| كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير | |
|
|
|
كاتب الموضوع | رسالة |
---|
الشيخ عودة الشيخ عودة

عدد المساهمات : 1748 تاريخ التسجيل : 28/09/2008 العمر : 73
 | موضوع: رد: كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير الخميس فبراير 27, 2014 6:35 am | |
| وملك يعقوب بن عبد المؤمن بلاده في هذه السنة توي الأمير محمد بن سعد بن مردنيش، صاحب البلاد بشرق الأندلس، وهي: مرسية وبلنسية وغيرهما، ووصى أولاده ان يقصدوا بعد موته الأمير أبا يوسف يعقوب بن عبد المؤمن، صاحب المغرب والأندلس، وتسلموا البلاد وتدخلوا في طاعته، فلما مات قصدوا يعقوب، وكان قد اجتاز إلى الأندلس في مائة ألف مقاتل قبل موت ابن مردنيش، فحين رآهم يوسف فرح بهم، وسره قدومهم عليه، وتسلم بلادهم وتزوج أختهم، وأكرمهم، وعظم أمرهم، ووصلهم بالأمال الجزيلة، وأقاموا معه. ذكر عبور الخطا جيحون والحرب بينهم وبين خوارزمشاه في هذه السنة عبر الخطا نهرجيحون يريدون خوارزم، فسمع صاحبها خوارزمشاه أرسلان بن أتسز، فجمع عساكره وسار إلى آموية ليقاتلهم ويصدهم، فمرض، وأقام بها، وسير بعض جيشه مع أمير كبير إليهم، فلقيهم، فاقتتلوا قتالاً شديداً، فانهزم الخوارزميون، وأسر مقدمهم، ورجع به الخطا إلى ما وراء النهر، وعاد خوارزم شاه إلى خوارزم مريضاً. في هذه السنة اتخذ نور الدين بالشام الحمام الهوادي، وهي التي يقال لها المناسيب، وهي تطير من البلاد البعيدة إلى أوكارها، وجعلها في جميع بلاده. وسبب ذلك أنه لما اتسعت بلاده، وطالت مملكته وعرضت أكنافها، وتباعدت أوائلها عن أواخرها، ثم إنها جاورت بلاد الفرنج، وكانوا ربما نازلوا حصناً من ثغوره، فإلى أن يصل الخبر، ويسير إليهم يكونون قد بلغوا غرضهم منه، فأمر بالحمام ليصل الخبر إليه في يومه،وأجرى الجرايات على المرتبين لحفظها وإقامتها، فحصل منها الراحة العظيمة، والنفع الكبير للمسلمين. وفيها عزل الخليفة المستضيئ بأمر الله وزيره عضد الدين أبا الفرج بن رئيس الرؤساء مكرهاً لأن قطب الدين قايماز ألزمه بعزله، فلم يمكنه مخالفته. وفيها مات أبو محمد عبد الله بن أحمد الخشاب اللغوي، وكان قيماً بالعربية وسمع الحديث الكثير إلى أن مات. وفيها مات البوري الفقيه الشافعي، تفقه على محمد بن يحيى، وقدم بغداد ووعظ، وكان يذم الحنابلة، وكثرت أتباعه، فأصابه إسهال، فمات هو وجماعة من أصحابه، فقيل: إن الحنابلة أهدوا إليه حلوى فمات هو وكل من أكل منها. وفيها مات القرطبي أبو بكر يحيى بن سعدون بن تمام الأزدي، وكان إماماً في القراءة والنحو وغيره من العلوم، زاهداً عابداً، انتفع به الناس بالموصل، وفيها كانت وفاته. ثم دخلت سنة ثمان وستين وخمسمائة ذكر وفاة خوارزم شاه أرسلان وملك ولده سلطان شاه وبعده ولده الآخر تكش وقتل المؤيد وملك ابنه في هذه السنة توفي خوارزم شاه أرسلان بن أتسز بن محمد بن أنوشتكين، قد عاد من قتال الخطا مريضاً، فتوفي، وملك بعده سلطان شاه مسعود، ودبرت والدته المملكة والعساكر.
وكان ابنه الأكبر علاء الدين تكش مقيماً في الجند قد أقطعه أبوه إياها، فلما بلغه موت أبيه وتولية أخيه الصغير انف من ذلك، وقصد ملك الخطا، واستمده على أخيه واستمده على أخيه، وأطمعه في الأموال وذخائر خوارزم، فسير معه جيشاً كثيفاً مقدمهم قوماً، فساروا حتى قاربوا خوارزم، فخرج سلطان شاه وأمه إلى المؤيد، فأهدى له هدية جليلة المقدار، ووعده أموال خوارزم وذخائرها،فاغتر بقوله، وجمع جيوشه وسار معه حتى بلغ سوبرني، بليدة على عشرين فرسخاً من خوارزم، وكان تكش قد عسكر بالقرب منها، فتقدم إليهم، فلما تراءى الجمعان انهزم عسكر المؤيد، وكسر المؤيد وأخذ أسيراً، وجيء به إلى خوارزم شاه تكش، فأمر بقتله، فقتل بين يديه صبراً. وهرب سلطان شاه، وأخذ إلى دهستان، فقصده خوارزم شاه تكش، فافتتح المدينة عنوة، فهرب سلطان شاه وأخذت أمه فقتلها تكش، وعاد خوارزم. ولما عاد المنهزمون من عسكر المؤيد إلى نيسابور ملكوا ابنه طغان شاه أبا بكر بن المؤيد، واتصل به سلطان شاه، ثم سار من هناك إلى غياث الدين ملك الغورية، فأكرمه وعظمه وأحسن ضيافته. وأما علاء الدين تكش، فإنه لما ثبت قدمه بخوارزم اتصلت به رسل الخطا بالاقتراحات والتحكم كعادتهم، فأخذته حمية الملك والدين، وقتل أحد أقارب الملك، وكان قد ورد إليه ومعه جماعة أرسلهم ملكهم في مطالبة خوارزم شاه بالمال، فأمر خوارزم شاه أعيان خوارزم،فقتل كل واحد منهم رجلاً من الخطا، فلم يسلم منهم أحد، ونبذوا إلى ملك الخطا عهده. وبلغ ذلك سلطان شاه، فسار إلى ملك الخطا واغتنم الفرصة بهذه الحال واستنجده على أخيه علاء الدين تكش، وزعم له أن أهل خوارزم معه يريدونه، ويختارون ملكه عليهم، ولو رأوه لسلموا البلد إليه، فسير معه جيشاً كثيراً من الخطا مع قوما أيضاً، فوصلوا إلى خوارزم، فحصروها، فأمر خوارزم شاه علاء الدين بإجراء ماء جيحون عليهم فكادوا يغرقون، فرحلوا ولم يبلغوا منها غرضاً، ولحقهم الندم حيث لم ينفعهم، ولاموا سلطان شاه وعنفوه، فقال لقوما: لو أرسلت معي جيشاً إلى مرو لاستخلصتها من يد دينار الغزي؛ وكان قد استولى عليها من حين كانت فتنة الغز إلى الآن، فسير معه جيشاً، فنزل على سرخس على غرة من أهلها، وهجموا على الغز فقتلوا منهم مقتلة عظيمة، فلم يتركوا بها أحداً منهم، وألقى دينار ملكهم نفسه في خندق القلعة، فأخرج منه ودخل القلعة وتحصن بها. وسار سلطان شاه إلى مور فملكها، وعاد الخطا إلى ما وراء النهر، وجعل سلطان شاه دأبه قتال الغز وقصدهم، والقتل فيهم، والنهب منهم، فلما عجز دينار