زهو شديد وبغى على قومه حتى بلغ من بغيه أنه كان يحمي مواقع السحاب فلا يرعى حماه، وكان يقول: وحش أرض كذا في جواري، فلا يصاد، ولا يورد أحد مع إبله ولا يوقد ناراً مع ناره، ولا يمر أحد بين بيوته ولا يجتبي في مجلسه. وكانت بنو جشم وبنو شيبان أخلاطاً في دار واحدة إرادة الجماعة ومخافة الفرقة، وتزوج كليب جليلة بنت مرة بن شيبان بن ثعلبة، وهي أخت جساس بن مرة، وحمى كليب أرضاً من العالية في أو الربيع، وكان لا يقربها إلا محارب، ثم إن رجلاً يقال له سعد بن شميسٍ بن طوق الجرمي نزل بالبسوس بنت منقذ التميمية خالة جساس بن مرة. وكان للجرمي ناقة اسمها سراب ترعى مع نوق جساس، وهي التي ضربت العرب بها المثل فقالوا: أشأم من سراب وأشأ من البسوس. فخرج كليب يوماً يتعهد الإبل ومراعيها فأتاها وتردد فيها، وكانت إبله وإبل جساس مختلطة، فنظر كليب إلى سراب فأنكرها، فقال له جساس، وهو معه: هذه ناقة جارنا الجرمي. فقال: لا تعد هذه الناقة إلى هذا الحمى. فقال جساس: لا ترعى إبلي مرعىً إلا وهذه معها، معها فقال كليب: لئن عادت لأضعن سهمي في ضرعها. فقال جساس: لئن وضعت سهمك في ضرعها لأضعن سنان رمحي في لبتك ! ثم تفرقا، وقال كليب لأمرأته: أترين أن في العرب رجلاً مانعاً مني جاره ؟ قالت: لا أعلمه إلا جساساً، فحدثها الحديث. وكان بعدذ لك إذا أراد الخروج إلى الحمى منعته وناشتدته الله أن لا يقطع رحمه، وكانت تنهى أخاها جساساً أن يسرح إبله. ثم إن كليباً خرج إلى الحمى وجعل يتصفح الإبل، فرأى ناقة الجرمي فرمى ضرعها فأنقذه، ولها عجيج حتى بركت بفناء صاحبها. فلما رأى ما بها صرخ بالذل، وسمعت البسوس صراخ جارها، فخرجت إليه. فلما رأت ما بناقته وضعت يدها على رأسها ثم صاحت: واذلاه ؟! وجساس يراها ويسمع، فخرج إليها فقال لها: اسكتي ولا تراعي، وسكن الجرمي، وقال لهما: إني سأقتل جملاً أعظم من هذه الناقة، سأقتل غلالاً، وكان غلال فحل إبل كليب لم ير في زمانه مثله، وإنما أراد جساس بمقالته كليباً. وكان لكليب عين يسمع ما يقولون، فأعاد الكلام على كليب، فقال: لقد اقتصر من يمينه على غلال. ولم يزل جساس يطلب غرة كليب، فخرج كليب يوماً آمناً فلما بعد عن البيوت ركب جساس فرسه وأخذ رمحه وأدرك كليباً، فوقف كليب. فقال له جساس: يا كليب الرمح وراءك ؟! فقال: إن كنت صادقاً فأقبل إلي من أمامي، ولم يلتفت إليه، فطعنه فأرداه عن فرسه، فقال: يا جساس أغثني بشربة من ماء، فلم يأته بشيء، وقضى كليب نحبه. فأمر جساس رجلاً كان معه اسمه عمرو بن الحارث بن ذهل بن شيبان فجعل عليه أحجاراً لئلا تأكله السباع. وفي ذلك يقول مهلهل بن ربيعة، أخو كليب: قتيلٌ ما قتيل المرء عمروٍ ... وجسّاس بن مرّة ذي صريم أصاب فؤاده بأصمّ لدنٍ ... فلم يعطف هناك على حميم فإنّ غداً وبع غدٍ لرهنٌ ... لأمر ما يقام له عظيم جسيماً ما بكيت به كليباً ... إذا ذكر الفعال من الجسيم سأشرب كأسها صرفاً وأسقى ... بكأسٍ غير منطقة مليم ولما قتل جساس كليباً انصرف على فرسه يركضه وقد بدت ركبتاه، فلما نظر أبوه مرة إلى ذلك قال: لقد أتاكم جساس بداهيةٍ، ما رأيته قط بادي الركبتين إلى اليوم ! فلما وقف على أبيه قال: ما لك يا جساس ؟ قال: طعنت طعنة يجتمع بنو وائل غداً لها رقصاً. قال: ومن طعنت ؟ لأمك الثكل ! قال: قتلت كليباً. قال: أفعلت ؟ قال: نعم. قال: بئس والله ما جئت به قومك ! فقال جساس: تأهّب عنك أهبة ذي امتناع ... فإنّ الأمر جلّ عن التلاحي
فإنّي قد جنيت عليك حرباً ... تغصّ الشيخ بالماء القراح فلما سمع أبوه قوله خاف خذلان قومه لما كان من لائمته إياه، فقال يجيبه: فإن تك قد جنيت عليّ حرباً ... تغصّ الشيخ بالماء القراح جمعت بها يديك على كليبٍ ... فلا وكلٌ ولا رثّ السلاح سألبس ثوبها وأذود عني ... بها عار المذلة والفضاح ثم إن مرة دعا قومه إلى نصرته، فأجابوه وجلوا الأسنة وشحذوا السيوف وقوموا الرماح وتيأوا للرحلة إلى جماعة قومهم. وكان همام بن مرة أخو جساس، ومهلهل أخو كليب في ذلك الوقت يشربان، فبعث جساس إلى همام جارية لهم تخبره الخير، فانتهت إليهما وأشارت إلى همام، فقام إليها، فأخبرته، فقال له مهلهل: ما قالت لك الجارية ؟ وكان بينهما عهد أن لا يكتم أحدهما صاحبه شيئاً، فذكر له ما قالت الجارية، وأحب أن يعلمه ذلك في مداعبة وهزل، فقال له مهلهل: است أخيك أضيق من ذلك ! فأقبلا على شربهما، فقال له مهلهل: اشرب، فاليوم خمرٌ وغداً أمرٌز فشرب همام وهو حذر خائف، فلما سكر مهلهل عاد همام إلى أهله، فساروا من ساعتهم إلى جماعة قومهم، وظهر أمر كليب، فذهبوا إليه فدفنوه، فلما دفن شقت الجيوب وخمشت الوجوه وخرج الأبكار وذوات الخدور العواتق إليه وفمن للمأتم، فقال النساء لأخت كليب: أخرجي جليلة أخت جساس عنا فإن قيامها فيه شماتة وعار علينا، وكانت امرأة كليب، كما ذكرنا، فقالت لها أخت كليب: اخرجي عن مأتمنا فأنت أخت قاتلنا وشقيقة واترنا، فخرجت تجر عطافها، فلقيها أبوها مرة فقال لها: ما وراءك يا جليلة ؟ فقالت: ثكل العدد، وحزن الأبد؛ وفقد خليل، وقتل أخ عن قليل؛ وبين هذين غرس الأحقاد، وتفتت الأكباد. فقال لها: أويكف ذلك كرم الصفح وإغلاء الديات ؟ فقالت أمنية مخدوع ورب الكعبة ! ألبدنٍ تدع لك تغلب دم ربّها ! ولما رحلت جليلة قالت أخت كليب: رحلة المعتدي وفراق الشامت، ويلٌ غداً لآل مرة من الكرة بعد الكرة. فبلغ قولها جليلة، فقالت: وكيف تشمت الحرة بهتك سترها وترقب وترها ! أسعد الله أختي ألا قالت: نفرة الحياء وخوف الأعداء ! ثم أنشأت تقول: يا ابنة الأقوام إن لمت فلا ... تعجلي باللوم حتّى تسألي فإذا أنت تبيّنت الذي ... يوجب اللوم، فلومي واعذلي إن تكن أخت امرئٍ ليمت على ... شفقٍ منها عليه فافعلي جلّ عندي فعل جسّاسٍ فيا ... حسرتا عمّا انجلى أو ينجلي فعل جسّاسٍ على وجدي به ... قاطعٌ ظهري ومدنٍ أجلي لو بعينٍ فقئت عينٌ سوى ... أختها فانفقأت لم أحفل تحمل العين قذى العين كما ... تحمل الأمّ أذى ما تفتلي يا قتيلاً قوّض الدهر به ... سقف بيتّي جميعاً من عل هدم البيت الذي استحدثته ... وسعى في هدم بيتي الأوّل ورماني قتله من كثبٍ ... رمية المصمى به المستأصل يا نسائي دونكنّ اليوم قد ... خصّني الدهر برزءٍ معضلٍ خصّني قتل كليبٍ بلظىً ... من ورائي ولظىً مستقبل ليس من يبكي ليوميه كمن ... إنّما يبكي ليومٍ مقبل يشتفي المدرك بالثأر وفي ... دركي ثأري ثكل المثكل ليته كان دماً فاحتلبوا ... درراً منه دمي من أكحلي إنّني قاتلةٌ مقتولةٌ ... ولعلّ الله أن يرتاح لي وأما مهلهل، واسمه عدي، وقيل: امرؤ القيس، وهو خال امرؤ القيس بن حجر الكندي، وإنما لقب مهلهلاً لأنه أول من هلهل الشعر وقصد القصائد، وأول من كذب في شعره، فإنه لما صحا لم يرعه إلا النساء يصرخن: ألا إن كليباً قتل، فقال، وهو أول شعر قيل في هذه الحادثة: كنّا نغار على العواتق أن ترى ... بالأمس خارجةً عن الأوطان فخرجن حين ثوى كليبٌ جسّراً ... مستيقناتٍ بعده بهوان فترى الكواعب كالظّباء عواطلاً ... إذ حان مصرعه من الأكفان يخمشن من أدم الوجوه حواسراً ... من بعده ويعدن بالأزمان
متسلّباتٍ نكدهنّ وقد ورى ... أجوافهنّ بحرقة ووراني ويقلن من للمستضيف إذا دعا ... أم من لخضب عوالي المرّان أم لاتّسارٍ بالجزور إذا غدا ... ريحٌ يقطع معقد الأشطان أمّن لإسباق الديات وجمعها ... ولفادحات نوائب الحدثان كان الذخيرة للزمان فقد أتى ... فقدانه وأخلّ ركن مكاني يا لهف نفسي من زمانٍ فاجعٍ ... ألقى عليّ بكلكلٍ وجران بمصيبةٍ لا تستقال جليلةٍ ... غلبت عزاء القوم والنّسوان هدّت حصوناً كنّ قبل ملاوذاً ... لذوي الكهول معاً وللشّبان أضحت وأضحى سورها من بعده ... متهدّم الأركان والبنيان فابكين سيّد قومه واندبنه ... شدّت عليه قباطي الأكفان وأبكين للأيتام لّما أقحطوا ... وابكين عند تخاذل الجيران وابكين مصرع جيده متزمّلاً ... بدمائه فلذاك ما أبكاني فلأتركنّ به قبائل تغلبٍ ... قتلى بكلّ قرارة ومكان قتلى تعاورها النّسور أكفّهاً ... ينهشها وحواجل الغربان ثم انطلق إلى المكان الذي قتل فيه كليب فرأى دمه، وأتى قبره فوقف عليه ثم قال: إنّ تحت التراب حزماً وعزماً ... وخصيماً ألدّ ذا معلاق حيّةً في الوجار أربد لا ين ... فع منه السليم نفث الراقي ثم جز شعره وقصر ثوبه وهجر النساء وترك الغزل وحرم القمار والشراب وجمع إليه قومه وأرسل رجالاً منهم إلى بني شيبان، فأتوا مرة بن ذهل ابن شيبان وهو في نادي قومه فقالوا له: إنكم أتيتم عظيما بقتلكم كليبا بناقة وقطعتم الرحم، وانتهكتم الحرمة، وإنا نعرض عليك خلالا أربعاً لكم فيها مخرج ولنا فيها مقنع، إما أن تحيي لنا كليباً أو تدفع إلينا قاتله جساساً فنقتله به، أو هماماً فإنه كفؤ له، أو تمكننا من نفسك، فإن فيك وفاء لدمه. فقال لهم: أما إحيائي كليباً فلست قادراً عليه، وأما دفعي جساساً إليكم فإنه غلام طعن طعنة على عجل وركب فرسه فلا أدري أي بلاد قصد، وأما همام فإنه أبو عشرة وأخو عشرة وعم عشرة كلهم فرسان قومهم فلن يسلموه بجريرة غيره، وأما أنا فما هو إلا أن تجول الخيل جولة فأكون أول قتيل فما أتعجل الموت، ولكن لكم عندي خصلتان: أما إحداها فهؤلاء أبنائي الباقون، فخذوا أيهم شئتم فاقتلوه بصاحبكم، وأما الأخرى فإني أدفع إليكم ألف ناقة سود الحدق حمر الوبر. فغضب القوم وقالوا: قد أسأت ببذل هؤلاء وتسومنا اللبن من دم كليب ؟ ونشبت الحرب بينهم. ولحقت جليلة زوجة كليب بأبيها وقومها، واعتزلت قبائل بكر الحرب وكرهوا مساعدة بني شيبان على القتال وأعظموا قتل كليب، فتحولت لجيم ويشكر، وكف الحارث بن عباد عن نصرهم ومعه أهل بيته، وقال مهلهل عدة قصائد يرثي كليباً منها: كليب لا خير في الدنيا ومن فيها ... إذ أنت خلّيتها فيمن يخلّيها كليب أيّ فتى عزٍّ ومكرمة ... تحت السقائف إذ يعلوك سافيها نعى النّعاة كليباً لي فقلت لهم: ... مالت بنا الأرض أو زالت رواسيها الحزم والعزم كانا من صنيعته ... ما كل آلائه يا قوم أحصيها القائد الخيل تردي في أعنّتها ... رهوداً إذا الخيل لجّت في تعاديها من خيل تغلب ما تلقى أسنّتها ... إلاّ وقد خضبوها من أعاديها يهزهزون من الخطّيّ مدمجةً ... صماً أنابيبها زرقاً عواليها ليت السماء على من تحتها وقعت ... وانشقّت الأرض فانجابت بمن فيها لا أصلح الله منّا من يصالحكم ... ما لاحت الشمس في أعلى مجاريها فالتقوا أول قتال كان بينهم في قولٍ يوم عنيزة، وهي عند فلجة، وكانا على السواء، فقال مهلهل: كأنّا غدوةً وبني أبينا ... بجنب عنيزةٍ رحيا مدير ولولا الريح أسمع أهل حجر ... صليل البيض تقرع بالذكور
فتفرقوا ثم بقوا زماناً، ثم إنهم التقوا بماء يقال له النهي، كانت بنو شيبان نازلة عليه، ويروى أنها أول وقعة كانت بينهم، وكان رئيس تغلب مهلهل، ورئيس شيبان الحارث بن مرة، وكانت الدائة لبني تغلب، وكانت الشوكة في بني شيبان، واستحر القتال فيهم إلا أنه لم يقتل ذلك اليوم أحد من بني مرة. ثم التقوا بالذنائب، وهي أعظم وقعة كانت لهم، فظفرت بنو تغلب وقتلت بكراً مقتلة عظيمة، وقتل فيها شراحيل بن مرة بن همان بن ذهل ابن شيبان، وهو جد الحوفزان وجد معن بن زائدة، وقتل الحارث بن مرة بن ذهل بن شيبان، وقتل من بني ذهل بن ثعلبة عمرة بن سدوس ابن شيبان بن ذهل وغيرهم من رؤساء بكر. ثم التقوا يوم واردات فاقتتلوا قتالاً شديداً، فظفرت تغلب أيضاً، وكثر القتل في بكر، فقتل همام بن مرة بن ذهل بن شيبان أخو جساس لأبيه وأمه، فمر مهلهل، فلما رآه قتيلاً قال: والله ما قتل بعد كليب أعز علي منك، وتالله لا تجتمع بكر بعدكما على خير أبداً. وقيل: إنما قتل يوم القصيبات، قبل يوم قضة، قتله ناشرة، وكان همام قد التقطه ورباه وسماه ناشرة، وكان عنده. فلما شب علم أنه تغلبي، فلما كان هذا اليوم جعل همام يقاتل فإذا عطش جاء إلى قربة له يشرب منها فتغفله ناشرة فقتله ولحق بقومه تغلب، وكاد جساس يؤخذ فسلم، فقال مهلهل: لو أنّ خيلي أدركتك وجدتهم ... مثل الليوث بسترغبّ عرين ويقول فيها: ولأوردنّ الخيل بطن أراكة ... ولأقضينّ بفعل ذاك ديوني ولأقتلنّ جحاجحاً من بكركم ... ولأبكينّ بها جفون عيون حتّى تظلّ الحاملات مخافةً ... من وقعنا يقذفن كلّ جنين وقيل في ترتيب الأيام غير ما ذكرنا، وسنذكره إن شاء الله تعالى. وكان أبو نويرة التغلبي وغيره طلائع قومه، وكان جساس وغيره طلائع قومهم، والتقى بعض الليالي جساس وأبو نويرة، فقال له أبو نويرة: اختر إما الصراع أو الطعان أو المسايفة. فاختار جساس الصراع، فاصطرعا وأبطأ كل واحد منهما على أصحاب حيه، وطلبوهما فأصابوهما وهما يصطرعان، وقد كاد جساس يصرعه، ففرقوا بينهما. وجعلت تغلب تطلب جساساً أشد الطلب، فقال له أبوه مرة: الحق بأخوالك بالشام، فامتنع، فألح عليه أبو فسيره سراً في خمسة نفر. وبلغ الخبر إلى مهلهل، فندب أبا نويرة ومعه ثلاثون رجلاً من شجعان أصحابه فساروا مجدين، فأدركوا جساساً، فقاتلهم فقتل أبو نويرة وأصحابه ولم يبق منهم غير رجلين، وجرح جساس جرحاً شديداً مات منه، وقتل أصحابه فلم يسلم غير رجلين أيضاً، فعاد كل واحد من السالمين إلى أصحابه. فلما سمع مرة قتل ابنه جساس قال: إنما يحزنني أن كان لم يقتل منهم أحداً. فقيل له: إنه قتل بيده أبا نويرة رئيس القوم وقتل معه خمسة عشر رجلاً ما شركه منا أحد في قتلهم وقتلنا نحن الباقين، فقال: ذلك مما يسكن قلبي عن جساس.
وقيل: إن جساساً آخر من قتل في حرب بكر وتغلب، وكان سبب قتله أن أخته جليلة كانت تحت كليب وائل. فلما قتل كليب عادت إلى أبيها وهي حامل ووقعت الحرب، وكان من الفريقين ما كان، ثم عادوا إلى الموادعة بعدما كادت الفئتان تتفانيان، فولدت أخت جساس غلاماً فسمته هجرساً، ورباه جساس، وكان لا يعرف أباً غيره، فزوجه ابنته، فوقع بين هجرس وبين رجل من بكر كلام، فقال له البكري: ما أنت بمنتهٍ حتى نلحقك بأبيك. فأمسك عنه ودخل إلى أمه كثيباً حزيناً فأخبرها الخبر. فلما نام إلى جنب امرأته رأت من همه وفكره ما أنكرته، فقصت على أبيها جساس قصته، فقال: ثائر ورب الكعبة ! وبات على مثل الرضف حتى أصبح، فأحضر الهجرس فقال له: إنما أنت ولدي وأنت مني بالمكان الذي تعلم، وزوجتك ابنتي، وقد كانت الحرب في أبيك زماناً طويلاً، وقد اصطلحنا وتحاجزنا، وقد رأيت أن تدخل في ما دخل فيه الناس من الصلح وأن تنطلق معي حتى نأخذ عليك مثل ما أخذ علينا. فقال الهجرس: أنا فاعلٌ. فحمله جساس على فرس فركبه ولبس لأمته وقال: مثلي لا يأتي أهله بغير سلاحه، فخرجا حتى أتيا جماعةً من قومهما، فقص عليهم جساس القصة وأعلمهم أن الهجرس يدخل في الذي دخل فيه جماعتهم وقد حضر ليعقد ما عقدتم. فلما قربوا الدم وقاموا إلى العقد أخذ الهجرس بوسط رمحه ثم قال: وفرسي وأذنيه، ورمحي ونصليه، وسيفي وغراريه لا يترك الرجل قاتل أبيه وهو ينظر إليه، ثم طعن جساساً فقتله ولحق بقومه، وكان آخر قتيل في بكر. والأول أكثر. ونرجع إلى سياقه الحديث. فلما قتل جساس أرسل أبوه مرة إلى مهلهل: إنك قد أدركت ثأرك وقتلت جساساً، فاكفف عن الحرب ودع اللجاج والإسراف وأصلح ذات البين فهو أصلح للحيين وأنكأ لعدوهم، فلم يجب إلى ذلك. وكان الحارث ابن عباد قد اعتزل الحرب، فلم يشهدها، فلما قتل جساس وهمام ابنا مرة حمل ابنه بجيراً، وهو ابن عمرو بن عباد أخي الحارث بن عباد، فلما حمله على الناقة كتب معه إلى مهلهل: إنك قد أسرفت في القتل وأدركت ثأرك سوى ما قتلت من بكر، وقد أرسلت ابني إليك فإما قتلته بأخيك وأصلحت بين الحيين وإما أطلقته وأصلحت ذات البين، فقد مضى من الحيين في هذه الحروب من كان بقاؤه خيراً لنا ولكم. فلما وقف على كتابه أخذ بجيراً فقتله وقال: بؤبشسع نعل كليب. فلما سمع أبوه بقتله ظن أنه قد قتله بأخيه ليصلح بين الحيين، فقال: نعم القتيل قتيلاً أصلح بين ابني وائل ! فقيل: إنه قال: بؤبشسع نعل كليب، فغضب عند ذلك الحارث بن عباد وقال: قرّبا مربط النعامة منّي ... لقحت حرب وائل عن حيال قرّبا مربط النعامة منّي ... شاب رأسي وأنكرتني رجالي لم أكن من جناتها علم الل ... ه وإنّي بحرّها اليوم صالي فأتوه بفرسه النعامة، ولم يكن في زمانها مثلها، فركبها وولي أمر بكر وشهد حربهم، وكان أول يوم شهده يوم قضة، وهو يوم تحلاق اللمم، وإنما قيل له تحلاق اللمم لأن بكراً حلقوا رؤوسهم ليعرف بعضهم بعضاً إلا جحدر بن ضبيعة بن قيس أبو المسامعة فقال لهم: أنا قصير فلا تشينوني، وأنا اشتري لمتي منكم بأول فارس يطلع عليكم. فطلع ابن عناق فشد عليه فقتله، وكان يرتجز ذلك اليوم ويقول: ردّوا عليّ الخيل إن ألّمت ... إن لم أقاتلهم فجزّوا لّمتي وقاتل يومئذ الحارث بن عباد قتالاً شديداً، فقتل في تغلب مقتلة عظيمة، وفيه يقول طرفة: سائلوا عنّا الذي يعرفنا ... بقوانا يوم تحلاق اللمم يوم تبدي البيض عن أسوقها ... وتلفّ الخيل أفواج النّعم وفي هذا اليوم أسر الحارث بن عباد مهلهلاً، واسمه عدي، وهو لا يعرفه، فقال له: دلني على عدي وأنا أخلي عنك. فقال له المهلهل: عليك عهد الله بذلك إن دللتك عليه ؟ قال: نعم. قال: فأنا عدي؛ فجز ناصيته وتركه، وقال في ذلك: لهف نفسي على عديٍّ ... ولم أعرف عديّاً إذ أمكنتني اليدان
وكانت الأيام التي اشتدت فيها الحرب بين الطائفتين خمسة أيام: يوم عنيزة تكافأوا فيه وتناصفوا؛ ثم اليوم الثاني يوم واردات، كان لتغلب على بكر؛ ثم اليوم الثالث الحنو، كان لبكر على تغلب؛ ثم اليوم الرابع يوم القصيبات، أصيب بكر حتى ظنوا أنهم لن يستقيلوا؛ ثم اليوم الخامس يوم قضة، وهو يوم التحالق، وشهده الحارث بن عباد؛ ثم كان بعد ذلك أيام دون هذه، منها: يوم النقية، ويوم الفصيل لبكر على تغلب، ثم لم يكن بينهما مزاحفة إنما كان مغاورات، ودامت الحرب بينهما أربعين سنة. ثم إن مهلهلاً قال لقومه: قد رأيت أن تبقوا على قومكم فإنهم يحبون صلاحكم، وقد أتت على حربكم أربعون سنة وما لمتكم على ما كان من طلبكم بوتركم، فلو مرت هذه السنون في رفاهية عيش لكانت تمل من طولها، فكيف وقد فني الحيان وثكلت الأمهات ويتم الأولاد ونائحة لا تزال تصرخ في النواحي، ودموع لا ترفأ، وأجسادٌ لا تدفن، وسيوف مشهورة، ورماح مشرعة ؟! وإن القوم سيرجعون إليكم غداً بمودتهم ومواصلتهم وتتعطف الأرحام حتى تتواسوا في قبال النعل، فكان كما قال: ثم قال مهلهل: أما أنا فما تطيب نفسي أن أقيم فيكم ولا أستطيع أن أنظر إلى قاتل كليب وأخاف أن أحملكم على الاستئصال وأنا سائر إلى اليمن، وفارقهم وسار إلى اليمن ونزل في جنب، وهي حي من مذحج، فخطبوا إليه ابنته، فمنعهم، فاجبروه على تزويجها وساقوا إليه صداقها جلوداً من أدم، فقال في ذلك: أعزز على تغلب بما لقيت ... أخت بني الأكرمين من جشّم أنكحها فقدها الأراقم في ... جنبٍ وكان الحباء من أدم لو بأبانين جاء يخطبها ... ضرّج ما أنف خاطبٍ بدم الأراقم بطن من جشم بن تغلب، يعني حيث فقدت الأراقم، وهم عشيرتها، تزوجها رجل من جنب بأدم. ثم إن مهلهلاً عاد إلى ديار قومه، فأخذه عمرو بن مالك بن ضبيعة البكري أسيراً بنواحي هجر فأحسن إساره، فمر عليه تاجر يبيع الخمر قدم بها من هجر، وكان صديقاً لمهلهل، فأهدى إليه وهو أسير زقاً من خمر، فاجتمع إليه بنو مالك فنحروا عنده بكراً وشربوا عند مهلهل في بيته الذي أفرد له عمرو. فلما أخذ فيهم الشراب تغنى مهلهل بما كان يقوله من الشعر وينوح به على أخيه كليب، فسمع منه عمرو ذلك فقال: إنه لريان، والله لا يشرب عندي ماء حتى يرد زبيب، وهو فحل كان له لا يرد إلا خمساً في حمارة القيظ، فطلب بنو مالك زبيباً وهو حراصٌ على أن لا يهلك مهلهل، فلم يقدروا عليه حتى مات مهلهل عطشاً. وقي: إن ابنة خال المهلهل، وهي ابنة المجلل التغلبي، كانت امرأة عمرو، وأرادت أن تأتي مهلهلاً وهو أسير، فقال يذكرها: طفلةٌ ما ابنة المجلّل بيضا ... ء لعوبٌ لذيذةٌ في العناق فاذهبي ما إليك غير بعيدٍ ... لا يؤاتي العناق من في الوثاق ضربت نحرها إليّ وقالت: ... يا عديّ لقد وقتك الأواقي وهي أبيات ذوات عدد، فنقل شعره إلى عمرو بن مالك، فحلف عمرو أن لا يسقيه الماء حتى يرد زبيب، فسأله الناس أن يورد زبيباً قبل وروده، ففعل وأورده وسقاه حتى يتحلل من يمينه، ثم إنه سقى مهلهلاً من ماء هناك هو أوخم المياه، فمات مهلهل. عباد بضم العين، وفتح الباء الموحدة وتخفيفها. ذكر الحرب بين الحارث والأعرج وبني تغلب قال أبو عبيدة: إن بكراً وتغلب ابني وائل اجتمعت للمنذر بن ماء السماء، وذلك بعد حربهم، وكان الذي أصلح بينهم قيس بن شراحيل ابن مرة بن همام، فغزا بهم المنذر بني آكل المرار، وجعل على بني بكر وتغلب ابنه عمرو بن هند، وقال: أغز أخوالك. فغزاهم، فاقتتلوا، فانهزم بنو آكل المرار وأسروا، وجاءوا بهم إلى المنذر فقتلهم.
ثم انتقضت تغلب على المنذر ولحقت بالشام، ونحن نذكر سبب ذلك في أخبار شيبان إن شاء الله، وعادت الحرب بينهم وبين بكر، فخرج ملك غسان بالشام، وهو الحارث بن أبي شمر الغساني، فمر بأفاريق من تغلب، فلم يستقبلوه. وركب عمرو بن كلثوم التغلبي فلقيه، فقال له: ما منع قومك أن يتلقوني ؟ فقال: لم يعلموا بمرورك، فقال: لئن رجعت لأغزونهم غزوة تتركهم ايقاظاً لقدومي، فقال عمرو: ما استيقظ قومٌ قط إلا نبل رأيهم وعزت جماعتهم، فلا توقظن نائمهم. فقال: كأنك تتوعدني بهم، أما والله لتعلمن إذا أجالت غطاريف غسان الخيل في دياركم أن أيقاظ قومك سينامون نومة لا حلم فيها، تجتث أصولهم وينفى فلهم إلى اليابس الجدد والنازح الثمد. ثم رجع عمرو بن كلثوم عنه وجمع قومه وقال: ألا فاعلم أبيت اللعن أنّا ... أبيت اللعن نأبى ما تريد تعلّم أن محملنا ثقيل ... وأنّ دبار كبّتنا شديد وأنّا ليس حيٌّ من معدٍّ ... يقاومنا إذا لبس الحديد فلما عاد الحارث الأعرج غزا بني تغلب، فاقتتلوا واشتد القتال بينهم، ثم انهزم الحارث وبنو غسان وقتل أخو الحارث في عدد كثير، فقال عمرو بن كلثوم: هلاّ عطفت على أخيك إذا دعا ... بالثكل ويل أبيك يا ابن أبي شمر فذق الذي جشّمت نفسك واعترف ... فيها أخاك وعامر بن أبي حجر يوم عين أباغوهو بين المنذر بن ماء السماء وبين الحارث الأعرج بن أبي شمر جبلة، وقيل: أبو شمر عمرو بن جبلة بن الحارث بن حجر بن النعمان بن الحارث الأيهم بن الحارث بن مارية الغساني، وقيل في نسبه غير هذا، وقيل: هو أزدي تغلب على غسان؛ والأول أكثر وأصح، وهو الذي طلب أدراع امرئ القيس من السموأل بن عادياء وقتل ابنه، وقيل غيره، والله أعلم. وسبب ذلك أن المنذر بن ماء السماء ملك العرب سار من الحيرة في معد كلها حتى نزل بعين أباغ بذات الخيار وأرسل إلى الحارث الأعرج بن جبلة بن الحارث بن ثعلبة بنجفنة بن عمرو مزيقياء بن عامر الغساني ملك العرب بالشام: أما أن تعطيني الفدية فأنصرف عنك بجنودي، وإما أن تأذن بحربٍ. فأرسل إليه الحارث: أنظرنا ننظر في أمرنا. فجمع عساكره وسار نحو المنذر وأرسل إليه يقول له: إنا شيخان فلا نهلك جنودي وجنودك ولكن يخرج رجل من ولدي ويخرج رجل من ولدي ويخرج رجل من ولدك فمن قتل خرج عوضه آخر، وإذا فني أولادنا خرجت أنا إليك فمن قتل صاحبه ذهب بالملك. فتعاهدا على ذلك، فعمد المنذر إلى رجل من شجعان أصحابه فأمره أن يخرج فيقف بين الصفين ويظهر أنه ابن المنذر، فلما خرج أخرج إليه الحارث ابنه أبا كرب، فلما رآه رجع إلى أبيه وقال: إن هذا ليس بابن المنذر إنما هو عبده أو بعض شجعان أصحابه، فقال: يا بني أجزعت من الموت ؟ ما كان الشيخ ليغدر. فعاد إليه وقاتله فقتله الفارس وألقى رأسه بين يدي المنذر، وعاد فأمر الحارث ابناً له آخر بقتاله والطلب بثأر أخيه، فخرج إليه، فلما واقفه رجع إلى أبيه وقال: يا أبت هذا والله عبد المنذر. فقال: يا بني ما كان الشيخ ليغدر. فعاد إليه فشد عليه فقتله. فلما رأى ذلك شمر بن عمرو الحنفي، وكانت أمه غسانية، وهو مع المنذر، قال: أيها الملك إن الغدر ليس من شيم الملوك ولا الكرام، وقد غدرت بابن عمك دفعتين. فغضب المنذر وأمر بإخراجه، فلحق بعسكر الحارث فأخبره، فقال له: سل حاجتك. فقال له: حلتك وخلتك. فلما كان الغد عبى الحارث أصحابه وحرضهم، وكان في أربعين ألفاً، واصطفوا للقتال، فاقتتلوا قتالاً شديداً، فقتل المنذر وهزمت جيوشه، فأمر الحارث بابنيه القتيلين فحملا على بعير بمنزلة العدلين، وجعل المنذر فوقهما فوداً وقال: يا لعلاوةٍ دون العدلين ! فذهبت مثلاً؛ وسار إلى الحيرة فأنهبها وأحرقها ودفن ابنيه بها وبني الغريين عليهما في قول بعضهم، وفي ذلك اليوم يقول ابن أبي الرعلاء الضبياني: كم تركنا بالعين عين أباغ ... من ملوكٍ وسوقةٍ أكفاء أمطرتهم سحائب الموت تترى ... إنّ في الموت راحة الأشقياء ليس من مات فاستراح بميت ... إنّما الميت ميّت الأحياء يوم مرج حليمة وقتل المنذر بن المنذر بن ماء السماء
لما قتل المنذر بن ماء السماء، على ما تقدم، ملك بعده ابنه المنذر وتلقب الأسود، فلما استقر وثبت قدمه جمع عساكره وسار إلى الحارث الأعرج طالباً بثأر أبيه عنده، وبعث إليه: إنني قد أعددت لك الكهول، على الفحول. فأجابه الحارث: قد أعددت لك المرد على الجرد. فسار المنذر حتى نزل بمرج حليمة، فتركه من به من غسان للأسود، وإنما سمي مرج حليمة بحليمة ابنة الحارث الغساني، وسنذكر خبرها عند الفراغ من هذا اليوم. ثم إن الحارث سار فنزل بالمرج أيضاً، فأمر أهل القرى التي في المرج أن يصنعوا الطعام لعسكره، ففعلوا ذلك وحملوه في الجفان وتركوه في العسكر، فكان الرجل يقاتل فإذا أراد الطعام جاء إلى تلك الجفان فأكل منها. فأقامت الحرب بين الأسود والحارث أياماً ينتصف بعضهم من بعض. فلما رأى الحارث ذلك قعد في قصره ودعا ابنته هنداً وأمرها فاتخذت طيباً كثيراً في الجفان وطبت به أصحابه، ثم نادى: يا فتيان غسان من قتل ملك الحيرة زوجته ابنتي هنداً. فقال لبيد بن عمرو الغساني لأبيه: يا أبت أنا قاتل ملك الحيرة أو مقتول جونه لا محالة، ولست أرضى فرسي فأعطني فرسك الزيتية. فأعطاه فرسه. فلما زحف الناس واقتتلوا ساعةً شد لبيد على الٍود فضربه ضربة فألقاه عن فرسه وانهزم أصحابه في كل وجه، ونزل فاحتز رأسه وأقبل به إلى الحارث وهو على قصره ينظر إليهم، فألقى الرأس بين يديه. فقال له الحارث: شأنك بابنة عمك فقد زوجتكها. فقال: بل أنصرف فأواسي أصحابي بنفسي فإذا انصرف الناس انصرفت. فرجع فصادف أخاه الأسود قد رجع إليه الناس وهو يقاتل وقد اشتدت نكايته، فتقدم لبيد فقاتل فقتل، ولم يقتل في هذه الحرب بعد تلك الهزيمة غيره، وانهزمت لخم هزيمةً ثانيةً وقتلوا في كل وجه، وانصرفت غسان بأحسن ظفر. وذكر أن الغبار في هذا اليوم اشتد وكثر حتى ستر الشمس وحتى ظهرت الكواكب المتباعدة عن مطالع الشمس لكثرة العساكر، لأن الأسود سار بعرب العراق أجمع، وسار الحارث بعرب الشام أجمع، وهذا اليوم من أشهر أيام العرب، وقد فخر به بعض شعراء غسان فقال: يوم وادي حليمةٍ وازدلفنا ... بالعناجيج والرماح الظماء إذ شحنّا أكفّنا من رقاقٍ ... رقّ من وقعها سنا السّحناء وأتت هند بالخلوق إلى من ... كان ذا نجدةٍ وفضل غناء ونصبنا الجفان في ساحة المر ... ج فملنا إلى جفانٍ ملاء وقيل في قتله غير ما تقدم، ونحن نذكره. قال بعض العلماء: وكان سببه أن الحارث بن أبي شمر جبلة بن الحارث الأعرج الغساني خطب إلى المنذر اللخمي ابنته وقصد انقطاع الحرب بين لخم وغسان، فزوجه المنذر ابنته هنداً، وكانت لا تريد الرجال، فصنعت بجلدها شبيهاً بالبرص وقالت لأبيها: أنا على هذه الحالة وتهديني لملك غسان ؟ فندم على تزويجها فأمسكها. ثم إن الحارث أرسل يطلب | |
|
| |
الشيخ عودة الشيخ عودة
عدد المساهمات : 1748 تاريخ التسجيل : 28/09/2008 العمر : 74
| موضوع: رد: كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير الخميس فبراير 06, 2014 8:42 am | |
| فلما هلك الحارث تشتت أمر أولاده وتفرقت كلمتهم ومشى بينهم الرجال، وكانت المغاورة بين الأحياء الذين معهم، وتفاقم أمرهم حتى جمع كل واحد منهم لصاحبه الجموع وزحف إليه بالجيوش، فسار شرحبيل فيمن معه من الجيوش فنزل الكلاب، وهو ماء بين البصرة والكوفة. وأقبل سلمة فيمن معه وفي الصنائع أيضاً، وهم قوم كانوا مع الملوك من شذاذ العرب، فأقبلوا إلى الكلاب وعلى تغلب السفاح بن خالد بن كعب ابن زهير، فاقتتلوا قتالاً شديداً، وثبت بعضهم لبعض. فلما كان آخر النهار من ذلك اليوم خذلت بنو حنظلة وعمرو بن تميم والرباب بكر بن وائل وانهزموا، وثبتت بكر وانصرفت بنو سعد ومن معها عن تغلب وصبرت تغلب، ونادى منادي شرحبيل: من أتاني برأس سلمة فله مائة من الإبل، ونادى منادي سلمة: من أتاني برأس شرحبيل فله مائة من الإبل. فاشتد القتال حينئذ كل يطلب أن يظفر لعله يصل إلى قتل أحد الرجلين ليأخذ مائة من الإبل. فكانت الغلبة آخر النهار لتغلب وسلمة، ومضى شرحبيل منهزماً، فتبعه ذو السنينة التغلبي، فالتفت إليه شرحبيل فضربه على ركبته فأطن رجله، وكان ذو السنينة أخا أبي حنش لأمه، فقال لأخيه: قتلني الرجل ! وهلك ذو السنينة ! فقال أبو حنش لشرحبيل: قتلني الله إن لم أقتلك ! وحمل عليه فأدركه،فقال: يا أبا حنش اللبن اللبن ! يعني الدية. فقال: قد هرقت لبناً كثيراً ! فقال: يا أبا حنش املكاً بسوقة ؟ فقال: إن أخي ملكي. فطعنه فأقاه عن فرسه ونزل إليه فأخذ رأسه وبعث به إلى سلمة مع ابن عم له، فأتاه به وألقان بين يديه، فقال سلمة: لو كنت ألقيته أرفق من هذا ! وعرفت الندامة في وجه سلمة والجزع عليه. فهرب أبو حنش منه، فقال سلمة: ألا أبلغ أبا حنشٍ رسولاً ... فما لك لا تجيء إلى الثّواب لتعلم أنّ خير الناس طرّاً ... قتيلٌ بين أحجار الكلاب تداعت حوله جشم بن بكر ... وأسلمه جعاسيس الرّباب فأجابه أبو حنش فقال: أحاذر أن أجيئك ثم تحبو ... حباء أبيك يوم صنيبعات وكانت غدرةٌ شنعاء تهفو ... تقلّدها أبوك إلى الممات وكان سبب يوم صنيبعات أن ابناً للحارث كان مسترضعاً في تميم وبكر ولدغته حية فمات، فأخذ خمسين رجلاً من تميم وخمسين رجلاً من بكر فقتلهم به. ولما قتل شرحبيل قام بنو زيد مناة بن تميم دون أهله وعياله فمنعوهم وحالوا بين الناس وبينهم حتى ألحقوهم بقومهم ومأمنهم؛ ولما بلغ خبر قتله أخاه معدي كرب، وهو غلفاء، قال يرثيه: إنّ جنبي عن الفراش لنابي ... كتجافي الأسرّ فوق الظّراب من حديثٍ نمى إليّ فما تر ... قأ عيني ولا أسيغ شرابي مرّة كالذّعاف أكتمها النا ... س على حرّملّة كالشهاب من شرحبيل إذ تعاوره الأر ... ماح من بعد لذّةٍ وشباب يا ابن أمي ولو شهدتك إذ تد ... عو تميماً وأنت غير مجاب ثمّ طاعنت من ورائك حتّى ... يبلغ الرحب أو تبزّ ثيابي أحسنت وائلٌ وعادتها الإح ... سان بالحنو يوم ضرب الرقاب يوم فرّت بنو تميم وولّت ... خيلهم يكتسعن بالأذناب وهي طويلة؛ ثم إن تغلب أخرجوا سلمة من بينهم فلجأ إلى بكر بن وائل وانضم إليهم، ولحقت تغلب بالمنذر بن امرئ القيس اللخمي. الكلاب بضم الكاف. أسيد بن عمرو بضم الهمزة، وفتح السين المهملة، وتشديد الياء المثناة من تحت. وذو السنينة بضم السين المهملة، تصغير سن. والرباب بكسر الراء، وتخفيف الباء الأولى الموحدة. يوم أوارة الأولوهو يوم كان بين المنذر بن امرئ القيس وبين بكر بن وائل. وكان سببه أن تغلب لما أخرجت سلمة بن الحارث عنها التجأ إلى بكر ابن وائل، كما ذكرناه آنفاً، فلما صار عند بكر أذعنت له وحشدت عليه وقالوا: لا يملكنا غيرك، فبعث إليهم المنذر يدعوهم إلى طاعته، فأبوا ذلك، فحلف المنذر ليسيرن إليهم فإن ظفر بهم فليذبحنهم على قلة جبل أوارة حتى يبلغ الدم الحضيض.
وسار إليهم في جموعه، فالتقوا بأوارة فاقتتلوا قتالاً شديداً وأجلت الواقعة عن هزيمة بكر وأسر يزيد بن شرحبيل الكندي، فأمر المنذر بقتله، فقتل، وقتل في المعركة بشرٌ كثير، وأسر المنذر من بكر أسرى كثيراً فأمر بهم فذبحوا على جبل أوارة، فجعل الدم يجمد. فقيل له: أبيت اللعن لو ذبحت كل بكري على وجه الأرض لم تبلغ دماؤهم الحضيض ! ولكن لو صببت عليه الماء ! ففعل فسال الدم إلى الحضيض، وأمر بالنساء أن يحرقن بالنار. وكان رجل من قيس بن ثعلبة منقطعاً إلى المنذر، فكلمه في سبي بكر ابن وائل، فأطلقهن المنذر، فقال الأعشى يفتخر بشفاعة القيسي إلى المنذر في بكر: ومنّا الذي أعطاه بالجمع ربّه ... على فاقةٍ وللملوك هباتها سبايا بني شيبان يوم أوارةٍ ... على النار إذ تجلى له فتياتها يوم أوارة الثانيكان عمرو بن المنذر اللخمي قد ترك ابناً له اسمه أسعد عند زراة بن عدس التميمي؛ فلما ترعرع مرت به ناقةٌ سمينة فعبث بها فرمى ضرعها، فشد عليه ربها سويدٌ أحد بني عبد الله بن دارم التميمي فقتله. وهرب فلحق بمكة فحالف قريشاً. وكان عمرو بن المنذر غزا قبل ذلك ومعه زرارة فأخفق، فلما كان حيال جبلي طيء قال له زرارة: أي ملكٍ إذا غزا لم يرجع ولم يصب، فمل على طيء فإن بحيالها، فمال إليهم فأسر وقتل وغنم، فكانت في صدور طيء على زرارة، فلما قتل سويد أسعد، وزرارة يومئذ عند عمرو، قال له عمرو بن ثعلبة بن ملقط الطائي يحرض عمراً على زرارة: من مبلغٌ عمراً بأن ال ... مرء لم يخلق صباره ها إنّ عجزة أمّة ... بالسفح أسفل من أواره فاقتل زرارة لا أرى ... في القوم أوفى من زراره فقال عمرو: يا زرارة ما تقول ؟ قال كذبت، قد علمت عداوتهم فيك. قال: صدقت. فلما جن الليل سار مجداً إلى قومه ولم يلبث أن مرض. فلما حضرته الوفاة قال لابنه: يا حاجب ضم إليك غلمتي في بني نهشل. وقال لابن أخيه عمرو بن عمرو: عليك بعمرو بن ملقط فإنه حرض علي الملك. فقال له: يا عماه لقد أسندت إلي أبعدهما شقةً وأشدهما شوكة. فلما مات زرارة تهيأ عمرو بن عمرو في جمع وغزا طيئاً فأصاب الطريفين: طريف بن مالك، وطريف بن عمرو، وقتل الملاقط؛ فقال علقمة بن عبدة في ذلك: ونحن جلبنا من ضريّة خيلنا ... نجنّبها حدّ الإكام قطاقطا أصبنا الطريف والطريف بن مالك ... وكان شفاء الواصبين الملاقطا فلما بلغ عمرو بن المنذر وفاة زرارة غزا بني دارم، وقد كان حلف ليقتلن منهم مائة، فسار بطلبهم حتى بلغ أوارة، وقد نذروا به فتفرقوا. فأقام مكانه وبث سراياه فيهم، فأتوه بتسعة وتسعين رجلاً سوى من قتلوه في غاراتهم فقتلهم، فجاء رجل من البراجم شاعر ليمدحه فأخذه ليقتله ليتم مائة، ثم قال: إن الشقي وافد البراجم ! فذهبت مثلاً. وقيل: إنه نذر أن يحرقهم فلذلك سمي محرقاً، فأحرق منهم تسعة وتسعين رجلاً واجتاز رجل من البراجم فشم قتار اللحم فظن أن الملك يتخذ طعاماً فقصده. فقال: من أنت ؟ فقال: أبيت اللعن أنا وافد البراجم. فقال: إن الشقي وافد البراجم؛ ثم أمر به فقذف في النار، فقال جرير للفرزدق: أين الذين بنار عمروٍ أحرقوا ... أم أين أسعد فيكم المسترضع وصارت تميم بعد ذلك يعيرون بحب الأكل لطمع البرجمي في الأكل، فقال بعضهم: إذا ما مات ميتٌ من تميم ... فسرّك أن يعيش فجيء بزاد بخبزٍ أو بلحمٍ أو بتمرٍ ... أو الشيء الملفّف في البجاد تراه ينقّب البطحاء حولاً ... ليأكل رأس لقمان بن عاد قيل: دخل الأحنف بن قيس على معاوية بن أبي سفيان فقال له معاوية: ما الشيء الملفف في البجاد يا أبا بحر ؟ قال: السخينة يا أمير المؤمنين. والسخينة طعام تعير به قريش كما كانت تعير تميم بالملفف في البجاد. قال: فلم ير متمازحان أوقر منهما. ذكر قتل زهير بن جذيمة وخالد بن جعفر بن كلاب والحارث بن ظالم المري وذكر يوم الرحرحان
كان زهي بن جذيمة بن رواحة بن ربيعة بن مازن بن الحارث بن قطيعة بن عبس العبسي، وهو والد قيس بن زهير صاحب حرب دحس والغبراء، سيد قيس عيلان، فتزوج إليه ملك الحيرة، وهو النعمان بن امرئ القيس جد النعمان بن المنذر لشرفه وسؤدده، فأرسل النعمان إلى زهير يستزيره بعض أولاده، فأرسل ابنه شأساً فكان أصغر ولده، فأكرمه وحباه، فلما انصرف إلى أبيه كساه حللاً وأعطاه مالاً طيباً. فخرج شأس يريد قومه فبلغ ماءً من مياه غني بن أعصر فقتله رباح بن الأشل الغنوي وأخذ ما كان معه وهو لا يعرفه، وقيل لزهير: إن شأساً أقبل من عند الملك وكان آخر العهد به بماء من مياه غني. فسار زهير إلى ديار غني، وهم حلفاء في بني عامر ابن صعصعة، فاجتمعوا عنده، فسألهم عن ابنه، فحلفوا أنهم لم يعلموا خبره، قال: لكني أعلمه، فقال له أبو عامر: فما الذي يرضيك منا ؟ قال: واحدة من ثلاث: إما تحيون ولدى، وإما تسلمون إلي غنياً حتى أقتلهم بولدي، وإما الحرب بيننا وبينكم ما بقينا وبقيتم. فقالوا: ما جعلت لنا في هذه مخرجاً، أما إحياء ولدك فلا يقدر عليه إلا الله، وأما تسليم غني إليك فهم يمتنعون مما يمتنع منه الأحرار، وأما الحرب بيننا فوالله إننا لنحب رضاك ونكره سخطك، ولكن إن شئت الدية، وإن شئت تطلب قاتل ابنك فنسلمه إليك أو تهب دمه فإنه لا يضيع في القرابة والجوار. فقال: ما أفعل إلا ما ذكرت. فلما رأى خالد بن جعفر بن كلاب تعدي زهير على أخواله من غني قال: والله ما رأينا كاليوم تعدي رجل على قومه. فقال له زهير: فهل لك أن تكون طلبتي عندك وأترك غنياً ؟ قال: نعم؛ فانصرف زهير وهو يقول: فلولا كلاب قد أخذت قرينتي ... بردّ غنيٍّ أعبداً ومواليا ولكن حمتهم عصبة عامريّة ... يهزّون في الأرض القصار العواليا مساعير في الهيجا مصاليت في الوغى ... أخوهم عزيز لا يخاف الأعاديا يقيمون في دار الحفاظ تكرّماً ... إذا ما فنيّ القوم أضحت خواليا ثم إنه أرسل امرأةً وأمرها أن تكتم نسبها وأعطاها لحم جزور سمينة وسيرها إلى غني لتبيع اللحم بطيب وتسأل عن حال ولده. فانطلقت المرأة إلى غني وفعلت ما أمرها، فانتهت إلى امرأة رباح بن الأشل وقالت لها: قد زوجت بنتاً لي وأبغي الطيب بهذا اللحم، فأعطتها طيباً وحدثتها بقتل زوجها شأساً. فعادت المرأة إلى زهير وأخبرته، فجمع خيله وجعل يغير على غني حتى قتل منهم مقتلة عظيمة، ووقعت الحرب بين بني عبس وبني عامر وعظم الشر. ثم إن زهيراً خرج في أهل بيته في الشهر الحرام إلى عكاظ، فالتقى هو وخالد بن جعفر بن كلاب. فقال له خالد: لقد طال شرنا منك يا زهير ! فقال زهير: أما والله ما دامت لي قوة أدرك بها ثأراُ فلا انصرام له. وكانت هوازن تؤتي زهير بن جذيمة الإتاوة كل سنة بعكاظ، وهو يسومها الخسف، وفي أنفسها منه غيظ وحقدٌ، ثم عاد خالد وزهير إلى قومهما، فسبق خالد إلى بلاد هوازن فجمع إليه قومه وندبهم إلى قتال زهير، فأجابوه وتأهبوا للحرب وخرجوا يريدون زهيراً وهم على طريقه، وسار زهير حتى نزل على أطراف بلاد هوازن، فقال له ابنه قيس: انج بنا من هذه الأرض فإنا قريب من عدونا. فقال له: يا عاجز وما الذي تخوفني به من هوازن وتتقي شرها ؟ فأنا أعلم الناس بها. فقال ابنه: دع عنك اللجاج وأطعني وسر بنا فإني خائف عاديتهم. وكانت تماضر بنت الشريد بن رياح بن يقظة بن عصية السلمية أم ولد زهير وقد أصاب بعض إخوتها دماً فلحق ببني عامر، وكان فيهم، فأرسله خالد عيناً ليأتيه بخبر زهير، فخرج حتى أتاهم في منزلهم، فعلم قيس ابن زهير حاله وأراد هو وأبوه أن يوثقوه ويأخذوه معهم إلى أن يخرجوا من أرض هوازن، فمنعت أخته، فأخذوا عليه العهود ألا يخبرهم وأطلقوه فسار إلى خالد ووقف إلى شجرة يخبرها الخبر، فركب خالد ومن معه إلى زهير، وهو غير بعيد منهم، فاقتتلوا قتالاً شديداً، والتقى خالد وزهير فاقتتلا طويلاً ثم تعانقا فسقطا على الأرض، وشد ورقاء بن زهير على خالد وضربه بسيفه فلم يصنع شيئاً لأنه قد ظاهر بين درعين، وحمل جندح ابن البكاء، وهو ابن امرأة خالد، على زهير فقتله، وهو خالد يعتركان، فثار خالد عنه وعادت هوازن إلى منازلها، وحمل بنو زهير أباهم إلى بلادهم، فقال ورقاء بن زهير في ذلك:
رأيت زهيراً تحت كلكل خالد ... فأقبلت أسعى كالعجول أبادر إلى بطلين يعتران كلاهما ... يريد رياش السيف والسيف نادر فشلّت يميني يوم أضرب خالداً ... ويمنعه منّي الحديد المظاهر فيا ليت أنّي قبل أيّام خالدٍ ... وقبل زهير لم تلدني تماضر لعمري لقد بشّرت بي إذ ولدتني ... فماذا الذي ردّت عليك البشائر ؟ فلا يدعني قومي صريحاً بحرّةٍ ... لئن كنت مقتولاً ويسلم عامر فطر خالدٌ إن كنت تستطيع طيرةً ... ولا تقعن إلاّ وقلبك حاذر أتتك المنايا إن بقيت بضربة ... تفارق منها العيش والموت حاضر وقال خالد يمن على هوازن بقتله زهيراً: أبلغ هوازن كيف تكفر بعدما ... أعتقتهم فتوالدوا أحرارا وقتلت ربّهم زهيراً بعدما ... جدع الأنوف وأكثر الأوتارا وجعلت مهر نسائهم ودياتهم ... عقل الملوك هجائناً وبكارا وكان زهير سيد غطفان، فعلم خالد أن غطفان ستطلبه بسيدها، فسار إلى النعمان بن امرئ القيس بالحيرة فاستجاره، فأجاره. فضرب له قبةً، وجمع بنو زهير لهوازن، فقال الحارث بن ظالم المري: اكفوني حرب هوازن فأنا أكفيكم خالد بن جعفر. وسار الحارث حتى قدم على النعمان فدخل عليه وعنده خالد، وهما يأكلان تمراً، فأقبل النعمان يسائله، فحسده خالد، فقال للنعمان: أبيت اللعن ! هذا رجل لي عنده يد عظيمة، قتلت زهيراً وهو سيد غطفان فصار هو سيدها. فقال الحارث: سأجزيك على يدك عندي، وجعل الحارث يتناول التمر ليأكله فيقع من بين أصابعه من الغضب، فقال عروة لأخيه خالد: ما أردت بكلامه وقد عرفته فتاكاً ؟ فقال خالد: وما يخوفني منه ؟ فوالله لو رآني نائماً ما أيقظني. ثم خرج خالد وأخوه إلى قبتهما فشرجاها عليهما، ونام خالد وعروة عند رأسه يحرسه، فلما أظلم الليل انطلق الحارث إلى خالد فقطع شرج القبة ودخلها وقال لعروة: لئن تكلمت قتلتك ! ثم أيقظ خالداً، فلما استيقظ قال: أتعرفني ؟ قال: أنت الحارث. قال: خذ جزاء يدك عندي ! وضربه بسيفه المعلوب فقتله، ثم خرج من القبة وركب راحلته وسار. وخرج عروة من القبة يستغيث وأتى باب النعمان فدخل عليه وأخبره الخبر، فبث الرجال في طلب الحارث. قال الحارث: فلما سرت قليلاً خفت أن أكون لم أقتله فعدت متنكراً واختلطت بالناس ودخلت عليه فضربته بالسيف حتى تيقنت أنه مقتول وعدت فلحقت بقومي؛ فقال عبد الله بن جعدة الكلابي: يا حار لو نبّهته لوجدته ... لا طائشاً رعشاً ولا معزالا شقّت عليه الجعفرية جيبها ... جزعاً وما تبكي هناك ضلالا فانعوا أبا بحر مجرّبٍ ... حرّان يحسب في القناة هلال فليقتلنّ بخالد سرواتكم ... وليجعلن لظالمٍ تمثالا تالله قد نبّهته فوجدته ... رخو اليدين مواكلاً عسقالا فعلوته بالسيف أضرب رأسه ... حتّى أضلّ بسلحه السربالا فجعل النعمان يطلبه ليقتله بجاره، وهوازن تطلبه لتقتله بسيدها خالد، فلحق بتميم فاستجار بضمرة بن ضمرة بن جابر بن قطن بن نهشل بن دارم، فأجاره على النعمان وهوازن، فلما علم النعمان ذلك جهز جيشاً إلى بني دارم عليهم ابن الخمس التغلبي، وكان يطلب الحارث بدم أبيه لأنه كان قتله . .
ثم إن الأحوص بن جعفر أخا خالد جمع بني عامر وسار بهم، فاجتمعوا هم وعسكر النعمان على بني دارم وساروا، فلما صاروا بأدنى مياه بني دارم رأوا امرأةً تجني الكمأة ومعها جمل لها، فأخذها رجلٌ من غني وتركها عنده. فلما كان الليل نام فقامت إلى جملها فركبته وسارت حتى صبحت بني دارم وقصدت سيدهم زرارة بن عدس فأخبرته الخبر وقالت: أخذني أمس قوم لا يريدون غيرك ولا أعرفهم. قال: فصفيهم لي. قالت: رأيت رجلاً قد سقط حاجباه فهو يرفعهما بخرقة، صغير العينين، وعن أمره يصدرون. قال: ذاك الأحوص وهو سيد القوم. قالت: ورأيت رجلاً قليل المنطق إذا تكلم اجتمع القوم كما تجتمع الإبل لفحلها، أحسن الناس وجهاً، ومعه ابنان له يلازمانه. قال: ذلك مالك بن جعفر وابناه عامر وطفيل. قالت: ورأيت رجلاً جسيماً كأن لحيته محمرةٌ معصفرةٌ. قال: ذاك عوف بن الأحوص. قالت: ورأيت رجلاً هلقاماً جسيماً. قال: ذاك ربيعة بن عبد الله بن أبي بكر بن كلاب. قالت: ورأيت رجلاً أسود أخنس قصيراً إذا تكلم عذم القوم عذم المخوس. قال: ذاك ربيعة بن قرط بن عبد الله بن أبي بكر. قالت: ورأيت رجلاً أقرن الحاجبين، كثير شعر السبلة، يسيل لعابه على لحيته إذا تكلم. قال: ذاك جندح بن البكاء. قالت: ورأيت رجلاً صغير العينين ضيق الجبهة يقود فرساً له معه جفيرٌ لا يفارق يده. قال: ذاك ربيعة بن عقيل بن كعب. قالت: ورأيت رجلاً معه ابنان أصبهان إذا أقبلا رماهما الناس بأبصارهم، فإذا أدبرا كانا كذلك. قال: ذاك الصعق بن عمرو بن خويلد بن نفيل وابناه يزيد وزرعة. قالت: ورأيت رجلاً لا يقول كلمة إلا وهي أحد من شفرة. قال: ذاك عبد الله بن جعدة بن كعب. وأمرها زرارة فدخلت بيتها وأرسل زرارة إلى الرعاء يأمرهم بإحضار الإبل، ففعلوا. وأمرهم فحملوا الأهل والأثقال وساروا نحو بلاد بغيض، وفرق الرسل في بني مالك بن حنظلة فأتوه، فأخبرهم الخبر وأمرهم، فوجهوا أثقالهم إلى بلاد بغيض، ففعلوا وباتوا معدين. وأصبح بنو عامر وأخبرهم الغنوي حال الظعينة وهربها فسقط في أيديهم واجتمعوا يديرون الرأي، فقال بعضهم: كأني بالظعينة قد أتت قومها فأخبرتهم الخبر، فحذروا وأرسلوا أهليهم وأموالهم إلى بلاد بغيض وباتوا معدين لكم في السلاح فاركبوا بنا في طلب نعمهم وأموالهم فإنهم لا يشعرون حتى نصيب حاجتنا وننصرف. فركبوا يطلبون ظعن بني دارم، فلما أبطأ القوم عن زرارة قال لقومه: إن القوم قد توجهوا إلى ظعنكم وأموالكم فسيروا إليهم. فساروا مجدين فلحقوهم قبل أن يصلوا إلى الظعن والنعم، فاقتتلوا قتالاً شديداً، فقتلت بنو مالك بن حنظلة ابن الخمس التغلبي رئيس جيش النعمان، وأسرت بنو عامر معبد بن زرارة، وصبر بنو دارم حتى انتصف النهار، وأقبل قيس بن زهير فيمن معه من ناحية أخرى، فانهزمت بنو عامر وجيش النعمان وعادوا إلى بلادهم ومعبد أسير مع بني عامر، فبقي معهم حتى مات. وفي تلك الأيام أيضاً مات زرارة بن عدس. وقيل في استجارة الحارث ببني تميم غير ذلك، وهو أن النعمان طلب شيئاً يغيظ به الحارث بعد قتل خالد وهربه، فقيل له: كان قصد الحيرة ونزل على عياض بن ديهث التميمي وهو صديق له، فبعث إليه النعمان فأخذ إبلاً له، فركب الحارث وأتى الحيرة متخفياً واستنقذ ماله من الرعاء، ورده عليه وطلب شيئاً يغيظ به النعمان، فرأى ابنه غضبان فضرب رأسه بالسيف فقتله، وبلغ النعمان الخبر فبعث في طلبه فلم يدرك، فقال الحارث في ذلك: أخصيي حمار بات يكدم نجمةً ... أتؤكل جاراتي وجارك سالم فإن تك أذواداً أصبت ونسوةً ... فهذا ابن سلمى رأسه متفاقم علوت بذي الحيّات مفرق رأسه ... ولا يركب المكروه إلاّ الأكارم فتكت بهن كما فتكت بخالدٍ ... وكان سلاحي تحتويه الجماجم بدأت بتلك وانثنيت بهذه ... وثالثة تبيضّ منها المقادم حسبت أبا قابوس أنك مخفري ... ولّما تذق ثكلاً وأنفك راغم
كذا قال بعضهم، وقيل: إن المقتول كان شرحبيل بن الأسود بن المنذر، وكان الأسود قد ترك ابنه شرحبيل عند سنان بن أبي حارثة المري ترضعه زوجته. فمن هناك كان لسنان مال كثير، وكان ابنه هرم يعطى منه، فجاء الحارث متخفياً فاستعار سرج سنان ولا يعلم سنان، ثم أتى امرأة سنان فقال: يقول بعلك ابعثي بشرحبيل ابن الملك مع الحارث بن ظالم حتى يستأمن به ويتخفر به وهذا سرجه علامة. فزينته ودفعته إليه، فأخذه وقتله وهرب. فغزا الأسود بني ذبيان وبني أسد بشط أربك فقتل فيهم قتلاً ذريعاً وسبى واستأصل الأموال وأقسم ليقتلن الحارث، فسار الحارث متخفياً إلى الحيرة ليفتك بالأسود، فبينما هو في منزله إذ سمع صارخةً تقول: أنا في جوار الحارث بن ظالم، وعرف حالها، وكان الأسود قد أخذ لها صرمةً من الإبل، فقال لها: انطلقي غداً إلى مكان كذا، وأتاه الحارث. فلما وردت إبل النعمان أخذ مالها فسلمه إليها وفيها ناقة تسمى اللقاع، فقال الحارث في ذلك: إذا سمعت حنّة اللقاع ... فادعي أبا ليلى فنعم الداعي يمشي بعضبٍ صارمٍ قطّاعٍ ... يفري به مجامع الصّداع ثم أقبل يطلب مجيراً فلم يجره أحد من الناس وقالوا: من يجيرك على هوازن والنعمان وقد قتلت ولده ؟ فأتى زرارة بن عدس وضمرة بن ضمرة فأجاراه على جميع الناس. خبر الحارث وعمرو بن الاطنابة. ثم إن عمرو بن الإطنابة الخزرجي لما بلغه قتل خالد بن جعفر، وكان صديقاً له، قال: والله لو وجده يقظان ما أقدم عليه، ولوددت أني لقيته. وبلغ الحارث قوله وقال: والله لآتينه في رحله ولا ألقاه إلا ومعه سلاحه، فبلغ ذلك ابن الإطنابة فقال أبياتاً، منها: أبلغ الحارث بن ظالمٍ المو ... عد والناذر النّذور عليّا إنّما تقتل النيام ولا تق ... تل يقظان ذا سلاح كميّا فبلغ الحارث شعره فسار إلى المدينة وسأل عن منزل ابن الإطنابة، فلما دنا منه نادى: يا ابن الإطنابة أغثني ! فأتاه عمرو فقال: من أنت ؟ قال: رجل من بني فلان خرجت أريد بني فلان فعرض لي قوم قريباً منك فأخذوا ما كان معي فاركب معي حتى نستنقذه. فركب معه ولبس سلاحه ومضى معه، فلما أبعد عن منزله عطف عليه وقال: أنائمٌ أنت أم يقظان ؟ فقال: يقظان. فقال: أنا أبو ليلى وسيفي المعلوب، فألقس ابن الإطنابة سيفه، وقيل: رمحه، وقال: قد أعجلتني فأمهلني حتى آخذ سيفي. فقال: خذه. قال: أخاف أن تعجلني عن أخذه. قال: لك ذمة ظالم لا أعجلك عن أخذه. قال: فوذمة الإطنابة لا آخذه ولا أقاتلك ! فانصرف الحارث وهو يقول أبياتاً، منها: بلغتنا مقالة المرء عمروٍ ... فالتقينا وكان ذاك بديا فهممنا بقتله إذ برزنا ... ووجدناه ذا سلاح كميّا غير ما نائمٍ يروّع بالفت ... ك ولكن مقلّداً مشرفيّا فمننّا عليه بعد علوّ ... بوفاء وكنت قدماً وفيّا ثم إن الحارث لما علم أن النعمان قد جد في طلبه وهوازن لا تقعد عن الطلب بثأر خالد خرج متنكراً إلى الشام واستجار بيزيد بن عمرو، فأكرمه وأجاره. وكان ليزيد ناقة محماة في عنقها مديةٌ وزناد وملح ليمتحن بذلك رعيته، فوحمت زوجة الحارث واشتهت شحمها ولحمها ورفع منه. وفقدت الناقة فطلبت فوجدت عقيرة بالوادي، فأرسل الملك إلى كاهن فسأله عنها، فذكر له أن الحارث نحرها، فأرسل امرأةً بطيب تشتري من لحمها من امرأة الحارث، فأدركها الحارث وقد اشترت اللحم فقتلها ودفنها في البيت. فسأل الملك الكاهن عن المرأة، فقال: قتلها من نحر الناقة، وإذا كرهت أن تفتش بيته فتأمر الرجل بالرحيل، فإذا رحل فتشت بيته. ففعل ذلك، فلما رحل الحارث فتش الكاهن بيته فوجد المرأة، وأحس بيته. ففعل ذلك، فلما رحل الحارث فتش الكاهن بيته فوجد المرأة، وأحس الحارث بالشر فعاد إلى الكاهن فقتله، فأخذ الحارث وأحضر عند الملك، فأمر بقتله، فقال: إنك قد أجرتني فلا تغدر بي. فقال: إن غدرت بك مرة واحدة فقد غدرت بي مراراً. فقتله. أيّام داحس والغبراء وهي بين عبس وذبيان
وكان سبب ذلك أن قيس بن زهير بن جذيمة العبسي سار إلى المدينة ليتجهز لقتال عامر والأخذ بثأر أبيه، فأتى أحيحة بن الجلاح يشتري منه درعاً موصوفةً. فقال له: لا أبيعها ولولا أن تذمني بنو عامر لوهبتها منك ولكن اشترها بابن لبون. ففعل ذلك وأخذ الدرع، وتسمى ذات الحواشي، ووهبه أحيحة أيضاً أدراعاً، وعاد إلى قومه وقد فرغ من جهازه. فاجتاز بالربيع بن زياد العبسي فدعاه إلى مساعدته على الأخذ بثأره فأجابه إلى ذلك. فلما أراد فراقه نظر الربيع إلى عيبته فقال: ما في حقيبتك ؟ قال: متاع عجيب لو أبصرته لراعك، وأناخ راحلته، فأخرج الدرع من الحقيبة، فأبصرها الربيع فأعجبته ولبسها، فكانت في طوله. فمنعها من قيس ولم يعطه إياها، وترددت الرسل بينهما في ذلك، ولج قيس في طلبها، ولج الربيع في منعها. فلما طالت الأيام على ذلك سير قيس أهله إلى مكة وأقام ينتظر غرة الربيع. ثم إن الربيع سير إبله وأمواله إلى مرعى كثير الكلإ وأمر أهله فظعنوا، وركب فرسه وسار إلى المنزل، فبلغ الخبر قيساً فسار في أهله وإخوته فعارض ظعائن الربيع وأخذ زمام أمه فاطمة بنت الخرشب وزمام زوجته. فقالت فاطمة أم الربيع: ما تريد يا قيس ؟ قال: أذهب بكن إلى مكة فأبيعكن بها بسبب درعي. قالت: وهيفي ضماني وخل عنا، ففعل. فلما جاءت إلى ابنها قالت له في معنى الدرع، فحلف أنهن لا يرد الدرع، فأرسلت إلى قيس أعلمته بما قال الربيع، فأغار على نعم الربيع فاستاق منها أربعمائة بعير وسار بها إلى مكة فباعها واشترى بها خيلاً، وتبعه الربيع فلم يلحقه، فكان فيما اشترى من الخيل داحس والغبراء. وقيل: إن داحساً كان من خيل بني يربوع، وإن أباه كان أخذ فرساً لرجل من بني ضبة يقال له انيف بن جبلة، وكان الفرس يسمى السبط، وكانت أم داحش لليربوعي، فطلب اليربوعي من الضبي أن ينزي فرسه على حجره فلم يفعل. فلما كان الليل عمد اليربوعي إلى فرس الضبي فأخذه فأنزاه على فرسه، فاستيقظ الضبي فلم ير فرسه فنادى في قومه، فأجابوه، وقد تعلق باليربوعي، فأخبرهم الخبر، فغضب ضبة من ذلك، فقال لهم: لا تعجلوا، دونكم نطفة فرسكم فخذوها. فقال القوم: قد أنصف. فسطا عليها رجل من القوم فدس يده في رحمها فأخذ ما فيها، فلم تزد الفرس إلا لقاحاً فنتجت مهراً فسمي داحساً بهذا السبب. فكان عند اليربوعي ابنان له، أغار قيس بن زهير على بني يربوع فنهب وسبى، ورأى الغلامين أحدهما على داحس والآخر على الغبراء فطلبهما فلم يلحقهما، فرجع وفي السبي أم الغلامين وأختان لهما وقد وقع داحس والغبراء في قلبه، وكان ذلك قبل أن يقع بيته وبين الربيع ما وقع. ثم جاء وفد بني يربوع في فداء الأسرى والسبي، فأطلق الجميع إلا أم الغلامين وأختيهما وقال: إن أتاني الغلامان بالمهر والفرس الغبراء وإلا فلا. فامتنع الغلامان من ذلك، فقال شيخ من بني يربوع كان أسيراً عند قيس، وبعث بها إلى الغلامين، وهي: إنّ مهراً فدى الرباب وجملاً ... وسعاداً لخير مهر أناس ادفعوا داحساً بهنّ سراعاً ... إنّها من فعالها الأكياس دونها والذي يحجّ له النا ... س سبايا يبعن بالأفراس إنّ قيساً يرى الجواد من الخي ... ل حياةً في متلف الأنفاس يشتري الطّرف بالجراجرة الج ... لّة يعطي عفواً بغير مكاس فلما انتهت الأبيات إلى بني يربوع قادوا الفرسين إلى قيس وأخذوا النساء. وقيل: إن قيساً أنزى داحساً على فرس له فجاءت بمهرة فسماها الغبراء. ثم إن قيساً أقام بمكة فكان أهلها يفاخرونه، وكان فخوراً، فقال لهم: نحوا كعبتكم عنا وحرمكم وهاتوا ما شئتم. فقال ل عبد الله بن جدعان: إذا لم نفاخرك بالبيت المعمور وبالحرم الآمن فيم نفاخرك ؟ فمل قيس مفاخرتهم وعزم على الرحلة عنهم، وسر ذلك قريشاً لأنهم قد كانوا كرهوا مفاخرته، فقال لإخوته: ارحلوا بنا من عندهم أولاً وإلا تفاقم الشر بيننا وبينهم، والحقوا ببني بدر فإنهم أكفاؤنا في الحسب، وبنو عمنا في النسب، وأشراف قومنا في الكرم، ومن لا يستطيع الربيع أن يتناولنا معهم. فلحق قيس وإخوته ببني بدر، وقال في مسيره إليهم: أسير إلى بني بدرٍ بأمرٍ ... هم فيه علينا بالخيار
فإن قبلوا الجوار فخير قومٍ ... وإن كرهوا الجوار فغير عار أتينا الحارث الخير بن كعب ... بنجران وأي لجا بجار فجاورنا الذين إذا أتاهم ... غريبٌ حلّ في سعة القرار فيأمن فيهم ويكون منهم ... بمنزلة الشّعار من الدّثار وإن نفرد بحرب بني أبينا ... بلا جار فإنّ الله جاري ثم نزل ببني بدر فنزل بحذيفة، فأجاره هو وأخوه حمل بن بدر، وأقام فيهم، وكان معه أفراس له ولإخوته لم يكن في العرب مثلها، وكان حذيفة يغدو ويروح إلى قيس فينظر إلى خيله فيحسده عليها ويكتم ذلك في نفسه، وأقام قيس فيهم زماناً يكرمونه وإخوته، فغضب الربيع ونقم ذلك عليهم وبعث إليهم بهذه الأبيات: ألا أبلغ بني بدرٍ رسولاً ... على ما كان من شنإ ووتر بأنّي لم أزل لكم صديقاً ... أدافع عن فزارة كلّ أمر أسالم سلمكم وأردّ عنكم ... فوارس أهل نجران وحجر وكان أبي ابن عمّكم زياد ... صفيّ أبيكم بدر بن عمرو فألجأتم أخا الغدرات قيساً ... فقد أفعمتم إيغار صدري فحسبي من حذيفة ضمّ قيس ... وكان البدء من حمل بن بدر فإمّا ترجعوا أرجع إليكم ... وإن تأبوا فقد أوسعت عذري فلم يتغيروا عن جوار قيس. فغضب الربيع وغضبت عبس لغضبه، ثم إن حذيفة كره قيساً وأراد إخراجه عنهم فلم يجد حجةً، وعزم قيس على العمرة فقال لأصحابه: إني قد عزمت على العمرة فإياكم أن تلابسوا حذيفة بشيء، واحتملوا كل ما يكون منه حتى أرجع فإني قد عرفت الشر في وجهه وليس يقدر على حاجته منكم إلا أن تراهنون على الخيل. وكان ذا رأي لا يخطئ في ما يريده، وسار إلى مكة. ثم إن فتىً من عبس يقال له ورد ابن مالك أتى حذيفة فجلس إليه، فقال له ورد: لو اتخذت من خيل قيس فحلاً يكون أصلاً لخيلك. فقال حذيفة: خيلي خير من خيل قيس، ولجا في ذلك إلى أن تراهنا على فرسين من خيل قيس وفرسين من خيل حذيفة، والرهن عشرة أذواد. وسار ورد فقدم على قيس بمكة فأعلمه الحال، فقال له: أراك قد أوقعتني في بني بدر ووقعت معي وحذيفة ظلوم لا تطيب نفسه بحق ونحن لا نقر له بضيمٍ. ورجع قيس من العمرة، فجمع قومه وركب إلى حذيفة وسأله أن يفكر الرهن، فلم يفعل. فسأله جماعة فزارة وعبس فلم يجب إلى ذلك، وقال: إن أقرقيس أن السبق لي وإلا فلا، فقال أبو جعدة الفزاري: آل بدرٍ دعوا الرّهان فإنّا ... قد مللنا اللجاج عند الرهان ودعوا المرء في فزارة جاراً ... إنّ ما غاب عنكم كالعيان ليت شعري عن هاشم وحصين ... وابن عوف وحارث وسنان حين يأتيهم لجاجك قيساً ... رأي صاحٍ أتيت أم نشوان وسأل حذيفة إخوته وسادات أصحابه في ترك الرهان ولج فيه، وقال قيس: علام تراهنني ؟ قال: على فرسيك داحس والغبراء وفرسي الخطار والحنفاء، وقيل: كان الرهن على فرسي داحس والغبراء. قال قيس: داحس أسرع. وقال حذيفة: الغبراء أسرع، وقال لقيس: أريد أن أعلمك أن بصري بالخيل أثقب من بصرك؛ والأول أصح. فقال له قيس: نفس في الغاية وارفع في السبق. فقال حذيفة: الغاية من أبلى إلى ذات الإصاد، وهو قدر مائة وعشرين غلوةً، والسبق مائة بعير، وضمروا الخيل. فلما فرغوا قادوا الخيل إلى الغاية وحشدوا ولبسوا السلاح وتركوا السبق على يد عقال ابن مروان بن الحكم القيسي وأعدوا الأمناء على إرسال الخيل. وأقام حذيفة رجلاً من بني أسد في الطريق وأمره أن يلقى داحساً في وادي ذات الإصاد إن مر به سابقاً فيرمي به إلى أسفل الوادي.
فلما أرسلت الخيل سبقها داحس سبقاً بيناً والناس ينظرون إليه وقيس وحذيفة على رأس الغاية في جميع قومهما. فلما هبط داحس في الوادي عارضه الأسدي فلطم وجهه فألقاه في الماء، فكاد يغرق هو وراكبه ولم يخرج إلا وقد فاتته الخيل. وأما راكب الغبراء فإنه خالف طريق داحس لما رآه قد أبطأ وعاد إلى الطريق واجتمع مع فرسي حذيفة، ثم سقطت الحنفاء وبقي الغبراء والخطار، فكانا إذا أحزنا سبق الخطار وإذا أسهلا سبقت الغبراء. فلما قربا من الناس وهما في وعث من الأرض تقدم الخطار، فقال حذيفة: سبقك يا قيس. فقال: رويدك يعلون الجدد؛ فذهبت مثلاً. فلما استوت بهما الأرض قال حذيفة: خدع والله صاحبنا. فقال قيس: ترك الخداع من أجرى من مائة وعشرين؛ فذهبت مثلاً. ثم إن الغبراء جاءت سابقة وتبعها الخطار فرس حذيفة، ثم الحنفاء له أيضاً، ثم جاء داحس بعد ذلك والغلام يسير به على رسله، فأخبر الغلام فيساً بما صنع بفرسه، فأنكر حذيفة ذلك وادعى السبق ظالماً، وقال: جاء فرساي متتابعين، ومضى قيس وأصحابه حتى نظروا إلى القوم الذين حبسوا داحساً واختلفوا. وبلغ الربيع بن زياد خبرهم فسره ذلك وقال لأصحابه: هلك والله قيس، وكأني به إن لم يقتله حذيفة وقد أتاكم يطلب منكم الجوار، أما والله لئن فعل ما لنا من ضمه من بد. ثم إن الأسدي ندم على حبس داحس فجاء إلى قيس واعترف بما صنع، فسبه حذيفة. ثم إن بني بدر قصروا بقيس وإخوته وآذوهم بالكلام، فعاتبهم قيس، فلم يزدادوا إلا بغياً عليه وإيذاءً له. ثم إن قيساً وحذيفة تناكرا في السبق حتى هما بالمؤاخذة، فمنعهما الناس، وظهر لهم بغي حذيفة وظلمه، ولج في طلب السبق، فأرسل ابنه ندبة إلى قيس يطالبه به، فلما أبلغه الرسالة طعنه فقتله وعادت فرسه إلى أبيه ونادى قيس: يا بني عبس الرحيل ؟! فرحلوا كلهم، ولما أتت الفرس حذيفة علم أن ولده قتل، فصاح في الناس وركب في من معه وأتى منازل بني عبس فرآها خاليةً ورأى ابنه قتيلاً، فنزل إليه وقبل بين عينيه ودفنوه. وكان مالك بن زهير أخو قيس متزوجاً في فزارة وهو نازلٌ فيهم، فأرسل إليه قيس: أني قد قتلت ندبة بن حذيفة ورحلت فالحق بنا وإلا قتلت. فقال: إنما ذنب قيس عيه، ولم يرحل، فأرسل قيس إلى الربيع ابن زياد يطلب منه العود إليه والمقام معه إذ هم عشيرة وأهل، فلم يجبه ولم يمنعه، وكان مفكراً في ذلك. ثم إن بني بدر قتلوا مالك بن زهير أخا قيس، وكان نازلاً فيهم، فبلغ مقتله بني عبس والربيع بن زياد، فاشتد ذلك عليهم، وأرسل الربيع إلى قيس عيناً يأتيه بخبره، فسمعه يقول: أينجو بنو بدرٍ بمقتل مالك ... ويخذلنا في النائبات ربيع وكان زيادق قبله يتّقى به ... من الدهر إن يومٌ ألمّ فظيع فقل لربيعً يحتذي فعل شيخه ... وما النّاس إلاّ حافظٌ ومضيع وإلاّ فما لي في البلاد إقامةٌ ... وأمر بني بدرٍ عليّ جميع فرجع الرجل إلى الربيع فأخبره، فبكى الربيع على مالك وقال: منع الرّقاد فما أغمّض ساعةً ... جزعاً من الخبر العظيم الساري أفبعد مقتل مالك بن زهير ... يرجو النساء عواقب الأطهار من كان مسروراً بمقتل مالكٍ ... فليأت نسوتنا بوجه نهار يجد النساء حواسراً يندبنه ... ويقمن قبل تبلّج الأسحار يضربن حرّ وجوههنّ على فتىً ... ضخم الدسيعة غير ما خوّار قد كنّ يكننّ الوجوه تستّراً ... فاليوم حين برزن للنظّار وهي طويلة.