عن مقاومته أرسل إلى نيسابور إلى طغان شاه ابن المؤيد يقول له ليرسل إليه من يسلم إليه قلعة سرخس، فأرسل إليه جيشاً مع أمير اسمه قراقوش، فسلم إليه دينار القلعة ولحق بطغان شاه، فقصد سلطان شاه سرخس وحصر قلعتها، وبلغ ذلك طغان شاه، فجمع جيوشه وقصد سرخس فلما التقى هو وسلطان شاه فر طغان شاه إلى نيسابور، وذلك سنة ست وسبعين وخمسمائة، فأخلى قراقوش قلعة سرخس ولحق بصاحبه، وملكها سلطان شاه، ثم أخذ طوس، وإلزام، وضيق الأمر على طغان شاه بعلو همته، وقلة قراره، وحرصه على طلب الملك. وكان طغان شاه يحب الدعة ومعاقرة الخمر، فلم يزل الحال كذلك إلى أن مات طغان شاه سنة اثنتين وثمانين وخمسمائة في المحرم، وملك ابنه سنجر شاه، فغلب عليه مملوك جده المؤيد، اسمه منكلي تكين، فتفرق الأمراء أنفة من تحكمه ، واتصل أكثرهم بسلطان شاه، وسار الملك دينار إلى كرمان، ومعه الغز، فملكها. وأما منكلي تكين فإنه أساء السيرة في الرعية، وأخذ أموالهم، وقتل بعض الأمراء، فسمع خوارزم شاه بذلك، فسار إليه فحصره في نيسابور في ربيع الأول سنة اثنتين وثمانين وخمسمائة، فحصرها شهرين فلم يظفر بها وعاد إلى خوارزم، ثم رجع سنة ثلاث وثمانين إلى نيسابور فحصرها، وطلبوا منه الأمان، فأمنهم، فسلموا البلد إليه، فقتل منكلي تكين وأخذ سنجر شاه وأكرمه، وأنزله بخوارزم، وأحسن إليه، فأرسل إلى نيسابور يستميل أهلها ليعود إليهم، فسمع به خوارزم شاه، فأخذ سنجر شاه فسلمه، وكان قد تزوج بأمه وزوجه انته، فماتت، فزوجه بأخته، وبقي عنده إلى أن مات سنة خمس وتسعين وخمسمائة.
ذكر هذا أبو الحسن بن أبي القاسم البيهقي في كتاب مشارب التجارب، وقد ذكر غيره من العلماء بالتواريخ هذه الحوادث مخالفة لهذا في بعض الأمور مع تقديم وتأخير، ونحن نوردها، فقال إن تكش خوارزم شاه ايل أرسلان أخرج اخاه سلطان شاه من خوارزم، وكان قد ملكها بعد موت أبيه، فجاء إلى مرو فأزاح الغز عنها، فخرجوا أياماً، ثم عادوا عليه فأخرجوه منها، وانتهبوا خزانته، وقتلوا أكثر رجاله، فعبر إلى الخطا فاستنجدهم، وضمن لهم مالاً ، وجاء بجيش عظيم، فاخرج الغز عن مرو وسرخس ونسا وأبيورد وملكها ورد الخطا. فلما ابعدوا كاتب غياث الدين الغوري يطلب منه أن ينزل عن هراة وبوشنج وباذغيس وما والاها، ويتوعده إن هو لم ينزل عن ذلك، فأجابه غياث الدين يطلب منه إقامة الخطبة له بمرو وسرخس وما ملكه من بلاد خراسان، فلما سمع الرسالة سار عن مرو وشن الغارات على باذغيس وبيوار وما والاها، وحصر بوشنج ونهب الرساتيق، وصادر الرعايا، فلما سمع غياث الدين ذلك لم يرض لنفسه أن يسير هو بل سير ملك سجستان، وكاتب ابن أخته بهاء الدين سام، صاحب باميان، باللحاق به، لأن أخاه شهاب الدين كان بالهند، والزمان شتاء، فجاء بهاء الدين ابن أخت غياث الدين وملك سجستان ومن معهما من العساكر، ووافق ذلك وصول سلطان شاه إلى هراة، فلما علم بوصولهم عاد إلى مرو من غير أن يقاتلها، وأحرق كل ما مر به من البلاد ونهبه، وأقام بمرو إلى الربيع، وأعاد مراسلة غياث الدين في المعنى، فأرسل إلى أخيه شهاب الدين يعرفه الحال، فنادى في عساكره الرحيل لساعته، وعاد إلى خراسان، واجتمع هو وأخوه غياث الدين وملك سجستان وغيرهم من العساكر، وقصدوا سلطان شاه، فلما علم ذلك جمع عساكره واجتمع عليه، من الغز المفسدين، وقطاع الطرق، ومن عنده طمع، خلق كثير، فنزل غياث الدين ومن معه من الطالقان، ونزل سلطان شاه بمرو الروذ، وتقدم عسكر الغورية إليه، وتواعدوا للمصاف. وبقوا كذلك شهرين والرسل تتردد بين غياث الدين وبين سلطان شاه، وشهاب الدين يطلب من أخيه غياث الدين الإذن في الحرب، فلا يتركه، وتقرر الأمر على أن يسلم غياث الدين إلى سلطان شاه بوشنج وباذغيس وقلاع بيوار، وكره ذلك شهاب الدين وبهاء الدين سام صاحب باميان، إلا أنهما لم يخالفا غياث الدين؛ وفي آخر الأمر حضر رسول سلطان شاه يطلب أن يحضر شهاب الدين وبهاء الدين هذا الأمر؛ فأرسل غياث الدين إليهما، فأعادا الجواب: إننا مماليك ومهما تفعل لا يمكننا مخالفتك. فبينما الناس مجتمعون في تحرير الأمر وإذ قد أقبل مجد الدين العلوي الهروي، وكان خصيصاً بغياث الدين بحيث يفعل في ملكه ما لا يخالف، فجاء العلوي ويده في يد ألب غازي ابن أخت غياث الدين، قد كتبوا الكتاب، وقد أحضر غياث الدين أخاه شهاب الدين وبهاء الدين سام ملك الباميان، فجاء العلوي كأنه يسار غياث الدين، ووقف في وسط الحلقة، وقال للرسول: يا فلان! تقول لسلطان شاه: قد تم لك الصلح من جانب السلطان الأعظم، ومن شهاب الدين، وبهاء الدين، ويقول لك العلوي خصمك: أنا ومولانا ألب غازي بيننا وبينك السيف؛ ثم صرخ صرخة ومزق ثيابه، وحثا التراب على رأسه وأقبل على غياث الدين، وقال له: هذا واحد طرده أخوك، وأخرجه فريداً وحيداً، لم تترك له ما ملكناه بأسيافنا من الغز والأتراك السنجرية؟ فإذا سمع هذا عنا يجيئ أخوه يطلب منازعته الهند وجميع ما بيدك؛ فحرك غياث الدين رأسه ولم يتفوه بكلمة، فقال الملك سجستان للعلوي: اترك الأمر ينصلح. فلما لم يتكلم غياث الدين مع العلوي قال شهاب الدين لجاووشيته: نادوا في العسكر بالتجهز للحرب، والتقدم إلى مرو الروذ؛ وقام، وأنشد العلوي بيتاً من الشعر عجمياً معناه: إن الموت تحت السيوف أسهل من الرضى بالدنية؛ فرجع الرسول إلى سلطان شاه وأعلمه الحال، فرتب عساكره للمصاف، والتقى الفريقان واقتتلوا، فصبروا للحرب، فانهزم سلطان شاه وعساكره، وأخذ أكثر أصحابه أسرى، فأطلقهم غياث الدين ، ودخل سلطان شاه مرو في عشرين فارساً، ولحق به من أصحابه نحو ألف خمسمائة فارس.
ولما سمع خوارزم شاه تكش بما جرى لأخيه سار من خوارزم في ألفي فارس وأرسل إلى جيحون ثلاثة آلاف فارس يقطعون الطريق على أخيه عن أراد الخطا، وجد في السير ليقبض على أخيه قبل أن يقوى، فأتت الأخبار سلطان شاه بذلك، فلم يقدر على عبور جيحون إلى الخطا، فسار إلى غياث الدين وكتب إليه يعلمه قصده إليه، فكتب إلى هراة و غيرها من بلاده بإكرامه واحترامه وحمل الإقامات إليه ،ففعل به ذلك ،وقدم على غياث الدين ،والتقاه ،وأكرمه وأنزله معه في داره، وأنزل أصحاب سلطان شاه كل إنسان منهم عند من هو في طبقته، فأنزل الوزير عند وزيره، والعارض عند عارضه، وكذلك غيرهم، وأقام عنده حتى انسلخ الشتاء فأرسل علاء الدين بن خوارزم شاه إلى غياث الدين يذكره ما صنعه أخوه سلطان شاه معه من تخريب بلاده، وجمع العساكر عليه، ويشير بالقبض عليه ورده إليه، فأنزل الرسول، وإذ قد أتاه كتاب نائبه بهراة يخبره أن كتاب خوارزم شاه جاءه يتهدده، فأجابه انه لا يظهر لخوارزمشاه أنه اعلمه بالحال، واحضر الرسول، وقال له: تقول لعلاء الدين: أما قولك إن سلطان شاه اخرب البلاد وأراد ملكها، فلعمري أنه ملك وابن ملك، وله همة عالية، وإذا أراد الملك، فمثله أراده، وللأمور مدبر يوصلها إلى مستحقها، وقد التجأ إلي، وينبغي أن تنزاح عن بلاده، وتعطيه نصيبه مما خلف أبوه، ومن الأملاك التي خلف، والأموال، وأحلف لكما يميناً على المودة والمصافاة، وتخطب لي بخوارزم، وتزوج أخي شهاب الدين بأختك. فلما سمع خوارزم شاه الرسالة امتعض لذلك وكتب إلى غياث الدين كتاباً يتهدده بقصد بلاده، فجهز غياث الدين العساكر مع ابن أخت ألب غازي وصاحب سجستان، وسيرهما مع سلطان شاه إلى خواروم، وكتب إلى المؤيد صاحب نيسابور يستنجده، وكان قد صار بينهما مصاهرة: زوج المؤيد ابنة طغان شاه بابنة غياث الدين، فجمع المؤيد عساكره، وأقام بظاهر نيسابور على طريق خواروم. وكان خوارزم شاه قد سار عن خوارزم إلى لقاء عسكر الغورية الذين مع أخيه سلطان شاه، وقد نزلوا بطرف الرمل، فبينما هو في مسيره أتاه خبر المؤيد انه قد جمع عساكره، وانه على قصد خوارزم إذا فارقها، فسقط في يديه وعاد فوقع في قلبه، وعاد إلى خوارزم، فأخذ أمواله وذخائره وعبر جيحون إلى الخطا، وأخلى خوارزم فوقع بها خبط عظيم، فحضر جماعة من أعيانها عند ألب غازي وسألوه إرسال أمير معهم يضبط البلد، فخاف أن تكون مكيدة، فلم يفعل. فبينما هم في ذلك توفي سلطان شاه، سلخ رمضان سنة تسع وثمانين وخمسمائة، فكتب ألب غازي إلى غياث الدين يعلمه الخبر، فكتب إليه يأمره بالعود إليه، فرجع ومعه أصحاب سلطان شاه، فأمر غياث الدين بأن يستخدموا، وأقطع الأجناد الإقطاعات الجيدة، وكلهم قابل إحسانه بكفران، وسنذكر باقي أخبارهم. ولما سمع خوارزم شاه تكش بوفاة أخيه عاد إلى خوارزم، وأرسل إلى سرخس ومرو شحناء، فجهز إليهم أمير هراة عمر المرغني جيشاً فأخبرهم، وقال: حتى نستأذن السلطان غياث الدين؛ وأرسل خوارزم شاه رسولاً إلى غياث الدين يطلب الصلح والمصاهرة، وسير مع رسوله جماعة من الفقهاء خراسان والعلويين، ومعهم وجيه الدين محمد بن محمود، وهو الذي جعل غياث الدين شافعياً، وكان له عنده منزلة كبيرة، فوعظوه، وخوفوه الله تعالى، وأعلموه أن خوارزم شاه يراسلهم ويتهددهم بأنه يجيئ بالأتراك والخطا ويستبيح حريمهم وأموالهم، وقالوا له: إما أن تحضر أنت بنفسك، وتجعل مرو دار ملكك، حتى ينقطع طمع الكافرين عن البلاد ويأمن أهلها، وإما أن تصالح خوارزم شاه؛ فأجاب إلى الصلح وترك معارضة البلاد. فلما سمع من بخراسان من الغز بذاك طمعوا في البلاد، فعادوا إلى النهب والإحراق والتخريب، فسمع خوارزم شاه فجمع عساكره وحضر بخراسان، ودخل مرو وسرخس ونسا وأبيورد وغيرها، وأصلح البلاد، وتطرق إلى طوس وهي للمؤيد صاحب نيسابور،فجمع المؤيد جيوشه وسار إليه، فلما سمع خوارزم شاه بمسيره إليه عاد إلى خوارزم، فلما وصل إلى الرمل أقام بطرفه، فلما سمع المؤيد بعود خوارزم شاه طمع فيه وتبعه، فلما سمع خوارزم شاه بذلك أرسل إلى المناهل التي في البرية فألقى فيها الجيف والتراب بحيث لم يمكن الانتفاع بها.