فسمعها قيس فركب هو وأهله وقصدوا الربيع بن زياد وهو يصلح سلاحه، فنزل إليه قيس وقام الربيع فاتنقا وبكيا وأظهرا الجزع لمصاب مالك، ولقي القوم بعضهم بعضاً فنزلوا. فقال قيس للربيع: إنه لم يهرب منك من لجأ إليه، ولم يستغن عنك من استعان بك، وقد كان لك شر يومي فليكن لي خير يوميك، وإنما أنا بقومي وقومي بك وقد أصاب القوم مالكاً، ولست أهم بسوء لأني إن حاربت بني بدر نصرتهم بنو ذبيان، وإن حاربتني خذلني بنو عبس إلا أن تجمعهم علي، وأنا والقوم في الدماء سواءٌ، قتلت ابنهم وقتلوا أخي، فإن نصرتني طمعت فيهم، وإن خذلتني طمعوا في. فقال الربيع: يا قيس إنه لا ينفعني أن أرى لك من الفضل ما لا أراه لي، ولا ينفعك أن ترى لي ما لا أراه لك، وقد مال علي قتل مالك وأنت ظالم ومظلوم، ظلموك في جوادك وظلمتهم في دمائهم، وقتلوا أخاك بابنهم، فإن يبؤ الدم بالدم فعسى أن تلقح الحرب أقم معك، وأحب الأمرين إلي مسالمتهم ونخلو بحرب هوازن. وبعث قيس إلى أهله وأصحابه، فجاؤوا ونزلوا مع الربيع، وأنشدهم عنترة بن شداد مرثيته في مالك: فلله عينا من رأى مثل مالكٍ ... عقيرة قومٍ أن جرى فرسان فليتهما لم يطعما الدهر بعدها ... وليتهما لم يجمعا لرهان وليتهما ماتا جميعاً ببلدةٍ ... وأخطاهما قيسٌ فلا يريان لقد جلبا جلباً لمصرع مالكٍ ... وكان كريماً ماجداً لهجان وكان إذا ما كان يوم كريهةٍ ... فقد علموا أنّي وهو فتيان وكنّا لدى الهيجاء نحمي نساءنا ... ونضرب عند الكرب كلّ بنان فسوف ترى إن كنت بعدك باقياً ... وأمكنني دهري وطول زماني فأقسم حقّاً لو بقيت لنظرة ... لقرّت بها عيناك حين تراني وبلغ حذيفة أن الربيع وقيساً اتفقا، فشق ذلك عليه واستعد للبلاء. وقيل: إن بلاد عبس كانت قد أجدبت فانتجع أهلها بلاد فزارة، وأخذ الربيع جواراً من حذيفة وأقام عندهم. فلما بلغه مقتل مالك قال لحذيفة: لي ذمتي ثلاثة أيام. فقال حذيفة: ذلك لك. فانتقل الربيع من بني فزارة. فبلغ ذلك حمل بن بدر فقال لحذيفة أخيه: بئس الرأي رأيت ! قتلت مالكاً وخلّيت سبيل الربيع ! والله ليضرمنها عليك ناراً ! فركبا في طلب الربيع، ففاتهما، فعلما أنه قد أضمر الشر. واتفق الربيع وقيس، وجمع حذيفة قومه وتعاقدوا على عبس، وجمع الربيع وقيس قومهما واستعدوا للحرب، فأغارت فزارة على بني عبس فأصابوا نعماً ورجالاً، فحميت عبس واجتمعت للغارة، فنذرت بهم فزارة. فخرجوا إليهم فالتقوا على ماء يقال له العذق، وهي أول وقعة كانت بينهم، فاقتتلوا قتالاً شديداً، وقتل عوف بن يزيد، قتله جندب بن خلف العبسي. وانهزمت فزارة وقتلوا قتلاً ذريعاً، وأسر الربيع بن زياد حذيفة ابن بدر، وكان حر بن الحارث العبسي قد نذر إن قدر على حذيفة أن يضربه بالسيف، وله سيف قاطع يسمى الأصرم، فأراد ضربه بالسيف لما أسر وفاء بنذره، فأرسل الربيع إلى امرأته فغيبت سيفه ونهوه عن قتله وحذروه عاقبة ذلك، فأبى إلا ضربه، فوضعوا عليه الرجال، فضربه، فلم يصنع السيف شيئاً وبقي حذيفة أسيراً. فاجتمعت غطفان وسعوا في الصلح، فاصطلحوا على أن يهدروا بدر بن حذيفة بدم مالك بن زهير، ويعقلوا عوف بن بدر، ويعطوا حذيفة عن ضربته التي ضربه حر مائتين من الإبل، وأن يجعلوها عشاراً كلها، وأربعة أعبدٍ، وأهدر حذيفة دماء من قتل من فزارة في الوقعة وأطلق من الأسر. فلما رجع إلى قومه ندم على ذلك وساءت مقالته في بني عبس، وركب قيس بن زهير وعمارة بن زياد فمضيا إلى حذيفة وتحدثا معه. فأجابهما إلى الاتفاق وأن يرد عليهما الإبل التي أخذ منهما، وكانت توالدت عنده. فبيناهم في ذلك إذ جاءهم سنان بن أبي حراثة المري فقبح رأي حذيفة في الصلح وقال: إن كنت لا بد فاعلاً فأعطهم إبلاً عجافاً مكان إبلهم واحبس أولادها. فوافق ذلك رأي حذيفة، فأبى قيس وعمارة ذلك. وقيل: إن الابل التي طلبوها منه هي إبل كان قد أخذها سبقاً من قيس. وقيل أيضاً: إن مالك بن زهير قتل بعد هذه الوقعة المذكورة؛ قال حميد ابن بدر في ذلك: قتلنا بعوفٍ مالكاً وهو ثأرنا ... ومن يبتدع شيئاً سوى الحقّ يظلم
وجعل سنان يحث حذيفة على الحرب، فتيسروا لها. ثم إن الأنصار بلغهم ما عزموا عليه، فاتفق جماعةٌ من رؤسائهم، وهم: عمرو بن الإطنابة، ومالك بن عجلان، وأحيحة بن الجلام، وقيس ابن الخطيم، وغيرهم، وساروا ليصلحوا بينهم، فوصلوا إليهم وترددوا في الاتفاق، فلم يجب حذيفة إلى ذلك وظهر لهم بغيه، فحذروه عاقبته وعادوا عنه. وأغار حذيفة على عبس، وأغارت عبس على فزارة، وتفاقم الشر، وأرسل حذيفة أخاه حملاً فأغار وأسر ريان بن الأسلع بن سفيان وشده وثاقاً وحمله إلى حذيفة فأطلقه ليرهنه ابنيه وجبير ابن أخيه عمرو بن الأسلع، ففعل ريان ذلك، ثم سار قيس إلى فزارة فلقي منهم جمعاً فيهم مالك بن بدر، فقتله قيس وانهزمت فزارة، فأخذ حينئذ حذيفة ولدي ريان فقتلهما وهما يستغيثان: يا أبتاه ! حتى ماتا، وأما ابن أخيه فمنعه أخواله. ولما قتل مالك والغلامان اشتدت الحرب بين الفريقين وأكثرها في فزارة ومن معها. ففي بعض الأيام التقوا واقتتلوا قتالاً شديداً ودامت الحرب بينهم إلى آخر النهار، وأبصر ريان بن الأسلع زيد بن حذيفة فحمل عليه فقتله، وانهزمت فزارة وذبيان، وأدرك الحارث بن بدر فقتل، ورجعت عبس سالمةً لم يصب منها أحدٌ. فلما قتل زيد والحارث جمع حذيفة جميع بني ذبيان وبعث إلى أشجع وأسد بن خزيمة فجمعهم، فبلغ ذلك بني عبس فضموا أطرافهم، وأشار قيس بن زهير بالسبق إلى ماء العقيقة، ففعلوا ذلك، وسار حذيفة في جموعه إلى عبس، ومشى السفراء بينهم، فحلف حذيفة: أنه لا يصلح حتى يشرب من ماء العقيقة. فأرسل إليه قيس منه في سقاء وقال: لا أترك حذيفة يخدعني. واصطلحوا على أن تعطي بنو عبس حذيفة ديات من قتل له، ووضعوا الرهائن عدنه إلى أن يجمعوا الديات، وهي عشر، وكانت الرهائن ابناً لقيس بن زهير، وابناً للربيع بن زياد، فوضعوا أحدهما عند قطبة بن سنان والآخر عند رجل من بكر بن وائل أعمى. فعير بعض الناس حذيفة بقبول الدية، فحضر هو وأخوه حمل عند قطبة بن سنان والبكري وقالا: ادفعا إلينا الغلامين لنكسوهما ونسرحهما إلى أهلهما. فأما قطبة فدفع إليهما الغلام الذي عنده، وهو ابن قيس، وأما البكري فامتنع من تسليم من عنده، فلما أخذا ابن قيس عادا فلقيا في الطريق ابناً لعمارة بن زياد العبسي وابن عم له، فأخذاهما وقتلاهما مع ابن قيس. فلما بلغ ذلك بني عبس أخذوا ما كانوا جمعوا من الديات، فحملوا عليه الرجال واشتروا السلاح، ثم خرج قيس في جماعة فلقوا ابناً لحذيفة ومعه فوارس من ذبيان فقتلوهم. فجمع حذيفة وسار إلى عبس، وهم على ماء يقال له عراعر، فاقتتلوا،فكان الظفر لفزارة ورجعت سالمةً. وجد حذيفة في الحرب وكرهها أخوه حمل وندم على ما كان، وقال لأخيه في الصلح فلم يجب إلى ذلك، وجمع الجموع من أسد وذبيان وسائر بطون غطفان وسار نحو بني عبس، فاجتمعت عبس وتشاوروا في أمرهم، فقال لهم قيس بن زهير: إنه قد جاءكم ما لا قبل لكم به وليس لبني بدر إلا دماؤكم والزيادة عليكم، وأما من سواهم فلا يريدون غير الأموال والغنيمة، والرأي أننا نترك الأموال بمكانها ونترك معها فارسين على داحس وعلى فرس آخر جوادٍ ونرحل نحن ونكون على مرحلة من الماء، فإذا جاء القوم إلى الأموال سار إلينا الفارسان فأعلمانا وصولهم، فإن القوم يشتغلون بالنهب وحيازة الأموال، وإن نهاهم ذوو الرأي عن ذلك فإن العامة تخالفهم وتنتقض تعبيتهم ويشتغل كل إنسان بحفظ ما غنم ويعلقون أسلحتهم على ظهور الإبل ويأمنون. فنعود نحن إليهم عند وصول الفارسين فندركهم وهم على حال تفرق وتشتتٍ فلا يكون لأحدهم همة إلا نفسه.
ففعلوا ذلك وجاء حذيفة ومن معه فاشتغلوا بالنهب، فنهاهم حذيفة وغيرهم فلم يقبلوا منه، وكانوا على الحال التي وصف قيس. وعادت بنو عبس وقد تفرقت أسد وغيرهم، وبقي بنو فزارة في آخر الناس، فحملوا عليهم من جوانبهم فقتل مالك بن سبيع التغلبي سيد غطفان، وانهزمت فزارة وحذيفة معهم وانفرد في خمسة فوارس وجد في الهرب. وبلغ خبره بني عبس، فتبعه قيس بن زهير والربيع بن زياد وقرواش بن عمرو بن الأسلع وريان بن الأسلع الذي قتل حذيفة ابنيه، وتبعوا أثرهم في الليل، وقال قيس: كأني بالقوم وقد وردوا جفر الهباءة ونزلوا فيه، فساروا ليلتهم كلها حتى أدركوهم مع طلوع الشمس في جفر الهباءة في الماء، وقد أرسلوا خيولهم فأخذوا بجمعها، فمحال قيس وأصحابه بينهم وبينها، وكان مع حذيفة في الجفر أخوه حمل بن بدر وابنه حصن بن حذيفة وغيرهم. فهجم عليهم قيس والربيع ومن معهما وهم ينادون: لبيكم لبيكم ! يعني أنهم يجيبون نداء الصبيان لما قتلوا ينادون: يا أبتاه ! فقال لهم قيس: يا بني بكر كيف رأيتم عاقبة البغي ؟ فناشدوهم الله الرحم، فلم يقبلوا منهم. ودار قرواش ابن عمرو حتى وقف خلف ظهر حذيفة فضربه فدق صلبه، وكان قرواش قد رباه حذيفة حتى كبر عنده في بيته، وقتلوا حملاً أخاه وقطعوا رأسيهما واستبقوا حصن بن حذيفة لصباه. وكان عدد من ؟ قتل في هذه الوقعة من فزارة وأسد وغطفان ما يزيد على أربعمائة قتيل، وقتل من عبس ما يزيد على عشرين قتيلاً، وكانت فزارة تسمي هذه الوقعة البوار؛ وقال قيس ابن زهير: أقام على الهباءة خير ميتٍ ... وأكرمه حذيفة لا يريم لقد فجعت به قيسٌ جميعاً ... موالي القوم والقوم الصميم وعمّ به لمقتله بعيدٌ ... وخصّ به لمقتله حميم وهي طويلة؛ وقال أيضاً: ألم تر أنّ خير الناس أمسى ... على جفر الهباءة لا يريم فلولا ظلمه ما زلت أبكي ... عليه الدهر ما طلع النجوم ولكنّ الفتى حمل بن بدر ... بغى والبغي مرتعه وخيم وأكثروا القول في يوم الهباءة. ثم إن عبساً ندمت على ما فعلت يوم الهباءة، ولام بعضهم بعضاً، فاجتمعت فزارة إلى سنان بن أبي حارثة المري وشكوا إليه ما نزل بهم، فأعظمه وذم عبساً وعزم على أن يجمع العرب ويأخذ بثأر بني بدر وفزارة، وبث رسهل. فاجتمع من العرب خلقٌ كثير لا يحصون، ونهى أصحابه عن التعرض إلى الموال والغنيمة وأمرهم بالصبر، وساروا إلى بني عبس. فلما بلغهم مسيرهم إليهم قال قيس: الرأي أننا لا نلقاهم، فإننا قد وترناهم فهم يطالبوننا بالذخول والطوائل، وقد رأوا ما نالهم بالأمس باشتغالهم بالنهب والمال فهم لا يتعرضون إليه الآن، والذي ينبغي أن نفعله أننا نرسل الظعائن والأموال إلى بني عامر، فإن الدم لنا قبلهم فهم لا يتعرضون لكم ويبقى أولو القوة والجلد على ظهور الخيل ونماطلهم القتال، فإن أبوا إلا القتال كنا قد أحرزنا أهلينا وأموالنا وقاتلناهم وصبرنا لهم، فإن ظفرنا فهو الذي نريد، وإن كانت الأخرى كنا قد احترزنا ولحقنا بأموالنا ونحن على حامية. ففعلوا ذلك.
يوم ذات الجراجر وسارت ذبيان ومن معها فلحقوا بني عبس على ذات الجراجر فاقتتلوا قتالاً شديداً يومهم ذلك وافترقوا. فلما كان الغد عادوا إلى اللقاء فاقتتلوا أشد من اليوم الأول، وظهرت في هذه الأيام شجاعة عنترة ابن شداد. فلما رأى الناس شدة القتال وكثرة القتلى لاموا سنان بن أبي حارثة على منعه حذيفة عن الصلح وتطيروا منه وأشاروا عليه بحقن الدماء ومراجعة السلم، فلم يفعل وأراد مراجعة الحرب في اليوم الثالث. فلما رأى فتور أصحابه وركونهم إلى السلم رحل عائداً. فلما عاد عنهم رحل قيس وبنو عبس إلى بني شيبان بن بكر وجاوروهم وبقوا معهم مدةً، فرأى قيس من غلمان شيبان ما يكرهه من التعرض لأخذ أموالهم فرحلوا عنهم، فتبعهم جمع من شيبان، فلقيتهم بنو عبس واقتتلوا، فانهزمت شيبان وسارت عبس إلى هجر ليحالفوا ملكهم، وهو معاوية بن الحارث الكندي، فعزم معاوية على الغارة عليهم ليلاً، فبلغهم الخبر فساروا عنه مجدين، وسار معاوية مجداً في اثرهم، فتاه بهم الدليل على عمد لئلا يدركوا عبساً إلا وهم قد لحقهم ودوابهم النصب، فأدركوهم بالفروق فاقتتلوا قتالاً شديداً، فانهزم معاوية وأهل هجر وتبعتهم عبس فأخذت من أموالهم وقتلوا منهم ما أرادوا ورجعوا سائرين فنزلوا بماء يقال له عراعر عليه حي | |
|
| |
الشيخ عودة الشيخ عودة
عدد المساهمات : 1748 تاريخ التسجيل : 28/09/2008 العمر : 74
| موضوع: رد: كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير الخميس فبراير 06, 2014 8:48 am | |
| وقيل: إن قيساً تزوج في النمير بن قاسط لما عادت عبس إلى ذبيان، وولد له ولد اسمه فضالة، فقدم على النبي، صلى الله عليه وسلم، وعقد له على من معه من قومه، وكانوا تسعة وهو عاشرهم. انقضى حرب داحس والغبراء، والحمد لله. يوم شعب جبلةكان لقيط بن زرارة قد عزم على غزو بني عامر بن صعصعة للأخذ بثأر أخيه معبد بن زرارة، وقد ذكرنا موته عندهم أسيراً. فبينما هو يتجهز أتاه الخبر يحلف بني عبس وبني عامر، فلم يطمع في القوم وأرسل إلى كل من كان بيته وبين عبس ذحل يسأله الحلف والتظافر على غزو عبس وعامر. فاجتمعت إليه أسد وغطفان وعمرو بن الجون ومعاوية بن الجون واستوثقوا واستكثروا وساروا، فعقد معاوية بن الجون الألوية، فكان بنو أسد وبنو فزارة بلواء مع معاوية بن الجون، وعقد لعمرو بن تميم مع حاجب بن زرارة، وعقد للرباب مع حسان بن همام، وعقد لجماعة من بطون تميم مع عمرو ابن عدس، وعقد لحنظلة بأسرها ع لقيط بن زرارة، وكان مع لقيط ابنته دخنتوس، وكان يغزو بها معه ويرجع إلى رأيها. وساروا في جمع عظيم لا يشكون في قتل عبس وعامر وإدراك ثأرهم، فلقي لقيط في طريقه كرب بن صفوان بن الحباب السعدي، وكان شريفاً، فقال: ما منعك أن تسير معنا في غزاتنا ؟ قال: أنا مشغول في طلب إبل لي. قال: لا بل تريد أن تنذر بنا القوم، ولا أتركك حتى تحلف أنك لا تخبرهم، فحلف له، ثم سار عنه وهو مغضب. فلما دنا من عامر أخذ خرقة فصر فيها حنظلةً وشوكاً وتراباً وخرقتين يمانيتين وخرقة حمراء وعشرة أحجار سود ثم رمى بها حيث يسقون ولم يتكلم. فأخذها معاوية بن قشير، فأتى بها الأحوص بن جعفر وأخبره أن رجلاً ألقاها وهم يسقون. فقال الأحوص لقيس بن زهير العبسي: ما ترى في هذا الأمر ؟ قال: هذا من صنع الله لنا، هذا رجل قد أخذ عليه عهدٌ على أن لا يكلمكم فأخبركم أن أعداءكم قد غزوكم عدد التراب، وأن شوكتهم شديدة، وأما الحنظلة فهي رؤساء القوم، وأما الخرقتان اليمانيتان فهما حيان من اليمن معهم، وأما الخرقة الحمراء فهي حاجب بن زرارة، وأما الأحجار فهي عشر ليال يأتيكم القوم إليها، قد أنذرتكم فكونوا أحراراً فاصبروا كما يصبر الأحرار الكرام. قال الأحوص: فإنا فاعلون وآخذون برأيك، فإنه لم تنزل بك شدة إلا رأيت المخرج منها. قال: فإذا قد رجعتم إلى رأيي فأدخلوا نعمكم شعب جبلة ثم اظمئوها هذه الأيام ولا توردوها الماء، فإذا جاء القوم أخرجوا عليهم الإبل وانخسوها بالسيوف والرماح فتخرج مذاعير عطاشاً فتشغلهم وتفرق جمعهم واخرجوا أنتم في آثارها واشفوا نفوسكم. ففعلوا ما أشار به. وعاد كرب بن صفوان فلقي لقيطاً فقال له: أنذرت القوم ؟ فأعاد الحلف له أنه لم يكلم أحداً منهم، فخلى عنه. فقالت دخنتوس ابنة لقيط لأبيها: ردني إلى أهلي ولا تعرضني لعبس وعامر فقد أنذرهم لا محالة. فاستحمقها وساءه كلامها وردها. وسار حتى نزل على فم الشعب بعساكر جرارة كثيرة الصواهل وليس لهم هم إلا الماء، فقصدوه. فقال لهم قيس: أخرجوا عليهم الآن الإبل، ففعلوا ذلك، فخرجت الإبل مذاعير عطاشاً وهم في أعراضها وأدبارها، فخبطت تميماً ومن معها وقطعتهم، وكانوا في الشعب، وأبرزتهم إلى الصحراء على غير تعبية. وشغلوا عن الاجتماع إلى ألويتهم، وحملت عيهم عبس وعامر فاقتتلوا قتالاً شديداً وكثرت القتلى في تميم، وكان أول من قتل من رؤسائهم عمرو بن الجون، وأسر معاوية بن الجون وعمرو بن عمرو بن عدس زوج دخنتوس بنت لقيط، وأسر حاجب ابن زرارة، وانحاز لقيط بن زرارة، فدعا قومه وقد تفرقوا عنه، فاجتمع إليه نفر يسير، فتحرز برايته فوق جرف ثم حمل فقتل فيهم ورجع وصاح: أنا لقيط، وحمل ثانيةً فقتل وجرح وعاد، فكثر جمعه، فانحط الجرف بفرسه، وحمل عليه عنترة فطعنه طعنة قصم بها صلبه، وضربه قيس بالسيف فألقاه متشحطاً في دمه، فذكر ابنته دخنتوس فقال: يا ليت شعري عنك دخنتوس ... إذا أتاها الخبر المرموس أتحلق القرون أم تميس ... لا بل تمس إنّها عروس ثم مات وتمت الهزيمة على تميم وغطفان، ثم فدوا حاجباً بخمسمائة من الإبل، وفدوا عمرو بن عمرو بمائتين من الإبل، وعاد من سلم إلى أهله. وقالت دختنوس ترثي أباها قصائد، منها: عثر الأغرّ بخير خن ... دف كهلها وشبابها
وأضرّها لعدوّها ... وأفكّها لرقابها وقريعها ونجيبها ... في المطبقات ونابها ورئيسها عند الملو ... ك وزين يوم خطابها وأتّمها نسباً إذا ... رجعت إلى أنسابها فرعى عموداً للعشي ... رة رافعاً لنصابها ويعولها ويحوطها ... ويذبّ عن أحسابها ويطا مواطن للعد ... وّ فكان لا يمشى بها فعل المدلّ من الأسو ... د لحينها وتبابها كالكوكب الدّرّيّ في ... سماء لا يخفى بها عبث الأغرّ به وك ... لّ منيّة لكتابها فرّت بنو أسد فرا ... ر الطير عن أربابها وهوازنٌ أصحابهم ... كالفأر في أذنابها وذكر محمد بن إسحاق في يوم جبلة غير ما ذكرنا، قال: كان سببه أن بني خندف كان لهم على قيس أكلٌ تأكله القعدد من خندف، فكان ينتقل فيهم حتى انتهى إلى تميم، ثم من تميم إلى بني عمرو بن تميم، وهم أقل بطن منهم وأذله، فأبت قيس أن تعطي الأكل وامتنعت منه، فجمعت تميم وحالفت غيرها من العرب وساروا إلى قيس، فذكر القصة نحو ما تقدم وخالف في البعض فلا حاجة إلى ذكره. وفي هذا اليوم ولد عامر بن الطفيل العامري. وقد قال بعض العلماء إن المجوسية كان يدين بها بعض العرب بالبحرين، وكان زرارة عدس وابناه حاجب ولقيط والأقرع بن حابس وغيرهم مجوساً، وإن لقيطاً تزوج ابنته دختنوس وسماها بهذا الاسم الفارسي، وإنه قتل وهي تحته، فقال في ذلك: يا ليت شعري عنك دختنوس الأبيات. والأول أصح، والله أعلم. يوم ذات نكيفكان بنو بكر بن عبد مناة بن كنانة مبغضين لقريش مضطغنين عليهم ما كان من قصي حين أخرجهم من مكة مع من أخرج من خزاعة حين قسمها رباعاً وخططاً بين قريش. فلما كانوا على عهد عبد المطلب هموا بإخراج قريش من الحرم وأن يقاتلوهم حتى يغلبوهم عليه، وعدت بنو بكر على نعمٍ لبني الهون بن خزيمة فاطردوها، ثم جمعوا جموعهم وجمعت قريش جموعهم واستعدت، وعقد عبد المطلب الحلف بين قريش والأحابيش، وهم بنو الحارث بن عبد مناة وبنو الهون بن خزيمة بن مدركة وبنو المصطلق من خزاعة، فلقوا بني بكر ومن انضم إليهم، وعلى الناس عبد المطلب، فاقتتلوا بذات نكيف، فانهزم بنو بكر وقتلوا قتلاً ذريعاً، فلم يعودوا لحرب قريش، قال ابن شعلة الفهري: فللّه عينا من رأى من عصابة ... غوت غيّ بكر يوم ذات نكيف أناخوا إلى أبياتنا ونسائنا ... فكانوا لنا ضيفاً بشرّ مضيف فقتل يومئذ عبد بن السفاح القاري من القارة قتادة بن قيس أخا بلعاء ابن قيس، واسم بلعاء مساحق. ويومئذ قيل: قد أنصف القارة من راماها؛ والقارة من ولد الهون بن خزيمة، وهو من ولد عضل بن الدّيش؛ قال رجل منهم: دعونا قارةً لا تنفرونا ... فنجفل مثل إجفال الظليم وقيل: بهذا البيت سموا قارةً، وكان يقال للقارة رماة الحدق. ذكر الفجار الأول والثانيأما الفجار الأول فلم يكن فيه كثير أمرٍ ليذكر، وإنما ذكرناه لئلا يرى ذكر الفجار الثاني وما كان فيه من الأمور العظيمة فيظن أن الأول مثله وقد أهملناه، فلهذا ذكرناه. قال ابن إسحاق: كان الفجار الأول بين قريش ومن معها من كنانة كلها وبين قيس عيلان. وسببه أن رجلاً من كنانة كان عليه دين لرجل من بني نصر بن معاوية بن بكر بن هوازن، فأعدم الكناني، فوافى النصري سوق عكاظ بقرد وقال: من يبيعني مثل هذا بما لي على فلان الكناني ؟ فعل ذلك تعييراً للكناني وقومه؛ فمر به رجلٌ من كنانة فضرب القرد بالسيف فقتله أنفةً مما قال النصري، فصرخ النصري في قيس، وصرخ الكناني في كنانة، فاجتمع الناس وتحاوروا حتى كاد يكون بينهم القتال ثم اصطلحوا.
وقيل: كان سببه أن فتيةً من قريش قعدوا إلى امرأة من بني عامر وهي وضيئة عيها برقع، فقالوا لها: اسفري لننظر إلى وجهك: فلم تفعل. فقال غلام منهم فشك ذيك درعها إلى ظهرها ولم تشعر، فلما قامت انكشفت دبرها، فضحكوا وقالوا: منعتنا النظر إلى وجهك فقد نظرنا إلى دبرك. فصاحت المرأة: يا بني عامر فضحت ! فأتاها الناس واشتجروا حتى كاد يكون قتال، ثم رأوا أن الأمر يسير فاصطلحوا. وقيل: بل قعد رجل من بني غفار يقال له أبو معشر بن مكرز، وكان عازماً منيعاً في نفسه، وكان بسوق عكاظ، فمد رجله ثم قال: نحن بنو مدركة بن خندف ... من يطعنوا في عينه لا يطرف ومن يكونوا قومه يغطرف ... كأنّه لجّة بحر مسرف أنا والله أعز العرب، فمن زعم أنه أعز مني فليضربها بالسيف. فقام رجل من قيس يقال له أحمر بن مازن فضربها بالسف فخرشها خرشاً غير كثير، فاختصم الناس ثم اصطلحوا. بنو نصر بالنون. وأما الفجار الثاني، وكان بعد الفيل بعشرين سنة، وبعد موت عبد المطلب باثنتي عشرة سنة، ولم يكن في أيام العرب أشهر منه ولا أعظم، فإنما سمي الفجار لما استحل الحيان كنانة وقيس فيه من المحارم، وكان قبله يوم جبلة، وهو مذكور من أيام العرب، والفجار أعظم منه. وكان سببه أن البراض بن قيس بن رافع الكناني ثم الضمري كان رجلاً فاتكاً خليعاً قد خلعه قومه لكثرة شره، وكان يضرب المثل بفتكه فيقال: أفتك من البراض. قال بعضهم: والفتى من تعرّفته الليلة ... فهو فيها كالحّية النضناض كلّ يوم له بصرف الليالي ... فتكةٌ مثل فتكة البرّاض فخرج حتى قدم على النعمان بن المنذر، وكان النعمان يبعث كل عام بلطيمة للتجارة إلى عكاظ تباع له هناك، وكان عكاظ وذو المجاز ومجنة أسواقاً تجتمع بها العرب كل عام إذا حضر الموسم فيأمن بعضهم بعضاً حتى تنقضي أيامها، وكانت مجنة بالظهران، وكانت عكاظ بين نخلة والطائف، وكان ذو المجاز بالجانب الأيسر إذا وقفت على الموقف، فقال النعمان، وعنده البراض وعروة بن عتبة بن جعفر بن كلاب المعروف بالرحال، وإنما قيل له ذلك لكثرة رحلته إلى الملوك: من يجيز لي لطيمتي هذه حتى يبلغها عكاظ ؟ فقال البراض: أنا أجيزها، أبيت اللعن، على كنانة. فقال النعمان: إنما أريد من يجيزها على كنانة وقيس ! فقال عروة: أكلبٌ خليع يجيزها لك، أبيت اللعن ! أنا أجيزها على أهل الشيح والقيصوم من أهل تهامة وأهل نجد. فقال البراض، وغضب: وعلى كنانة تجيزها يا عروة ؟ قال عروة: وعلى الناس كلهم.
فدفع النعمان اللطيمة إلى عروة الرحال وأمره بالمسير بها، وخرج البراض يتبع أثره، وعروة يرى مكانه ولا يخشى منه، حتى إذا كان عروة بين ظهري قومه بوادٍ يقال له تيمن ينواحي فدك أدركه البراض بن قيس فأخرج قداحه يستقسم بها في قتل عروة، فمر به عروة فقال: ما تصنع يا براض ؟ فقال: أستقسم في قتلك أيؤذن لي أم لا. فقال عروة: استك أضيق من ذلك ! فوثب إليه البراض بالسف فقتله. فلما رآه الذين يقومون على العير والأحمار قتيلاً انهزموا، فاستاق البراض العير وسار على وجهه إلى خيبر، وتبعه رجلان من قيس ليأخذاه، أحدهما غنوي والآخر غطفاني، اسم الغنوي أسد ابن جوين، واسم الغطفاني مساور بن مالك، فلقيهما البراض بخيبر أول الناس فقال لهما: من الرجلان ؟ قالا: من قيس قدمنا لنقتل البراض. فأنزلهما وعقل راحلتيهما، ثم قال: أيكما أجرأ عليه وأجود سيفاً ؟ قال الغطفاني: أنا. فأخذه ومشى معه ليدله بزعمه على البراض، فقال للغنوي: احفظ راحلتيكما، ففعل، وانطلق البراض بالغطفاني حتى أخرجه إلى خربة في جانب خيبر خارجاً من البيوت، فقال للغطفاني: هو في هذه الخربة إليها يأوي فأمهلني حتى أنظر أهو فيها. فوقف ودخل البراض ثم خرج فقال: هو فيها وهو نائم، فأرني سيفك حتى أنظر إليه أضاربٌ هو أم لا، فأعطاه سيفه، فضربه به حتى قتله ثم أخفى السيف وعاد إلى الغنوي فقال له: لم أر رجلاً أجبن من صاحبك، تركته في البيت الذي فيه البراض وهو نائم فلم يقدم عليه. فقال: انظر لي من يحفظ الراحلتين حتى أمضي إليه فأقتله. فقال: دعهما وهما علي، ثم انطلقا إلى الخربة، فقتله وسار بالعير إلى مكة، فلقي رجلاً من بني أسد بن خزيمة، فقال له البراض: هل لك إلى أن أجعل لك جعلاً أن تنطلق إلى حرب بن أمية وقومي فإنهم قومي وقومك، لأن أسد بن خزيمة من خندف أيضاً، فتخبرهم أن البراض بن قيس قتل عروة الرحال، فليحذروا قيساً ! وجعل له عشراً من الإبل. فخرج الأسدي حتى أتى عكاظ، وبها جماعة من الناس، فأتى حرب بن أمية فأخبره الخبر، فبعث إلى عبد الله بن جدعان التيمي وإلى هشام بن المغيرة المخومي، وهو والد أبي جهل، وهما من أشراف قريش وذوي السن منهم، وإلى كل قبيلة من قريش أحضر منها رجلاً، وإلى الحليس بن يزيد الحارثي، وهو سيد الأحابيش، فأخبرهم أيضاً. فتشاوروا وقالوا: نخشى من قيس أن يطلبوا ثأر صاحبهم منا فإنهم لا يرضون أن يقتلوا به خليعاً من بني ضمرة. فاتفق رأيهم على أن يأتوا أبا براء عامر بن مالك بن جعفر بن كلاب ملاعب الأسنة، وهو يومئذ سيد قيس وشريفها، فيقولوا له: إنه قد كان حدث بين نجد وتهامة وإنه لم يأتنا علمه فأجز بين الناس حتى تعلم وتعلم. فأتوه وقالوا له ذلك، فأجاز بين الناس وأعلم قومه ما قيل له، ثم قام نفر من قريش فقالوا: يا أهل عكاظ إنه قد حدث في قومنا بمكة حدثٌ أتانا خبره ونخشى إن تخلفنا عنهم أن يتفاقم الشر فلا يروعنكم تحملنا. ثم ركبوا على الصعب والذلول إلى مكة. فلما كان آخر اليوم أتى عامر بن مالك ملاعب الأسنة الخبر فقال: غدرت قريش وخدعني حرب بن أمية، والله لا تنزل كنانة عكاظ أبداً. ثم ركبوا في طلبهم حتى أدركوهم بنخلة، فاقتتل القول، فاشتعلت قيس، فكادت قريش تنهزم إلا أنها على حاميتها تبادر دخول الحرم ليأمنوا به. فلم يزالوا كذلك حتى دخلوا الحرم مع الليل، وكان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، معهم، وعمره عشرون سنة. وقال الزهري: لم يكن معهم، ولو كان معهم لم ينهزموا، وهذه العلة ليست بشيء لأنه قد كان بعد الوحي والرسالة ينهزم أصحابه ويقتلون، وإذا كان في جمع قبل الرسالة وانهزموا فغير بعيد. ولما دخلت قريش الحرم عادت عنهم قيس وقالوا لهم: يا معشر قريش إنا لا نترك دم عروة وميعادنا عكاظ في العام المقبل، وانصرفت إلى بلادها يحرض بعضها بعضاً ويبكون عروة الرحال. يوم شمطة ثم إن قيساً جمعت جموعها ومعها ثقيف غيرها، وجمعت قريش جموعها، منهم كنانة جميعها والأحابيش وأسد بن خزيمة، وفرقت قريش السلاح في الناس، فأعطى عبد الله بن جدعان مائة رجل سلاحاً تاماً، وفعل الباقون مثله.
وخرجت قريش للموعد على كل بطن منها رئيس، فكان على بني هاشم الزبير بن عبد المطلب ومعه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وإخوته أبو طالب وحمزة والعباس بنو عبد المطلب، وعلى بني أمية وأحلافها حرب ابن أمية، وعلى بني عبد الدار عكرمة بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار، وعلى بني أسد بن عبد العزى خويلد بن أسد، وعلى بني مخزوم هشام بن المغيرة أبو أبي جهل، وعلى بني تيم عبد الله بن جدعان، وعلى بني جمح معمر ابن حبيب بن وهب، وعلى بني سهم العاصب بن وائل، وعلى بني عدي زيد ابن عمرو بن نفيل والد سعيد بن زيد، وعلى بني عامر بن لؤي عمرة بن عبد شمس والد سهيل بن عمرو، وعلى بني فهر عبد الله بن الجراح والد أبي عبيدة، وعلى الأحابيش الحليس بن يزيد وسفيان بن عويف هما قائداهم، والأحابيش بنو الحارث بن عبد مناة كنانة وعضل والقارة الديش من بني الهون بن خزيمة والمصطلق بن خزاعة، سموا بذلك لحلفهم بني الحارث، والتحبش التجمع، وعلى بني بكر بلعاء بن قيس، وعلى بني فراس بن غنم من كنانة عمير بن قيس جذل الطعان، وعلى بني أسد بن خزيمة بشر بن أبي محازم، وكان على جماعة الناس حرب بن أمية لمكانة من عبد مناف سناً ومنزلةً. وكانت قيس قد تقدمت إلى عكاظ قبل قريش، فعلى بني عامر ملاعب الأسنة أبو براء، وعلى بني نصر وسعد وثقيف سبيع بن ربيع بن معاوية، وعلى بني جشم الصمة والد دريد، وعلى غطفان عوف بن أبي حارثة المري،وعلى بني سليم عباس بن زعل بن هني بن أنس، وعلى فهم وعدوان كدام بن عمرو. وسارت قريش حتى نزلت عكاظ وبها قيس. وكان مع حرب بن أمية إخوته سفيان وأبو سفيان والعاص وأبو العاص بنو أمية، فعقل حربٌ نفسه وقيد سفيان وأبو العاص نفسيهما وقالوا: لن يبرح رجل منا مكانه حتى نموت أو نظفر، فيومئذ سموا العنابس، والعنبس الأسد. واقتتل الناس قتالاً شديداً، فكان الظفر أول النهار لقيس، وانهزم كثير من بني كنانة وقريش، فانهزم بنو زهرة وبنو عدي، وقتل معمر بن حبيب الجمحي، وانهزمت طائفة من بني فراس، وثبت حرب بن أمية وبنو عبد مناف وسائر قبائل قريش، ولم يزل الظفر لقيس على قريش وكنانة إلى أن انتصف النهار. ثم عاد الظفر لقريش وكنانة فقتلوا من قيس فأكثروا، وحمي القتال واشتد الأمر فقتل يومئذ تحت راية بني الحاث بن عبد مناة بن كنانة مائة رجل وهم صابرون، فانهزمت قيس، وقتل من أشرافهم عباس ابن زعل السلمي وغيره. فلما رأى أبو السيد عم مالك بن عوف النصري ما تصنع كنانة من القتل نادى: يا معشر بني كنانة أسرفتم في القتل. فقال ابن جدعان: إنا معشر يسرف. ولما رأى سبيع بن ربيع بن معاوية هزيمة قبائل قيس عقل نفسه واضطجع وقال: يا معشر بني نصر قاتلوا عني أو ذروا. فعطفت عليه بنو نصر وجشم وسعد بن بكر وفهم وعدوان وانهزم باقي قبائل قيس، فقاتل هؤلاء أشد قتال رآه الناس. ثم إنهم تداعوا إلى الصلح فاصطلحوا على أن يعدوا القتلى فأي الفريقين فضل له قتلى أخذ ديتهم من الفريق الآخر، فتعادوا القتلى فوجدوا قريشاً وبني كنانة قد أفضلوا على قيس عشرين رجلاً، فوهن حرب بن أمية يومئذ ابنه أبا سفيان في ديات القوم حتى يؤديها، ورهن غيره من الرؤساء، وانصرف الناس بعضهم عن بعض ووضعوا الحرب وهدموا ما بينهم من العداوة والشر وتعاهدوا على أن لا يؤذي بعضهم بعضاً فيما كان من أمر البراض وعروة. يوم ذي نجبوكان من حديث يوم ذي نجب أن بني عامر لما أصابوا من تميم ما أصابوا يوم جبلة رجوا أن يستأصلوهم، فكاتبوا حسان بن كبشة الكندي، وكان ملكاً من ملوك كندة، وهو حسان بن معاوية بن حجر، فدعوه إلى أن يغزو معهم بني حنظلة من تميم، فأخبروه أنهم قد قتلوا فرسانهم ورؤساءهم، فأقبل معهم بصنائعه ومن كان معه. فلما أتى بني حنظلة خبر مسيرهم قال لهم عمرو بن عمرو: يا بني مالك إنه لا طاقة لكم بهذا الملك وما معه من العدد فانتقلوا من مكانكم، وكانوا في أعالي الوادي مما يلي مجيء القوم، وكانت بنو يربوع بأسفله، فتحولت بنو مالك حتى نزلت خلف بني يربوع، وصارت بنو يربوع تلي الملك.
فلما رأوا ما صنع بنو مالك استعدوا وتقدموا إلى طريق الملك. فلما كان وجه الصبح وصل ابن كبشة فيمن معه وقد استعد القوم فاقتتلوا. فلما رآهم بنو مالك وصبرهم في القتال ساروا إليهم وشهدوا معهم القتال فاقتتلوا ملياً، فضرب حشيش بن نمران الرياحي ابن كبشة الملك على رأسه فصرعه، فمات، وقتل عبيدة بن مالك بن جعفر، وانهزم طفيل بن مالك على فرسه قرزل، وقتل عمرو بن الأحوص بن جعفر، وكان رئيس عامر، وانهزمت بنو عامر وصنائع ابن كبشة. قال جرير في الإسلام يذكر اليوم بذي نجب: بذي نجبٍ ذدنا وواكل مالك ... أخاً لم يكن عند الطّعان بواكل وكان يوم ذي نجب بعد يوم جبلة بسنة. وبقي الأحوص بعد ابنه عمرو يسيراً وهلك أسفاً عليه. يوم نعف قشاوةوهو يوم لشيبان على تميم: قال أبو عبيدة: أغار بسطام بن قيس على بني يربوع من تميم وهم بنعف قشاوة، فاهم ضحىً، وهو يوم ريح ومطر، فوافق النعم حين سرح، فأخذه كله ثم كر راجعاً، وتداعت عيله بنو يربوع فلحقوه وفيهم عمارة بن عتيبة بن الحارث بن شهاب، فكر عليه بسطام فقتله، ولحقهم مالك بن حطان اليربوعي فقتله، وأتاهم أيضاً بجير بن أبي مليل فقتله بسطام، وقتلوا من يربوع جمعاً وأسروا آخرين، منهم: مليل بن أبي مليل، وسلموا وعادوا غانمين. فقال بعض الأسرى لبسطام: أيسرك أن أبا مليل مكاني ؟ قال: نعم. قال: فإن دللتك عليه أتطلقني الآن ؟ قال: نعم. قال: فإن ابنه بجيراً كان أحب خلق الله إليه وستجده الآن مكباً عليه يقبله فخذه أسيراً. فعاد بسطام فرآه كما قال، فأخذه أسيراً وأطلق اليربوعي. فقال له أبو مليل: قتلت بجيراً وأسرتني وابني مليلاً ! والله لا أطعم الطعام أبداً وأنا موثق. فخشي بسطام أن يموت فأطلقه بغير فداء على أن يفادي مليلاً وعلى أن لا يتبعه بدم ابنه بجير ولا يبغيه غائلة ولا يدل له على عورة ولا يغير عليه ولا على قومه أبداً، وعاهده على ذلك، فأطلقه وجز ناصيته، فرجع إلى قومه وأراد الغدر ببسطام والنكث به، فأرسل بعض بني يربوع إلى بسطام بخبره، فحذره؛ وقال متمم بن نويرة: أبلغ شهاب بني بكرٍ وسيّدها ... عنيّ بذاك الصّهباء بسطاما أروي الأسنّة من قومي فأنهلها ... فأصبحوا في بقيع الأرض نوّاما لا يطبقون إذا هبّ النيام ولا ... في مرقدٍ يحلمون الدهر أحلاما أشجي تميم بن مرّ لا مكايدةً ... حتّى استعادوا له أسرى وأنعاما هلاّ أسيراً فدتك النفس تطعمه ... ممّا أراد وقدماً كنت مطعاما وهي أبيات عدة. يوم الغبيطوهو يوم كانت الحرب فيه بين بني شيبان وتميم، أسر فيه بسطام بن قيس الشيباني. وسبب ذلك أن بسطام بن قيس والحوفزان بن شريك ومفروق بن عمرو ساروا فيجمع من بني شيبان إلى بلاد تميم فأغاروا على ثعلبة بن يربوع وثعلبة بن سعد بن ضبة وثعلبة بن عدي بن فزارة وثعلبة بن سعد بن ذبيان، وكانوا متجاورين بصحراء فلج، فاقتتلوا، فانهزمت الثعالبة، وقتل منهم مقتلة عظيمة، وغنم بنو شيبان أموالهم، ومروا على بني مالك بن حنظلة من تميم، وهم بين صحراء فلج وغبيط المدرة فاستاقوا إبلهم. فركبت إليهم بنو مالك يقدمهم عتيبة بن الحارث بن شهاب اليربوعي وفرسان بني يربوع، وساروا في أثر بني شيبان ومعه من رؤساء تميم الأحيمر بن عبد الله وأسيد بن جباة وحر بن سعد ومالك بن نويرة فأدركوهم بغبيط المدرة فقاتلوهم. وصبر الفريقان، ثم انهزمت شيبان واستعادت تميم ما كانوا غنموه من أموالهم، وقتلت بنو شيبان أبا مرحب ربيعة بن حصية، وألح عتيبة بن الحارث على بسطام بن قيس فأدركه فقال له: استأسر أبا الصهباء فأنا خير لك من الفلاة والعطش. فاستأسر له بسطام بن قيس. فقال بنو ثعلبة لعتيبة: إن أبا مرحب قد قتل وقد أسرت بسطاماً وهو قاتل مليل وبجير ابني أبي مليل ومالك بن حطان وغيرهم فاقتله. قال: إني معيل وأنا أحب اللبن. قالوا: إنك تفاديه فيعود فيحربنا مالنا، فأبى عليهم وسار به إلى بني عامر بن صعصعة لئلا يؤخذ فيقتل، وإنما قصد عامراً لأن عمته خولة بنت شهاب كانت ناكحاً فيهم؛ فقال مالك بن نويرة في ذلك: لله عتّاب بن ميّة إذا رأى ... إلى ثأرنا في كفّه يتلدّد
أتحيي امرأً أردى بجيراً ومالكاً ... وأتوى حريثاً بعدما كان يقصد ونحن ثأرنا قبل ذاك ابن أمّه ... غداة الكلابيّين والجمع يشهد ونحن توسط عتيبة بيوت بني عامر صاح بسطام: واشيباناه ! ولا شيبان لي اليوم ! فبعث إليه عامر بن الطفيل: إن استطعت أن تلجأ إلى قبتي فافعل فإني سأمنعك، وإن لم تستطع فاقذف نفسك في الركي. فأتى عتيبة تابعه من الجن فأخبره بذلك، فأمر ببيته فقوض. فركب فرسه وأخذ سلاحه ثم أتى ملجس بني جعفر، وفيه عامر بن الطفيل الغنوي، فحياهم وقال: يا عامر قد بلغني الذي أسلت به إلى بسطام فأنا مخيرك فيه خصالاً ثلاثاً. فقال عامر: وما هي ؟ قال: إن شئت فأعطني خلعتك وخلعة أهل بيتك حتى أطلقه لك، فليست خلعتك وخلعة أهل بيتك بشر من خلعته وخلعة أهل بيته. فقال عامر: هذا لا سبيل إليه. قال عتيبة: ضع رجلك مكان رجله فلست عندي بشر منه. فقال: ما كنت لأفعل قال عتيبة: تتبعني إذا جاوزت هذه الرابية فتقارعني عنه على الموت. فقال عامر: هذه أبغضهن إلي. فانصرف به عتيبة إلى بني عبيد بن ثعلبة فرأى بسطام مركب أم عتيبة رثاً فقال: يا عتيبة هذا رحل أمك ؟ قال: نعم. قال: ما رأيت رحل أم سيدٍ قط مثل هذا. فقال عتيبة: واللات والعزى لا أطلقك حتى تأتيني أمك بحدجها، وكان كبيراً ذا ثمن كثيرٍ، وهذا الذي أراد بسطام ليرغب فيه فلا يقتله. فأرسل بسطام فأحضر حدج أمه وفادى نفسه بأربعمائة بعير، وقيل: بألف بعير، وثلاثين فرساً وهودج أمه وحدجها وخلص من الأسر. فلما خلص من الأسر أذكى العيون على عتيبة وإبله، فعادت إليه عيونه فأخبروه أنها على أرباب، فأغار عليها وأخذ الإبل كلها وما لهم معها. عتيبة بالتاء فوقها نقطتان، والياء تحتها نقطتان ساكنة، وفي آخرها باء موحدة. يوم لشيبان على بني تميمقال أبو عبيدة: خرج الأقرع بن حابس وأخوه فراس التميميان، وهما الأقرعان، في بني مجاشع من تميم وهما يريدان الغارة على بكر بن وائل ومعهما البروك أبو جعل، فلقيهم بسطام بن قيس الشيباني وعمران ابن مرة في بني بكر بن وائل بزبالة فاقتتلوا قتالاً شديداً ظفرت فيه بكر وانهزمت تميم وأسر الأقرعان وأبو جعل وناس كثير، وافتدى الأقرعان نفسيهما من بسطام وعاهداه على إرسال الفداء، فأطلقهما، فبعدا ولم يرسلا شيئاً. وكان في الأسرى إنسان من يربوع فسمعه بسطام من قيس في الليل يقول: فدىً بوالدةٍ عليّ شفيقةً ... فكأنّها حرضٌ على الأسقام لو أنّها علمت فيسكن جأشها ... أنّي سقطت على الفتى المنعام سقط العشاء به على متنعّم ... سمح اليدين معاود الإقدام فلما سمع بسطام ذلك منه قال له: وأبيك لا يخبر أمك عنك غيرك ! وأطلقه، وقال ابن رميض العنزي: جاءت هدايا من الرحمان مرسلة ... حتّى أنيخت لدى أبيات بسطام جيش الهذيل وجيش الأقرعين معاً ... وكبّة الخيل والأذواد في عام مسوّم خيله تعدو مقانبه ... على الذوائب من أولاد همّام وقال أوس بن حجر: وصبّحنا عارٌ طويلٌ بناؤه ... نسب به ما لاح في الأفق كوكب فلم أر يوماً كان أكثر باكياً ... ووجهاً ترى فيه الكآبة تجنب أصابوا البروك وابن حابس عنوةً ... فظلّ لهم بالقاع يومٌ عصبصب وإنّ أبا الصهباء في حومة الوغى ... إذا ازورّت الأبطال ليثٌ مجرّب وأبو الصهباء هو بسطام بن قيس. وأكثر الشعراء في هذا اليوم في مدح بسطام بن قيس، تركنا ذكره اختصاراً. حجر بفتح الحاء والجيم. يوم مبايضوهو لشيبان على بني تميم. قال أبو عبيدة: حج طرف بن تميم العنبري التميمي، وكان رجلاً جسيماً يلقب مجدعاً، وهو فارس قومه، ولقيه حمصيصة بن جندل الشيباني من بني أبي ربيعة، وهو شاب قوي شجاع، وهو يطوف بالبيت، فأطال النظر إليه، فقال له طريف: لم تشد نظرك إلي ؟ قال حمصيصة: أريد أن أثبتك لعلي أن ألقاك في جيش فأقتلك. فقال طريف: اللهم لا تحول الحول حتى ألقاه ! ودعا حمصيصة مثله، فقال طريف: أوكلّما وردت عكاظ قبيلةٌ ... بعقوا إليّ عريفهم يتوسّم
لا تنكروني إنّني أنا ذاكم ... شاكي السلاح وفي الحوادث معلم حولي فوارس من أسيد جمّةٌ ... ومن الهجيم وحول بيتي خصّم تحتي الأغرّ وفوق جلدي نثرةٌ ... زغفٌ تردّ السيف وهو مثلّم في أبيات. ثم إن بني أبي ربيعة بن ذهل بن شيبان وبني مرة بن ذهل بن شيبان كان بينهم شر وخصام فاقتتلوا شيئاً من قتال ولم يكن بينهم دم. فقال هانئ بن مسعود، رئيس بني أبي ربيعة، لقومه: إني أكره أن يتفاقم الشر بيننا، فارتحل بهم فنزل على ماء يقال له بمائض، وهو قريب من مياه بني تميم، فأقاموا عليه أشهراً، وبلغ خبرهم بني تميم، فأرسل بعضهم إلى بعض وقالوا: هذا حي منفرد وإن اصطلمتموهم أوهنتم بكر بن وائل. واجتمعوا وساروا على ثلاثة رؤساء: أبو الجدعاء الطهوي على بني حنظلة، وابن فدكى المنقري على بني سعد، وطريف بن تميم على بني عمرو بن تميم. فلما قاربوا بني أبي ربيعة بلغهم الخبر فاستعدوا للقتال، فخطبهم هانئ بن مسعود وحثهم على القتال، فقال: إذا أتوكم فقاتلوهم شيئاً من قتال ثم انحازوا عنهم، فإذا اشتغلوا بالنهب فعودوا إليهم فإنكم تصيبون منهم حاجتكم. وصبحهم بنو تميم والقوم حذرون فاقتتلوا قتالاً شديداً وفعلت بنو شيبان ما أمرهم هانئ. فاشتغلت تميم بالغنيمة، ومر رجل منهم بابنٍ لهانئ بن مسعود صبي فأخذه وقال: حسبي هذا من الغنيمة، وسار به وبقيت تميم مع الغنيمة والسبي. فعادت شيبان عليهم فهزموهم وقتلوهم وأسروهم كيف شاءوا، ولم تصب تميم بمثلها؛ لم يفلت منهم إلا القليل، ولم يلو أحد على أحد، وانهزم طريف فاتبعه حمصيصة فقتله. واستردت شيبان الأهل والمال وأخذوا مع ذلك ما كان معهم، وفادى هانئ بن مسعود ابنه بمائة بعير، وقال بعض شيبان في هذا اليوم: ولقد دعوت طرف دعوة جاهلٍ ... غرٍّ وأنت بمنظر لا تعلم وأتيت حيّاً في الحروب محلّهم ... والجيش باسم أبيهم يستهزم فوجدتهم يرعون حول ديارهم ... بسلاً إذا حام الفوارس أقدموا وإذا اعتزوا بأبي ربيعة أقبلوا ... بكتيبة مثل النجوم تلملم ساموك درعك والأغرّ كليهما ... وبنو أسيدٍ أسلموك وخصّم وقال عمرو بن سواد يرثي طريفاً: لا تبعدن يا خير عمرو بن جندب ... لعمري لمن زار القبور ليبعدا عظيم رماد النار لا متعبّساً ... ولا مؤيساً منها إذا هو أوقدا وما كان وقّافاً إذا الخيل أحجمت ... وما كان مبطاناً إذا ما تجرّدا يوم الزويرينقال أبو عبيدة: كانت بكر بن وائل قد أجدبت بلادهم فانتجعوا بلاد تميم بين ليمامة وهجر، فلما تدانوا جعلوا لا يلقى بكري تميمياً إلا قتله، ولا يلقى تميمي بكرياً إلا قتله، إذا أصاب أحدهما مال الآخر أخذه، حتى تفاقم الشر وعظم.فخرج الحوفزان بن شريك والوادك بن الحارث الشيبانيان ليغيرا على بني دارم، فاتفق أن تميماً في تلك الحال اجتمعت في جمع كثير من عمرو بن حنظلة والرباب وسعد وغيرها وسارت إلى بكر بن وائل، وعلى تميم أبو الرئيس الحنظلي. فبلغ خبرهم بكر بن وائل فتقدموا وعليهم الأصم عمرو بن قيس بن مسعود أبو مفروق وحنظلة بن سيار العجلي وحمران ابن عبد عمرو العبسي، فلما التقوا جعلت تميم والرباب بعيرين وجللوهما وجعلوا عندهما من يحفظهما وتركوهما بين الصفين معقولين وسموهما زويرين، يعني: إلهين، وقالوا: لا نفر حتى يفر هذان البعيران. فلما رأى أبو مفروق البعيرين سأل عنهما فأعلم حالهما، فقال: أنا زويركم، وبرك بين الصفين وقال: قاتلوا عني ولا تفروا حتى أفر. فاقتتل الناس قتالاً شديداً، فوصلت شيبان إلى البعيرين فأخذوهما فذبحوهما. واشتد القتال عليهما، فانهزمت تميم وقتل أبو الرئيس مقدمهم ومعه بشر كثير، واجترفت بكر أموالهم ونساءهم وأسروا أسرى كثيرة، ووصل الحوفزان إلى النساء والأموال، وقد سار الرجال عنها للقتال، فأخذ جميع ما خلفوه من النساء والأموال وعاد إلى أصحابه سالماً؛ وقال الأعشى في ذلك اليوم: يا سلم لا تسألي عنّا فلاً كشفت ... عند اللقاء ولا سود مقاريف
نحن الذين هزمنا يوم صبّحنا ... يوم الزّويرين في جمع الأحاليف ظلّوا وظلّت تكرّ الخيل وسطهم ... بالشيّب منّا والمرد الغطاريف تستأنس الشرف الأعلى بأعينها ... لمح الصقور علت فوق الأظاليف انسلّ عنها بسيل الصّيل فانجردت ... تحت اللّبود متونٌ كالزحاليف وقد أكثر الشعراء في هذا اليوم، لا سيما الأغلب العجلي، فمن ذلك أرجوزته التي أولها: إن سرّك العزّ ... فجحجح بحشم يقول فيها: جاؤوا بزويريهم وجئنا بالأصمّ ... شيخ لنا كالليث من باقي إرم شيخٌ لنا معاودٌ ضرب البهم ... يضرب بالسيف إذا الرمح انقصم هل غير غارٍ ... صكّ غاراً فانهزم الغاران: بكر وتميم. وله الأرجوزة التي أولها: يا ربّ حربٍ ... ثرّة الأخلاف يذكر فيها هذا اليوم. ذكر أسر حاتم طيءقال أبو عبيدة: أغار حاتم طيء بجيش من قومه على بكر بن وائل فقاتلوهم، وانهزمت طيء وقتل منهم وأسر جماعة كثيرة، وكان في الأسرى حاتم ابن عبد الله الطائي، فبقي موثقاً عند رجل من عنيزة، فأتته امرأة منهم اسمها عالية بناقة فقالت له: افصد هذه، فنحرها، فلما رأتها منحورة صرخت، فقال حاتم: عالي لا تلتدّ من عاليه ... إنّ الذي أهلكت من ماليه إنّ ابن أسماء لكم ضامن ... حتّى يؤدّي آنسٌ ناويه لا أفصد الناقة في أنفها ... لكنّني أوجرها العاليه إنّي عن الفصد لفي مفخر ... يكره منّي المفصد الآليه والخيل إن شمّص فرسانها ... تذكر عند الموت أمثاليه وقال رميض العنزي يفتخر: ونحن أسرنا حاتماً وابن ظالم ... فكلٌّ ثوى في قيدنا وهو يخشع وكعبّ إياد قد أسرنا وبعده ... أسرنا أبا حسّان والخيل تطمع وريّان غادرنا بوجٍّ كأنّه ... وأشياعه فيها صريمٌ مصرّع وقال يحيى بن منصور الذهلي قصيدةً يفتخر بأيام قومه، وهي طويلة، وفيها آداب حسنة، تركناها كراهية التطويل، وأولها: أمن عرفان منزلةٌ ودارٌ ... تعاورها البوارح والسواري وقال أبو عبيدة: جاء الإسلام وليس في العرب أحدٌ أعز داراً ولا أمنع جاراً ولا أكثر حليفاً من شيبان. كانت عنينة من لخم في الأحلاف، وكانت درمكة بن كندة في بني هند، وكانت عكرمة من طيء، وحوتكة من عذرة، وبنانة كل هؤلاء في بني الحارث بن همام، وكانت عائذة من قريش، وضبة وحواس من كندة، هؤلاء في بني أبي ربيعة، وكانت سليمة من بني عبد القيس في بني أسعد بن همام، وكانت وثيلة من ثعلبة، وبنو خيبري من طيء في بني تميم بن شيبان، وكانت عوف بن حارث من كندة في بني محلم. كل هذه قبائل وبطون جاورت شيبان فعزت بها وكثرت. يوم مسحلانقال أبو عبيدة: غزا ربيعة بن زياد الكلبي في جيش من قومه فلقي جيشاً لبني شيبان عامتهم بنو أبي ربيعة، فاقتتلوا قتالاً شديداً، فظفرت بهم بنو شيبان وهزموهم وقتلوا منهم مقتلة عظيمة، وذلك يوم مسحلان، وأسروا ناساً كثيراً، وأخذوا ما كان معهم. وكان رئيس شيبان يومئذ حيان بن عبد الله بن قيس المحلمي، وقيل: كان رئيسهم زياد بن مرثد من بني أبي ربيعة، فقال شاعرهم: سائل ربيعة حيث حلّ بجيشه ... مع الحيّ كلبٌ حيث لبّت فوارسه عشيّة ولّى جمعهم فتتابعوا ... فصار إلينا نهبه وعوانسه ثم إن الربيع بن زياد الكلبي نافر قومه وحاربهم فهزموه. فاعتزلهم وسار حتى حل ببني شيبان، فاستجار برجل اسمه زياد من بني أبي ربيعة، فقتله بنو أسعد بن همام، ثم إن شيبان حملوا ديته إلى كلب مائتي بعير فرضوا. حرب لسليم وشيبان
قال أبو عبيدة: خرج جيش لبني سليم عليهم النصيب السلمي وهم يريدون الغارة على بكر بن وائل. فلقيهم رجلٌ من بني شيبان اسمه صليع ابن عبد غنم وهو محرم على فرس له يسمى البحراء، فقال لهم: أين تذهبون ؟ قالوا: نريد الغارة على بني شبان. فقال لهم: مهلاً فإني لكم ناصح، إياكم وبني شيبان، فإني أقسم لكم بالله لتأتينكم على ثلاثمائة فرس خصي سوى الفحول والإناث. فأبوا إلا الغارة عليهم، فدفع صليع فرسه ركضاً حتى أتى قومه فأنذرهم. فركبت شيبان واستعدوا، فأتاهم بنو سليم وهم معدون فاقتتلوا قتالاً شديداً، فظفرت شيبان وانهزمت سليم وقتل منهم مقتلة كثيرة وأسر منهم ناس كثير، ولم ينج إلا القليل، وأسر النصيب رئيسهم، أسره عمران بن مرة الشيبان فضرب رقبته، فقال صليع: نهيت بني زعل غداة لقيتهم ... وجيش نصيب والظنون تطاع وقلت لهم: إنّ الحريب وراكساً ... به نعم ترعى المرار رتاع ولكنّ فيه الموت يرتع سربه ... وحقّ لهم أن يقبلوا ويطاعوا متى تأته تلقى على الماء حارثاً ... وجيشاً له يوفي بكلّ بقاع يوم جَدود وهو يوم بين بكر بن وائل وبني منقر من تميم. وكان من حديثه أن الحوفزان، واسمه الحارث بن شريك الشيباني، كانت بينه وبين بني سليط ابن يربوع موادعة، فهم بالغدر بهم وجمع بني شيبان وذهلاً واللهازم، وعليهم حمران بن عبد عمرو بن بشر بن عمرو. ثم غزا وهو يرجو أن يصيب غرة من بني يربوع. فلما انتهى إلى بني يربوع نذر به عتيبة بن الحارث بن شهاب فنادى في قومه، فحالوا بين الحوفزان وبين الماء، وقال لعتيبة: إني لا أرى معك إلا رهطك وأنا في طوائف من بني بكر، فلئن ظفرت بكم قل عددكم وطمع فيكم عدوكم، ولئن ظفرتم بي ما تقتلون إلا أقاصي عشيرتي، وما إياكم أردت، فهل لكم أن تسالمونا وتأخذوا ما معنا من التمر، ووالله لا نروح يربوعاً أبداً. فأخذ ما معهم من التمر وخلى سبيلهم. فسارت بكر حتى أغاروا على بني ربيع بن الحارث، وهو مقاعس، بجدود، وإنما سمي مقاعساً لأنه تقاعس عن حلف بني سعد، فأغار عليهم وهم خلوفٌ فأصاب سبياً ونعماً، فبعث بنو ربيع صريخهم إلى بني كليب، فلم يجيبوهم، فأتى الصريخ بني منقر بن عبيد فركبوا في الطلب فلحقوا بكر بن وائل وهم مقاتلون، فما شعر الحوفزان وهو في ظل شجرة إلا بالأهتم بن سمي بن سنان المنقري واقفاً على رأسه، فركب فرسه، فنادى الأهتم: يا آل سعد ! ونادى الحوفزان: يا آل وائل ! ولحق بنو منقر فقاتلوا قتالاً شديداً، فهزمت بكر وخلوا السبي والأموال، وتبعتهم منقر، فمن قتيل وأسير، وأسر الأهتم حمران بن عبد عمرو، ولم يكن لقيس بن عاصم المنقري همة إلا الحوفزان، فتبعه على مهر، والحوفزان على فرس فارج فلم يحلقه وقد قاربه. فلما خاف أن يفوته حفزه بالرمح في ظهره فاحتفز بالطعنة ونجا، فسمي يومئذ الحوفزان، وقيل غير هذا. وقال الأهتم في أسره حمران: نيطت بحمران المنّية بعدما ... حشاه سنان من شراعة أزرق دعا يال قيسٍ واعتزيت لمنقر ... وكنت إذا لاقيت في الخيل أصدق وقال سوار بن حيان المنقري يفتخر على رجل من بكر: ونحن حفزنا الحوفزان بطعنةٍ ... كسته نجيعاً من دم البطن أشكلا وحمران قسراً أنزلته رماحنا ... فعالج غلاًّ في ذراعيه مثقلا فيا لك من أيّام صدقٍ نعدّها ... كيوم جواثا والنّباج وثيتلا قضى الله أنّا يبوم تقتسم العلى ... أحقّ بها منكم فأعطى فأجّزلا فلست بمسطيع السماء ولم تجد ... لعزٍّ بناه الله فوقك منقلا منقر بكسر الميم، وسكون النون، وفتح القاف؛ وربيع بضم الراء، وفتح الباء الموحدة. يوم الإياد وهو يوم أعشاش ويوم العظالى
وإنما سمي يوم العظالى لأن بسطام بن قيس وهانئ بن قبيصة ومفروق ابن عمرو تعاظلوا على الرياسة، وكانت بكر تحت يد كسرى وفارس، وكانوا يقرونهم ويجهزونهم، فأقبلوا من عند عامل عين التمر في ثلاثمائة متساندين وهم يتوقعون انحدار بني يربوع في الحزن، فاجتمع بنو عتيبة وبنو عبيد وبنو زبيد في الحزن. فحلت بنو زبيد الحديقة، وحلت بنو عتيبة وبنو عبيد روضة الثمد، فأقبل جيش بكر حتى نزلوا حضبة الحصى، فرأى بسطام السواد بالحديقة، وثم غلامٌ عرفه بسطام، وكان قد عرف غلمان بني ثعلبة حين أسره عتيبة. فسأله بسطام عن السواد الذي بالحديقة، فقال: هم بنو زبيد. قال: كم هم من بيت ؟ قال: خمسون بيتاً. قال: فأين بنو عتيبة وبنو عبيد ؟ قال: هم بروضة الثمد وسائر الناس بخفاف، وهو موضع. فقال بسطام: أتطيعونني يا بني بكر ؟ قالوا: نعم. قال: أرى لكم أن تغنموا هذا الحي المتفرد بني زبيد وتعودوا سالمين. قالوا: وما يغني بنو زبيد عنا ؟ قال: إن في السلامة إحدى الغنيمتين. قالوا: إن عتيبة بن الحارث قد مات. وقال مفروق: قد انتفخ سحرك يا أبا الصهباء! وقال هانئ: اخسأ ! فقال: إن أسيد بن جباة لا يفارق فرسه الشقراء ليلاً ونهاراً، فإذا أحس بكم ركبها حتى يشرف على مليحة فينادي: يا آل ثعلبة، فيلقاكم طعنٌ ينسيكم الغنيمة ولم يبصر أحد منكم مصرع صاحبه، وقد عصيتموني وأنا تابعكم وستعلمون. فأغاروا على بني زبيد وأقبلوا نحو بني عتيبة وبني عبيد، فأحست الشقراء فرس أسيد بوقع الحوافر فنخست بحافرها، فركبها أسيد وتوجه نحو بني يربوع بمليحة ونادى: يا سوء صباحاه! يا آل ثعلبة بن يربوع ! فما ارتفع الضحى حتى تلاحقوا فاقتتلوا قتالاً شديداً، فانهزمت شيبان بعد أن قتلت من تميم جماعةً من فرسانهم، وقتل من شيبان أيضاً وأسر جماعة، منهم: هانئ بن قبيصة، ففدى نفسه ونجا، فقال متمم بن نويرة في هذا اليوم: لعمري لنعم الحيّ أسمع غدوةً ... أسيدٌ وقد جدّ الصراخ المصدّق وأسمع فتياناً كجّنة عبقر ... لهم ريّقٌ عند الطّعان ومصدق أخذن بهم جنبي أفاقٍ وبطنها ... فما رجعوا حتّى أرقّوا وأعتقوا وقال العوام في هذا اليوم: قبح الإله عصابةً من وائلٍ ... يوم الأفاقة أسلموا بسطاما ورأى أبو الصهباء دون سوامهم ... طعناً يسلّي نفسه وزحاما كنتم أسوداً في الوغى فوجدتم ... يوم الأفاقة في الغبيط نعاما وأكثر العوام الشعر في هذا اليوم. فلما ألح فيه أخذ بسطام إبله، فقالت أمه: أرى كلّ ذي شعرٍ أصاب بشعره ... خلا أنّ عوّاماً بما قال عيّلا فلا ينطقن شعراً يكون جوازه ... كما شعر عوّام أعام وأرجلا يوم الشقيقة وقتل بسطام بن قيسهذا يوم بين بني شيبان وضبة بن أد، قتل فيه بسطام بن قيس سيد شيبان. وكان سببه أن بسطام بن قيس بن مسعود بن خالد بن عبد الله ذي الجدين غزا بني ضبة ومعه أخوه السليل بن قيس ومعه رجل يزجر الطير من بني أسد ابن خزيمة يسمى نقيداً. فلما كان بسطام في بعض الطريق رأى في منامه كأن آتياً أتاه، فقال له: الدلو تأتي الغرب المزلة؛ فقص رؤياه على نقيد، فتطير وقال: ألا قلت: ثم تعود بادياً مبتلة؛ فتفرط عنك النحوس. ومضى بسطام على وجهه، فلما دنا من نقاً يقال له الحسن في بلاد ضبة صعده ليرى، فإذا هو بنعم قد ملأ الأرض فيه ألف ناقة لمالك بن المنتفق الضبي من بني ثعلبة بن سعد بن ضبة قد فقأ عين فحلها، وكذلك كانوا يفعلون في الجاهلية إذا بلغت إبل أحدهم ألف بعير فقأوا عين فحلها لترد عنها العين، وهي إبل مرتبعةٌ، ومالك بن المنتفق فيها على فرس له جواد. فلما أشرف بسطام على النقا تخوف أن يروه فينذروا به فاضطجع وتدهدى حتى بلغ الأرض وقال: يا بني شيبان لم أر كاليوم قط في الغرة وكثرة النعم. ونظر نقيد إلى لحية بسطام معفرة بالتراب لما تدهدى فتطير له أيضاً وقال: إن صدقت الطير فهو أول من يقتل. وعزم الأسدي على فراقه، فأخذته رعدة تهيّباً لفراقه والانصراف عنه وقال له: ارجع يا أبا الصهباء، فإني أتخوف عليك أن تقتل، فعصاه ففارقه نقيد.