فلما توسط المؤيد البرية طلب الماء فلم يجده، فجاء خوارزم شاه إليه وهو على تلك الحال،ومعه الماء على الجمال، فأحاط به، فأما عسكره فاستسلموا بأسرهم، وجيئ بالمؤيد أسيراً إلى خوارزم شاه، فأمر بضرب عنقه، فقال: يا مخنث هذا فعال الناس؟ فلم يلتفت إليه، وقتله وحمل رأسه إلى خوارزم. فلما قتل ملك نيسابور ملك ما كان له ابنه طغان شاه. فلما كان من قابل جمع خوارزم شاه عساكره وسار إلى نيسابور، فحاصرها وقاتلها، فمنعه طغان شاه فعاد عنه ثم رجع إليه، فخرج إليه طغان شاه فقاتله، فأسر طغان شاه وأخذه فزوجه أخته، وحمله معه إلى خوارزم، وملك نيسابور وجميع ما كان لطغان شاه من الملك وعظم شأنه وقوي أمره. هذا الذي ذكره في هذه الرواية مخالف لما تقدم، ولو أمكن الجمع بين الروايتين لفعلت، فإن أحدهما قد قدم ما أخره الآخر، فلهذا أوردنا جميع ما قالاه، ولبعد البلاد عنا لم نعلم أي القولين أصح أن نذكره ونترك الآخر، وإنما أوردتها في موضع واحد لأن أيام سلطان شاه لم تطل له ولأعقابه حتى تتفرق على السنين، فلهذا أوردتها متتابعة. ذكر غاره الفرنج على بلد حوران وغارة المسلمين على بلد الفرنج في هذه السنة، في ربيع الأول، اجتوعت الفرنج وساروا إلى بلد حوران من أعمال دمشق للغارة عليه، وبلغ الخبر إلى نور الدين وكان قد برز ونزل هو وعسكره بالكسوة، فسار إليهم مجداً، وقدم بجموعه عليهم، فلما علموا بقربه منهم دخلوا إلى السواد، وهو من أعمال دمشق أيضاً، ولحقهم المسلمون وتخطفوا من في ساقتهم ونالوا منهم، وسار نور الدين فنزل في عشترا، وسير منها سرية إلى أعمال طبرية، فشنوا الغارات عليها، فنهبوا وسبوا، وأحرقوا وخربوا،فسمع الفرنج ذلك، فرحلوا إليهم ليمنعوه عن بلادهم، فلما وصلوا كان المسلمون قد فرغوا من نهبهم وغنيمتهم، وعادوا وعبروا النهر. وأدركهم الفرنج، فوقف مقابلهم شجعان المسلمين وحماتهم يقاتلونهم، فاشتد القتال وصبر الفريقان، الفرنج يرومون أن يلحقوا الغنيمة فيردوها، والمسلمون يريدون أن يمنعونهم عنها لينجو بها من قد سار معها، فلما طال القتال بينهم وأبعدت الغنيمة وسلمت مع المسلمين عاد الفرنج ولم يقدروا أن يستردوا منها شيئاً. ذكر مسير شمس الدولة إلى بلد النوبةفي هذه السنة، في جمادى الأولى، سار شمس الدولة توارنشاه بن أيوب أخو صلاح الدين الأكبر من مصر إلى بلد النوبة، فوصل إلى أول بلادهم ليتغلب عليه ويتملكه. وكان سبب ذلك أن صلاح الدين وأهله كانوا يعلمون أن نور الدين كان على عزم الدخول إلى مصر وأخذها منهم، فاستقر الرأي بينهم أنهم يتملكون إما بلاد النوبة أو بلاد اليمن، حتى إذا وصل إليهم نور الدين لقوه وصدوه عن البلاد، فإن قووا على منعه أقاموا بمصر، وإن عجزوا عن ذلك ركبوا البحر ولحقوا بالبلاد التي افتتحوها؛ فجهز شمس الدولة وسار إلى أسوان؛ ومنها إلى بلد النوبة، فنازل قلعة اسمها أبريم، فحصرها، وقاتله أهلها، فلم يكن لهم بقتال العسكر الإسلامي قوة، لأنهم ليس لهم جنة تقيهم السهام وغيرها من آلة الحرب، فسلموها، فملكها وأقام فيها، ولم ير للبلاد دخلاً يرغب فيه وتحتمل المشقة لأجله، وقوتهم الذرة، فلما رأى عدم الحاصل، وقشف العيش مع مباشرة الحروب ومعاناة التعب والمشقة، وتركها وعاد إلى مصر بما غنم، وكان عامة غنيمتهم العبيد والجواري. ؟ذكر ظفر لمليح بن ليون بالروم في هذه السنة، في جمادى الأولى، هزم مليح بن ليون الأرمني، صاحب بلاد الدروب المجاورة لحلب، عسكر الروم من القسطنطينية. وسبب ذلك أن نور الدين كان قد استخدم مليحاً المذكور، وأقطعه إقطاعاً سنياً وكان ملازم الخدمة لنور الدين، ومشاهداً لحروبه مع الفرنج، ومباشراً لها؛ وكان هذا من جيد الرأي وصائبه، فغن نور الدين لما قيل له في معنى استخدامه وإعطائه الإقطاع من بلاد الإسلام قال: استعين به على قتال أهل ملته، وأريح طائفة من عسكري تكون بإزائه لتمنعه من الإغارة على البلاد المجاورة له.