وركب بسطام وأصحابه وأغاروا على الإبل واطردوها، وفيها فحل لمالك يقال له أبو شاعر، وكان أعور، فنجا مالك على فرسه إلى قومه من ضبة حتى إذا أشرف على تعشار نادى: يا صباحاه ! وعاد راجعاً. وأدرك الفوارس القوم وهم يطردون النعم، فجعل فحله أبو شاعر يشذ من النعم ليرجع وتتبعه الإبل، فكلما تبعته ناقة عقرها بسطام. فلما رأى مالك ما يصنع بسطام وأصحابه قال: ما ذا السفه يا بسطام ؟ لا تعقرها فإما لنا وإما لك. فأبى بسطام، وكان في أخريات الناس على فرس أدهم يقال له الزعفران يحمي أصحابه، فلما لحقت خيل ضبة قال لهم مالك: ارموا روايا القوم. فجعلوا يرمونها فيشقونها. فلحقت بنو ثعلبة وفي أوائلهم عاصم بن خليفة الصباحي، وكان ضعيف العقل، وكان قبل ذلك يعقب قناة له فيقال له: ما تصنع بها يا عاصم ؟ فيقول: أقتل عليها بسطاماً، فيهزأون منه. فلما جاء الصريخ ركب فرس أبيه بغير أمره ولحق الخيل، فقال لرجل من ضبة: أيهم الرئيس ؟ قال: صاحب الفرس الأدهم. فعارضه عاصم حتى حاذاه، ثم حمل عليه فطعنه بالرمح في صماخ أذنه أنفذ الطعنة إلى الجانب الآخر، وخر بسطام على شجرة يقال لها الألاءة. فلما رأت ذلك شيبان خلوا سبيل النعم وولوا الأدبار، فمن قتيل وأسير. وأسر بنو ثعلبة نجاد بن قيس أخا بسطام في سبعين من بني شبان، وكان عبد الله بن عنمة الضبي مجاوراً في شيبان، فخاف أن يقتل فقال يرثي بسطاماً: لأمّ الأرض ويلٌ ما أجنّت ... غداة أضرّ بالحسن السبيل يقسّم ماله فينا وندعو ... أبا الصهباء إذ جنح الأصيل أجدّك لن تريه ولن نراه ... تخبّ به عذافرةٌ ذمول حقيبةٌ بطنها بدنٌ وسرجٌ ... تعارضها مزبّبةٌ زؤول إلى ميعاد أرعن مكفهّرٍ ... تضمّر في جوانبه الخيول لك المرباع منها والصّفايا ... وحكمك والنّشيطة والفضول لقد صمّت بنو زيد بن عمرو ... ولا يوفي ببسطامٍ قتيل فخرّ على الألاءة لم يوسّد ... كأنّ جبينه سيفٌ صقيل فإن يجزع عليه بنو أبيه ... فقد فجعوا وفاتهم جليل بمطعام إذا الأشوال راحت ... إلى الحجرات ليس لها فصيل فلم يبق في بكر بن وائل بيت إلا وألقي لقتله لعلو محله؛ وقال شمعلة ابن الأخضر بن هبيرة بن المنذر بن ضرار الضبي يذكره: فيوم شقيقة الحسنين لاقت ... بنو شيبان آجالاً قصارا شككنا بالرماح، وهنّ زورٌ، ... صماخي كبشهم حتّى استدارا وأوجرناه أسمر ذا كعوب ... يشبّه طوله مسداً مغارا الشقيقة: أرض صلبة بين جبلي رمل. والحسنان: نقوا رملٍ كانت الوقعة عندهما. وقالت أم بسطام بن قيس ترثيه: ليبك ابن ذي الجدّين بكر بن وائل ... فقد بان منها زينها وجمالها إذا ما غدا فيهم غدوا وكأنّهم ... نجوم سماء بينهنّ هلالها فلله عينا من رأى مثله فتىً ... إذا الخيل يوم الروع هبّ نزالها عزيزٌ المكرّ لا يهدّ جناحه ... وليثٌ إذا الفتيان زلّت نعالها وحمّال أثقالٍ وعائد محجر ... تحلّ إليه كلّ ذاك رحالها سيبكيك عانٍ لم يجد من يفكّه ... ويبكيك فرسان الوغى ورجالها وتبكيك أسرى طالما قد فككتهم ... وأرملةٌ ضاعت وضاع عيالها مفرّج حومات الخطوب ومدرك ال ... حروب إذا صالت وعزّ صيالها تغشى بها حيناً كذاك ففجّعت ... تميمٌ به أرماحها ونبالها فقد ظفرت منّا تميمٌ بعثرةٍ ... وتلك لعمري عثرةٌ لا تقالها أصيبت به شيبان والحيّ يشكر ... وطير يرى إرسالها وحبالها عنمة بفتح العين المهملة، والنون. يوم النسار
النسار: أجبل متجاورة، وعندها كانت الوقعة، وهو موضع معروف عندهم. وكان سبب ذلك اليوم أن بني تميم بن مر بن أد كانوا يأكلون عمومتهم ضبة بن أد وبني عبد مناة بن أد، فأصابت ضبة رهطاً من تميم. فطلبتهم تميم فانزاحت جماعة الرباب، وهو تيم وعدي وثور أطحل وعكل بنو عبد مناة بن أد وضبة بن أد وإنما سموا الرباب لأنهم غمسوا أيديهم في الرب حين تحالفوا، فلحقت ببني أسد، وهم يومئذحلفاء لبني ذبيان بن بغيض. فنادى صارخ بني ضبة: يا آل خندف ! فأصرختهم بنو أسد، وهو أول يوم تخندقت فيه ضبة واستمدوا حليفهم ظبياً وغطفان، فكان رئيس أسد يوم النسار عوف بن عبد الله بن عامر بن جذيمة بن نصر بن قعين، وقيل: خالد بن نضلة، وكان رئيس الرباب الأسود بن المنذر أخو النعمان، وليس بصحيح، وكان على الجماعة كلهم حصن بن حذيفة بن بدر؛ وفيه يقول زهير بن أبي سلمى: ومن مث | |
|
| |
الشيخ عودة الشيخ عودة
عدد المساهمات : 1748 تاريخ التسجيل : 28/09/2008 العمر : 74
| موضوع: رد: كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير الجمعة فبراير 07, 2014 8:49 am | |
| وكنت إذا ما الخيل شمّصها القنا ... لبيقاً بتصريف القناة بنانيا فيا عاص فكّ القيد عنّي فإنّني ... صبورٌ على مرّ الحوادث ناكيا فإن تقتلوني تقتلوا بي سيّداً ... وإن تطلقوني تحربوني ماليا أبو كرب بشر بن علقمة بن الحارث، والأيهمان الأسود بن علقمة بن الحارث، والعاقب وهو عبد المسيح بن الأبيض، وقيس بن معدي كرب، فزعموا أن قيساً قال: لو جعلني أول القوم لافتديته بكل ما أملك. ثم قتل ولم يقبل له فدية. ربان بالراء والباء الموحدة. ؟ يوم ظهر الدهناء وهو يوم بين طيء وأسد بن خزيمة وسبب ذلك أن أوس بن حارثة بن لأم الطائي كان سيداً مطاعاً في قومه وجواداً مقداماً، فوفد هو وحاتم الطائي على عمرو بن هند، فدعا عمرو أوساً فقال له: أنت أفضل أم حاتم ؟ فقال: أبيت اللعن ! إن حاتماً أوحدها وأنا أحدها، ولو ملكني حاتم وولدي ولحمتي لوهبنا في غداة واحدة. ثم دعا عمرو حاتماً فقال له: أنت أفضل أم أوس ؟ فقال: أبيت اللعن ! إنما ذكرت أوساً ولأحد ولده أفضل مني. فاستحسن ذلك منهما وحباهما وأكرمهما. ثم إن وفود العرب من كل حي اجتمعت عند النعمان بن المنذر وفيهم أوس، فدعا بحلة من حلل الملوك وقال للوفود: احضروا في غد فإني ملبس هذه الحلة أكرمكم. فلما كان الغد حضر القوم جميعاً إلا أوساً، فقيل له: لم تتخلف ؟ فقال: إن كان المراد غيري فأجمل الأشياء بي ألا أكون حاضراً، وإن كنت المراد فسأطلب. فلما جلس النعمان ولم ير أوساً قال: اذهبوا إلى أوس فقولوا له: احضر آمناً مما خفت. فحضر فألبس الحلة، فحسده قوم من أهله، فقالوا للحطيئة: اهجه ولك ثلاثمائة ناقة. فقال: كيف أهجو رجلاً لا أرى في بيتي أثاثاً ولا مالاً إلا منه، ثم قال: كيف الهجاء وما تنفكّ صالحةٌ ... من أهل لأم بظهر الغيب تأتيني فقال لهم بشر بن أبي خازم: أنا اهجوه لكم، فأعطوه النوق، وهجاه فأفحش في هجائه وذكر أمه سعدى. فلما عرف أوس ذلك أغار على النوق فاكتسحها، وطلبه فهرب منه والتجأ إلى بني أسد عشيرته، فمنعوه منه ورأوه تسليمه إليه عاراً. فجمع أوسجديلة طيء وسار بهم إلى أسد، فالتقوا بظهر الدهناء تلقاء تيماء فاقتتلوا قتالاً شديداً، فانهزمت بنو أسد وقتلوا قتلاً ذريعاً، وهرب بشر فجعل لا يأتي حياً يطلب جوارهم إلا امتنع من إجارته على أوس. ثم نزل على جندب بن حصن الكلابي بأعلى الصمان، فأرسل إليه أوس يطلب منه بشراً، فأرسله إليه. فلما قدم به على أوس أشار عليه قومه بقتله، فدخل على أمه سعدى فاستشارها، فأشارت أن يرد عليه ماله ويعفو عنه ويحبوه فإنه لا يغسل هجاءه إلا مدحه. فقبل ما أشارت به وخرج إليه وقال: يا بشر ما ترى أني أصنع بك ؟ فقال: إنّي لأرجو منك يا أوس نعمةً ... وإنّي لأخرى منك يا أوس راهب وإنّي لأمحو بالذي أنا صادق ... به كلّ ما قد قلت إذ أنا كاذب فهل ينفعنّي اليوم عندك أنّني ... سأشكر إن أنعمت والشكر واجب فدىً لابن سعدى اليوم كلّ عشيرتي ... بني أسد أقصاهم والأقارب تداركني أوس بن سعدى بنعمة ... وقد أمكنته من يديّ العواقب فمن عليه أوس وحمله على فرس جواد ورد عليه ما كان أخذ منه وأعطاه من ماله مائةً من الإبل، فقال بشر: لا جرم لا مدحت أحداً، حتى أموت، غيرك، ومدحه بقصيدته المشهورة التي أولها: أتعرف من هنيدة رسم دارٍ ... بحرجي ذروةٍ فإلى لواها ومنها منزل ببراق خبتٍ ... عفت حقباً وغيّرها بلاها وهي طويلة. يوم الوقيط
وكان من حديثه أن اللهازم تجمعت، وهي قيس وتيم اللات ابنا ثعلبة ابن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل ومعها عجل بن لجيم وعنزة ابن أسد بن ربيعة بن نزار لتغير على بني تميم وهم غارون. فرأى ذلك الأعور وهو ناشب بن بشامة العنبري، وكان أسيراً في قيس بن ثعلبة، فقال لهم: أعطوني رجلاً أرسله إلى أهلي أوصيهم ببعض حاجتي. فقالوا له:ترسله ونحن حضور ؟ قال: نعم. فأتوه بغلام مولد، فقال: أتيتموني بأحمق ؟! فقال الغلام: والله ما أنا بأحمق ! فقال: إني أراك مجنوناً ! قال: والله ما بي جنون ! قال: أتعقل ؟ قال: نعم إني لعاقل. قال: فالنيران أكثر أم الكواكب ؟ قال: الكواكب، وكلٌّ كثيرة، فملأ كفه رملاً وقال: كم في كفي ؟ قال: لا أدري فإنه لكثير. فأومأ إلى الشمس بيده وقال: ما تلك ؟ قال: الشمس. قال: ما أراك إلا عاقلاً، اذهب إلى قومي فأبلغهم السلام وقل لهم ليحسنوا إلى أسيرهم فإني عند قوم يحسنون إلي ويكرموني، وقل لهم فليعروا جملي الأحمر ويركبوا ناقتي العيسار بآية ما أكلنا منهم حيساً وليرعوا حاجتي في بني مالك، وأخبرهم أن العوسج قد أورق، وأن النساء قد اشتكت، وليعصوا همام بن بشامة فإنه مشؤوم مجدودٌ، وليطيعوا هذيل بن الأخنس، فإنه حازم ميمون، واسألوا الحارث عن خبري. وسار الرسول فأتى قومه فأبلغهم، فلم يدروا ما أراد، فأحضروا الحارث وقصوا عليه خبر الرسول. فقال للرسول. اقصص علي أول قصتك. فقص عليه أول ما كلمه حتى أتى على آخره. فقال: أبلغه التحية والسلام وأخبره أنا نستوصي به. فعاد الرسول؛ ثم قال لبني العنبر: إن صاحبكم قد بين لكم، أما الرمل الذي جعل في كفه فإنه يخبركم أنه قد أتاكم عددٌ لا يحصى، وأما الشمس التي أومأ إليها فإنه يقول ذلك أوضح من الشمس، وأما جمله الأحمر فالصمان فإنه يأمركم أن تعروه، يعني ترتحلوا عنه، وأما ناقته العيساء فإنه يأمركم أن تحترزوا في الدهناء، وأما بنو مالك فإنه يأمركم أن تنذروهم معكم، وأما إيراق العوسج فإن القوم قد لبسوا السلاح، وأما اشتكاء النساء فإنه يريد أن النساء قد خرزن الشكاء، وهي أسقية الماء للغزو. فحذر بنو العنبر وركبوا الدهناء وأنذروا بني مالك، فلم يقبلوا منهم. ثم إن اللهازم وعجلاً وعنزة أتوا بني حنظلة فوجدوا عمراً قد أجلت، فأوقعوا ببني دارم بالوقيط فاقتتلوا قتالاً شديداً وعظمت الحرب بينهم فأسرت ربيعة جماعةً من رؤساء بني تميم، منهم ضرار بن القعقاع بن معبد بن زرارة فجزوا ناصيته وأطلقوه، وأسروا عثجل بن المأمون بن زرارة، وجويرة بن بدر بن عبد الله بن دارم، ولم يزل في الوثاق حتى رآهم يوماً يشربون، فأنشأ يتغنى يسمعهم ما يقول: وقائلةٍ ما غاله أن يزورنا ... وقد كنت عن تلك الزيارة في شغل وقد أدركتني والحوادث جمّةٌ ... مخالب قومٍ لا ضعافٍ ولا عزل سراعٍ إلى الجّلى بطاءٍ عن الخنا ... رزانٍ لدى الباذين في غير ما جهل لعلّهم أن يمطروني بنعمةٍ ... كما صاب ماء المزن في البلد المحل فقد ينعش الله الفتى بعد ذلّةٍ ... وقد تبتني الحسنى سراة بني عجل فلما سمعوا الأبيات أطلقوه. وأسر أيضاً نعيم وعوف ابنا القعقاع بن معبد بن زرارة وغيرهما من سادات بني تميم، وقتل حكيم بن جذيمة بن الأصيلع النهشلي، ولم يشهدها من نهشل غيره. وعادت بكر فمرت بطريقها بعد الوقعة بثلاثة نفر من بني العنبر لم يكونوا ارتحلوا مع قومهم، فلما رأوهم طردوا إبلهم فأحرزوها من بكر. وأكثر الشعراء في هذا اليوم، فمن ذلك قول أبي مهوش الفقعسي يعير تميماً بيوم الوقيط: فما قاتلت يوم الوقيطين نهشل ... ولا الأنكد الشؤمى فقيم بن دارم ولا قضبت عوفٌ رجال مجاشعٍ ... ولا قشر الأستاه غير البراجم وقال أبو الطفيل عمرو بن خالد بن محمود بن عمرو بن مرثد: حكّت تميمٌ بركها لّما التقت ... راياتنا ككواسر العقبان دهموا الوقيط بجحفلٍ جمّ الوغى ... ورماحها كنوازع الأشطان يوم المروت
وهو يوم بين تميم وعامر بن صعصعة. وكان سببه أنه التقى قعنب بن عتاب الرياحي وبحير بن عبد الله بن سلمة العامري بعكاظ، فقال بحير لقعنب: ما فعلت فرسك البيضاء ؟ قال: هي عندي، وماسؤالك عنها ؟ قال: لأنها نجتك مني يوم كذا وكذا، فأنكر قعنب ذلك وتلاعنا وتداعيا أن يجعل الله ميتة الكاذب بيد الصادق، فمكثا ما شاء الله. وجمع بحير بني عامر وسار بهم فأغار على بني العنبر بن عمرو بن تميم بإرم الكلبة وهم خلوفٌ، فاستاق السبي والنعم ولم يلق قتالاً شديداً، وأتى الصريخ بني العنبر بن عمرو بن تميم وبني مالك بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم وبني يربوع بن حنظلة، فركبوا في الطلب، فتقدمت عمرو ابن تميم. فلما انتهى بحير إلى المروت قال: يا بني عامر انظروا هل ترون شيئاً ؟ قالوا: نرى خيلاً عارضةً رماحها على كواهل خيلها. قال: هذه عمرو بن تميم وليست بشيء، فلحق بهم بنو عمرو فقاتلوهم شيئاً من قتال ثم صدروا عنهم، ومضى بحير، ثم قال: يا بني عامر انظروا هل ترون شيئاً ؟ قالوا: نرى خيلاً ناصبةً رماحها. قال: هذه مالك بن حنظلة وليست بشيء، فلحقوا فقاتلوا شيئاً من قتال ثم صدروا عنهم، ومضى بحير وقال: يا بني عامر انظروا هل ترون شيئاً ؟ قالوا: نرى خيلاً ليست معها رماح وكأنما عليها الصبيان. قال: هذه يربوع رماحها بين آذان خيلها، إياكم والموت الزؤام، فاصبروا ولا أرى أن تنجوا. فكان أول من لحق من بني يربوع الواقعة وهو نعيم بن عتاب، وكان يسمى الواقعة لبليته، فحمل على المثلم القشيري فأسره، وحملت قشير على دوكس بن واقد بن حوط فقتلوه، وأسر نعيم المصفى القشيري فقتله، وحمل كدام بن بجيلة المازني على بحير فعانقه، ولم يكن لقعنب همة إلا بحير، فنظر إليه وإلى كدام قد تانقا فأقبل نحوهما، فقال كدام: يا قعنب أسيري. فقال قعنب: ماز رأسك والسيف، يريد: يا مازني. فخلى عنه كدام وشد عليه قعنب فضربه فقتله، وحمل قعنب أيضاً على صهبان، وأم صهبان مازنية، فأسره، فقالت بنو مازن: يا قعنب قتلت أسيرنا فأعطنا ابن أخينا مكانه، فدفع إليهم صهبان في بحير، فرضوا بذلك، واستنقذت بنو يربوع أموال بني العنبر وسبيهم من بني عامر وعادوا. بحير بفتح الباء الموحدة، وكسر الحاء المهملة. يوم فيف الريحوهو بين عامر بن صعصعة والحارث بن كعب، وكان خبره أن بني عامر كانت تطلب بني الحارث بن كعب بأوتارٍ كثيرة، فجمع لهم الحصين ابن يزيد بن شداد بن قنان الحارثي، وهو ذو الغصة، واستعان بجعفي وزبيد وقبائل سعد العشيرة ومراد وصداء ونهد وخثعم وشهران وناهس وأكلب ثم أقبلوا يريدون بني عامر وهم منتجعون مكاناً يقال له فيف الريح، ومع مذحج النساء والذراري حتى لا يفروا. فاجتمعت بنو عامر، فقال لهم عامر بن الطفيل: أغيروا بنا على القوم فإني أرجو أن نأخذ غنائمهم ونسبي نساءهم ولا تدعوهم يدخلون عليكم. فأجابوه إلى ذلك وساروا إليهم. فلما دنوا من بني الحارث ومذحج ومن معهم أخبرتهم عيونهم وعادت إليهم مشايخهم، فحذروا فالتقوا فاقتتلوا قتالاً شديداً ثلاثة أيام يغادونهم القتال بفيف الريح، فالتقى الصميل بن الأعور الكلابي وعمرو بن صبيح النهدي، فطعنه عمرو، فاعتنق الصميل فرسه وعاد، فلقيه رجل من خثعم فقتله وأخذ درعه وفرسه. وشهدت بنو نمير يومئذ مع عامر بن الطفيل فأبلوا بلاء حسناً وسموا ذلك اليوم حريجة الطعان لأنهم اجتمعوا برماحهم فصاروا بمنزلة الحرجة، وهي شجر مجتمع.
وسبب اجتماعهم أن بني عامر جالوا جولة إلى موضع يقال له العرقوب، والتفت عامر بن الطفيل فسأل عن بني نمير فوجدهم قد تخلفوا في المعركة، فرجع وهو يصيح: يا صباحاه ! يا نميراه ! ولا نمير لي بعد اليوم ! حتى اقتحم فرسه وسط القوم، فقويت نفوسهم، وعادت بنو عامر وقد طعن عامر بن الطفيل ما بين ثغرة نحره إلى سرته عشرين طعنةً. وكان عامر في ذلك اليوم يتعهد الناس فيقول: يا فلان ما رأيتك فعلت شيئاً، فمن أبلى فليرني سيفه أو رمحه، ومن لم يبل شيئاً تقدم فأبلى، فكان كل من أبلى بلاءي حسناً أتاه فأراه الدم على سنان رمحه أو سيفه، فأتاه رجل من الحارثيين اسمه مسهر. فقال له: يا أبا علي أنظر ما صنعت بالقوم ! انظر إلى رمحي ! فلما أقبل عليه عامر لينظر وجأه بالرمح في وجنته ففلقها وفقأ عينه وترك رمحه وعاد إلى قومه. وإنما دعاه إلى ذلك ما رآه يفعل بقومه، فقال: هذا والله مبير قومي ! فقال عامر بن الطفيل: أتونا بشهران العريضة كلّها ... وأكلب طرّاً في جياد السّنّور لعمري وما عمري عليّ بهينّ ... لقد شان حرّ الوجه طعنة مسهر فبئس الفتى أن كنت أعور عاقراً ... جباناً وما أغنى لدى كل حضر وأسرت بنو عامر يومئذ سيد مراد جريحاً، فلما برأ من جراحته أطلق. وممن أبلى يومئذ أربد بن قيس بن حر بن خالد بن جعفر، وعبيد بن شريح بن الأحوص بن جعفر؛ وقال لبيد بن ربيعة، ويقال إنها لعامر ابن الطفيل: أتونا بشهران العريضة كلّها ... وأكلبها في مثل بكر بن وائل فبتنا ومن ينزل به مثل ضيفنا ... يبت عن قرى أضيافه غير غافل أعاذل لو كان البداد لقوبلوا ... ولكن أتانا كلّ جنٍّ وخابل وخثعم حيّ يعدلون بمذحج ... فهل نحن إلاّ مثل إحدى القبائل وأسرع القتل في الفريقين جميعاً، ثم إنهم افترقوا ولم يشتغل بعضهم عن بعض بغنيمة، وكان الصبر فيها والشرف لبني عامر. يوم اليحاميم ويعرف أيضاً بقارات حوق وهو بين قبائل طيء بعضها في بعض. وكان سبب ذلك أن الحارث بن جبلة الغساني كان قد أصلح بين طيء. فلما هلك عادت إلى حربها، فالتقت جديلة والغوث بموضع يقال له غرثان، فقتل قائد بني جديلة وهو أسبع بن عمرو بن لأم عم أوس ابن خالد بن حارثة بن لأم، وأخذ رجل من سنبس يقال له مصعب أذنيه فخصف بهما نعليه، وفي ذلك يقول أبو سروة السنبسي: نخصف بالآذان منكم نعالنا ... ونشرب كرهاً منكم في الجماجم وتناقل الحيان في ذلك أشعاراً كثيرة، وعظم ما صمعت الغوث على أوس ابن خالد بن لأم، وعزم على لقاء الحرب بنفسه، وكان لم يشهد الحروب المتقدمة هو ولا أحد من رؤساء طيء كحاتم بن عبد الله وزيد الخيل وغيرهم من الرؤساء، فلما تجهز أوسى للحرب وأخذ في جمع جديلة ولفها قال أبو جابر: أقيموا علينا القصد يا آل طيّء ... وإلاّ فإنّ العلم عند التحاسب فمن مثلنا يوماً إذا الحرب شمّرت ... ومن مثلنا يوماً إذا لم نحاسب فإن تقطعيني أو تريدي مساءتي ... فقد قطع الخوف المخوف ركائبي
وبلغ الغوث جمع أوس لها وأوقدت النار على مناع، وهي ذروة أجأ، وذلك أول يوم توقد عليه النار. فأقبلت قبائل الغوث، كل قبيلة وعليها رئيسها، منهم زيد الخيل وحاتم، وأقبلت جديلة مجتمعة على أوس بن حارثة بن لأم، وحلف أوس أن لا يرجع عن طيء حتى ينزل معها جبليها أجأ وسلمى وتجبي له أهلها، وتزاحفوا والتقوا بقارات حوق على راياتهم فاقتتلوا قتالاً شديداً، ودارت الحرب على بني كباد بن جندب فأبيروا. قال عدي بن حاتم: إني لواقفٌ يوم اليحاميم والناس يقتتلون إذ نظرت إلى زيد الخيل قد حضر ابنيه مكنفاً وحريثاً في شعب لا منفذ له وهو يقول: أي ابني أبقيا على قومكما فإن اليوم يوم التفاني فإن يكن هؤلاء أعماماً فهؤلاء أخوال. فقلت: كأنك قد كرهت قتال أخوالك ! قال: فاحمرت عيناه غضباً وتطاول إلي حتى نظرت إلى ما تحته من سرجه فخفته، فضربت فرسي وتنحيت عنه. واشتغل بنظره إلي عن ابنيه، فخرجا كالصقرين، وحمل قيس بن عازب على بحير بن زيد الخيل بن حارثة بن لأم فضربه على رأسه ضربة عنق لها بحير فرسه وولى، فانهزمت جديلة عند ذلك وقتل فيها قتلٌ ذريعٌ، فقال زيد الخيل: تجيء بني لأم جيادٌ كأنّها ... عصائب طير يوم طلٍّ وحاصب فإن تنج منها لا يزل بك شامة ... أناء حياً بين الشّجا والترائب وفرّ ابن لأم واتّقانا بظهره ... يردّعه بالرمح قيس بن عازب وجاءت بنو معنٍ كأنّ سيوفهم ... مصابيح من سقف فليس بآيب وما فرّ حتّى أسلم ابن حمارسٍ ... لوقعة مصقول من البيض قاضب فلم تبق لجديلة بقية للحرب بعد يوم اليحاميم، فدخلوا بلاد كلب حالفوهم وأقاموا معهم. يوم ذي طلوحوهو يوم الصمد، ويوم أودٍ أيضاً، وهو بين بكر وتميم، وكان من حديثه أن عميرة بن طارق بن أرثم اليربوعي التميمي تزوج مرية بنت جابر العجلي أخت أبجر وسار غل عجل ليبتني بأهله. وكان له في بني تميم امرأة أخرى تعرف بابنة النطف من بني تميم، فأتى أبجر أخته يزورها وزوجها عندها. فقال لها أبجر: إني لأرجو أن آتيك بابنة النطف امرأة عميرة. فقال له: ما أراك تبقي علي حتى تسلبني أهلي. فندم أبجر وقال له: ما كنت لأغزو قومك ولكنني مستأسر في هذا الحي من تميم، وجمع أبجر والحوفزان بن شريك الشيباني، الحوفزان على شيبان وأبجر على اللهازم، ووكلا بعميرة من يحرسه لئلا يأتي قومه فينذرهم. فسار الجيش، فاحتال عميرة على الموكل بحفظه وهرب منه وجد السير إلى أن وصل إلى بني يربوع فقال لهم: قد غزاكم الجيش من بكر بن وائل، فأعلموا بني ثعلبة بطناً منهم، فأرسلوا طليعة منهم فبقوا ثلاثة أيام، ووصلت بكر فركبت يربوع والتقوا بذي طلوح. فركب عميرة ولقي أبجر فعرفه نفسه، والتقى القوم واقتتلوا فكان الظفر ليربوع. وانهزمت بكر وأسر الحوفزان وابنه شريك وابن عنمة الشاعر، وكان مع بني شيبان فافتكه متمم بن نويرة، وأسر أكثر الجيش البكري؛ وقال ابن عنمة يشكر متمماً: جزي الله ربّ الناس عنّي متممّاً ... بخير الجزاء ما أعفّ وأجودا أجيرت به أبناؤنا ودماؤنا ... وشارك في إطلاقنا وتفرّدا أبا نهشل إنّي غير كافرٍ ... ولا جاعلٍ من دونك المال سرمدا يوم أقرنقال أبو عبيدة: غزا عمرو بن عمرو بن عدس التميمي بني عبس فأخذ إبلهم واستاق سبيهم وعاد حتى إذا كان أسفل ثنية أقرن نزل وابتنى بجارية من السبي، ولحقه الطلب فاقتتلوا قتالاً شديداً، فقتل أنس الفوارس ابن زياد العبسي عمراً وابنه حنظلة واستردوا الغنيمة والسبي، فنعى جريرٌ على بني دارم ذلك فقال: أتنسون عمراً يويم برقة أقرن ... وحنظلة المقتول إذ هو يافعا وكان عمرو أسلع أبرص، وكان هو ومن معه قد أخطأوا ثنية الطريق في عودهم وسلكوا غير الطريق، فسقطوا من الجبل الذي سلكوه فلقوا شدة ففي ذلك يقول عنترة: كأنّ السرايا يوم نيقٍ وصارةٍ ... عصائب طيرٍ ينتحين لمشرب شفى النفس منّي أو دنا لشفائها ... تهوّرهم من حالقٍ متصوّب وقد كنت أخشى أن أموت ولم تقم ... مراتب عمروٍ وسط نوحٍ مسلّب
وكانت أم سماعة بن عمرو بن عمرو من عبس، فزاره خاله فقتله بأبيه، فقال في ذلك مسكين الدارمي: وقاتل خاله بأبيه منّا ... سماعة لم يبع نسباً بخال يوم السلانقال أبو عبيدة: كان بنو عامر بن صعصعة حمساً، والحمس قريش ومن له فيهم ولادة، والحمس متشددون في دينهم، وكانت عامر أيضاً لقاحاً لا يدينون للملوك. فلما ملك النعمان بن المنذر ملكه كسرى أبرويز، وكان يجهز كل عام لطيمة، وهي التجارة، لتباع بعكاظ، فعرضت بنو عامر لبعض ما جهزه فأخذوه. فغضب لذلك النعمان وبعث إلى أخيه لأمه، وهو وبرة بن رومانس الكلبي، وبعث إلى صنائعه ووضائعه، والصنائع من كان يصطنعه من العرب ليغزيه، والوضائع هم الذين كانوا شبه المشايخ، وأرسل إلى بني ضبة بن أد وغيرهم من الرباب وتميم فجمعهم، فأجابوه، فأتاه ضرار بن عمرو الضبي في تسعة من بنيه كلهم فوارس ومعه حبيش ابن دلف، وكان فارساً شجاعاً، فاجتمعوا في جيش عظيم، فجهز النعمان معهم عيراً وأمرهم بتسييرها وقال لهم: إذا فرغتم من عكاظ وانسلخت الحرم ورجع كل قوم إلى بلادهم فاقصدوا بني عامر فإنهم قريب بنواحي السلان. فخرجوا وكتموا أمرهم وقالوا: خرجنا لئلا يعرض أحد للطيمة الملك. فلما فرغ الناس من عكاظ علمت قريش بحالهم، فأرسل عبد الله بن جدعان قاصداً إلى بني عامر يعلمهم الخبر، فسار إليهم وأخبرهم خبرهم، فحذروا وتهيأوا للحرب وتحرزوا ووضعوا العيون، وعاد بنو عامر عليهم عامر ابن مالك ملاعب الأسنة، وأقبل الجيش فالتقوا بالسلان فاقتتلوا قتالاً شديداً. فبينا هم يقتتلون إذ نظر يزيد بن عمرو بن خويلد الصعق إلى وبرة بن رومانس أخي النعمان فأعجبه هيئته، فحمل عليه فأسره. فلما صار في أيديهم هم الجيش بالهزيمة، فنهاهم ضرار بن عمرو الضبي وقام بأمر الناس فأسره. فلما صار في أيديهم هم الجيش بالهزيمة، فنهاهم ضرار بن عمرو الضبي وقام بأمر الناس فقاتل هو وبنوه قتالاً شديداً. فلما رآه أبو براء عامر بن مالك وما يصنع ببني عامر هو وبنوه حمل عليه، وكان أبو براء رجلاً شديد الساعد. فلما حمل على ضرار اقتتلا، فسقط ضرار إلى الأرض وقاتل عليه بنوه حتى خلصوه وركب، وكان شيخاً، فلما ركب قال: من سره ساءته نفسه؛ فذهبت مثلاً. يعني من سره بنوه إذا صاروا رجالاً كبر وضعف فساءه ذلك. وجعل أبو براء يلح على ضرار طمعاً في فدائه، وجعل بنوه يحمونه. فلما رأى ذلك أبو براء قال له: لتموتن أو لأموتن دونك فأحلني على رجل له فداء. فأومأ ضرار إلى حبيش بن دلف، وكان سيداً، فحمل عليه أبو براء فأسره، وكان حبيش أسود نحيفاً دميماً، فلما رآه كذلك ظنه عبداً وأن ضراراً خدعه، فقال: أنا لله، أعزز سائر القوم، ألا في الشؤم وقعت ! فلما سمعها حبيش منه خاف أن يقتله فقال: أيها الرجل إن كنت تريد اللبن، يعني الإبل، فقد أصبته. فافتدى نفسه بأربعمائة بعير وهزم جيش النعمان. فلما رجع الفل إليه أخبروه بأسر أخيه وبقيام ضرار ب أمر الناس وما جرى له مع أبي براء، واقتدى وبرة بن رومانس نفسه بألف بعير وفرس من يزيد بن الصعق، فاستغنى يزيد، وكان قبله خفيف الحال؛ وقال لبيد يذكر أيام قومه: إنّي امرؤ منعت أرومة عامر ... ضيمي وقد حنقت عليّ خصوم يقول فيها: وغداة قاع القريتين أتاهم ... رهواً يلوح خلالها التسويم بكتائبٍ رجحٍ تعوّد كبشها ... نطع الكباش كأنّهنّ نجوم قوله: قاع القريتين، يعني يوم السلان. حبيش بن دلف بضم الحاء المهملة، وبالباء الموحدة، وبالياء المثناة من تحتها نقطتان، وآخره شين معجمة. يوم ذي علق
وهو يوم التقى فيه بنو عامر بن صعصعة وبنو أسد بذي علق فاقتتلوا قتالاً عظيماً. قتل في المعركة ربيعة بن مالك بن جعفر بن كلاب العمري أبو لبيد الشاعر وانهزمت عامر، فتبعهم خالد بن نضلة الأسدي وابنه حبيب والحارث ابن خالد بن المضلل وأمعنوا في الطلب، فلم يشعروا إلا وقد خرج عليهم أبو براء عامر بن مالك من وراء ظهورهم في نفر من أصحابه، فقال لخالد: يا أبا معقل إن شئت أجزتنا وأجزناك حتى نحمل جرحانا وندفن قتلانا. قال: قد فعلت. فتواقفوا. فقال له أبو براء: عل علمت ما فعل ربيعة ؟ قال: نعم، تركته قتيلاً. قال: ومن قتله ؟ قال: ضربته أنا وأجهز عليه صامت بن الأفقم. فلما سمع أبو براء بقتل ربيعة حمل على خالد هو ومن معه، فمانعهم خالد وصاحباه وأخذوا سلاح حبيب بن خالد، ولحقهم بنو أسد فمنعوا أصحابهم وحموهم، فقال الجميح: سائل معدّاً عن الفوارس لا ... أوفوا بجيرانهم ولا سلموا يسعى بهم قرزلٌ ويستمع ال ... ناس إليهم وتخفق اللّمم ركضاً وقد غادروا ربيعة في ... الأثآر لّما تقارب النّسم في صدره صعدةٌ ويخلجه ... بالرمح حرّان باسلاً أضم قرزل فرس الطفيل والد عامر بن الطفيل. وقال لبيد من قصيدة يذكر أباه: ولا من ربيع المقترين رزئته ... بذي علقٍ فاقني حياءك واصبري يوم الرقمقال أبو عبيدة: غزت عامر بن صعصعة غطفان، ومع بني عامر يومئذ عامر بن الطفيل شاباً لم يرئس بعد، فبلغوا وادي الرقم، وبه بنو مرة بن عوف بن سعد ومعهم قوم من أشجع بن ذئب بن غطفان وناس من فزارة ابن ذبيان، فنذروا ببني عامر وهجمت عليهم بنو عامر بالرقم، وهو وادٍ بقرب تضرع، فالتقوا فاقتتلوا قتالاً شديداً، فأقبل عامر بن الطفيل فرأى امرأةً من فزارة فسألها. فقالت: أنا أسماء بنت نوفل الفزاري. وقيل: كانت أسماء بنت حصن بن حذيفة. فبينا عامر يسألها خرج عليه المنهزمون من قومه وبنو مرة في أعقابهم. فلما رأى ذلك عامر ألقى درعه إلى أسماء وولى منهزماً، فأدتها إليه بعد ذلك، وتبعتهم مرة وعليهم سنان بن حارثة بن أبي حارثة المري، وجعل الأشجعيون يذبحون كل من أسروه من بني عامر لوقعة كانت أوقعتها بهم بنو عامر، فذلك البطن من بني أشجع يسمون بني مذبح، فذبحوا سبعين رجلاً منهم، فقال عامر بن الطفيل يذكر غطفان ويعرض بأسماء: قد ساءت أسماء وهي خفيّة ... لضحائها أطردت أم لم أطرد فلأبغيّنكم القنا وعوارضاً ... ولأقبلنّ الخيل لابة ضرغد ولأبرزنّ بمالك وبمالك ... وأخي المرورات الذي لم يسند في أبيات عدة. فلما بلغ شعره غطفان هجاه منهم جماعة، وكان نابغة بني ذبيان حينئذ غائباً عند ملوك غسان قد هرب من النعمان. فلما آمنه النعمان وعاد سأل قومه عما هجوا به عامر بن الطفيل، فأنشدوه ما قالوا فيه وما قال فيهم، فقال: لقد أفحشتم وليس مثل عامر يهجى بمثل هذا، ثم قال يخطئ عامراً في ذكره امرأة من عقائلهم: فإن يك عامرٌ قد قال جهلاً ... فإنّ مطيّة الجهل الشباب فإنّك سوف تحلم أو تباهي ... إذا ما شبت أو شاب الغراب فكن كأبيك أو كأبي براءٍ ... توافقك الحكومة والصواب فلا تذهب بحلمك طامياتٌ ... من الخيلاء ليس لهنّ باب إلى آخرها. فلما سمعها عامر قال: ما هجيت قبلها. يوم ساحوققال أبو عبيدة: غزت بنو ذبيان بني عامر وهم بساحوق، وعلى ذبيان سنان بن أبي حارثة المري، وقد جهزهم وأعطاهم الخيل والإبل وزودهم، فأصابوا نعماً كثيرة وعادوا، فلحقتهم بنو عامر واقتتلوا قتالاً شديداً. ثم انهزمت بنو عامر وأصيب منهم رجالٌ وركبوا الفلاة، فهلك أكثرهم عطشاً، وكان الحر شديداً، وجعلت ذبيان تدرك الرجل منهم فيقولون له: قف ولك نفسك وضع سلاحك، فيفعل. وكان يوماً عظيماً على عامر، وانهزم عامر ابن الطفيل وأخوه الحكم، ثم إن الحكم ضعف وخاف أن يؤسر فجعل في عنقه حبلا وصعد إلى شجرة وشده ودلى نفسه فاختنق، وفعل مثله رجلٌ من بني غني، فلما ألقى نفسه ندم فاضطرب، فأدركوه وخلصوه وعيروه يجزعه؛ وقال عروة بن الورد العبسي في ذلك:
ونحن صبحنا عامراً في ديارها ... علالة أرماحٍ وضرباً مذكّرا بكلّ رقاق الشفرتين مهنّدٍ ... ولدنٍ من الخطيّ قد طرّ أسمرا عجبت لهم إذ يخنقون نفوسهم ... ومقتلهم تحت الوغى كان أجدرا يوم أعيار ويوم النّقيعة كان المثلم بن المشجر العائذي ثم الضبي مجاوراً لبني عبس؛ فتقامر هو وعمارة بن زياد، وهو أحد الكملة، فقمره عمارة حتى اجتمع عليه عشرة أبكر، فطلب منه المثلم أ، يخلي عنه حتى يأتي أهله فيرسل إليه بالذي له، فأبى ذلك، فرهنه ابنه شرحاف بن المثلم، وخرج المثلم فأتى قومه فأخذ البكارة فأتى بها عمارة وافتكّ ابنه. فلما انطلق بابنه قال له في الطريق: يا أبتاه من معضالٌ ؟ قال: ذلك رجل من بني عمك ذهب فلم يوجد إلى الساعة. قال شرحاف: فإني قد عرفت قاتله. قال أبوه: ومن هو ؟ قال: عمارة بن زياد سمعته يقول للقوم يوماً وقد أخذ فيه الشراب إنه قتله ولم يلق له طالباً. ولبثوا بعد ذلك حيناً وشب شرحاف. ثم إن عمارة جمع جمعاً عظيماً من عبس فأغار بهم على بني ضبة فأخذوا إبلهم، وركبت بنو ضبة فأدركوهم في المرعى. فلما نظر شرحاف إلى عمارة قال: يا عمارة أتعرفني ؟ قال: من أنت ؟ قال: أنا شرحاف، أد إلي ابن عمي معضالاً، لا مثله يوم قتلته ! وحمل عليه فقتله، وقاتتلت ضبة وعبس قتالاً شديداً واستنقذت ضبة الإبل، وقال شرحاف: ألا أبلغ سراة بني بغيض ... بما لاقت سراة بني زياد وما لاقت جذيمة إذ تحامي ... وما لاقى الفوارس من بجاد تركنا بالنقيعة آل عبسٍ ... شعاعاً يقتلون بكلّ واد وما إن فاتنا إلاّ شريد ... يؤمّ القفر في تيه البلاد فسل عنّا عمارة آل عبسٍ ... وسل ورداً وما كلٌّ بداد تركتهم بوادي البطن رهناً ... لسيدان القرارة والجلاد يوم النباةقال أبو عبيدة: خرجت بنو عامر تريد غطفان لتدرك بثأرها يوم الرق ويوم ساحوق، فصادفت بني عبس وليس معهم أحد من غطفان، وكانت عبس لم تشهد يوم الرقم ولا يوم ساحوق مع غطفان ولم يعينوهم على بني عامر، وقيل: بل شهدها أشجع وفزارة وغيرهما من بني غطفان، على ما نذكره. قال: وأغارت بنو عامر على نعم بني عبس وذبيان وأشجع فأخذوها وعادوا متوجهين إلى بلادهم فضلوا في الطريق فسلكوا وادي النباة فأمعنوا فيه ولا طريق لهم ولا مطلع حتى قاربوا آخره. وكان الجبلان يلتقيان إذا هم بامرأة من بني عبس تخبط الشجر لهم في قلة الجبل. فسألوها عن المطلع، فقالت لهم: الفوارس المطلع، وكانت قد رأت الخيل قد أقبلت وهي على الجبل، ولم يرها بنو عامر لأنهم في الوادي، فأرسلوا رجلاً إلى قلة الجبل ينظر، فقال لهم: أرى قوماً كأنهم الصبيان على متون الخيل، أسنة رماحهم عند آذان خيلهم. قالوا: تلك فزارة. قال: وأرى قوماً بيضاً جعاداً كأن عليهم ثياباً حمراً. قالوا: تلك أشجع. قال: وأرى قوماً نسوراً قد قلعوا خيولهم بسوادهم كأنما يحملونها حملاً بأفخاذهم آخذين بعوامل رماحهم يجرونها. قالوا: تلك عبس، أتاكم الموت الزؤام ! ولحقهم الطلب بالوادي، فكان عامر بن الطفيل أول من سبق على فرسه الورد ففات القوم، وأعيا فرسه الورد، وهو المربوق أيضاً، فعقره لئلا تفتحله فزارة، واقتتل الناس، ودام القتال بينهم، وانهزمت عامر فقتل منهم مقتلة كبيرة، قتل فيها من أشرافهم البراء بن عامر بن مالك، وبه يكنى أبوه، وقتل نهشل وأنس وهزان بنو مرة بن أنس بن خالد بن جعفر، وقتلوا عبد الله بن الطفيل أخا عامر، قتله الربيع بن زياد العبسي، وغيرهم كثير، وتمت الهزيمة على بني عامر. يوم الفراتقال أبو عبيدة: أغار المثنى بن حارثة الشيباني، وهو ابن أخت عمران ابن مرة، على بني تغلب، وهم عند الفرات، وذلك قبيل الإسلام، فظفر بهم فقتل من أخذ من مقاتلتهم وغرق منهم ناسٌ كثير في الفرات وأخذ أموالهم وقسمها بين أصحابه، فقال شاعرهم في ذلك: ومنّا الذي غشّى الدليكة سيفه ... على حين أن أعيا الفرات كتائبه ومنّا الذي شدّ الرّكيّ ليستقي ... ويستقي محضاً غير ضافٍ جوانبه ومنّا غريب الشام لم ير مثله ... أفكّ لعانٍ قد تناءى أقاربه
الدليكة: فرس المثنى بن حارثة، والذي شد الركي مرة بن همام، وغريب الشام ابن القلوص بن النعمان بن ثعلبة. يوم بارققال المفضل الضبي: إن بني تغلب والنمر بن قاسط وناساً من تميم اقتتلوا حتى نزلوا ناحية بارق، وهي من أرض السواد، وأرسلوا وفداً منهم إلى بكر بن وائل يطلبون إليهم الصلح، فاجتمعت شيبان ومن معهم وأرادوا قصد تغلب ومن معهم، فقال زيد بن شريك الشيباني: إني قد أجرت أخوالي وهم النمر بن قاسط، فأمضوا جواره وساروا وأوقعوا ببني تغلب وتميم فقتلوا منهم مقتلة عظيمة لم تصب تغلب بمثلها واقتسموا الأسرى والأموال، وكان من أعظم الأيام عليهم، قتل الرجال ونهب الأموال وسبي الحريم، فقال أبو كلبة الشيباني: وليلة بسعادى لم تدع سنداً ... لتغلبيٍّ ولا أنفاً ولا حسبا والنمريّون لولا سرّ من ولدوا ... من آل مرّة شاع الحيّ منتهبا يوم طخفةوهو لبني يربوع على عساكر النعمان بن المنذر. قال أبو عبيدة: وكان سبب هذه الحرب أن الرادفة، وهي بمنزلة الوزارة، وكان الرديف يجلس عن يمين الملك، كانت لبني يربوع من تميم يتوارثونها صغيراً عن كبير. فلما كان أيام النعمان، وقيل أيام ابنه المنذر، سألها حاجب ابن زرارة الدرامي التميمي النعمان أن يجعلها للحارث بن بيبة بن قرط ابن سفيان بن مجاشع الدارمي التميمي، فقال النعمان لبني يربوع في هذا وطلب منهم أن يجيبوا إلى ذلك، فامتنعوا، وكان منزلهم أسفل طخفة، فحيث امتنعوا من ذلك بعث إليهم النعمان قابوس ابنه وحساناً أخاه ابني المنذر، قابوس على الناس، وحسان على المقدمة، وضم إليهما جيشاً كثيفاً، منهم الصنائع والوضائع وناس من تميم وغيرهم، فساروا حتى أتوا طخفة فالتقوا هم ويربوع واقتتلوا، وصبرت يربوع وانهزم قابسو ومن معه، وضرب طارق أبو عميرة فرس قابوس فعقره وأسره، وأراد أن يجز ناضيته، فقال: إن الملوك لا تجز نواصيها، فأرسله. وأما حسان فأسره بشر بن عمرو بن جوين فمن عليه وأرسله. فعاد المنهزمون إلى النعمان، وكان شهاب بن قيس بن كياس اليربوعي عند الملك، فقال له: يا شهاب أدرك ابني وأخي، فإن أدركتهما حيين فلبني يربوع حكمهم وأرد عليهم ردافتهم وأترك لهم من قتلوا وما غنموا وأعطيهم ألفي بعير. فسار شهاب فوجدهما حيين فأطلقهما، ووفى الملك لبني يربوع بما قال ولم يعرض لهم في ردافتهم؛ وقال مالك ابن نويرة: ونحن عقرنا مهر قابوس بعدما ... رأى القوم منه الموت والخيل تلحب عليه دلاصٌ ذات نسجٍ وسيفه ... جرازٌ من الهنديّ أبيض مقضب طلبنا بها، إنّا مداريك نيلها ... إذا طلب الشّأو البعيد المغرّب يوم النباج وثيتلقال أبو عبيدة: غزا قيس بن عاصم المنقري ثم التميمي بمقاعس، وهم بطون من تميم، وهم صريم وربيع وعبيد بنو الحارث بن عمرو بن كعب بن سعد، وغزا معه سلامة بن ظرب الحماني في الأحارث، وهم بطون من تميم أيضاً، وهم حمان وريعة ومالك والأعرج بنو كعب بن سعد، فغزوا بكر بن وائل، فوجدوا اللهازم، وهم بنو قيس وتيم اللات ابناء ثعلبة بن عكاشة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل، ومعهم بنو ذهل ابن ثعلبة وعجل بن لجيم وعنزة بن أسد بن ربيعة بالنباج وثيتل، وبينهما روحةٌ، فأغار قيس على النياح، ومضى سلامة إلى ثيتل ليغير على من بها. فلما بلغ قيس إلى النباج، ومضى سلامة إلى ثيتل ليغير على من بها. فلما بلغ قيس إلى النباح سقى خيله ثم أراق ما معهم من الماء وقال لمن معه: قاتلوا فالموت بين أيديكم والفلاة من ورائكم، فأغار على من به من بكر صبحاً فقاتلوهم قتالاً شديداً وانهزمت بكر وأصيب من غنائمهم ما لا يحد كثرة. فلما فرغ قيس من النهب عاد مسرعاً إلى سلامة ومن معه نحو ثيتل فأدركهم، ولم يغز سلامة على من به، فأغار عليهم قيس أيضاً، فقاتلوه وانهزموا، وأصاب من الغنائم نحو ما أصاب بالنباج، وجاء سلامة فقال: أغرتم على من كان لي، فتنازعوا حتى كاد الشر يقع بينهم، ثم اتفقوا على تسليم الغنائم إليه؛ ففي ذلك يقول ربيعة بن طريف: فلا يبعدنك الله قيس بن عاصم ... فأنت لنا عزٌّ عزيزٌ ومعقل وأنت الذي حرّبت بكر بن وائل ... وقد عضّلت منها النباج وثيتل وقال قرة بن زيد بن عاصم:
أنا ابن الذي شقّ المرار وقد رأى ... بثيتل أحياء اللهازم حضّرا فصبّحهم بالجيش قيس بن عاصم ... فلم يجدوا إلاّ الأسنّة مصدرا سقاهم بها الذيفان قيس بن عاصم ... وكان إذا ما أورد الأمر أصدرا على الجرد يعلكن الشكيم عوابساً ... إذا الماء من أعطافهنّ تحدرّا فلم يرها الراؤون إلاّ فجاءةً ... يثرن عجاجاً كالدواخن أكدرا وحمران أدّته إلينا رماحنا ... فنازع غلاًّ في ذراعيه أسمرا ثيتل بالثاء المثلثة المفتوحة، والياء المسكنة المثناة من تحتها، والتاء المثناة من فوقها. يوم فلجقال أبو عبيدة: هذا يوم لبكر بن وائل على تميم. وسببه أن جمعاً من بكر ساروا إلى الصعاب فشتوا بها، فلما انقضى الربيع انصرفوا فمروا بالدو فلقوا ناساً من بني تميم من بني عمرو وحنظلة، فأغاروا على نعمٍ كثير لهم ومضوا، وأتى بني عمرو وحنظلة الصريخ فاستجاشوا لقومهم فأقبلوا في آثار بكر بن وائل فساروا يومين وليلتين حتى جهدهم السير وانحدروا في بطن فلج، وكانوا قد خلفوا رجلين على فرسين سابقين ربيئة ليخبراهم بخبرهم إن ساروا إليهم. فلما وصلت تميم إلى الرجلين أجريا فرسيهما وسارا مجدين فأنذرا قومهما، فأتاهم الصريخ بمسير تميم عند وصولهم إلى فلج، فضرب حنظلة بن يسار العجلي قبته ونزل فنزل الناس معه وتهيأوا للقتال معه، ولحقت بنو تميم فقاتلتهم بكر بن وائل قتالاً شديداً، وحمل عرفجة بن بحير العجلي على خالد بن مالك بن سلمة التميمي فطعنه وأخذه أسيراً. وقتل في المعركة ربعي بن مالك بن سلمة، فانهزمت تمي وبلغت بكر بن وائل منها ما أرادت، ثم إن عرفجة أطلق خالد بن مالك وجز ناصيته، فقال خالد: وجدنا الرفد رفد بني لجيم ... إذا ما قلّت الأرفاد زادا هم هم ضربوا القباب ببطن فلجٍ ... وذادوا عن محارمهم ذيادا وهم وهم منّوا عليّ وأطلقوني ... وقد طاعوعت في الجنب القيادا أليسوا خير من ركب المطايا ... وأعظمهم إذا اجتمعوا رمادا أليس هم عماد الحيّ بكراً ... إذا نزلت مجلّلة شدادا وقال قيس بن عاصم يعير خالداً: لو كنت حرّاً يا ابن سلمى بن جندل ... نهضت ولم تقصد لسلمى ابن جندل فما بال أصداء بفلجٍ غريبة ... تنادي مع الأطلال: يا لابن حنظل صوادي لا مولّىً عزيزٌ يجيبها ... ولا أسرةٌ تسقي صداها بمنهل وغادرت ربعيّا بفلجٍ ملحّباً ... وأقبلت في أولى الرعيل المعجّل توائل من خوف الرّدى لاوقيته ... كما نالت الكدراء من حين أجدل يعيره حيث لم يأخذ بثأر أخيه ربعي ومن قتل معه يوم فلج، ويقول: إن أصداءهم تنادي ولا يسقيها أحد، على مذهب الجاهلية، ولولا التطوير لشرحناه أبين من هذا. يوم الشيطينقال أبو عبيدة: كان الشيطان لبكر بن وائل، فلما ظهر الإسلام في نجد سارت بكر قبل السواد، وبقي مقايس بن عمرو العائذي بن عائذة من قريش حليف بني شيبان بالشيطين. فلما أقامت بكر في السواد لحقهم الوباء والطاعون الذي كان أيا كسرى شيرويه فعادوا هاربين فنزلوا لعلع، وهي مجدبة، وقد أخصب الشيطان، فسارت تميم فنزلوا بها، وبلغت أخبار خصب الشيطين إلى بكر، فاجتمعوا وقالوا: نغير على تميم، فإن في دين ابن عبد المطلب، يعنون النبي، أن من قتل نفساً قتل بها، فنغير هذه الغارة ثم نسلم عليها، فارتحلوا من لعلع بالذراري والأموال ورئيسهم بشر بن مسعود ابن قيس بن خالد فأتوا الشيطين في أربع ليال، والذي بينهما مسيره ثماني ليالٍ، فسبقوا كل خبر حتى صبحوهم وهم لا يشعرون فقاتلوهم قتالاً شديداً وصبرت تميم ثم انهزمت، فقال رشيد بن رميض العنبري يفخر بذلك: وما كان بين الشيّطين ولعلعٍ ... لنسوتنا إلاّ مناقل أربع فجئنا بجمعٍ لم ير الناس مثله ... يكاد له ظهر الوديعة يطلع بأرعن دهمٍ تنسل البلق وسطه ... له عارضٌ فيه المنيّة تلمع
صبحنا به سعداً وعمراً ومالكاً ... فظلّ لهم يومٌ من الشرّ أشنع وذا حسبٍ من آل ضبّة غادروا ... بجريٍ كما يجري الفصيل المفزّع تقصّع يربوعٌ بسرّة أرضنا ... وليس ليربوع بها متقصّع ثم إن النبي، صلى الله عليه وسلم، وكتب إلى بكر بن وائل على ما بأيديهم. الشيطان بالشين المعجمة، والياء المشددة المثناة من تحتها، وبالطاء المهملة، آخره نون. أيام الأنصار وهم الأوس والخزرج التي جرت بينهمالأنصار لقب قبيلتي الأوس والخزرج ابني حارثة بن ثعلبة العنقاء بن عمرو مزيقياء بن عامر ماء السماء بن حارثة الغطريف بن امرئ القيس البطريق بن ثعلبة بن مازن بن الأزد بن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، لقبهم به رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لما هاجر إليهم ومنعوه ونصروه، وأم الأوس والخزرج قيلة بنت كاهل بن عذرة بن سعد، ولذلك يقال لهم أبناء قيلة. وإنما لقب ثعلبة العنقاء لطول عنقه، ولقب عمرو مزيقياء لأنه كان يمزق عنه كل يوم حله لئلا يلبسها أحد بعده، ولقب عامر ماء السماء لسماحته وبذلك كأنه ناب مناب المطر، وقيل لشرفه، ولقب امرؤ القيس البطريق لأنه أول من استعان به بنو إسرائيل من العرب بعد بلقيس، فبطرقه رحبعم ابن سليمان بن داود، عليه السلام، فقيل له البطريق، وكانت مساكن الأزد بمأرب من اليمن إلى أن أخبر الكهان عمرو بن عامر مزيقياء أن سيل العرم يخرب بلادهم ويغرق أكثر أهلها عقوبةً لهم بتكذيبهم رسل الله تعالى إليهم. فلما علم ذلك عمرو باع ما له من مال وعقار وسار عن مأرب هو ومن تبعه، ثم تفرقوا في البلاد فسكن كل بطن ناحية اختاروها، فسكنت خزاعة الحجاز، وسكنت غسان الشام. ولما سار ثعلبة بن عمرو بن عامر فيمن معه اجتازوا بالمدينة، وكانت تسمى يثرب، فتخلف بها الأوس والخزرج ابنا حارثة فيمن معهما، وكان فيها قرىً وأسواق وبها قبائل من اليهود من بني إسرائيل وغيرهم، منهم قريظة والنضير وبنو قينقاع وبنو ماسلة وزعورا وغيرهم، وقد بنوا لهم حصوناً يجتمعون بها إذا خافوا. فنزل عليهم الأوس والخزرع فابتنوا المساكن والحصون، إلا أن الغلبة والحكم لليهود إلى أن كان من الفطيون ومالك ابن العجلان ما نذكره إن شاء الله تعالى، فعادت الغلبة للأوس والخزرج، ولم يزالوا على حال اتفاق واجتماع إلى أن حدث بينهم حرب سمير، على ما نذكره إن شاء الله تعالى. ذكر غلبة الأنصار على المدينة | |
|
| |
الشيخ عودة الشيخ عودة
عدد المساهمات : 1748 تاريخ التسجيل : 28/09/2008 العمر : 74
| موضوع: رد: كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير الجمعة فبراير 07, 2014 8:52 am | |
| وضعف أمر اليهود بها وقتل الفطيون قد ذكرنا أن الإستيلاء كان لليهود على المدينة لما نزلها الأنصار، ولم يزل الأمر كذلك إلى أن ملك عليهم الفطيون اليهودي، وهو من بني إسرائيل ثم من بني ثعلبة، وكان رجل سوء فاجراً، وكانت اليهود تدين له بأن لا تزوج امرأة منهم إلا دخلت عليه قبل زوجها، وقيل: إنه كان يفعل ذلك بالأوس والخزرج أيضاً. ثم إن أختا لمالك بن العجلان السالمي الخزرجي تزوجت، فلما كان زفافها خرجت عن مجلس قومها وفيه أخوها مالك وقد كشفت عن ساقيها. فقال لها مالك: لقد جئت بسوء. قالت: الذي يراد بي الليلة أشد من هذا، أدخل على غير زوجي ! ثم عادت فدخل عليها أخوها فقال لها: هل عندك من خبر ؟ قالت: نعم، فما عندك ؟ قال: أدخل مع النساء فإذا خرجن ودخل عليك قتلته. قالت: افعل. فلما ذهب بها النساء إلى الفطيون انطلق مالك معهن في زي امرأة ومعه سيفه، فلما خرج النساء من عندها ودخل عليها الفطيون قتله مالك وخرج هارباً؛ فقال بعضهم في ذلك من أبيات: هل كان للفطيون عقر نسائكم ... حكم النصيب فبئس حكم الحاكم حتّى حباه مالك بمرشّةٍ ... حمراء تضحك عن نجيعٍ قاتم ثم خرج مالك بن العجلان هارباً حتى دخل الشام فدخل على ملك من ملوك غسان يقال له أبو جبيلة واسمه عبيد بن سالم بن مالك بن سالم، وهو أحد بني غضب بن جشم بن الخزرج، وكان قد ملكهم وشرف فيهم، وقيل: إنه لم يكن ملكاً وإنما كان عظيماً عند ملك غسان، وهو الصحيح، لأن ملوك غسان لم يعرف فيهم هذا، وهو أيضاً من الخزرج على ما ذكر.
فلما دخل عليه مالك شكا إليه ما كان من الفطيون وأخبره بقتله وأنه لا يقدر على الرجوع، فعاهد الله أبو جبيلة ألا يمس طيباً ولا يأتي النساء حتى يذل اليهود ويكون الأوس والخزرج أعز أهلها. ثم سار من الشام في جمع كثير وأظهر أنه يريد اليمن حتى قدم المدينة فنزل بذي حرضٍ، وأعلم الأوس والخزرج ما عزم عليه، ثم أرسل إلى وجوه اليهود يستدعيهم إليه وأظهر لهم أنه يريد الإحسان إليهم، فأتاه أشرافهم في حشمهم وخاصتهم. فلما اجتمعوا ببابه أمر بهم فأدخلوا رجلاً رجلاً وقتلهم عن آخرهم. فلما فعل بهم ذلك صارت الأوس والخزرج أعز أهل المدينة، فشاركوا اليهود في النخل والدور؛ ومدح الرمق بن زيد الخزرجي أبا جبيلة بقصيدة، منها: وأبو جبيلة خير من ... يمشي وأوفاهم يمينا وأبرّهم برّاً وأع ... ملهم بهدي الصالحينا أبقت لنا الأيّام وال ... حرب المهمّة تعترينا كبشاً له قرنٌ يع ... ضّ حسامه الذكر السّنينا فقال أبو جبيلة: عسل طيب في وعاء سوء، وكان الرمق رجلاً ضئيلاً؛ فقال الرمق: إنما المرء بأصغريه قلبه ولسانه. ورجع أبو جبيلة إلى الشام. حرض بضم الحاء والراء المهملتين، وآخره ضاد معجمة. حرب سميرولم يزل الأنصار على حال اتفاق واجتماع، كان أول اختلاف وقع بينهم وحرب كانت لهم حرب سمير. وكان سببها أن رجلاً من بني ثعلبة من سعد بن ذبيان يقال له كعب بن العجلان نزل على مالك بن العجلان السالمي فحالفه وأقام معه. فخرج كعب يوماً إلى سوق بني قينقاع فرأى رجلاً من غطفان معه فرسه وهو يقول: ليأخذ هذا الفرس أعز أهل يثرب. فقال رجل: فلان. وقال رجل آخر: أحيحة بن الجلاح الأوسي. وقال غيرهما: فلان بن فلان اليهودي أفضل أهلها. فدفع الغطفاني الفرس إلى مالك بن العجلان. فقال كعب: ألم أقل لكم إن حليفي مالكاً أفضلكم ؟ فغضب من ذلك رجل من الأوس من بني عمرو بن عوف يقال له سمير وشتمه وافترقا، وبقي كعب ما شاء الله. ثم قصد سوقاً لهم قبا فقصده سمير ولازمه حتى خلا السوق فقتله. وأخبر مالك بن العجلان بقتله، فأرسل إلى بني عمرو بن عوف يطلب قاتله، فأرسلوا: إنا لا ندري من قتله. وترددت الرسل بينهم، وهو يطلب سميراً وهم ينكرون قتله، ثم عرضوا عليه الدية فقبلها. وكانت دية الحليف فيهم نصف دية النسيب منهم. فأبى مالك إلا أخذ دية كاملة، وامتنعوا من ذلك وقالوا: نعطي دية الحليف، وهي النصف. ولج الأمر بينهم حتى آل إلى المحاربة، فاجتمعوا والتقوا واقتتلوا قتالاً شديداً وافترقوا. ودخل فيها سائر بطون الأنصار، ثم التقوا مرة أخرى واقتتلوا حتى حجز بينهم الليل، وكان الظفر يومئذ للأوس. فلما افترقوا أسلت الأوس إلى مالك يدعونه إلى أن يحكم بينهم المنذر ابن حرام النجاري الخزرجي جد حسان بن ثابت بن المنذر. فأجابهم إلى ذلك، فأتوا المنذر، فحكم بينهم المنذر بأن يدوا كعباً حليف مالك دية الصريح ثم يعودوا إلى سنتهم القديمة، فرضوا بذلك وحملوا الدية وافترقوا، وقد شبت البغضاء في نفوسهم وتمكنت العداوة بينهم. ذكر حرب كعب بن عمرو المازنيثم إن بني جحجبا من الأوس وبني مازن بن النجار من الخزرج وقع بينهم حرب كان سببها أن كعب بن عمرو المازني تزوج امرأةً من بني سالم فكان يختلف إليها. فأمر أحيحة بن الجلاح سيد بني جحجبا جماعةً فرصدوه حتى ظفروا به فقتلوه، فبلغ ذلك أخاه عاصم بن عمرو، فأمر قومه فاستعدوا للقتال، وأرسل إلى بني جحجبا يؤذنهم بالحرب. فالتقوا بالرحابة فاقتتلوا قتالاً شديداً، فانهزمت بنو جحجبا ومن معهم وانهزم معهم أحيحة، فطلبه عاصم بن عمرو فأدركه وقد دخل حصنه، فرماه بسهم فوقع في باب الحصن، فقتل عاصم أخاً لأحيحة. فمكثوا بعد ذلك ليالي، فبلغ أحيحة أن عاصماً يتطلبه ليجد له غرة فيقتله، فقال أحيحة: نبئت أنّك جئت تس ... ري بين داري والقبابة فلقد وجدت بجانب ال ... ضّحيان شبّاناً مهابه فتيان حربٍ في الحدي ... د وشامرين كأسد غابه هم نكّبوك عن الطري ... ق فبتّ تركب كلّ لابه أعصيم لا تجزع فإن ... نّ الحرب ليست بالدّعابه
فأنا الذي صبّحتكم ... بالقوم إذى دخلوا الرّحابه وقتلت كعباً قبلها ... وغلوت بالسيف الذّؤابه فأجابه عاصم: أبلغ أحيحة إن عرض ... ت بداره عنّي جوابه وأنا الذي أعجلته ... عن مقعدٍ ألهى كلابه ورميته سهماً فأخ ... طأه وأغلق ثمّ بابه في أبيات. ثم إن أحيحة أجمع أن يبيت بني النجار وعنده سلمى بنت عمرو بن زيد النجارية، وهي أم عبد المطلب جد النبي، صلى الله عليه وسلم فما رضيت، فلما جنها الليل وقد سهر معها أحيحة فنام، فلما نام سارت إلى بني النجار فاعلمتهم ثم رجعت، فحذروا، وغدا أحيحة بقومه مع الفجر، فلقيهم بنو النجار في السلاح، فكان بينهم شيء من قتال، وانحاز أحيحة، وبلغه أن سلمى أخبرتهم فضربها حتى كسر يدها وأطلقها وقال أبياتاً، منها: لعمر أبيك ما يغني مكاني ... من الحلفاء آكلةٌ غفول تؤوّم لا تقلّص مشمعلاًّ ... مع الفتيان مضجعه ثقيل تنزّع للحليلة حيث كانت ... كما يعتاد لقحته الفصيل وقد أعددت للحدثان حصناً ... لو أنّ المرء ينفعه العقول جلاه القين ثمّت لم تخنه ... مضاربه ولاطته فلول فهل من كاهن آوي إليه ... إذا ما حان من آلٍ نزول يراهنني ويرهنني بنيه ... وأرهنه بنيّ بما أقول فما يدري الفقير متى غناه ... وما يدري الغنيّ متى يعيل وما تدري وإن أجمعت أمراً ... بأيّ الأرض يدركك المقيل وما تدري وإن أنتجت سقباً ... لغيرك أم يكون لك الفصيل وما إن أخوةٌ كبروا وطابوا ... لباقية، وأمّهم هبول ستشكل أو يفارقها بنوها ... بموتٍ أو يجيء لهم قتول ذكر الحرب بين بني عمرو وبني الحارث وهو يوم السرارة ثم إن بني عمرو بن عوف من الأوس وبني الحارث من الخزرج كان بينهما حرب شديدة. وكان سببها أن رجلاً من بني عمرو قتله رجل من بني الحارث، فعدا بنو عمرو على القاتل فقتلوه غيلةً، فاستكشف أهله فعلموا كيف قتل فتهيأوا للقتال وأرسلوا إلى بني عمرو بن عوف يؤذونهم بالحرب، فالتقوا بالسرارة، وعلى الأوس حضير بن سماك والد أسيد بن حضير، وعلى الخزرج عبد الله بن سلول أبوى الحباب الذي كان رأس المنافقين. فاقتتلوا قتالاً شديداً. صبر بعضهم لبعض أربعة أيم، ثم انصرفت الأوس إلى دورها، ففخرت الخزرج بذلك؛ وقال حسان بن ثابت في ذلك: فدىً لبني النجّار أمّي وخالتي ... غداة لقوهم بالمثقّفة السّمر وصرمٍ من الأحياء عمرو بن مالك ... إذا ما دعوا كانت لهم دعوة النصر فوا لا أنسى حياتي بلاءهم ... غداة رموا عمراً بقاصمة الظهر وقال حسان أيضاً: لعمر أبيك الخير بالحقّ ما نبا ... عليّ لساني في الخطوب ولا يدي لساني وسيفي صارمان كلاهما ... ويبلغ ما لا يبلغ السيف مذودي فلا الجهد ينسيني حياتي وحفظتي ... ولا وقعات الدهر يفللن مبردي أكثّر أهلي من عيالٍ ساهم ... وأطوي على الماء القراح المبرّد ومنها: وإنّي لمنجاء المطيّ على الوجى ... وإنّي لنزّال لما لم أعوّد وإنّي لقوّالٌ لذي اللّوث مرحباً ... وأهلا إذا ما ريع من كلّ مرصد وإنّي ليدعوني الندى فأجيبه ... وأضرب بيض العارض المتوقّد فلا تعجلن يا قيس واربع فإنّما ... قصاراك أن تلقى بكلّ مهنّد حسام وأرماح بأيدي أعزّةٍ ... متى ترهم يا ابن الخطيم تلبّد أسود لدى الأشبال يحمي عرينها ... مداعيس بالخّطّي في كلّ مشهد وهي أبيات كثيرة. فأجابه قيس بن الخطيم: تروح عن الحسناء أم أنت مغتدي ... وكيف انطلاق عاشقٍ لم يزوّد تراءت لنا يوم الرحيل بمقلتي ... شريدٍ بملتفٍ من السّدر مفرد
وجيدٍ كجيد الرّيم حالٍ يزينه ... على النّحر ياقوتٌ وفصّ زبرجد كأنّ الثريّا فوق ثغرة نحرها ... توقّد في الظّلماء أيّ توقّد ألا إنّ بين الشّرعبيّ وراتج ... ضراباً كتجذيم السيّال المصعّد لنا حائطان الموت أسفل منهما ... وجمع متى تصرخ بيثرب يصعد ترى اللابة السوداء يحمرّ لونها ... ويسهل منها كلّ ربع وفدفد فإنّي لأغنى الناس عن متكلّفٍ ... يرى الناس ضلالاً وليس بمهتد لساء عمراً ثوراً شقيّاً موعّظاً ... ألدّ كأنّ رأسه رأس أصيد كثير المنى بالزاد لا صبر عنده ... إذا جاع يوماً يشتكيه ضحى الغد وذي شيمةٍ عسراء خالف شيمتي ... فقلت له دعني ونفسك أرشد فما المال والأخلاق إلاّ معارة ... فما اسطعت من معروفها فتزوّد متى ما تقد بالباطل الحقّ يأبه ... فإن قدت بالحقّ الرواسي تنقد إذا ما أتيت الأمر من غير بابه ... ضللت وإن تدخل من الباب تهتد وهي طويلة. وقال عبيد بن ناقد: لمن الديار كأنّهنّ المذهب ... بليت وغيّرها الدهور تقلّب يقول فيها في ذكر الوقعة: لكن فرا أبي الحباب بنفسه ... يوم السّرارة سيئ منه الأقرب ولّى وألقى يوم ذلك درعه ... إذ قيل جاء الموت خلفك يطلب نجّاك منّا بعدما قد أشرعت ... فيك الرماح، هناك شدّ المذهب هي طويلة أيضاً. وأبو الحباب هو عبد الله بن سلول. حرب الحصين بن الأسلتثم كانت حرب بين بني وائل بن زيد الأوسيين وبين بني مازن بن النجار الخزرجيين. وكان سببها أن الحصين بن الأسلت الأوسي الوائلي نازع رجلاً من بني مازن، فقتله الوائلي ثم انصرف إلى أهله، فتبعه نفر من بني مازن فقتلوه. فبلغ ذلك أخاه أبا قيس بن الأسلت فجمع قومه وأرسل إلى بني مازن يعلمهم أنه على حربهم. فتهيأوا للقتال، ولم يتخلف من الأوس والخزرج أحد، فاقتتلوا قتالاً شديداً حتى كثرت القتلى في الفريقين جميعاً، وقتل أبو قيس بن الأسلت الذين قتلوا أخاه ثم انهزمت الأوس، فلام وحوح بن الأسلت أخاه أبا قيس وقال: لا يزال منهزمٌ من الخزرج، فقال أبو قيس لأخيه، ويكنى أبا حصين: أبلغ أبا حصنٍ وبع ... ض القول عندي ذو كباره أنّ ابن أمّ لي ... س من الحديد ولا الحجارة ماذا عليكم أن يكو ... ن لكم بها رحلاً عماره يحمي ذماركم وبع ... ض القوم لا يحمي ذماره يبني لكم خيراً وبنيا ... ن الكريم له اثاره في أبيات. حرب ربيع الظفريثم كانت حرب بين بني ظفر من الأوس وبين بني مالك بن النيجار من الخزرج. وكان سببها أن ربيعاً الظفري كان يمر في مال لرجلٍ من بني النجار إلى ملك له، فمنعه النجاري، فتنازعا، فقتله ربيع، فجمع قومهما فاقتتلوا قتالاً شديداً كان أشد قتال بينهم، فانهزمت بنو مالك بن النجار؛ فقال قيس بن الخطيم الأوسي في ذلك: أجدّ بعمرة غنيانها ... فتهجر أم شأننا شأنها فإن تمس شطّت بها دارها ... وباح لك اليوم هجرانها فما روضةٌ من رياض القطا ... كأنّ المصابيح حوذانها بأحسن منها ولا نزهة ... ولوج تكشّف أدجانها وعمرة من سروات النسا ... ء ينفح بالمسك أردانها منها: ونحن الفوارس يومالربي ... ع قد علموا كيف أبدانها جنونا لحربي وراء الصري ... خ حتّى تقصّد مرّانها تراهنّ يخلجن خلج الدّلا ... يبادر بالنّزع أشطانها هي طويلة. فأجابه حسان بن ثابت الخزرجي بقصيدة أولها: لقد هاج نفسك أشجانها ... وغادرها اليوم أديانها ومنها: ويثرب تعلم أنّا بها ... إذا التبس الحقّ ميزانها ويثرب تعلم أنّا بها ... إذا أقحط القطر نوآنها ويثرب تعلم إذ حاربت ... بأنّا لدى الحرب فرسانها
ويثرب تعلم أنّ النّبي ... ت عند الهزاهز ذلاّنها ومنها: متى ترنا الأوس في بيضنا ... نهزّ القنا تخب نيرانها وتعط القياد على رغمها ... وتنزل ملهام عقبانها فلا تفخرن التمس ملجأً ... فقد عاود الأوس أديانها حرب فارع بسبب الغلامى القضاعيومن أيامهم يوم فارع. وسببه أن رجلاً من بني النجار أصاب غلاماً من قضاعة ثم من بلي، وكان عم الغلام جاراً لمعاذ بن النعمان بن امرئ القيس الأوسي والد سعد بن معاذ، فأتى الغلام عمه يزوره فقتله النجاري. فأرسل معاذ إلى بني النجار: أن أدفعوا إلي دية جاري أو ابعثوا إي بقاتله أرى فيه رأيي. فأبوا أن يفعلوا. فقال رجل من بني عبد الأشهل: والله إن لم تفعلوا لا نقتل به إلا عامر بن الإطنابة، وعامر من أشراف الخزرج؛ فبلغ ذلك عامراً فقال: ألا من مبلغ الأكفاء عنّي ... وقد تهدى النصيحة للنصيح فإنّكم وما ترجون شطري ... من القول امزجّى والصريح سيندم بعضكم عجلاً عليه ... وما أثر اللسان إلى الجروح أبت لي عزّتي وأبى بلائي ... وأخذي الحمد بالثمن الربيح وإعطائي على المكروه مالي ... وضربي هامة البطل المشيح وقولي كلّما جشأت وجاشت: ... مكانك تحمدي أو تستريحي لأدفع عن مآثر صالحاتٍ ... وأحمي بعد عن عرضٍ صحيح بذي شطبٍ كلون الملح صافٍ ... ونفسٍ لا تقرّ على القبيح فقال الربيع بن أبي الحقيق اليهودي في عراض قول عامر بن الإطنابة: ألا من مبلغ الأكفاء عنّي ... فلا ظلمٌ لديّ ولا افتراء فلست بغائظ الأكفاء ظلماً ... وعندي للملامات اجتزاء فلم أر مثل من يدنو لخسفٍ ... له في الأرض سير واستواء وما بعض الإقامة في ديار ... يهان بها الفتى إلاّ عناء وبعض القول ليس له عناجٌ ... كمحض الماء ليسى له إناء وبعض خلائق الأقوام داءٌ ... كداء الشّحّ ليس له دواء وبعض الداء ملتمسٌ شفاءً ... وداء النّوك ليس له شفاء يحبّ المرء أن يلقى نعيماً ... ويأبى الله إلاّ ما يشاء ومن يك عاقلاً لم يلق بؤساً ... ينخ يوماً بساحته القضاء تعاوره بنات الدهر حتّى ... تثلّمه كما ثلم الإناء وكلّ شدائدٍ نزلت بحيٍّ ... سيأتي بعد شدّتها رخاء فقل للمتّقي عرض المنايا: ... توقّ فليس ينفعك اتّقاء فما يعطى الحريص غنىً بحرصٍ ... وقد ينمي لدى الجود الثراء وليس بنافعٍ ذا البخل مالٌ ... ولا مزرٍ بصاحبه الحباء غنيّ النفس ما استغنى بشيء ... وفقر النفس ما عمرت شقاء يودّ المرء ما تفد ... كأنّ فناءهنّ له فناء فلما رأى معاذ بن النعمان امتناع بني النجار من الدية أو تسليم القاتل إليه تهيأ للحرب وتجهز هو وقومه واقتلوا عند فارغ، وهو أطم حسان بن ثابت، واشتد القتال بينهم ولم تزل الحرب بينهم حتى حمل ديته عامر بن الإطنابة. فلما فعل صلح الذي كان بينهم وعادوا إلى أحسن ما كانوا عليه، فقال عامر بن الإطنابة في ذلك. صرمت ظليمة خلّتي ومراسلي ... وتباعدت ضنّاً بزاد الراحل جهلاً وما تدري ظليمة أنّني ... قد أستقلّ بصرم غير الواصل ذللٌ ركابي حيث شئت مشيّعي ... أنّي أروع قطا المكان الغافل أظليم ما يدريك ربّة خلّةٍ ... حسنٌ ترغّمها كظبي الحائل قد بتّ مالكها وشارب قهوةٍ ... درياقةٍ روّيت منها وآغلي بيضاء صافية يرى من دونها ... قعر الإناء يضيء وجه الناهل وسراب هاجرةٍ قطعت إذا جرى ... فوق الإكام بذات لونٍ باذل أجدٌ مراحلها كأنّ عفاءها ... سقطان من كتفي ظليمٍ جافل
فلنأكلنّ بناجزٍ من مالنا ... ولنشربنّ بدين عامٍ قابل إنّي من القوم الذين إذا انتدوا ... بدأوا ببرّ الله ثمّ النائل المانعين من الخنا جيرانهم ... والحاشدين على طعام النازل والخاطلين غنيّهم بفقيرهم ... والباذلين عطاءهم للسائل والضاربين الكبش يبرق بيضة ... ضرب المهنّد عن حياض الناهل والعاطفين على المصاف خيولهم ... والملحقين رماحهم بالقاتل والمدركين عدوّهم بذحولهم ... والنازلين لضرب كلّ منازل والقائلين معاً خذوا اقرانكم ... إنّ المنيّة من وراء الوائل خزرٍ عيونهم إلى أعدائهم ... يمشون مشي الأسد تحت الوابل ليسوا بأنكاسٍ ولا ميلٍ إذا ... ما الحرب شبّت أشعلوا بالشاعل لا يطبعون وهم على أحسابهم ... يشفون بالأحلام داء الجاهل والقائلين فلا يعاب خطيبهم ... يوم المقالة بالكلام الفاصل وإنما أثبتنا هذه الأبيات وليس فيها ذكر الوقعة لجودتها وحسنها. حرب حاطبثم كانت الوقعة المعروفة بحاطب. وهو حاطب بن قيس من بني أمية ابن زيد بن مالك بن عوف الأوسي، وبينها وبين حرب سمير نحو مائة سنة. وكان بينهما أيام ذكرنا المشهور منها وتركنا ما ليس بمشهور. وحرب حاطب آخر وقعة كانت بينهم إلا يوم بعاث حتى جاء الله بالإسلام. وكان سبب هذه الحرب أن حاطباً كان رجلاً شريفاً سيداً، فأتاه رجل من بني ثعلبة بن سعد بن ذبيان فنزل عليه، ثم إنه غدا يوماً إلى سوق بني قينقاع، فرآه يزيد بن الحارث المعروف بابن فسحم، وهي أمه. وهو من بني الحارث بن الخزرج. فقال يزيد لرجل يهودي: لك ردائي إن كسعت هذا الثعلبي. فأخذ رداءه وكسعه كسعةً سمعها من بالسوق. فنادى الثعلبي: يا آل حاطب كسع ضيفك وفضح ! وأخبر حاطب بذلك، فجاء إليه فسأله من كسعه، فأشار إلى اليهودي، فضربه حاطب بالسيف فلق هامته، فأخبر ابن فسحم الخبر، وقيل له: قتل اليهودي، قتله حاطب، فأسرع خلف حاطب فأدركه وقد دخل بيوت أهله، فلقي رجلاً من بني معاوية فقتله. فثارت الحرب بين الأوس والخزرج واحتشدوا واجتمعوا والتقوا على جسر ردم بني الحارث بن الخزرج. وكان على الخزرج يومئذ عمرو بن النعمان البياضي، وعلى الأوس حضير بن سماك الأشهلي. وقد كان ذهب ذكر ما وقع بينهم من الحروب فيمن حولهم من العرب، فسار إليهم عببنه بنى حصن ابن حذيفة بن بدر الفزاري وخيار بنى مالك بن حماد الفزاري فقدما المدينة وتحدثا مع الأوس والخزرج في الصلح وضمنا أن يتحملا كل ما يدعي بعضهم على بعض، فأبوا، ووقعت الحرب عند الجسر، وشهدها عيينة وخيار. فشاهدا من قتالهم وشدتها ما أيسا معه من الإصلاح بينهم، فكان الظفر يومئذ للخزرج. وهذا اليوم من أشهر أيامهم، وكان بعده عدة وقائع كلها من حرب حاطب، فمنها: يوم الربيعثم التقت الأنصار بعد يوم الجسر بالربيع، وهو حائط في ناحية السفح، فاقتتلوا قتالاً شديداً حتى كاد يفني بعضهم بعضاً، فانهزمت الأوس وتبعها الخزرج حتى بلغوا دورهم، وكانوا قبل ذلك إذا انهزمت إحدى الطائفتين فدخلت دورهم كفت الأخرى عن اتباعهم. فلما تبع الخزرج الأوس إلى دورهم طلبت الأوس الصلح، فامتنعت بنو التجار من الخزرج عن إجابتهم. فحصنت الأوس النساء والذراري في الآطام، وهي الحصون، ثم كفت عنهم الخزرج؛ فقال صخر بن سلمان البياضي: ألا أبلغا عنّي سويد بن صامتٍ ... ورهط سويدٍ بلّغا وابن الاسلت بأنّا قتلن بالربيع سراتكم ... وأفلت مجروحاً به كلّ مفلت فلولا حقوق في العشيرة إنّها ... أدلّت بحقٍ واجب إن أدلّت لنالهم منّا كما كان نالهم ... مقانب خيل أهلكت حين حلّت فأجابه سويد بن الصامت: ألا أبلغا عنّي صخيراً رسالةً ... فقد ذقت حرب الأوس فيها ابن الاسلت قتلنا سراياكم بقتلى سراتنا ... وليس الذي ينجو إليكم بمفلت ومنها: يوم البقيع
ثم التقت الأوس والخزرج ببقيع الغرقد فاقتتلوا قتالاً شديداً، فكان الظفر يومئذ للأوس؛ فقال عبيد بن ناقد الأوسي: لّما رأيت بني عوفٍ وجمعهم ... جاءوا وجمع بني النجّار قد حفلوا دعوت قومي وسهّلت الطريق لهم ... إلى المكان الذي أصحابه حللوا جادت بأنفسها من مالك عصبٌ ... يوم اللقاء فما خافوا ولا فشلوا وعاوروكم كؤوس الموت إذ برزوا ... شطر النهار وحتّى أدبر الأصل حتى استقاموا وقد طال المراس بهم ... فكلّهم من دماء القوم قد نهلوا تكشّف البيض عن قتلى أولى رحمٍ ... لولا المسالم والأرحام ما نقولا تقول كلّ فتاةٍ غاب قيّمها: ... أكلّ من خلفنا من قومنا قتلوا لقد قتلتم كريماً ذا محافظة ... قد كان حالفه القينات والحلل جزلٌ نوافله حلوٌ شمائله ... ريّان واغله تشقى به الإبل الواغل: الذي يدخل على القوم وهم يشربون. فأجابه عبد الله بن رواحة الحارثي الخزرجي: لّما رأيت بني عوفٍ وإخوتهم ... كعباً وجمع بني النجّار قد حفلوا قدماّ أباحوا حماكم بالسيوف ولم ... يفعل بكم أحدٌ مثل الذي فعلوا وكان رئيس الأوس يومئذ في حرب حاطب أبو قيس بن الأسلت الوائلي، فقام في حربهم وهجر الراحة، فشحب وتغير. وجاء يوماً إلى امرأته فأنكرته حتى عرفته بكلامه، فقالت له: لقد أنكرتك حتى تكلمت ! فقال: قالت ولم تقصد لقيل الخنا: ... مهلاً فقد أبلغت أسماعي واستنكرت لوناً له شاحباً ... والحرب غولٌ ذات أوجاع من يذق الحرب يجد طعمها ... مرّاً وتتركه بجعجاع قد حصّتّ البيضة رأسي فما ... أطعم نوماً غير نهجاع أسعى على جلّ بني مالك ... كلّ امرئ في شأنه ساعي أعددت للأعداء موضونةً ... فضفاضةً كالنّهي بالقاع أحفزها عنّي بذي رونق ... مهنّدٍ كاللمع قطّاع صدقٍ حسامٍ وادقٍ حدّه ... ومنحنٍ أسمر قرّاع وهي طويلة ثم إن أبا قيس بن الأسلت جمع الأوس وقال لهم: ما كنت رئيس قوم قط إلا هزموا، فرئسوا عليكم من أحببتم؛ فرأسوا عليهم حضير الكتائب بن السماك الأشهلي، وهو والد أسيد بن حضير لولده صحبةٌ، وهو بدريّ، فصار حضير يلي أمورهم في حروبهم. فالتقى الأوس والخزرج بمكان يقال له الغرس، فكان الظفر للأوس، ثم تراسلوا في الصلح فاصطلحوا على أن يحسبوا القتلى فمن كان عليه الفضل أعطى الدية، فأفضلت الأوس على الخزرج ثلاثة نفر، فدفعت الخزرج ثلاثة غلمة منهم رهناً بالديات، فغدرت الأوس فقتلت الغلمان. يوم الفجار الأول للأنصاروليس بفجار كنانة وقيس. فلما قتلت الأوس الغلمان جمع الخزرج وحشدوا والتقوا بالحدائق؛ وعلى الخزرج عبد الله بن أبي بن سلول، وعلى الأوس أبو قيس بن الأسلت، فاقتتلوا قتالاً شديداً حتى كاد بعضهم يفنى بعضاً. وسمى ذلك اليوم يوم الفجار لغدرهم بالغمان، وهو الفجار الأول، فكان قيس بن الخطيم في حائط له فانصرف فوافق قومه قد برزوا للقتال فعجز عن أخذ سلاحه إلا السيف ثم خرج معهم، فعظم مقامه يومئذ وأبلى بلاء حسناً وجرح جراحة شديدة، فمكث حيناً يتداوى منها، وأمر أن يحتمي عن الماء، فلذلك يقول عبد الله بن رواحة: رميناك أيّام الفجار فلم تزل ... حميّاً فمن يشرب فلست بشارب يوم معبس ومضرس
ثم التقوا عند معبس ومضرس، وهما جداران، فكانت الخزرج وراء مضرس، وكانت الأوس وراء معبس، فأقاموا أياماً يقتتلون قتالاً شديداً، ثم انهزمت الأوس حتى دخلت البيوت والآطام، وكانت هزيمة قبيحة لم ينهزموا مثلها. ثم إن بني عمرو بن عوف وبني أوس مناة من الأوس وادعوا الخزرج فامتنع من الموادعة بنو عبد الأشهل وبنو ظفر وغيرهم من الأوس وقالوا: لا نصالح حتى ندرك ثأرنا من الخزرج. فألحت الخزرج عليهم بالأذى والغارة حين وادعهم بنو عمرو بن عوف وأوس مناة، فعزمت الأوس إلا من ذكرنا على الانتقال من المدينة، فأغارت بنو سلمة على مال لبني عبد الأشهل يقال له الرعل، فقاتلوهم عليه، فجرح سعد بن معاذ الأشهلي جراحة شديدة، واحتمله بنو سلمة إلى عمرو بن الجموح الخزرجي، فأجاره وأجار الرعل من الحريق وقطع الأشجار، فلما كان يوم بعاث جازاه سعد على نذكره إن شاء الله. ثم سارت الأوس إلى مكة لتحالف قريشاً على الخزرج وأظهروا أنهم يريدون العمرة. وكانت عادتهم أنه إذا أراد أحدهم العمرة أو الحج لم يعرض إليه خصمه ويعلق المعتمر على بيته كرانيف النخل. ففعلوا ذلك وساروا إلى مكة فقدموها وحالفوا قريشاً وأبو جهل غائبٌ. فلما قدم أنكر ذلك وقال لقريش: أما سمعتم قول الأول: ويل للأهل من النازل ! إنهم لأهل عدد وجلد ولقل ما نزل قوم على قوم إلا أخرجوهم من بلدهم وغلبوهم عليه. قالوا: فما المخرج من حلفهم ؟ قال: أنا أكفيكموهم، ثم خرج حتى جاء الأوس فقال: إنكم حالفتم قومي وأنا غائب فجئت لأحالفكم وأذكر لكم من أمرنا ما تكونون بعده علظ على رأس أمركم. إنا قوم تخرج إماؤنا إلى أسواقنا ولا يزال الرجل منا يدرك الأمة فيضرب عجيزتها، فإن طابت أنفسكم أن تفعل نساؤكم مثل ما تفعل نساؤنا خالفناكم، وإن كرهتم ذلك فردوا إلينا حلفنا. فقالوا: لا نقر بهذا. وكانت الأنصار بأسرها فيهم غيرة شديدة، فردوا إليهم حلفهم وساروا إلى بلادهم؛ فقال حسان بن ثابت يفتخر بما أصاب قومه من الأوس: ألا أبلغ أبا قيس رسولا ... إذا ألقى لها سمعاً تبين فلست لحاصنٍ إن لم تزركم ... خلال الدار مسبلةٌ طحون يدين لها العزيز إذا رآها ... ويهرب من مخافتها القطين تشيب الناهد العذراء منها ... ويسقط من مخافتها الجنين يطوف بكم من النجّار أسدٌ ... كأسد الغيل مسكنها العرين يظلّ الليث فيها مستكيناً ... تله في كلّ ملتفت أنين كأنّ بهاءها للناظريها ... من الأثلات والبيض الفتين كأنّهم من الماذي عليهم ... جمالٌ حين يجتلدون جون فقد لاقاك قبل بعاث قتلٌ ... وبعد بعاث ذلٌّ مستكين وهي طويلة أيضاً. يوم الفجار الثاني للأنصاركانت الأوس قد طلبت من قريظة والنضير أن يحالفوهم على الخزرج، فبلغ ذلك الخزرج فأرسلوا إليهم يؤذنونهم بالحرب، فقالت اليهود: إنا لا نريد ذلك، فأخذت الخزرج رهنهم وعلى الوفاء، وهم أربعون غلاماً من فريظة والنضير، ثم إن يزيد بن فسحم شرب يوماً فسكر فتغنى بشعر يذكر فيه ذلك: هلمّ إلى الأحلاف إذ رقّ عظمهم ... وإذ أصلحوا مالاً لجذمان ضائعا إذا ما امرؤٌ منهم أساء عمارة ... بعثنا عليهم من بني العير جادعا فأمّا الصريخ منهم فتحمّلوا ... وأمّا اليهود فاتخذنا بضائعا أخذنا من الأولى اليهود عصابةً ... لغدرهم كانوا لدينا ودائعا فذلّوا لرهنٍ عندنا في حبالنا ... مصانعة يخشون منّا القوارعا وذاك بأنّا حين نلقى عدوّنا ... نصول بضربٍ يترك العز خاشعا فبلغ قوله قريظة والنضير فغضبوا. وقال كعب بن أسد: نحن كما قال: إن لم نغر فخالف الأوس على الخزرج. فلما سمعت الخزرج بذلك قتلوا كل من عندهم من الرهن من أولاد قريظة والنضير، فأطلقوا نفراً، منهم: سليم ابن أسد القرظي جد محمد بن كعب بن سليم. واجتمعت الأوس وقريظة والنضير على حرب الخزرج فاقتتلوا قتالاً شديداً، وسمي ذلك الفجار الثاني لقتل الغلمان من اليهود.