وكان مليح أيضاً يتقوى بنور الدين على ما يجاوره من الأرمن والروم، وكانت مدينة أدنة والمصيصة وطرسوس بيد ملك الروم، صاحب القسطنطينية، فأخذها مليح منهم لأنها تجاور بلاده، فسير إليه ملك الروم جيشاً كثيفاً ، وجعل عليهم بعض أعيان البطارقة من أقاربه، فلقيهم مليح ومعه طائفة من عسكر نور الدين فقاتلهم وصدقهم القتال، وصابرهم، فانهزمت الروم، وكثر فيهم القتل والأسر، وقويت شوكة مليح، وانقطع أمل الروم من تلك البلاد. وأرسل مليح إلى نور الدين كثيراً من غنائمهم ومن الأسرى ثلاثين رجلاً من مشهوريهم وأعيانهم، فسير نور الدين بعض ذلك إللى الخليفة المستضيئ بأمر الله، وكتب يعتد بهذا الفتح لأن بعض جنده فعلوه. ؟ ذكر وفاة إيلدكز في هذه السنة، توفي أتابك إيلدكز بهمذان، وملك بعده ابنه محمد البهلوان، ولم يختلف عليه أحد، وكان إيلدكز هذا مملوكاً للكمال السميرمي، وزير السلطان محمود، فلما قتل الكمال، كما ذكرناه، صار إيلدكز إلى السلطان محمود، فلما ولي السلطان مسعود السلطنة ولاه أرانية، فمضى إليها، ولم يعد يحضر عند السلطان مسعود ولا غيره، ثم ملك أكثر أذربيجان وبلاد الجبل وهمذان وغيرها، واصفهان والري وما والاهما من البلاد، وخطب بالسلطنة لابن امرأته أرسلان شاه بن طغرل؛ وكان عسكره خمسين ألف فارس سوى الأتباع، واتسع ملكه من باب تفليس إلى كرمان، ولم يكن السلطان أرسلان شاه معه حكم إنما كان له جراية تصل إليه. وبلغ من تحكمه عليه أنه شرب ذات ليلة، فوهب ما في خزانته، وكان كثيراً، فلما سمع إيلدكز بذلك استعاده جميعه، وقال له: متى أخرجت المال في غير وجههن أخذته أيضاً من غير وجهه، وظلمت الرعية. وكان إيلدكز عاقلاً، حسن السيرة، يجلس بنفسه للرعية، ويسمع شكاويهم، وينصف بعضهم من بعض ذكر وصول الترك إلى إفريقية وملكهم طرابلس وغيرها في هذه السنة سارت طائفة من الترك من ديار مصر مع قراقوش مملوك تقي الدين عمر ابن أخي صلاح الدين يوسف بن أيوب، إلى جبال نفوسة، واجتمع مسعود بن زمام المعروف بمسعود البلاط، وهو من أعيان العرب هناك، وكان خارجاً عن طاعة عبد المؤمن وأولاده، فاتفقا، وكثر جمعهما، ونزلا على طرابلس الغرب فحاصراها وضيقا على أهلها، ثم فتحت فاستولى قراقوش، وأسكن اهله قصرها، وملك كثيراً من بلاد إفريقية ما خلا المهدية وسفاقس وقفصة وتونس وما والاها من القرى والمواضع. وصار مع قراقوش عسكر كثير، فحكم على تلك البلاد بمساعدة الععرب بما جبلت عليه من التخريب والنهب، والإساد بقطع الأشجار والثمار، وغير ذلك، فجمع بها أموالاً عظيمة وجعلها بمدينة قابس، وقويت نفسه وحدثته بالاستيلاء على جميع لإفريقية لبعد أبي يعقوب بن عبد المؤمن صاحبها عنها، وكان ما سنذكره إن شاء الله. ذكر غزو ابن عبد المؤمن الفرنج بالأندلسفي هذه السنة جمع أبو يعقوب يوسف بن عبد المؤمن عساكره وسار من إشبيلية إلى الغزو، فقصد بلاد الفرنج، ونزل على مدينة رندة، وهي بالقرب من طليطلة شرقاً منها، وحصرها، واجتمعت الفرنج على ابن الأذفونش ملك طليطلة في جمع كثير، فلم يقدروا على لقاء المسلمين. فاتفق أن الغلاء اشتد على المسلمين، وعدمت الأقوات عندهم، وهم في جمع كثير، فاضطروا إلى مفارقة بلاد الفرنج، فعادوا إلى إشبيلية، وأقام أبو يعقوب بها سنة إحدى وسبعين وخمسمائة، وهو في ذلك يجهز العساكر ويسيرها إلى غزو بلاد الفرنج في كل وقت، فكان فيها عدة وقائع وغزوات ظهر فيها من العرب من الشجاعة ما لا يوصف، وصار الفارس من العرب يبرز بين الصفين ويطلب مبارزة الفارس المشهور من الفرنج، فلا يبرز إليه أحد، ثم عاد أبو يعقوب إلى مراكش. ذكر نهب نهاوند
في هذه السنة نهب عسكر شملة نهاوند. وسبب ذلك أن شملة كان أيام إيلدكز لا يزال يطلب منه نهاوند لكونها مجاورة بلاده، ويبذل فيها الأموال، فلا يجيبه إلى ذلك، فلما مات إيلدكز، وملك بعده محمد البهلوان، وسار إلى أذربيجان لإصلاحها أنفذ شملة ابن أخيه ابن سنكا لأخذ نهاوند، وبلغ أهل البلد الخبر، فتحصنوا، وحصرهم، وقاتلهم وقاتلوهن وأفحشوا في سبه، فلما علم أنه لا طاقة له بهم رجع إلى تستر، وهي قريبة منها، وأرسل أهل نهاوند إلى البهلوان يطلبون منه نجدة، فتأخرت عنهم، فلما اطمأنوا خرج ابن سنكا من تستر في خمس مائة فارس جريدة، وسار يوماً وليلة فقطع أربعين فرسخاً حتى وصل إلى نهاوند، وضرب البوق وأظهر أنه من أصحاب البهلوان، لأنه جاءهم من ناحيته، ففتح أهل البلد له الأبواب فدخله، فلما توسط قبض على القاضي والرؤساء وصلبهم، ونهب البلد وأحرقه، وقطع أنف الوالي وأطلقه، وتوجه نحو ماسبذان قاصداً العراق. ذكر قصد نور الدين بلاد قلج أرسلانفي هذه السنة سار نور الدين محمود بن زنكي إلى مملكة عز الدين قلج أرسلان بن مسعود بن قلج أرسلان، وهي ملطية وسيواس وأقصرا وغيرها، عازماً على حربه وأخذ بلاده منه. وكان سبب ذلك أن ذي النون بن دانشمند صاحب ملطية وسيواس قصده قلج أرسلان وأخذ بلاده، وأخرجه عنها طريداً فريداً، فسار إلى نور الدين مستجيراً به وملتجئاً إليه، فأكرم نزله، وأحسن إليه، وحمل له ما يليق أن يحمل إلى الملوك ووعده النصرة والسعي في رد ملكه إليه. ثم أنه أرسل إلى قلج أرسلان يشفع إليه في إعادة بلاد ذي النون إليه، فلم يجبه إلى ذلك، فسار نور الدين إليه فابتدئ بكيسون وبهنسى ومرعش ومرزبان، فملكها وما بينها؛ وكان ملكه لمرعش أوائل ذي القعدة، والباقي بعدها، فلما ملكها سير طائفة من عسكره إلى سيواس فملكوها. وكان قلج أرسلان لما سار نور الدين إلى بلاده قد سار من طرفها الذي يلي الشام إلى وسطها، وراسل نور الدين يستعطفه ويسأله الصلح، فتوقف نور الدين عن قصده رجاء أن ينصلح الأمر بغير حرب، فأتاه عن الفرنج ما أزعجه، فأجابه إلى الصلح، وشرط عليه أن ينجده بعساكر إلى الغزاة، وقال له: أنت مجاور الروم ولا تغزوهم، وبلادك قطعة كبيرة من بلاد الإسلام، ولا بد من الغزاة معي. فأجابه إلى ذلك، وتبقى سيواس على حالها بيد نواب نور الدين وهي لذي النون، فبقي العسكر فيها في خدمة ذي النون إلى أن مات نور الدين، فلما مات رحل عسكره عنها، وعاد قلج أرسلان وملكها، وهي بيد أولاده إلى الآن سنة عشرين وستمائة. ولما كان نور الدين في هذه السفرة جاءه رسول كمال الدين أبي الفضل محمد بن عبد الله بن الشهرزوري من بغداد ومعه منشور من الخليفة بالموصل والجزيرة وبإربل وخلاط الشام بلاد قلج أرسلان وديار مصر. ذكر رحيل صلاح الدين عن مصر إلى الكرك وعوده عنها في هذه السنة، في شوال، رحل صلاح الدين يوسف بن أيوب من مصر بعساكره جميعها إلى بلاد الفرنج يريد حصر الكرك، والاجتماع مع نور الدين عليهن والإتفاق على قصد بلاد الفرنج من جهتين كل واحد منهما في جهة بعسكره. وسبب ذلك ان نور الدين لما أكر على صلاح الدين عوده من بلاد الفرنج في العام الماضي، وأراد نور الدين قصد مصر وأخذها منه، أرسل يعتذر، ويعد من نفسه بالحركة على ما يقرره نور الدين، فاستقرت القاعدة بينهما أن صلاح الدين يخرج من مصر ونور الدين يسير من دمشق، فأيهما سبق صاحبه يقيم إلى أن يصل الآخر إليه، وتواعدا على يوم معلوم يكون فيه وصولهما؛ فسار صلاح الدين عن مصر لأن طريقه أصعب وأبعد وأشق، ووصل إلى الكرك وحصره. وأما نور الدين فإنه لما وصل إليه كتاب صلاح الدين برحيله من مصر فرق الأموال، وحصل الأزواد وما يحتاج إليه، وسار إلى الكرك فوصل إلى الرقيم، وبينه وبين الكرك مرحلتان. فلما سمع صلاح الدين بقربه خافه هو وجميع أهله، واتفق رأيهم على العود إلى مصر، وترك الاجتماع بنور الدين، لأنهم علموا أنه إن اجتمعا كان عزله على نور الدين سهلاً.
فلما عاد أرسل الفقيه عيسى إلى نور الدين يعتذر عن رحيله بأنه كان قد استخلف أباه نجم الدين أيوب على ديار مصر، وأنه مريض شديد المرض، ويخاف أن يحدث عليه حادث الموت فتخرج البلاد عن أيديهم، وأرسل معه من التحف والهدايا ما يجل عن الوصف؛ فجاء الرسول إلى نور الدين واعلمه ذلك فعظم عليه وعلم المراد من العود، إلا أنه لم يظهر للرسول تأثراً بل قال له: حفظ مصر أهم عندنا من غيرنا. وسار صلاح الدين إلى مصر فوجد أباه قد قضى نحبه ولحق بربه، ورب كلمة تقول لقائلها دعني. وكان سبب موت نجم الدين انه ركب يوماً فرساً بمصر، فنفر به الفرس نفرة شديدة، فسقط عن ظهره فحمل إلى قصره وقيذاً، وبقي أياماً ، ومات في السابع والعشرين من ذي الحجة، وكان خيراً، عاقلاً، حسن السيرة كريماً جواداً كثير الإحسان إلى الفقراء والصوفية. والمجالسة لهم. وقد تقدم من ذكره وابتداء أمره وأمر أخيه شيركوه ما لا حاجة إلى إعادته. ذكر عدة حوادثفي هذه السنة زادت دجلة زيادة كثيرة أشرفت بها بغداد على الغرق في شعبان، وسدوا أبواب الدروب، ووصل الماء إلى قبة احمد بن حنبل ووصل إلى النظامية ورباط شيخ الشيوخ، واشتغل العالم بالعمل في القورج، ثم نقص وكفى الناس شره. وفيها وقعت النار ببغداد من درب بهروز إلى باب جامع القصر، ومن الجانب الآخر من حجر النحاس إلى دار أم الخليفة. وفيها أغار بنو حزن من خفاجة على سواد العراق، وسبب ذلك أن الحماية كانت لهم لسواد العراق، فلما تمكن يزدن من البلاد وتسلم الحلة أخذها منهم، وجعلها لبني كعب من خفاجة. وأغار بنو حزن على السواد، فسار يزدن في عسكر ومعه الغضبان الخفاجي، وهو من بني كعب، لقتال بني حزن، فبينما هم سائرون ليلاً رمى بعض الجند الغضبان بسهم فقتله لفساده، وكان في السواد فلما قتل عاد العسكر إلى بغداد وأعيدت خفارة السواد إلى بني حزن. وفيها خرج برجم الإيوائي في جمع من التركمان، في حياة إيلدكز، وتطرق أعمال همذان، ونهب الدينور، واستباح الحريم. وسمع إيلدكز الخبر وهو بنقجوان، فسار مجداً فيمن خف معه من عسكره، فقصده، فهرب برجم إلى أن قارب بغداد، وتبعه إيلدكز فظن الخليفة أنها حيلة ليصل إلى بغداد فجأة، فشرع في جمع العساكر وعمل السور، فأرسل إلى إيلدكز الخلع والألقاب الكبيرة، فاعتذر أنه لم يقصد إلا كف فساد هؤلاء، ولم يتعد قنطرة خانقين وعاد؛ وفيها توفي الأمير يزدن، وهو من أكابر أمراء بغداد، وكان يتشيع، فوقع بسببه فتنة بين السنة والشيعة بواسط لأن الشيعة جلسوا له للعزاء وأظهر السنة الشماتة به فآل إلى القتال فقتل بينهم جماعة. ولما مات أقطع أخوه تنامش ما كان لأخيه وهو مدينة واسط، ولقب علاء الدين. وفيها أرسل نور الدين محمود بن زنكي رسولاً إلى الخليفة وكان الرسول القاضي كمال الدين أبا الفضل محمد بن عبد الله الشهرزوري، قاضي بلاده جميعها مع الوقوف والديوان، وحمله رسالة مضمونها الخدمة للديوان، وما هو عليه من جهاد الكفار، وفتح بلادهم، ويطلب تقليداً بما بيده من البلاد، مصر والشام والجزيرة والموصل، وبما في طاعته كديار بكر وما يجاور ذلك كخلاط وبلاد قلج أرسلان، وأن يعطى من الأقطاع بسواد العراق ما كان لأبيه زنكي وهو: صريفين ودرب هارون، والتمس أرضاً على شاطئ دجلة يبنيها مدرسة للشافعية، ويوقف عليها صريفين ودرب هارون، فأكرم كمال الدين إكراماً لم يكرم به رسول قبله، وأجيب إلى ما التمسه، فمات نور الدين قبل الشروع في بناء المدرسة، رحمه الله. ثم دخلت سنة تسع وستين وخمسمائة ذكر ملك شمس الدولة زبيد وعدن وغيرهما من بلاد اليمن قد ذكرنا قبل أن صلاح الدين يوسف بن أيوب، صاحب مصر، وأهله كانوا يخافون من نور الدين محمود أن يدخل إلى مصر فيأخذها منهم، فشرعوا في تحصيل مملكة يقصدونها ويتملكونها تكون عدة لهم إن أخرجهم نور الدين من مصر ساروا إليها وأقاموا بها، فسيروا شمس الدولة تورانشاه بن أيوب، وهو أخوا صلاح الدين الأكبر، إلى بلد النوبة، فكان ما ذكرناه. فلما عاد إلى مصر استأذنوا نور الدين في أن يسير إلى اليمن لقصد عبد النبي، صاحب زبيد لأجل قطع الخطبة العباسية، فأذن في ذلك.