وقد قيل في قتل الغلمان غير هذا، وهو: إن عمرو بن النعمان البياضي الخزرجي قال لقومه بني بياضة: إن أباكم أنزلكم منزلة سوء، والله لا يمس رأسي ماء حتى أنزلكم منازل قريظة والنضير أو أقتل رهنهم ! وكانت منازل قريظة والنضير خير البقاع، فأرسل إلى قريظة والنضير: إما أن تخلوا بيننا وبين دياركم، وإما أن نقتل الرهن. فهموا بأن يخرجوا من ديارهم، فقال لهم كعب بن أسد القرظي: يا قوم امنعوا دياركم وخلوه يقتل الغلمان، ما هي إلا ليلةٌ يصيب فيها أحدكم امرأة حتى يولد له مثل أحدهم. فأرسلوا إليهم، إنا لا ننتقل عن ديارنا فانظروا في رهننا فعوا لنا. فعدا عمرو ابن النعمان على رهنهم فقتلهم، وخالفه عبد الله بن أبي بن سلول فقال: هذا بغي وإثم، ونهاه عن قتلهم وقتال قومه من الأوس وقال له: كأني بك وقد حملت قتيلاً في عباءة يحملك أربعة رجال. فلم يقتل هو ومن أطاعه أحداً من الغلمان وأطلقوهم؛ ومنهم: سليم بن أسد جد محمد بن كعب. وحالفت حينئذ قريظة والنضير الأوس على الخزرج، وجرى بينهم قتال سمي ذلك اليوم يوم الفجار الثاني. وهذا القول أشبه بأن يسمى اليوم فجاراً، وأما على القول الأول فإنما قتلوا الرهن جزاء للغدر من اليهود فليس بفجار من الخزرج إلا أن يسمى فجاراً لغدر اليهود. يوم بعاثثم إن قريظة والنضير جددوا العهود مع الأوس على الموازرة والتناصر، واستحكم أمرهم وجدوا في حربهم، ودخل معهم قبائل من اليهود غير من ذكرنا. فلما سمعت بذلك الخزرج جمعت وحشدت وراسلت حلفاءها من أشجع وجهينة، وراسلت الأوس حلفاءها من مزينة، ومكثوا أربعين يوماً يتجهزون للحرب، والتقوا ببعاث، وهي من أعمال قريظة، وعلى الأوس حضير الكتائب بن سماك والد أسيد بن حضير، وعلى الخزرج مرو بن النعمان البياضي، وتخلف عبد الله بن أبي بن سلول فيمن تبعه عن الخزرج، وتخلف بنو حارثة بن الحارث عن الأوس. فلما التقوا اقتتلوا قتالاً شديداً وصبروا جميعاً. ثم إن الأوس وجدت مس السلاح فولوا منهزمين نحو العريض. فلما رأى حضير هزيمتهم برك وطعن قدمه بسنان رمحه وصاح: واعقراه كعقر الجمل ! والله لا أعود حتى أقتل، فإن شئتم يا معشر الأوس أن تسلموني فافعلوا. فعطفوا عليه وقاتل عنه غلامان منى بني عبد الأشهل يقال لهما محمود ويزيد ابنا خليفة حتى قتلا، وأقبل سهم لا يدرى من رمى به فأصاب عمرو بن النعمان البياضي رئيس الخزرج فقتله، فبينا عبد الله بن أبي ابن سلول يتردد راكباً قريباً من بعاث يتجسس الأخبار إذ طلع عليه بعمرو ابن النعمان قتيلاً في عباءة يحمله أربعة رجال، كما كان قال له. فلما رآه قال ذق وبال البغي ! وانهزمت الخزرج، ووضعت فيهم الأوس السلاح، فصاح صائحٌ: يا معشر الأوس أحسنوا ولا تهلكوا إخوانكم فجوارهم خير من جوار الثعالب ! فانتهوا عنهم ولم يسلبوهم. وإنما سلبهم قريظة والنضير، وحملت الأوس حضيراً مجروحاً فمات. وأحرقت الأوس دور الخزرج ونخيلهم، فأجار سعد بن معاذ الأشهلي أموال بني سلمة ونخيلهم ودورهم جزاء بما فعلوا له في الرعل، وقد تقدم ذكره، ونجى يومئذٍ الزبير بن إياس بن باطا ثابت بن قيس بن شماس الخزرجي، أخذه فج وأطلقه، وهي اليد التي جازاه بها ثابت في الإسلام يوم بني القريظة، وسنذكره. وكان يوم بعاث آخر الحروب المشهورة بين الأوس والخزرج ثم جاء بالإسلام واتفقت الكلمة واجتمعوا على نصر الإسلام وأهله وكفى الله المؤمنين القتال. وأكثرت الأنصار الأشعار في يوم بعاث، فمن ذلك قول قيس بن الخطيم الظفري الأوسي: أتعرف رسماً كالطّراز المذهب ... لعمرة ركباً غير موقف راكب ديار التي كانت ونحن على منىً ... تحلّ بنا لولا رجاء الركائب تبدّت لنا كالشمس تحت ... زبدا حاجبٌ منها وضنّت بحاجب ومنها: وكنت امرأً أبعث الحرب ظالماً ... فلمّا أبوا شعّلتها كلّ جانب أذنت بدفع الحرب حتّى رأيتها ... عن الدفع لا تزداد غير تقارب فلمّا رأيت الحرب حرباً تجرّدت ... لبست مع البردين ثوب المحارب مضعّفة يغشى الأنامل ريعها ... كأنّ قتيريها عيون الجنادب ترى قصد المرّان تلقى كأنّها ... تذرّع خرصان بأيدي الشواطب
وسامحني ملكاهنين ومالك ... وثعلبة الأخيار رهط القباقب رجالٌ متى يدعوا إلى الحرب يسرعوا ... كمشي الجمال المشعلات المصاعب إذا ما فررنا كان أسوأ فرارنا ... صدود الخدود وازورار المناكب صدود الخدود والقنا متشاجر ... ولا تبرح الأقدام عند التضارب ظأرناكم بالبيض حتّى لأنتم ... أذلّ من السّقبان بين الحلائب يجرّدن بيضاً كلّ يوم كريهةٍ ... ويرجعن حمراً جارحات المضارب لقيتكم يوم الحدائق حاسراً ... كأنّ يدي بالسيف مخراق لاعب ويوم بعاثٍ أسلمتنا سيوفنا ... إلى حسبٍ في جذم غسّان ثاقب قتلناكم يوم الفجار وقبله ... ويوم بعاث كان يوم التغالب أتت عصبٌ للأوس تخطر بالقنا ... كمشي الأسود في رشاش الأهاضب فأجابه عبد الله بن رواحة: أشاقتك ليلى في الخليط المجانب ... نعم، فرشاش الدمع في الصدر غالب بكى إثر من شطّت نواه ولم يقم ... لحاجة محزونٍ شكا الحبّ ناصب لدن غدوةً حتى إذا الشمس عارضت ... أراحت له من لبّه كلّ عازب نحامي على أحسابنا بتلادنا ... لمفتقر أو سائل الحقّ واجب وأعمى هدته للسبيل سيوفنا ... وخصمٍ أقمنا بعدما ثجّ ثاعب ومعتركٍ ضنكٍ يرى الموت وسطه ... مشينا له مشي الجمال المصاعب برجلٍ ترى الماذيّ فوق جلودهم ... وبيضاً نقيّاً مثل لون الكواكب وهم حسّرٌ لا في الدروع تخالهم ... أسوداً متى تنشا الرماح تضارب معاقلهم في كلّ يوم كريهةٍ ... مع الصدق منسوب السيوف القواضب وهي طويلة. وليلى التي شبب بها ابن رواحة هي أخت قيس بن الخطيم، وعمرة التي شبب بها ابن الخطيم هي أخت عبد الله بن رواحة، وهي أم النعمان بن بشير الأنصاري. بعاث بضم الباء الموحدة، وبالعين المهملة، وقال صاحب كتاب العين وحده: وهو بالغين المعجمة. ذكر غلبة ثقيف على الطائف والحرب بين الأحلاف وبني مالك كانت أرض الطائف قديماً لعدوان بن عمرو بن قيس بن عيلان بن مضر. فلما كثر بنو عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن بن منصور ابن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان غلبوهم على الطائف بعد قتال شديد. كان بنو عامر يصيفون بالطائف ويشتون بأرضهم من نجد، وكانت مساكن ثقيف حول الطائف، وقد اختلف الناس فيهم، فمنهم من جعلهم من إياد فقال ثقيف اسمه قسي بن نبت بن منبه بن منصور بن يقدم بن أفصى بن دعمي ابن إياد من معد، ومنهم من جعلهم من هوازن فقال: هو قيس بن منبه ابن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان. فرأت ثقيف البلاد فأعجبهم نباتها وطيب ثمرها فقالوا لبني عامر: إن هذه الأرض لا تصلح للزرع وإنما هي أرض ضرع ونراكم على أن آثرتم الماشية على الغراس، ونحن أناس ليست لنا مواشٍ فهل لكم أن تجمعوا الزرع والضرع بغير مؤونة ؟ تدفعون إلينا بلادكم هذه فنثيرها ونغرسها ونحفر فيها الأطواء ولا نكلفكم مؤونة. نحن نكفيكم المؤونة والعمل، فإذا كان وقت إدراك الثمر كان لكم النصف كاملاً ولنا النصف بما عملنا. فرغب بنو عامر في ذلك وسلموا إليهم الأرض، فنزلت ثقيف الطائف واقتسموا البلاد وعملوا الأرض وزرعوها من الأعتاب والثمار ووفوا بما شرطوا لبني عامر حيناً من الدهر، وكان بنو عامر يمنعون ثقيفاً ممن أرادهم من العرب. فلما كثرت ثقيف وشرفت حصنت بلادها وبنوا سور على الطائف وحصنوه ومنعوا عامراً مما كانوا يحملونه إليهم عن نصف الثمار. وأراد بنو عامر أخذه منهم فلم يقدروا عليه فقاتلوهم فلم يظفروا، وكانت ثقيف بطنين: الأحلاف وبني مالك، وكان للأحلاف في هذا أثر عظيم، ولم تزل تعتد بذلك على بني مالك فأقاموا كذلك.
ثم إن الأحلاف أثروا وكثرت خيلهم فحموا لها حمىً من أرض بني نصر بن معاوية بن بكر بن هوازن يقال له جلذان، فغضب من ذلك بنو نصر وقاتلوهم عليه، ولجت الحرب بينهم. وكان رأس بني نصر عفيف بن عوف ابن عباد النصري ثم اليربوعي، ورأس الأحلاف مسعود بن عنب. فلما لجت الحرب بين بني نصر والأحلاف اغتنم ذلك بنو مالك ورئيسهم جندب ابن عوف بن الحارث بن مالك بن حطيط بن جشم من ثقيف لضغائن كانت بينهم وبين الأحلاف، فحالفوا بني يربوع على الأحلاف. فلما سمعت الأحلاف بذلك اجتمعوا. وكان أول قتال كان بين الأحلاف وبين بني مالك وحلفائهم من ني نصر يوم الطائف، واقتتلوا قتالاً شديداً، فانتصر الأحلاف وأخرجوهم منه إلى وادٍ من وراء الطائف يقال له الحب، وقتل من بني مالك وبني يربوع مقتلة عظيمة في شعب من شعاب ذلك الجبل يقال له الأبان. ثم اقتتلوا بعد ذلك مسميات، منهن يوم غمر ذي كندة، من نحو نخلة، ومنهن يوم كرونا من نحو حلوان، وصاح عفيف ابن عوف اليربوعي في ذلك اليوم صيحة يزعمون أن سبعين حبلى منهم ألقت ما في بطنها، فاقتتلوا أشد قتال ثم افترقوا. فسارت بنو مالك تبتغي الحلف من دوس وخثعم وغيرهما على الأحلاف، وخرجت الأحلاف إلى المدينة تبتغي الحلف من الأنصار على بني مالك، فقدم مسعود بن معتب على أحيحة بن الجلاح أحد بني عمرو ابن عوف من الأوس، وكان أشرف الأنصار في زمانه، فطلب منه الحلف، فقال له أحيحة: والله ما خرج رجل من قومه إلى قوم قط بحلف أو غيره إلا أقر لأولئك القوم بشر مما أنف منه من قومه، فقال له مسعود: إني أخوك، وكان صديقاً له، فقال: أخوك الذي تركته وراءك فارجع إليه وصالحه ولو بجدع أنفك وأذنك فإن أحداً لن يبر لك في قومك إذ خالفته؛ فانصرف عنه وزوده بسلاح وزاد وأعطاه غلاماً كان يبني الآطام، يعني الحصون، بالمدينة، فبنى لمسعود بن معتب أطماً، فكان أول أطمٍ بني بالطائف، ثم بنيت الآطام بعده بالطائف. ولم يكن بعد ذلك بينهم حرب تذكر. وقالوا في حربهم أشعاراً كثيرة، فمن ذلك قول محبر، وهو ربيعة بن سفيان أحد بني عوف بن عقدة من الأحلاف: وما كنت ممّن أرّث الشّرّ بينهم ... ولكنّ مسعوداً جناها وجندبا قريعي ثقي أنشبا الشرّ بينهم ... فلم يك عنها منزعٌ حين أنشبا عناقاً ضروساً بين عوفٍ ومالكٍ ... شديداً لظاها تترك الطّفل أشيبا مضرّمةً شبّاً أشبّا وقودها ... بأيديهما ما أورياها وأثقبا أصابت براء من طوائف مالكٍ ... وعوفٍ بما جرّا عليها وأجلبا كجمثورةٍ جاؤوا تخطّوا مآبنا ... إليهم وتدعو في اللقاء معتّبا وتدعو بني عوف بن عقدة في الوغى ... وتدعو علاجاً والحليف المطيّبا حبيباً وحيّاً من رباب كتائباً ... وسعداً إذا الداعي إلى الموت ثوّبا وقوماً بمكروثاء شنّت معتّبٌ ... بغارتها فكان يوماً عصبصبا فأسقط أحبال النساء بصوته ... عفيفٌ إذا نادى بنصرٍ فطرّبا عفيف هذا بضم العين وفتح الفاء. بسم الله الرحمن الرحيم | |
|
| |
الشيخ عودة الشيخ عودة
عدد المساهمات : 1748 تاريخ التسجيل : 28/09/2008 العمر : 74
| موضوع: رد: كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير الجمعة فبراير 07, 2014 8:53 am | |
| نسب رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر بعض أخبار آبائه وأجداده واسم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، محمد، وقد تقدم ذكر ولادته في ملك كرى أنوشروان، وهو محمد بن عبد الله، ويكنى عبد الله أبا قثم، وقيل: أبا محمد، وقيل: أبا أحمد بن عبد المطلب. وكان عبد الله أصغر ولد أبيه، فكان هو عبد الله وأبو طالب، واسمه عبد مناف، والزبير، وعبد الكعبة، عاتكة، وأميمة، وبرة ولد عبد المطلب، أمهم جميعهم فاطمة بنت عمرو بن عايذ بن عمران بن مخزوم بن يقظة. وكان عبد المطلب نذر حين لقي من قريش العنت في حفر زمزم، كما نذكره، لئن ولد له عشرة نفر وبلغوا معه حتى يمنعوه لينحرن أحدهم عند الكعبة لله تعالى. فلما بلغوا عشرة وعرف أنهم سيمنعونه أخبرهم بنذره فأطاعوه وقالوا: كيف نصنع ؟ قال: يأخذ كل رجل منكم قدحاً ثم يكتب فيه اسمه. ففعلوا وأتوه بالقداح، فدخلوا على هبل في جوف الكعبة، وكان أعظم أصنامهم، وهو على بئر يجمع فيه ما يهدى إلى الكعبة.
وكان عند هبل سبعة أقداح، فيكل قدح كتاب، فقدح فيه العقل، إذا اختلفوا في العقل من يحمله منهم ضربوا بالقداح السبعة، وقدح فيه نعم للأمر إذا أرادوه يضرب به، فإن خرج نعم عملوا به، وقدح فيه لا، فإذا أرادوا أمراً ضربوا به، فإذا خرج لا لم يعملوا ذلك الأمر، وقدح فيه منكم، وقدح فيه ملصق، وقدح فيه من غيركم، وقدح فيه المياه. إذا أرادوا أن يحفروا للماء ضربوا بالقداح وفيها ذلك القدح فحيث ما خرج عملوه به؛ وكانوا إذا أرادوا أن يختنوا غلاماً أ ينكحوا جاريةً أو يدفنوا ميتاً أو شكوا في نسب أحد منهم ذهبوا به إلى هبل وبمائة درهم وجزور فأعطوه صاحب القداح الذي يضربها ثم قربوا صاحبهم الذي يريدون به ما يريدون ثم قالوا: يا إلهنا هذا فلان بن فلان قد أردنا به كذا وكذا، فأخرج الحق فيه. ثم يقولون لصاحب القداح: اضرب، فيضرب، فإن خرج عليه منكم كان وسيطاً، وإن خرج عليه من غيركم كان حليفاً، وإن خرج عليه شيء سوى هذا مما يعملون به، فإن خرج نعم عملوا به، وإن خرج لا أخروه عامهم ذلك حتى يأتوه به مرة أخرى، ينتهون في أمورهم إلى ذلك مما خرجت به القداح. وقال عبد المطلب لصاحب القداح: اضر على بني هؤلاء بقداحهم هذه. وأخبره بنذره الذي نذر، وكان عبد الله أصغر بني أبيه وأحبهم إليه. فلما أخذ صاحب القداح يضرب قام عبد المطلب يدعو الله تعالى، ثم ضرب صاحب القداح، فخرج قدح عل عبد الله. فأخذ عبد المطلب بيده ثم أقبل إلى إساف ونائلة، وهما الصنمان اللذان ينحر الناس عندهما. فقامت قريش من أنديتها، فقالوا: ما تريد ؟ قال: أذبحه، فقالت قريش وبنوه: والله لا تذبحه أبداً حتى تعذر فيه، لئن فعلت هذا لا يزال الرجل منا يأتي بإبنه حتى يذبحه. فقال له المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم: والله لا تذبحه حتى تعذر فيه، فإن كان فداؤه بأموالنا فديناه. وقالت له قريش وبنوه: لا تفعل وانطلق إلى كاهنة بالحجر فسلها فإن أمرتك بذبحه ذبحته، فإن أمرتك بما لك وله فيه فرجٌ قبلته. فانطلقوا إليها، وهي بخيبر، فقص عليها عبد المطلب خبره، فقالت لهم: ارجعوا اليوم حتى يأتيني تابعي فأسأله، فرجعوا عنها. ثم غدوا عليها فقالت لهم: نعم، قد جاءني الخبر، فكم الدية فيكم ؟ قالوا: عشر من الإبل، وكانت كذلك. قالت: ارجعوا إلى بلادكم وقربوا عشراً من الإبل واضربوا عليها وعليه بالقداح فإن خرج على صاحبكم فزيدوا عشراً حتى يرضى ربكم. وإن خرجت على الإبل فانحروها فقد رضي ربكم ونجا صاحبكم. فخرجوا حتى أتوا مكة، فلما أجمعوا لذلك قام عبد المطلب يدعو الله ثم قربوا عبد الله وعشراً من الإبل، فخرجت القداح على عبد الله، فزادوا عشراً، فخرجت القداح على عبد الله. فما برحوا يزيدون عشراً وتخرج القداح على عبد الله حتى بلغت الإبل مائة، ثم ضربوا فخرجت القداح على الإبل. فقال من حضر: قد رضي ربك يا عبد المطلب. فقال عبد المطلب: لا والله حتى أضرب ثلاث مرات. فضربوا ثلاثاً، فخرجت القداح على الإبل، فنحرت ثم تركت لا يصد عنها إنسان ولا سبع. وأما تزويج عبد الله بن عبد المطلب بآمنة ابنة وهب أم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه لما فرغ عبد المطلب من الإبل انصرف بإبنه عبد الله وهو آخذ بيده فمر على أم قتال ابنة نوفل بن أسد أخت ورقة بن نوفل، وهي عند البيت، فقالت له حين نظرت إليه والى وجهه: أين تذهب يا عبد الله ؟ فقال: مع أبي. قالت: لك عندي مثل الذي نحر عنك أبوك من الإبل وقع علي الآن. قال: إن معي أبي لا أستطيع خلافه ولا فراقه. فخرج به عبد المطلب حتى أتى به وهب بن عبد مناف بن زهرة، وهو سيد بني زهرة، فزوجه ابنته آمنة بنت وهب، وهي لبرة بنت عبد العزي بن عثمان بن عبد الدار بن قصي، وبرة لأم حبيب بنت أسد بن عبد العزي بن قصي، وأم حبيب لبرة بنت عوف بن عبيد بن عويج بن عدي بن كعب. فدخل عبد الله عليها حين ملكها مكانها فوقع عليها فحملت بمحمد صلى الله عليه ولم، ثم خرج من عندها حتى أتى المرأة التي عرضت عليه نفسها بالأمس فقال لها: مالك لا تعرضين علي اليوم ما كنت عرضت بالأمس ؟ فقالت: فارقك النور الذي كان معك بالأمس فليس لي بك اليوم حاجة. وقد كانت تسمع من أخيها ورقة بن نوفل أنه كائن لهذه الأمة نبي من بني إسماعيل.
وقيل: إن عبد المطلب خرج بإبنه عبد الله ليزوجه فمر به على كاهنة من خثعم يقال لها فاطمة بنت مر متهودة من أهل تبالة فرأت في وجهه نوراً وقالت له: يا فتى هل لك أن تقع علي الآن وأعطيك مائة من الإبل ؟ فقال لها: أما الحرام فالممات دونه ... والحلّ لا حلّ فأستبينه فكيف بالأمر الذي تبغينه ثم قال لها: أنا مع أبي ولا أقدر أن أفارقه. فمضى فزوجه آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة. فأقام عندها ثلاثاً ثم انصرف، فمر بالخثعمية فدعته نفسهإلى ما دعته إليه، فقال لها: هل لك فيما كنت أردت ؟ فقالت ؟ يا فتى ما أنا بصاحبة ريبةٍ ولكني رأيت في وجهك نوراً فأردت أن يكون لي فأبى الله إلا أن يجعله حيث أراد، فما صنعت بعدي ؟ قال: زوجني أبي آمنة بنت وهب. قالت فاطمة بنت مر: إنّي رأيت مخيلةً لمعت ... فتلألأت بحناتم القطر فلمأتها نوراً يضيء له ... ما حوله كإضاءة البدر فرجوته فخراً أبوء به ... ما كلّ قادح زنده يوري لله ما زهريّة سلبت ... ثوبيك ما استلبت وما تدري وقالت أيضاً في ذلك: بني هاشمٍ قد غادرت من أخيكم ... أمينة إذ للباه تعتركان كما غادر المصباح عند خموده ... فتائل قد بلّت له بدهان فما كلّ ما يحوي الفتى من تلاده ... لعزمٍ ولا ما فاته لتوان فأجمل إذا طالبت أمراً فإنّه ... سيكفيكه جدّان يعتلجان سيكفيكه إمّا يدٌ مقفعلّةٌ ... وإمّا يدٌ مبسوطةٌ ببنان ولّما حوت منه أمينة ما حوت ... حوت منه فخراً ما لذلك ثان وقيل: إن الذي اجتاز بها غير هذا، والله أعلم. قال الزهري: أرسل عبد المطلب ابنه عبد الله إلى المدينة يمتار لهم تمراً فمات بالمدينة. وقيل: بل كان في الشام فأقبل في عير قريش فنزل بالمدينة وهو مريض فتوفي بها ودفن في دار النابغة الجعدي وله خمس وعشرون سنة، وقيل: ثمان وعشرون سنة، وتوفي قبل أن يولد رسول الله صلى الله عليه وسلم. عايذ بن عمران بالذال المعجمة، والياء تحتها نقطتان، وعبيد بفتح العين، وكسر الباء الموحدة. وعويج بفتح العين، وكسر الواو، وآخره جيم. ابن عبد المطلبواسمه شيبة، سمي بذلك لأنه كان في رأسه لما ولد شيبة، وأمه سلمى بنت عمرو بن زيد الخزرجية النجارية، ويكنى أبا الحارث، وإنما قيل له عبد المطلب لأن أباه هاشماً شخص في تجارة إلى الشام، فلما قدم المدينة نزل على عمرو بن لبيد الخزرجي من بني النجار، فرأى ابنته سلمى فأعجبته فتزوجها. وشرط أبوها أن لا تلد ولداً إلا في أهلها، ثم مضى هاشم لوجهه وعاد من الشام فبنى بها في أهلها ثم حملها إلى مكة فحملت. فلما أثقلت ردها إلى أهلها ومضى إلى الشام فمات بغزة. فولدت له سلمى عبد المطلب، فمكث بالمدينة سبع سنين. ثم إن رجلاً من بني الحارث بن عبد مناف مر بالمدينة فإذا غلمان ينتضلون، فجعل شيبة إذا أصاب قال: أنا ابن هاشم، أنا ابن سيد البطحاء. فقال له الحارثي: من أنت ؟ قال: أنا ابن هاشم بن عبد مناف. فلما أتى الحارثي مكة قال للمطلب، وهو بالحجر: يا أبا الحارث تعلم أني وجدت غلماناً بيثرب وفيهم ابن أخيك ولا يحسن ترك مثله. فقال المطلب: لا أرجع إلى أهلي حتى آتي به. فأعطاه الحارثي ناقةً فركبها وقدم المدينة عشاء فرأى غلماناً يضربون كرة فعرف ابن أخيه فسأل عنه فأخبر به، فأخذه وأركبه على عجز الناقة. وقيل: بل أخذه بإذن أمه، وسار إلى مكة فقدمها ضحوة والناس في مجالسهم فجعلوا يقولون له: من هذا وراءك ؟ فيقول: هذا عبدي. حتى أدخله منزله على امرأته خديجة بنت سعيد بن سهم. فقالت: من هذا الذي معك ؟ قال: عبد لي. واشترى له حلةً فلبسها ثم خرج به العشي فجلس إلى مجلس بني عبد مناف فأعلمهم أنه ابن أخيه، فكان بعد ذلك يطوف بمكة فيقال: هذا عبد المطلب، لقوله هذا عبدي.
ثم أوقفه المطلب على ملك أبيه فسلمه إليه. فعرض له نوفل بن عبد مناف، وهو عمه الآخر، بعد موت المطلب، في ركح له، وهو الفناء، فأخذه، فمشى عبد المطلب إلى رجالات قريش وسألهم النصرة على عمه، فقالوا له: ما ندخل بينك وبين عمك. فكتب إلى أخواله من بني النجار يصف لهم حاله، فخرج أبو أسعد بن عدس النجاري في ثمانين راكباً حتى أتى الأبطح، فخرج عبد المطلب يتلقاه، فقال له: المنزل يا خال ! قال: حتى ألقى نوفلاً. وأقبل حتى وقف على رأسه في الحجر مع مشايخ قريش، فسل سيفه ثم قال: ورب هذه البنية لتردن على ابن أختنا ركحة أو لأملأن منك السيف ! قال: فإني ورب هذه البنية أرد عليه ركحه، فأشهد عليه من حضر ثم قال لعبد المطلب: المنزل يا ابن أختي. فأقام عنده ثلاثاً، فاعتمروا وانصرفوا. فدعا ذلك عبد المطلب إلى الحلف، فدعا بشر بن عمرو وورقاء بن فلان ورجالاً من رجالات خزاعة فحالفهم في الكعبة وكتبوا كتاباً. وكان إلى عبد المطلب السقاية والرفادة، وشرف في قومه وعظم شأنه. ثم إنه حفر زمزم، وهي بئر إسماعيل بن إبراهيم عليه السلام، التي أسقاه الله تعالى منها، فدفنتها جرهم، وقد تقدم ذكر ذلك. سبب حفر بئر زمزموكان سبب حفره إياها أنه قال: بينا أنا نائم بالحجر إذ أتاني آتٍ فقال: احفر طيبة. قال: قلت: وما طيبة ؟ قال: ثم ذهب، فرجعت الغد إلى مضجعي فنمت فيه، فجاءني فقال: احفر برة. قال: قلت: وما برة ؟ قال: ثم ذهب عني، قال: فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي فنمت فيه فجاءني فقال: احفر المضنونة. قال: قلت: وما المضنونة ؟ قال: فذهب عني. فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي فنمت فيه فجاءني فقال: احفر زمزم، إنك إن حفرتها لا تندم. فقلت: وما زمزم ؟ قال تراث من أبيك الأعظم، لا تنزف أبداً ولا تذم، تسقي الحجيج الأعظم، مثل نعام جافل لم يقسم، ينذر فيها ناذر لمنعم، يكون ميراثاً وعقداً محكم، ليس كبعض ما قد تعلم، وهي بين الفرث والدم، عند نقرة الغراب الأعصم، عند قرية النمل. فلما بين له شأنها ودل على موضعها وعرف أنه قد صدق، غدا بمعوله ومعه ابنه الحارث ليس له ولد غيره، فحفر بين إساف ونائلة في الموضع الذي تنحر فيه قريش لأصنامها، وقد رأى الغراب ينقر هناك. فلما بدا له الطوي كبر، فعرفت قريش أنه قد أدرك حاجته، فقاموا إليه فقالوا: إنها بئر أبينا إسماعيل، وإن لنا فيها حقاً فأشركنا معك. قال: ما أنا بفاعل، هذا أمر خصصت به دونكم. قالوا: فإنا غير تاركيك حتى نخاصمك فيها. قال: فاجعلوا بيني وبينكم من شئتم. قالوا: كاهنة بني سعد بن هذيم؛ وكانت بمشارف الشام. فركب عبد المطلب ومعه نفر من بني عبد مناف، وركب من كل قبيلة من قريش نفر، حتى إذا كانوا ببعض تلك المفاوز بين الحجاز والشام فني ماء عبد المطلب وأصحابه، فظمئوا حتى أيقنوا بالهلكة، فطلبوا الماء ممن معهم من قريش فلم يسقوهم. فقال لأصحابه: ماذا ترون ؟ فقالوا: رأينا تبعٌ لرأيك فمرنا بما شئت. قال: فإني أرى أن يحفر كل رجل منكم لنفسه حفرة، فكلما مات واحد واراه أصحابه حتى يكون آخركم موتاً قد وارى الجميع، فضيعة رجل واحد أيسر من ضيعة ركب. قالوا: نعم ما رأيت. ففعلوا ما أمرهم به. ثم إن عبد المطلب قال لأصحابه: والله إن إلقاءنا بأيدينا هكذا للموت لا نضرب في الأرض ونبتغي لأنفسنا لعجزٌ. فارتحلوا ومن معه من قبائل قريش ينظرون إليهم، ثم ركب عبد المطلب، فلما انبعثت به راحلته انفجرت من تحت خفها عينٌ عذبة من ماء، فكبر وكبر أصحابه وشربوا وملأوا أسقيتهم، ثم دعا القبائل من قريش فقال: هلموا إلى الماء فقد سقانا الله. فقال أصحابه: لا نسقيهم لأنهم لم يسقونا. فلم يسمع منهم وقال: فنحن إذاً مثلهم ! فجاء أولئك القرشيون فشربوا وملأوا أسقيتهم وقالوا: قد والله قضى الله لك علينا يا عبد المطلب، والله لا نخاصمك في زمزم أبداً، إن الذي سقاك هذا الماء بهذه الفلاة لهو الذي سقاك زمزم، فارجع إلى سقايتك راشداً. فرجعوا إليه ولم يصلوا إلى الكاهنة وخلوا بينه وبينها.
فلما فرغ من حفرها وجد الغزالين اللذين دفنتهما جرهم فيها، وهما من ذهب، ووجد فيها أسيافاً قلعية وأدراعاً. فقالت له قريش: يا عبد ! المطلب لنا معك في هذا شركٌ وحقّ. قال: لا ولكن هلم إلى أمر نصفٍ بيني وبينكم، نضرب عليها بالقداح. فقالوا: فكيف تصنع ؟ قال: أجعل للكعبة قدحين ولكم قدحين وله قدحين، فمن خرج قداحه على شيء أخذه، ومن تخلف قداحه فلا شيء له. قالوا: أنصفت. ففعلوا ذلك وضربت القداح عند هبل فخرج قدحا الكعبة على الغزالين، وخرج قدحا عبد المطلب على الأسياف والأدراع، ولم يخرج لقريش شيء من القداح. فضرب عبد المطلب الأسياف باباً للكعبة وجعل فيه الغزالين صفائح من ذهب، فكان أول ذهب حليت به الكعبة. وقيل: بل بقيا في الكعبة وسرقا، على ما نذكره. وأقبل الناس والحجاج على بئر زمزم تبركاً بها ورغبة فيها، واعرضوا عما سواها من الأبيار. ولما رأى عبد المطلب تظاهر قريش عليه نذر الله تعالى: إن يرزقه عشرة من الولدان يبلغون أن يمنعوه ويذبوا عنه نحر أحدهم قرباناً لله تعالى. وقد ذكر النذر في إسم عبد الله أبي النبي صلى الله عليه وسلم. وعبد المطلب أول من خضب بالوسمة، وهو السواد، لأن الشيب أسرع إليه. وكان لعبد المطلب جار يهودي يقال له أذينة يتجر وله مال كثير، فغاظ ذلك حر بن أمية، وكان نديم عبد المطلب، فأغرى به فتياناً من قريش ليقتلوه ويأخذوا ماله، فقتله عامر بن عبد مناف بن عبد الدار وصخر بن عمرو ابن كعب التيمي جد أبي بكر، رضي الله عنه، فلم يعرف عبد المطلب قاتليه، فلم يزل يبحث حتى عرفهما، وإذا هما قد استجارا بحرب بن أمية، فأتى حرباً ولامه وطلبهما منه. فأخفاهما، فتغالظا في القول حتى تنافرا إلى النجاشي ملك الحبشة، فلم يدخل بينهما، فجعلا بينهما نفيل بن عبد العزي العدوي جد عمر بن الخطاب. فقال لحرب: يا أبا عمرو أتنافر رجلاً هو أطول منك قامة، وأوسم وسامة، وأعظم منك هامة، وأقل منك ملامة؛ وأكثر منك ولداً، وأجزل منك صفداً، وأطول منك مدداً؛ وإني لأقول هذا وإنك لبعيد الغضب، رفيع الصوت في العرب؛ جلد المريرة، لحبل العشيرة، ولكنك نافرت منفراً؛ فغضب حرب وقال: من إنتكاس الزمان أن جعلت حكماً. فترك عبد المطلب منادمة حرب ونادم عبدالله بن جدعان التيمي، وأخذ من حرب مائة ناقة فدفعها إلى ابن عم اليهودي وارتجع ماله إلا شيئاً هلك فغرمه من ماله. وهو أول من تحنث بحراء، فكان إذا دخل شهر رمضان صعد حراء وأطعم المساكين جميع الشهر. وتوفي وله مائة وعشرون سنة، وكان قد عمي. وقبل غير ذلك. ؟؟ ابن هاشم واسم هاشم عمرو، وكنيته أبو نضلة، وإنما قيل له هاشم لأنه أول من هشم الثريد لقومه بمكة وأطعمه. قال ابن الكلبي: كان هاشم أكبر ولد عبد مناف، والمطلب أصغرهم، أمه عاتكة بنت مرة السلمية، ونوفل، وأمه واقدة، وعبد شمس، فسادوا كلهم، وكان يقال لهم المجبرون. وهم أول من أخذ لقريش العصم، فانتشروا من الحرم؛ أخذ لهم هاشم خيلا من الروم وغسان بالشام، وأخذ لهم عبد شمس خيلاً من النجاشي بالحبشة، وأخذ لهم نوفل خيلاً من الأكاسرة بالعراق، وأخذ لهم المطلب خيلاً من حمير باليمن، فاختلفت قريش بهذا السبب إلى هذه النواحي، فجبر الله بهم قريشاً. وقيل: إن عبد شمس وهاشماً تؤامان، وإن أحدهما ولد قبل الآخر وإصبع له ملتصقة بجبهة صاحبه فنحيت، فسال الدم، فقيل يكون بينهما دم. وولي هاشم بعد أبيه عبد مناف ما كان إليه من السقاية والرفادة، فحسده أمية بن عبد شمس على رياسته وإطعامه، فتكلف أن يصنع صنيع هاشم، فعجز عنه، فشمت به ناس من قريش، فغضب ونال من هاشم ودعاه إلى المنافرة، فكره هاشم ذلك لسنة وقدره، فلم تدعه قريش حتى نافره على خمسين ناقة والجلاء عن مكة عشر سنين، فرضي أمية وجعلا بينهما الكاهن الخزاعي، وهو جد عمرو بن الحمق، ومنزله بعسفان، وكان مع أمية همهمة بن عبد العزى الفهري، وكانت ابنته عند أمية، فقال الكاهن: والقمر الباهر، والكوكب الزاهر، والغمام الماطر، وما بالجو من طائر، وما اهتدى بعلم مسافر، من منجد وغاثر، لقد سبق هاشم أمية إلى المآثر، أول منه وآخر، وأبو همهمة بذلك خابر. فقضى لهاشم بالغلبة، وأخذ هاشم الإبل فنحرها وأطعمها، وغاب أمية عن مكة بالشام عشر سنين. فكانت هذه أول عداوة وقعت بين هاشم وأمية.
وكان يقال لهاشم والمطلب البدران لجمالهما. ومات هاشم بغزة وله عشرون سنة، وقيل: خمس وعشرون سنة، وهو أول من مات من بني عبد مناف ثم مات عبد شمس بمكة فقبر بأجياد. ثم مات نوفل بسلمان من طريق العراق. ثم مات المطلب بردمان من أرض اليمن. وكانت الرفادة والسقاية بعد هاشم إلى أخيه المطلب لصغر ابنه عبد المطلب بن هاشم. ؟؟ ابن عبد منافواسمه المغيرة، وكنيته أبو عبد شمس، وكان يقال له القمر لجماله، وكانت أمه حين ولدته دفعته إلى مناف، صنم بمكة، تديناً بذلك، فغلب عليه عبد مناف. وكان عبد مناف وعبد العزي وعبد الدار بنو قصي إخوةً، أمهم حبى ابنة حليل بن حبشية بن سلول بن كعب بن عمرو بن خزاعة، وهو الذي عقد الحلف بين قريش والأحابيش، والأحابيش بنو الحارث بن عبد مناف بن كنانة، وبنو المصطلق من خزاعة، وبنو الهون من خزيمة. وكان قصي يقول: ولد لي أربعة بنين فسميت ابنين بإلهي، وهما عبد مناف وعبد العزي، وواحداً بداري، وهو عبد الدار، وواحداً بي، وهو عبد قصي. حليل بضم الحاء المهملة، وفتح اللام الأولى. وحبشية بضم الحاء. ؟؟ ابن قصي واسمه زيد، وكنيته أبو المغيرة، وإنما قيل له قصي لأن ربيعة بن حرام ابن ضنة بن عبد بن كبير بن عذرة بن سعد بن زيد تزوج أمه فاطمة ابنة سعد ابن سيل، واسمه جبر بن جمالة بن عوف، وهي أيضاً أم أخيه زهرة، ونقلها إلى بلاد عذرة من مشارف الشام وحملت معها قصياً لصغره، وتخلف زهرة في قومه لكبره، فولدت أمه فاطمة لربيعة بن حرام رزاح بن ربيعة، فهو أخو قصي لأمه. وكان لربيعة ثلاثة نفر من امرأة أخرى، وهم حن بن ربيعة ومحمود وجلهمة، وقيل: إن حناً كان أخاً قصي لأمه. فشب زيد في حجر ربيعة فسمي قصياً لبعده عن دار قومه، وكان قصي ينتمي إلى ربيعة إلى أن كبر، وكان بينه وبين رجل من قضاعة شيء، فعيره القضاعي بالغربة، فرجع قصي إلى أمه وسألها عما قال، فقالت له: يا بني أنت أكرم منه نفساً وأباً، أنت ابن كلاب بن مرة وقوم بمكة عند البيت الحرام. فصبر حتى دخل الشهر الحرام وخرج مع حاج قضاعة حتى قدم مكة وأقام مع أخيه زهرة، ثم خطب إلى حليل بن حبشية الخزاعي ابنته حبى، فزوجه، وحليل يومئذ يلي الكعبة. فولدت أولاده: عبد الدار، وعبد مناف، وعبد العزي، وعبد قصي، وكثر ماله وعظم شرفه. وهلك حليل وأوصى بولاية البيت لابنته حبى، فقالت: إني لا أقدر على فتح الباب وإغلاقه، فجعل فتح الباب وإغلاقه إلى ابنه المحترش، وهو أبو غبشان. فاشترى قصي منه ولاية البيت بزق خمر وبعود، فضربت به العرب المثل فقالت: أخسر صفقة من أبي غبشان. فلما رأت ذلك خزاعة كثروا على قصي، فاستنصر أخاه رزاحاً، فحضر هو وإخوته الثلاثة فيمن تبعه من قضاعة إلى نصرته، ومع قصي قومه بنو النضر، وتهيأ لحرب خزاعة وبني بكر، وخرجت إليهم خزاعة فاقتتلوا قتالاً شديداً، فكثرت القتلى في الفريقين والجراح، ثم تداعوا إلى الصلح على أن يحكموا بينهم عمرو بن عوف بن كعب بن ليث بن بكر بن عبد مناف بن كنانة، فقضى بينهم بأن قصياً أولى بالبيت ومكة من خزاعة، وأن كل دم أصابه من خزاعة وبني بكر موضوع فيشدخه تحت قدميه، وأن كل دم أصابت خزاعة وبنو بكر من قريش وبني كنانة ففي ذلك الدية مؤداة، فسمي بعمرو الشداخ بما شدخ من الدماء وما وضع منها. فولي قصي البيت وأمر مكة. وقيل: إن حليل بن حبشية أوصى قصياً بذلك وقال: أنت أحق بولاية البيت من خزاعة. فجمع قومه وأرسل إلى أخيه يستنصره، فحضر في قضاعة في الموسم وخرجوا إلى عرفات وفرغوا من الحج ونزلوا منىً وقصي مجمعٌ على حربهم، وإنما ينتظر فراغ الناس من حجهم.
فلما نزلوا منىً ولم يبق إلا الصدر، وكانت صوفة تدفع بالناس من عرفات وتجيزهم إذا تفرقوا من منىً، إذا كان يوم النفر أتوا لرمي الجمار، ورجل من صوفة يرمي للناس لا يرمون حتى يرمي، فإذا فرغوا من منىً أخذت صوفة بناحيتي العقبة وحبسوا الناس، فقالوا: أجيزي صوفة، فإذا نفرت صوفة ومضت خلي سبيل الناس فانطلقوا بعدهم. فلما كان ذلك العام فعلت صوفة كما كانت تفعل، قد عرفت لها العرب ذلك، فهو دين في أنفسهم، فأتاهم قصي ومن معه من قومه ومن قضاعة فمنعهم وقال: نحن أولى بهذا منكم. فقاتلوه وقاتلهم قتالاً شديداً، فانهزمت صوفة وغلبهم قصي على ما كان بأيديهم وأنحازت عند ذلك خزاعة وبنو بكر وعرفوا أنه سيمنعهم كما منع صوفة. فلما إنحازوا عنه بادأهم فقاتلهم، فكثر القتل في الفريقين وأجلى خزاعة عن البيت، وجمع قصيٌّ قومه إلى مكة من الشعاب والأودية والجبال، فسمي مجمعاً، ونزل بني بغيض بن عامر بن لؤي وبني تيم الأدرم بن غالب بن فهر وبني محارب بن فهر وبني الحارث بن فهر، إلا بني هلال بن أهيب رهط أبي عبيدة بن الجراح وإلا رهط عياض بن غنم، بظواهر مكة، فسموا قريش الظواهر، وتسمى سائر بطون قريشٍ قريش البطاح، وكانت قريش الظواهر تغير وتغزو، وتسمى قريش البطاح الضب للزومها الحرم. فلما ترك قصي قريشاً بمكة وما حولها ملكوه عليهم. فكان أول ولد كعب بن لؤي أصاب ملكاً أطاعه به قومه، وكان إليه الحجابة والسقاية والرفادة والندوة واللواء، فحاز شرف قريش كله، وقسم مكة أرباعاً بين قومه، فبنوا المساكن واستأذنوه في قطع الشجر، فمنعهم، فبنوا والشجر في منازلهم، ثم إنهم قطعوه بعد موته. وتيمنت قريش بأمره فما تنكح امرأة ولا رجل إلا في داره، ولا يتشاورون في أمر ينزل بهم إلا في داره، ولا يعقدون لواء للحرب إلا في داره، يعقده بعض ولده، وما تدرع جارية إذا بلغت أن تدرع إلا في داره، وكان أمره في قومه كالدين المتبع في حياته وبعد موته. فاتخذ دار الندوة وبابها في المسجد، وفيها كانت قريش تقضي أمورها. فلما كبر قصي ورق، وكان ولده عبد الدار أكبر ولده، وكان ضعيفاً، وكان عبد مناف قد ساد في حياة أبيه وكذلك إخوته، قال قصي لعبد الدار: والله لألحقنك بهم ! فأعطاه دار الندوة والحجابة، وهي حجابة الكعبة، واللواء، وهو كان يعقد لقريش ألويتهم، والسقاية، كان يسقي الحاج، والرفادة، وهي خرج تخرجه قريش في كل موسم من أموالها إلى قصي بن كلاب فيصنع منه طعاماً للحاج يأكله الفقراء، وكان قصي قد قال لقومه: إنكم جيران الله وأهل بيته، وإن الحاج ضيف الله وزوار بيته، وهم أحق الضيف بالكرامة، فاجعلوا لهم طعاماً وشراباً أيام الحج. ففعلوا فكانوا يخرجون من أموالهم فيصنع به الطعام أيام منىً، فجرى الأمر على ذلك في الجاهلية والإسلام إلى الآن، فهو الطعام الذي يصنعه الخلفاء كل عام بمنىً. فأما الحجابة فهي في ولده إلى الآن، وهم بنو شيبة بن عثمان بن أبي طلحة بن عبد العزي بن عثمان بن عبد الدار. وأما اللواء فلم يزل في ولده إلى أن جاء الإسلام، فقال بنو عبد الدار: يا رسول الله اجعل اللواء فينا. فقال: الإسلام أوسع من ذلك. فبطل. وأما الرفادة والسقاية فإن بني عبد مناف بن قصي: عبد شمس، وهاشم، والمطلب، ونوفل، أجمعوا أن يأخذوها من بني عبد الدار لشرفهم عليهم وفضلهم، فتفرقت عند ذلك قريش، فكانت طائفة مع بني عبد مناف، وطائفة مع بني عبد الدار لا يرون تغيير ما فعله قصي، وكان صاحب أمر بني عبد الدار عامر ابن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار.
فكان بنو أسد بن عبد العزى وبنو زهرة بن كلاب وبنو تيم بن مرة وبنو الحارث بن فهر مع بني عبد مناف، وكان بنو مخزوم وبنو سهم وبنو جمح وبنو عدي مع بني عبد الدار، فتحالف كل قوم حلفاً مؤكداً، وأخرج بنو عبد مناف جفنة مملوءة طيباً فوضعوها عند الكعبة وتحالفوا وجعلوا أيديهم في الطيب، فسموا المطيبين. وتعاقد بنو عبد الدار ومن معهم وتحالفوا فسموا الأحلاف، وتعبوا للقتال، ثم تداعوا إلى الصلح على أ، يعطوا بني عبد مناف السقاية والرفادة، فرضوا بذلك وتحاجز الناس عن الحر واقترعوا عليها، فصارت لهاشم بن عبد مناف، ثم بعده للمطلب بن عبد مناف، ثم لأبي طالب بن عبد المطلب، ولم يكن له مال فادان من أخيه العباس بن عبد المطلب بن عبد مناف مالاً فأنفقه، ثم عجز عن الأدلاء فأعطى العباس السقاية والرفادة عوضاً عن دينه، فوليها، ثم ابنه عبد الله، ثم علي بن عبد الله، ثم محمد بن علي، ثم داود بن علي بن سليمان بن علي، ثم وليها المنصور وصار يليها الخلفاء. وأما دار الندوة فلم تزل لعبد الدار، ثم لولده حتى باعها عكرمة بن عامر بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار من معاوية فجعلها دار الإمارة بمكة، وهي الآن في الحرم معروفة مشهورة. ثم هلك قصي فأقام أمره في قومه من بعده ولده، وكان قصي لا يخالف سيرته وأمره، ولما مات دفن بالحجون، فكانوا يزورون قبره ويعظمونه. وحفر بمكة بئراً سماها العجول، وهي أول بئر حفرتها قريش بمكة. سيل بفتح السين المهمة، والياء المثناة التحتية. وحرام بفتح الحاء والراء المهملتين. ورزاح بكسر الراء، وفتح الزاي، وبعد الألف حاء مهملة. وحبى بضم الحاء المهملة، وتشديد الباء الموحدة. وملكان بكسر الميم، وسكون اللام. وأما ملكان بن حزم بن ريان، وملكان بن عباد بن عياض، فهما بفتح الميم واللام. ؟؟ ابن كلاب ويكنى أبا زهرة، وأم كلاب هند بنت سرير بن ثعلبة بن الحارث ابن فهر بن مالك، وله أخوان لأبيه من غير أمه، وهما تيم ويقظة، أمهما أسماء بنت جارية البارقية، وقيل: يقظة لهند بنت سرير أم كلاب. يقظة بالياء تحتها نقطتان، وبفتح القاف والظاء المعجمة. ؟ ابن مرة ويكنى أبا يقظة، وأم مرة محشية ابنة شيبان بن محارب بن فهر، وأخواه لأبيه وأمه هصيص وعدي، وقيل: أم عدي رقاش بنت ركبة بن نائلة بن كعب بن حرب بن تميم بن سعد بن فهم بن عمرو بن قيس عيلان. هصيص بضم الهاء، وفتح الصاد المهملة بعدها ياء تحتها نقطتان، وصاد ثانية. ؟؟ ابن كعب ويكنى أبا هصيص، وأم كعب ماوية ابنة كعب بن القين بن جسر القضاعية، وله أخوان لأبيه وأمه، أحدهما عامر، والآخر سامة، ولهم من أبيه أخ كان يقال له عوف، أمه الباردة ابنة عوف بن غنم بن عبد الله بن غطفان، وانتمى ولده إلى غطفان، وكان خرج مع أمه الباردة إلى غطفان، فتزوجها سعد بن ذبيان، فتبناه سعد. ولكعب أيضاً أخوان من غير أمه، أحدهما خزيمة، وهو عائذة قريش، وعائذة أمه، وهي ابنة الحمس بن قحافة من خثعم، والآخر سعد، ويقال له بنانة، وبنانة أمه، فأهل البادية منهم في بني سعد بن همام في بني شيبان ابن ثعلبة، والحاضرة ينتمون إلى قريش. وكان كعب عظيم القدر عند العرب، فلهذا أرخوا لموته إلى عام الفيل، ثم أرخوا بالفيل، وكان يخطب الناس أيام الحج، وخطبته مشهورة يخبر فيها بالنبي صلى الله عليه وسلم. جسر بفتح الجيم، وسكون السين المهملة، وآخره راء. ؟؟ ابن لؤي ويكنى أبا كعب، وأم لؤي عاتكة ابنة يخلد بن النضر بن كنانة، وهي أولى العواتك اللواتي ولدن رسول الله صلى الله عليه وسلم، من قريش. وله أخوان، أحدهما تيم الأدرم، والدرم نقصان في الذقن، قيل: إنه كان ناقص اللحي؛ والآخر قيس، ولم يبق منهم أحد، وآخر من مات منهم في زمن خالد بن عبد الله القسري، فبقي ميراثه لا يدرى من يستحقه. وقيل: إن أمهم سلمى بنت عمرو بن ربيعة، وهو يحيى بن حارثة الخزاعي. يخلد بفتح الياء تحتها نقطتان، وسكون الخاء المعجمة، وبعد اللام دال مهملة. ؟؟ ابن غالب ويكنى أبا تيم، وأم غالب ليلى ابنة الحارث بن تيم بن سعد بن هذيل، وإخوته من أبيه وأمه: الحارث ومحارب وأسد وعوف وجون وذئب، وكانت محارب والحارث من قريش الظواهر، فدخلت الحارث الأبطح. ؟؟ابن فهر
ويكنى أبا غالب، وفهر هو جماع قريش، في قول هشام، وأمه جندلة بنت عامر بن الحارث بن مضاض الجرهمي، وقيل غير ذلك. وكان فهر رئيس الناس بمكة، وكان حسان فيما قيل أقبل من اليمن مع حمير وغيرهم يريد أن ينقل أحجار الكعبة إلى اليمن، فنزل بنخلة، فاجتمع قريش وكنانة وخزيمة وأسد وجذام وغيرهم، ورئيسهم فهر بن مالك، فاقتتلوا قتالاً شديداً، وأسر حسان وانهزمت حمير وبقي حسان بمكة ثلاث سنين، وافتدى نفسه وخرج فمات بين مكة واليمن. ؟؟ ابن مالك وكنيته أبو الحارث، وأمه عاتكة بنت عدوان، وهو الحارث بن قيس عيلان، ولقبها عكرشة، وقيل غير ذلك. وقيل: إن النضر بن كنانة كان اسمه قريشاً. وقيل: لما جمعهم قصي قيل لهم قريش، والتقرش التجمع. وقيل: لما ملك قصي الحرم وفعل أفعالاً جميلة قيل له القرشي، وهو أول من سمي به، وهو من الإجتماع أيضاً، أي لإجتماع خصال الخير فيه، وقد قيل في تسمية قريش قريشاً أقوال كثيرة لا حاجة إلى ذكرها. وقصي أول من أحدث وقود النار بالمزدلفة، وكانت توقد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن بعده. ؟؟ ابن النضر يكنى أبا يخلد، كني بإبنه يخلد، واسم النضر قيس، وإنما قيل له النضر لجماله، وأمه برة ابنة مر بن أد بن طابخة أخت تميم بن مر، وإخوته لأبيه وأمه نصير ومالك وملكان وعامر والحارث وعمرو وسعد وعوف وغنم ومخزمة وجرول وغزوان وجدال، وأخوهم لأبيهم عبد مناة، وأمه فكيهة، وهي الذفراء، ابنة هني بن بلي بن عمرو بن الحاف بن قضاعة، وأخو عبد مناة لأمه علي بن مسعود بن مازن الغساني، وكان قد حضن أولاد أخيه عبد مناة فنسبوا إليه، فقيل لبني عبد مناة بنو علي، وإياهم عنى الشاعر بقوله: لله درّ بني عل ... يٍّ أيّمٍ منهم وناكح وقيل: تزوج امرأة عبد مناة فولدت له وحضن بني عبد مناة فغلب على نسبهم، ثم وثب مالك بن كنانة على علي بن مسعود فقتله، فواراه أسد بن خزيمة. ؟؟ ابن كنانة ويكنى أبا النضر، وأم كنانة عوانة بنت سعد بن قيس عيلان، وقيل: هند ابنة عمرو بن قيس. وإخوته لأبيه أسد وأسدة، ويقال: إنه أبو جذام والهون، وأمهم برة بنت مر، وهي أم النضر، خلف عليها بعد أبيه. ؟؟ ابن خزيمة ويكنى أبا أسد، وأمه سلمى ابنة أسلم بن الحاف بن قضاعة، وأخوه لأمه تغلب بن حلوان بن عمران بن الحاف، وأخو خزيمة لأبيه وأمه هذيل، وقيل: أمهما سلمى بنت أسد بن ربيعة. وخزيمة هو الذي نصب هبل على الكعبة، فكان يقال هبل خزيمة. أسلم، بضم اللام. ؟؟ ابن مدركة واسمه عمرو، ويكنى أبا هذيل، وقيل: أبا خزيمة، وأمه خندف، وهي ليلى ابنة حلوان بن عمران، وأمها ضرية ابنة ربيعة بن نزار، وبها سمي حمى ضرية. وإخوة مدركة لأبيه وأمه: عامر، وهو طابخة، وعمير، وهو قمعة، يقال: إنه أبو خزاعة. قال هشام: خرج إلياس في نجعة له فنفرت إبله من أرنب فخرج إليها عمرو فأدركها فسمي مدركة، وأخذها عامر فطبخها فسمي طابخة، وانقمع عمير في الخباء فسمي قمعة، وخرجت أمهم ليلى تمشي فقال لها إلياس: أين تخندفين ؟ فسميت خندف، والخندفة: ضرب من المشي. ؟؟ ابن إلياس وكان يكنى أبا عمرو، وأمه الرباب ابنة جندة بن معد، وأخوه لأبيه وأمه الناس، بالنون، وهو عيلان، وسمي عيلان لفرس له كان يدعى عيلان، وقيل: لأنه ولد في أصل جبل يسمى عيلان، وقيل غير ذلك. ولما توفي حزنت عليه خندف حزناً شديداً فلم تقم حيث مات ولم يظلها سقفٌ حتى هلكت، فضرب بها المثل. وتوفي يوم الخميس، فكانت تبكي كل خميس من غدوة إلى الليل. ؟؟ ابن مضر وأمه سودة بنت عك، وأخوه لأبيه وأمه إياد، ولهما أخوان من أبيهما: ربيعة وأنمار، أمهما جدالة ابنة وعلان من جرهم. وذكر أن نزار بن معد لما حضرته الوفاة أوصى بنيه وقسم ماله بينهم فقال: يا بني هذه القبة، وهي من أدم حمراء، وما أشبهها من مالي لمضر، فسمي مضر الحمراء، وهذا الخباء الأسود وما أشبه من مالي لربيعة، وهذه الخادم وما أشبهها من مالي لإياد، وكانت شمطاء، فأخذ البلق والنقد من غنمه، وهذه البدرة والمجلس لأنمار يجلس عليه، فأخذ أنمار ما أصابه، فإن أشكل في ذلك عليكم شيء واختلفتم في القسمة فعليكم بالأفعى الجرهمي.
فاختلفوا فتوجهوا إلى الأفعى الجرهمي، فبينما هم يسيرون في مسيرهم إذ رأى مضر كلأ قد رعي فقال: إن البعير الذي قد عى هذا الكلأ لأعور. وقال ربيعة: هو أزور. وقال إياد: هو أبتر. وقال أنمار: هو شرود. فلم يسيروا إلا قليلاً حتى لقيهم رجلٌ توضع به راحلته، فسألهم عن البعير، فقال مضر: هو أعور ؟ قال: نعم. قال ربيعة: هو أزور ؟ قال: نعم. وقال إياد: هو أبتر ؟ قال: نعم. وقال أنمار: هو شرود ؟ قال: نعم، هذه صفة بعيري، دلوني عليه، فحلفوا له ما رأوه، فلزمهم، وقال: كيف أصدقكم وهذه صفة بعيري !. فساروا جميعاً حتى قدموا نجران فنزلوا على الأفعى الجرهمي، فقص عليه صاحب البعير حديثه، فقال لهم الجرهمي: كيف وصفتموه ولم تروه ؟ قال مضر: رأيته يرعى جانباً ويدع جانباً فعرفت أنه أعور. وقال ربيعة: رأيت إحدى يديه ثابتة والأخرى فاسدة الأثر فعرفت أنه أزور. وقال إياد: عرفت أنه أبتر باجتماع بعره ولو كان أذنب لمصع به. وقال أنمار: عرفت أنه شرود لأنه يرعى المكان الملتف نبته ثم يجوزه إلى مكان أرق منه نبتاً وأخبث. فقال الجرهمي: ليسوا بأصحاب بعيرك فاطلبه. ثم سألهم من هم، فأخبروه، فرحب بهم وقال: أتحتاجون أنتم إلي وأنتم كما أرى ؟ ودعا لهم بطعام فأكلوا وشربوا، فقال مضر: لم أر كاليوم خمراً أجود لولا أنها نبت على قبر. وقال ربيعة: لم أر كاليوم لحماً أطيب لولا أنه وبي بلبن كلبة. وقال إياد: لم أر كاليوم رجلاً أسرى لولا أنه لغير أبيه الذي ينتمي إليه. وقال أنمار: لم أر كاليوم كلاماً أنفع لحاجتنا. وسمع الجرهمي الكلام فعجب، فأتى أمه وسألها، فأخبرته أنها كانت تحت ملك لا يولد له، فكرهت أن يذهب الملك فأمكنت رجلاً من نفسها فحملت به، وسأل القهرمان عن الخمر، فقال: من حبلة غرستها على قبر أبيك، وسأل الراعي عن اللحم فقال: شاة أرضعتها لبن كلبة. فقيل لمضر: من أين عرفت الخمر ؟ فقال: لأني أصابني عطش شديد. وقيل لربيعة فيما قال، فذكر كلاماً وأتاهم الجرهمي وقال: صفوا لي صفتكم، فقصوا عليه قصتهم، فقضى بالقبة الحمراء والدنانير والإبل، وهي حمر، لمضر، وقضى بالخباء الأسود والخيل الدهم لربيعة، وقضى بالخادم، وكانت شمطاء، والماشية البلق لإياد، وقضى بالأرض والدراهم لأنمار. ومضر أول من حدا، وكان سبب ذلك أنه سقط من بعيره فانكسرت يده فجعل يقول: يا يداه يا يداه، فأتته الإبل من المرعى، فلما صلح وركب حداً، وكان من أحسن الناس صوتاً. وقيل: بل انكسرت يد مولى له فصاح، فاجتمعت الإبل، فوضع مضر الحداء وزاد الناس فيه. وهو أول من قال حينئذ: بصبصن إذ حدين بالأذناب، فذهب مثلاً. وروي أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: (لا تسبّوا مضر وربيعة فإنّهما مسلمان). ؟؟ ابن نزار وقيل كان يكنى أبا إياد، وقيل: أبا ربيعة، أمه معانة ابنة جوشم بن جلهمة بن عمرو بن جرهم، وإخوته لأبيه وأمه قنص وقناصة وسالم وجندة وجناد والقحم وعبيد الرباح والغرف والعوف وشك وضاعة، وبه كان يكنى معد، وعدة درجوا. ؟؟ ابن معد وإمه مهدة ابنة اللهم، ويقال اللهم، ويقال اللهم بن جلحب بن جديس، وقيل بن طسم، وإخوته من أبيه الريث، وقيل: الريث هو عك، وقيل: عك بن الريث، وعدن بن عدنان، قيل: هو صاحب عدن وأبين وإليه تنسب أبين، ودرج نسله ونسل عدن، وأد وأبي بن عدنان، ودرج، والضحاك والغني. فلحق ولد عدنان باليمن عند حرب بخت نصر، وحمل إرميا وبرخيا معداً إلى حران فأسكناه بها. فلما سكنت الحرب رداه إلى مكة فرأى إخوته قد لحقوا باليمن. ؟؟ ابن عدنان ولعدنان أخوان يدعى أحدهما نبتاً والآخر عامراً، فنسب النبي، صلى الله عليه وسلم، لا يختلف الناسبون فيه إلى معد بن عدنان، على ما ذكرت، يختلفون فيما بعد ذلك اختلافاً عظيماً لا يحصل منه على غرض، فتارة يجعل بعضهم بين عدنان وبين إسماعيل، عليه السلام، أربعة آباء، ويجعل آخر بينهما أربعين أباً، ويختلفون أيضاً في الأسماء أشد من اختلافهم في العدد، فحيث رأيت الأمر كذلك لم أعرج على ذكر شيء منه، ومنهم من يروي عن النبي، صلى الله عليه وسلم، في نسبه حديثاً يصله بإسماعيل، ولا يصح في ذلك الحديث. ؟؟ | |
|
| |
الشيخ عودة الشيخ عودة
عدد المساهمات : 1748 تاريخ التسجيل : 28/09/2008 العمر : 74
| موضوع: رد: كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير الجمعة فبراير 07, 2014 8:55 am | |
| ذكر الفواطم والعواتك
وإما الفواطم اللائي ولدن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فخمس: قرشية وقيسيتان ويمانيتان. أما القرشية فأم أبيه عبد الله بن عبد المطلب فاطمة بنت عمرو بن عايذ بن عمران ابن مخزوم المخزومية. وأما القيسيتان فأم عمرو بن عايذ بن فاطمة ابنة عبد الله بن رزاح بن ربيعة ابن جحوش بن معاوية بن بكر بن هوازن، وأمها فاطمة بنت الحارث بن بهثة بن ليم بن منصور. وأما اليمانيتان فأم قصي بن كلاب فاطمة بنت سعد بن سيل بن أزد شنوءة وأم حبى بنت حليل بن حبشية بن كعب بن سلول، وهي أم قصي فاطمة بنت نصر بن عوف بن عمرو بن ربيعة بن حارثة الخزاعية. وأما العواتك فاثنتا عشرة: اثنتان من قريش، وواحدة من بني يخلد ابن النضر، وثلاث من سليم، وعدويتان، وهذلية، وقضاعية، وأسدية. فأما القرشيتان فأم أمه آمنة بنت وهب برة بنت عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار، وأم برة أم حبيب بنت أسد بن عبد العزى، وأم أسد ريطة بنت كعب بن سعد بن تيم، وأمه أميمة بنت عامر الخزاعية، وأمها عاتكة بنت هلال بن أهيب بن ضبة بن الحارث بن فهم، وأم هلال هند بنت هلال ابن عامر بن صعصعة، وأم أهيب بن ضبة عاتكة بنت غالب بن فهر، وأمها عاتكة بنت يخلد بن النضر بن كنانة. وأما السلميات فأم هاشم بن عبد مناف عاتكة بنت مرة بن هلال بن فالج ابن ذكوان بن بهثة بن سليم بن منصور، وأم عبد مناف عاتكة بنت هلال بن فالج، والثالثة أم جده لأمه وهب، وهي عاتكة بنت الأوقص بن مرة ابن هلال. قلت: هكذا ذكر بعض العلماء عواتك سليم، وجعل أم عبد مناف عاتكة بنت مرة، وليس بشيء، فإن أم عبد مناف حبى بنت حليل الخزاعية، وقال غيره: أم هاشم عاتكة بنت مرة، وأم مرة بن هلال عاتكة بنت جابر ابن قنفذ بن مالك بن عوف بن امرئ القيس بن بهثة بن سليم، وأم هلال بن فالج عاتكة بنت عصية بن خفاف بن امرئ القيس. وأما العدويتان فمن جهة أبيه عبد الله، فإن أم عبد الله فاطمة بنت عمرو، وأم فاطمة تخمر بنت عبد قصي، وأمها هند بنت عبد الله بن الحارث بن وائلة بن الظرب، وأمها زينب بنت مالك بن ناصرة بن كعب الفهمية. وأما عاتكة بنت عامر بن الظرب بن عمرو بن عباد بن بكر بن الحارث، وهو عدوان بن عمرو بن قيس عيلان، وأم مالك بن النضر عاتكة، فهي عكرشة، وهي الحصان بنت عدوان. وأما الأزدية فأم النضر بن كنانة بنت مرة بن أد أخت تميم، وأمها ماوية من بني ضبيعة بن ربيعة بن نزار، وأمها عاتكة بنت الأزد بن الغوث، وقد ولدته هذه الأزدية مرة أخرى من قبل غالب بن فهر، فإن أم غالب ليلى بنت الحارث بن تميم بن سعد بن هذيل، وأمها سلمى بنت طابخة بن إلياس ابن مضر، وأمها عاتكة بنت الأزد هذه. وأما الهذلية فعاتكة بنت سعد بن سيل، هي أم عبد الله بن رزام جد عمرو بن عايذ بن عمران بن مخزوم لأمه، وعمر وجد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أبو أمه. وأما القضاعية فأم كعب بن لؤي ماوية بنت القين بن جسر بن شيع الله بن أسد بن وبرة، وأمها وحشية بنت ربيعة بن حرام بن ضنة العذرية، وأمها عاتكة بنت رشدان بن قيس بن جهينة. وأما الأسدية فأم كلاب بن مرة هند بنت سرير بن ثعلبة بن الحارث بن مالك بن كلاب، وأمها عاتكة بنت دودان بن أسد بن خزيمة. وعايذ بن عمران بالياء المثناة من تحتها، والذال المعجمة. وسعد بن سل بفتح السين المهملة، والياء المثناة من تحتها المفتحة. حيي بضم الحاء المهملة، وبالياء المثناة من تحتها، وتشديد الياء الممالة. وحليل بضم الحاء المهملة، وبالياء المثناة من تحتها. وجسر بفتح الجيم، وتسكين السين المهملة. حارثة بالحاء المهملة، والثاء المثلثة. ووائلة بن الظرب بالياء المثناة من تحتها. وضبة بن الحارث بالضاد المعجمة المفتوحة، والباء المشددة الموحدة. وشيع الله بالشين المعجمة المفتوحة، والياء المثناة من تحتها الساكنة. وحرام بفتح الحاء المهملة، والراء المهملة. وضنة العذري بكسر الضاد المعجمة، والنون المشددة. وعصية بالعين المهملة المضمومة، وفتح الصاد والياء المثناة من تحتها. عدنا إلى ذكر النبي صلى الله عليه وسلم
توفي عبد المطلب بعد الفيل بثماني سنين، وأوصى أبا طالب برسول الله، صلى الله عليه وسلم. فكان أبو طالب هو الذي قام بأمر النبي، صلى الله عليه وسلم، بعد جده، ثم إن أبا طالب خرج إلى الشام، فلما أراد المسير لزمه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فرق له وأخذه معه، ولرسول الله، صلى الله عليه وسلم، تسع سنين. فلما نزل الركب بصرى من أرض الشام، وبها راهب يقال له بحيرا في صومعة له، وكان ذا علم في النصرانية، ولم يزل بتلك الصومعة راهب يصير إليه علمهم، وبها كتاب يتوارثونه. فلما رآهم بحيرا صنع لهم طعاماً كثيراً، وذلك لأنه رأى على رسول الله غمامةً تظلله من بين القوم، ثم أقبلوا حتى نزلوا في ظل شجرة قريباً منه، فنظر إلى الشجرة وقد هصرت أغصانها حتى استظل بها، فنزل إليهم من صومعته ودعاهم. فلما رأى بحيرا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، جعل يلحظه لحظاً شديداً وينظر إلى أشياء من جسده كان يجدها من صفته. فلما فرغ القوم من الطعام وتفرقوا، سأل النبي، صلى الله عليه وسلم، عن أشياء من حاله في يقظته ونومه فوجدها بحيرا موافقة لما عنده من صفته، ثم نظر إلى خاتم النبوة بين كتفيه، ثم قال بحيرا لعمه أبي طالب: ما هذا الغلام منك ؟ قال: ابني. قال: ما ينبغي أن يكون أبوه حياً. قال: فإنه ابن أخي مات أبوه وأمه حبلى به. قال: صدقت، ارجع به إلى بلدك واحذر عليه يهود، فوالله لئن رأوه وعرفوا منه ما عرفت ليبغنه شراً، فإنه كائن له شأن عظيم. فخرج به عمه حتى أقدمه مكة. وقيل: بينما هو يقول لعمه في إعادته إلى مكة وتخوفهم عليه من الروم إذ أقبل سبعة نفر من الروم، فقال لهم بحيرا: ما جاء بكم ؟ قالوا: جاءنا أن هذا النبي خارج في هذا الشهر فلم يبق طريق إلا بعث إليها ناس، وإنا بعثنا إلى طريقك. قال: أرأيتم أمراً أراده الله هل يستطيع أحد من الناس رده ؟ قالوا: لا. وتابعوا بحيرا وأقاموا عنده. وقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: ما هممت بشيء مما كان الجاهلية يعملونه غير مرتين، كل ذلك يحول الله بيني وبينه، ثم ما هممت به حتى أكرمني برسالته؛ قلت ليلة لغلام يرعى معي بأعلى مكة: لو أبصرت لي غنمي حتى أدخل مكة وأسمر بها كما يسمر الشباب. فقال: أفعل. فخرجت حتى إذ كنت عند أول دار بمكة سمعت عزفاً، فقلت: ما هذا ؟ فقالوا: عرس فلان بفلانة، فجلست أسمع، فضرب الله على أذني فنمت، فما أيقظني إلا حر الشمس، فعدت إلى صاحبي فسألني فأخبرته. ثم قتل له ليلة أخرى مثل ذلك ودخلت مكة، فأصابني مثل أول ليلة، ثم ما هممت بعده بسوء. ذكر نكاح النبي صلى الله عليه وسلم خديجةونكح رسول الله، صلى الله عليه وسلم خديجة بنت خويلد وهو ابن خمس وعشرين سنة وخديجة يومئذ ابنة أربعين سنة. وسبب ذلك أن خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي كانت امرأة تاجرة ذات شرف ومال تستأجر الرجال في مالها وتضاربهم إياه بشيء تجعله لهم منه، وكانت قريش تجاراً، فلما بلغها عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، صدق الحديث وعظم الأمانة وكرم الأخلاق أرسلت إليه ليخرج في مالها إلى الشام تاجراً وتعطيه أفضل ما كانت تعطي غيره مع غلامها ميسرة. فأجابها وخرج معه ميسرة حتى قدم الشام، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في ظل شجرة قريباً من صومعة راهب، فأطلع الراهب رأسه إلى ميسرة فقال: من هذا؟ قال ميسرة: هذا رجل من قريش. فقال الراهب: ما نزل تحت هذه الشجرة إلا نبي. ثم باع رسول الله صلى الله عليه وسلم، واشترى وعاد، فكان ميسرة إذا كانت الهاجرة يرى ملكين يظلانه من الشمس وهو على بعيره. فلما قدم مكة ربحت خديجة ربحاً كثيراً، وحدثها ميسرة عن قول الراهب وما رأى من إظلال الملكين إياه.