وكان بمصر شاعر اسمه عمارة من أهل اليمن، فكاك يحسن لشمس الدولة قصد اليمن، ويصف البلاد له، ويعظم ذلك في عينه، فزاده قوله رغبة فيها، فشرع يتجهز ويعد الأزواد والروايا والسلاح وغيره من الآلات، وجند الأجناد، فجمع وحشد، وسار عن مصر مستهل رجب، فوصل إلى مكة، أعزها الله تعالى، ومنها إلى زبيد، وفيها صاحبها المتغلب عليها المعروف بعبد النبي، فلما قرب منها رآه أهلها، فاستقلوا من معه، فقال لهم عبد النبي: كأنكم بهؤلاء وقد حمي عليهم الحر فهلكوا وما هم إلى أكلة رأس؛ فخرج إليهم بعسكره، فقاتلهم شمس الدولة ومن معه، فلم يثبت أهل زبيد وانهزموا، ووصل المصريون إلى سور زبيد، فلم يجدوا عليه من يمنعهم، فنصبوا السلالم، وصعدوا السور، فملكوا البلد عنوة ونهبوه وأكثروا النهب، واخذوا عبد النبي أسيراً وزوجته المدعوة بالحرة، وكانت امرأة صالحة كثيرة الصدقة لا سيما إذا حجت، فإن فقراء الحاج كانوا يجدون عندها صدقة دارة ، وخيراً كثيراً، ومعروفاً عظيماًن وسلم شمس الدولة عبد النبي إلى بعض أمراءه، يقال له سيف الدولة مبارك بن كامل من بني منقذ، أصحاب شيزر، وأمره أن يستخرج منه الأموال، فأعطاه منها شيئاً كثيراً، ثم إنه دلهم على قبر قكان قد صنعه لوالدهن وبنى عليه بنية عظيمة، وله هناك دفائن كثيرة، فأعلمهم بها، فاستخرجت الأموال من هناك وكانت جليلة المقدار، وأما الحرة فإنها أيضاً تدلهم على ودائع لها، فأخذ منها مالاً كثيراً. ولما ملكوا زبيد واستقر الأمر لهم بها، ودان أهلها، وأقيمت فيها الخطبة العباسية، اصلحوا حالها، وساروا إلى عدن، وهي على البحر، ولها مرسى عظيم، وهي فرضة الهند والزنج والحبشة، وعمان وكرمان، وكيس، وفارس ، وغير ذلك، وهي من جهة البر من أمنع البلاد وأحصنها، وصاحبها إنسان اسمه ياسر، فلو أقام بها ولم يخرج عنها لعادوا خائبين، وإنما حمله جهله وانقضاء مدته على الخروج إليهم ومباشرة قتالهم، فسار إليهم وقاتلهم، فانهزم ياسر ومن معه، وسبقهم بعض عسكر شمس الدولة، فدخلوا البلد قبل أهله، فملكوه، وأخذوا صاحبه ياسر أسيراً، وأرادوا نهب البلد، فمنعهم شمس الدولة، وقال: ما جئنا لنخرب البلاد، وغنما جئنا لنملكها ونعمرها وننتفع بدخلها؛ فلم ينهب منها أحد شيئاً، فبقيت على حالها وثبت ملكه واستقر أمره. ولما مضى إلى عدن كان معه عبد النبي صاحب زبيد مأسوراً، فلما دخل إلى عدن قال: سبحان الله! كنت قد علمت أنني ادخل إلى عدن في موكب كبير فأنا انتظر ذلك وأسر به، ولم أكن أعلم أنني أدخلها على هذه الحال. ولما فرغ شمس الدولة من أمر عدن عاد إلى زبيد، وملك أيضاً قلعة التعكر والجند وغيرها من المعاقل والحصون، واستناب بعدن عز الدين عثمان بن الزنجيلي، وبزبيد سيف الدولة مبارك ابن منقذ، وجعل في كل قلعة نائباً من أصحابه، وألقى ملكهم باليمن جرانه ودام، وأحسن شمس الدولة إلى أهالي البلاد، واستصفى طاعتهم بالعدل والإحسان، وعادت زبيد إلى أحسن أحوالها من العمارة والأمن. ذكر قتل جماعة من المصريين أرادوا الوثوب بصلاح الدين في هذه السنة، ثاني رمضان، صلب صلاح الدين يوسف بن أيوب جماعة ممن أرادوا الوثوب به من أصحاب الخلفاء العلويين. وسبب ذلك أن جماعة من شيعة العلويين منهم عمارة بن أبي الحسن اليمني الشاعر، وعبد الصمد الكاتب، والقاضي العويرس، وداعي الدعاة، وغيرهم من جند المصريين ورجالتهم السودان، وحاشية القصر، ووافقهم جماعة من أمراء صلاح الدين وجنده، واتفق رأيهم على استدعاء الفرنج من صقلية، ومن ساحل الشام إلى ديار مصر على شيء بذلوه لهم من المال والبلاد، فإذا قصدوا البلاد، فإن خرج صلاح الدين إليهم بنفسه ثاروا هم بالقاهرة ومصر وأعادوا الدولة العلوية، وعاد من معه من العسكر الذين وافقوهم عنه، فلا يبقى له مقام مقابل الفرنج، وإن كان صلاح الدين يقيم ويرسل العساكر إليهم ثاروا به، وأخذوه أخذاً باليد لعدم وجود الناصر له والمساعد، وقال لهم عمارة: وأنا قد أبعدت أخاه إلى اليمن خوفاً أن يسد مسده وتجتمع الكلمة عليه بعده.