وكانت خديجة امرأة حازمة عاقلة شريفة مع ما أراده الله من كرامتها، فأرسلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعرضت عليه نفسها، وكان أوسط نساء قريش نسباً وأكثرهن مالاً وشرفاً، وكل قومها كان حريصاً على ذلك منها لو يقدر عليه. فلما أرسلت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قال لأعمامه، وخرج ومعه حمزة بن عبد المطلب وأبو طالب وغيرهما من عمومته حتى دخل خويلد بن أسد فخطبها إليه، فتزوجها فولدت له أولاده كلهم، إلا إبراهيم: زينب، ورقية، وأم كلثوم، وفاطمة، والقاسم، وبه كان يكنى، وعبد الله، والطاهر، والطيب. وقيل: إن عبد الله ولد في الإسلام هو والطاهر والطيب، فأما القاسم والطاهر والطيب فهلكوا في الجاهلية، وأما بناته فكلهن أدركن الإسلام فأسلمن وهاجرن معه. وقيل: إن الذي زوجها عمها عمرو بن أسد، وإن أباها مات قبل الفجار. قال الواقدي: وهو الصحيح، لأن أباها توفي قبل الفجار. وكان منزل خديجة يومئذ المنزل الذي يعرف بها اليوم، فيقال: إن معاوية اشتراه وجعله مسجداً يصلى فيه. وكان الرسول بين خديجة وبين النبي، صلى الله عليه وسلم نفيسة بنت منية أخت يعلى بن منية، وأسلمت يوم الفتح، فبرها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأكرمها. منية بالنون الساكنة، والياء المثناة من تحتها. ذكر حلف الفضولقال ابن إسحاق: وكان نفر من جرهم وقطوراء يقال لهم: الفضيل بن الحارث الجرهمي، والفضيل بن وداعة القطوري، والمفضل بن فضالة الجرهمي، اجتمعوا فتحالفوا أن لا يقروا ببطن مكة ظالماً، وقالوا: لا ينبغي إلا ذلك لما عظم الله من حقها، فقال عمرو بن عوف الجرهمي: إنّ الفضول تحالفوا وتعاقدوا ... ألاّ يقرّ ببطن مكّة ظالم أمرٌ عليه تعاهدوا وتواثقوا ... فالجار والمعتّر فيهم سالم ثم درس ذلك فلم يبق إلا ذكره في قريش. ثم إن قبائل من قريش تداعت إلى ذلك الحلف فتحالفوا في دار عبد الله بن جدعان لشرفه وسنه، وكانوا بني هاشم وبني المطلب وبني أسد بن عبد العزى وزهرة بن كلاب وتيم من مرة، فتحالفوا وتعاقدوا أن لا يجدوا بمكة مظلوماً من أهلها أو من غيرهم من سائر الناس إلا قاموا معه وكانوا على ظلمه حتى ترد عليه مظلمته، فسمت قريش ذلك الحلف الفضول، وشهده رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقال حين أرسله الله تعالى: لقد شهدت مع عمومتي حلفاً في دار عبد الله بن جدعان ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو دعيت به في الإسلام لأجبت. قال: وقال محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي: كان بين الحسين بن علي بن أبي طالب وبين الوليد بن عتبة بن أبي سفيان منازعة في مال كان بينهما، والوليد يومئذ أمير على المدينة لعمه معاوية، فتحامل الوليد لسلطانة. فقال له الحسين: أقسم بالله لتنصفني أو لآخذن سيفي ثم لأقومن في مسجد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ثم لأدعون بحلف الفضول. فقال عبد الله بن الزبير، وكان حاضراً: وأنا أحلف بالله لو دعا به لأجبته حتى ينصف من حقه أو نموت. وبلغ المسور بن مخرمة الزهري فقال مثل ذلك، وبلغ عبد الرحمن بن عثمان بن عبد الله التيمي فقال مثل ذلك. فلما بلغ الوليد ذلك أنصف الحسين من نفسه حتى رضي. ذكر هدم قريش الكعبة وبنائهاوفي سنة خمس وثلاثين من مولده صلى الله عليه وسلم، هدمت قريش الكعبة. وكان سبب هدمهم إياها أنها كانت رضيمة فوق القامة، فأرادوا رفعها وتسقيفها، وذلك أن نفراً من قريش وغيرهم سرقوا كنزها وفيه غزلان من ذهب، وكانا في بئر في جوف الكعبة. وكان أمر غزالي الكعبة أن الله لما أمر إبراهيم وإسماعيل ببناء الكعبة ففعلا ذلك، وقد تقدم ذكره، وأقام إسماعيل بمكة وكان يلي البيت حياته، وبعده وليه ابنه نبت. فلما مات نبت ولم يكثر ولد إسماعيل غلبت جرهم على ولاية البيت، فكان أول من وليه منهم مضاض، ثم ولده من بعده حتى بغت جرهم واستحلوا حرمة البيت فظلموا من دخل مكة حتى قيل: ان إسافاً ونائلة زنيا في البيت فمسخا حجرين.
وكانت خزاعة قد أقامت بتهامة بعد تفرق أولاد عمرو بن عامر من اليمن، فأرسل الله على جرهم الرعاف أفناهم، فاجتمعت خزاعة على إجلاء من بقي منهم، ورئيس خزاعة عمرو بن ربيعة بن حارثة فاقتتلوا، فلما أحس عامر بن الحارث الجرهمي بالهزيمة خرج بغزالي الكعبة والحجر الأسود يلتمس التوبة وهو يقول: ؟لاهمّ إنّ جرهماً عبادك ... النّاس طرفٌ وهم تلادك بهم قديماً عمرت بلادك فلم تقبل توبته، فدفن غزالي الكعبة ببئر زمزم وطمها وخرج بمن بقي من جرهم إلى أرض جهينة، فجاءهم سيل فذهب بهم أجمعين، وقال عمرو بن الحارث: كأن لم يكن بين الحجون إلى الصّفا ... أنيسٌ ولم يسمر بمكّة سامر بلى نحن كنّا أهلها فأبادنا ... صروف اللّيالي والجدود العواثر وولي البيت بعد جرهم عمرو بن ربيعة، وقيل: وليه عمرو بن الحارث الغساني، ثم خزاعة بعده، غير أنه كان في قبائل مضر ثلاث خلال: الإجازة بالحج من عرفة، وكان ذلك إلى الغوث بن مر بن أد، وهو صوفة، والثانية الإضافة من جمع إلى منى، وكانت إلى بني زيد بن عدوان، وآخر من ولي ذلك منهم أبو سيارة عميلة بن الأعزل بن خالد، والثالثة النسيء للشهور الحرم، فكان ذلك إلى القلمس، وهو حذيفة بن فقيم بن كنانة، ثم إلى بنيه من بعده، ثم صار ذلك إلى أبي ثمامة، وهو جنادة بن عوف بن قلع بن حذيفة؛ وقام الإسلام وقد عادت الأشهر الحرم إلى أصلها فأبطل الله عز وجل النسيء. ثم وليت البيت بعد خزاعة قريش، وقد ذكرنا ذلك عند ذكر قصي بن كلاب. ثم حفر عبد المطلب زمزم فأخرج الغزالين، كما تقدم. وكان الذي وجد الغزالان عنده دويك، مولى لبني مليح بن خزاعة، فقطعت قريش يده، وكان فيمن اتهم في ذلك: عامر بن الحارث بن نوفل، وأبو هارب بن عزيز، وأبو لهب بن عبد المطلب. وكان البحر قد ألقى سفينة إلى جدة لتاجر رومي فتحطمت، فأخذوا خشبها فأعدوا لسقفها، فتهيأ لهم بعض ما يصلحها. وكانت حية تخرج من بئر الكعبة التي يطرح فيها ما يهدى لها كل يوم فتشرف على جدار الكعبة، وكان لا يدنو منها أحد إلا كشت وفتحت فاها، فكانوا يهابونها، فبينما هي يوماً على جدار الكعبة اختطفها طائرٌ فذهب بها، فقالت قريش: إنا لنرجو أن يكون الله عز وجل قد رضي ما أردناه. وكان ذلك ورسول الله، صلى الله عليه وسلم، ابن خمس وثلاثين سنة، وبعد الفجار بخمس عشرة سنة. فلما أرادوا هدمها قام أبو وهب بن عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم فتناول حجراً من الكعبة فوثب من يده حتى رجع إلى موضعه، فقال: يا معشر قريش لا تدخلوا في بنائها إلا طيباً ولا تدخلوا فيه مهر بغيٍّ ولا بيع رباً ولا مظلمة أحد. وقيل: إن الوليد بن المغيرة قال هذا. ثم إن الناس هابوا هدمها فقال الوليد بن المغيرة: أنا أبدأكم به، فأخذ المعول فهدم، فتربص الناس به تلك الليلة وقالوا: ننظر فإن أصيب لم نهدم منها شيئاً، فأصبح الوليد سالماً وغدا إلى عمله فهدم والناس معه حتى انتهى الهدم إلى الأساس ثم أفضوا إلى حجارة خضر آخذ بعضها ببعض، فأدخل رجل من قريش عتلةً بين حجرين منها ليقلع به أحدهما. فلما تحرك الحجر انتقضت مكة بأسرها، ثم جمعوا الحجارة لبنائها ثم بنوا حتى بلغ البنيان موضع الركن، فأرادت كل قبيلة رفعه إلى موضعه حتى تحالفوا وتواعدوا للقتال، فقربت بنو عبد الدار جفنةً مملوءة دماً ثم تعاقدوا هم وبنو عدي على الموت وأدخلوا أيديهم في ذلك الدم فسموا لعقة الدم بذلك، فمكثوا على ذلك أربع ليال ثم تشاوروا. فقال أبو أمية بن المغيرة، وكان أسن قريش: اجعلوا بينكم حكماً أول من يدخل من باب المسجد يقضي بينكم، فكان أول من دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رأوه قالوا: هذا الأمين قد رضينا به، وأخبروه الخبر، فقال: هلموا إلي ثوباً، فأتي به، فأخذ الحجر الأسود فوضعه فيه ثم قال: لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب ثم ارفعوه جميعاً، ففعلوا. فلما بلغوا به موضعه وضعه بيده ثم بني عليه. ذكر الوقت الذي أرسل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم لعشرين سنة مضت من ملك كسرى أبرويز بن هرمز بن أنوشروان، وكان على الحيرة إياس بن قبيصة الطائي عاملاً للفرس على العرب.
قال ابن عباس من رواية حمزة وعكرمة عنه وأنس بن مالك وعروة ابن الزبير: إن النبي صلى الله عليه وسلم، بعث وأنزل عليه الوحي وهو ابن أربعين سنة. وقال ابن عباس من رواية عكرمة أيضاً عنه وسعيد بن المسيب: إنه أنزل عليه، صلى الله عليه وسلم، وهو ابن ثلاث وأربعين سنة، وكان نزول الوحي عليه يوم الاثنين بلا خلاف. واختلفوا في أي الأثانين كان ذلك، فقال أبو قلابة الجرمي: أنزل الفرقان على النبي، صلى الله عليه وسلم، لثماني عشرة ليلة خلت من رمضان، وقال آخرون: كان ذلك لتسع عشرة مضت من رمضان. وكان، صلى الله عليه وسلم، قبل أن يظهر له جبرائيل يرى ويعاين آثاراً من آثار من يريد الله إكرامه بفضله، وكان من ذلك ما ذكرت من شق الملكين بطنه واستخراجهما ما في قلبه من الغل والدنس، ومن ذلك أنه كان لا يمر بحجر ولا شجر إلا سلم عليه، فكان يلتفت يميناً وشمالاً فلا يرى أحداً، وكانت الأمم تتحدث بمبعثه وتخبر علماء كل أمة قومها بذلك. قال عامر بن ربيعة: سمعت زيد بن عمرو بن نفيل يقول: إنا لننتظر نبياً من ولد إسماعيل، ثم من بني عبد المطلب، ولا أراني أدركه، وأنا أؤمن به وأصدقه وأشهد أنه نبي، فإن طالت بك حياة ورأيته فأقرئه مني السلام، وسأخبرك ما نعته حتى لا يخفي عليك. قلت: هلم. قال: هو رجل ليس بالطويل ولا بالقصير، ولا بكثير الشعر ولا بقليلة، ولا تفارق عينيه حمرة، وخاتم النبوة بين كتفيه، واسمه أحمد، وهذا البلد مولده ومبعثه، ثم يخرجه قومه ويكرهون ما جاء به، ويهاجر إلى يثرب فيظهر بها أمره، فإياك أن تنخدع عنه، فإني طفت البلاد كلها أطلب دين إبراهيم فكل من أسأله من اليهود والنصارى والمجوس يقول: هذا الدين وراءك، وينعتونه مثل ما نعته لك، ويقولون لم يبق نبي غيره. قال عامر: فلما أسلمت أخبرت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قول زيد وأقرأته السلام. فرد عليه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وترحم عليه وقال: قد رأيته في الجنة يسحب ذيولاً. وقال جبير بن مطعم: كنا جلوساً عند صنم سوانة قبل أن يبعث رسول الله، صلى الله عليه وسلم بشهر. نحرنا جزوراً، فإذا صائح يصيح من جوف الصنم: اسمعوا إلى العجب، ذهب استراق الوحي ونرمى بالشهب لنبي بمكة اسمه أحمد مهاجره إلى يثرب. قال: فأمسكنا وعجبنا، وخرج رسول الله، صلى الله عليه وسلم. والأخبار عن دلائل نبوته كثيرة، وقد صنف العلماء في ذلك كتباً كثيراً ذكروا فيها كل عجيبة، ليس هذا موضع ذكرها. ذكر ابتداء الوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم قالت عائشة، رضي الله عنها: كان أول ما ابتدئ به رسول الله، صلى الله عليه وسلم، من الوحي الرؤيا الصادقة، كانت تجيء مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، فكان بغار حراء يتعبد فيه الليالي ذوات العدد ثم يرجع إلى أهله فيتزود لمثلها حتى فجأه الحق فأتاه جبرائيل فقال: يا محمد أنت رسول الله. قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: فجثوت لركبتي ثم رجعت ترجف بوادري فدخلت على خديجة فقلت: زملوني زملوني ! ثم ذهب عني الروع، ثم أتاني فقال: يا محمد أنت رسول الله. قال: فلقد هممت أن أطرح نفسي من حالق، فتبدى لي حين هممت بذلك فقال: يا محمد أنا جبرائيل وأنت رسول الله، قال: اقرأ. قلت: وما أقرأ ؟ فأخذني فغتني ثلاث مرات حتى بلغ مني الجهد ثم قال: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) العلق: 1، فقرأت. فأتيت خديجة، فقلت: لقد أشفقت على نفسي، وأخبرتها خبري، فقالت: أبشر، فوالله لا يخزيك الله أبداً، فوالله إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتؤدي الأمانة، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق. ثم انطلقت بي إلى ورقة بن نوفل، وهو ابن عمها، وكان قد تنصر وقرأ الكتب وسمع من أهل التوراة والإنجيل، فقالت: اسمع من ابن أخيك. فسألني فأخبرته خبري. فقال: هذا الناموس الذي أنزل على موسى بن عمران، ليتني كنت حياً حين يخرجك قومك. قلت: أمخرجي هم ؟ قال: نعم، إنه لم يجيء أحد بمثل ما جئت به إلا عودي، ولئن أدركني يومك لأنصرنك نصراً مؤزراً. ثم إن أول ما نزل عليه من القرآن بعد اقرأ: (ن وَالقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ) القلم: 1 و(يَا أيُّهَا المُدَّثِّرُ) المدثر: 1 وَالضُّحَى: 1.
وقالت خديجة لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، فيما تثبته فيما أكرمه الله به من نبوته: يا ابن عم أتستطيع أن تخبرني بصاحبك هذا الذي يأتيك إذا جاءك ؟ قال: نعم. فجاءه جبرائيل، فأعلمها. فقالت: قم فاجلس على فخذي اليسرى، فقام، صلى الله عليه وسلم، فجلس عليها. فقالت: هل تراه ؟ قال: نعم. قالت: فتحول فاقعد على فخذي اليمنى. فجلس عليها، فقالت: هل تراه ؟ قال: نعم. فتحسرت فألقت خمارها، ورسول الله، صلى الله عليه وسلم، في حجرها، ثم قالت: هل تراه ؟ قال: لا. قالت: يا ابن عم اثبت وأبشر، فوالله إنه ملكٌ، وما هو بشيطان ! وقال يحيى بن أبي كثير: سألت أبا سلمة عن أول ما نزل من القرآن، قال: نزلت (يَا أيُّها المُدَّثِّرُ) أول. قال: قلت: إنهم يقولون (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ). قال: سألت جابر بن عبد الله قال: لا أحدثك إلا ما حدثنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: جاورت بحراء فلما قضيت جواري هبطت فسمعت صوتاً فنظرت عن يميني فلم أر شيئاً ونظرت عن يساري فلم أر شيئاً ونظرت خلفي وأمامي فلم أر شيئاً، فرفعت رأسي فإذا هو، يعني الملك، جالس على عرش بين السماء والأرض، فخشيت منه فأتيت خديجة فقلت: دثروني دثروني، وصبوا علي ماء، ففعلوا، فنزلت: (يَا أيُّها المُدَّثَّرُ)، هذا حديث صحيح. قال هشام بن الكلبي: أتى جبرائيل النبي، صلى الله عليه وسلم، أول ما أتاه ليلة السبت وليلة الأحد، ثم ظهر له برسالة الله يوم الاثنين فعلمه الوضوء والصلاة، وعلمه: (اقْرَأ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ)، وكان لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، أربعون سنة. قال الزهري: فتر الوحي عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فترةً، فحزن حزناً شديداً وجعل يغدو إلى رؤوس الجبال ليتردى منها، فكلما رقي ذروة جبل تبدى له جبرائيل فيقول: إنك رسول الله حقاً. فيسكن لذلك جأشه وترجع نفسه. فلما أمر الله نبيه، صلى الله عليه وسلم، أن ينذر قومه عذاب الله على ما هم عليه من عبادة الأصنام دون الله الذي خلقهم ورزقهم وأني حدث بنعمة ربه عليه، وهي النبوة في قول ابن إسحاق، فكان يذكر ذلك سراً لمن يطمئن إليه من أهله، فكان أول من آمن به وصدقه من خلق الله تعالى خديجة بنت خويلد زوجته. قال الواقدي: أجمع أصحابنا على أن أول أهل القبلة استجاب لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، خديجة. ثم كان أول شيء فرض الله من شرائع الإسلام عليه بعد الإقرار بالتوحيد والبراءة من الأوثان الصلاة، وان الصلاة لما فرضت عليه، صلى الله عليه وسلم، أتاه جبرائيل وهو بأعلى مكة فهمز له بعقبه في ناحية الوادي، فانفجرت فيه عين، فتوضأ جبرائيل وهو ينظر إليه ليريه كيف الطهور للصلاة، ثم توضأ رسول الله، صلى الله عليه وسلم، مثله، ثم قام جبرائيل فصلى به وصلى النبي، صلى الله عليه وسلم، بصلاته، ثم انصرف. وجاء رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إلى خديجة فعلمها الوضوء، ثم صلى بها فصلت بصلاته. ذكر المعراج برسول الله صلى الله عليه وسلم اختلف الناس في وقت المعراج، فقيل: كان قبل الهجرة بثلاث سنين، وقيل: بسنة واحدة، واختلفوا في الموضع الذي أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم، منه، فقيل: كان نائما بالمسجد في الحجر فأسري به منه، وقيل: كان نائماً في بيت أم هانئ بنت أبي طالب، وقائل ها يقول: الحرم كله مسجد. وقد روى حديث المعارج جماعة من الصحابة بأسانيد صحيحة. قالوا: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: أتاني جبرائيل وميكائيل فقالا: بأيهم أمرنا ؟ فقالا: أمرنا بسيدهم؛ ثم ذهبا ثم جاءا من القابلة وهم ثلاثة فألفوه وهو نائم فقلبوه لظهره وشقوا بطنه وجاؤوا بماء زمزم فغسلوا ما كان في بطنه من غل وغيره، وجاؤوا بطست مملوء إيماناً وحكمةً فمليء قلبه وبطنه إيماناً وحكمةً. قال: وأخرجني جبرائيل من المسجد وغذا أنا بدابة، وهي البراق، وهي فوق الحمار ودون البغل، يقوع خطوه عند منتهى طرفه، فقال: اركب، فلما وضعت يدي عليه تشامس واستصعب. فقال جبرائيل: يا براق ما ركبك نبي أكرم على الله من محمد، فانصب عرقاً وانخفض لي حتى ركبته، وسار بي جبرائيل نحو المسجد الأقصى، فأتيت بإنائين أحدهما لبن والآخر خمر، فقيل لي: اختر أحدهما، فأخذت اللبن فشربته، فقيل لي: أصبت الفطرة، أما إنك لو شربت الخمر لغوت أمتك بعدك.
ثم سرنا فقال لي: انزل فصل، فنزلت فصليت، فقال: هذه طيبة وإليها المهاجر. ثم سرنا فقال لي: انزل فصل، فنزلت فصليت، فقال: هذا طور سيناء حيث كلم الله موسى.ثم سرنا فقال: انزل فصل، فنزلت فصليت، فقال: هذا بيت لحم حيث ولد عيسى. ثم سرنا حتى أتينا بين المقدس، فلما انتهينا إلى باب المسجد أنزلني جبرائيل وربط البراق بالحلقة التي كان يربط بها الأنبياء. فلما دخلت المسجد إذا أنا بالأنبياء حوالي، وقيل: بأرواح الأنبياء الذين بعثهم الله قبلي، فسلموا علي، فقلت: يا جبرائيل من هؤلاء ؟ قال: إخوانك من الأنبياء، زعمت قريشٌ أن الله شريكاً، وزعمت النصارى أن لله ولداً، سل هؤلاء النبيين هل كان لله، عز وجل، شريك أو ولد، فذلك قوله تعالى: (وَاسْألْ مَنْ أرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ) الزخرف: 45؛ فأقروا بالوحدانية لله، عز وجل، ثم جمعهم جبرائيل وقدمني فصليت بهم ركعتين. ثم انطلق بي جبرائيل إلى الصخرة فصعد بي عليها، فإذا معراج إلى السماء لا ينظر الناظرون إلى شيء أحسن منه ومنه تعرج الملائكة، أصله في صخرة بيت المقدس ورأسه ملتصق بالسماء، فاحتملني جبرائيل ووضعني على جناحه وصعد بي إلى السماء الدنيا فاستفتح، فقيل: من هذا ؟ قال: جبرائيل. قيل: ومن معك ؟ قال: محمد. قيل: وقد بعث إليه ؟ قال نعم. قيل: مرحباً به ونعم المجيء جاء ! ففتح، فدخلنا فإذا أنا برجل تام الخلقة عن يمينه باب يخرج منه ريح طيبة وعن شماله باب يخرج منه ريح خبيثة، فإذا نظر إلى الباب الذي عن يمينه ضحك، وإذا نظر إلى الباب الذي عن يساره بكى. فقلت: من هذا ؟ وما هذان البابان؟ فقال: هذا أبوك آدم، والباب الذي عن يمينه باب الجنة، فإذا نظر إلى من يدخلها من ذريته ضحك، والباب الذي عن يساره باب جهنم، إذا نظر إلى من يدخلها من ذريته بكى وحزن. ثم صعد بي إلى السماء الثانية فاستفتح، فقيل: من هذا ؟ قال: جبرائيل. قيل: ومن معك ؟ قال: محمد. قيل: وقد بعث إليه ؟ قال: نعم. قيل: حياه الله، مرحباً به ونعم المجيء جاء ! ففتح لنا. فدخلنا فإذا بشابين، فقلت: يا جبرائيل من هذان ؟ فقال: هذان عيسى بن مريم ويحيى بن زكريا. ثم صعد بي إلى السماء الثالثة فاستفتح، قيل: من هذا ؟ قال: جبرائيل. قيل: ومن معك ؟ قال: محمد. قيل: وقد بعث إليه ؟ قال: نعم. قيل: مرحباً به ونعم المجيء جاء ! فدخلنا، فإذا أنا برجل قد فضل الناس بالحسن. قلت: من هذا يا جبرائيل ؟ قال: هذا أخوك يوسف. ثم صعد بي إلى السماء الرابعة فاستفتح، قيل: من هذا ؟ قال: جبرائيل. قيل: ومن معك ؟ قال: محمد. قيل: وقد بعث إليه ؟ قال: نعم. قيل: مرحباً به ونعم المجيء جاء ! فدخلنا، فإذا أنا برجل، فقلت: من هذا ؟ قال: إدريس رفعه الله مكاناً علياً. ثم صعد بي إلى السماء الخامسة، فاستفتح، فقيل: من هذا ؟ قال: جبرائيل. قيل: ومن معك ؟ قال: محمد. قيل: وقد بعث إليه ؟ قال: نعم. قيل: مرحباً به ونعم المجيء جاء ! فدخلنا، فإذا رجل جالس وحوله قوم يقص عليهم. قلت: من هذا ؟ قال: هذا هارون والذين حوله بنو إسرائيل. ثم صعد بي إلى السماء السادسة فاستفتح، فقيل: من هذا ؟ قال: جبرائيل. قيل: ومن معك ؟ قال: محمد. قيل: وقد بعث إليه ؟ قال: نعم. قيل: مرحباً به ونعم المجيء جاء ! فدخلنا، فإذا أنا برجل جالس فجاوزناه، فبكى الرجل، فقلت: يا جبرائيل من هذا ؟ قال: هذا موسى. قلت: فما باله يبكي ؟ قال: يزعم بنو إسرائيل أني أكرم على الله من آدم، وهذا الرجل من بني آدم قد خلفني وراءه.
قال: ثم صعد بي إلى السماء السابعة فاستفتح، فقيل: من هذا ؟ قال: جبرائيل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد. قيل: وقد بعث إليه ؟ قال: نعم. قيل: مرحباً به ونعم المجيء جاء ! فدخلنا، فإذا رجل أشمط جالس على كرسي على باب الجنة وحوله قوم بيض الوجوه أمثال القراطيس وقوم في ألوانهم شيء، فقال الذين في ألوانهم شيء فاغتسلوا في نهر وخرجوا وقد صارت وجوههم مثل وجوه أصحابهم. فقلت: من هذا ؟ قال: أبوك إبراهيم، وهؤلاء البيض الوجوه قوم لم يلبسوا إيمانهم بظلم، وأما الذين في ألوانهم شيء فقوم خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً فتابوا فتاب الله عليهم، وإذا إبراهيم مستند إلى بيت، فقال: هذا البيت المعمور يدخله كل يوم سبعون ألفاً من الملائكة لا يعودون إليه. قال: وأخذني جبرائيل فانتهينا إلى سدرة المنتهى وإذا نبقها مثل قلال هجر يخرج من أصلها أربعة أنهار: نهران باطنان، ونهران ظاهران، فأما الباطنان ففي الجنة، وأما الظاهران فالنيل والفرات، قال: وغشيها من نور الله ما غشيها، وغشيها الملائكة كأنهم جراد من ذهب من خشية الله، وتحولت حتى ما يستطيع أحد أن ينعتها، وقام جبرائيل في وسطها، فقال جبرائيل: تقدم يا محمد. فتقدمت وجبرائيل معي إلى حجاب، فأخذ بي ملكٌ وتخلف عني جبرائيل، فقلت: إلى أين ؟ فقال: (وَمَا مِنَّا إلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ) الصافات: 164، وهذا منتهى الخلائق. فلم أزل كذلك حتى وصلت إلى العرش فاتضع كل شيء عند العرش وكل لساني من هيبة الرحمن، ثم أنطق الله لساني فقلت: التحيات المباركات والصلوات الطيبات لله، وفرض الله علي وعلى أمتي في كل يوم وليلة خمسين صلاة. ورجعت إلى جبرائيل فأخذ بيدي وأدخلني الجنة فرأيت القصور من الدر والياقوت والزبرجد، ورأيت نهراً يخرج من أصله ماء أشد بياضاً من اللبن وأحلى من العسل، يجري على رضراض من الدر والياقوت والمسك، فقال: هذا الكوثر الذي أعطاك ربك، ثم عرض علي النار، فنظرت إلى أغلاها وسلاسلها وحياتها وعقاربها وما فيها من العذاب. ثم أخرجني، فانحدرنا حتى أتينا موسى، فقال: ماذا فرض عليك وعلى أمتك ؟ قلت: خمسين صلاة. قال: فإني قد بلوت بني إسرائيل قبلك وعالجتهم أشد المعالجة على أقل من هذا فلم يفعلوا، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف. فرجعت إلى ربي وسألته، فخفف عني عشراً. فرجعت إلى موسى فأخبرته، فقال: ارجع واسأله التخفيف. فرجعت فخفف عني عشراً، فلم أزل بين ربي وموسى حتى جعلها خمساً، فقال: ارجع فاسأله التخفيف، فقلت: إني قد استحيت من ربي وما أنا براجع، فنوديت: إني قد فرضت عليك وعلى أمتك خمسين صلاة والخمس بخمسين، وقد أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي. ثم انحدرت أنا وجبرائيل إلى مضجعي، وكان كل ذلك في ليلة واحدة. فلما رجع إلى مكة علم أن الناس لا يصدقونه، فقعد في المسجد مغموماً، فمر به أبو جهل، فقال له كالمستهزئ: هل استفدت الليلة شيئاً ؟ قال: نعم، أسري بي الليلة إلى بيت المقدس. قال: ثم أصبحت بين ظهرانينا ؟ فقال: نعم. فخاف أن يخبر بذلك عنه فيجحده النبي، فقال: أتخبر قومك بذلك ؟ فقال: نعم. فقال أبو جهل: يا معشر بني كعب بن لؤي هلموا فأقبلوا. فحدثهم النبي، صلى الله عليه وسلم، فمن بين مصدق ومكذب ومصفق وواضع يده على رأسه. وارتد الناس ممن كان آمن به وصدقه. وسعى رجال من المشركين إلى أبي بكر فقالوا: إن صاحبك يزعم كذا وكذا ؟! فقال: إن كان قال ذلك فقد صدق، إني لأصدقه بما هو أبعد من ذلك، أصدقه بخبر السماء في غدوة أو روحة، فسمي أبو بكر الصديق من يومئذ. قالوا: فانعت لنا المسجد الأقصى. قال: فذهبت أنعت حتى التبس على، قال: فجيء بالمسجد، وإني أنظر إليه، فجعلت أنعته. قالوا: فأخبرنا عن عيرنا. قال: قد مررت على عير بني فلان بالروحاء وقد أضلوا بعيراً لهم وهم في طلبه، فأخذت قدحاً فيه ماء فشربته، فسلوهم عن ذلك، ومررت بعير بني فلان وفلان وفلان فرأيت راكباً وقعوداً بذي مر فنفر بكرهما مني فسقط فلان فانكسرت يده، فسلوهما. قال: ومررت بعيركم بالتنعيم يقدمها جمل أورق عليه غرارتان مخيطتان تطلع عليكم من طلوع الشمس. فخرجوا إلى الثنية فجلسوا ينظرون طلوع الشمس ليكذبوه إذ قال قائل: هذه الشمس قد طلعت. فقال آخر: والله هذه العير قد طلعت يقدمها بعير أورق كما قال. فلم يفلحوا وقالوا: إن هذا سحر مبين.
ذكر الاختلاف في أول من أسلم اختلف العلماء في أول من أسلم مع الاتفاق على أن خديجة أول خلق الله إسلاماً، فقال قومٌ: أول ذكر آمن علي. روي عن علي عليه السلام، أنه قال: أنا عبد الله وأخو رسوله، وأنا الصديق الأكبر لا يقولها بعدي إلا كاذبٌ مفترٍ، صليت مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قبل الناس بسبع سنين. وقال ابن عباس: أول من صلى علي. وقال جابر بن عبد الله: بعث النبي، صلى الله عليه وسلم، يوم الاثنين وصلى علي يوم الثلاثاء. وقال زيد بن أرقم: أول من أسلم مع النبي، صلى الله عليه وسلم، علي. وقال عفيف الكندي: كنت أمرأً تاجراً فقدمت مكة أيام الحد فأتيت العباس، فبينا نحن عنده إذ خرج رجلٌ فقال تجاه الكعبة يصلي، ثم خرجت امرأة تصلي معه، ثم خرج غلام فقال يصلي معه. فقلت: يا عباس ما هذا الدين ؟ فقال: هذا محمد بن عبد الله ابن أخي، زعم أن الله أرسله وأن كنوز كسرى وقيصر ستفتح عليه، وهذه امرأته خديجة آمنت به، وهذا الغلام علي بن أبي طالب آمن به، وايم الله ما أعلم على ظهر الأرض أحداً على هذا الدين إلا هؤلاء الثلاثة ! قال عفيف: ليتني كنت رابعاً. وقال محمد بن المنذر وربيعة بن أبي عبد الرحمن وأبو حازم المدي والكلبي: أول من أسلم علي. قال الكلبي: كان عمره تسع سنين، وقيل: إحدى عشرة سنة. وقال ابن إسحاق: أول من أسلم علي وعمره إحدى عشرة سنة. وكان من نعمة الله عليه أن قريشاً أصابتهم أزمةٌ شديدة، وكان أبو طالب ذا عيال كثيرة، فقال يوماً رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لعمه العباس: يا عم إن أبا طالب كثير العيال فانطلق بنا نخفف عن عيال أبي طالب، فانطلقا إليه وأعلماه ما أرادا، فقال أبو طالب: اتركا لي عقيلاً واصنعا ما شئتما، فأخذ رسول الله، صلى الله عليه وسلم، علياً، وأخذ العباس جعفراً، فلم يزل علي عند النبي، صلى الله عليه وسلم، حتى أرسله الله فاتبعه. وكان النبي، صلى الله عليه وسلم، إذا أراد الصلاة انطلق هو وعلي إلى بعض الشعاب بمكة فيصليان ويعودان. فعثر عليهما أبو طالب فقال: يا ابن أخي ما هذا الدين ؟ قال: دين الله وملائكته ورسله، ودين أبينا إبراهيم، بعثني الله تعالى به إلى العباد، وأنت أحق من دعوته إلى الهدى وأحق من أجابني. قال: لا أستطيع أن أفارق ديني ودين آبائي، ولكن والله لا تخلص قريش إليه بشيء تكرهه ما حييت. فلم يزل جعفر عند العباس حتى أسلم واستغنى عنه. قال: وقال أبو طالب لعلي: ما هذا الدين الذي أنت عليه ؟ قال: يا أبه ! آمنت بالله وبرسوله وصليت معه. فقال: أما إنه لا يدعونا إلا إلى الخير فالزمه. وقيل: أول من أسلم أبو بكر، رضي الله عنه. قال الشعبي: سألت ابن عباس عن أول من اسلم، فقال: أما سمعت قول حسان بن ثابت: إذا تذكّرت شجواً من أخي ثقةٍ ... فاذكر أخاك أبا بكرٍ بما فعلا خير البريّة أتقاها وأعدلها ... بعد النّبيّ وأوفاها بما حملا الثّاني التّالي المحمود مشهده ... وأوّل النّاس منهم صدّق الرّسلا وقال عمرو بن عبسة: أتيت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بعكاظ فقلت: يا رسول الله من تبعك على هذا الأمر ؟ قال: تبعني عليه حر وعبد، أبو بكر وبلال. فأسلمت عند ذلك، فلقد رأيتني ربع الإسلام. وكان أبو ذر يقول: لقد رأيتني ربع الإسلام لم يسلم قبلي إلا النبي وأبو بكر وبلال. وقال إبراهيم النخعي: أبو بكر أول من أسلم. وقيل: أول من أسلم زيد بن حارثة. قال الزهري وسليمان بن يسار وعمران بن أبي أنس وعروة بن الزبير: أول من أسلم زيد بن حارثة وكان هو وعلي يلزمان النبي، صلى الله عليه وسلم، وكان، صلى الله عليه وسلم، يخرج إلى الكعبة أول النهار ويصلي صلاة الضحى، وكانت قريش لا تنكرها، وكان إذا صلى غيرها قعد علي وزيد بن حارثة يرصدانه.
وقال ابن إسحاق: أول ذكر أسلم بعد النبي علي وزيد بن حارثة، ثم أسلم أبو بكر وأظهر إسلامه، وكان مانعاً لقومه محبباً فيهم، وكان أعلمهم بأنساب قريش وما كان فيها، وكان تاجراً يجتمع إليه قومه، فجعل يدعو من يثق به من قومه، فأسلم على يديه عثمان بن عفان والزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وطلحة بن عبيد الله، فجاء بهم إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، حين استجابوا له فأسلموا وصلوا. وكان هؤلاء النفر هم الذين سبقوا إلى الإسلام، ثم تتابع الناس في الإسلام حتى فشا ذكر الإسلام بمكة وتحدث به الناس. قال الواقدي: وأسلم أبو ذر، قالوا رابعاً أو خامساً، وأسلم عمرو بن عبسة السلمي رابعاً أو خامساً، وقيل: إن الزبير أسلم رابعاً أو خامساً، وأسلم خالد بن سعيد بن العاص خامساً. وقال ابن إسحاق: أسلم هو وزوجته همينة بنت خلف بن أسعد بن عامر بن بياضة من خزاعة بعد جماعة كثيرة. ؟ ذكر أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بإظهار دعوته ثم إن الله تعالى أمر النبي، صلى الله عليه وسلم بعد مبعثه بثلاث سنين أن يصدع بما يؤمر، وكان قبل ذلك في السنين الثلاث مستتراً بدعوته لا يظهرها إلا لمن يثق به، فكان أصحابه إذا أرادوا الصلاة ذهبوا إلى الشعاب فاستخفوا، فبينما سعد بن أبي وقاص وعمار وابن مسعود وخباب وسعيد بن زيد يصلون في شعب اطلع عليهم نفر من المشركين، منهم: أبو سفيان بن حرب، والأخنس بن شريق، وغيرهما، فسبوهم وعابوهم حتى قاتلوهم، فضرب سعد رجلاً من المشركين بلحي جمل فشجه، فكان أول دم أريق في الإسلام في قول. قال ابن عباس: لما نزلت: (وَأنْذِرْ عَشِرَتَكَ الأقْرَبينَ) الشعراء: 214 خرج رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فصعد على الصفا فهتف: يا صباحاه ! فاجتمعوا إليه، فقال: يا بني فلان، يا بني فلان، يا بني عبد المطلب، يا بني عبد مناف ! فاجتمعوا إليه. فقال: أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلاً تخرج بسفح الجبل أكنتم مصدقي ؟ قالوا: نعم ما جربنا عليك كذباً. قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شدي. فقال أبو لهب: تباً لك ! أما جمعتنا إلا لهذا ؟ ثم قام، فنزلت: (تَبَّتْ يَدَا أبي لَهَبٍ) المسد: 1. وقال جعفر بن عبد الله بن أبي الحكم: لما أنزل الله على رسوله: (وأنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ)، اشتد ذلك عليه وضاق به ذرعاً، فجلس في بيته كالمريض، فأتته عماته يعدنه، فقال: ما اشتكيت شيئاً ولكن الله أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين. فقلن له: فادعهم ولا تدع أبا لهب فيهم فإنه غير مجيبك. فدعاهم، صلى الله عليه وسلم، فحضروا ومعهم نفر من بني المطلب بن عبد مناف، فكانوا خمسة وأربعين رجلاً، فبادره أبو لهب وقال: هؤلاء هم عمومتك وبنو عمك فتكلم ودع الصباة، واعلم أنه ليس لقومك في العرب قاطبةً طاقة، وأن أحق من أخذك فحبسك بنو أبيك؛ وإن أقمت على ما أنت عليه فهو أيسر عليهم من أن يثب بك بطون قريش وتمدهم العرب، فما رأيت أحداً جاء على بني أبيه بشر مما جئتهم به. فسكت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ولم يتكلم في ذلك المجلس، ثم دعاهم ثانيةً وقال: الحمد لله، أحمده وأستعينه وأؤمن به وأتوكل عليه وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ثم قال: إن الرائد لا يكذب أهله، والله الذي لا إله إلا هو إني رسول الله إليكم خاصة وإلى الناس عامة، والله لتموتن كما تنامون، ولتبعثن كما تستيقظون، ولتحاسبن بما تعملون، وإنها الجنة أبداً والنار أبداً. فقال أبو طالب: ما أحب إلينا معاونتك وأقبلنا لنصيحتك وأشد تصديقنا لحديثك، وهؤلاء بنو أبيك مجتمعون، وإنما أنا أحدهم، غير أني أسرعهم إلى ما تحب، فامض لما أمرت به فوالله لا أزال أحوطك وأمنعك، غير أن نفسي لا تطاوعني على فراق دين عبد المطلب. فقال أبو لهب: هذه والله السوأة ! خذوا على يديه قبل أن يأخذ غيركم. فقال أبو طالب: والله لنمنعنه ما بقينا.
وقال علي بن أبي طالب: لما نزلت: (وَأنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ) دعاني النبي، صلى الله عليه وسلم، فقال: يا علي إن الله أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين فضقت ذرعاً وعلمت أني متى أبادرهم بهذا الأمر أر منهم ما أكره، فصمت عليه حتى جاءني جبرائيل فقال: يا محمد إلا تفعل ما تؤمر به يعذبك ربك. فاصنع لنا صاعاً من طعام واجعل عليه رجل شاة واملأ لنا عساً من لبن واجمع لي بني عبد المطلب حتى أكلمهم وأبلغهم ما أمرت به. ففعلت ما أمرني به، ثم دعوتهم، وهم يومئذ أربعون رجلاً يزيدون رجلاً أو ينقصونه، فيهم أعمامه أبو طالب وحمزة والعباس وأبو لهب، فلما اجتمعوا فتنفها بأسنانه ثم ألقاها في نواحي الصحفة، ثم قال: خذوا باسم الله، فأكل القوم حتى ما لهم بشيء من حاجة، وما أرى إلا مواضع أيديهم، وايم الله الذي نفس علي بيده إن كان الرجل الواحد منهم ليأكل ما قدمت لجميعهم ! ثم قال: اسق القوم، فجئتهم بذلك العس فشربوا منه حتى رووا جميعاً، وايم الله إن كان الرجل الواحد ليشرب مثله! فلما أراد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أن يكلمهم بدره أبو لهب إلى الكلام فقال: لهد ما سحركم به صاحبكم. فتفرق القوم ولم يكلمهم، صلى الله عليه وسلم، فقال: الغد يا علي؛ إن هذا الرجل سبقني إلى ما سمعت من القول فتفرقوا قبل أن أكلمهم، فعد لنا من الطعام بمثل ما صنعت ثم اجمعهم إلي. ففعل مثل ما فعل بالأمس، فأكلوا، وسقيتهم ذلك العس، فشربوا حتى رووا جميعاً وشبعوا، ثم تكلم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقال: يا بني عبد المطلب إني والله ما أعلم شاباً في العرب جاء قومه بأفضل مما قد جئتكم به، قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة، وقد أمرني الله تعالى أن أدعوكم إليه، فأيكم يؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصي وخليفتي فيكم ؟ فأحجم القوم عنها جميعاً، وقلت وإني لأحدثهم سناً وأرمصهم عيناً وأعظمهم بطناً وأحمشهم ساقاً: أنا يا نبي الله أكون وزيرك عليه. فأخذ برقبتي ثم قال: إن هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم، فاسمعوا له وأطيعوا. قال: فقال القوم يضحكون فيقولون لأبي طالب: قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع. وأمر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أن يصدع بما جاءه من عند الله وأن يبادئ الناس بأمره ويدعوهم إلى الله، فكان يدعو في أول ما نزلت عليه النبوة ثلاث سنين مستخفياً إلى أن أمر بالظهور للدعاء، ثم صدع بأمر الله وبادأ قومه بالإسلام، فلم يبعدوا منه ولم يردوا عليه إلا بعض الرد، حتى ذكر آلهتهم وعابها. فلما فعل ذلك أجمعوا على خلافه إلا من عصمه الله منهم بالإسلام، وهم قليل مستخفون. وحدب عليه عمه أبو طالب ومنعه وقام دونه، ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم، على أمر الله مظهراً لأمره لا يرده شيء. فلما رأت قريش أنه، صلى الله عليه وسلم، لا يعتبهم من شيء يكرهونه، وأن أبا طالب قد قام دونه ولم يسلمه لهم، مشى رجالٌ من أشرافهم إلى أبي طالب: عتبة وشيبة ابنا ربيعة، وأبو البختري بن هشام، والأسود بن المطلب، والوليد بن المغيرة، وأبو جهل بن هشام، والعاص بن وائل، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج، ومن مشى منهم، فقالوا: يا أبا طالب، إن ابن أخيك قد سب آلهتنا وعاب ديننا وسفه أحلامنا وضلل آباءنا، فإما أن تكفه عنا وإما أن تخي بيننا وبينه، فإنك على مثل ما نحن عليه من خلافه، فقال لهم أبو طالب قولاً جميلاً وردهم رداً رفيقاً، فانصرفوا عنه، ومضى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لما هو عليه. ثم شري الأمر بينه وبينهم حتى تباعد الرجال فتضاغنوا وأكثرت قريش ذكر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وتذامروا فيه، فمشوا إلى أبي طالب مرة أخرى فقالوا: يا أبا طالب إن لك سناً وشرفاً، وإنا قد اشتهيناك أن تنهى ابن أخيك فلم تفعل، وإنا والله لا نصبر على هذا من شتم آلهتنا وآبائنا وتسفيه أحلامنا حتى تكفه عنا أو ننازله وإياك في ذلك حتى يهلك أحد الفريقين، أو كما قالوا، ثم انصرفوا عنه.
فعظم على أبي طالب فراق قومه وعداوتهم له ولم تطب نفسه بإسلام رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وخذلاته، وبعث إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فأعلمه ما قالت قريش وقال له: أبق على نفسك وعلي ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق. فظن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أنه قد بدا لعمه بدوٌ وأنه خذله وقد ضعف عن نصرته، فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: يا عماه لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته. ثم بكى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وقام. فلما ولى ناداه أبو طالب، فأقبل عليه وقال: اذهب يا ابن أخي فقل ما أحببت، فوالله لا أسلمك لشيء أبداً. فلما علمت قريش أن أبا طالب لا يخذل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأنه يجمع لعداوتهم مشوا بعمارة بن الوليد فقالوا: يا أبا طالب هذا عمارة بن الوليد فتى قريش وأشعرهم وأجملهم، فخذه فلك عقله ونصرته فاتخذه ولداً، وأسلم لنا ابن أخيك هذا الذي سفه أحلامنا وخالف دينك ودين آبائك وفرق جماعة قومك نقتله، فإنما رجل برجل. فقال: والله لبئس ما تسومونني، أتعطونني ابنكم أغذوه لكم وأعطيكم ابن تقتلونه ؟ هذا والله لا يكون أبداً ! فقال المطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف: والله لقد أنصفك قومك وما أراك تريد أن تقبل منهم ! فقال أبو طالب: والله ما أنصفوني ولكنك قد أجمعت خذلاني ومظاهرة القوم علي فاصنع ما بدا لك. اشتد الأمر عند ذلك وتنابذ القوم واشتدت قريشٌ على من في القبائل من الصحابة الذين أسلموا، فوثبت كل قبيلة على من فيها من المسلمين يعذبونهم ويفتنونهم عن دينهم، ومنع الله رسوله بعمه أبي طالب، وقام أبو طالب في بني هاشم فدعاهم | |
|
| |
الشيخ عودة الشيخ عودة
عدد المساهمات : 1748 تاريخ التسجيل : 28/09/2008 العمر : 74
| موضوع: رد: كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير الجمعة فبراير 07, 2014 8:57 am | |
| وأقام المسلمون بمكة يؤذون، فلما رأوا ذلك رجعوا مهاجرين إلى الحبشة ثانياً، فخرج جعفر بن أبي طالب وتتابع المسلمون إلى الحبشة، فكمل بها تمام اثنين وثمانين رجلاً، والنبي، صلى الله عليه وسلم، مقيمٌ بمكة يدعو إلى الله سراً وجهراً، فلما رأت قريشٌ أنه لا سبيل لها إليه رموه بالسحر والكهانة والجنون وأنه شاعر، وجعلوا يصدون عنه من خافوا أن يسمع قوله، وكان أشد ما بلغوا منه ما ذكره عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: حضرت قريشٌ يوماً بالحجر فذكروا النبي، صلى الله عليه وسلم، وما نال منهم وصبرهم عليه، فبينما كذلك إذ طلع النبي، صلى الله عليه وسلم، ومشى حتى استلزم الركن، ثم مر بهم طائفاً، فغمزوه ببعض القول، فعرفت ذلك في وجهه، ثم مضى فلما مر بهم الثانية غمزوه مثلها ثم الثالثة، فقال: أتسمعون يا معشر قريش ؟ والذي نفس محمد بيده لقد جئتكم بالذبح. قال: فكأنما على رؤوسهم الطير واقعٌ حتى إن أشدهم فيه ليرفؤه بأحسن ما يجد. وانصرف رسول الله، صلى الله عليه وسلم، حتى إذا كان الغد اجتمعوا في الحجر، فقال بعضهم لبعض: ذكرتم ما بلغ منكم حتى إذا أتاكم بما تكرهون تركتموه؛ فبينما هم كذلك إذ طلع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فوثبوا إليه وثبة رجل واحد يقولون له: أنت الذي تقول كذا وكذا ؟ فيقول: أنا الذي أقول ذلك، فأخذ عقبة ابن أبي معيط بردائه، وقام أبو بكر الصديق دونه يقول وهو يبكي: ويلكم ! (أتَقْتُلُونَ رَجُلاً أنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ؟) غافر: 28 ثم انصرفوا عنه. هذا أشد ما بلغت عنه. ذكر إرسال قريش إلى النجاشي في طلب المهاجرين لما رأت قريش أن المهاجرين قد اطمأنوا بالحبشة وأمنوا، وأن النجاشي قد أحسن صحبتهم، ائتمروا بينهم فبعثوا عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي أمية ومعهما هدية إليه وإلى أعيان أصحابه، فسارا حتى وصلا الحبشة، فحملا إلى النجاشي هديته وإلى أصحابه هداياهم وقالا لهم: إن ناساً من سفهائنا فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دين الملك وجاؤوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنتم، وقد أرسلنا أشراف قومهم إلى الملك ليردهم إليهم، فإذا كلمنا الملك فيهم فاشيروا عليه بأن يرسلهم معنا من غير أن يكلمهم، وخافا إن يسمع النجاشي كلام المسلمين أن لا يسلمهم. فوعدهما أصحاب النجاشي المساعدة على ما يريدان. ثم إنهما حضرا عند النجاشي فأعلماه ما قد قالاه، فأشار أصحابه بتسليم المسلمين إليهما. فغضب من ذلك وقال: لا والله لا أسلم قوماً جاوروني ونزلوا بلادي واختاروني على من سواي حتى أدعوهم وأسألهم عما يقول هذان، فإن كانا صادقين سلمتهم إليهما، وإن كانوا على غير ما يذكر هذان منعتهم وأحسنت جوارهم. ثم أرسل النجاشي إلى أصحاب النبي، صلى الله عليه وسلم، فدعاهم فحضروا، وقد أجمعوا على صدقه فيما ساءه وسره وكان المتكلم عنهم جعفر بن أبي طالب. فقال لهم النجاشي: ما هذا الدين الذين فارقتم فيه قومكم ولم تدخلوا في ديني ولا دين أحد من الملل ؟ فقال جعفر: أيها الملك كنا أهل جاهلية نعبد الأصنام ونأكل الميتة ونأتي الفواحش ونقطع الأرحام ونسيء الجوار ويأكل القوي منا الضعيف، حتى بعث الله إلينا رسولاً منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه فدعاه لتوحيد الله وأن لا نشرك به شيئاً ونخلع ما كنا نعبد من الأصنام، وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم وحسن الجوار والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش وقول الزور وأكل مال اليتيم، وأمرنا بالصلاة والصيام. وعدد عليه أمور الإسلام، قال: فآمنا به وصدقناه وحرمنا ما حرم علينا وحللنا ما أحل لنا، فتعدى علينا وقمنا فعذبونا وفتنونا عن ديننا ليردونا إلى عبادة الأوثان، فلما قهرونا وظلمونا وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلادك واخترناك على من سواك ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك. فقال النجاشي: هل معك مما جاء به عن الله شيء ؟ قال: نعم، فقرأ عليه سطراً من كهيعص، فبكى النجاشي وأساقفته، وقال النجاشي: إن هذا والذي جاء به عيسى يخرج من مشكاة واحدة، انطلقا، والله لا أسلمهم إليكما أبداً ! فلما خرجا من عنده قال عمرو بن العاص: والله لآتينه غداً يبيد خضراءهم. فقال له عبد الله بن أبي أمية، وكان أتقى الرجلين: لا تفعل فإن لهم أرحاماً.
فلما كان الغد قال للنجاشي: إن هؤلاء يقولون في عيسى بن مريم قولاً عظيماً. فأرسل النجاشي فسألهم عن قولهم في المسيح. فقال جعفر: نقول فيه الذي جاءنا به نبينا: هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول. فأخذ النجاشي عوداً من الأرض وقال: ما عدا عيسى ما قلت هذا العود. فنخرت بطارقته، فقال: وإن نخرتم. وقال للمسلمين: اذهبوا فأنتم آمنون، ما أحب أن لي جبلاً من ذهب وأنني آذيت رجلاً منكم. ورد هدية قريش وقال: ما أخذ الله الرشوة مني حتى آخذها منكم، ولا أطاع الناس في حتى أطيعهم فيه. وأقام المسلمون بخير دار. وظهر ملك من الحبشة فنازع النجاشي في ملكه، فعظم ذلك على المسلمين، وسار النجاشي إليه ليقاتله، وأرسل المسلمون الزبير بن العوام ليأتيهم بخبره، وهم يدعون له، فاقتتلوا، فظفر النجاشي، فما سر المسلمون بشيء سرورهم بظفره. قيل: إن معنى قوله إن الله لم يأخذ الرشوة مني، أن أبا النجاشي لم يكن له ولد غيره، وكان له عم قد أولد اثني عشر ولداً، فقالت الحبشة: لو قتلنا أبا النجاشي وملكنا أخاه فإنه لا ولد له غير هذا الغلام، وكان أخوه وأولاده يتوارثون الملك دهراً. فقتلوا أباه وملكوا عمه ومكثوا على ذلك حيناً، وبقي النجاشي عند عمه، وكان عاقلاً، فغلب على أمر عمه، فخافت الحبشة أن يقتلهم جزاء لقتل أبيه، فقالوا لعمه: إما أن تقتل النجاشي وإما أن تخرجه من بين أظهرنا فقد خفناه. فأجابهم إلى إخراجه من بلادهم على كرهٍ منه، فخرجوا إلى السوق فباعواه من تاجر بستمائة درهم. فسار به التاجر في سفينته. فلما جاء العشاء هاجت سحابة فأصابت عمه بصاعقة، ففزعت الحبشة إلى أولاده، فإذا هم لا خير فيهم، فهرج على الحبشة أمرهم، فقال بعضهم: والله لا يقيم أمركم إلا النجاشي، فإن كان لكم بالحبشة رأي فأدركوه. فخرجوا في طلبه حتى أدركوه وملكوه. وجاء التاجر وقال لهم: إما أن تعطوني مالي وإما أن أكلمه. فقالوا: كلمه. فقال: أيها الملك، ابتعت غلاماً بستمائة درهم ثم أخذوا الغلام والمال. فقال النجاشي: إما أن تعطوه دراهمه وإما أن يضع الغلام يده في يده فليذهبن به حيث شاء. فأعطوه دراهمه؛ فهذا معنى قوله. فكان ذلك أول ما علم من عدله ودينه. قال: ولما مات النجاشي كانوا لا يزالون يرون على قبره نوراً. ذكر إسلام حمزة بن عبد المطلبثم إن أبا جهل مر برسول الله، صلى الله عليه وسلم، وهو جالس عند الصفا، فآذاه وشتمه ونال منه وعاب دينه، ومولاة لعبد الله بن جدعان في مسكن لها تسمع ذلك، ثم انصرف عنه فجلس في نادي قريش عند الكعبة، فلم يلبث حمزة بن عبد المطلب أن أقبل من قنصه متوشحاً قوسه، وكان إذا رجع لم يصل إلى أهله حتى يطوف بالكعبة، وكان يقف على أندية قريش ويسلم عليهم ويتحدث معهم، وكان أعز قريش وأشدهم شكيمة. فلما مر بالمولاة، وقد قام رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ورجع إلى بيته، قالت له: يا أبا عمارة لو رأيت ما لقي ابن أخيك محمد من أبي الحكم بن هشام فإنه سبه وآذاه ثم انصرف عنه ولم يكلمه محمد. قال: فاحتمل حمزة الغضب لما أراد الله به من كرامته، فخرج سريعاً لا يقف على أحد كما كان يصنع يريد الطواف بالكعبة معداً لأبي جهل إذا لقيه أن يقع به، حتى دخل المسجد، فرآه جالساً في القوم، فأقبل نحوه وضرب رأسه بالقوس فشجه شجة منكرة، وقال: أتشتمه وأنا على دينه أقول ما يقول ؟ فاردد علي إن استطعت. وقامت رجال بني مخزوم إلى حمزة لينصروا أبا جهل، فقال أبو جهل، دعوا أبا عمارة فإني سببت ابن أخيه سباً قبيحاً. وتم حمزة على إسلامه. فلما أسلم حمزة عرفت قريش أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قد عز، وأن حمزة سيمنعه، فكفوا عن بعض ما كانوا ينالون منه. واجتمع يوماً أصحابه فقالوا: ما سمعت قريش القرآن يجهر لها به، فمن رجل يسمعهموه ؟ فقال ابن مسعود: أنا. فقالوا: نخشى عليك إنما نريد من له عشيرة يمنعونه. قال: إن الله سيمنعني. فغدا عليهم في الضحى حتى أتى المقام وقريش في أنديتها ثم رفع صوته وقرأ سورة الرحمن، فلما علمت قريش أنه يقرأ القرآن قاموا إليه يضربونه وهو يقرأ، ثم انصرف إلى أصحابه وقد أثروا بوجهه، فقالوا: هذا الذي خشينا عليك. فقال: ما كان أعداء الله أهون علي منهم اليوم، ولئن شئتم لأغادينهم. قالوا: حسبك قد أسمعتهم ما يكرهون.
ذكر إسلام عمر بن الخطاب ثم أسلم عمر بعد تسعة وثلاثين رجلاً وثلاث وعشرين امرأة، وقيل: أسلم بعد أربعين رجلاً وإحدى عشرة امرأة، وقيل: أسلم بعد خمسة وأربعين رجلاً وإحدى وعشرين امرأة، وكان رجلاً جلداً منيعاً، وأسلم بعد هجرة المسلمين إلى الحبشة. وكان أصحاب النبي، صلى الله عليه وسلم، لا يقدرون يصلون عند الكعبة حتى أسلم عمر، فلما أسلم قاتل قريشاً حتى صلى عندها وصلى معه أصحاب النبي، صلى الله عليه وسلم. وكان قد أسلم قبله حمزة بن عبد المطلب، فقوي المسلمون بهما، وعلموا أنهما سيمنعان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، والمسلمين. قالت أم عبد الله بنت أبي حثمة، وكانت زوج عامر بن ربيعة، إنا لنرحل إلى أرض الحبشة، وقد ذهب عامر لبعض حاجته، إذ أقبل عمر وهو على شركه حتى وقف علي، وكنا نلقى منه البلاء أذىً وشدة، فقال: أتنطلقون يا أم عبد الله ؟ قالت: قلت: نعم والله لنخرجن في أرض الله، فقد آذيتمونا وقهرتمونا، حتى يجعل الله لنا فرجاً. قالت: فقال: صحبكم الله، ورأيت له رقة وحزناً. قالت: فلما عاد عامر أخبرته وقلت له: لو رأيت عمر ورقته وحزنه علينا ! قال: أطمعت في إسلامه ؟ قلت: نعم. قال: لا يسلم حتى يسلم حمار الخطاب، لما كان يرى من غلظته وشدته على المسلمين، فهداه الله تعالى فأسلم فصار على الكفار أشد منه على المسلمين. وكان سبب إسلامه أن أخته فاطمة بنت الخطاب كانت تحت سعيد بن زيد بن عمرو العدوي، وكانا مسلمين يخفيان إسلامهما من عمر، وكان نعيم بن عبد الله النحام قد أسلم أيضاً وهو يخفي إسلامه فرقاً من قومه، وكان خباب بن الأرت يختلف إلى فاطمة يقرئها القرآن، فخرج عمر يوماً ومعه سيفه يريد النبي، صلى الله عليه وسلم، والمسلمين، وهم مجتمعون في دار الأرقم عند الصفا، وعنده من لم يهاجر من المسلمين في نحو أربعين رجلاً، فلقيه نعيم بن عبد الله فقال: أين تريد يا عمر ؟ فقال: أريد محمداً الذي فرق أمر قريش وعاب دينها فأقتله. فقال نعيم: والله لقد غرتك نفسك، أترى بني عبد مناف تاركيك تمشي على الأرض وقد قتلت محمداً؟ أفلا ترجع إلى أهلك فتقيم أمرهم ؟ قال: وأي أهلي ؟ قال: ختنك وابن عمك سعيد بن زيد وأختك فاطمة، فقد والله أسلما. فرجع عمر إليهما وعندهما خباب بن الأرت يقرئهما القرآن. فلما سمعوا حس عمر تغيب خباب وأخذت فاطمة الصحيفة فألقتها تحت فخذيها، وقد سمع عمر قراءة خباب. فلما دخل قال: ما هذه الهينمة ؟ قالا: ما سمعت شيئاً ؟ قال: بلى، قد أخبرت أنكما تابعتما محمداً، وبطش بختنه سعيد بن زيد، فقامت إليه أخته لتكفه، فضربها فشجها، فلما فعل ذلك قالت له أخته: قد أسلمنا وآمنا بالله ورسوله، فاصنع ما شئت. ولما رأى عمر ما بأخته من الدم ندم وقال لها: أعطيني هذه الصحيفة التي سمعتكم تقرأون فيها الآن حتى أنظر إلى ما جاء به محمد. قالت: إنا نخشاك عليها، فحلف أنه يعيدها. قالت له، وقد طمعت في إسلامه: إنك نجسٌ على شركك ولا يمسها إلا المطهرون، فقام فاغتسل. فأعطته الصحيفة وقرأها، وفيها: طه، وكان كاتباً، فلما قرأ بعضها قال: ما أحسن هذا الكلام وأكرمه ؟! فلما سمع خباب خرج إليه وقال: يا عمر إني والله لأرجو أن يكون الله قد خصك بدعوة نبيه، فإني سمعته أمس وهو يقول: (اللهمّ أيّد الإسلام بعمر بن الخطاب أو بأبي الحكم بن هشام) الله يا عمر ! فقال عمر عند ذلك: فدلني يا خباب على محمد حتى آتيه فأسلم. فدله خباب، فأخذ سيفه وجاء إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، وأصحابه فضرب عليهم الباب، فقام رجل منهم فنظر من خلل الباب، فرآه متوشحاً سيفه، فأخبر النبي، صلى الله عليه وسلم، بذلك فقال حمزة: إئذن له، فإن كان جاء يريد خيراً بذلناه له، وإن أراد شراً قتلناه بسيفه.
فأذن له، فنهض إليه النبي، صلى الله عليه وسلم، حتى لقيه فأخذ بمجامع ردائه ثم جذبه جذبة شديدة وقال: ما جاء بك ؟ ما أراك تنتهي حتى ينزل الله عليك قارعةً. فقال عمر: يا رسول الله جئت لأؤمن بالله وبرسوله، فكبر، صلى الله عليه وسلم، تكبيرة عرف من في البيت أن عمر أسلم. فلما أسلم قال: أي قريش أنقل للحديث ؟ قيل: جميل بن معمر الجمحي، فجاءه فأخبره بإسلامه، فمشى إلى المسجد وعمر وراءه وصرخ: يا معشر قريش ألا إن ابن الخطاب قد صبأ. فيقول عمر من خلفه: كذب ولكني أسلمت، فقاموا، فلم يزل يقاتلهم ويقاتلونه حتى قامت الشمس وأعيا، فقعد وهم على رأسه، فقال: افعلوا ما بدا لكم، فلو كنا ثلاثمائة نفر تركناها لكم أو تركتموها لنا، يعني مكة. فبينما هم كذلك إذ أقبل شيخ عيه حلة فقال: ما شأنكم ؟ قالوا: صبأ عمر. قال: فمه، رجل اختار لنفسه أمراً فماذا تريدون ؟ أترون بني عدي يسلمون لكم صاحبهم هكذا ؟ خلوا عن الرجل. وكان الرجل العاص بن وائل السهمي. قال عمر: لما أسلمت أتيت باب أبي جهل بن هشام فضربت عليه بابه، فخرج إلي وقال: مرحباً بابن أخي ! ما جاء بك ؟ قلت: جئت لخبرك أني قد أسلمت وآمنت بمحمد، صلى الله عليه وسلم، وصدقت ما جاء به. قال: فضرب الباب في وجهي وقال: قبحك الله وقبح ما جئت به ! وقيل في إسلامه غير هذا. ذكر أمر الصحيفةولما رأت قريش الإسلام يفشو ويزيد، وأن المسلمين قووا بإسلام حمزة وعمر، وعاد إليهم عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي أمية من النجاشي بما يكرهون من منع المسلمين عنهم، وأمنهم عنده، ائتمروا في أن يكتبوا بينهم كتاباً يتعاقدون فيه على أن لا ينكحوا بني هاشم وبني المطلب ولا ينكحوا إليهم ولا يبيعوهم ولا يبتاعوا منهم شيئاً. فكتبوا بذلك صحيفةً وتعاهدوا على ذلك، ثم علقوا الصحيفة في جوف الكعبة توكيداً لذلك الأمر على أنفسهم، فلما فعلت قريش ذلك انحازت بنو هاشم وبنو المطلب إلى أبي طالب فدخلوا معه في شعبه واجتمعوا. وخرج من بني هاشم أبو لهب بن عبد المطلب إلى قريش، فلقي هنداً بنت عتبة فقال: كيف رأيت نصري اللات والعزى ؟ قالت: لقد أحسنت. فأقاموا على ذلك سنتين أو ثلاثاً حتى جهدوا لا يصل إلى أحد منهم شيء إلا سراً. وذكروا أن أبا جهل لقي حكيم بن حزام بن خويلد ومعه قمحٌ يريد به عمته خديجة، وهي عند رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في الشعب، فتعلق به وقال: والله لا تبرح حتى أفضحك. فجاء أبو البختري بن هشام فقال: ما لك وله ؟ عنده طعام لعمته أفتمنعه أن يحمله إليها ؟ خل سبيله. فأبى أبو جهل، فنال منه. فضربه أبو البختري بلحى جملٍ فشجه ووطئه وطأً شديداً، وحمزة ينظر إليهم، وهم يكرهون أن يبلغ النبي، صلى الله عليه وسلم، ذلك فيشمت بهم هو والمسلمون. ورسول الله، صلى الله عليه وسلم، يدعو الناس سراً وجهراً، والوحي متتابع إليه، فبقوا كذلك ثلاث سنين.
وقام في نقض الصحيفة نفر من قريش، وكان أحسنهم بلاء فيه هشام بن عمرو بن لحارث بن عمرو بن لؤي، وهو ابن أخي نضلة بن هشام بن عبد مناف لأمه، وكان يأتي بالبعير قد أوقره طعاماً ليلاً ويستقبل به الشعب ويخلع خطامه فيدخل الشعب. فلما رأى ما هم فيه وطول المدة عليهم مشى إلى زهير بن أبي أمية بن المغيرة المخزومي، أخي أم سلمة، وكان شديد الغيرة على النبي، صلى الله عليه وسلم، والمسلمين، وكانت أمه عاتكة بنت عبد المطلب، فقال: يا زهير أرضيت أن تأكل الطعام وتلبس الثياب وتنكح النساء وأخوالك حيث علمت ؟ أما إني أحلف بالله لو كانوا أخوال أبي الحكم، يعني أبا جهل، ثم دعوته إلى مثل ما دعاك إيه ما أجابك أبداً. فقال: فماذا أصنع ؟ وإنما أنا رجل واحد، والله لو كان معي رجل آخر لنقضتها. فقال: قد وجدت رجلاً. قال: ومن هو ؟ قال: أنا. قال زهير: ابغنا ثالثاً، فذهب إلى المطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف فقال له: أرضيت أن يهلك بطنان من بني عدي ابن عبد مناف وأنت شاهد ذلك موافق فيه ؟ أما والله لئن أمكنتموهم من هذه لتجدنهم إليها منكم سراعاً. قال: ما أصنع ؟ إنما أنا رجل واحد. قال: قد وجدت ثانياً. قال: من هو ؟ قال: أنا. قال: ابغنا ثالثاً. قال: قد فعلت. قال: من هو ؟ قال: زهير بن أبي أمية. قال: ابغنا رابعاً. فذهب إلى أبي البختري بن هشام وقال له نحواً مما قال للمطعم، قال: وهل من أحد يعين على هذا ؟ قال: نعم. قال: من هو ؟ قال: أنا وزهير والمطعم. قال: ابغنا خامساً. فذهب إلى زمعة بن الأسود المطلب بن أسد، فكلمه وذكر له قرابتهم، قال: وهل على هذا الأمر معين ؟ قال: نعم، وسمى له القوم، فاتعدوا خطم الحجون الذي بأعلى مكة، فاجتمعوا هنالك وتعاهدوا على القيام في نقض الصحيفة. فقال زهير: أنا أبدأكم. فلما أصبحوا غدوا إلى أنديتهم، وغدا زهير فطاف بالبيت ثم أقبل على الناس فقال: يا أهل مكة أنأكل الطعام ونلبس الثياب وبنو هاشم هلكى لا يبتاعون ولا يبتاع منهم ؟ والله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة. قال أبو جهل: كذبت والله لا تشق. قال زمعة بن الأسود: أنت والله أكذب، ما رضينا بها حين كتبت. قال أبو البختري: صدق زمعة، لا نرضى ما كتب فيها. قال المطعم بن عدي: صدقتما وكذب من قال غي ذلك. وقال هشام بن عمرو نحواً من ذلك. قال أبو جهل: هذا أمر قضي بليلٍ وأبو طالب في ناحية المسجد. فقام المطعم إلى الصحيفة ليشقها فوجد الأرضة قد أكلتها إلا ما كان: باسمك اللهم، كانت تفتتح بها كتبها، وكان كاتب الصحيفة منصور بن عكرمة، فشلت يده. وقيل: كان سبب خروجهم من الشعب أن الصحيفة لما كتبت وعلقت بالكعبة اعتزل الناس بني هاشم وبني المطلب، وأقام رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأبو طالب ومن معهما بالشعب ثلاث سنين، فأرسل الله الأرضة وأكلت ما فيها من ظلم وقطيعة رحم وتركت ما فيها من أسماء الله تعالى، فجاء جبرائيل إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، فأعلمه بذلك، فقال النبي، صلى الله عليه وسلم، لعمه أبي طالب، وكان أبو طالب لا يشك في قوله، فخرج من الشعب إلى الحرم، فاجتمع الملأ من قريش، وقال: إن ابن أخي أخبرني أن الله أرسل على صحيفتكم الأرضة فأكلت ما فيها من قطيعة رحمٍ وظلمٍ وتركت اسم الله تعالى، فأحضروها، فإن كان صادقاً علمتم أنكم ظالمون لنا قاطعون لأرحامنا، وإن كان كاذباً علمنا أنكم على حق وأنا على باطل. فقاموا سراعاً وأحضروها، فوجدوا الأمر كما قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وقويت نفس أبي طالب واشتد صوته وقال: قد تبين لكم أنكم أولى بالظلم والقطيعة. فنكسوا رؤوسهم ثم قالوا: إنما تأتوننا بالسحر والبهتان، وقام أولئك النفر في نقضها كما ذكرنا؛ وقال أبو طالب في أمر الصحيفة وأكل الأرضة ما فيها من ظلم وقطيعة رحم أبياتاً منها: وقد كان في أمر الصحيفة عبرةٌ ... متى ما يخبّر غائب القوم يعجب محا الله منهم كفرهم وعقوقهم ... وما نقموا من ناطق الحقّ معرب فأصبح ما قالوا من الأمر باطلاً ... ومن يختلق ما ليس بالحقّ يكذب ؟؟ ذكر وفاة أبي طالب وخديجة وعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه على العرب
توفي أبو طالب وخديجة قبل الهجرة بثلاث سنين وبعد خروجهم من الشعب، فتوفي أبو طالب في شوال أو في ذي القعدة وعمره بضع وثمانون سنة، وكانت خديجة ماتت قبله بخمسة وثلاثين يوماً، وقيل: كان بينهما خمسة وخمسون يوماً، وقيل: ثلاثة أيام، فعظمت المصيبة على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بهلاكهما، فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (ما نالت قريش مني شيئاً أكرهه حتى مات أبو طالب)، وذلك أن قريشاً وصلوا من أذاه بعد موت أبي طالب إلى ما لم يكونوا يصلون إليه في حياته حتى ينثر بعضهم التراب على رأسه، وحتى إن بعضهم يطرح عليه رحم الشاة وهو يصي، وكان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يخرج ذلك على العود ويقول: أي جوار هذا يا بني عبد مناف ! ثم يلقيه بالطريق. فلما اشتد عليه الأمر بعد موت أبي طالب خرج ومعه زيد بن حارثة إلى ثقيف يلتمس منهم النصر. فلما انتهى إليهم عمد إلى ثلاثة نفر منهم، وهم يومئذٍ ساده ثقيف، وهم إخوةٌ ثلاثة: عبد ياليل ومسعود وحبيب بنو عمر وبن عمير، فدعاهم إلى الله وكلمهم في نصرته على الإسلام والقيام معه على من خالفه، فقال أحدهم: ماردٌ يمرط ثياب الكعبة إن كان الله أرسلك. وقال آخر: أما وجد الله من يرسله غيرك ! وقال ثالث: والله لا أكلمك كلمة أبداً، لئن كنت رسولاً من الله كما تقول لأنت أعظم خطراً من أن أرد عليك، ولئن كنت تكذب على الله فما ينبغي لي أن أكلمك. فقام رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وقد يئس من خير ثقيف، وقال لهم: إذا أبيتم فاكتموا علي ذلك، وكره أن يبلغ قومه، فلم يفعلوا وأغروا به سفهاءهم. فاجتمعوا إليه وألجؤوه إلى حائط لعتبة وشيبة ابني ربيعة، وهو البستان، وهما فيه، ورجع السفهاء عنه، وجلس إلى ظل حبلة وقال: اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس، اللهم يا أرحم الراحمين أنت رب المستضعفين وأنت ربي، إلى من تكلني ؟ إلى بعيد يتجهمني أو إلى عدو ملكته أمري، إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي ! ولكن عافيتك هي أوسع، إني أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت به الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك أو تحل بي سخطك. فلما رأى ابنا ربيعة ما لحقه تحركت له رحمهما فدعوا غلاماً لهما نصرانياً اسمه عداس فقالا له: خذ قطفاً من هذا العنب واذهب به إلى ذلك الرجل، ففعل. فلما وضعه بين يدي رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وضع يده فيه وقال: بسم الله، ثم أكل، فقال عداس: والله إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلدة. فقال له النبي، صلى الله عليه وسلم: من أي بلاد أ،ت وما دينك ؟ قال: أنا نصراني من أهل نينوى. فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: أمن قرية الرجل الصالح يونس بن متى ؟ قال له: وما يدريك ما يونس ؟ قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: ذلك أخي كان نبياً وأنا نبي، فأكب عداس على يدي رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ورجليه يقبلها فعاد. فيقول ابنا ربيعة أحدهما للآخر: أما غلامك فقد أفسده عليك. فلما جاء عداس قالا له: ويحك ما لك تقبل يديه ورجليه ؟ قال: ما في الأرض خيرٌ من هذا الرجل. قالا: ويحك إن دينك خير من دينه ! ثم انصرف رسول الله، صلى الله عليه وسلم، راجعاً إلى مكة حتى إذا كان في جوف الليل قام قائماً يصلي، فمر به نفرٌ من الجن، وهم سبعة نفر من جن نصيبين، رائحين إلى اليمن فاستمعوا له، فلما فرغ من صلواته ولوا إلى قومهم منذرين قد آمنوا وأجابوا.
وذكر بعضهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما عاد من ثقيف أرسل إلى المطعم بن عدي ليجيره حتى يبلغ رسالة ربه، فأجاره، وأصبح المطعم قد لبس سلاحه هو وبنوه وبنو أخيه فدخلوا المسجد، فقال له أبو جهل: أمجير أم متابع ؟ قال: بل مجير. قال: قد أجرنا من أجرت. فدخل النبي، صلى الله عليه وسلم، مكة وأقام بها فدخل يوماً المسجد الحرام والمشركون عند الكعبة. فلما رآه أبو جهل قال: هذا نبيكم يا بني عبد مناف. فقال عتبة بن ربيعة: وما ينكر أن يكون منا نبي وملك ؟ فأخبر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بذلك، فأتاهم فقال: أما أنت يا عتبة فما حميت لله وإنما حميت لنفسك، وأما أنت يا أبا جهل فوالله لا يأتي عليك غير بعيد حتى تضحك قليلاً وتبكي كثيراً، وأما أنتم يا معشر قريش فوالله لا يأتي عليكم غير كثير حتى تدخلوا فيما تكرون وأنتم كارهون، فكان الأمر كذلك. وكان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يعرض نفسه في المواسم على قبائل العرب، فأتى كندة في منازلهم وفيهم سيد لهم يقال له مليح، فدعاهم إلى الله وعرض نفسه عليهم، فأبوا عليه. فأتى كلباً إلى بطن منهم يقال لهم: بنو عبد الله فدعاهم إلى الله وعرض نفسه عليهم، فلم يقبلوا ما عرض عليهم. ثم إنه أتى بني حنيفة وعرض عليهم نفسه، فقال له رجل منهم: أرأيت إن نحن تابعناك فأظهرك الله على من خالفك أيكون لنا الأمر من بعدك ؟ قال: الأمر إلى الله يضعه حيث يشاء. قال له: أفنهدف نحورنا للعرب دونك فإذا ظهرت كان الأمر لغيرنا ؟ لا حاجة لنا بأمرك. فلما رجعت بنو عامر إلى شيخ لهم كبير فأخبروه خبر النبي، صلى الله عليه وسلم، ونسبه، وضع يده على رأسه ثم قال: يا بني عامر هل من تلاف ؟ والذي نفسي بيده ما تقولها إسماعيلي قط وإنها لحق، وأين كان رأيكم عنه ! ولم يزل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يعرض نفسه على كل قادم له اسم وشرف ويدعوه إلى الله. وكان كلما أتى قبيلة يدعوهم إلى الإسلام تبعه عمه أبو لهب، فإذا فرغ رسول الله، صلى الله عليه وسلم، من كلامه يقول لهم أبو لهب: يا بني فلان، إنما يدعوكم هذا إلى أن تستحلوا اللات والعزى من أعناقكم وحلفاءكم من الجن إلى ما جاء به من الضلالة والبدعة فلا تطيعوه ولا تسمعوا له. ذكر أول عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه على الأنصار وإسلامهم فقدم سويد بن الصامت أخو بني عمرو بن عوف بطن من الأوس مكة حاجاً ومعتمراً، وكان يسمى الكامل لجلده وشعره ونسبه، وهو القائل: ألا ربّ من تدعو صديقاً ولو ترى ... مقالته بالغيب ساءك ما يفري مقالته كالسحر إذ كان شاهداً ... وبالغيب مأثورٌ على ثغرة النّحر يسرّك باديه وتحت أديمه ... نميمة غشّ تبتري عقب الطّهر تبين لك العينان ما هو كاتمٌ ... وما جنّ بالبغضاء والنّظر الشّزر فرشني بخيرٍ طالما قد بريتني ... فخير الموالي من يريش ولا يبري فتصدى له رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فدعاه إلى الإسلام، وقرأ عليه القرآن، فلم يبعد منه وقال: إن هذا القول حسن، ثم انصرف وقدم المدينة، فلم يلبث أن قتله الخزرج، قتل يوم بعاث، فكان قومه يقولون: قتل وهو مسلم. بعاث بالباء الموحدة المضمومة، والعين المهملة، وهو الصحيح. وقدم أبو الحيسر أنس بن رافع مكة مع فتية من بني عبد الأشهل فيهم إياس بن معاذ يلتمسون الحلف من قريش على قومهم من الخزرج، فأتاهم النبي، صلى الله عليه وسلم، وقال لهم: هل لكم فيما هو خير لكم مما جئتم له ؟ ودعاهم إلى الاسم، وقرأ عليهم القرآن، فقال إياس، وكان غلاماً حدثاً: هذا والله خير مما جئنا له. فضرب وجهه أبو الحيسر بحفنة من البطحاء وقال: دعنا منك فلقد جئنا لغير هذا. فسكت إياس، وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يلبث إياس أن هلك، فسمعه قومه يهلل الله ويكبره حتى مات، فما يشكون أنه مات مسلماً. ذكر بيعة العقبة الأولى وإسلام سعد بن معاذ
فلما أراد الله إظهار دينه وإنجاز وعده خرج رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في الموسم الذي لقي فيه النفر من الأنصار، فعرض نفسه على القبائل كما كان يفعله، فبينما هو عند العقبة لقي رهطاً من الخزرج فدعاهم إلى الله وعرض عليهم الإسلام، وقد كانت يهود معهم ببلادهم، وكان هؤلاء أهل أوثان، فكانوا إذا كان بينهم شر تقول اليهود: إن نبياً يبعث الآن نتبعه ونقتلكم معه قتل عاد وثمود. فقال أولئك النفر بعضهم لبعض: هذا والله النبي الذي توعدكم به اليهود، فأجابوه وصدقوه وقالوا له: إن بين قومنا شراً، وعسى الله أن يجمعهم بك، فإن اجتمعوا عليك فلا رجل أعز منك. ثم انصرفوا عنه، وكانوا سبعة نفر من الخزرج: أسعد بن زرارة بن عدس أبو أمامة، وعوف بن الحارث بن رفاعة، وهو ابن عفراء، كلاهما من بني النجار، ورافع بن مالك بن عجلان، وعامر بن عبد حارثة بن ثعلبة بن غنم، كلاهما من بني زريق، وقطبة بن عامر بن حديدة بن سواد من بني سلمة - سلمة هذا بكسر اللام - ، وعقبة بن عامر بن نابئ من بني غنم، وجابر بن عبد الله بن رياب من بني عبيدة. رياب بكسر الراء والياء المعجمة باثنتين من تحت وبالباء الموحدة. فلما قدموا المدينة ذكروا لهم النبي، صلى الله عليه وسلم، ودعوهم إلى الإسلام حتى فشا فيهم، حتى إذا كان العام المقبل وافى الموسم من الأنصار اثنا عشر رجلاً، فلقوه بالعقبة، وهي العقبة الأولى، فبايعوه بيعة النساء، وهم: أسعد بن زرارة، وعوف ومعاذ ابنا الحارث، وهما ابنا عفراء، ورافع بن مالك بن عجلان، وذكوان بن عبد قيس من بني زريق، وعبادة بن الصامت من بني عوف بن الخزرج، ويزيد بن ثعلبة بن خزمة أبو عبد الرحمن من بلي حليف لهم، وعباس بن نضلة من بني سالم، وعقبة بن عامر بن نابئ، وقطبة بن عامر بن حديدة، وهؤلاء من الخزرج، وشهدها من الأوس أبو الهيثم بن التيهان، حليف لبني عبد الأشهل، وعويم بن ساعدة حليف لهم. فانصرفوا عنه، وبعث، صلى الله عليه وسلم، معهم مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار وأمره أن يقرئهم القرآن ويعلمهم الإسلام، فنزل بالمدينة على أسعد بن زرارة، فخرج به أسعد بن زرارة فجلس في دار بني ظفر، واجتمع عليهما رجالٌ ممن أسلم. فسمع به سعد بن معاذ وأسيد بن حضير وهما سيدا بني عبد الأشهل، وكلاهما مشرك، فقال سعد لأسيد: انطلق إلى هذين اللذين أتيا دارنا فانههما، فإنه لولا أسعد بن زرارة، وهو ابن خالتي، كفيتك ذلك. فأخذ أسيد حربته ثم أقبل عليهما، فقال: ما جاء بكما تسفهان ضعفاءنا ؟ اعتزلا عنا. فقال مصعب: أو تجلس فتسمع فإن رضيت أمراً قبلته وإن كرهته كف عنك ما تكره ! فقال: أنصفت ثم جلس إليهما، فكلمة مصعب بالإسلام، فقال: ما أحسن هذا وأجله ! كيف تصنعون إذا دخلتم في هذا الدين ؟ قالا: تغتسل وتطهر ثيابك ثم تشهد شهادة الحق ثم تصلي ركعتين، ففعل ذلك وأسلم. ثم قال لهما: إن ورائي رجلاً إن تبعكما لم يتخلف عنكما أحد من قومه، وسأرسله إليكما، سعد بن معاذ. ثم انصرف إلى سعد وقومه، فلما نظر إليه سعد قال: أحلف بالله لقد جاءكم بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم ! فقال له سعد: ما فعلت قال: كلمت الرجلين، والله ما رأيت بهما بأساً، وقد حدثت أن بني حارثة قد خرجوا إلى أسعد بن زرارة ليقتلوه. فقام سعد مغضباً مبادراً لخوفه مما ذكر له، ثم خرج إليهما، فلما رآهما مطمئنين عرف ما أرد أسيد، فوقف عليهما وقال لأسعد بن زرارة: لولا ما بيني وبينك من القرابة ما رمت هذا مني. فقال له مصعب: أو تقعد فتسمع فإن رضيت أمراً قبلته وإن كرهته عزلنا عنك ما تكره ! فجلس فعرض عليه مصعب الإسلام وقرأ عليه القرآن فقال لهما: كيف تصنعون إذا دخلتم في هذا الدين ؟ فقالا له ما قالا لأسيد، فأسلم وتطهر ثم عاد إلى نادي قومه ومعه أسيد بن حضير، فلما وقف عليهم قال: يا بني عبد الأشهل كيف تعلمون أمري فيكم ؟ قالوا: سيدنا وأفضلنا. قال: فإن كلام رجالكم ونسائكم علي حرامٌ حتى تؤمنوا بالله ورسوله. قال: فوالله ما أمسى في دار عبد الأشهل رجل ولا امرأة إلا مسلماً أو مسلمة.
ورجع مصعب إلى منزل أسعد ولم يزل يدعو إلى الإسلام حتى لم يبق دار من دور الأنصار إلا وفيها رجال ونساء مسلمون، إلا ما كان من بني أمية ابن زيد ووائل وواقف، فإنهم أطاعوا أبا قيس بن الأسلت، فوقف بهم عن الإسلام حتى هاجر النبي، صلى الله عليه وسلم، ومضت بدر وأحد والخندق وعاد مصعب إلى مكة. أسيد بضم الهمزة، وفتح السين. وحضير بضم الحاء المهملة، وفتح الضاد المعجمة،وتسكين الياء تحتها نقطتان، وفي آخره راء. ذكر بيعة العقبة الثانيةلما فشا الإسلام في الأنصار اتفق جماعةٌ منهم على المسير إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، مستخفين لا يشعر بهم أحد، فساروا إلى مكة في الموسم في ذي الحجة مع كفار قومهم واجتمعوا به وواعدوه أوسط أيام التشريف بالعقبة. فلما كان الليل خرجوا بعد مضي ثلثه مستخفين يتسللون حتى اجتمعوا بالعقبة، وهم سبعون رجلاً، معهم امرأتان: نسيبة بنت كعب أم عمارة وأسماء أم عمرو بن عدي من بني سلمة وجاءهم رسول الله ومعه عمه العباس ابن عبد المطلب، وهو كافر أحب أن يتوثق لابن أخيه، فكان العباس أول من تكلم فقال: يا معشر الخزرج، وكانت العرب تسمى الخزرج والأوس به، إن محمداً منا حيث قد علمتم في عز ومنعة، وإنه قد أبى إلا الانقطاع إليكم، فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه ومانعوه فأنتم وذلك، وإن كنتم ترون أنكم مسلموه فمن الآن فدعوه فإنه في عز ومنعة. فقال الأنصار: قد سمعنا ما قلت، فتكلم يا رسول الله وخذ لنفسك وربك ما أحببت. فتكلم وتلا القرآن ورغب في الإسلام ثم قال: تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم. ثم أخذ البراء بن معرور بيده ثم قال: والذي بعثك بالحق لنمنعنك مما نمنع منه أزرنا، فبايعنا يا رسول الله فنحن والله أهل الحرب. فاعترض الكلام أبو الهيثم بن التيهان فقال: يا رسول الله إن بيننا وبين الناس حبالاً، وإنا قاطعوها، يعني اليهود، فهل عسيت إن أ؟هرك الله عز وجل أن ترجع إلى قومك وتدعنا ؟ فتبسم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وقال: بل الدم الدم والهدم الهدم، أنتم مني وأنا منكم، أسالم من سالمتم وأحارب من حاربتم. وقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: أخرجوا إلى اثني عشر نقيباً يكونون على قومهم، فأخرجوهم تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس. وقال لهم العباس بن عبادة بن نضلة الأنصاري: يا معشر الخزرج هل تدرون علام تبايعون هذا الرجل ؟ تبايعونه على حرب الأحمر والأسود، فإن كنتم ترون أنكم إذا نهكت أموالكم مصيبةً وأشرافكم قتلاً أسلمتموه، فمن الآن فهو والله خزي الدنيا والآخرة، وإن كنتم ترون أنكم وافون له فخذوه فهو والله خير الدنيا والآخرة. قالوا: فإنا نأخذه على مصيبة الأموال وقتل الأشراف، فما لنا بذلك يا رسول الله ؟ قال: الجنة. قالوا: ابسط يدك، فبايعوه. وما قال العباس بن عبادة ذلك إلا ليشد العقد له عليهم. وقيل: بل قاله ليؤخر الأمر ليحضر عبد الله بن أبي بن سلول فيكون أقوى لأمر القوم. فكان أول من بايعه أبو أمامة أسعد بن زرارة، وقيل: أبو الهيم بن التيهان، وقي: البراء بن معرور. ثم بايع القوم فبايعوا، فلما بايعوه صرخ الشيطان من رأس العقبة: يا أهل الجباجب، هل لكم في مذممٍ والصباة معه قد اجتمعوا على حربكم ؟ فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: أما والله لأفرغن لك أي عدو الله ! ثم قال: ارفضوا إلى رحالكم. فقال له العباس بن عبادة: والذي بعثك بالحق نبياً لئن شئت لنميلن غداً على أهل منىً بأسيافنا. فقال: لم نؤمر بذلك، فرجعوا. فلما أصبحوا جاءهم جلة قريش فقالوا: قد بلغنا أنكم جئتم إلى صاحبنا تستخرجونه وتبايعونه على حربنا، وإنه والله ما من حي من أحياء العرب أبغض إلينا أن تنشب بيننا وبينهم الحرب منكم. فحلف من هناك من مشركي الأنصار ما كان من هذا شيء.
فلما سار الأنصار من مكة قال البراء بن معرور: يا معشر الخزرج ! قد رأيت أن لا أستدبر الكعبة في صلاتي. فقالوا له: إن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يستقبل الشام، فنحن لا نخالفه، فكان يصلي إلى الكعبة، فلما قدم مكة سأل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عن ذلك فقال: لقد كنت على قبلة لو صبرت عليها. فرجع إلى قبلة رسول الله. فلما بايعوه ورجعوا إلى المدينة، كان قدومهم في ذي الحجة، فأقام رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بمكة بقية ذي الحجة والمحرم وصفر، وهاجر إلى المدينة في شهر ربيع الأول، وقدمها لاثنتي عشرة ليلة خلت منه. وقد كانت قريش لما بلغهم إسلام من أسلم من الأنصار اشتدوا على من بمكة من المسلمين وحرصوا على أن يفتنوهم، فأصابهم جهدٌ شديد، وهي الفتنة الآخرة؛ وأما الأولى فكانت قبل هجرة الحبشة. وكانت البيعة في هذه العقبة على غير الشروط في العقبة الأولى، فإن الأولى كانت على بيعة النساء، وهذه البيعة كانت على حرب الأحمر والأسود. ثم أمر النبي، صلى الله عليه وسلم، أصحابه بالهجرة إلى المدينة، فكان أول من قدمها أبو سلمة بن عبد الأسد، وكانت هجرته قبل البيعة بسنة، ثم هاجر بعده عامر بن ربيعة حليف بني عدي مع امرأته ليلى ابنة أبي حثمة، ثم عبد الله بن جحش ومعه أخوه أبو أحمد وجميع أهله، فأغلقت دارهم وتتابع الصحابة، ثم هاجر عمر بن الخطاب وعياش بن أبي ربيعة فنزلا في بني عمرو بن عوف، وخرج أبو جهل بن هشام والحارث بن هشام إلى عياش بن أبي ربيعة بالمدينة، وكان أخاهما لأمهما، فقالا له: إن أمك قد نذرت أنها لا تستظل ولا تمتشط. فرق لها وعاد وتتابع الصحابة بالهجرة إلى أن هاجر رسول الله، صلى الله عليه وسلم. ذكر هجرة النبي صلى الله عليه وسلملما تتابع أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بالهجرة أقام هو بمكة ينتظر ما يؤمر به من ذلك، وتخلف معه علي بن أبي طالب وأبو بكر الصديق. فلما رأت قريش ذلك حذروا خروج رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فاجتمعوا في دار الندوة، وهي دار قصي بن كلاب، وتشاوروا فيها، فدخل معهم إبليس في صورة شيخ وقال: أنا من أهل نجد سمعت بخبركم فحضرت وعسى أن لا تعدموا مني رأياً. وكانوا عتبة وشيبة وأبا سفيان وطعيمة بن عدي وحبيب بن مطعم والحارث بن عامر والنضر بن الحارث وأبا البختري بن هشام وربيعة بن الأسود وحكيم بن حزام وأبا جهل ونبيهاً ومنبهاً ابني الحجاج وأمية بن خلف وغيرهم. فقال بعضهم لبعض: إن هذا الرجل قد كان من أمره ما كان، وما نأمنه على الوثوب علينا بمن اتبعه، فأجمعوا فيه رأياً، فقال بعضهم: احبسوه في الحديد وأغلقوا عليه باباً ثم تربصوا به ما أصاب الشعراء قبله. فقال النجدي: ما هذا لكم برأي، لو حبستموه يخرج أمره من وراء الباب إلى أصحابه فلأوشكوا أن يثبوا عليكم فينتزعوه من أيديكم. فقال آخر: نخرجه وننفيه من بلدنا ولا نبالي أين وقع إذا غاب عنا. فقال النجدي: ألم تروا حسن حديثه وحلاوة منطقه ؟ لو فعلتم ذلك لحل على حي من أحياء العرب فيغلب عليهم بحلاوة منطقه ثم يسير بهم إليكم حتى يطأكم ويأخذ أمركم من أيديكم. فقال أبو جهل: أرى أن نأخذ من كل قبيلة فتىً نسيباً ونعطي كل فتى منهم سيفاً ثم يضربونه ضربة رجل واحد فيقتلونه، فإذا فعلوا ذلك تفرق دمه في القبائل كلها فلم يقدر بنو عبد مناف على حرب قومهم جميعاً ورضوا منا بالعقل. فقال النجدي: القول ما قال الرجل، هذا الرأي الذي لا رأي غيره؛ فتفرقوا على ذلك.
فأتى جبرائيل النبي، صلى الله عليه وسلم، فقال: لا تبت الليلة على فراشك. فلما كان العتمة اجتمعوا على بابه يرصدونه متى ينام فيثبون عليه، فلما رآهم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال لعلي بن أبي طالب: نم على فراشي واتشح ببردي الأخضرى، فنم فيه فإنه لا يخلص إليك شيء تكرهه، وأمره أن يؤدي ما عنده من وديعة وأمانة وغير ذلك. وخرج رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فأخذ حفنةً من تراب فجعله على رؤوسهم وهو يتلو هذه الآيات من (يس وَالقُرْآنِ الحَكِيمِ)، إلى قوله: (فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) يس: 1 - 9. ثم انصرف لم يروه، فأتاهم آتٍ فقال: ما تنتظرون ؟ قالوا: محمداً. قال: خيبكم الله، خرج عليكم ولم يترك أحداً منكم إلا جعل على رأسه التراب وانطلق لحاجته ! فوضعوا أيديهم على رؤوسهم فرأوا التراب وجعلوا ينظرون فيرون علياً نائماً وعليه برد النبي، صلى الله عليه وسلم، فيقولون: إن محمداً لنائمٌ، فلم يبرحوا كذلك حتى أصبحوا. فقام علي عن الفراش، فعرفوه، وأنزل الله في ذلك: (وَإذْ يَمْكُرُ بِكَ الّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أوْ يَقْتُلُوكَ أوْ يُخْرِجُوكَ) الآية الأنفال: 30. وسأل أولئك الرهط علياً عن النبي، صلى الله عليه وسلم، فقال: لا أدرين أمرتموه بالخروج فخرج. فضربوه وأخرجوه إلى المسجد فحبسوه ساعةً ثم تركوه، ونجى الله رسوله من مكرهم وأمره بالهجرة، وقام علي يؤدي أمانة النبي، صلى الله عليه وسلم، ويفعل ما أمره. وقالت عائشة: كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لا يخطئه أحد طرفي النهار أن يأتي بيت أبي بكر إما بكرةً أو عشيةً، حتى كان اليوم الذي أذن الله فيه لرسوله بالهجرة فأتانا بالهاجرة، فلما رآه أبو بكر قال: ما جاء هذه الساعة إلا لأمر حدث. فلما دخل جلس على السرير وقال: أخرج من عندك. قال: يا رسول الله إنما هما ابنتاي، وما ذاك ؟ قال: إن الله قد أذن لي في الخروج. فقال أبو بكر: الصحبة يا رسول الله ! قال: الصحبة، فبكى أبو بكر من الفرح، فاستأجر عبد الله بن أرقد، من بني الديل بن بكر، وكان مشركاً، يدلهما على الطريق، ولم يعلم بخروج رسول الله، صلى الله عليه وسلم، غير أبي بكر وعلي وآل أبي بكر، فأما علي فأمره رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أن يتخلف عنه حتى يؤدي عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، الودائع التي كانت عنده ثم يلحقه. وخرجا من خوخة في بيت أبي بكر في ظهر بيته، ثم عمدا إلى غار بثور فدخلاه، وأمر أبو بكر ابنه عبد الله أن يستمع لهما بمكة نهاره ثم يأتيهما ليلاً، وأمر عامر بن فهيرة مولاه أن يرعى غنمه نهاره ثم يأتيهما بها ليلاً، وكانت أسماء بنت أبي بكر تأتيهما بطعامهما مساء، فأقاما في الغار ثلاثاً. وجعلت قريش مائة ناقةٍ لمن رده عليهم. وكان عبد الله بن أبي بكر إذا غدا من عندهما اتبع عامر بن فهيرة أثره بالغنم حتى يعفي. فلما مضت الثلاث وسكن الناس أتاهما دليلهما ببعيريهما، فأخذ رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أحدهما بالثمن فركبه، وأتتهما أسماء بنت أبي بكر بسفرتهما ونسيت أن تجعل لها عصاماً فحلت نطاقها فجعلته عصاماً وعلقت السفرة به، وكان يقال لأسماء ذات النطاقين لذلك. ثم ركبا وسارا، وأردف أبو بكر مولاه عامر بن فهيرة يخدمهما في الطريق، فساروا ليلتهم ومن الغد إلى الظهر، ورأوا صخرة طويلة، فسوا أبو بكر عندها مكاناً ليقيل فيه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وليستظل بظلها، فنام رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وحرسه أبو بكر حتى رحلوا بعدما زالت الشمس. | |
|
| |
الشيخ عودة الشيخ عودة
عدد المساهمات : 1748 تاريخ التسجيل : 28/09/2008 العمر : 74
| موضوع: رد: كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير الجمعة فبراير 07, 2014 8:58 am | |
| كانت قريش قد جعلت لمن يأتي بالنبي، صلى الله عليه وسلم، ديةً، فتبعهم سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي فلحقهم وهم في أرض صلبة، فقال أبو بكر: يا رسول الله أدركنا الطلب ! فقال: (ولاَ تَحْزَنْ إنَّ اللهَ مَعَنَا) التوبة: 40، ودعا عليه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فارتطمت فرسه إلى بطنها وثار من تحتها مثل الدخان. فقال: ادع لي يا محمد ليخلصني الله ولك علي أن أرد عنك الطلب، فدعا له فتخلص، فعادي تبعهم، فدعا عليه الثانية فساخت قوائم فرسه في الأرض أشد من الأولى، فقال: يا محمد قد علمت أن هذا من دعائك علي، فادع لي ولك عهد الله أن أرد عنك الطلب. فدعا له فخلص وقرب من النبي، صلى الله عليه وسلم، وقال له: يا رسول الله خذ سهماً من كنانتي وإن إبلي بمكان كذا فخذ منها ما أحببت. فقال: لا حاجة لي في إبلك. فلما أراد أن يعود عنه قال له رسول الله، صلى الله عليه وسلم: كيف بك يا سراقة إذا سورت بسواري كسرى ؟ قال: كسرى بن هرمز ؟ قال: نعم. فعاد سراقة فكان لا يلقاه أحد يريد الطلب إلا قال: كفيتم ما ها هنا، ولا يلقى أحداً إلا رده. قالت أسماء بنت أبي بكر: لما هاجر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أتانا نفرٌ من قريش فيه أبو جهلٍ فوقفوا على باب أبي بكر فقالوا: أين أبوك ؟ قلت: لا أدري، فرفع أبو جهل يده فلطم خدي لطمةً طرح قرطي، وكان فاحشاً خبيثاً. ومكثنا ملياً لا ندري أين توجه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، حتى أتى رجل من الجن من أسفل مكة والناس يتبعونه يسمعون صوته ولا يرون شخصه وهو يقول: جزى الله ربّ الناس خير جزائه ... رفيقين حلاّ خيمتي أمّ معبد هما نزلا بالهدي واغتديا به ... فأفلح من أمسى رفيق محمّد ليهنئ بني كعبٍ مكان فتاتهم ... ومقعدها للمؤمنين بمرصد قالت: فلما سمعنا قوله عرفنا أن وجهه كان إلى المدينة. وقدم بهما دليلهما قباء فنزل على بني عمرو بن عوف لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول يوم الاثنين حين كادت الشمس تعتدل، فنزل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، على كلثوم بن الهدم، أخي بني عمرو بن عوف، وقيل: نزل على سعد بن خيثمة، وكان عزباً، وكان ينزل عنده العزاب من أصحاب النبي، صلى الله عليه وسلم، وكان يقال لبيته بيت العزاب، والله أعلم. ونزل أبو بكر على خبيب بن إساف بالسنح، وقيل: نزل على خارجة بن زيد أخي بني الحارث بن الخزرج. وأما علي فإنه لما فرغ من الذي أمره به رسول الله، صلى الله عليه وسلم، هاجر إلى المدينة، فكان يسير الليل ويكمن النهار حتى قدم المدينة وقد تفطرت قدماه، فقال النبي، صلى الله عليه وسلم: ادعوا لي علياً. قيل: لا يقدر أن يمشي. فأتاه النبي، صلى الله عليه وسلم، واعتنقه وبكى رحمةً لما بقدميه من الورم وتفل في يديه وأمرهما على قدميه، لم يشتكهما بعد حتى قتل. ونزل بالمدينة على امرأة لا زوج لها، فرأى إنساناً يأتيها كل ليلة ويعطيها شيئاً، فاستراب بها، فسألها عنه فقالت: هو سهل بن حنيف، قد علم أني امرأة لا زوج لي فهو يكسر أصنام قومه ويحملها إلي ويقول: احتطبي بهذه. فكان علي يذكر ذلك عن سهل بن حنيف بعد موته. وأقام رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بقباء يوم الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس، وأسس مسجدهم، ثم خرج يوم الجمعة، وقيل: أقام عندهم أكثر من ذلك. والله أعلم. وأدركت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، الجمعة في بني سالم بن عوف فصلاها في المسجد الذي ببطن الوادي، فكانت أول جمعة صلاها بالمدينة. قال ابن عباس: ولد النبي، صلى الله عليه وسلم، يوم الاثنين، واستنبئ يوم الاثنين، ورفع الحجر الأسود يوم الاثنين، وهاجر يوم الاثنين، وقبض يوم الاثنين. واختلف العلماء في مقامه بمكة بعد أن أوحي إليه، فقال أنس وابن عباس، رضي الله عنهما، من رواية أبي سلمة عنه وعائشة: إنه أقام بمكة عشر سنين، ومثلهم قال من التابعين ابن المسيب والحسن وعمرو بن دينار، وقيل: أقام ثلاث عشرة سنة؛ قاله ابن عباس من رواية أبي جمرة وعكرمة أيضاً عنه، ولعل الذي قال أقام عشر سنين أراد بعد إظهار الدعوة، فإنه بقي سنين يسيرة، ومما يقوي هذا القول قول صرمة بن أنس الأنصاري، شعر: ثوى في قريشٍ بضع عشرة حجّةً ... يذكّر لو يلقى صديقاً مواتيا
فهذا يدل على مقامه ثلاث عشرة سنة لأنه قد زاد على عشر سنين، فلو كان خمس عشرة لصح الوزن، وكذلك ست عشرة وسبع عشرة، وحيث لم يستقم الوزن بأن يقول ثلاث عشرة قال بضع عشرة، ولم ينقل في مقام زيادة على عشر سنين إلا ثلاث عشرة وخمس عشرة. وقد روي عن قتادة قول غريب جداً، وذلك أنه قال: نزل القرآن على النبي: صلى الله عليه وسلم، بمكة ثماني سنين، ولم يوافقه غيره. ذكر ما كان من الأمور أول سنة من الهجرة فمن ذلك تجميعه صلى الله عليه وسلم، بأصحابه الجمعة في اليوم الذي نزل فيه من قباء في بني سالم في بطن وادٍ لهم، وهي أول جمعة جمعها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في الإسلام وخطبهم، وهي أول خطبة. وكان رحل من قباء يريد المدينة فركب ناقته وأرخى زمامها، فكان لا يمر بدار من دور الأنصار إلا قالوا: هلم يا رسول الله إلى العدد والعدة والمنعة. فيقول: خلوا سبيلها فإنها مأمورة، حتى انتهى إلى موضع مسجده اليوم، فبركت على باب مسجده، وهو يومئذ مربد لغلامين يتيمين في حجر معاذ بن عفراء، وهما سهل وسهل ابنا عمرو من بني النجار، فلما بركت لم ينزل عنها، ثم وثبت فسارت غير بعيد ورسول الله، صلى الله عليه وسلم، واضع لها زمامها لا يثنيها به، فالتفتت خلفها ثم رجعت إلى مبركها أول مرة فبركت فيه ووضعت جرانها، فنزل عنها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، واحتمل أبو أيوب الأنصار رحله، وسأل رسول الله، صلى الله عليه وسلم عن المربد فقال معاذ بن عفراء: هو ليتيمين لي وسأرضيهما من ثمنه، فأمر به رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أن يبنى مسجداً، وأقام عند أبي أيوب حتى بنى مسجده ومساكنه. وقيل: إن موضع المسجد كان لبني النجار فيه نخل وحرث وقبور المشركين، فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: ثامنوني به. فقالوا: لا يبغى به إلا ما عند الله. فأمر به فبنى مسجده، وكان قبله يصلي حيث أدركته الصلاة، وبناه هو والمهاجرون والأنصار، وهو الصحيح. وفيها بني مسجد قباء. وفيها أيضاً توفى كلثوم بن الهدم. وتوفي بعده أسعد بن زرارة، وكان نقيب بني النجار، فاجتمع بنو النجار، وطلبوا من رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أن يقيم لهم نقيباً، فقال لهم: أنتم إخواني وأنا نقيبكم، فكان فضيلة لهم. وفيها مات أبو أحيحة بالطائف، والوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل السهمي بمكة مشركين. وفيها بني النبي، صلى الله عليه وسلم، بعائشة بعد مقدمة المدينة بثمانية أشهر، وقيل بسبعة أشهر في ذي القعدة، وقيل في شوال، وكان تزوجها بمكة قبل الهجرة بثلاث سنين بعد وفاة خديجة وهي ابنة ست سنين، وقيل ابنة سبع سنين. وفيها هاجرت سودة بنت زمعة زوج رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وبناته ما عدا زينب، وهاجر أيضاً عيال أبي بكر ومعهم ابنه عبد الله وطلحة بن عبيد الله. وفيها زيد في صلاة العصر ركعتان بعد مقدمة المدينة بشهر. وفيها ولد عبد الله بن الزبير، وقيل في السنة الثانية في شوال، وكان أول مولود للمهاجرين بالمدينة، وكان النعمان بن بشير أول مولود للأنصار بعد الهجرة، وقيل: إن المختار بن أبي عبيد وزياد ابن أبيه ولدا فيها. وفيها على رأس سبعة أشهر عقد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لعمه حمزة لواء أبيض في ثلاثين رجلاً من المهاجرين ليعرضوا عير قريش، فلقي أبا جهل في ثلاثمائة رجل فحجز بينهم مجدي بن عمرو الجهني، وكان يحمل اللواء أبو مرثد، وهو أول لواء عقده. وفيها أيضاً عقد لواء لعبيدة بن الحارث بن المطلب، وكان أبيض يحمله مسطح بن أثاثة، فالتقى هو والمشركون، فكان بينهم الرمي دون المسايفة، وكان سعد بن أبي وقاص أول من رمى بسهم في سبيل الله، وكان المقداد بن عمرو وعتبة بن غزوان مسلمين وهما بمكة، فخرجا مع المشركين يتوصلان بذلك، فلما لقيهم المسلمون انحازا إليهم. وقال بعضهم: كان لواء أبي عبيدة أول لواء عقده، وإنما اشتبه ذلك لقرب بعضها ببعض، وكان على المشركين أبو سفيان بن حرب، وقيل مكرز بن حفص بن الأخيف، وقيل عكرمة بن أبي جهل. والأخيف، بالخاء المعجمة والياء المثناة من تحتها. وفيها عقد لواء لسعد بن أبي وقاص وسيره إلى الأبواء، وكان يحمل اللواء المقداد بن الأسود، وكان مسيره في ذي القعدة وجميع من معه من المهاجرين فلم يلق حرباً.
جعل الواقدي هذه السرايا جميعها في السنة الأولى من الهجرة، وجعلها ابن إسحاق في السنة الثانية، فقال: على رأس اثني عشر شهراً من مقدم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، المدينة خرج غازياً واستخلف على المدينة سعد بن عبادة فبلغ ودان يريد قريشاً وبني ضمرة من كنانة، وهي غزاة الأبواء، بينهما ستة أميال، فوادعته فيها بنو ضمرة، ورئيسهم مخشي بن عمرو، ثم رجع إلى المدينة ولم يلق كيداً، وذكر ابن إسحاق بعد هذه الغزوة غزوة عبيدة بن الحارث، ثم غزوة حمزة بن عبد المطلب. وفيها كان غزاة بواط، خرج رسول الله، صلى الله عليه وسلم في مائتين من أصحابه في شهر ربيع الآخر، يعني سنة اثنتين، يريد قريشاً حتى بلغ بواط من ناحية رضوى، وكان في عير قريش أمية بن خلف الجمحي في مائة رجل ومعهم ألفان وخمسمائة بعير، فرجع ولم يلق كيداً، وكان يحمل لواء رسول الله، صلى الله عليه وسلم، سعد بن أبي وقاص، واستخلف على المدينة سعد بن معاذ. بواط بفتح الباء الموحدة وبالطاء المهملة. وفيها غزا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، غزوة العشيرة من ينبع في جمادي الأولى يريد قريشاً حين ساروا إلى الشام، فلما وصل العشيرة وادع بني مدلج وحلفاءهم من مضرة ورجع ولم يلق كيداً، واستخلف على المدينة أبا سلمة بن عبد الأسد، وكان يحمل لواءه حمزة، وفي هذه الغزوة كنى النبي صلى الله عليه وسلم علياً أبا تراب في قول بعضهم. وفيها أغار كرز بن جابر الفهري على سرح المدينة، فخرج رسول الله، صلى الله عليه وسلم، حتى بلغ وادياً يقال له سفوان من ناحية بدر، وفاته كرز، وكان لواؤه مع علي، واستخلف على المدينة زيد بن حارثة. وفيها بعث رسول الله، صلى الله عليه وسلم، سعد بن أبي وقاص في سرية ثمانية رهط فرجع ولم يلق كيداً. وفيها جاء أبو قيس بن الأسلت إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فعرض عليه الإسلام، فقال: ما أحسن ما تدعو إليه ! سأنظر في أمري ثم أعود. فلقيه عبد الله بن أبي المنافق فقال: كرهت قتال الخزرج. فقال أبو قيس: لا أسلم إلى سنة، فمات في ذي القعدة. ثم دخلت السنة الثانية من الهجرة في هذه السنة غزا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في قول بعض أهل السير، غزوة الأبواء، ويقال ودان، وبينهما ستة أميال، واستخلف رسول الله، صلى الله عليه وسلم، على المدينة سعد بن عبادة، وكان لواؤه أبيض مع حمزة بن عبد المطلب، وقد تقدم ذكرها. وفيها زوج علي بن أبي طالب فاطمة في صفر. ذكر سرية عبد الله بن جحشأمر رسول الله أبا عبيدة بن الجراح أن يتجهز للغزو، فتجهز، فلما أراد المسير بكى صبابة إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فبعث مكانه عبد الله بن جحش في جمادى الآخرة معه ثمانية رهط من المهاجرين، وقيل اثنا عشر رجلاً وكتب له كتاباً، وأمره أن لا ينظر فيه حتى يسير يومين ثم ينظر فيه فيمضي لما أمره به ولا يكره أحداً من أصحابه، ففعل ذلك، ثم قرأ الكتاب وفيه يأمره بنزول نخلة بين مكة والطائف فيرصد قريشاً ويعلم أخبارهم، فأعلم أصحابه، فساروا معه، وأضل سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان بعيراً لهما يعتقبانه فتخلفا في طلبه، ومضى عبد الله ونزل بنخلة، فمرت عير لقريش تحمل زبيباً وغيره فيها عمرو بن الحضرمي وعثمان بن عبد الله بن المغيرة وأخوه نوفل والحكم بن كيسان، فأشرف لهم عكاشة بن محصن، وقد حلق رأسه. فلما رأوه قالوا: عمارٌ لا بأس عليكم منهم، وذلك آخر يوم من رجب، فرمى واقد بن عبد الله التيمي عمرو بن الحضرمي بسهم فقتله، واستأسر عثمان والحكم، وهرب نوفل، وغنم المسلمون ما معهم، فقال عبد الله بن جحش: إن لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، خمس ما غنمتم، وذلك قبل أن يفرض الخمس، وكانت أول غنيمة غنمها المسلمون وأول خمس في الإسلام.
وأقبل عبد الله بن جحش وأصحابه بالعير والأسرى إلى المدينة. فلما قدموا قال لهم رسول الله، صلى الله عليه وسلم: ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام، فوقف العير والأسيرين، فسقط في أيديهم، وعنفهم المسلمون، وقال قريش: قد استحل محمد وأصحابه الشهر الحرام. وقالت اليهود تفأأل بذلك على رسول الله، صلى الله عليه وسلم: عمرو بن الحضرمي قتله واقد بن عبد الله: عمرو عمرت الحرب، والحضرمي حضرت الحرب، وواقد وقدت الحرب. فأنزل الله: (يَسْألُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ) الآية البقرة: 217. فلما نزل القرآن وفرج الله عن المسلمين قبض رسول الله، صلى الله عليه وسلم، العير، وكانت أول غنيمة أصابوها، وفدى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، الأسيرين. فأما الحكم فأقام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأسلم وحسن اسلامه حتى قتل يوم بئر معونة. وقيل: كان قتلهم عمرو بن الحضرمي وأخذ العير آخر يوم من جمادى وأول ليلة من رجب. وفيها صرفت القبلة من الشام إلى الكعبة، وكان أول ما فرضت القبلة إلى بيت المقدس والنبي، صلى الله عليه وسلم، بمكة، وكان يحب استقبال الكعبة، وكان يصلي ويجعل الكعبة بينه وبين بيت المقدس. فلما هاجر إلى المدينة لم يمكنه ذلك، وكان يؤثر أن يصرف إلى الكعبة، فأمره الله أن يستقبل الكعبة يوم الثلاثاء للنصف من شعبان على رأس ثمانية عشر شهراً من قدومه المدينة، وقيل: على رأس ستة عشر شهراً في صلاة الظهر. وفيها أيضاً في شعبان فرض صوم شهر رمضان، وكان لما قدم المدينة رأى اليهود تصوم عاشوراء فصامه وأمر بصيامه، فلما فرض رمضان لم يأمرهم بصوم عاشوراء ولم ينههم. وفيها أمر الناس بإخراج زكاة الفطر قبل الفطر بيوم أو يومين. وفيها خرج رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إلى المصلى فصلى بهم صلاة العيد، وكان ذلك أول خرجة خرجها، وحملت بين يديه العنزة، وكانت للزبير وهبها له النجاشي، وهي اليوم للمؤذنين في المدينة. ذكر غزوة بدر الكبرىوفي السنة الثانية كانت وقعة بدر الكبرى في شهر رمضان في السابع عشر، وقيل التاسع عشر، وكانت يوم الجمعة. وكان سببها قتل عمرو بن الحضرمي وإقبال أبي سفيان بن حرب في عير لقريش عظيمة من الشام وفيها أموال كثيرة ومعها ثلاثون رجلاً أو أربعون، وقيل: قريباً من سبعين رجلاً من قريش، منهم: مخرمة بن نوفل الزهري، وعمرو بن العاص، فلما سمع بهم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ندب المسلمين إليهم وقال: هذه عير قريش فيها أموالهم، فاخرجوا إليها لعل الله أن ينفلكموها. فانتدب الناس، فخف بعضهم وثقل بعضهم، وذلك لأنهم لم يظنوا أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يلقى حرباً. وكان أبو سفيان قد سمع أن النبي، صلى الله عليه وسلم، يريده، فحذر واستأجر ضمضم بن عمرو الغفاري فبعثه إلى مكة يستنفر قريشاً ويخبرهم الخبر، فخرج ضمضم إلى مكة. وكانت عاتكة بنت عبد المطلب قد رأت قبل قدوم ضمضم مكة بثلاث ليالٍ رؤيا أفزعتها فقصتها على أخيها العباس واستكتمته خبرها، قالت: رأيت راكباً على بعير له حتى وقف بالأبطح، ثم صرخ بأعلى صوته: أن انفروا يا آل غدر لمصارعكم في ثلاث ! قالت: فأرى الناس قد اجتمعوا إليه، ثم دخل المسجد، فمثل بعيره على الكعبة، ثم صرخ مثلها، ثم مثل بعيره على رأس أبي قبيس فصرخ مثلها، ثم أخذ صخرة عظيمة وأرسلها، فلما كانت بأسفل الوادي ارفضت فما بقي بيت من مكة إلا دخله فلقة منها. فخرج العباس فلقي الوليد بن عتبة بن ربيعة، وكان صديقه، فذكرها له واستكتمه ذلك، فذكرها الوليد لأبيه عتبة، ففشا الخبر، فلقي أبو جهل العباس فقال له: يا أبا الفضل أقبل إلينا. قال: فلما فرغت من طوافي أقبلت إليه، فقال لي: متى حدثت فيكم هذه النبية ؟ وذكر رؤيا عاتكة، ثم قال: ما رضيتم أن تتنبأ رجالكم حتى تتنبأ نساؤكم ! فسنتربص بكم هذه الثلاث فإن يكن حقاً وإلا كتبنا عليكم أنكم أكذب أهل بيت في العرب.
قال العباس: فما كان مني إليه إلا أني جحدت ذلك وأنكرته، فلما أمسيت أتاني نساء بني عبد المطلب وقلن لي: أقررتم لهذا الفاسق الخبيث أن يقع في رجالكم وقد تناول نساءكم ولم تنكر عليه ذلك ! قال قلت: والله كان ذلك، ولأتعرضن له، فإن عاد كفيتكموه. قال: فغدوت اليوم الثالث من رؤيا عاتكة وأنا مغضب أحب أن أدركه فرأيته في المسجد فمشيت نحوه أتعرض له ليعود فأوقع به، فخرج نحو باب المسجد يشتد، قال قلت: ما باله قاتله الله ! أكل هذا فرقاً من أن أشاتمه ! وإذا هو قد سمع ما لم أسمع، صوت ضمضم بن عمرو وهو يصرخ ببطن الوادي واقفاً على بعيره قد جدعه وحول رحله وشق قميصه وهو يقول: يا معشر قريش اللطيمة اللطيمة ! أموالكم مع أبي سفيان، قد عرض له محمد وأصحابه، لا أدري إن تدركوها، الغوث الغوث ! فشغلني عنه وشغله عني. قال: فتجهز الناس سراعاً ولم يتخلف من أشرافهم أحدٌ إلا أبا لهب وبعث مكانه العاص بن هشام بن المغيرة، وعزم أمية بن خلف الجمحي على القعود، فإنه كان شيخاً ثقيلاً بطيئاً، فأتاه عقبة بن أبي معيط بمجمرة فيها نار وما يتبخر به وقال: يا أبا علي استجمر، فإنما أنت من النساء. فقال: قبحك الله وقبح ما جئت به ! وتجهز وخرج معهم. وعزم عتبة بن ربيعة أيضاً على القعود فقال له أخوه شيبة: إن فارقنا قومنا كان ذلك سبة علينا، فامض مع قومك، فمشى معهم. فلما أجمعوا على المسير ذكروا ما بينهم وبين بكر بن عبد مناة بن كنانة ابن الحارث فخافوا أن يؤتوا من خلفهم، فجاءهم إبليس في صورة سراقة بن جعشم المدلجي، وكان من أشراف كنانة، وقال: أنا جار لكم فاخرجوا سراعاً. وكانوا تسعمائة وخمسين رجلاً، وقيل: كانوا ألف رجل، وكانت خيلهم مائة فرس، فنجا منها سبعون فرساً وغنم المسلمون ثلاثين فرساً، وكان مع المشركين سبعمائة بعير. وكان مسير رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لثلاث ليال خلون من شهر رمضان في ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً، وقيل أربعة عشر، وقيل بضعة عشر رجلاً، وقيل ثمانية عشر، وقيل كانوا سبعة وسبعين من المهاجرين، وقيل ثلاثة وثمانون والباقون من الأنصار، فقيل: جميع من ضرب له رسول الله، صلى الله عليه وسلم بسهم من المهاجرين ثلاثة وثمانون رجلاً، ومن الأوس أحد وسبعون رجلاً، ومن الخزرج مائة وسبعون رجلاً، ولم يكن فيهم غير فارسين، أحدهما المقداد بن عمرو الكندي، ولا خلاف فيه، والثاني قيل كان الزبير بن العوام، وقيل كان مرثد بن أبي مرثد، وقيل المقداد وحده، وكانت الإبل سبعين بعيراً، فكانوا يتعاقبون عليها البعير بين الرجلين والثلاثة والأربعة، فكان بين النبي، صلى الله عليه وسلم، وعلي وزيرد بن حارثة بعير، وبين أبي بكر وعمر وعبد الرحمن بن عوف بعير، وعلى مثل هذا. وكان فرس المقداد اسمه سبحة، وفرس الزبير اسمه السيل، وكان لواؤه مع مصعب بن عمير بن عبد الدار، ورأيته مع علي بن أبي طالب، وعلى الساقة قيس بن أبي صعصعة الأنصاري. فلما كان قريباً من الصفراء بعث بسبس بن عمرو وعدي بن بي الزغباء الجهنيين يتجسسان الأخبار عن أبي سفيان، ثم ارتحل رسول الله، صلى الله عيه وسلم، وترك الصفراء يساراً، وعاد إليه بسبس بن عمرو ويخبره أن العير قد قاربت بدراً، ولم يكن عند رسول الله، صلى الله عليه وسلم، والمسلمين علم بمسير قريش لمنع عيرهم، وكان قد بعث علياً والزبير وسعداً يلتمسون له الخبر ببدر، فأصابوا راوية لقريش فيهم أسلم غلام بني الجحجاح وأبو يسار غلام بني العاص. فأتوا بهما النبي، صلى الله عليه وسلم، وهو قائم يصلي، فسألوهما، فقالا: نحن سقاة قريش بعثونا نسقيهم من الماء، فكره القوم خبرهما وضربوهما ليخبروهما عن أبي سفيان. فقالا: نحن لأبي سفيان، فتركوهما. وفرغ رسول الله، صلى الله عليه وسلم، من الصلاة وقال: إذا صدقاكم ضربتموهما وإذا كذباكم تركتموهما، صدقا، إنهما لقريش، أخبراني أين قريش ؟ قالا: هم وراء هذا الكثيب الذي ترى بالعدوة القصوى. فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: كم القوم ؟ قالا: كثير. قال: كم عدتهم ؟ قالا: لا ندري. قال: كم ينحرفون ؟ قالا: يوماً تسعاً ويوماً عشراً. قال: القوم بين تسعمائة إلى الألف.
ثم قال لهما: فمن فيهم من أشراف قريش ؟ قالا: عتبة وشيبة ابنا ربيعة، والوليد وأبو البختري بن هشام، وحكيم بن حزام، والحارث بن عامر، وطعيمة بن عدي، والنضر بن الحارث، وزمعة بن الأسود، وأبو جهل، وأمية بن خلف، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج، وسهيل بن عمرو، وعمرو بن عبد ود. فأقبل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، على أصحابه وقال: هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها. ثم استشار أصحابه، فقال أبو بكر فأحسن، ثم قال عمر فأحسن، ثم قام المقداد بن عمرو فقال: يا رسول الله امض لما أمرك الله فنحن معك، والله لا نقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى: (اذْهَبْ أنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إنّا هَهُنَا قَاعِدُونَ) المائدة: 24؛ ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد، يعني مدينة الحبشة، لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه. فدعا لهم بخير ثم قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: أشيروا علي أيها الناس؛ وإنما يريد الأنصار لأنهم كانوا عدد الناس، وخاف أن لا تكون الأنصار ترى عليها نصرته إلا ممن دهمه بالمدينة وليس عيهم أن يسير بهم. فقال له سعد بن معاذ: لكأنك تريدنا يا رسول الله ؟ قال: أجل. قال: قد آمنا بك وصدقناك وأعطيناك عهودنا، فامض يا رسول الله لما أمرت، فوالذي بعثك بالحق إن استعرضت بنا هذا البحر فخضته لنخوضنه معك وما نكره أن تكون تلقى العدو بنا غداً، إنا لصبرٌ عند الحرب، صدقٌ عند اللقاء، لعل الله يريك منا ما تقر به عينك، فسر بنا على بركة الله ! فسار رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقال: أبشروا فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم. ثم انحط على بدر فنزل قريباً منها. وكان أبو سفيان قد ساحل وترك بدراً يساراً ثم أسرع فنجا، فلما رأى أنه قد أحرز عيره أرسل إلى قريش، وهم بالجحفة: إن الله قد نجى عيركم وأموالكم فارجعوا. فقال أبو جهل بن هشام: والله لا نرجع حتى نرد بدراً، وكان بدر موسماً من مواسم العرب تجتمع لهم بها سوق كل عام، فنقيم بها ثلاثاً فننحر الجزر ونطعم الطعام ونسقي الخمر وتسمع بنا العرب فلا يزالون يهابوننا أبداً. فقال الأخنس بن شريق الثقفي، وكان حليفاً لبني زهرة وهم بالجحفة: يا بني زهرة قد نجى الله أموالكم وصاحبكم فارجعوا. فرجعوا، فلم يشهدها زهري ولا عدوي، وشهدها سائر بطون قريش. ولما كانت قريش بالجحفة رأى جهيم بن الصلت بن مخرمة بن المطلب بن عبد مناف رؤيا فقال: إني رأيت فيما يرى النائم رجلاً أقبل على فرس ومعه بعير له فقال: قتل عتبة وشيبة وأبو جهل وغيرهم ممن قتل يومئذ، ورأيته ضرب لبة بعيرة ثم أرسله في العسكر فما بقي خباء إلا أصابه من دمه. فقال أبو جهل: وهذا أيضاً نبي من بني المطلب، سيعلم غداً من المقتول. وكان بين طالب بن أبي طالب، وهو في القوم، وبين بعض قريش محاورةٌ، فقالوا: والله قد عرفنا أن هواكم مع محمد. فرجع طالب إلى مكة فيمن رجع، وقيل: إنما كان خرج كرهاً، فلم يوجد في الأسرى ولا في القتلى ولا فيمن رجع إلى مكة، وهو الذي يقول: يا ربّ إمّا يغزونّ طالب ... في مقنب من هذه المقانب فيكن المسلوب غير السّالب ... وليكن المغلوب غير الغالب ومضت قريش حتى نزلت بالعدوة القصوى من الوادي، وبعث الله السماء، وكان الوادي دهساً، فأصاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأصحابه منه ما لبد لهم الأرض ولم يمنعهم المسير، وأصاب قريشاً منه ما لم يقدروا على أن يرحلوا معه. فخرج رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يبادرهم إلى الماء حتى إذا جاء أدنى ماء من بدر نزله، فقال الحباب بن المنذر بن الجموح: يا رسول الله ؟! أهذا منزل أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه أو نتأخره ؟ أم هو الرأي والحرب والمكيدة ؟ قال: بل هو الرأي والحرب والمكيدة. قال: يا رسول الله فإن هذا ليس لك بمنزل، انهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء سواه من القوم فننزله ثم نعور ما وراءه من القلب ثم نبني عليه حوضاً ونملأه ماء فنشرب ماء ولا يشربون ثم نقاتلهم. ففعل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ذلك.
فلما نزل جاءه سعد بن معاذ فقال: يا رسول الله نبني لك عريشاً من جريد فتكون فيه ونترك عندك ركائبك ثم نلقى عدونا، فإن أعزنا الله وأظهرنا الله عليهم كان ذلك مما أحببناه، وإن كانت الأخرى جلست على ركائبك فلحقت بما وراءنا من قومنا، فقد تخلف عنك أقوام ما نحن بأشد حباً لك منهم، ولو ظنوا أنك تلقى حرباً ما تخلفوا عنك، يمنعك الله بهم، يناصحونك ويحاربون معك. فأثنى عليه خيراً، ثم بني لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، عريشٌ، وأقبلت قريش بخيلائها وفخرها، فلما رآها قال: اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها تحادك وتكذب رسولك ! اللهم فنصرك الذي وعدتني ! اللهم أحنهم الغداة. ورأى عتبة بن ربيعة على جمل أحمر فقال: إن يكن عند أحد من القوم خيرٌ فعند صاحب الجمل الأحمر إن يطيعوه يرشدوا. وكان خفاف بن إيماء بن رحضة الغفاري أو أبوه إيماء بعث إلى قريش حين مروا به ابناً له بجزائر أهداها لهم وعرض عليهم المدد بالرجال والسلاح، فقالت قريش: إن كنا إنما نقاتل الناس فما بنا من ضعف، وإن كنا نقاتل الله كما زعم محمد فما لأحد بالله طاقة. فلما نزلت قريش أقبل جماعةٌ، منهم حكيم بن حزام، حتى وردوا حوض النبي، صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: اتركوهم، فما شرب منه رجل إلا قتل يومئذٍ إلا حكيم نجا على فرس له يقال له الوجيه وأسلم بعد ذلك فحسن إسلامه، وكان يقول إذا إجتهد في يمينه: لا والذي نجاني يوم بدر. ولما اطمأنت قريش بعثوا عمرو بن وهب الجمحي ليحزر المسلمين، فجال بفرسه حولهم ثم عاد فقال: هم ثلاثمائة يزيدون قليلاً أو ينقصون، ولقد رأيت الولايا تحمل المنايا، نواضح يثرب تحمل الموت الناقع، ليس لهم منعة إلا سيوفهم، والله لا يقتل رجل منهم إلا يقتل رجلاً منكم، فإذا أصابوا أعدادهم فما خير العيش بعد ذلك، فروا رأيكم. فلما سمع حكيم بن حزام ذلك مشى في القوم فأتى عتبة بن ربيعة فقال: يا أبا الوليد إنك كبير قريش وسيدها، هل لك أن لا تزال تذكر فيها بخير إلى آخر الدهر ؟ قال: وما ذاك ؟ قال: ترجع بالناس وتحمل دم حليفك عمرو بن الحضرمي. قال: قد فعلت، علي دمه وما أصيب من ماله، فأت ابن الحنظلية، يعني أبا جهل، فلا أخشى أن يفسد أمر الناس غيره. فقام عتبة في الناس فقال: إنكم ما تصنون بأن تلقوا محمداً وأصحابه شيئاً، والله لئن أصبتموهم لا يزال رجل ينظر في وجه رجل يكره النظر إليه قتل ابن عمه أو ابن خاله أو رجلاً من عشيرته. قال حكيم بن حزام: فانطلقت إلى أبي جهل فوجدته قد نثل درعاً وهو يهيئها، فأعلمته ما قال عتبة، فقال: انتفخ والله سحره حين رأى محمداً وأصحابه، والله لا نرجع حتى يحكم الله بيننا وبين محمد، وما بعتبة ما قال ولكن رأى ابنه أبا حذيفة فيهم وقد خافكم عليه. ثم بعث إلى عامر بن الحضرمي فقال له: هذا حليفك يريد أن يرجع إلى مكة بالناس، وقد رأيت ثأرك بعينك فانشد خفرتك ومقتل أخيك. فقام عامر وصرخ: واعمراه واعمراه ! فحميت الحرب واستوسق الناس على الشر. فلما بلغ عتبة قول أبي جهل: انتفخ سحره، قال: سيعلم المصفر استه من انتفخ سحره أنا أم هو! ثم التمس بيضة يدخلها رأسه فما وجد من عظم هامته، فاعتجر ببرد له. وخرج الأسود بن عبد الأسد المخزومي، وكان سيئ الخلق، فقال: أعاهد الله لأشربن من حوضهم ولأهدمنه أو لأموتن دونه. فخرج إليه حمزة فضربه فأطن قدمه بنصف ساقه فوقع على الأرض، ثم حبا إلى الحوض فاقتحم فيه ليبر يمينه، وتبعه حمزة فضربه حتى قتله في الحوض.
ثم خرج عتبة وشيبة ابنا ربيعة والوليد بن عتبة ودعوا إلى المبارزة، فخرج إليهم عوف ومعوذ ابنا عفراء وعبد الله بن رواحة كلهم من الأنصار فقالوا: من أنتم ؟ قالوا: من الأنصار. فقالوا: أكفاء كرام، وما لنا بكم من حاجة، ليخرج إلينا أكفاؤنا من قومنا. فقال النبي، صلى الله عليه وسلم: قم يا حمزة، قم يا عبيدة بن الحارث، قم يا علي، فقاموا ودنا بعضهم من بعض، فبارز عبيدة بن الحارث بن المطلب، وكان أمير القوم، عتبة، وبارز حمزة شيبة، وبارز علي الوليد، فأما حمزة فلم يمهل شيبة أن قتله، وأما علي فلم يمهل الوليد أن قتله، واختلف عبيدة وعتبة بينهما ضربتين كلاهما قد أثبت صاحبه، وكر حمزة وعي على عتبة فقتلاه واحتملا عبيدة إلى أصحابه، وقد قطعت رجله، فلما أتوا به النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: ألست شهيداً يا رسول الله ؟ قال: بلى. قال: لو رآني أبو طالب لعلم أننا أحق منه بقوله: ونسلمه حتى نصرّع حوله ... ونذهل عن أبنائنا والحلائل ثم مات، وتزاحف القوم ودنا بعضهم من بعض، وأبو جهل يقول: اللهم أقطعنا للرحم وآتانا بما لم نعرف فأحنه الغداة، فكان هو المستفتح على نفسه. وكان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قد أمر أصحابه أن لا يحملوا حتى يأمرهم، وقال: إن اكتنفكم القوم فانضحوهم عنكم بالنبل. ونزل في الريش ومعه أبو بكر وهو يدعو ويقول: اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض، اللهم أنجز لي ما وعدتني. ولم يزل حتى سقط رداؤه، فوضعه عليه أبو بكر ثم قال له: كفاك مناشدتك ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك. وأغفى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في العريش إفاءة، وانتبه ثم قال: يا أبا بكر أتاك نصر الله، هذا جبرائيل آخذ بعنان فرسه يقوده على ثناياه النقع، وأنزل الله: (إذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ) الآية الأنفال: 9. وخرج رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وهو يقول: (سَيُهْزَمُ الجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) القمر: 45، وحرض المسلمين وقال: والذي نفس محمد بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابراً محتسباً مقبلاً غير مدبر إلا أدخله الله الجنة. فقال عمير بن الحمام الأنصاري وبيده تمرات يأكلهن: بخ بخ ! ما بيني وبين أن أدخل الجنة إلا أن يقتلني هؤلاء ! ثم ألقى التمرات من يده وقاتل حتى قتل. ورمي مهجعٌ مولى عمر بن الخطاب بسهم فقتل، فكان أول قتيل. ثم رمي حارثة بن سراقة الأنصاري فقتل، وقاتل عوف بن عفراء حتى قتل، واقتتل الناس قتالاً شديداً. فأخذ رسول الله، صلى الله عليه وسلم، حفنة من التراب ورمى بها قريشاً وقال: شاهت الوجوه. وقال لأصحابه: شدوا عليهم. فكانت الهزيمة، فقتل الله من قتل من المشركين وأسر من أسر منهم. ولما كان رسول الله، صلى الله عيه وسلم، في العريش وسعد بن معاذ قائم على باب العريش متوشحاً بالسيف في نفر من الأنصار يحرسون رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يخافون عليه كرة العدو، فرأى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في وجه سعد بن معاذ الكراهية لما يصنع الناس من الأسر، فقال له رسول الله، صلى الله عليه وسلم: لكأنك تكره ذلك يا سعد ؟ قال: أجل يا رسول الله، أول وقعة أوقعها الله بالمشركين كان الإثخان أحب إلي من استبقاء الرجال. وكان أول من لقي أبا جهل معاذ بن عمرو بن الجموح وقريش محيطة به يقولون لا يخلص إلى أبي الحكم، قال معاذ: فجعلته من شأني، فلما أمكنني حملت عليه فضربته ضربة أطنت قدمه بنصف ساقه، وضربني ابنه عكرمة فطرح يدي من عاتقي، فتعلقت بجلدة من جثتي، فقاتلت عامة يومي وإني لأسحبها خلفي، فلما آذتني جعلت عليها رجلي ثم تمطيت حتى طرحتها. وعاش معاذ إلى زمان عثمان، رضي الله عنه.
ثم مر بأبي جهل معوذ بن عفراء فضربه حتى أثبته وتركه وبه رمق، ثم مر به ابن مسعود، وقد أمر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أن يلتمس في القتلى، فوجده بآخر رمق، قال: فوضعت رجلي على عنقه ثم قلت: هل أخزاك الله يا عدو الله ؟ قال: وبماذا أخزاني ؟ أعمد من رجل قتلتموه، أخبرني لمن الدائرة ؟ قلت: لله ولرسوله. فقال له أبو جهل: لقد ارتقيت يا رويعي الغنم مرتقىً صعباً ! قال: فقلت: إني قاتلك. قال: ما أنت بأول عبد قتل سيده، أما إن أشد شيء لقيته اليوم قتلك إياي وإلا قتلني رجل من المطيبين الأحلاف. فضربه عبد الله فوقع رأسه بين رجليه، فحمله إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فسجد شكراً لله. وكان عبد الرحمن بن عوف قد غنم أدراعاً، فمر بأمية بن خلف وابنه علي، فقالا له: نحن خير لك من هذه الأدراع. فطرح الأدراع وأخذ بيده وبيد ابنه ومشى بهما، فقال له أمية: من الرجل المعلم بريشة نعامة في صدره ؟ قال: حمزة بن عبد المطلب. قال أمية: هو الذي فعل بنا الأفاعيل. ورأى بلال أمية وكان يعذبه بمكة فيخرج به إلى رمضاء مكة فيضجعه على ظهره ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره ويقول: لا تزال هكذا حتى تفارق دين محمد، فيقول بلال: أحد أحد، فلما رآه بلال قال: أمية ؟! رأس الكفر ! لا نجوت إن نجا ! ثم صرخ: يا أنصار الله رأس الكفر رأس الكفر أمية بن خلف، لا نجوت إن نجا ! فأحاط بهم المسلمون، وقتل أمية وابنه علي، وكان عبد الرحمن يقول: رحم الله بلالاً، ذهبت أدراعي وفجعني بأسيري. وقتل حنظلة بن أبي سفيان بن حرب، قتله علي بن أبي طالب. ولما انهزم المشركون أمر النبي، صلى الله عليه وسلم، أن لا يقتل أبو البختري بن هشام لأنه كان أكف القوم عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وهو بمكة، وكان ممن اهتم في نقض الصحيفة، فلقيه المجذر بن ذياد البلوي حليف الأنصار ومعه زميل له، فقال له: إن رسول الله قد نهى عن قتلك. فقال: وزميلي ؟ فقال المجذر: لا والله. قال: إذاً والله لأموتن أنا وهو لا تتحدث نساء قريش أني تركت زميلي حرصاً على الحياة. فقتله، ثم أخبر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بخبره. وجيء بالعباء، أسره أبو اليسر، وكان مجموعاً، وكان العباس جسيماً، فقيل لأبي اليسر: كيف أسرته ؟ قال: أعانني عليه رجلٌ ما رأيته قبل ذلك، بهيئة كذا وكذا، فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: لقد أعانك عليه ملكٌ كريم. ولما أمسى العباس مأسوراً بات رسول الله صلى الله عليه وسلم، ساهراً أول ليله، فقال له أصحابه: يا رسول الله ما لك لا تنام ؟ فقال: سمعت تضور العباس في وثاقه فمنع مني النوم. فقاموا إليه فأطلقوه، فنام رسول الله، صلى الله عليه وسلم. وقد كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال لأصحابه يومئذ: قد عرفت رجالاً من بني هاشم وغيرهم أخرجوا كرهاً، فمن لقي منكم أحداً من بني هاشم فلا يقتله، ومن لقي العباس بن عبد المطلب فلا يقتله فإنه أخرج كرهاً. فقال أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة: أنقتل أبناءنا وآباءنا وإخواننا ونترك العباس ؟ والله لئن لقيته لألحمنه بالسيف. فبلغ النبي، صلى الله عليه وسلم، فقال لعمر: يا أبا حفص أما تسمع قول أبي حذيفة ؟ أيضرب وجه عم رسول الله بالسيف ؟ فقال أبو حذيفة: لا أزال خائفاً من تلك الكلمة ولا يكفرها عني إلا الشهادة. فقتل يوم اليمامة شهيداً. وقد كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال لأصحابه: قد رأيت جبرائيل وعلى ثناياه النقع. فقال رجع من بني غفار: أقبلت أنا وابن عم لي فصعدنا جبلاً يشرف بنا على بدر، ونحن مشركان، ننظر لمن تكون الدائرة فننتهب، فدنت منا سحابةٌ فسمعت فيها حمحمة الخيل وسمعت قائلاً يقول: أقدم حيزوم، قال: فأما ابن عمي فمات مكانه، وأما أنا فكدت أهلك فتماسكت. وقال أبو داود المازني: إني لأتبع رجلاً من المشركين لأضربه إذ وقع رأسه قبل أن يصل سيفي إليه، فعرفت أنه قتله غيري. وقال سهل بن حنيف: كان أحدنا يشير بسيفه إلى المشرك فيقع رأسه عن جسده قبل أن يصل إليه السيف.
فلما هزم الله المشركين وقتل منهم من قتل وأسر من أسر أمر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أن تطرح القتلى في القليب، فطرحوا فيه إلا أمية بن خلف فإنه انتفخ فيدرعه فملأها، فذهبوا به ليخرجوه فتقطع، وطرحوا عليه من التراب والحجارة ما غيبه، ولما ألقوا في القليب وقف عليهم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وقال: يا أهل القليب، بئس عشيرة النبي كنتم لنبيكم ! كذبتموني وصدقني الناس ! ثم قال: يا عتبة، يا شيبة، يا أمية بن خلف، يا أبا جهل بن هشام، وعدد من كان في القليب، هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقاً ؟ فإني وجدت ما وعدني ربي حقاً. فقال له أصحابه: أتكلم قوماً موتى ؟ فقال: ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ولكنهم لا يستطيعون أن يجيبوني. ولما قال، صلى الله عليه وسلم، لأهل القليب ما قال رأى في وجه أبي حيفة بن عتبة الكراهية وقد تغير، فقال: لعلك قد دخلك من شأن أبيك شيء ؟ قال: لا والله يا رسول الله ما شككت في أبي وفي مصرعه، ولكنه كان له عقل وحلم وفضل فكنت أرجو له الإسلام، فلما رأيت ما مات عليه من الكفر أحزنني ذلك، فدعا له رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بخير. ثم إن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أمر فجمع ما في العسكر، فاختلف المسلمون، فقال من جمعه: هو لنا. وقال الذين كانوا يقاتلون العدو: والله لولا نحن ما أصبتموه، نحن شغلنا القوم عنكم حتى أصبتم ما أصبتم. وقال الذين كانوا يحرسون رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وهو في العريش: والله ما أنتم بأحق به منا، لقد رأينا أن نأخذ المتاع حين لم يكن له من يمنعه ولكن خفنا كرة العدو على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقمنا دونه. فنزع الله الأنفال من أيديهم وجعلها إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فبسمها بين المسلمين على سواء. وبعث رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عبد الله بن رواحة بشيراً إلى أهل العالية، وزيد بن حارثة بشيراً إلى أهل السافلة من المدينة، فوصل زيد وقد سووا التراب على رقية بنت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وكانت زوجة عثمان بن عفان، خلفه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عليها وقسم له. فلما عاد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لقيه الناس يهنئونه بما فتح الله عليه، فقال سلمة بن سلامة بن وقش الأنصاري: إن لقينا إلا عجائز صلعاً كالبدن المعقلة فنحرناها. فتبسم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وقال: يا بن أخي أولئك الملأ من قريش. وكان في الأسرى النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط، فأمر علي بن أبي طالب بقتل النضر فقتله بالصفراء، وأمر عاصم بن ثابت بقتل عقبة بن أبي معيط، فلما أرادوا قتله جزع من القتل وقال: ما لي أسوة بهؤلاء ؟ يعني الأسرى، ثم قال: يا محمد من للصبية ؟ قال: النار، فقتله بعرق الظبية صبراً. وكان في الأسرى سهيل بن عمرو أسره مالك بن الدخشم الأنصاري، فلما أتي به النبي، صلى الله عليه وسلم، قال عمر بن الخطاب: دعني أنزع ثنيتيه يا رسول الله فلا يقوم عليك خطيباً أبداً، وكان سهيل أعلم الشفة السفلى، فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: دعه يا عمر فسيقوم مقاماً تحمده عليه، فكان مقامه ذلك عند موت النبي، صلى الله عليه وسلم، وسنذكره عند خبر الردة إن شاء الله. ولما قدم به المدينة قالت له سودة بنت زمعة، زوج النبي، صلى الله عليه وسلم: اعطيتم بأيديكم كما تفعل النساء، ألا متم كراماً ! فسمع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قولها فقال لها: يا سودة أعلى الله وعلى رسوله ! فقال: يا رسول الله ما ملكت نفسي حين رأيته أن قلت ما قلت. وقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: استوصوا بالأسرى خيراً. وكان أحدهم يؤثر أسيره بطعامه. فكان أول من قدم مكة بمصاب قريش الحيسمان بن عبد الله الخزاعي، فقالوا: ما وراءك ؟ قال: قتل عتبة وشيبة وأبو الحكم ونبيه ومنبه ابنا الحجاج، وعدد أشراف قريش. فقال صفوان بن أمية: والله إن يعقل فاسألوه عني. فقالوا: ما فعل صفوان ؟ قال: هو ذاك جالس في الحجر، وقد رأيت أباه وأخاه حين قتلا.
ومات أبو لهب بمكة بعد وصول خبر مقتل قريش بتسعة أيام، وناحت قريش على قتلاهم، ثم قالوا: لا تفعلوا فيشمت محمد وأصحابه، ولا تبعثوا في فداء أسراكم لا يشتط عليكم محمد. وكان الأسود بن عبد يغوث قد أصيب له ثلاثة من ولده: زمعة وعقيل والحارث، وكان يحب أن يبكي على بنيه، فبينما هو كذلك إذ سمع نائحة فقال لغلامه، وقد ذهب بصره: انظر هل أحل البكاء لعلي أبكي على زمعة فإن جوفي قد احترق. فرجع إليه وقال له: إنما هي امرأة تبكي على بعير لها أضلته، فقال: أتبكي أن يضلّ لها بعيرٌ ... ويمنعها من النّوم السّهود ولا تبكي على بكرٍ ولكن ... على بدرٍ تقاصرت الجدود على بدرٍ بني هصيصٍ ... ومخزومٍ ورهط أبي الوليد وبكّي إن بكيت على عقيلٍ ... وبكّي حارثاً أسد الأسود وبكّيهم ولا تسمي جميعاً ... فما لأبي حكيمة من نديد ألا قد ساد بعدههم أناسٌ ... ولولا يوم بدرٍ لم يسودوا يعني أبا سفيان. ثم إن قريشاً أرسلت في فداء الأسرى، فأول من فدي أبو وداعة السهمي، فداه ابنه المطلب، وفدى العباس نفسه وعقيل بن أبي طالب ونوفل بن الحارث بن عبد المطلب وحليفه عتبة بن عمرو بن جحدم، أمره رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بذلك فقال: لا مال لي. فقال له رسول الله، صلى الله عليه وسلم: أين المال الذي وضعته عند أم الفضل وقلت لها إن أصبت فللفضل كذا ولعبد الله كذا ولعبيد الله كذا ؟ قال: والذي بعثك بالحق ما علم به أحد غيري وغيرها، وإني لأعلم أنك رسول الله ! وفدى نفسه وابني أخويه وحليفه، وكان قد أخذ مع العباس عشرون أوقية من ذهب، فقال: احسبها في فدائي. فقال النبي، صلى الله عليه وسلم: لا، ذاك شيء أعطاناه الله، عز وجل. وكان في الأساري عمرو بن أبي سفيان، أسره علي، فقيل لأبيه: أفد عمراً. فقال: لا أجمع علي دمي ومالي، يقتل ابني حنظلة وأفدي عمراً ! فتركه ولم يفكه. ثم إن سعد بن النعمان الأنصاري خرج إلى مكة معتمراً، فأخذه أبو سفيان، وكانت قريش لا تعرض لحاج ولا معتمر. فحبسه أبو سفيان ليفدي به عمراً ابنه، وقال: أرهط ابن أكّالٍ أجيبوا دعاءه ... تعاقدتم لا تسلموا السيّد الكهلا فإنّ بني عمروٍ لئامٌ أذلّةٌ ... لئن لم يفكّوا عن أسيرهم الكبلا فمشى بنو عمرو بن عوف إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، فطلبوا منه عمرو بن أبي سفيان ففادوا به سعداً. وكان في الأساري أبو العاص بن الربيع بن عبد العزى بن عبد شمس زوج زينب بنت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وكان من أكثر رجال مكة مالاً وأمانة وتجارة، وكانت أمة هالة بنت خويلد أخت خديجة زوجة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فسألته أن يزوجه زينب، ففعل قبل أن يوحى إليه، فلما أوحي إليه آمنت به زينب، وكان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، مغلوباً بمكة لم يقدر أن يفرق بينهما، فلما خرجت قريش إلى بدر خرج معهم فأسر، فلما بعثت قريش في فداء الأسارى بعثت زينب في فداء أبي العاص زوجها بقلادة لها كانت خديجة أدخلتها معها، فلما رآها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، رق لها رقة شديدة وقال: إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها وتردوا عليها الذي لها فافعلوا. فأطلقوا لها أسيرها وردوا القلادة. وأخذ رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عليه أن يرسل زينب إليه بالمدينة، وسار إلى مكة، وأرسل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، زيد بن حارثة مولاه ورجلاً من الأنصار ليصحبا زينب من مكة، فلما قدم أبو العاص أمرها باللحاق بالنبي، صلى الله عليه وسلم، فتجهزت سراً، وأركبها كنانة بن الربيع، أخو أبي العاص، بعيراً وأخذ قوسه وخرج بها نهاراً. فسمعت بها قريش فخرجوا في طلبها فلحقوها بذي طوىً، وكانت حاملاً فطرحت حملها لما رجعت لخوفها، ونثر كنانة أسهمه ثم قال: والله لا يدنو مني أحد إلا وضعت فيه سهماً !؟ فأتاه أبو سفيان بن حرب وقال: خرجت بها علانيةً فيظن الناس أن ذلك عن ذل وضعف منا، ولعمر ما لنا في حبسها حاجة، فارجع بالمرأة ليتحدث الناس أنا رددناها. ثم أخرجها ليلاً وسلمها إلى زيد بن حارثة وصاحبه، فقدما بها على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فأقامت عنده.
فلما كان قبيل الفتح خرج أبو العاص تاجراً إلى الشام بأمواله وأموال رجال من قريش، فلما عاد لقيته سرية لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، فأخذوا ما معه وهرب منهم، فلما كان الليل أتى المدينة فدخل على زينب، فلما كان الصبح خرج رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إلى الصلاة فكبر وكبر الناس، فنادت زينب من صفة النساء: أيها الناس إني قد أجرت أبا العاص. فقال النبي، صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده ما علمت بشيء من ذلك، وإنه ليجير على المسلمين ادناهم. وقال لزينب: لا يخلص اليك فلا يحل لك. وقال للسرية الذين اصابوه: إن رأيتم أن تردوا عليه الذي له فإنا نحب ذلك، وإن أبيتم فهو فيء الله الذي أفاءه عليكم وأنتم أحق به. قالوا: يا رسول الله بل نرده عليه. فردوا عليه ماله كله حتى الشظاظ، ثم عاد إلى مكة فرد على الناس مالهم وقال لهم: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، والله ما منعني من الإسلام عنده إلا تخوف أن تظنوا أني إنما أردت أكل أموالكم. ثم خرج فقدم على النبي، صلى الله عليه وسلم، فرد عليه أهله بالنكاح الأول، وقيل بنكاح جديد. وجلس عمير بن وهب الجمحي مع صفوان بن أمية بعد بدر، وكان شيطاناً ممن كان يؤذي النبي وأصحابه،وكان ابن وهب في الأساري، فقال صفوان: لا خير في العيش بعد من أصيب ببدر. فقال عمير: صدقت ولولا دين علي وعيال أخشى ضيعتهم لركب إلى محمد حتى أقتله. فقال صفوان: دينك علي وعيالك مع عيالي أسوتهم. فسار إلى المدينة فقدمها، فأمر النبي، صلى الله عليه وسلم، عمر بن الخطاب بإدخاله عليه، فأخذ عمر بحمالة سيفة وقال لرجال معه من الأنصار: ادخلوا على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، واحذروا هذا الخبيث. فلما رآه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال ل | |
|
| |
الشيخ عودة الشيخ عودة
عدد المساهمات : 1748 تاريخ التسجيل : 28/09/2008 العمر : 74
| موضوع: رد: كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير الجمعة فبراير 07, 2014 8:59 am | |
| فاجتمع محمد بن مسلمة وسلكان بن سلامة بن وقش، وهو أبو نائلة، والحارث بن أوس بن معاذ، وكان أخا كعب من الرضاعة، وعباد بن بشر، وأبو عبس بن جبر، ثم قدموا إلى ابن الأشرف أبا نائلة، فتحدث معه ثم قال له: يا ابن الأشرف إني قد جئتك لحاجة فاكتمها عي. قال: أفعل. قال: كان قدوم هذا الرجل شؤماً على العرب، قطع عنا السبل حتى ضاعت العيال وجهدت البهائم. فقال كعب: قد كنت أخبرتك بهذا. قال أبو نائلة: وأريد أن تبيعنا طعاماً ونرهنك ونوثق لك وتحسن في ذلك. قال: ترهنونني أبنائكم ؟ قال: أردت أن تفضحنا، إن معي أصحابي على مثل رأيي تبيعهم وتحسن ونجعل عندك رهناً من الحلقة ما فيه وفاء، وأراد أبو نائلة بذكر الحلقة، وهي السلاح، أن لا ينكر السلاح إذا جاء مع أصحابه. فقال: إن في الحلقة لوفاء. فرجع أبو نائلة إلى أصحابه فأخبرهم، فأخذوا السلاح وساروا إليه، وشيعهم النبي، صلى الله عليه وسلم، إلى بقيع الغرقد ودعا لهم. فلما انتهوا إلى حصن كعب هتف به أبو نائلة، وكان كعب قريب عهدٍ بعرس، فوثب إليه، وتحدثوا ساعةً، وسار معهم إلى شعب العجوز. ثم إن أبا نائلة أخذ برأس كعب وشم بيده وقال: ما رأيت كالليلة طيباً أعرف قط. ثم مشى ساعة وعاد لمثلها حتى اطمأن كعب، ثم مشى ساعة وأخذ بفود رأسه ثم قال: اضربوا عدو الله ! فاختلفت عليه أسيافهم فلم تغن شيئاً. قال محمد بن مسلمة: فذكرت مغولاً في سيفي فأخذته، وقد صاح عدو الله صيحة لم يبق حولنا حصن إلا أوقدت عليه نار، قال: فوضعته في ثندوئته ثم تحاملت عليه حتى بلغت عانته ووقع عدو الله. وقد أصيب الحارث بن أوس بن معاذ، أصابه بعض أسيافنا، قال: فخرجنا على بعاث وقد أبطأ علينا صاحبنا فوقفنا له ساعة وقد نزفه الدم، ثم أتانا فاحتلمناه وجئنا به النبي، صلى الله عليه وسلم، فأخبرناه بقتل عدو الله، وتفل على جرح صاحبنا وعدنا إلى أهلينا فأصبحنا وقد خافت يهود، ليس بها يهودي إلا وهو يخاف على نفسه. قال: وقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: من ظفرتم به من رجال يهود فاقتلوه. فوثب محيصة بن مسعود على ابن سنينة اليهودي وهو من تجار يهود، فقتله، وكان يبايعهم، فقال لهم أخوه حويصة، وهو مشرك: يا عدو الله قتلته ؟! أما والله لرب شحمٍ في بطنك من ماله ! وضربه، فقال محيصة: لقد أمرني بقتله من لو أمرني بقتلك لقتلتك. قال: فوالله إن كان لأول إسلام حويصة. فقال: إن ديناً بلغ بك ما أرى لعجب. ثم أسلم. عبس بن جبر بفتح العين المهملة، وسكون الباء الموحدة. وجبر بالجيم، والباء الموحدة. وسنينة تصغير سن. وفي ربيع الأول منها تزوج عثمان بن عفان أم كلثوم بنت النبي، صلى الله عليه وسلم، وبنى بها في جمادى الآخرة. وفيها ولد السائب بن يزيد ابن أخت نمير. وقال الواقدي: وفيها غزا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، غزوة أنمار يقال لها دوام، وقد ذكرنا قول ابن إسحاق قبل ذلك. وفيها كان غزوة القردة، وكان أميرها زبد بن حارثة، وهي أول سرية خرج فيها زيد أميراً. وكان من حديثها أن قريشاً خافت من طريقها التي كانت تسلك إلى الشام بعد بدر، فسلكوا طريق العراق، فخرج منهم جماعةٌ فيهم صفوان بن أمية وأبو سفيان. وكان عظيم تجارتهم الفضة، وكان دليلهم فرات بن حيان من بكر بن وائل، فبعث رسول الله، صلى الله عليه وسلم، زيداً، فلقيهم على ماء يقال له الفردة، فأصاب العير وما فيها، وأعجزه الرجال، فقدم بها على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وكان الخمس عشرين ألفاً، وقسم الأربعة الأخماس على السوية، وأتي بفرات بن حيان أسيراً فأسلم، فأطلقه رسول الله، صلى الله عليه وسلم. الفردة: ماء بنجد، وقد اختلف العلماء في ضبطه، فقيل فردة بالفاء المفتوحة والراء الساكنة، وبه مات زيد الخيل، ويرد ذكره، وضبطه ابن الفرات في غير موضع قردة بالقاف، وقال ابن إسحاق: وسير زيد بن حارثة إلى الفردة، ماء من مياه نجد، ضبطه ابن الفرات أيضاً بفتح الفاء والراء، فإن كانا مكانين وإلا فقط ضبط ابن الفرات أحدهما خطأ. ذكر قتل أبي رافع
في هذه السنة في جمادي الآخرة قتل أبو رافع سلام بن أبي الحقيق اليهودي، وكان يظاهر كعب بن الأشرف على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فلما قتل كعب بن الأشرف، وكان قتلته من الأوس، قالت الخزرج: والله لا يذهبون بها علينا عند رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وكانا يتصاولان تصاول الفحلين، فتذاكر الخزرج من يعادي رسول الله، صلى الله عليه وسلم، كابن الأشرف، فذكروا ابن أبي الحقيق، وهو بخيبر، فاستأذنوا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في قتله، فأذن لهم، فخرج إليه من الخزرج عبد الله بن عتيك ومسعود بن سنان وعبد الله بن أنيس وأبو قتادة وخزاعي بن الأسود حليف لهم وأمر عليهم عبد الله بن عتيك، فخرجوا حتى قدموا خيبر فأتوا دار أبي رافع ليلاً، فلم يدعوا باباً في الدار إلا أغلقوه على أهله، وكان في علية فاستأذنوا عليه، فخرجت امرأته فقالت: من أنتم ؟ قالوا: نفر من العرب يلتسمون الميرة. قالت: ذاك صاحبكم فادخلوا عليه، فدخلوا. فلما دخلوا أغلقوا باب العلية ووجدوه على فراشه وابتدروه، فصاحت المرأة، فجعل الرجل منهم يريد قتلها، فيذكر نهي النبي، صلى الله عليه وسلم، إياهم عن قتل النساء والصبيان، فيمسك عنها، وضربوه بأسيافهم، وتحامل على عبد الله بن أنيس بسيفه في بطنه حتى أنفذه، ثم خرجوا من عنده. وكان عبد الله بن عتيك سيئ البصر، فوقع من الدرجة فوثئت رجله وثأً شديداً، فاحتملوه واختفوا، وطلبتهم يهود في كل وجه فلم يروهم، فرجعوا إلى صاحبهم، فقال المسلمون: كيف نعلم أن عدو الله قد مات ؟ فعاد بعضهم ودخل في الناس فرأى الناس حوله وهو يقول: لقد عرفت صوت ابن عتيك، ثم قلت: أين ابن عتيك ؟ ثم صاحت امرأته وقالت: مات والله. قال: فما سمعت كلمة ألذ إلى نفسي منها. ثم عاد إلى أصحابه وأخبرهم الخبر وسمع صوت الناعي يقول: أنعى أبا رافع تاجر أهل الحجاز. وساروا حتى قدموا على النبي، صلى الله عليه وسلم، واختلفوا في قتله. فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: هاتوا أسيافكم، فجاؤوا بها، فنظر إليها فقال لسيف عبد الله بن أنيس: هذا قتله، أرى فيه أثر العظام. وقيل في قتله: إن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بعث إلى أبي رافع اليهودي، وكان بأرض الحجاز، رجالاً من الأنصار وأمر عليهم عبد الله بن عتيك، وكان أبو رافع يؤذي رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فلما دنوا منه غربت الشمس وراح الناس بسرجهم، فقال عبد الله بن عتيك لأصحابه: أقيموا مكانكم فإني أنطلق وأتلطف للبواب لعلي أدخل. فانطلق فأقبل حتى دنا من الباب فتقنع بثوبه كأنه يقضي حاجته، فهتف به البواب: إن كنت تريد أن تدخل فادخل فإني أريد أن أغلق الباب، فدخل وأغلق الباب وعلق المفاتيح على وتد، قال: فقمت فأخذتها ففتحت بها الباب، وكان أبو رافع يسمر عنده في علالي. فلما أراد النوم ذهب عنه السمار، فصعدت إليه فجعلت كلما فتحت باباً أغلقته علي من داخل، فقلت: إن علموا بي لم يخلصوا إلي حتى أقتله. قال: فانتهيت إليه فإذا هو في بيت مظلم وسط عياله لا أدري أين هو. فقلت: أبا رافع ؟! قال: من هذا ؟ فأهويت نحو الصوت فضربته ضربة بالسيف وأنا دهشٌ، فما أغنى عني شيئاً وصاح، فخرجت من البيت غير بعيد ثم دخلت عليه فقلت: ما هذا الصوت ؟ قال: لأمك الويل! إن رجلاً في البيت ضربني بالسيف. قال: فضربته بأثخنته فلم أقتله، ثم وضعت حد السيف في بطنه حتى أخرجته من ظهره، فعرفت أني قتلته فجعلت أفتح الأبواب وأخرج حتى انتهيت إلى درجة فوضعت رجلي وأنا أظن أني انتهيت إلى الأرض، فوقعت في ليلة مقمرة وانكسرت ساقي فعصبتها بعمامتي وجلست عند الباب فقلت: والله لا أبرح حتى أعلم أقتلته أم لا. فلما صاح الديك قام الناعي فقال: أنعى أبا رافع تاجر أهل الحجاز، فانطلقت إلى أصحابي فقلت: النجاء ! قد قتل الله أبا رافع، فانتهيت إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، فحدثته. قال: ابسط رجلك. فبسطتها فمسحها فكأني لم أشتكها قط. قيل: كان قتل أبي رافع في ذي الحجة سنة أربع من الهجرة، والله أعلم. سلام بتشديد اللام. وحقيق بضم الحاء المهملة، وفتح القاف الأولى، تصغير حق.
وفيها تزوج رسول الله، صلى الله عليه وسلم، حفصة بنت عمر بن الخطاب في شعبان، وكانت قبله تحت خنيس بضم الخاء المعجمة، وبالنون المفتوحة، وبالياء المعجمة باثنتين من تحت، وبالسين المهملة وهو ابن حذافة السهمي، فتوفى فيها. ذكر غزوة أحدوفيها في شوال لسبع ليالٍ خلون منه كانت وقعة أحد، وقيل للنصف، وكان الذي هاجها وقعة بدر، فإنه لما أصيب من المشركين من أصيب ببدر مشى عبد الله بن أبي ربيعة وعكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية وغيرهم ممن أصيب آباؤهم وأبناؤهم وإخوانهم بها، فكلموا أبا سفيان ومن كان له في تلك العير تجارة وسألوهم أن يعينوهم بذلك المال على حرب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ليدركوا ثأرهم منهم، ففعلوا وتجهز الناس وأرسلوا أربعة نفر، وهم: عمرو بن العاص، وهبيرة بن وهب، وأبن الزبعرى، وأبو عزة الجمحي، فساروا في العرب ليستنفروهم، فجمعوا جمعاً من ثقيف وكنانة وغيرهم، واجتمعت قريش بأحابيشها ومن أطاعها من قبائل كنانة وتهامة، ودعا جبير بن مطعم غلامه وحشي بن حرب، وكان حبشياً يقذف بالحربة قل ما يخطئ، فقال له: اخرج مع الناس فإن قتلت عم محمد بعمي طعيمة بن عدي فأنت عتيق. وخرجوا معهم بالظعن لئلا يفروا، وكان أبو سفيان قائد الناس، فخرج بزوجته هند بنت عتبة، وغيره من رؤساء قريش خرجوا بنسائهم، خرج عكرمة بن أبي جهل بزوجته أم حكيم بنت الحارث بن هشام، وخرج الحارث بن المغيرة بفاطمة بنت الوليد بن المغيرة أخت خالد، وخرج صفوان بن أمية ببريرة، وقيل برزة بنت مسعود الثقفية أخت عروة بن مسعود، وهي أم ابنه عبد الله بن صفوان، وخرج عمرو بن العاص بريطة بنت منبه بن الحجاج، وهي أم ولده عبد الله بن عمرو، وخرج طلحة بن أبي طلحة بسلافة بنت سعد، وهي أم بنيه مسافع والحلاس وكلاب وغيرهم. وكان مع النساء الدفوف يبكين على قتلى بدر يحرضن بذلك المشركين. وكان مع المشركين أبو عامر الراهب الأنصاري، وكان خرج إلى مكة مباعداً لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، ومعه خمسون غلاماً من الأوس، وقيل كانوا خمسة عشر، وكان يعد قريشاً أنه لو لقي محمداً لم يتخلف عنه من الأوس رجلان. فلما التقى الناس بأحد كان أبو عامر أول من لقي في الأحابيش وعبدان أهل مكة، فنادى: يا معشر الأوس أنا أبو عامر. فقالوا: فلا أنعم الله بك عيناً يا فاسق ! فقال: لقد أصاب قومي بعدي شر قاتلهم قتالاً شديداً حتى راضخهم بالحجارة. وكانت هند كلما مرت بوحشي أو مر بها قالت له: يا أبا دسمة اشف واستشف، وكان يكنى أبا دسمة. فأقبلوا حتى نزلوا بعينين بجبل ببطن السبخة من قناة على شفير الوادي مما يلي المدينة. فلما سمع بهم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، والمسلمون قال: إني رأيت بقراً فأولتها خيراً، ورأيت في ذباب سيفي ثلماُ، ورأيت أني أدخلت يدي في درع حصينة فأولتها المدينة، فإن رأيتم أن تقيموا بالمدينة وتدعوهم فإن أقاموا بشر مقام وإن دخلوا علينا قاتلناهم فيها. وكان رأي عبد الله بن أبي بن سلول مع رأي رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يكره الخروج، وأشار بالخروج جماعةٌ ممن استشهد يومئذٍ. وأقامت قريش يوم الأربعاء والخميس والجمعة، وخرج رسول الله، صلى الله عليه وسلم، حين صلى الجمعة فالتقوا يوم السبت نصف شوال. فلما لبس رسول الله، صلى الله عليه وسلم، سلاحه وخرج ندم الذين كانوا أشاروا بالخروج إلى قريش وقالوا: استكرهنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ونشير عليه، فالوحي يأتيه فيه، فاعتذروا إليه وقالوا: اصنع ما شئت. فقال: لا ينبغي لنبي أن يلبس لامته فيضعها حتى يقاتل.
فخرج في ألف رجل، واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم، فلما كان بين المدينة وأحد عاد عبد الله بن أبي بثلث الناس، فقال: أطاعهم وعصاني، وكان من تبعه أهل النفاق والريب، واتبعهم عبد الله بن حرام أخو بني سلمة يذكرهم الله أن لا يخذلوا نبيهم، فقالوا: لو نعلم أنكم تقاتلون ما أسلمناكم، وانصرفوا. فقال: أبعدكم الله أعداء الله ! فسيغني الله عنكم ! وبقي رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في سبعمائة، فسار في حرة بني حارثة وبين أموالهم، فمر بمال رجل من المنافقين يقال له مربع بن قيظي، وكان ضرير البصر، فلما سمع حس رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ومن معه قام يحثي التراب في وجوههم ويقول: إن كنت رسول الله فإني لا أحل لك أن تدخل حائطي، وأخذ حفنة من تراب في يده وقال: لو أعلم أني لا أصيب غيرك لضربت به وجهك. فابتدروه ليقتلوه، فقال النبي، صلى الله عليه وسلم: لا تفعلوا فهذا الأعمى البصر والقلب. فضربه سعد بن زيد بقوس فشجه. وذب فرس بذنبه فأصاب كلاب سيف صاحبه، فاستله، فقال له رسول الله، صلى الله عليه وسلم: سيوفكم، فإني أرى السيوف ستسل اليوم. وسار رسول الله، صلى الله عليه وسلم، حتى نزل بعدوة الوادي وجعل ظهره وعسكره إلى أحد، وكان المشركون ثلاثة آلاف، منهم سبعمائة دارع، والخيل مائتي فرس والظعن خمس عشرة امرأة، وكان المسلمون مائة دارع ولم يكن من الخيل غير فرسين، فرس لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، وفرس لأبي بردة بن نيار، وعرض رسول الله، صلى الله عليه وسلم، المقاتلة فرد زيد بن ثابت وابن عمر وأسيد بن ظهير والبراء بن عازب وعرابة بن أوس وأبا سعيد الخدري وغيرهم، وأجاز جابر بن سمرة ورافع بن خديج. وأرسل أبو سفيان إلى الأنصار يقول: خلوا بيننا وبين ابن عمنا فننصرف عنكم فلا حاجة بنا إلى قتالكم. فردوا عليه بما يكره. وتعبأ المشركون فجعلوا على ميمنتهم خالد بن الوليد، وعلى ميسرتهم عكرمة بن أبي جهل، وكان لواؤهم مع بني عبد الدار، فقال لهم أبو سفيان: إنما يؤتى الناس من قبل راياتهم، فإما أن تكفونا وإما أن تخلوا بيننا وبين اللواء، يحرضهم بذلك. فقالوا: ستعلم إذا التقينا كيف نصنع، وذلك أراد. واستقبل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، المدينة وترك أحد خلف ظهره وجعل وراءه الرمادة، وهم خمسون رجلاً، وأمر عليهم عبدالله بن جبير، أخا خوات بن جبير، وقال له: انضح عنا الخيل بالنيل لا يأتونا من خلفنا واثبت مكانك إن كانت لنا أو علينا. وظاهر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بين درعين وأعطى اللواء مصعب بن عمير، وأمر الزبير على الخيل ومع المقداد، وخرج حمزة بالجيش بين يديه. وأقبل خالد وعكرمة فلقيهما الزبير والمقداد فهزما المشركين، وحمل النبي، صلى الله عليه وسلم، وأصحابه فهزموا أبا سفيان، وخرج طلحة بن عثمان صاحب لواء المشركين وقال: يا معشر أصحاب محمد إنكم تزعمون أن الله يعجلنا بسيوفكم. إلى النار ويعجلكم بسيوفنا إلى الجنة، فهل أحد منكم يعجله سيفي إلى الجنة أو يعجلني سيفه إلى النار ؟ فبرز إليه علي بن أبي طالب، فضربه علي فقطع رجله، فسقط وانكشفت عورته، فناشده الله والرحم فتركه، فكبر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وقال لعلي: ما منعك أن تجهز عليه ؟ قال: إنه ناشدني الله والرحم فاستحييت منه. وكان بيد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، سيف، فقال: من يأخذه بحقه ؟ فقام إليه رجال، فأمسكه عنهم حتى قام أبو دجانة فقال: وما حقه يا رسول الله ؟ قال: تضرب به العدو حتى تثخن. قال: أنا آخذه. فأعطاه إياه. وكان شجاعاً، وكان إذا أعلم بعصابة له حمراء علم الناس أنه يقاتل، فعصب رأسه بها وأخذ السيف وجعل يتبختر بين الصفين. فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (إنها مشية يبغضها الله إلا في هذا الموطن)، فجعل لا يرتفع له شيء إلا حطمه حتى انتهى إلى نسوةٍ في سفح الجبل معهن دفوفٌ لهن فيهن امرأة تقول: نحن بنات طارق ... نمشي على النّمارق إن تقبلوا نعانق ... ونفرش النّمارق أو تدبروا نفارق ... فراق غير وامق وتقول أيضاً: إيها بني عبد الدّار ... إيها حماة الدّيار ضرباً بكلّ بتّار
فرفع السف ليضربها، ثم أكرم سيف الله، صلى الله عليه وسلم، أن يضرب به امرأة. وكانت المرأة هند، والنساء معها يضربن بالدفوف خلف الرجال يحرضن. واقتتل الناس قتالاً شديداً، وأمعن في الناس حمزة وعلي وأبو دجانة في رجال من المسلمين، وأنزل الله نصره على المسلمين، وكانت الهزيمة على المشركين، وهرب النساء مصعدات في الجبل، ودخل المسلمون عسكرهم ينهبون. فلما نظر بعض الرماة إلى العسكر حين انكشف الكفار عنه أقبلوا يريدون النهب، وثبتت طائفة وقالوا: نطيع رسول الله ونثبت مكاننا، فأنزل الله: (مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ) آل عمران: 152؛ يعني اتباع أمر رسول الله، صلى الله عليه وسلم. قال ابن مسعود: وما علمت أن أحداً من أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يريد الدنيا حتى نزلت الآية. فلما فارق بعض الرماة مكانهم رأى خالد بن الوليد قلة من بقي من الرماة، فحمل عليهم فقتلهم، وحمل على أصحاب النبي، صلى الله عليه وسلم، من خلفهم. فلما رأى المشركون خيلهم تقاتل تبادروا فشدوا على المسلمين فهزموهم وقتلوهم، وقد كان المسلمون قتلوا أصحاب اللواء، فبقي مطروحاً لا يدنو منه أحدٌ، فأخذته عمرة بنت علقمة الحارثية فرفعته، فاجتمعت قريش حوله، وأخذه صؤاب فقتل عليه، وكان الذي قتل أصحاب اللواء علي، قاله أبو رافع، قال: فلما قتلهم أبصر النبي، صلى الله عليه وسلم، جماعة من المشركين، فقال لعلي: احمل عليهم، ففرقهم وقتل فيهم، ثم أبصر جماعةً أخرى فقال له: احمل عليهم، فحمل عليهم وفرقهم وقتل فيهم، فقال جبرائيل: يا رسول الله هذه المؤاساة ؟! فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: إنه مني وأنا منه. فقال جبرائيل: وأنا منكما. قال: فسمعوا صوتاً: لا سيف إلا ذو الفقار، ولا فتىً إلا علي. وكسرت رباعية رسول الله، صلى الله عليه وسلم، السفلى وشقت شفته وكلم في وجنته وجبهته في أصول شعره، وعلاه بن قمئة بالسيف، وكان هو الذي أصابه، وقيل: أصابه عتبة بن وقاص، وقيل: عبد الله بن شهاب الزهري جد محمد بن مسلم. وقيل: إن عتبة بن أبي وقاص، وابن قمئة الليثي الأدرمي، من بني تيم بن غالب، وكان أدرم ناقص الذقن، وأبي بن خلف الجمحي، وعبد الله بن حميد الأسدي، أسد قريش، تعاقدوا على قتل رسول الله، صلى الله عليه وسلم؛ فأما ابن شهاب فأصاب جبهته، وأما عتبة فرماه بأربعة أحجار فكسر رباعتيه اليمنى وشق شفته، وأما ابن قمئة فكلم وجنته ودخل من حلق المغفر فيها وعلاه بالسيف فلم يطق أن يقطعه فسقط رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فجحشت ركبته، وأما أبي بن خلف فشد عليه بحربة، فأخذها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، منه وقتله بها، وقيل: بل كانت حربة الزبير أخذها منه، وقيل: أخذها من الحارث بن الصمعة، وأما عبد الله بن حميد فقتله أبو دجانة الأنصاري. ولما جرح رسول الله، صلى الله عليه وسلم، جعل الدم يسيل على وجه وهو يمسحه ويقول: كيف يفلح قومٌ خضبوا وجه نبيهم بالدم وهو يدعوهم إلى الله ! وقاتل دونه نفرٌ خمسة من الأنصار فقتلوا، وترس أبو دجانة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بنفسه، فكان يقع النبل في ظهره وهو منحنٍ عليه، ورمى سعد بن أبي وقاص دون رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فكان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يناوله السهم ويقول: ارم فداك أبي وأمي. وأصيبت يومئذ عين قتادة بن النعمان، فردها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بيده، فكانت أحسن عينيه. وقاتل مصعب بن عمير ومعه لواء المسلمين فقتل، قتله ابن قمئة الليثي، وهو يظن أنه النبي، صلى الله عليه وسلم، فرجع إلى قريش وقال: قتلت محمداً. فجعل الناس يقولون: قتل محمد، قتل محمد. ولما قتل مصعب أعطى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، اللواء علي بن أبي طالب. وقاتل حمزة حتى مر به سباع بن عبد العزى الغبشاني، فقال له حمزة: هلم إلي يا ابن مقطعة البظور ! وكانت أمه أم أنمار ختانة بمكة فلما التقيا ضربه حمزة فقتله، قال وحشي، إني والله لأنظر إلى حمزة وهو يهذ الناس بسيفه هذا ما يلقى شيئاً يمر به إلا قتله، وقتل سباع بن عبد العزى. قال: فهززت حربتي ودفعتها عليه فوقعت في ثنته حتى خرجت من بين رجليه وأقبل نحوي فغلب فوقع، فأمهلته حتى مات فأخذت حربتي ثم تنحيت إلى العسكر، فرضي الله عن حمزة وأرضاه.
وقتل عاصم بن ثابت مسافع بن طلحة وأخاه كلاب بن طلحة بسهمين، فحملا إلى أمها سلافة وأخبراها أن عاصماً قتلهما، فنذرت إن أمكنها الله من رأسه أن تشرب فيه الخمر. وبرز عبد الرحمن بن أبي بكر، وكان مع المشركين، وطلب المبارزة، فأراد أبو بكر أن يبرز إليه، فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: شم سيفك وأمتعنا بك. وانتهى أنس بن النضر، عم أنس بن مالك، إلى عمر وطلحة في رجال من المهاجرين قد ألقوا بأيديهم، فقال: ما يحبسكم قالوا: قد قتل النبي، صلى الله عليه وسلم. قال: فما تصنعون بالحياة بعده ! قوموا فموتوا على ما مات عليه. ثم استقبل القوم فقاتل حتى قتل، فوجد به سبعون ضربة وطعنة، وما عرفه إلا أخته، عرفته بحسن بنانه. وقيل: إن أنس بن النضر سمع نفراً من المسلمين يقولون، لما سمعوا أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قتل: ليت لنا من يأتي عبد الله بن أبي بن سلول ليأخذ لنا أماناً من أبي سفيان قبل أن يقتلونا. فقال لهم أنس: يا قوم إن كان محمد قد قتل فإن رب محمد لم يقتل، فقاتلوا على ما قاتل عليه محمد. اللهم إني أعتذر إليك مما يقول هؤلاء وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء ! ثم قاتل حتى قتل. وكان أول من عرف رسول الله، صلى الله عليه وسلم، كعب بن مالك، قال: فناديت بأعلى صوتي: يا معشر المسلمين أبشروا ! هذا رسول الله حي لم يقتل، فأشار إليه: أنصت. فلما عرفه المسلمون نهضوا نحو الشعب ومعه علي وأبو بكر وعمر وطلحة والزبير والحارث بن الصمة وغيرهم. فلما أسند إلى الشعب أدركه أبي بن خلف وهو يقول: يا محمد لا نجوت إن نجوت ! فعطف عليه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فطعنه بالحربة في عنقه، وكان أبي يقول بمكة لرسول الله، صلى الله عليه وسلم: إن عندي العود أعلفه كل يوم فرقاً من ذرة أقتلك عليه. فيقول له النبي، صلى الله عليه وسلم: بل أنا أقتلك إن شاء الله تعالى. فلما رجع إلى قريش وقد خدشه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، خدشاً غير كبير قال: قتلني محمد. قالوا: والله ما بك بأسٌ. قال: إنه قد كان قال لي أنا أقتلك، فوالله لو بصق علي لقتلني ! فمات عدو الله بسرف. وقاتل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يوم أحد قتالاً شديداً، فرمى بالنبل حتى فني نبله وانكسرت سية قوسه وانقطع وتره. ولما جرح رسول الله، صلى الله عليه وسلم، جعل علي ينقل له الماء في درقته من المهراس ويغسله، فلم ينقطع الدم، فأتت فاطمة وجعلت تعانقه وتبكي، وأحرقت حصيراً وجعلت على الجرح من رماده فانقطع الدم. ورمى مالك بن زهير الحشمي النبي، صلى الله عليه وسلم، فاتقاه طلحة بيده فأصاب السهم خنصره، وقيل: رماه حبان بن العرقة، فقال: حس، فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: لو قال: باسم الله، لدخل الجنة، والناس ينظرون إليه، إن يده شلت إلا السبابة والوسطى؛ والأول أثبت. وصعد أبو سفيان ومعه جماعة من المشركين في الجبل، فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: ليس لهم أن يعلونا، فقاتلهم عمر وجماعة من المهاجرين حتى أهبطوهم، ونهض رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إلى الصخرة ليعلوها، وكان عليه درعان، فلم يستطع، فجلس تحته طلحة حتى صعد، فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: أوجب طلحة. وانتهت الهزيمة بجماعة المسلمين، فيهم عثمان بن عفان وغيره، إلى الأعوص، فأقاموا به ثلاثاً ثم أتوا النبي، صلى الله عليه وسلم، فقال لهم حين رآهم: لقد ذهبتم فيها عريضة. والتقى حنظلة بن أبي عامر، غسيل الملائكة، وأبو سفيان بن حرب، فلما استعلاه حنظلة رآه شداد بن الأسود وهو ابن شعوب، فدعاه أبو سفيان، فأتاه، فضرب حنظلة فقتله، فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: إنه لتغسله الملائكة. فسلوا أهله فسئلت صاحبته فقالت: خرج وهو جنب، سمع الهائعة، فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لذلك غسلته الملائكة. وقال أبو سفيان يذكر صبره ومعاونة ابن شعوب إياه على قتل حنظلة: ولو شئت نجّتني كميت طمرّةٌ ... ولم أحمل النّعماء لابن شعوب فما زال مهري مزجر الكلب منهم ... لدن غدوةً حتى دنت لغروب أقاتلهم وأدّعي بال غالبٍ ... وأدفعهم عني بركن صليب فبكّي ولا ترعي مقالة عاذلٍ ... ولا تسأمي من عبرةٍ ونحيب
أباك وإخواناً لنا قد تتابعوا ... وحقّ لهم من عبرةٍ بنصيب وسلّى الذي قد كان في النفس أنّني ... قتلت من النّجّار كلّ نجيب ومن هاشمٍ قرناً نجيباً ومصعباً ... وكان لدى الهيجاء غير هيوب ولو أنّني لم أشف منهم قرونتي ... لكانت شجاً في القلب ذات ندوب فأجابه حسان بقوله: ذكرت القروم الصّيد من آل هاشم ... ولست لزورٍ قلته بمصيب أتعجب أن أقصدت حمزة منهم ... عشاء وقد سمّيته بنجيب ألم يقتلوا عمراً وعتبة وابنه ... وشيبة والحجّاج وابن حبيب غداة دعا العاصي علياً فراعه ... بضربة عضبٍ بلّه بخضيب ووقعت هند وصواحباتها على القتلى يمثلن بهم، واتخذت هند من آذان الرجال وآنافهم خدماً وقلائد، وأعطت خدمها وقلائدها وحشياً، وبقرت عن كبد حمزة فلاكتها فلم تستطع أن تسيغها فلفظتها. ثم أشرف أبو سفيان على المسلمين فقال: أفي القوم محمد ؟ ثلاثاً، فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: لا تجيبوه. ثم قال: أفي القوم ابن أبي قحافة ؟ ثلاثاً. ثم قال: أفي القوم ابن الخطاب؟ ثلاثاً. ثم التفت إلى أصحابه فقال: أما هؤلاء فقد قتلوا. فقال عمر: كذبت أي عدو الله قد أبقى الله لك ما يخزيك. فقال: اعل هبل، اعل هبل. فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: قولوا الله أعلى وأجل. فقال أبو سفيان: إنا لنا العزى ولا عزى لكم. فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: قولوا الله مولانا ولا مولى لكم. فقال أبو سفيان: أنشدك الله يا عمر أقتلنا محمداً ؟ قال عمر: اللهم لا، وإنه ليسمع كلامك. فقال: أنت أصدق من ابن قمئة ! ثم قال: هذا بيوم بدر، والحرب سجال، أما إنكم ستجدون في قتلاكم مثلاً، والله ما رضيت ولا سخطت ولا نهيت ولا أمرت واجتاز به الحيس بن زبان سيد الأحابيش وهو يضرب في شدق حمزة بزج الرمح ويقول: ذق عقق ! فقال الحليس: يا بني كنانة هذا سيد قريش يصنع بابن عمه كما ترون. فقال أبو سفيان: اكتمها عني فإنها زلة. وكانت أم أيمن حاضنة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ونساء من الأنصار يسقين الماء، فرماها حبان بن العرقة بسهم فأصاب ذيلها، فضحك، فدفع النبي، صلى الله عليه وسلم، إلى سعد بن أبي وقاص سهماً وقال: ارمه. فرماه فأصابه، فضحك النبي، صلى الله عليه وسلم، وقال: استقاد لها سعد، أجاب الله دعوتك وسدد رميتك. ثم انصرف أبو سفيان ومن معه وقال: إن موعدكم العام المقبل. ثم بعث رسول الله، صلى الله عليه وسلم، علياً في أثرهم وقال: انظر فإن جنبوا الخيل وامتطوا الإبل فإنهم يريدون مكة، وإن ركبوا الخيل فإنهم يريدون المدينة، فوالذي نفسي بيده لئن أرادوها لأناجزنهم. قال علي: فخرجت في أثرهم، فامتطوا الإبل وجنبوا الخيل يريدون مكة، فأقبلت أصيح ما أستطيع أن أكتم، وكان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أمره بالكتمان. وأمر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، رجلاً أن ينظر في القتلى، فرأى سعد بن الربيع الأنصاري وبه رمق، فقال للذي رآه: أبلغ رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عني السلام وقل له جزاك الله خير ما جزى نبياً عن أمته، وأبلغ قومي السلام وقل لهم لا عذر لكم عند الله إن خلص إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أذىً وفيكم عين تطرف. ثم مات. ووجد حمزة ببطن الوادي قد بقر بطنه عن كبده ومثل به، فحين رآه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: لولا أن تحزن صفية أو تكون سنة بعدي لتركته حتى يكون في أجواف السباع وحواصل الطير، ولئن أظهرني الله على قريش لأمثلن بثلاثين رجلاً منهم. وقال المسلمون: لنمثلن بهم مثلةً لم يمثلها أحد من العرب، فأنزل الله في ذلك: (وَإنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ) الآية النحل: 126، فعفا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وصبر ونهى عن المثلة.
وأقبلت صفية بنت عبد المطلب، فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لابنها الزبير ليردها لئلا ترى ما بأخيها حمزة، فلقيها الزبير فأعلمها بأمر النبي، صلى الله عليه وسلم، فقالت: إنه بلغني أنه مثل بأخي وذلك في الله قليل ! فما أرضانا بما كان من ذلك ! لأحتسبن ولأصبرن. فأعلم الزبير النبي، صلى الله عليه وسلم، بذلك، فقال: خل سبيلها، فأتته وصلت عليه واسترجعت، وأمر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، به فدفن. وكان في المسلمين رجلٌ اسمه قزمان، وكان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول إنه من أهل النار، فقاتل يوم أحد قتالاً شديداً، فقتل من المشركين ثمانية أو تسعة، ثم جرح فحمل إلى داره، وقال له المسلمون: أبشر قزمان ! قال: بم أبشر، وأنا ما قاتلت إلا عن أحساب قومي ؟ ثم اشتد عليه جرحه فأخذ سهماً فقطع رواهشه فنزف الدم، فمات، فأخبر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقال: أشهد أني رسول الله. وكان ممن قتل يوم أحد مخيريق اليهودي، قال ذلك اليوم ليهود: يا معشر يهود، لقد علمتم أن نصر محمد عليكم حق. فقالوا: إن اليوم السبت. فقال: لا سبت، وأخذ سيفه وعدته وقال: إن قتلت فما لي لمحمد يصنع به ما يشاء، ثم غدا فقاتل حتى قتل، فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: مخيريق خير يهود. وقتل اليمان أبو حذيفة، قتله المسلمون، وكان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، رفعه وثابت بن قيس بن وقش مع النساء، فقال أحدهما لصاحبه، وهما شيخان: ما ننتظر ؟ أفلا نأخذ أسيافنا فنلحق برسول الله، صلى الله عليه وسلم ؟ لعل الله يرزقنا الشهادة. ففعلا ودخلا في الناس ولا يعلم بهما، فأما ثابت فقتله المشركون، وأما اليمان فاختلفت عليه سيوف المسلمين فقتلوه ولا يعرفونه، فقال حذيفة: أبي أبي ؟! فقالوا: والله ما عرفناه. فقال: يغفر الله لكم. وأراد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أن يديه، فتصدق حذيفة بديته على المسلمين. واحتمل بعض النساء قتلاهم إلى المدينة، فأمر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بدفنهم حيث صرعوا، وأمر أن يدفن الاثنان والثلاثة في القبر الواحد، وأن يقدم إلى القبلة أكثرهم قرآناً، وصلى عليهم، فكان كلما أتي بشهيد جعل حمزة معه وصلى عليهما، وقيل: كان يجمع تسعة من الشهداء وحمزة عاشرهم فيصلي عليهم، ونزل في قبره علي وأبو بكر وعمر والزبير، وجلس رسول الله، صلى الله عليه وسلم، على حفرته وأمر أن يدفن عمرو بن الجموح وعبد الله بن حرام في قبر واحد، وقال: كانا متصافيين في الدنيا. فلما دفن الشهداء انصرف رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فلقيته حمنة بنت جحش، فنعى لها أخاها عبد الله، فاسترجعت له، ثم نعى لها خالها حمزة، فاستغفرت له، ثم نعى لها زوجها مصعب بن عمير، فولولت وصاحت، فقال: إن زوج المرأة منها لبمكان. ومر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بدار من دور الأنصار فسمع البكاء والنوائح، فذرفت عيناه فبكى وقال: لكن حمزة لا بواكي له ؟! فرجع سعد بن معاذ إلى دار عبد الأشهل فأمر نساءهم أن يذهبن فيبكين على حمزة. ومر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بامرأة من الأنصار قد أصيب أبوها وزوجها، فلما نعيا لها قالت: ما فعل رسول الله، صلى الله عليه وسلم ؟ قال: هو بحمد الله كما تحبين. قالت: أرونيه، فلما نظرت إليه قالت: كل مصيبة بعدك جللٌ. وكان رجوعه إلى المدينة يوم السبت يوم الوقعة. ينار بالنون المكسورة، والياء تحتها نقطتان، وآخره راء. وجبير بضم الجيم، تصغير جبر. وخوات بالخاء المعجمة، والواو المشددة، وبعد الألف تاء فوقها نقطتان. وحبان بكسر الحاء المهملة، وبالباء الموحدة، وآخره نون. والحليس بضم الحاء المهملة، تصغير حلس. وزبان بالزاي، والباء الموحدة وآخره نون. ذكر غزوة حمراء الأسد
لما كان الغد من يوم الأحد أذن مؤذن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بالغزو وقال: لا يخرج معنا إلا من حضر بالأمس، فخرج ليظن الكفار به قوة، وخرج معه جماعة جرحى يحملون نفوسهم وساروا حتى بلغوا حمراء الأسد، وهي من المدينة على سبعة أميال، فأقام بها الاثنين والثلاثاء والأربعاء، ومر به معبد الخزاعي، وكانت خزاعة مسلمهم ومشركهم عيبة نصح لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، بتهامة، وكان معبد مشركاً، فقال: يا محمد لقد عز علينا ما أصابك. ثم خرج من عند النبي، صلى الله عليه وسلم، فلقي أبا سفيان ومن معه بالروحاء قد أجمعوا الرجعة إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ليستأصلوا المسلمين بزعمهم، فلما رأى أبو سفيان معبداً قال: ما وراءك ؟ قال: محمد قد خرج في أصحابه يطلبكم في جمع لم أر مثله، قد جمع معه من تخلف عنه وندموا على ما صنعوا، وما ترحل حتى ترى نواصي الخيل. قال: فوالله قد أجمعنا الرجعة لنستأصل بقيتهم. قال: إني أنهاك عن هذا، فثنى ذلك أبا سفيان ومن معه. ومر بأبي سفيان ركب من عبد القيس فقال لهم: بلغوا عني محمداً رسالة وأحمل لكم إبلكم هذه زبيباً بعكاظ. قالوا: نعم. قال: أخبروه أنا قد أجمعنا السير إليه وإلى أصحابه لنستأصلهم. فمروا بالنبي، صلى الله عليه وسلم، وهو بحمراء الأسد فأخبروه، فقال صلى الله عليه وسلم: حسبنا الله ونعم الوكيل. ثم عاد إلى المدينة وظفر في طريقه بمعاوية بن المغيرة بن أبي العاص، وبأبي عزة عمرو بن عبيد الله الجمحي، وكان قد تخلف عن المشركين بحمراء الأسد، ساروا وتركوه نائماً، وكان أبو عزة قد أسر يوم بدر، فأطلقه رسول الله، صلى الله عليه وسلم بغير فداء لأنه شكا إليه فقراً وكثرة عيال، فأخذ رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عليه العهود أن لا يقاتله ولا يعين على قتاله، فخرج معهم يوم أحد وحرض على المسلمين، فلما أتي به رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال له: يا محمد امنن علي. قال: المؤمن لا يلدغ من حجر مرتين. وأمر به فقتل. وأما معاوية بن المغيرة بن أبي العاص بن أمية، وهو الذي جدع أنف حمزة ومثل به مع من مثل به، وكان قد أخطأ الطريق، فلما أصبح أتى دار عثمان بن عفان، فلما رآه قال له عثمان: أهلكتني وأهلكت نفسك. فقال: أنت أقربهم مني رحماً وقد جئتك لتجيرني. وأدخله عثمان داره، وقصد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ليشفع فيه، فسمع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول: إن معاوية بالمدينة فاطلبوه؛ فأخرجوه من منزل عثمان، وانطلقوا به إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، فقال عثمان: والذي بعثك بالحق ما جئت إلا لأطلب له أماناً فهبه لي، فوهبه له وأجله ثلاثة أيام وأقسم لئن أقام بعدها ليقتلنه، فجهزه عثمان وقال له: ارتحل. وسار رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إلى حمراء الأسد وأقام معاوية ليعرف أخبار النبي، صلى الله عليه وسلم، فلما كان اليوم الرابع قال النبي، صلى الله عليه وسلم: إن معاوية أصبح قريباً ولم يبعد، فاطلبوه، فطلبه زيد بن حارثة وعمار فأدركاه بالحماة فقتلاه. وهذا معاوية جد عبد الملك بن مروان بن الحكم لأمه. وفيها قيل ولد الحسن بن علي في النصف من شهر رمضان. وفيها علقت فاطمة بالحسين، وكان بين ولادتها وحملها خمسون يوماً. وفيها حملت جميلة بنت عبد الله بن أبي عامر غسيل الملائكة في شوال. ؟ ودخلت السنة الرابعة من الهجرة ذكر غزوة الرجيع
في هذه السنة في صفر كانت غزوة الرجيع. وكان سببها أن رهطاً من عضل والقارة قدموا على النبي، صلى الله عليه وسلم، فقالوا: إن فينا إسلاماً فابعث لنا نفراً يفقهوننا في الدين ويقرئوننا القرآن. فبعث معهم ستة نفر وأمر عليهم عاصم بن ثابت، وقيل: مرثد بن أبي مرثد، فلما كانوا بالهدأة غدروا واستصرخوا عليهم حياً من هذيل يقال لهم بنو لحيان، فبعثوا لهم مائة رجل، فالتجأ المسلمون إلى جبل فاستنزلوهم وأعطوهم العهد، فقال عاصم: والله لا أنزل على عهد كافر، اللهم خبر نبيك عنا ! وقاتلهم هو مرثد وخالد بن البكير، ونزل إليهم ابن الدثنة وخبيب بن عدي ورجل آخر فأوثقوهم، فقال الرجل الثالث: هذا أول الغدر، والله لا أتبعكم ! فقتلوه وانطلقوا بخبيب وابن الدثنة فباعوهما بمكة، فأخذ خبيباً بنو الحارث بن عامر بن نوفل، وكان خبيب هو الذي قتل الحارث بأحد، فأخذوه ليقتلوه بالحارث، فبينما خبيب عند بنات الحارث استعار من بعضهن موسى يستحد بها للقتل، فدب صبي لها فجلس على فخذ خبيب والموسى في يده، فصاحت المرأة، فقال خبيب: أتخشين أن أقتله ؟ إن الغدر ليس من شأننا. فكانت المرأة تقول: ما رأيت أسيراً خيراً من خبيب، لقد رأيته وما بمكة ثمرة وإن في يده لقطفاً من عنب يأكله ما كان إلا رزقاً رزقه الله خبيباً. فلما خرجوا من الحرم بخبيب ليقتلوه قال: ردوني أصل ركعتين، فتركوه، فصلاهما، فجرت سنة لمن قتل صبراً، ثم قال خبيب: لولا أن تقولوا جزع لزدت، وقال أبياتاً، منها: ولست أبالي حين أقتل مسلماً ... على أيّ شيء كان في الله مصرعي وذلك في ذات الإله وإن يشأ ... يبارك على أوصال شلوٍ ممزّع اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً ! ثم صلبوه. وأما عاصم بن ثابت فإنهم أرادوا رأسه ليبيعوه من سلافة بنت سعد، وكانت نذرت أن تشرب الخمر في رأس عاصم لأنه قتل ابنيها بأحد، فجاءت النحل فمنعته، فقالوا: دعوه حتى يمسي فنأخذه. فبعث الله الوادي فاحتمل عاصماً، وكان عاهد الله أن لا يمس مشركاً ولا يمسه مشرك، فمنعه الله في مماته كما منع في حياته. وأما ابن الدثنة فإن صفوان بن أمية بعث به مع غلامه نسطاس إلى التنعيم ليقتله بابنيه، فقال نسطاس: أنشدك الله أتحب أن محمداً الآن عندنا مكانك نضرب عنقه وأنك في أهلك ؟ قال: ما أحب أن محمداً الآن مكانه الذي هو فيه شوكة تؤذيه وأنا جالسٌ في أهلي. فقال أبو سفيان: ما رأيت من الناس أحداً يجب أحداً كحب أصحاب محمد محمداً. ثم قتله نسطاس. خبيب بضم الخاء المعجمة، وفتح الباء الموحدة، بعدها ياء تحتها نقطتان، وآخره باء موحدة أيضاً. والبكير بضم الباء الموحدة، تصغير بكر. ذكر إرسال عمرو بن أمية لقتل أبي سفيانولما قتل عاصم وأصحابه بعث رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عمرو ابن أمية الضمري إلى مكة مع رجل من الأنصار وأمرهما بقتل أبي سفيان بن حرب، قال عمرو: فخرجت أنا ومعي بعير لي وبرجل صاحب علةٌ، فكنت أحمله على بعيري حتى جئنا بطن يأجج، فعقلنا بعيرنا في الشعب وقلت لصاحبي: انطلق بنا إلى أبي سفيان لنقتله، فإن خشيت شيئاً فاحلق بالبعير فاركبه والحق برسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأخبره الخبر عني. وأوغل بالبلد يحث السياق.
فدخلنا مكة ومع يخنجر قد أعددته إن عاقني إنسان ضربته به، فقال لي صاحبي: هل لك أن نبدأ فنطوف ونصلي ركعتين ؟ فقلت: إن أهل مكة يجلسون بأفنيتهم وأنا أعرف بها. فلم نزل حتى أتينا البيت فطفنا وصلينا ثم خرجنا فمررنا بمجلس لهم، فعرفني بعضهم فصرخ بأعلى صوته: هذا عمرو بن أمية ! فثار أهل مكة إلينا وقالوا: ما جاء إلا لشر، وكان فاتكاً متشيطناً في الجاهلية، فقلت لصاحبي: النجاء ! هذا الذي كنت أحذر، أما أبو سفيان فليس إليه سبيل، فانج بنفسك. فخرجنا نشتد حتى صعدنا الجبل فدخلنا غاراً فبتنا فيه ليلتنا ننتظر أن يسكن الطلب. قال: فوالله إني لفيه إذ أقبل عثمان بن مالك التيمي يختل بفرس له، فقام على باب الغار، فخرجت إيه فضربته بالخنجر، فصاح صيحةً أسمع أهل مكة، فأقبلوا إليه ورجعت إلى مكاني، فوجدوه وبه رمق، فقالوا: من ضربك ؟ قال: عمرو بن أمية، ثم مات ولم يقدر يخبرهم بمكاني، وشغلهم قتل صاحبهم عن طلبي، فاحتلموه ومكثنا في الغار يومين حتى سكن عنا الطلب، ثم خرجنا إلى التنعيم، فإذا بخشبة خبيب وحوله حرس، فصعدت خشبته واحتملته على ظهري، فما مشيت به إلا نحو أربعين خطوة حتى نذروا بي فطرحته، فاشتدوا في أثري، فأخذت الطريق فأعيوا ورجعوا، وانطلق صاحبي فركب البعير وأتى النبي، صلى الله عليه وسلم، فأخبره. وأما خبيب فلم ير بعد ذلك وكأن الأرض ابتلعته. قال: وسرت حتى دخلت غاراً بضجنان ومعي قوسي وأسهمي، فبينا أنا فيه إذ دخل علي رجل من بني الدئل أعور طويل يسوق غنماً فقال: من الرجل ؟ قلت: من بني الدئل، فاضطجع معي ورفع عقيرته يتغنى ويقول: وست بمسلمٍ ما دمت حيّاً ... ولست أدين دين المسلمينا ثم نام فقتله ثم سرت، فإذا رجلان بعثتهما قريش يتجسسان أمر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فرميت أحدهما بسهم فقتلته وأستأسرت الآخر، فقدمت على النبي، صلى الله عليه وسلم، وأخبرته الخبر، فضحك ودعا لي بخير. وفي هذه السنة تزوج رسول الله، صلى الله عليه وسلم، زينب بنت خزيمة أم المساكين من بني هلال في شهر رمضان، وكانت قبله عند الطفيل بن الحارث فطلقها. وولي المشركون الحج في هذه السنة. ذكر بئر معونةفي هذه السنة في صفر قتل جمع من المسلمين ببئر معونة. وكان سبب ذلك أن أبا براء بن عازب بن عامر بن مالك بن جعفر ملاعب الأسنة، سيد بني عامر بن صعصعة، قدم المدينة وأهدى للنبي، صلى الله عليه وسلم، هدية فلم يقبلها وقال: يا أبا براء لا أقبل هدية مشرك، ثم عرض عليه الإسلام فلم يبعد عنه ولم يسلم، وقال: إن أمرك هذا حسنٌ، فلو بعثت رجلاً من أصحابك إلى أهل نجد يدعوهم إلى أمرك لرجوت أن يستجيبوا لك. فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أخشى عليهم أهل نجد. فقال أبو براء: أنا لهم جارٌ. فبعث رسول الله، صلى الله عليه وسلم، سبعين رجلاً، فيهم: المنذر بن عمرو الأنصاري المعنق ليموت، والحارث بن الصمة، وحرام بن ملحان، وعامر بن فهيرة، وغيرهم، وقيل: كانوا أربعين، فساروا حتى نزلوا ببئر معونة بين أرض بني عامر وحرة بني سليم، فلما نزلوها بعثوا حرام بن ملحان بكتاب النبي، صلى الله عليه وسلم إلى عامر بن الطفيل، فلما أتاه لم ينظر إلى الكتاب وعدا على حرام فقتله، فلما طعنه قال: الله أكبر فزت ورب الكعبة ! واستصرخ بني عامر، فلم يجيبوه وقالوا: لن نخفر أبا براء، فقد أجارهم، فاستصرخ بني سليم: عصية ورعلاً وذكوان، فأجابوه وخرجوا حتى أحاطوا بالمسلمين فقاتلوهم حتى قتلوا عن آخرهم إلا كعب بن زيد الأنصاري، فإنهم تركوه وبه رمق، فعاش حتى قتل يوم الخندق.
وكان في سرح القوم عمرو بن أمية ورجل من الأنصار، فرأيا الطير تحوم على العسكر فقالا: إن لها شأناً، فأقبلا ينظران، فإذا صرعى، وإذا الخيل واقفة، فقال عمرو: نلحق برسول الله، صلى الله عليه وسلم، فنخبره الخبر. فقال الأنصاري: لا أرغب بنفسي عن موطن فيه المنذر بن عمرو، ثم قاتل القوم حتى قتل، فأخذوا عمرو بن أمية أسيراً. فلما علم عامر أنه من سعد أطلقه، وخرج عمرو حتى إذا كان بالقرقرة لقي رجلين من بني عامر فنلا معه ومعهما عقد من رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ولم يعلم به عمرو فقتلهما، ثم أخبر النبي، صلى الله عليه وسلم، الخبر، فقال له: لقد قتلت قتيلين لأدينهما. ثم قال رسول الله: هذا عمل أبي براء، فشق عليه ذلك. وكان فيمن قتل عامر بن فهيرة، فكان عامر بن الطفيل يقول: من الرجل منهم لما قتل رفع بين السماء والأرض ؟ قالوا: هو عامر بن فهيرة. وقال حسان بن ثابت يحرض بني أبي براء على عامر بن الطفيل: بني أمّ ألم يرعكم ... وأنتم من ذوائب أهل نجد تهكّم عامرٍ بأبي براء ... ليخفره وما خطأٌ كعمد في أبيات له. فقال كعب بن مالك: لقد طارت شعاعاً كلّ وجهٍ ... خفارة ما أجار أبو براء في أبيات أخرى. فلما بلغ ربيعة بن أبي براء ذلك حمل على عامر بن الطفيل فطعنه، فخر عن فرسه، فقال: إن مت فدمي لعمي. وأنزل الله عز وجل، في أهل بئر معونة قرآناً: بلغوا قومنا عنا أنا قد لقينا ربنا فرضي عنا ورضينا عنه، ثم نسخت. معونة بفتح الميم، وضم العين المهملة، وبعد الواو نون. وحرام بالحاء المهملة، والراء. وملحان بكسر الميم، وبالحاء المهملة. ذكر إجلاء بني النضيروكان سبب ذلك أن عامر بن الطفيل أرسل إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، يطلب دية العامريين اللذين قتلهما عمرو بن أمية، وقد ذكرنا ذلك. فخرج النبي، صلى الله عليه وسلم، إلى بني النضير يستعينهم فيها ومعه جماعة من أصحابه فيهم أبو بكر وعمر وعلي، فقالوا: نعم نعينك على ما أحببت، ثم خلا بعضهم ببعض وتآمروا على قتله، وهو جالسٌ إلى جنب جدار، فقالوا: من يعلو هذا البيت فيلقي عليه صخرة فيقتله ويريحنا منه ؟ فانتدب له عمرو بن جحاش، فنهاهم عن ذلك سلام بن مشكم وقال: هو يعلم، فلم يقبلوا منه، وصعد عمرو بن جحاش، فأتى الخبر من السماء إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بما عزموا عليه، فقام وقال لأصحابه: لا تبرحوا حتى آتيكم، وخرج راجعاً إلى المدينة، فلما أبطأ قام أصحابه في طلبه، فأخبرهم الخبر وأمر المسلمين بحربهم، ونزل بهم، فتحصنوا منه في الحصون، فقطع النخل وأحرق وأرسل إليهم عبد الله بنأبي وجماعة معه أن اثبتوا وتمنعوا فإنا لن نسلمكم وإن قوتلتم قاتلنا معكم وإن خرجتم خرجنا معكم، وقذف الله في قلوبهم الرعب، فسألوا النبي، صلى الله عليه وسلم، أن يجليهم ويكف عن دمائهم على أن لهم ما حملت الإبل من الأموال إلا السلاح، فأجابهم إلى ذلك، فخرجوا إلى خيبر ومنهم من سار إلى الشام، فكان ممن سار إلى خيبر كنانة بن الربيع وحيي بن أخطب، وكان فيهم يومئذ أم عمرو صاحبة عروة بن الورد التي ابتاعوا منه، وكانت غفارية. فكانت أموال النضير لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، وحده يضعها حيث شاء، فقسمها على المهاجرين الأولين دون الأنصار، إلا أن سهل بن حنيف وأبا دجانة ذكرا فقراً فأعطاهما. ولم يسلم من بني النضير إلا يامين بن عمير بن كعب، وهو ابن عم عمرو بن جحاش، وأبو سعيد بن وهب، وأحرزا أموالهما. واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم، وكا | |
|
| |
الشيخ عودة الشيخ عودة
عدد المساهمات : 1748 تاريخ التسجيل : 28/09/2008 العمر : 74
| موضوع: رد: كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير الجمعة فبراير 07, 2014 9:01 am | |
| ثم خرج حتى أتى قريشاً فقال لأبي سفيان ومن معه: قد عرفتم ودي إياكم وفراقي محمداً، وقد بلغني أن قريظة ندموا وقد أرسلوا إلى محمد: هل يرضيك عنا أن نأخذ من قريش وغطفان رجالاً من أشرافهم فنعطيكم فتضرب أعناقهم ثم نكون معك على من بقي منهم ؟ فأجابهم: أن نعم، فإن طلبت قريظة منكم رهناً من رجالكم فلا تدفعوا إليهم رجلاً واحداً. ثم خرج حتى أتى غطفان فقال: أنتم أهلي وعشيرتي. وقال لهم مثل ما قال لقريش وحذرهم. فلما كان ليلة السبت من شوال سنة خمسٍ كان مما صنع الله لرسوله أن أرسل أبو سفيان ورؤوس غطفان إلى قريظة عكرمة بن أبي جهل في نفر من قريش وغطفان وقالوا لهم: إنا لسنا بدار مقامٍ، قد هلك الخف والحافر فاغدوا للقتال حتى نناجز محمداً. فأرسلوا إليهم: إن اليوم السبت لا نعمل فيه شيئاً ولسنا نقاتل معكم حتى تعطونا رهناً ثقةً لنا فإنا نخشى أن ترجعوا إلى بلادكم وتتركونا والرجل ونحن ببلاده. فلما أبلغتهم الرسل هذا الكلام قالت قريش وغطفان: والله لقد صدق نعيم بن مسعود، فأرسلوا إلى قريظة: إنا والله لا ندفع إليكم رجلاً واحداً. فقالت قريظة عند ذلك: إن الذي ذكر نعيم بن مسعود لحقٌ. وخذل الله بينهم، وبعث الله عليهم ريحاً في ليالٍ شاتية شديدة البرد، فجعلت تكفأ قدورهم وتطرح أبنيتهم. فلما انتهى إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، اختلاف أمرهم دعا حذيفة بن اليمان ليلاً فقال: انطلق إليهم وانظر حالهم ولا تحدثن شيئاً حتى تأتينا. قال حذيفة: فذهبت فدخلت فيهم والريح وجنود الله تفعل فيهم ما تفعل لا يقر لهم قدر ولا بناء ولا نار. فقام أبو سفيان فقال: يا معشر قريش لينظر الرجل أمر جليسه، قال: فأخذت بيد الرجل الذي بجانبي فقلت: من أنت ؟ قال: أنا فلان، ثم قال أبو سفيان: والله لقد هلك الخف والحافر وأخلفتنا قريظة ولقينا من هذه الريح ما ترون، فارتحلوا فإني مرتحل. ثم قام إلى جمله وهو معقول فجلس عليه ثم ضربه فوثب على ثلاث قوائم، ولولا عهد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إي أن لا أحدث شيئاً لقتلته. قال حذيفة: فرجعت إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، وهو قائم يصلي في مرط لبعض نسائه، فأدخلني بين رجله وطرح علي طرف المرط، فلما سلم خبرته الخبر. وسمعت غطفان بما فعلت قريش فعادوا راجعين إلى بلادهم، فلما عادوا قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (الآن نغزوهم ولا يغزوننا). فكان كذلك حتى فتح الله مكة. ذكر غزوة بني قريظةلما أصبح رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عاد إلى المدينة ووضع المسلمون السلاح وضرب على سعد بن معاذ قبة في المسجد ليعوده من قريب، فلما كان الظهر أتى جبرائيل النبي، صلى الله عليه وسلم، فقال: أقد وضعت السلاح ؟ قال: نعم. قال جبرائيل: ما وضعت الملائكة السلاح، إن الله يأمرك بالمسير إلى بني قريظة وأنا عامد إليهم. فأمر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، منادياً فنادى: من كان سامعاً مطيعاً فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة. وقدم علياً إليهم برايته وتلاحق الناس، ونزل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأتاه رجال بعد العشاء الأخيرة فصلوا العصر بها، وما عابهم رسول الله، صلى الله عليه وسلم. وحاصر بني قريظة شهراً أو خمساً وعشرين ليلة، فما اشتد عليهم الحصار أرسلوا إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أن تبعث إلينا أبا لبابة بن عبد المنذر، وهو أنصاريٌ من الأوس، نستشيره، فأرسله، فلما رأوه قام إليه الرجال وبكى النساء والصبيان، فرق لهم، فقالوا: ننزل على حكم رسول الله. فقال: نعم، وأشار بيده إلى حلقه أنه الذبح. فال أبو لبابة: فما زالت قدماي حتى عرفت أني خنت الله ورسوله وقلت: والله لا أقمت بمكان عصيت الله فيه. وانطلق على وجهه حتى ارتبط في المسجد وقال: لا أبرح حتى يتوب الله علي. فتاب الله عليه وأطلقه رسول الله، صلى الله عليه وسلم.
ثم نزلوا على حكم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقال الأوس: يا رسول الله افعل في موالينا مثل ما فعلت في موالي الخزرج، يعني بني قينقاع، وقد تقدم ذكرهم. فقال: ألا ترضون أن يحكم فيهم سعد بن معاذ ؟ قالوا: بلى. فأتاه قومه فاحتملوه على حمار ثم أقبلوا معه إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وهم يقولون: يا أبا عمرو أحسن إلى مواليك. فلما كثروا عليه قال: قد آن لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم، فعلم كثير منهم أنه يقتلهم، فلما انتهى سعد إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: قوموا إلى سيدكم، أو قال: خيركم، فقاموا إليه وأنزلوه وقالوا: يا أبا عمرو أحسن إلى مواليك فقد رد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، الحكم فيهم إليك. فقال سعد: عليكم عهد الله وميثاقه، إن الحكم فيهم إلي ؟ قالوا: نعم، فالتفت إلى الناحية الأخرى التي فيها النبي، صلى الله عليه وسلم، وغض بصره عن رسول الله إجلالاً وقال: وعلى من ههنا العهد أيضاً ؟ فقالوا: نعم. وقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: نعم. قال: فإني أحكم أن تقتل المقاتلة وتسبى الذرية والنساء وتقسم الأموال، فقال له رسول الله، صلى الله عليه وسلم: لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة. ثم استنزلوا فحبسوا في دار بنت الحارث امرأة من بني النجار. ثم خرج رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إلى سوق المدينة فخندق بها خنادق ثم بعث إليهم فضرب أعناقهم فيها، وفيهم حيي بن أخطب وكعب بن أسد سيدهم، وكانوا ستمائة أو سبعمائة، وقيل: ما بين سبعمائة وثمانمائة، وأتي بحيي بن أخطب وهو مكتوف، فلما رأى النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: والله ما لمت نفسي في عداوتك ولكن من يخذل الله يخذل. ثم قال للناس: إنه لا بأس بأمر الله، كتابٌ وقدر وملحمة كتبت على بني إسرائيل. فأجلس وضربت عنقه. ولم تقتل منهم إلا امرأة واحدة قتلت بحدث أحدثته، وقتلت أرفة بنت عارضة منهم. وأسلم منهم ثعلبة بن سعية، وأسيد بن سعية، وأسد بن عبيد. ثم قسم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أموالهم، فكان للفارس ثلاثة أسهم، للفرس سهمان ولفارسه سهم، وللراجل ممن ليس له فرس سهم، وكانت الخيل ستة وثلاثين فرساً، وأخرج منها الخمس، وكان أول فيء وقع فيه السهمان والخمس. واصطفى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لنفسه ريحانة بنت عمرو بنخنافة من بني قريظة، فأراد أن يتزوجها فقالت: اتركني في ملكك فهو أخف علي وعليك. فلما انقضى أمر قريظة انفجر جرح سعد بن معاذ واستجاب الله دعاءه، وكان في خيمته التي في المسد، فحضره رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر وعمر، وقالت عائشة: سمعت بكاء أبي بكر وعمر عليه وأنا في حجرتي، وأما النبي، صلى الله عليه وسلم، فكان لا يبكي على أحد، كان إذا اشتد وجده أخذ بلحيته. وكان فتح قريظة في ذي القعدة وصدر ذي الحجة، وقتل من المسلمين في الخندق ستة نفر، وفي قريظة ثلاثة نفر. ودخلت سنة ست من الهجرة ذكر غزوة بني لحيان في جمادى الأولى منها خرج رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إلى بني لحيان يطلب بأصحاب الرجيع، خبيب بن عدي وأصحابه، وأظهر أنه يريد الشام ليصيب من القوم غرةً، وأغذ السير حتى نزل على غران منازل بني لحيان، وهي بين أمج وعسفان، فوجدهم قد حذروا وتمنعوا في رؤوس الجبال، فلما أخطأه ما أراد منهم خرج في مائتي راكب حتى نزل بعسفان تخويفاً لأهل مكة، وأرسل فارسين من أصحابه حتى بلغا كراع الغميم ثم عاد قافلاً. غران بفتح الغين المعجمة، وفتح الراء، وبعد الألف نون. وأمج بفتح الهمزة، والميم، وآخره جيم. ذكر غزوة ذي قردثم قدم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، المدينة فلم يقم إلا أياماً قلائل حتى أغار عيينة بن حصن الفزاري في خيل غطفان على لقاح النبي، وأول من نذر بهم سلمة بن الأكوع الأسلمي؛ هكذا ذكرها أبو جعفر بعد غزوة بني لحيان عن ابن إسحاق، والرواية الصحيحة عن سلمة: أنها كانت بعد مقدمة المدينة منصرفاً من الحديبية، وبين الوقعتين تفاوت.
قال سلمة بن الأكوع: أقبلنا مع النبي، صلى الله عليه وسلم، إلى المدينة بعد صلح الحديبية، فبعث رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بظهره مع رباح غلامه وخرجت معه بفرس طلحة بن عبيد الله، فلما أصبحنا إذا عبد الرحمن ابن عيينة بن حصن الفزاري قد أغار على ظهر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فاستاقه أجمع وقتل راعيه، قلت: يا رباح خذ هذا الفرس فأبلغه طلحة وأخبر النبي، صلى الله عليه وسلم، أن المشركين قد أغاروا على سرحه؛ ثم استقبلت الأكمة فناديت ثلاثة أصوات: يا صباحاه ! ثم خرجت في آثار القوم أرميهم بالنبل وأرتجز وأقول: خذها وأنا ابن الأكوع ... واليوم يوم الرضّع قال: فوالله ما زلت أرميهم وأعقر بهم، فإذا خرج إلي فارس قعدت في اصل شجرة فرميته فعقرت به، وإذا دخلوا في مضايق الجبل رميتهم بالحجارة من فوقهم، فما زلت كذلك حتى ما تركت من ظهر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بعيراً إلا جعلته وراء ظهري، وخلوا بيني وبينه وألقوا أكثر من ثلاثين رمحاً وثلاثين بردة يستخفون بها، لا يلقون شيئاً إلا جعلت عليه أمارة، أي علامة، حتى يعرفه أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، حتى إذا انتهوا إلى متضايق من ثنية أتاهم عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر ممداً، فقعدوا يتضحون، فلما رآني قال: ما هذا ؟ قالوا: لقينا منه البرح وقد استنفذ كلما بأيدينا، فما برحت مكاني حتى أبصرت فوارس رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يتخللون الشجر، أولهم الأخرم الأسدي واسمه محرز بن نضلة من أسد بن خزيمة وعلى أثره أبو قتادة وعلى أثرهما المقداد بن عمرو الكندي، فأخذت بعنان الأخرم وقلت: احذر القوم لا يقتطعوك حتى تلحق رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأصحابه، فقال: يا سلمة إن كنت تؤمن بالله واليوم الآخر فلا تحل بيني وبين الشهادة. قال: فخليته، فالتقى هو وعبد الرحمن بن عيينة، فعقر الأخرم بعبد الرحمن فرسه وطعنه عبد الرحمن فقتله، وتحول عبد الرحمن على فرس الأخرم، ولحق أبو تقادة فارس رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بعبد الرحمن فطعنه، فانطلقوا هاربين، قال سلمة: فوالذي كرم وجه محمد لأتبعنهم أعدو على رجلي حتى ما أرى من أصحاب محمد ولا غبارهم شيئاً. وعدلوا قبل غروب الشمس إلى غار فيه ماء يقال له ذو قرد يشربون منه وهم عطاش، فنظروا إلي أعدو في آثارهم فحليتهم فما ذاقوا منه قطرة، قال: واشتدوا في ثنية ذي أبهر فأرشق بعضهم بسهم فيقع في نغض كتفه، فقلت: خذها وأنا ابن الأكوع واليوم يوم الرضع. وإذا فرسان على الثنية فجئت بهما أقودهما إلى النبي، صلى الله عليه وسلم. ولحقني عمي عامر بسطيحة فيها مذقة من لبن وسطيحة فيها ماء، فتوضأت وصليت وشربت ثم جئت إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، وهو على الماء الذي أجليتهم عنه بذي قرد، وإذا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قد أخذ تلك الإبل التي استنقذت من العدو وكل رمح وكل بردة، وإذا بلال قد نحر لهم ناقة من الإبل وه يشوي منها، فقلت: يا رسول الله خلني أنتخب مائة رجل فلا يبقى منه عين تطرف. فضحك وقال: إنهم ليقرون بأرض غطفان. فجاء رجل من غطفان فقال: نحر لهم فلان جزوراً، فلما كشطوا عنها جلدها رأوا غباراً فقالوا: أتيتم، فخرجوا هاربين. فلما أصبحنا قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: خير فرساننا أبو قتادة، وخير رجالنا سلمة بن الأكوع، ثم أعطاني رسول الله، صلى الله عليه وسلم، سهم الفارس وسهم الراجل، ثم أردفني وراءه على العضباء. فبينما نحن نسير، وكان رجل من الأنصار لا يسبق شداً، فقال: ألا من مسابق ؟ مراراً، فقلت: يا رسول الله بأبي أنت وأمي إيذن لي فلأسابق الرجل. قال: إن شئت. قال: فطفرت وربطت شرفاً أو شرفين فألحقه فقلت: سبقتك والله ! فسبقته إلى المدينة، فلم نمكث بها إلا ثلاثاً حتى خرجنا إلى خيبر. وفي هذه الغزوة نودي: يا خيل الله اركبي، ولم يكن يقال قبلها. قرد بفتح القاف والراء. ذكر غزوة بني المصطلق من خزاعة
ذكرت هذه الغزوة بعد غزوة ذي قرد، وكانت في شعبان من السنة سنة ست، وكان بلغ رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أن بني المصطلق تجمعوا له، وكان قائدهم الحارث بن أبي ضرار أبو جويرية زوج النبي، صلى الله عليه وسلم، فلما سمع بهم خرج إليهم فلقيهم بماء لهم يقال له المريسيع بنحية قديد، فاقتتلوا، فانهزم المشركون وقتل من قتل منهم وأصيب رجل من المسلمين من بني ليث بن بكر اسمه هشام بن صبابة أخو مقيس بن صبابة، أصابه رجل من الأنصار من رهط عبادة بن الصامت بسهم وهو يرى أنه من العدو فقتله خطأ، وأصاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، سبايا كثيرة فقسمها في المسلمين، وفيهم جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار، فوقعت في السهم لثابت بن قيس بن شماس أو لابن عم له، فكاتبته عن نفسها، فأتت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فاستعانته في كتابتها، فقال لها: هل لك في خير من ذلك ؟ قالت: وما هو يا رسول الله ؟ قال: أقضي كتابتك وأتزوجك. قالت: نعم يا رسول الله. ففعل، وسمع الناس الخبر فقالوا: أصهار رسول الله؛ فأعتقوا أكثر من مائة بيت من أهل بني المصطلق، فما كانت امرأة أعظم بركة على قومها منها. وبينما الناس على ذلك الماء وردت واردة الناس، ومع عمر بن الخطاب أجيرٌ له من بني غفار يقال له جهجاه، فازدحم هو وسنان الجهني، حليف بني عوف من الخزرج، على الماء، فاقتتلا، فصرخ الجهني: يا معشر الأنصار ! وصرخ جهجاه: يا معشر المهاجرين ! فغضبت عبد الله بن أبي بن سلول، وعند رهط من قومه فيهم زيد بن أرقم، غلام حديث السن. فقال: أقد فعلوها ! قد كاثرونا في بلادنا ! أما والله (لَئِنْ رَجَعْنَا إلى المَدِينَة لَيُخْرِجَنَّ الأعزُّ مِنْهَا الأذَلَّ) المنافقون: 8 ! ثم أقبل على من حضره من قومه فقال: هذا ما فعلتم بأنفسكم ! أحللتموهم ببلادكم وقاسمتموهم أموالكم ! والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحولوا إلى غير بلادكم. فسمع ذلك زيد، فمشى به إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، وذلك عند فراغ رسول الله، صلى الله عليه وسلم، من غزوه، فأخبره الخبر، وعنده عمر بن الخطاب، فقال: يا رسول الله مر به عباد بن بشر فليقتله. فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: كيف إذا تحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه ! ولكن أذن بالرحيل. فارتحل في ساعة لم يكن يرتحل فيها ليقطع ما الناس فيه. فلقيه أسيد بن حضير فسلم عليه وقال: يا رسول الله لقد رحت في ساعة لم تكن تروح فيها. فقال: أوما بلغك ما قال عبد الله بن أبي ؟ قال: وماذا ؟ قال: زعم إن رجع إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. قال أسيد: فأنت والله تخرجه إن شئت فإنك العزيز وهو الذليل، ثم قال: يا رسول الله ارفق به فوالله لقد من الله بك، وإن قومه لينظمون له الخرز ليتوجوه فإنه ليرى أنك قد استلبته ملكاً. وسمع عبد الله بن أبي زيداً أعلم النبي، صلى الله عليه وسلم، قوله فمشى إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فحلف بالله ما قلت ما قال ولا تكلمت به. وكان عبد الله في قومه شريفاً، فقالوا: يا رسول الله عسى أن يكون الغلام قد أخطأ، وأنزل الله: (إذَا جَاءكَ المُنَافِقُونَ) المنافقون: 1؛ تصديقاً لزيد، فلما نزلت أخذ رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بأذن زيد وقال: هذا الذي أوفى الله بأذنه. وبلغ عبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول ما كان من أمر أبيه النبي، صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله بلغني أنك تريد قتل أبي، فإن كنت فاعلاً فمرني به فأنا أحمل إليك رأسه، وأخشى أن تأمر غيري بقتله فلا تدعني نفسي أنظر إلى قاتل أبي يمشي في الناس فأقتله فأقتل مؤمناً بكافر فأدخل النار. فقال النبي، صلى الله عليه وسلم: بل نرفق به ونحسن صحبته ما بقي معنا. فكان بعد ذلك إذا أحدث حدثاً عاتبه قومه وعنفوه وتوعدوه، فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لعمر بن الخطاب حين بلغه ذلك عنهم: كيف ترى ذلك يا عمر ؟ أما والله لو قتلته يوم أمرتني بقتله لأرعدت له آنف، لو أمرتها اليوم بقتله لقتلته. فقال عمر: أمر رسول الله أعظم بركة من أمري.
وفيها قدم مقيس بن صبابة مسلماً فيما يظهر، فقال: يا رسول الله جئت مسلماً وجئت أطلب دية أخي، وكان قتل خطأً؛ فأمر له بدية أخيه هشام بن صبابة، وقد تقدم ذكر قتله آنفاً، فأقام عند رسول الله، صلى الله عليه وسلم، غير كثير، ثم عدا على قاتل أخيه فقتله ثم خرج إلى مكة مرتداً فقال: شفى النفس أن قد بات في القاع مسنداً ... تضرّج ثوبيه دماء الأخادع وكانت هموم النّفس من قبل قتله ... تلمّ فتحميني وطاء المضاجع حللت به نذري وأدركت ثؤرتي ... وكنت إلى الأصنام أوّل راجع مقيس بكسر الميم، وسكون القاف، وفتح الياء تحتها نقطتان. وصبابة بصاد مهملة، وببائين موحدتين بينهما ألف. وأسيد بهمزة مضمومة. وحضير بضم الحاء المهملة، وفتح الضاد. حديث الإفكوكان حديث الإفك في غزوة المصطلق: لما رجع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فكان ببعض الطريق قال أهل الإفك ما قالوا، وكان من حديثه ما روي عن عائشة، قالت: كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إذا أراد سفراً أقرع بين نسائه فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه، فلما كانت غزوة بني المصطلق أقرع بين نسائه فخرج سهمي فخرج بي معه، وكان النساء إذ ذاك إنما يأكلن العلق لم يتفكهن باللحم، وكنت إذا وصل بعيري جلست في هودجي ثم يأتي القوم الذين يرحلون بعيري فيحملون الهودج وأنا فيه فيضعونه على ظهر البعير ثم يأخذون برأس البعير ويسيرون. قالت: فلما قفل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، من سفره ذلك، وكان قريباً من المدينة، بات بمنزلٍ بعض الليل ثم ارتحل هو والناس، وكنت قد خرجت لبعض حاجتي وفي عنقي عقدٌ لي من جزع ظفار انسل من عنقي ولا أدري، فلما رجعت التمست العقد فلم أجده، وأخذ الناس بالرحيل، فرجعت إلى المكان الذي كنت فيه ألتمسه فوجدته، وجاء القوم الذين يرحلون بعيري فأخذوا الهودج وهم يظنون أني فيه، فاحتملوه على عادتهم وانطلقوا، ورجعت إلى المعسكر وما فيه داعٍ ولا مجيب، فتلففت بجلبابي واضطجعت مكاني وعرفت أنهم يرجعون إلي إذا افتقدوني. قالت: فوالله إني لمضطجعة إذ مر بي صفوان بن المعطل السلمي، وكان تخلف عن العسكر لحاجته، فلم يبت مع الناس، فلما رأى سوادي أقبل حتى وقف علي فعرفني، وكان رآني قبل أن يضرب الحجاب، فلما رآني استرجع وقال: ما خلفك ؟ قالت: فما كلمته، ثم قرب البعير وقال: اركبي. فركبت وأخذ برأس البعير مسرعاً. فلما نزل الناس واطمأنوا طلع الرجل يقودني، فقال أهل الإفك ما قالوا، فارتعج العسكر ولم أعلم بشيء من ذلك، ثم قدمنا المدينة فاشتكيت شكوى شديدة، وقد انتهى الحديث إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وإلى أبوي ولا يذكران لي منه شيئاً، إلا أني أنكرت من رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بعض لطفه، فكان إذا دخل علي وأمي تمرضني قال: كيف تيكم ؟ لا يزيد على ذلك، فوجدت في نفسي مما رأيت من جفائه، فاستأذنته في الانتقال إلى أمي لتمرضني، فأذن لي، وانتقلت ولا أعلم بشيء مما كان حتى نقهت من وجعي بعد بضع وعشرين ليلة. قالت: وكنا قوماً عرباً لا نتخذ في بيوتنا هذه الكنف نعافها ونكرهها، إنما كان النساء يخرجن كل ليلة، فخرجت ليلة لبعض حاجتي ومعي أم مسطح ابنة أبي رهم بن المطلب، وكانت أمها خالة أبي بكر الصديق، قالت: فوالله إنها لتمشي إذ عثرت في مرطها فقالت: تعس مسطحٌ. قالت: قلت: لعمر الله بئس ما قلت لرجل من المهاجرين قد شهد بدراً ! قالت: أوما بلغك الخبر ؟ قلت: وما الخبر ؟ فأخبرتني بالذي كان. قالت: فوالله ما قدرت على أن أقضي حاجتي فرجعت فما زلت أبكي حتى ظننت أن البكاء سيصدع كبدي، وقلت لأمي: تحدث الناس بما تحدثوا ولا تذكرين لي من ذلك شيئاً ؟ قالت: أي بنية خفضي عليك، فوالله قل ما كانت امرأة حسناء عند رجل يحبها لها ضرائر إلا كثرن وكثر الناس عليها. قالت: وقد قام رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في الناس فخطبهم ولا أعلم بذلك، ثم قال: أيها الناس ما بال رجال يؤذونني في أهلي ويقولون عليهن غير الحق، ويقولون ذلك لرجل والله ما علمت عليه إلا خيراً وما دخل بيتاً من بيوتي إلا معي.
وكان كبر عند عبد الله بن أبي بن سلول في رجال من الخزرج، مع الذي قال مسطح وحمنة بنت جحش، وذلك أن زينب أختها كانت عند رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فأشاعت من ذلك ما أشاعت تضارني لأختها، فلما قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، تلك المقالة قال أسيد بن حضير: يا رسول الله إن يكونوا من الأوس نكفكهم، وإن يكونوا من إخواننا الخزرج فمرنا بأمرك. فقال سعد بن عبادة: والله ما قلت هذه المقالة إلا وقد عرفت أنهم من الخزرج، ولو كانوا من قومك ما قلت هذا. فقال أسيد: كذبت ولكنك منافق تجادل عن المنافقين. وتثاور الناس حتى كاد يكون بينهم شر، ونزل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ودعا علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد فاستشارهما، فأما أسامة فأثنى خيراً وأما علي فقال: إن النساء لكثير وسل الخادم تصدقك، فدعا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بريرة يسألها، فقام إليها علي فضربها ضرباً شديداً وهو يقول: اصدقي رسول الله. فقالت: والله ما أعلم إلا خيراً، وما كنت أعيب عليها إلا أنها كانت تنام عن عجينها فيأتي الداجن فيأكله. ثم دخل علي رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وعندي أبواي وامرأة من الأنصار وأنا أبكي وهي تبكي، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: يا عائشة إنه قد كان ما بلغك من قول الناس، فإن كنت قارفت سوءاً فتوبي إلى الله. قالت: فوالله لقد تقلص دمعي حتى ما أحس منه شيئاً، وانتظرت أبوي أن يجيباه، فلم يفعلا، فقلت: ألا تجيبانه ؟ فقالا: والله ما ندري بماذا نجيبه ! وما أعلم أهل بيت دخل عليهم ما دخل على أبي بكر تلك الأيام. فلما استعجبا بكيت ثم قلت: والله لا أتوب إلى الله مما ذكرت أبداً، والله لئن أقررت - والله يعلم إني منه بريئة - لتصدقني، ولئن أنكرت لا تصدقني. ثم التمست اسم يعقوب فلم أجده فقلت: ولكني أقول كما قال أبو يوسف: (فَصَبْرٌ جَميلٌ وَاللهُ المُسْتَعَانُ عَلى مَا تَصِفُونَ) يوسف: 18، ولشأني كأني أصغر في نفسي أن ينزل الله في قرآناً يتلى، ولكني كنت أرجو أن يرى رؤيا يكذب الله بها عني. قالت: فوالله ما برح رسول الله، صلى الله عليه وسلم، من مجلسه حتى جاءه الوحي، فسجي بثوبه، فأما أنا فوالله ما فزعت ولا باليت، وقد عرفت أني بريئة وأن الله ظالمي، وأما أبواي فما سري عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، حتى ظننت لتخرجن أنفسهما فرقاً من أن يحقق الله ما قال الناس. قالت: ثم سري عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وإنه ليتحدر عنه مثل الجمان، فجعل يمسح العرق عن جبينه ويقول: أبشري يا عائشة، فقد أنزل الله براءتك. فقلت: بحمد الله ! ثم خرج إلى الناس فخطبهم وذكر لهم ما أنزل الله في من القرآن، ثم أمر بمسطح بن أثاثة وحسان بن ثابت وحمنة بنت جحش، وكانوا ممن أفصح بالفاحشة، فضربوا حدهم، وحلف أبو بكر لا ينفق على مسطح أبداً، فأنزل الله: (وَلا يَأتَلِ أُولُو الفَضْلِ منْكُمْ) الآية النور: 22؛ فقال أبو بكر: إني أحب أن يغفر الله لي؛ ورجع إلى مسطح نفقته. ثم إن صفوان بن المعطل اعترض حسان بن ثابت بالسيف فضربه، ثم قال: تلقّ ذباب السّيف عنّي فإنّني ... غلامٌ إذا هوجيت لست بشاعر فوثب ثابت بن قيس بن شماس فجمع يديه إلى عنقه وانطلق به إلى الحارث ابن الخزرج، فلقيه عبد الله بن رواحة فقال: ما هذا ؟ فقال: ضرب حسان وما أراه إلا قتله. فقال عبد الله: هل علم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بشيء مما صنعت ؟ قال: لا والله، قال: لقد اجترأت، أطلق الرجل، فأطلقه، فذكر ذلك لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، فدعا حسان وصفوان بن المعطل، فقال صفوان: هجاني يا رسول الله وآذاني فضربته. فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لحسان: أحسن يا حسان. قال: هي لك يا رسول الله، فأعطاه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عوضاً منها بيرحاء، وهي قصربني حديلة، بالحاء المهملة؛ وأعطاه شيرين، أمة قبطية، وهي أخت مارية أم إبراهيم ابن رسول الله، فولدت له ابنه عبد الرحمن، وكان صفوان حصوراً لا يأتي النساء، ثم قتل بعد ذلك شهيداً. مسطح بكسر الميم، وسكون السين المهملة، وبالطاء والحاء المهملتين. ذكر عمرة الحديبية
في هذه السنة خرج رسول الله، صلى الله عليه وسلم، معتمراً في ذي القعدة لا يريد حرباً ومع جماعة من المهاجرين والأنصار ومن تبعه من الأعراب ألف وأربعمائة، وقيل: ألف وخمسمائة، وقيل: ثلاثمائة، وساق الهدي معه سبعين بدنه ليعلم الناس أنه إنما جاء زائراً للبيت. فلما بلغ عسفان لقيه بسر بن سفيان الكعبي فقال: يا رسول الله هذه قريش قد سمعوا بمسيرك فاجتمعوا بذي طوىً يحلفون بالله لا تدخلها عليهم أبداً، وقد قدموا خالد بن الوليد إلى كراع الغميم. وقيل: إن خالداً كان مع النبي، صلى الله عليه وسلم، مسلماً، وإنه أرسله، فلقي عكرمة بن أبي جهل فهزمه؛ والأول أصح. ولما بلغه بسر ما فعلت قريش قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: يا ويح قريش قد أكلتهم الحرب ! ماذا عليهم لو خلوا بيني وبين سائر الناس، فإن أصابوني كان الذي أرادوا، وإن أظهرني الله دخلوا في الإسلام وافرين، والله لا أزال أجاهدهم على الذي بعثني الله به حتى يظهره الله أو تنفرد هذه السالفة. ثم خرج على غير الطريق التي هم بها وسلك ذات اليمين حتى سلك ثنية المرار على مهبط الحديبية، فبركت به ناقته، فقال الناس: خلأت. فقال: ما خلأت ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة، لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يسألوني فيها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياها. ثم قال للناس: انزلوا. فقالوا: ما بالوادي ماء. فأخرج سهماً من كنانته فأعطاه رجلاً من أصحابه، فنزل في قليب من تلك القلب فغرزه في جوفه، فجاش الماء بالري حتى ضرب الناس عنه بعطن، وكان اسم الذي أخذ السهم ناجية بن عمير سائق بدن النبي، صلى الله عليه وسلم. فبينما هم كذلك أتاهم بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من قومه خزاعة، وكانت خزاعة عيبة نصح رسول الله، صلى الله عليه وسلم، من تهامة، فقال: تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي قد نزلوا أعداد مياه الحديبية وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت. فقال النبي، صلى الله عليه وسلم: إنا لم نأتي لقتال أحد، ولكنا جئنا معتمرين، وإن شاءت قريش ماددناهم مدة ويخلوا بيني وبين الناس، وإن أبوا فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي. فانطلق بديل إلى قريش فأعلمهم ما قال النبي، صلى الله عليه وسلم، فقام عروة بن مسعود الثقفي فقال: إن هذا الرجل عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها، دعوني آته. فقالوا: ائته. فأتاه وكلمه، فقال له: يا محمد جمعت أوشاب لناس ثم جئت بهم إلى بيضتك لتفضها بهم، إنها قريش خرجت معها العوذ المطافيل قد لبسوا جلود النمور يعاهدون الله أنك لا تدخلها عليهم عنوةً أبداً، وايم الله بكأني بهؤلاء قد تكشفوا عنك غداً. فقال أبو بكر: امصص بظر اللات ! أنحن ننكشف عنه ؟ قال: من هذا يا محمد ؟ قال النبي، صلى الله عليه وسلم: هذا ابن أبي قحافة. فقال: أما والله لولا يد لك عندي لكافأتك بها. ثم جعل يتناول لحية رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وهو يكلمه والمغيرة بن شعبة واقف على رأس رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في الحديد، فجعل يقرع يده إذا تناولها ويقول له: اكفف يدك قبل أن لا تصل إليك. فقال عروة: من هذا ؟ قال النبي، صلى الله عليه وسلم: هذا ابن أخيك المغيرة. فقال: أي غدر ! وهل غسلت سوأتك إلا بالأمس ؟ وكان المغيرة قد قتل ثلاثة عشر رجلاً من بني مالك وهرب، فتهايج الحيان بن و مالك رهط المقتولين والأحلاف رهط المغيرة، فودى عروة للمقتولين ثلاث عشرة ديةً وأصلح ذلك الأمر. وطال الكلام بينهما، فقال له النبي؛ صلى الله عليه وسلم، نحو مقالته لبديل، فقال له عروة: يا محمد أرأيت إن استأصلت قومك فهل سمعت بأحد من العرب اجتاح أصله قبلك ؟ وجعل يرمق أصحاب النبي، صلى الله عليه وسلم، فوالله لا يتنخم النبي نخامةً إلا وقعت في كف أحدهم فدلك بها وجهه وجلده وإن أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وما يحدون النظر إليه تعظيماً له. فرجع عروة إلى أصحابه وقال: أي قوم قد وفدت على كسرى وقيصر والنجاشي فوالله ما رأيت ملكاً قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمدٍ محمداً ! وحدثهم ما رأى وما قال النبي، صلى الله عليه وسلم.
فقال رجل من كنانة اسمه الحليس بن علقمة، وهو سيد الأحابيش: دعوني آته. فقالوا: ائته فلما رآه النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: هذا فلان وهو من قوم يعظمون البدن، فابعثوا الهدي في وجهه فلما رأى الهدي رجع إلى قريش ولم يصل إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، فقال: يا قوم قد رأيت ما لا يحل صده، الهدي في قلائده. فقالوا: اجلس فإنما أنت أعرابي لا علم لك. فقال: والله ما على هذا حالفناكم أن تصدوا عن البيت من جاء معظماً له، والذي نفسي بيده لتخلن بين محمد وبين البيت أو لأنفرن بالأحابيش نفرة رجل واحد. قال: فقالوا: مه ! كف عنا يا حليس حتى نأخذ لأنفسنا. فقام رجل منهم يقال له مكرز بن حفص فقال: دعوني آته. فقالوا: افعل. فلما أشرف على النبي، صلى الله عليه وسلم، قال لأصحابه: هذا رجل فاجر، فجعل يكلم النبي، صلى الله عليه وسلم، فبينما هو يكلمه إذ جاء سهيل بن عمرو، فلما جاء قال النبي: سهل أمركم. وقال ابن إسحاق: إن قريشاً إنما بعثت سهيلاً بعد رسالة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، مع عثمان بن عفان، قال: لما رجع عروة بن مسعود إلى قريش بعث رسول الله، صلى الله عليه وسلم، خراش بن أمية الخزاعي إلى قريش على جمل له يقال له الثعلب ليبلغ عنه، فعقروا به جمل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأرادوا قتله، فمنعته الأحابيش وخلوا سبيله حتى أتى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فدعا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عمر ليرسله إلى مكة، فقال: ليس بمكة من بني عدي من يمنعني، وقد علمت قريش عداوتي لها وأخافها على نفسي فأرسل عثمان فهو أعز بها مني. فدعا عثمان فأرسله ليبلغ عنه، فانطلق، فلقيه أبان ابن سعيد بن العاص فأجاره، فأتى أبا سفيان وعظماء قريش فبلغهم عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقالوا لعثمان حين فرغ من أداء الرسالة: إن شئت أن تطوف بالبيت فطف به، فقال: ما كنت لأفعل حتى يطوف به النبي، صلى الله عليه وسلم. فاحتبسته قريش عندها، فبلغ النبي، صلى الله عليه وسلم، أنه قد قتل، فقال: لا نبرح حتى نناجز القوم. ثم دعا الناس إلى البيعة فبايعوه تحت الشجرة، وهي سمرة، لم يتخلف منهم أحد إلا الجد بن قيس، وكان أول من بايعه رجل من بني أسد يقال له أبو سنان. ثم أتى الخبر أن عثمان لم يقتل. ثم بعثت قريش سهيل بن عمرو أخا عامر بن لؤي إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، ليصالحه على أن يرجع عنهم عامه ذلك، فأقبل سهيل إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، وأطال معه الكلام وتراجعا، ثم جرى بينهم الصلح، فدعا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، علي بن أبي طالب، فقال: اكتب باسم الله الرحمن الرحيم. فقال سهيل: لا نعرف هذا، ولكن اكتب: باسمك اللهم، فكتبها، ثم قال: اكتب: هذا ما صالح عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو - فقال سهيل: لو نعلم أنك رسول الله لم نقاتلك، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك. فقال لعلي: امح رسول الله. فقال: لا أمحوك أبداً. فأخذه رسول الله، صلى الله عليه وسلمن وليس يحسن يكتب فكتب موضع رسول الله: محمد بن عبد الله، وقال لعلي: لتبلين بمثلها - اصطلحا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين وأنه من أتى منهم رسول الله بغير إذن وليه رده إليهم ومن جاء قريشاً ممن مع رسول الله لم يردوه عليه، ومن أحب أن يدخل في عهد رسول الله دخل، ومن أحب أن يدخل في عهد قريش دخل، فدخلت خزاعة في عهد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ودخلت بنو بكر في عهد قريش، وأن يرجع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عنهم عامة ذلك، فإذا كان عام قابل خرجنا عنك فدخلتها بأصحابك فأقمت بها ثلاثاً وسلاح الراكب السيوف في القرب.
فبينا النبي، صلى الله عليه وسلم، يكتب الكتاب إذ جاء أبو جندل ابن سهيل بن عمرو يرسف في الحديد قد انفلت إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وكان أصحاب النبي لا يشكون في افتح لرؤيا رآها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فلما رأوا الصلح دخلهم من ذلك أمر عظيم حتى كادوا يهلكون. فلما رأى سهيل ابنه أبا جندل أخذه وقال: يا محمد قد تمت القضية بيني وبينك قبل أن يأتيك هذا. قال: صدقت، وأخذه ليرده إلى قريش، فصاح أبو جندل: يا معشر المسلمين أرد إلى المشركين ليفتنوني عن ديني ! فزاد الناس شراً إلى ما بهم، فقال له رسول الله، صلى الله عليه وسلم: احتسب فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجاً ومخرجاً، إنا قد أعطينا القوم عهودنا على ذلك فلا نغدر بهم. قال: فوثب عمر بن الخطاب يمشي مع أبي جندل ويقول له: اصبر واحتسب فإنما هم المشركون وإنما دم أحدهم دم كلب ! وأدنى قائم السيف منه رجاء أن يأخذه فيضرب به أباه، قال: فبخل الرجل بأبيه. وشهد على الصلح جماعة من المسلمين فيهم أبو بكر وعمر وعبد الرحمن بن عوف وغيرهم، وجماعة من المشركين. فلما فرغ النبي، صلى الله عليه وسلم، من قضيته قال: قوموا فانحروا ثم احلقوا، فما قام أحد حتى قال ذلك مراراً، فلما لم يقم أحد منهم دخل على أم سلمة فذكر لها ذلك، فقالت: يا نبي الله اخرج ولا تكلم أحداً منهم حتى تنحر بدنك وتحلق شعرك، ففعل، فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا وحلقوا حتى كاد بعضهم يقتل بعضاً غماً. فما فتح في الإسلام قبله فتح كان أعظم منه، حيث أمن الناس كلهم فدخل في الإسلام تينك السنتين مثل ما دخل فيه قبل ذلك وأكثر. فلما قدم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، المدينة جاءه أبو بصير عتبة بن أسيد بن جارية الثقفي، وهو مسلم، وكان ممن حبس بمكة، فكتب فيه الأزهر بن عبد عوف والأخنس بن شريق وبعثا فيه رجلاً من بني عامر بن لؤي ومعه مولى لهم، فقال له رسول الله، صلى الله عليه وسلم: قد علمت أنا قد أعطينا هؤلاء القوم عهداً ولا يصلح الغدر في ديننا. فانطلق معهما إلى ذي الحليفة فجلسوا، وأخذ أبو بصير سيف أحدهما فقتله به وخرج المولى سريعاً إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، فأخبره بقتل صاحبه، ثم أقبل أبو بصير فقال: يا رسول الله قد وفت ذمتك وأنجاني الله منهم. فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: ويل امه مسعر حرب لو كان له رجال ! فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده إليهم، فخرج أبو بصير حتى نزل بناحية ذي المروة على ساحل البحر على طريق قريش إلى الشام، وبلغ المسلمين الذين كانوا احتبسوا بمكة ذلك فخرجوا إلى أبي بصير، منهم أبو جندل، فاجتمع إليه قريب من سبعين رجلاً، فضيقوا على قريش يعترضون العير تكون لهم، فأرسلت قريش إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، يناشدونه الله والرحم لما أرسل إليهم فمن أتاه فهو آمن، فآواهم رسول الله، صلى الله عليه وسلم. وفيها نزلت سورة الفتح، وهاجر إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، نسوة مؤمنات فيهن أم كلثوم ابنة عقبة بن أبي معيط، فجاء أخواها عمارة والوليد يطلبانها، فأنزل الله: (فَإنْ عَلِمْتُمُوهُنّ مُؤمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُن إلى الكُفّارِ) الممتحنة: 10 الآية؛ فلم يرسل امرأة مؤمنة إلى مكة، وأنزل الله: (وَلاَ تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الكَوَافِرِ)؛ فطلق عمر بن الخطاب امرأتين له، إحداهما قريبة بنت أبي أمية، والثانية أم كلثوم بنت عمرو بن جرول الخزاعي، وهما مشركتان، فتزوج أم كلثوم أبو جهم بن حذيفة ابن غانم. بسر بضم الباء الموحدة، وسكون السين المهملة، وآخره راء. بصير بالباء الموحدة المفتوحة، والصاد المهملة المكسورة، والياء الساكنة تحتها نقطتان، وآخره راء أيضاً. وأسيد بفتح الهمزة، وكسر السين. وجارية بالجيم، وآخره راء أيضاً. والحليس بضم الحاء المهملة، وفتح اللام، وبعده ياء تحتها نقطتان، وآخره سين مهملة. وفيها كانت عدة من سرايا وغزوات: منها سرية عكاشة بن محصن أربعين رجلاً إلى الغمر، فنذر بهم القوم فهربوا، فسعت الطلائع فوجدوا مائتي بعير فأخذوها إلى المدينة، وكانت في ربيع الآخر. ومنها سرية محمد بن مسلمة، أرسله رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في عشرة فوارس في ربيع الأول إلى بني ثعلبة بن سعد، فكمن القوم له حتى نام هو وأصحابه وظهروا عليهم، فقتل أصحابه ونجا هو وحده جريحاً.
ومنها سرية أبي عبيدة بن الجراح إلى ذي القصة في ربيع الآخر في أربعين رجلاً، فهرب أهله منهم وأصابوا نعماً ورجلاً واحداً أسلم فتركه رسول الله، صلى الله عليه وسلم. ومنها سرية زيد بن حارثة بالجموم، فأصاب امرأة من مزينة اسمها حليمة، فدلتهم على محلة من حال بني سليم، فأصابوا نعماً وشاء وأسرى فيهم زوجها، فأطلقها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وزوجها معها. ومنها سرية زيد أيضاً إلى العيص في جمادى الأولى، وفيها أخذت الأموال التي كانت مع أبي العاص بن الربيع، واستجار بزينب بنت النبي، صلى الله عليه وسلم، فأجارته. وقد تقدم ذكره في غزوة بدر. ومنها سرية زيد أيضاً إلى الطرف في جمادى الآخرة إلى بني ثعلبة في خمسة عشر رجلاً، فهربوا منه، وأصاب من نعمهم عشرين بعيراً. ومنها سرية زيد بن حارثة إلى حسمى في جمادى الآخرة. وسببها أن رفاعة بن زيد الجذامي ثم الضبي قدم على النبي، صلى الله عليه وسلم، في هدنة الحديبية وأهدى لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، غلاماً وأسلم فحسن إسلامه، وكتب له رسول الله، صلى الله عليه وسلم، كتاباً إلى قومه يدعوهم إلى الإسلام، فأسلموا، ثم ساروا إلى حرة الرجلاء. ثم إن دحية بن خليفة الكلبي أقبل من اشام من عند قيصر، حتى إذا كان بأرض جذام أغار عليه الهنيد بن عوص بن الهنيد الضليعيان، وهو بطن من جذام، فأخذا كل شيء معه، فبلغ ذلك نفراً من بني الضبيب قوم رفاعة ممن كان أسلم، فنفروا إلى الهنيد وابنه، فلقوهما واقتتلوا، فظفر بنو الضبيب واستنقذوا كل شيء أخذ من دحية وردوه عليه، فخرج دحية حتى قدم على النبي، صلى الله عليه وسلم، فأخبره خبره وطلب منه دم الهنيد وابنه عوص، فأرسل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إليهم زيد بن حارثة في جيش، فأغاروا بالفضافض وجمعوا ما وجدوا من مال وقتلوا الهنيد وابنه. فلما سمع بذلك بنو الضبيب رهط رفاعة بن زيد سار بعضهم إلى زيد بن حارثة فقالوا: إنا قوم مسلمون. فقال زيد: فاقرأوا أم الكتاب، فقرأها حسان بن ملة. فقال زيد: نادوا في الجيش: إن الله حرم علينا ما أخذ من طريق القوم التي جاؤوا منها، وأراد أن يسلم إليهم سباياهم، فأخبره بعض أصحابه عنهم بما أوجب أن يحتاط، فتوقف في تسليم السبايا وقال: هم في حكم الله، ونهى الجيش أن يهبطوا واديهم. وعاد أولئك الركب الجذاميون إلى رفاعة بن زيد وهو بكراع ربة لم يشعر بشيء من أمرهم، فقال له بعضهم: إنك لجالسٌ تحلب المعزى ونساء جذام أسارى قد غرهن كتابك الذي جئت به. فسار رفاعة والقوم معه إلى المدينة وعرض كتاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقال: كيف أصنع بالقتلى ؟ فقالوا: لنا من كان حياً ومن قتل فهو تحت أقدامنا، يعنون تركوا الطلب به. فأجابهم إلى ذلك وأرسل معهم علي بن أبي طالب إلى زيد بن حارثة فرد على القوم مالهم حتى كانوا ينتزعون ليد المرأة تحت الرجل، وأطلق الأسارى. ربة بالراء والباء الموحدة. والضبيب بضم الضاد المعجمة، تصغير ضب - وقيل: هو بفتح الضاد، وكسر الباء، وآخره نون - نسبة إلى ضبيبة. ومنها سرية زيد أيضاً إلى وادي القرى في رجب. ومنها سرية عبد الرحمن بن عوف إلى دومة الجندل في شعبان، فأسلموا، فتزوج عبد الرحمن تماضر بنت الأصبغ رئيسهم، وهي أم أبي سلمة. ومنها سرية علي بن أبي طالب إلى فدك في شعبان في مائة رجل، وذلك أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بلغه أن حياً من بني سعد قد تجمعوا له يريدون أن يمدوا أهل خيبر، فسار إليهم علي فأصاب عيناً لهم، فأخبره أنه سار إلى أهل خيبر يعرض عليهم نصرهم على أن يجعلوا لهم تمر خيبر. ومنها سرية زيد بن حارثة إلى أم فرقة في رمضان، وكانت عجوزاً كبيرة، فلقي زيد بن فزارة بوادي القرى فأصيب أصحابه وارتث زيد من بين القتلى فنذر أن لا يمس ماء من جنابة حتى يغزو فزارة، فبعثه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إليهم، فلقيهم بوادي القرى فأصاب منهم وقتل وأسر أم قرفة، وهي فاطمة بنت ربيعة بن بدر، عجوز كبيرة، وبنتاً لها، فربط أم قرفة بين بعيرين فشقاها نصفين، وقدم على النبي، صلى الله عليه وسلم، بابنتها، وكانت لسلمة بن الأكوع، فأخذها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، منه هبةً وأرسلها إلى حرب بن أبي وهب فولدت له عبد الله بن حرب.
وأما سلمة بن الأكوع فإنه جعل أمير هذه السرية أبا بكر، فروي عنه أنه قال: أمر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، علينا أبا بكر، فغزونا ناساً من بني فزارة، فشننا عليهم الغارة صلاة الصبح، فأخذت منهم جماعة وسقتهم إلى أبي بكر وفيها امرأة من بني فزارة معها بنت لها من أحسن العرب، فنفلني أبو بكر بنتها، فقدمت المدينة فلقيت النبي، صلى الله عليه وسلم، بالسوق فقال لي: يا أبا سلمة لله أبوك هب لي المرأة. فقلت: والله لقد أعجبتني وما كشفت لها ثوباً. فسكت ثم عاد من الغد فوهبتها له، فبعث بها إلى مكة ففادى بها أسارى من المسلمين. ومنها سرية كرز بن جابر الفهري إلى العرنيين الذين قتلوا راعي النبي، صلى الله عليه وسلم، واستاقوا الإبل في شوال. وبعثه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في عشرين فارساً. وفيها تزوج عمر بن الخطاب جميلة بنت ثابت بن أبي الأفلح أخت عاصم، فولدت له عاصماً، فطلقها وتزوجها بعده يزيد بن جارية فولدت له عبد الرحمن بن يزيد، فهو أخو عاصم لأمه. جارية بالجيم وبعد الراء ياء تحتها نقطتان. وفيها أجدب الناس جدباً شديداً فاستسقى رسول الله بالناس في رمضان. ؟ ذكر مكاتبة رسول الله صلى الله عليه وسلم الملوك وفيها بعث رسول الله، صلى الله عليه وسلم، الرسل إلى كسرى وقيصر والنجاشي وغيرهم، وأرسل حاطب بن بلتعة إلى المقوقس بمصر، وأرسل شجاع بن وهب الأسدي إلى الحارث بن أبي شمر الغساني، وأرسل دحية إلى قيصر، وأرسل سليط بن عمرو العامري إلى هوذة بن علي الحنفي، وبعث عبد الله بن حذافة إلى كسرى، وأرسل عمرو بن أمية الضمري إلى النجاشي، وأرسل العلاء بن الحضرمي إلى المنذر بن ساوى أخي عبد القيس، وقيل: إن إرساله كان سنة ثمان، والله أعلم. فأما المقوقس فإنه قبل كتاب النبي، صلى الله عليه وسلم، وأهدى إليه أربع جوار، منهن مارية أم إبراهيم ابن رسول الله، صلى الله عليه وسلم. وأما قيصر، وهو هرقل، فإنه قبل كتاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وجعله بين فخذيه وخاصرته، وكتب إلى رجل برومية كان يقرأ الكتب يخبره شأنه، فكتب إليه صاحب رومية: إنه النبي الذي كنا ننتظره لا شك فيه فاتبعه وصدقه. فجمع هرقل بطارقة الروم في الدسكرة وغلقت أبوابها ثم اطلع عليهم من علية وخافهم على نفسه وقال لهم: قد أتاني كتاب هذا الرجل يدعوني إلى دينه، وإنه والله النبي الذي نجده في كتابنا، فهلم فلنتبعه ونصدقه فتسلم لنا دنيانا وآخرتنا. فنخروا نخرة رجل واحد ثم ابتدروا الأبواب ليخرجوا، فقال: ردوهم علي، وخافهم على نفسه وقال لهم: إنما قلت لكم ما قلت لأنظر كيف صلابتكم في دينكم، وقد رأيت منكم ما سرني، فسجدوا له، وانطلق وقال لدحية: إني لأعلم أن صاحبك نبي مرسلٌ ولكني أخاف الروم على نفسي، ولولا ذلك لا تبعته، فاذهب إلى ضغاطر الأسقف الأعظم في الروم واذكر له أمر صاحبك وانظر ما يقول لك. فجاء دحية وأخبره بما جاء به من رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقال له ضغاطر: والله إن صاحبك نبي مرسل نعرفه بصفته ونجده في كتابنا. ثم أخذ عصاه وخرج على الروم وهم في الكنيسة فقال: يا معشر الروم قد جاءنا كتاب من أحمد يدعونا إلى الله، وإني أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله. قال: فوثبوا عليه فقتلوه.
فرجع دحية إلى هرقل وأخبره الخبر. قال: قد قلت إنا نخافهم على أنفسنا. وقال قيصر للروم: هلموا نعطيه الجزية، فأبوا، فقال: نعطيه أرض سورية، وهي الشام، ونصالحه، فأبوا، واستدعى هرقل أبا سفيان، وكان بالشام تاجراً، إلى الشام في الهدنة، فحضر عنده ومعه جماعة من قريش أجلسهم هرقل خلفه وقال: إني سائله فإن كذب فكذبوه. فقال أبو سفيان: لولا أن يؤثر عني الكذب لكذبت، فسأله عن النبي، قال: فصغرت له شأنه، فلم يلتفت إلى قولي وقال: كيف نسبه فيكم ؟ قلت: هو أوسطنا نسباً. هل كان من أهل بيته من يقول مثل قوله ؟ قلت: لا. قال: فهل له فيكم ملك سلبتموه إياه ؟ قلت: لا. قال: فمن اتبعه منكم ؟ قلت: الضعفاء والمساكين والأحداث. قال: فهل يحبه من يتبعه ويلزمه أو يقليه ويفارقه ؟ قلت: ما تبعه رجل ففارقه. قال: فكيف الحرب بينكم وبينه ؟ قلت: سجال يدال عينا وندال عليه. قال: هل يغدر ؟ قال: فلم أجد شيئاً أغمز به غيرها، قلت: لا، ونحن منه في هدنة، ولا نأمن غدره. قال: فما التفت إليها. قال أبو سفيان: فقال لي هرقل: سألتك عن نسبه فزعمت أنه من أوسط الناس وكذلك الأنبياء، وسألتك هل قال أحد من أهل بيته مثل قوله فهو متشبه به فزعمت أن لا وسألتك هل سلبتموه ملكه فجاء بهذا لتردوا عليه ملكه، فزعمت أن لا، وسألتك عن أتباعه فزعمت أنهم الضعفاء والمساكين، وكذلك أتباع الرسل، وسألتك عمن يتبعه أيحبه أم يفارقه فزعمت أنهم يحبونه ولا يفارقونه، وكذلك حلاوة الإيمان لا تدخل قلباً فتخرج منه، وسألتك هل يغدر فزعمت أن لا، ولئن صدقتني ليغلبن على ما تحت قدمي هاتين، ولوددت أني عنده فأغسل قدميه. انطلق لشأنك. قال: فخرجت وأنا أضرب إحدى يدي بالأخرى وأقول: أي عباد الله لقد أمر أمر ابن أبي كبشة، أصبح ملوك الروم يهابونه في سلطانهم. قال: وقدم عليه دحية بكتاب النبي: صلى الله عليه وسلم: (بسم الله | |
|
| |
الشيخ عودة الشيخ عودة
عدد المساهمات : 1748 تاريخ التسجيل : 28/09/2008 العمر : 74
| موضوع: رد: كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير الجمعة فبراير 07, 2014 9:02 am | |
| ودخلت سنة ثمان فيها توفيت زينب بنت رسول الله، صلى الله عليه وسلم؛ قاله الواقدي. وفيها كانت سرية غالب بن عبد الله الليثي الكلبي، كلب الليث، إلى بن الملوح، فلقيه الحارث بن البرصاء الليثي فأخذوه أسيراً، فقال: إنما جئت لأسلم. فقال له غالب: إن كنت صادقاً فلن يضرك رباط ليلة، وإن كنت كاذباً استوثقنا منك. ووكل به بعض أصحابه وقال له: إن نازعك فخذ رأسه؛ وأمره بالمقام إلى أن يعود، ثم ساروا حتى أتوا بطن الكديد فنزلوا بعد العصر وأرسلوا جندب بن مكيث الجهني ربيئة لهم، قال: فقصدت تلاً هناك يطلعني على الحاضر فانبطحت عليه، فخرج لي منهم رجلٌ فرآني منبطحاً، فأخذ قوسه وسهمين فرماني بأحدهما، فوضعه في جنبي، قال: فنزعته ولم أتحرك، ثم رماني بالثاني فوضعه في رأس منكبي، قال: فنزعته ولم أتحرك. قال: أما والله لقد خالطه سهماي ولو كان ربيئة لتحرك. قال: فأمهلناهم حتى راحت مواشيهم واحتلبوا فشننا عليهم الغارة فقتلنا منهم واستقنا منهم النعم ورجعنا سراعاً. وأتى صريخ القوم فجاءنا ما لا قبل لنا به حتى إذا لم يكن بيننا إلا بطن الوادي من قديد بعث الله من حيث شاء سحاباً ما رأينا قبل ذلك مطراً مثله، فجاء الوادي بما لا يقدر أحد يجوزه، فلقد رأيتهم ينظرون إلينا ما يقدر أحد يتقدم، وقدمنا المدينة. وكان شعار المسلمين: أمت أمت، وكان عدتهم بضعة عشر رجلاً. وفيها بعث رسول الله، صلى الله عليه وسلم، العلاء بن الحضرمي إلى البحرين وبها المنذر بن ساوى، فصالح المنذر على أن على المجوس الجزية ولا تؤكل ذبائحهم ولا تنكح نساؤهم. وقيل: إن إرساله كان سنة ست من الهجرة مع الرسل الذين أرسلهم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إلى الملوك، وقد تقدم ذلك. وفيها كانت سرية شجاع بن وهب إلى بني عامر في ربيع الأول في أربعة عشر رجلاً، فأصابوا نعماً، فكان سهم كل رجل منهم خمسة عشر بعيراً. وفيها كانت سرية عمرو بن كعب الغفاري إلى ذات الأطلاح في خمسة عشر رجلاً، فوجد بها جمعاً كثيراً فدعاهم إلى الإسلام فأبوا أن يجيبوا وقتلوا أصحاب عمرو ونجا حتى قدم المدينة. وذات الأطلاح من ناحية الشام، وكانوا من قضاعة ورئيسهم رجل يقال له سدوس. ذكر إسلام خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وعثمان بن طلحة في هذه السنة في صفر قدم عمرو بن العاص مسلماً على النبي، صلى الله عليه وسلم، وقدم معه خالد بن الوليد وعثمان بن طلحة العبدري.
وكان سبب إسلام عمرو أنه قال: لما انصرفنا مع الأحزاب عن الخندق قلت لأصحابي: إني أرى أمر محمد يعلو علواً منكراً، وإني قد رأيت أن نلحق بالنجاشي، فإن ظهر محمد على قومنا كنا عند النجاشي، وإن ظهر قومنا على محمد فنحن من قد عرفوا. قالوا: إن هذا الرأي. قال: فجمعنا له أدماً كثيراً وخرجنا إلى النجاشي، فإنا لعنده إذ وصل عمرو بن أمية الضمري رسولاً من النبي، صلى الله عليه وسلم، في أمر جعفر وأصحابه. قال: فدخلت على النجاشي وطلبت منه أن يسلم إلي عمرو بن أمية الضمري لأقتله تقرباً إلى قريش بمكة. فلما سمع كلامي غضب وضرب أنفه ضربةً ظننت أنه قد كسره، يعني النجاشي، فخفته ثم قلت: والله لو ظننت أنك تكره هذا ما سألتكه. قال: أتسألني أن أعطيك رسول رجل يأتيه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى لتقتله ؟ قال: قلت: أيها الملك أكذلك هو ؟ قال: ويحك يا عمرو أعني واتبعه فإنه والله لعلى الحق وليظهرن على من خالفه كما ظهر موسى على فرعون وجنوده. قال: فقلت: فبايعني له على الإسلام. فبسط يده فبايعته ثم خرجت إلى أصحابي وكتمتهم إسلامي وخرجت عائداً إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ولقيني خالد بن الوليد، وذلك قبل الفتح، وهو مقبل من مكة، فقلت: أين يا أبا سليمان ؟ قال: والله لقد استقام المنسم، إن الرجل لنبي، أذهب والله أسلم فحتى متى ! فقلت: ما جئت إلا للإسلام، فقدمنا على النبي، صلى الله عليه وسلم، فتقدم خالد بن الوليد فأسلم، ثم دنوت فأسلمت، وتقدم عثمان بن طلحة فأسلم. ذكر غزوة ذات السلاسلوفيها أرسل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عمرو بن العاص إلى أرض بلي وعذرة يدعو الناس إلى الإسلام، وكانت أمه من بلي، فتألفهم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بذلك، فسار حتى إذا كان على ماء بأرض جذام يقال له السلاسل، وبه سميت تلك الغزوة ذات السلاسل، فلما كان به خاف فبعث إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، يستمده، فبعث إليه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أبا عبيدة بن الجراح في المهاجرين الأولين، فيهم أبو بكر وعمر، وقال لأبي عبيدة حين وجهه: لا تختلفا. فخرج أبو عبيدة، فلما قدم عليه قال عمرو: إنما جئت مدداً إلي. فقال له أبو عبيدة: يا عمرو إن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: لا تختلفا، فإن عصيتني أطعتك. قال: فأنا أمير عليك. قال: فدونك. فصلى عمرو بالناس. وفيها أرسل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عمرو بن العاص إلى جيفر وعياذ ابني الجلندى بعمان، فآمنا وصدقا. وأخذ الجزية من المجوس. ذكر غزوة الخبط وغيرهاوفيها كانت غزوة الخبط، وأميرهم أبو عبيدة بن الجراح، في ثلاثمائة من المهاجرين والأنصار، وكانت في رجب، وزودهم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، جراباً من تمر، فكان أبو عبيدة يقبض لهم قبضة ثم تمرة تمرة، فكان أحدهم يلوكها ويشرب عليها الماء، فنفد ما في الجراب، فأكلوا الخبط وجاعوا جوعاً شديداً، فنحر لهم قيس بن سعد بن عبادة تسع جزائر فأكلوها، فنهاه أبو عبيدة، فانتهى. ثم إن البحر ألقى إليهم حوتاً ميتاً فأكلوا منها حتى شبعوا، ونصب أبو عبيدة ضلعاً من أضلاعه، فيمر الراكب تحته. فلما قدموا المدينة ذكروا ذلك للنبي، صلى الله عليه وسلم، فقال: كلوا رزقاً أخرجه الله لكم، وأكل منه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وذكروا صنيع قيس بن سعد، فقال: إن الجود من شيمة أهل ذلك البيت.
وفيها كانت سرية وجهها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في شعبان أميرها أبو قتادة ومعه عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي؛ وكان سببها أن رفاعة بن قيس، أو قيسس بن رفاعة، في بطن عظيم من جشم نزل بالغابة يجمع لحرب النبي، صلى الله عليه وسلم، فبعث النبي، صلى الله عليه وسلم، أبا قتادة ومن معه ليأتوا منه بخير، فوصلوا قريباً من الحاضر مع غروب الشمس، فكمن كل واحد منهم في ناحية، وكانوا ثلاثة، وقيل: كانوا ستة عشر رجلاً، قال عبد الله بن أبي حدرد: فكان لهم راعٍ أبطأ عليهم، فخرج رفاعة بن قيس في طلبه ومعه سلاحه، فرميته بسهم في فؤاده، فما تكلم، قال: فأخذت رأسه ثم شددت في ناحية العسكر وكبرت وكبر صاحباي، فوالله ما كان إلا النجاء، فأخذوا نساءهم وأبناءهم وما خف عليهم واستقنا الإبل الكثيرة والغنم فجئنا بها رسول الله وبرأسه معي، فأعطاني رسول الله، صلى الله عليه وسلم، من تلك الإبل عشر بعيراً، وكنت قد تزوجت وأخذت أهلي. وعدل البعير بعشر من الغنم. وفيها أغزى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أبا قتادة أيضاً إلى إضم ومعه محلم بن جثامة الليثي قبل الفتح، فلقيهم عامر بن الأضبط الأشجعي على بعير له ومعه متاعه، فسلم عليهم بتحية الإسلام، فأمسكوا عنه، وحمل عليه محلم بن جثامة لشيء كان بينهما فقتله وأخذ بعيره، فلما قدمنا على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أخبره الخبر، فنزل: (يَا أيُّهَا الَّذيِنَ آمَنُوا إذَا ضَرَبْتُمْ في سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا) النساء: 93؛ الآية؛ وقيل: كانت هذه السرية حين خرج إلى مكة في رمضان. وكانوا ثمانية نفر. ؟ ذكر غزوة مؤتة كان ينبغي أن نقدم هذه الغزوة على ما تقدم، وإنما أخرناها لتتصل الغزوات العظيمة فيتلوا بعضها بعضاً. وكانت في جمادى الأولى من سنة ثمان، واستعمل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عليهم زيد بن حارثة، وقال: إن أصيب زيد فجعفر بن أبي طالب، فإن أصيب جعفر فعبد الله بن رواحة. فقال جعفر: ما كنت أذهب أن تستعمل علي زيداً. فقال: امض فإنك لا تدري أي ذلك خير. فبكى الناس وقالوا: هلا متعتنا بهم يا رسول الله ؟ فأمسك، وكان إذا قال: فإن أصيب فلان فالأمير فلان، أصيب كل من ذكره. فتجهز الناس، وهم ثلاثة آلاف، وودعهم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، والناس. فلما ودع عبد الله بن رواحة بكى عبد الله، فقال له الناس: ما يبكيك ؟ فقال: ما بي حب الدنيا ولا صبابة بكم، ولكن سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقرأ آية، وهي: (وَإنْ مِنْكُمْ إلاّ وَارِدُهَا كَانَ عَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً) مريم: 71؛ فلست أدري كيف لي بالصدر بعد الورود ؟ فقال المسلمون: صحبكم الله وردكم إلينا سالمين. فقال عبد الله: لكنّني أسأل الرّحمن مغفرةً ... وضربةً ذات فرغٍ تقذف الزّبدا أو طعنةً بيدي حرّان مجهزةً ... بحربةٍ تنفذ الأحشاء والكبدا حتى يقولوا إذا مرّوا علي جدثي ... أرشدك الله من غازٍ وقد رشدا فلما ودعهم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وعاد قال عبد الله: خلف السّلام على امرءٍ ودّعته ... في النّخل خير مشيّع وخليل ثم ساروا حتى نزلوا معان، فبلغهم أن هرقل سار إليهم في مائة ألف من الروم ومائة ألف من المستعربة من لخم وجذام وبلقين وبلي، عليهم رجل من بلي يقال له مالك بن رافلة، ونزلوا مآب من أرض البلقاء، فأقام المسلمون بمعان ليلتين ينظرون في أمرهم، وقالوا: نكتب إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، نخبره الخبر وننتظر أمره، فشجعهم عبد الله بن رواحة وقال: يا قوم والله إن الذي تكرهون للذي خرجتم تطلبون، الشهادة، وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا نقاتلهم إلا بهذا الدين، فانطلقوا فما هي إلا إحدى الحسنيين. فقال الناس: صدق والله، وساروا، وسمعه زيد بن أرقم، وكان يتيماً في حجره، وقد أردفه في مسيره ذلك على حقيبته، وهو يقول: إذا أدّيتني وحملت رحلي ... مسيرة أربعٍ بعد الحساء فشأنك فانعمي وخلاك ذمّ ... ولا أرجع إلى أهلي ورائي وجاء المسلمون وغادروني ... بأرض الشّام مشتهي الثّواء وردّك كلّ ذي نسب قريبٍ ... من الرّحمن منقطع الإخاء
هنالك لا أبالي طلع بعلٍ ... ولا نخلٍ أسافلها رواء فلما سمعها زيد بكى، فخفقه بالدرة وقال: ما عليك يا لكع ! يرزقني الله الشهادة وترجع بين شعبتي الرحل ؟ ثم ساروا، فالتقتهم جموع الروم والعرب بقرية من البلقاء يقال لها مشارف، وانحاز المسلمون إلى قرية يقال لها مؤتة، فالتقى الناس عندها، وكان على ميمنة المسلمين قطبة بن قتادة العذري، وعلى ميسرتهم عباية بن مالك الأنصاري، فاقتتلوا قتالاً شديداً، فقاتل زيد بن حارثة براية رسول الله، صلى الله عليه وسلم، حتى شاط في رماح القوم، ثم أخذها جعفر بن أبي طالب فقاتل بها وهو يقول: يا حبّذا الجنّة واقترابها ... طيّبةً وبارداً شرابها والرّوم رومٌ قد دنا عذابها، ... عليّ، إذ لاقيتها، ضرابها فلما اشتد القتال اقتحم عن فرس له شقراء فعقرها ثم قاتل القوم حتى قتل، وكان كعفر أول من عقر فرسه في الإسلام، فوجدوا به بضعاً وثمانين بين رمية وضربة وطعنة، فلما قتل أخذ الراية عبد الله بن رواحة ثم تقدم، فتردد بعض التردد، ثم قال يخاطب نفسه: أقسمت يا نفس لتنزلنّه ... طائعةً أو لا لتكرهنّه إن أجلت النّاس وشدّوا الرّنّه ... ما لي أراك تكرهين الجنّه قد طال ما قد كنت مطمئنّه ... هل أنت نطفةٌ في شنّه وقال أيضاً: يا نفس إن لم تقتلي تموتي ... هذا حمام الموت قد صليت وما تمنّيت فقد أعطيت ... إن تفعلي فعلهما هديت ثم نزل عن فرسه، وأتاه ابن عم له بعرق من لحم فقال له: شد بهذا صلبك، فقد لقيت ما لقيت. فأخذه فانتهش منه نهشةً ثم سمع الحطمة في ناحية العسكر فقال لنفسه: وأنت في الدنيا ! ثم ألقاه وأخذ سيفه وتقدم فقاتل حتى قتل. واشتد الأمر على المسلمين وكلب عليهم العدو، وقد كان قطبة بن قتادة قتل قبل ذلك مالك بن رافلة قائد المستعربة. ثم إن الخبر جاء من السماء في ساعته إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، فصعد المنبر وأمر فنودي: الصلاة جامعة، فاجتمع الناس، فقال: باب خير ! ثلاثاً أخبركم عن جيشكم هذا الغازي؛ إنهم لقوا العدو فقتل زيد شهيداً، فاستغفر له، ثم أخذ اللواء جعفرٌ فشد على القوم حتى قتل شهيداً، فاستغفر له، ثم أخذ اللواء عبد الله بن رواحة، وصمت حتى تغيرت وجوه الأنصار وظنوا أنه قد كان من عبد الله ما يكرهون، ثم قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: فقاتل القوم حتى قتل شهيداً، ثم قال: لقد رفعوا إلى الجنة على سر من ذهب، فرأيت في سرير ابن رواحة ازوراراً عن سريري صاحبيه، فقلت: عم هذا ؟ فقيل: مضيا، وتردد بعض التردد ثم مضى. ولما قتل ابن رواحة أخذ الراية ثابت بن أقرم الأنصاري وقال: يا معشر المسلمين اصطلحوا على رجل منكم. فقالوا: رضينا بك. فقال: ما أنا بفاعل. فاصطلحوا على خالد بن الوليد، فأخذ الراية ودافع القوم وانحازوا عنه، فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: ثم أخذ الراية سيف من سيوف الله خالد بن الوليد، فعاد بالناس، فمن يومئذٍ سمي خالد سيف الله. وقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: مر بي جعفر البارحة في نفر من الملائكة له جناحان مختضب القوادم بالدم. قالت أسماء: أتاني النبي، صلى الله عليه وسلم، وقد فرغت من اشتغالي وغسلت أولاد جعفر ودهنتهم فأخذهم وشمهم ودمعت عيناه، فقلت: يا رسول الله أبلغك عن جعفر شيء ؟ قال: نعم، أصيب هذا اليوم. ثم عاد إلى أهله فأمرهم أن يصنعوا لآل جعفر طعاماً، فهو أول ما عمل في دين الإسلام. قالت أسماء بنت عميس: فقمت أصنع، واجتمع إلي النساء. فلما رجع الجيش ودنا من المدينة لقيهم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، والمسلمون، فأخذ عبد الله بن جعفر فحمله بين يديه، فجعل الناس يحثون التراب على الجيش ويقولون: يا فرار ؟! ويقول رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (ليسوا بالفُرّار ولكنّهم الكُرّار إن شاء الله تعالى). ذكر فتح مكة
وأقام رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بعد غزوة مؤتة جمادى الآخرة ورجباً، ثم إن بني بكر بن عبد مناة عدت على خزاعة وهم على ماء لهم بأسفل مكة يقال له: الوتير، وكانت خزاعة في عهد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وبكر في عهد قريش في صلح الحديبية؛ وكان سبب ذلك أن رجلاً من بني الحضرمي اسمه مالك بن عباد وكان حليفاً للأسود بن رزن الدثلي ثم البكري في الجاهلية خرج تاجراً، فلما كان بأرض خزاعة قتلوه وأخذوا ماله، فعدت بنو بكر على رجل من خزاعة فقتلوه، فعدت خزاعة على بني الأسود بن رزن، وهم سلمى وكلثوم وذؤيب، فقتلوهم بعرفة، وكانوا من أشراف بني بكر، فبينما خزاعة وبكر على ذلك جاء الإسلام واشتغل الناس به، فلما كان صلح الحديبية ودخلت خزاعة في عهد النبي، صلى الله عليه وسلم، ودخلت بكر في عهد قريش، اغتنمت بكر تلك الهدنة وأرادوا أن يصيبوا من خزاعة ثأرهم بقتل بني الأسود، فخرج نوفل بن معاوية الدثلي بمن تبعه من بكر حتى بيت خزاعة على ماء الوتير. وقيل: كان سبب ذلك أن رجلاً من خزاعة سمع رجلاً من بكر ينشد هجاء النبي، صلى الله عليه وسلم، فشجه، فهاج الشر بينهم وثارت بكر بخزاعة حتى بيتوهم باوتير، وأعانت قريش بني بكر على خزاعة بسلاح ودواب وقاتل معهم جماعة من قريش مختفين، منهم صفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل وسهل بن عمرو، فانحازت خزاعة إلى الحرم وقتل منهم نفر. فلما دخلت خزاعة الحرم قالت بكر: يا نوفل إنا قد دخلنا الحرم، إلهك إلهك ! فقال: لا إله له اليوم، يا بني بكر أصيبوا ثأركم، فلعمري إنكم لتسرفون في الحرم، أفلا تصيبون ثأركم فيه ؟ فلما نقضت بكر وقريش العهد الذي بينهم وبين النبي، صلى الله عليه وسلم، خرج عمرو بن سالم الخزاعي ثم الكعبي حتى قدم على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، المدينة فوقف عليه ثم قال: لا همّ إنّي ناشدٌ محمّداً ... حلف أبينا وأبيه الأتلدا فوالداً كنّا وكنت ولدا ... ثمّت أسلمنا فلم ننزع يدا فانصر رسول الله نصراً أعتدا ... وادع عباد الله يأتوا مددا فيهم رسول الله قد تجرّدا ... أبيض مثل البدر ينمي صعدا إن سيم خسفاً وجهه تربّدا ... في فيلق كالبحر يجري مزبدا إنّ قريشاً أخلفوك الموعدا ... ونقضوا ميثاقك المؤكّدا وجعلوا لي في كداءٍ رصدا ... وزعموا أن لست أدعوا أحدا وهم أذلّ وأقلّ عددا ... هم بيّتونا بالوتير هجّدا فقتّلونا ركّعاً وسجّدا فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: قد نصرت يا عمرو بن سالم ! ثم عرض لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، عنان من السماء فقال: إن هذه السحابة لتستهل بنصر بني كعب. وكان بين عبد المطلب وخزاعة حلف قديم، فلهذا قال عمرو بن سالم: حلف أبينا وأبيه الأتلدا. ثم خرج بديل بن ورقاء في نفر من خزاعة حتى قدموا على النبي، صلى الله عليه وسلم، المدينة فنادوه وهو يغتسل فقال: يا لبيكم ! وخرج إليهم، فأخبروه الخبر ثم انصرفوا راجعين إلى مكة، وكان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قد قال: كأنكم بأبي سفيان قد جاء ليجدد العهد خوفاً ويزيد في المدة. ومضى بديل فلقي أبا سفيان بعسفان يريد النبي، صلى الله عليه وسلم، ليجدد العهد خوفاً منه، فقال لبديل: من أين أقبلت ؟ قال: من خزاعة في الساحل وبطن هذا الوادي. قال: أوما أتيت محمداً ؟ قال: لا. فقال أبو سفيان لأصحابه لما راح بديل: انظروا بعر ناقته، فإن جاء المدينة لقد علف النوى. فنظروا بعر الناقة فرأوا فيه النوى.
ثم خرج أبو سفيان حتى أتى النبي، صلى الله عليه وسلم، فدخل على ابنته أم حبيبة زوج النبي، فلما أراد أن يجلس على فراش رسول الله طوته عنه. فقال: أرغبت به عني أم رغبت بي عنه ؟ فقالت: هو فراش رسول الله وأنت مشرك نجسٌ فلم أحب أن تجلس عليه، فقال: لقد أصابك بعدي شر. ثم خرج حتى أتى النبي، صلى الله عليه وسلم، فكلمه، فلم يرد عليه شيئاًن ثم أتى أبا بكر فكلمه ليكلم له رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقال: ما أنا بفاعل ثم أتى عمر فكلمه فقال: أنا أشفع لكم إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم ! والله لو لم أجد إلا الذر لجاهدتكم به. ثم خرج حتى أتى علياً، وعنده فاطمة والحسن غلام، فكلمه في ذلك، فقال له: والله لقد عزم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، على أمر لا نستطيع أن نكلمه فيه. فقال لفاطمة: يا بنت محمد هل لك أن تأمري ابنك هذا أن يجير بين الناس فيكون سيد العرب ؟ فقالت: ما بلغ ابني أن يجير بين الناس، وما يجير على رسول الله أحد. فالتفت إلى علي فقال له: أرى الأمور قد اشتدت علي فانصحني. قال: أنت سيد كنانة فقم فأجر بين الناس والحق بأرضك فقام أبو سفيان في المسجد، فقال: أيها الناس قد أجرت بين الناس. ثم ركب بعيره وقدم مكة وأخبر قريشاً ما جرى له وما أشار به علي عليه. فقالوا له: والله ما زاد على أن يسخر بك. ثم إن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، تجهز وأمر الناس بالتجهز إلى مكة وقال: اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها في بلادها. فكتب حاطب بن أبي بلتعة كتاباً إلى قريش يعلمهم الخبر وسيره مع امرأة من مزينة اسمها كنود، وقيل: مع سارة مولاة لبني المطلب. فأرسل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، علياً والزبير، فأدركاها وأخذا منها الكتاب وجاءا به إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فأحضر حاطباً وقال له: ما حملك على هذا ؟ فقال: والله إني لمؤمن بالله ورسوله ما بدت ولا غيرت ولكن لي بين أظهرهم أهل وولد وليس لي عشيرة فصانعتهم عليهم. فقال عمر: دعني أضرب عنقه فإنه قد نافق. فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: وما يدريك يا عمر ؟ لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال: اعلموا ما شئتم فقد غفرت لكم، وأنزل الله في حاطب: (يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوّي وَعَدُوَّكُمْ أوْلِيَاءَ) إلى آخر الآية الممتحنة: 1. ثم مضى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، واستخلف على المدينة أبا رهم كلثوم بن حصين الغفاري، وخرج لعشر مضين من رمضان، وفتح مكة لعشر بقين منه، فصام حتى بلغ ما بين عسفان وأمج، فأفطروا، واستوعب معه المهاجرون والأنصار، فسبعت سليم وألفت مزينة، وفي كل القبائل عدد وإسلام، وأدركه عيينة بن حصن الفزاري بالعرج والأقرع بن حابس بالسقيا، ولقيه العباس بن عبد المطلب باحجفة، وقيل: بذي الحليفة، مهاجراً، فأمره رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أن يرسل رحله إلى المدينة ويعود معه، وقال له: أنت آخر المهاجرين، وأنا آخر الأنبياء. ولقيه أيضاً محرمة بن نوفل، وأبو سيان بن الحارث بن عبد المطلب، وعبد الله بن أبي أمية بنيق العقاب، فالتمسا الدخول على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وكلمته أم سلمة فيهما وقالت له: ابن عمك وابن عمتك. قال: لا حاجة لي بهما، أما ابن عمي فهتك عرضي، وأما ابن عمتي فهو الذي قال بمكة ما قال. فلما سمعا ذلك وكان مع أبي سفيان ابن له اسمه جعفر فقال: والله ليأذن لي أو لآخذن بيد ابني هذا ثم لنذهبن في الأرض حتى نموت عطشاً وجوعاً. فرق لهما رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فأدخلهما إليه فأسلما. وقيل: إن علياً قال لأبي سفيان بن الحارث: إيت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، من قبل وجهه فقل له ما قال إخوة يوسف ليوسف: (تَاللهِ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنَا وَإنْ كَنّا لَخَاطِئِينَ) يوسف: 91 فإنه لا يرضى أن يكون أحد أحسن منه فعلاً ولا قولاً، ففعل ذلك. فقال له رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ اليَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) يوسف: 92، وقربهما، فأسلما، وأنشده أبو سفيان قوله في إسلامه واعتذاره مما مضى: لعمرك إنّي يوم أحمل رايةً ... لتغلب خيل اللاّت خيل محمّد لكالمدلج الحيران أظلم ليله ... فهذا أواني حين أهدى وأهتدي
وهادٍ هداني غير نفسي ونالني ... مع الله من طردت كلّ مطرّد الأبيات. فضرب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، صدره وقال: (أنت طرّدتني كلَّ مطرَّد). وقيل: إن أبا سفيان لم يرفع رأسه إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، حياء منه. وقدم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، مر الظهران في عشرة آلاف فارس، من بني غفار أربعمائة، ومن مزينة ألف وثلاثة نفر، ومن بني سليم سبعمائة، ومن جهينة ألف وأربعمائة، وسائرهم من قريش والأنصار وحلفائهم وطوائف من العرب، ثم من تميم وأسد وقيس. فلما نزل مر الظهران قال العباس بن عبد المطلب: يا هلاك قريش ؟! والله لئن بغتها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في بلادها فدخل عنوة إنه لهلاك قريش إلى آخر الدهر. فجلس على بغلة النبي، صلى الله عليه وسلم، وقال: أخرج لعلي أرى حطاباً أو رجلاً يدخل مكة فيخبرهم بكان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فيأتونه ويستأمنونه. قال: فخرجت أطوف في الأراك إذ سمعت صوت أبي سفيان وحكيم بن حزام وبديل بن ورقاء الخزاعي قد خرجوا يتجسسون. فقال أبو سفيان: ما رأيت نيراناً أكثر من هذه. فقال بديل: هذه نيران خزاعة. فقال أبو سفيان: خزاعة أذل من ذلك. فقلت: يا أبا حنظلة، يعني أبا سفيان كان يكنى بذلك، فقال: أبو الفضل ! قلت: نعم. قال: لبيك فداك أبي وأمي، ما وراءك ؟ فقلت: هذا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في المسلمين أتاكم في عشرة آلاف. قال: ما تأمرني ؟ قلت: تركب معي فأستأمن لك رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فوالله لئن ظفر بك ليضربن عنقك. فردفني، فخرجت أركض به نحو رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فكلما مررت بنار من نيران المسلمين يقولون: عم رسول الله على بغلة رسول الله، حتى مررنا بنار عمر بن الخطاب، فقال أبو سفيان: الحمد لله الذي أمكن منك بغير عقد ولا عهد ! ثم اشتد نحو النبي، صلى الله عليه وسلم، وركضت البغلة فسبقت عمر، ودخل عمر على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فأخبره وقال: دعني أضرب عنقه. فقلت: يا رسول الله إني قد أجرته. ثم أخذت برأس رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وقلت: لا يناجيه اليوم أحد دوني. فلما أكثر فيه عمر قلت: مهلاً يا عمر، فوالله ما تصنع هذا إلا لأنه من بني عبد مناف، ولو كان من بني عدي ما قلت هذه المقالة. فقال: مهلاً يا عباس، فوالله لإسلامك يوم أسلمت كان أحب من إسلام الخطاب لو أسلم. فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: اذهب فقد آمناه حتى تغدو علي به بالغداة. فرجعت به إلى منزلي وغدوت به على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فلما رآه قال: ويحك يا أبا سفيان ! ألم يأن لك أن تعلم أن لا إله إلا الله ؟ قال: بلى، بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لو كان مع الله غيه لقد أغنى عني شيئاً. فقال: ويحك ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله ؟ فقال: بأبي أنت وأمي، أما هذه ففي النفس منها شيء. قال العباس: فقلت له: ويحكم تشهد شهادة الحق قبل أن تضرب عنقك ! قال: فتشهد، وأسلم معه حكيم بن حزام وبديل بن ورقاء. فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، للعباس: اذهب فاحبس أبا سفيان عند خطم الجبل بمضيق الوادي حتى تمر عليه جنود الله. فقلت: يا رسول الله إنه يحب الفخر فاجعل له شيئاً يكون في قومه. فقال: من دخل دار أبي سفيان فهو آمنٌ، ومن دخل دار حكيم بن حزام فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن. قال: فخرجت به فحبسته عند خطم الجبل، فمرت عليه القبائل فيقول: من هؤلاء ؟ فأقول: أمسلم. فيقول: ما لي ولأسلم. ويقول: من هؤلاء ؟ فأقول: جهينة. فيقول: ما لي ولجهينة. حتى مر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في كتيبته الخضراء مع المهاجرين والأنصار في الحديد لا يرى منهم إلا الحدق. فقال: من هؤلاء ؟ فقلت: هذا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في المهاجرين والأنصار. فقال: لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيماً. فقلت: ويحك إنها النبوة. فقال: نعم إذن. فقلت: الحق بقومك سريعاً فحذرهم. فخرج حتى أتى مكة ومعه حكيم بن حزام، فصرخ في المسجد: يا معشر قريش هذا محمد قد جاءكم بما لا قبل لكم به. فقالوا: فمه. قال: من دخل داري فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن؛ ثم قال: يا معشر قريش أسلموا تسلموا.
فأقبلت امرأته هند فأخذت بلحيته وقالت: يا آل غالب اقتلوا هذا الشيخ الأحمق. فقال: أرسلي لحيتي وأقسم لئن أنت لم تسلمي لتضربن عنقك، ادخلي بيتك ! فتركته. وبعث رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في أثرهما الزبير وأمره أن يدخل ببعض الناس من كداء، وكان على المجنبة اليسرى، وأمر سعد بن عبادة أن يدخل ببعض الناس من كداء، فقال سعد حين وجهه: اليوم يوم الملحمة، اليوم تستح الحرمة. فسمعها رجل من المهاجرين فأعلم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقال لعلي بن أبي طالب: أدركه فخذ الراية منه وكن أنت الذي تدخل بها، وأمر خالد بن الوليد أن يدخل من أسفل مكة من الليط في بعض الناس، وكان معه أسلم وغفار ومزينة وجهينة وقبائل من العرب، وهو أول يوم أمر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، خالد بن الوليد. ولما وصل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إلى ذي طوىً وقف على راحلته وهو معتجر ببرد خز أحمر وقد وضع رأسه تواضعاً لله تعالى حين رأى ما أكرمه الله به من الفتح حتى إن أسفل لحيته ليمس واسطة الرحل، ثم تقدم ودخل من أذاخر بأعلاها وضربت قبته هناك. وكان عكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية وسهيل بن عمرو قد جمعوا ناساً بالخندمة ليقاتلوا ومعهم الأحابيش وبنو بكر وبنو الحارث بن عبد مناة، فلقيهم خالد بن الوليد فقاتلهم فقتل من المسلمين جابر بن جبيل الفهري وحبيش بن خالد، وهو الأشعر الكعبي، وسلمة بن الميلاء، وقتل من المشركين ثلاثة عشر رجلاً ثم انهزم المشركون. وكان مع عكرمة حماس بن خالد الدثلي، وكان قد قال لأمرأته: لآتينك بخادم من أصحاب محمد، فلما عاد إليها منهزماً قالت له تستهزئ به: أين الخادم ؟ فقال: فأنت لو شهدتنا بالخندمه ... إذ فرّ صفوانٌ وفرّ عكرمه وأبو يزيد كالعجوز المؤتمه ... لم تنطقي في اللّوم أدنى كلمه إذ ضربتنا بالسّيوف المثلمه ... لهم زفيرٌ خلفنا وغمغمه أبو يزيد هذا هو سهيل بن عمرو. وكان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قد عهد إلى امرائه أن لا يقتلوا أحداً إلا من قاتلهم. فلما انهزم المشركون وأراد المسلمون دخول مكة قام في وجوههم نساء مشركات يلطمن وجوه الخيل بالخمر وقد نشرن شعورهن، فرآهن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وإلى جنبه أبو بكر، فتبسم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وقال: يا أبا بكر كيف قال حسان ؟ فأنشده: تكاد جيادنا مستمطرات ... يلطّمهنّ بالخمر النّساء وكان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قد أمر بقتل ثمانية رجال وأربع نسوة، فأما الرجال فمنهم عكرمة بن أبي جهل، كان يشبه أباه في إيذاء رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وعداوته والإنفاق على محاربته، فلما فتح رسول الله، صلى الله عليه وسلم، مكة خافه على نفسه فهرب إلى اليمن وأسلمت امرأته أم حكيم بنت الحارث بن هشام فاستأمنت له وخرجت في طلبه ومعها غلام لها رومي، فراودها عن نفسها، فأطعمته ولم تمكنه حتى أتت حياً من العرب فاستعانتهم عليه، فأوثقوه، وأدركت عكرمة وهو يريد ركوب البحر فقالت: جئتك من عند أوصل الناس وأحملهم وأكرمهم وقد آمنك، فرجع، وأخبرته خبر الرومي، فقتله قبل أن يسلم. فلما قدم على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، سر به، فأسلم وسأل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أن يستغفر له، فاستغفر. ومنهم صفوان بن أمية بن خلف، وكان أيضاً شديداً على النبي، صلى الله عليه وسلم، فهرب خوفاً منه إلى جدة، فقال بن وهب الجمحي: يا رسول الله إن صفوان سيد قومي وقد خرج هارباً منك فآمنه. قال: هو آمنٌ، وأعطاه عمامته التي دخل بها مكة ليعرف بها أمانه، فخرج بها عمير فأدركه بجدة فأعلمه بأمانه وقال: إنه أحلم الناس وأوصلهم، وإنه ابن عمك وعزه عزك وشرفه شرفك. قال: إني أخافه على نفسي. قال: هو أحلم من ذلك. فرجع صفوان وقال لرسول الله، صلى الله عليه وسلم: إن هذا يزعم أنك آمنتني. قال: صدق. قال: اجعلني بالخيار شهرين. قال: أنت فيه أربعة أشهر، فأقام معه كافراً وشهد معه حنيناً والطائف ثم أسلم وحسن إسلامه وتوفي بمكة عند خروج الناس إلى البصرة ليوم الجمل.
ومنهم عبد الله بن سعد بن أبي سرح من بني عامر بن لؤي، وكان قد أسلم وكتب الوحي إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فكان إذا أملى عليه: عزيز حكيم، يكتب: عليم حكيم، وأشباه ذلك، ثم ارتد وقال لقريش: إني أكتب أحرف محمدٍ في قرآنه حيث شئت ودينكم خير من دينه؛ فلما كان يوم الفتح فر إلى عثمان بن عفان، وكان أخاه من الرضاعة، فغيبه عثمان حتى اطمأن الناس، ثم أحضره عند رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وطلب له الأمان، فصمت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، طويلاً ثم آمنه، فأسلم وعاد، فلما انصرف قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لأصحابه: لقد صمت ليقتله أحدكم. فقال أحدهم: هلا أومأت إلينا ؟ فقال: ما كان للنبي أن يقتل بالإشارة، إن الأنبياء لا يكون لهم خائنة الأعين. ومنهم عبد الله بن خطل، وكان قد أسلم، فأرسله رسول الله، صلى الله عليه وسلم، مصدقاً ومعه رجل من الأنصار وغلامٌ له رومي قد أسلم، فكان الرومي يخدمه ويصنع الطعام، فنسي يوماً أن يصنع له طعاماً، فقتله وارتد، وكان له قينتان تغنيان بهجاء رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقتله سعيد بن حريث المخزومي، أخو عمرو بن حريث، وأبو برزة الأسلمي. ومنهم الحويرث بن نقيذ بن وهب بن عبد بن قصي، وكان يؤذي رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بمكة وينشد الهجاء فيه، فلما كان يوم الفتح هرب من بيته، فلقيه علي بن أبي طالب فقتله. ومنهم مقيس بن صبابة، وإنما أمر بقتله لأنه قتل الأنصاري الذي قتل أخاه هشاماً خطأً وارتد، فلما انهزم أهل مكة يوم الفتح اختفى بمكان هو وجماعة وشربوا الخمر، فعلم به نميلة بن عبد الله الكناني، فأتاه فضربه بالسيف حتى قتله. ومنهم عبد الله بن الزبعري السهمي، وكان يهجو رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بمكة ويعظم القول فيه، فهرب يوم الفتح هو وهبيرة بن أبي وهب المخزومي زوج أم هانئ بنت أبي طالب إلى نجران، فأما هبيرة فأقام بها مشركاً حتى هلك، وأما ابن الزبعري فرجع إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، واعتذر، فقبل عذره، فقال حين أسلم: يا رسول المليك إنّ لساني ... راتقٌ ما فتقت إذ أنا بور إذ أباري الشّيطان في سنن الغ ... يّ ومن نال مثله مثبور آمن اللّحم والعظام بربّي ... ثمّ نفسي الشهيد أنت النّذير في أشعار له كثيرة يعتذر بها. ومنهم وحشي بن حرب قاتل حمزة، فهرب يوم الفتح إلى الطائف، ثم قدم في وفد أهله على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وهو يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله. فقال النبي، صلى الله عليه وسلم، أوحشي ؟ قال: نعم. قال: أخبرني كيف قتلت عمي ؟ فأخبره، فبكى وقال: غيب وجهك عني. وهو أول من جلد في الخمر، وأول من لبس المعصفر المصقول في الشام. وهرب حويطب بن عبد العزى، فرآه أبو ذر في حائط فأخبر النبي، صلى الله عليه وسلم، بمكانه، فقال: أوليس قد آمنا الناس إلا من قد أمرنا بقتله ؟ فأخبره بذلك، فجاء إلى النبي فأسلم. قيل: إنه دخل يوماً على مروان بن الحكم وهو على المدينة فقال له مروان: يا شيخ تأخر إسلامك. فقال: لقد هممت به غير مرة فكان يصدني عنه أبوك. فأما النساء فمنهن هند بنت عتبة، وكان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أمر بقتلها لما فعلت بحمزة ولما كانت تؤذي رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بمكة، فجاءت إليه النساء متخفية فأسلمت وكسرت كل صنم في بيتها وقالت: لقد كنا منكم في غرور، وأهدت إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، جديين، واعتذريت من قلة ولادة غنمها، فدعا لها بالبركة في غنمها فكثرت، فكانت تهب وتقول: هذا من بركة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فالحمد لله الذي هدانا للإسلام. ومنهن سارة، وهي مولاة عمرو بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، وهي التي حملت كتاب حاطب بن أبي بلتعة في قول بعضهم، وكانت قدمت على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، مسلمة فوصلها فعادت إلى مكة مرتدة، فأمر بقتلها، فقتلها علي بن أبي طالب.
ومنهن قينتا عبد الله بن خطل، وكانتا تغنيان بهجاء رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فأمر بقتلهما، فقتلت إحداهما واسمها قريبة، وفرت الأخرى وتنكرت وجاءت إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فأسلمت وبقيت إلى خلافة عمر بن الخطاب، فأوطأها رجل فرسه خطأً فماتت، وقيل: بقيت إلى خلافة عثمان، فكسر رجل ضلعاً من أضلاعها خطأً فماتت، فأغرمه عثمان ديتها. ولما دخل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، مكة كانت عليه عمامة سوداء، فوقف على باب الكعبة وقال: لا إله إلا الله وحده، وصدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ألا كل دم أو مأثرة أو مال يدعى فهو تحت قدمي هاتين إلا سدانة البيت وسقاية الحج. ثم قال: يا معشر قريش ما ترون أني فاعل بكم ؟ قالوا: خيراً، أخ كريم، وابن أخٍ كريم. قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء، فعفا عنهم، وكان الله قد أمكنه منهم، وكانوا له فيئاً، فلذلك سمى أهل مكة الطلقاء. وطاف بالكعبة سبعاً، ودخلها وصلى فيها، ورأى فيها صور الأنبياء، فأمر بها فمحيت، وكان على الكعبة ثلاثمائة وستون صنماً، وكان بيده قضيب، فكان يشير به إلى الأصنام وهو يقرأ: (وَقُلْ جَاءَ الحَقُّ وَزَهَقَ البَاطِلُ إنَّ البَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً) الاسراء: 81؛ فلا يشير إلى صنم منها إلا سقط لوجهه. وقيل بل أمر بها وخذمت وكسرت. ثم جلس رسول الله، صلى الله عليه وسلم، للبيعة على الصفا، وعمر بن الخطاب تحته، واجتمع الناس لبيعة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، على الإسلام، فكان يبايعهم على السمع والطاعة لله ولرسوله فيما استطاعوا، فكانت هذه بيعة الرجال. وأما بيعة النساء فإنه لما فرغ من الرجال بايع النساء، فأتاه منهن نساء من نساء قريش، منهن أم هانئ بنت أبي طالب، وأم حبيب بنت العاص بن أمية، وكانت عند عمرو بن عبد ود العامري، وأروى بنت أبي العيص عمة عتاب بن أسيد، وأختها عاتكة بنت أبي العيص، وكانت عند الطلب بن أبي وداعة السهمي، وأمه بنت عفان بن العاص أخت عثمان، وكانت عند سعد حليف بني مخزوم، وهند بنت عتبة، وكانت عند أبي سفيان، ويسيرة بنت صفوان بن نوفل بن أسد بن عبد العزى، وأم حكيم بنت الحارث بن هشام، وكانت عند عكرمة بن أبي جهل، وفاختة بنت الوليد بن المغيرة أخت خالد، وكانت عند صفوان بن أمية بن خلف، وريطة بنت الحجاج، وكانت عند عمرو بن العاص في غيرهن وكانت هند متنكرة لصنيعها بحمزة، فهي تخاف أن تؤخذ به، وقال لهن: تبايعنني على أن لا تشركن بالله شيئاً. قالت هند: إنك والله لتأخذ علينا ما لا تأخذه على الرجال فسنؤتيكه. قال: ولا تسرقن. قالت: والله إن كنت لأصبت من مال أبي سفيان الهنة والهنة. فقال أبو سفيان، وكان حاضراً: أما ما مضى فأنت منه في حل. فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: أهند ؟ قالت: أنا هند فاعف عما سلف عفا الله عنك. قال: ولا تزنين. قالت: وهي تزني الحرة ؟ قال: ولا تقتلن أولادكن. قالت: ربيناهم صغاراً وقتلتهم يوم بدر كباراً فأنت وهم أعلم. فضحك عمر. قال: ولا تأتين ببهتان تفترينه بين أيديكن وأرجلكن. قالت: والله إن إتيان البهتان لقبيح ولبعض التجاوز أمثل. قال: ولا تعصينني في معروف. قالت: ما جلسنا هذا المجس ونحن نريد أن نعصيك. فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لعمر: بايعهن. وإستغفر لهن رسول الله، صلى الله عليه وسلم. وكان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لا يمس النساء ولا يصافح امرأة ولا تمسه امرأة إلا امرأة أحلها له أو ذات محرم منه. ولما جاء وقت الظهر أمر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بلالاً أن يؤذن على ظهر الكعبة وقريش فوق الجبال، فمنهم من يطلب الأمان ومنهم من قد أمن، فلما أذن وقال: أشهد أن محمداً رسول الله، قالت جويرية بنت أبي جهل: لقد أكرم الله أبي حين لم يشهد نهيق بلال فوق الكعبة. وقيل: إنها قالت: لقد رفع الله ذكر محمد، وأما نحن فسنصلي ولكنا لا نحب من قتلالأحبة. وقال خالد بن أسد، أخو عثمان بن أسد: لقد أكرم الله أبي فلم ير هذا اليوم. وقال الحارث بن هشام: ليتني مت قبل هذا اليوم. وقال جماعة نحو هذا القول. ثم أسلموا وحسن إسلامهم ورضي الله عنهم.
وأما الأسماء المشكلة: فحاطب بن أبي بلتعة بالحاء والطاء المهملتين، والباء الموحدة، وبلتعة بالباء الموحدة، وبعد اللام تاء مثناة من فوقها. وعيينة بن حصن بضم العين المهملة، ويائين مثناتين من تحت، ثم نون، تصغير عين. وبديل بن ورقاء بضم الباء الموحدة. وعتاب بالتاء فوقها نقطتان، وآخره باء موحدة. وأسيد بفتح الهمزة، وكسر السين. وقول أم سلمة: ابن عمك وابن عمتك، فتعني بابن عمه أبا سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، وابن عمته عبد الله بن أبي أمية، وهو أخوها لأبيها، وكانت أمه عاتكة بنت عبد المطلب. وقوله: قال في مكة ما قال، فإنه قال بمكة: لن نؤمن لك حتى ترقى في السماء، ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتاباً نقرؤه وقد غلط هنا بعض العلماء الكبار فقال: معنى قول أم سلمة: ابن عمتك، أن جدة النبي أم عبد الله كانت مخزومية وعبد الله بن أبي أمية مخزومي، فعلى هذا يكون ابن خالته لا ابن عمته، والصواب ما ذكرناه. وحبيش بن خالد بضم الحاء المهملة، وبالباء الموحدة، ثم بالياء المثناة من تحت، وآخره شين معجمة. ومقيس بن صبابة بكسر الميم، وسكون القاف، وبالياء المثناة من تحت المفتوحة، وآخره سين مهملة. وصبابة بضم الصاد المهملة، وبائين موحدتين بينهما ألف. خطم الجبل روي بالخاء المعجمة، وبالحاء المهملة، فأما بالخاء المعجمة فهو الأنف الخارج من الجبل، وأما بالحاء المهملة فهو الموضع الذي ثلم منه وقطع فبقي منقطعاً، وقد روي حطم الخيل بالحاء المهملة، والخيل هذه هي التي تركب، يعني أنه يحبسه في الموضع الضيق الذي يحطم الخيل فيه بعضها بعضاً لضيقه. ذكر غزوة خالد بن الوليد بني جذيمةوفي هذه السنة كانت غزوة خالد بن الوليد بني جذيمة، وكان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قد بعث السرايا بعد الفتح فيما حول مكة يدعون الناس إلى الإسلام ولم يأمرهم بقتال، وكان ممن بعث خالد بن الوليد، بعثه داعياً ولم يبعثه مقاتلاً، فنزل على الغميصاء من مياه جذيمة بن عامر بن عبد مناة بن كنانة، وكانت جذيمة أصابت في الجاهلية عوف بن عبد عوف أبا عبد الرحمن بن عوف، والفاكه بن المغيرة عم خالد، كانا أقبلا تاجرين من اليمن، فأخذت ما معهما وقتلتهما، فلما نزل خالد ذلك الماء أخذ بنو جذيمة السلاح، فقال لهم خالد: ضعوا السلاح فإن الناس قد أسلموا. فوضعوا السلاح، فأمر خالد بهم فكتفوا ثم عرضهم على السيف فقتل منهم من قتل. فلما انتهى الخبر إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، رفع يديه إلى السماء ثم قال: اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد ! ثم أرسل علياً ومعه مال وأمره أن ينظر في أمرهم، فودى لهم الدماء والأموال حتى إنه ليدي ميلغة الكلب، وبقي معه من المال فضله، فقال لهم علي: هل بقي لكم مال أو دم لم يود ؟ قالوا: لا. قال: فإني أعطيكم هذه البقية احتياطاً لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، ففعل. ثم رجع إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فأخبره، فقال: أصبت وأحسنت. وقيل: إن خالداً اعتذر وقال إن عبد الله بن حذافة السهمي أمره بذلك عن رسول الله، وكان بين عبد الرحمن بن عوف وخالد كلام في ذلك، فقال له: عملت بأمر الجاهلية في الإسلام. فقال خالد: إنما ثأرت بأبيك. فقال عبد الرحمن: كذبت، قد قتلت أنا قاتل أبي ولكنك إنما ثأرت بعمك الفاكه، حتى كان بينهما شر، فبلغ ذلك رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقال: مهلاً يا خالد، دع عنك أصحابي، فوالله لو كان لك أحدٌ ذهباً ثم أنفقته في سبيل الله ما أدركت غدوة أحدهم ولا روحته. قال عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي: كنت يومئذٍ في جند خالد فأثرنا في أثر ظعن مصعدة يسوق بهن فتية، فقال: أدركوا أولئك. قال: فخرجنا في أثرهم حتى أدركناهم مضوا، ووقف لنا غلام شاب على الطريق، فلما انتهينا إليه جعل يقاتلنا ويقول: ارفعن أطراف الذيول وارتعن ... مشي حييّاتٍ كأن لم تفزعن إن تمنع اليوم النّساء تمنعن فقاتلناه طويلاً فقتلناه ومضينا حتى لحقنا الظعن، فخرج إلينا غلام كأنه الأول فجعل يقاتلنا ويقول: أقسم ما إن خادرٌ ذو لبده ... يروم بين أثلةٍ ووهده يفرس شبّان الرّجال وحده ... بأصدق الغداة مني نجده
فقاتلناه حتى قتلناه، وأدركنا الظعن فأخذناهن، فإذا فيهن غلام وضيء الوجه به صفرة كالمنهوك، فربطناه بحبل وقدمناه لنقتله، فقال لنا: هل لكم في خير ؟ قلنا: ما هو ؟ قال: تدركون بي الظعن في أسفل الوادي ثم تقتلوني. قلنا: نفعل، فعارضنا الظعن، فلما كان بحيث يسمعن الصوت نادى بأعلى صوته: اسلمي حبيش، على فقد العيش. فأقبلت إليه جارية بيضاء حسانة وقالت: وأنت فاسلم على كثرة الأعداء، وشدة البلاء. قال: سلام عليك دهراً، وإن بقيت عصراً. قالت: وأنت سلام عليك عشرا، وشفعاً تترى، وثلاثاً وترا. فقال: إن يقتلوني يا حبيش فلم يدع ... هواك لهم مني سوى غلّة الصدر فأنت التي أخليت لحمي من دمي ... وعظمي، وأسبلت الدموع على نحري فقالت له: ونحن بكينا من فراقك مرّةً ... وأخرى وواسيناك في العسر واليسر وأنت فلم تبعد فنعم فتى الهوى ... جميل العفاف والمودّة في ستر فقال لها: أريتك إذ طالبتكم فوجدتكم ... بحلية أو ألفيتكم بالخوانق ألم يك حقّاً أن ينوّل عاشقٌ ... تكلّف إدلاج السّرى في الودائق فلا ذنب لي قد قلت إذ نحن جيرةٌ ... أثيبي بودٍّ قبل إحدى الصّفائق أثيبي بودٍّ قبل أن تشحط النّوى ... وينأى الأمير بالحبيب المفارق فإني لا آبه بالذي ادعيته ... ولا منظرٌ مذ غبت عني برائق على أنّ ما ناب العشيرة شاغلٌ ... ولا ذكر إلاّ أن يكون لوامق فقدموه فضربوا عنقه. هذا الشعر لعبد الله بن علقمة الكناني، وكان من جذيمة مع حبيشة بنت حبيش الكنانية أنه خرج مع أمه، وهو غلام، نحو المحتلم لتزور جارة لها، وكان لها ابنة اسمها حبيشة بنت حبيش. فلما رآها عبد الله هويها ووقعت في نفسه، وأقامت أمه عند جارتها، وعاد عبد الله إلى أهله. ثم عاد ليأخذ أمه بعد يومين، فوجد حبيشة قد تزينت لأمر كان في الحي، فازداد بها عجباً، وانصرفت أمه، فمشى معها وهو يقول: وما أدري، بلى إنّي لأدري ... أصوب القطر أحسن أم حبيش حبيشة والذي خلق البرايا ... وما إن عندنا للصّبّ عيش فسمعت أمه فتغافلت عنه. ثم إنه رأى ظبياً على ربوةٍ فقال: يا أمّنا خبّريني غير كاذبةٍ ... وما يريد سؤول الحقّ بالكذب أتلك أحسن أم ظبيٌ برابيةٍ ... لا بل حبيشة في عيني وفي أربي فزجرته أمه وقالت: ما أنت وهذا ؟ وأنا زوجتك ابنة عمك فهي من أجل تلك النساء. وأتت امرأة عمير فأخبرتها الخبر وقالت: زيني ابنتك له، ففعلت وأدخلتها عليه، فأطرق. فقالت أمه: أيهما الآن أحسن ؟ فقال: إذا غيّبت عني حبيشة مرّةً ... من الدّهر لا أملك عزاء ولا صبرا كأنّ الحشا حرّ السّعير تحسّه ... وقود الغضا والقلب مضطرمٌ جمرا وجعل يراسل الجارية وتراسله، فعلقته كما عقلها، وأكثر قول الشعر فيها، فمن ذلك: حبيّشةٌ جدّي وجدّك جامعٌ ... بشملكم شملي وأهلكم أهلي وهل أنا ملتفّ بثوبك مرّةً ... بصحراء بين الألبتين إلى النّحل فلما علم أهلها خبرهما حجبوها عنه، فازداد غرامه. فقالوا لها: عديه السرحة، فإذا أتاك فقولي له: نشدتك الله أحببتني فوالله ما على الأرض أبغض إلي منك، ونحن قريب نسمع ما تقولين، فوعدته وجلسوا قريباً، فأقبل لموعدٍ لها. فلما دنا منها دمعت عيناها والتفتت إلى جنب أهلها وهم جلوس فعرف أنهم قريب وبلغه الحال فقال: فإن قلت ما قالوا لقد زدتني جوًى ... على أنّه لم يبق سرٌّ ولا ستر ولم يك حتى عن فواك بذلته ... فيسلبني عنك التّجنّب والهجر وما أنس ملأشياء أنس ومقها ... ونظرتها حتى يغيّبني القبر وبعث النبي، صلى الله عليه وسلم، إثر ذلك خالد بن الوليد، فكان منه ما تقدم ذكره. وفي هذه السنة تزوج النبي، صلى الله عليه وسلم، مليكة ابنة داود الليثية، وكان أبوها قتل يوم فتح مكة، فج | |
|
| |
| كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير | |
|