وأرسلوا إلى الفرنج بصقلية والساحل في ذلك، وتقررت القاعدة بينهم، ولم يبق إلا رحيل الفرنج، وكان من لطف الله بالمسلمين أن الجماعة المصريين ادخلوا معهم في هذا الأمر الأمير زين الدين علي بن نجا الواعظ، المعروف بابن نجية، ورتبوا الخليفة والوزير والحاجب والداعي والقاضي، إلا أن بني رزيك قالوا: يكون الوزير منا؛ وبني شاور قالوا: يكون الوزير منا؛ فلما علم ابن نجا الحال حضر عند صلاح الدين، وأعلمه حقيقة الأمر، فأمر بملازمتهم، ومخالطتهم، ومواطأتهم على ما يريدون ان يفعلوه، وتعريفه ما يتجدد أولاً بأول، ففعل ذلك وصار يطالعه بكل ما عزموا عليه. ثم وصل رسول من ملك الفرنج بالساحل الشامي إلى صلاح الدين بهدية ورسالة، وهو في الظاهر إليه، والباطن إلى أولئك الجماعة، وكان يرسل إليهم بعض النصارى وتأتيه رسلهم، فأتى الخبر إلى صلاح الدين من بلاد الفرنج بجلية الحال، فوضع صلاح الدين على الرسول بعض من يثق به من النصارى، وداخله، فأخبره الرسول بالخبر على حقيقته، فقبض حينئذ على المقدمين في هذه الحادثة منهم: عمارة وعبد الصمد والعويرس وغيرهم وصلبهم. وقيل في كشف أمرهم إن عبد الصمد المذكور كان إذا لقي القاضي الفاضل الكاتب الصلاحي يخدمه ويتقرب إليه بجهده وطاقته، فلقيه يوماً، فلم يلتفت إليه، فقال القاضي الفاضل: ما هذا إلا لسبب. وخاف أن يكون قد صار له باطن من صلاح الدين، فأحضر علي بن نجا الواعظ وأخبره الحال، وقال: أريد أن تكشف لي الأمر؛ فسعى في كشفه فلم ير لم من جانب صلاح الدين شيئاً، فعدل إلى الجانب الآخر، فكشف الحال، وحضر عند القاضي العادل وأعلمه، فقال: تحضر الساعة عند صلاح الدين وتنهي الحال إليه، فحضر عند صلاح الدين وهو في الجامع، فذكر له الحال، فقام وأخذ الجماعة وقررهم، فأقروا، فأمر بصلبهم. وكان عمارة بينه وبين الفاضل عداوة من أيام العاضد وقبلها، فلما أراد صلبه قام القاضي الفاضل وخاطب صلاح الدين في إطلاقه، وظن عمارة أنه يحرض على هلاكه، فقال لصلاح الدين: يامولانا لا تسمع منه في حقي، فغضب الفاضل وخرج، وقال صلاح الدين لعمارة: إنه كان يشفع فيك؛ فندم، ثم أخرج عمارة ليصلب، فطلب أن يمر به على مجلس الفاضل، فاجتازوا به عليه، فأغلق بابه ولم يجتمع به، فقال عمارة: عبد الرحيم قد احتجب ... إن الخلاص هو العجب ثم صلب هو والجماعة، ونودي في أجناد المصريين بالرحيل من ديار مصر ومفارقتها إلى أقاصي الصعيد، واحتيط على من بالقصر من سلالة العاضد وغيره من أهله. وأما الذين نافقوا على صلاح الدين من جنده فلم يعرض لهم، ولا أعلمهم انه علم بحالهم، وأما الفرنج، فإن فرنج صقلية قصدوا الإسكندرية على ما نذكره إن شاء الله تعالى، لأنهم لم يتصل بهم ظهور الخبر عند صلاح الدين؛ وأما فرنج الشام فإنهم لم يتحركوا لعلمهم بحقيقة الحال. وكان عمارة شاعراً مفلقاً، فمن شعره: لو أن قلبي يوم كاظمة معي ... لملكته وكظمت فيض الأدمع قلب كفاك من الصبابة أنه ... لبى نداء الظاعنين وما دعي ما القلب أول غادر فألومه ... هي شيمة الأيام مذ خلقت معي ومن الظنون الفاسدات توهمي ... بعد اليقين بقاءه في أضلعي وله أيضاً: لي في هوى الرشا العذري إعذار ... لم يبق لي مذ أقر الدمع إنكار لي في القدود وفي لثم الخدود وفي ... ضم النهود لبانات وأوطار هذا اختياري فوافق إن رضيت به ... أو لا فدعني وما أهوى وأختار وله ديوان شعر مشهور في غاية الحسن والرقة والملاحة. ذكر وفاة نور الدين محمود بن زنكيفي هذه السنة توفي نور الدين محمود بن زنكي بن آقسنقر، صاحب الشام وديار الجزيرة ومصر، يوم الأربعاء حادي عشر شوال، بعلة الخوانيق، ودفن بقلعة دمشق، ونقل منها إلى المدرسة التي أنشأها بدمشق، عند سوق الخواصين. ومن عجيب الاتفاق أنه ركب ثاني شوال وإلى جانبه بعض الأمراء الأخيار، فقال له الأمير: سبحان من يعلم هل نجتمع هنا في العام المقبل أم لا؟ فقال نور الدين: لا تقل هكذا، بل سبحان من يعلم هل نجتمع بعد شهر أم لا؟ فمات نور الدين رحمه الله، بعد أحد عشر يوماً، ومات الأمير قبل الحول، فأخذ كل منهما بما قاله.
وكان قد شرع يتجهز للدخول إلى مصر لأخذها من صلاح الدين يوسف ابن أيوب، فإنه رأى منه فتوراً في غزو الفرنج من ناحيته، وكان يعلم انه إنما يمنع صلاح الدين من الغزو الخوف منه ومن الاجتماع به، فإنه يؤثر كون الفرنج في الطريق ليمتنع بهم عن نور الدين، فأرسل إلى الموصل وديار الجزيرة وديار بكر يطلب العساكر للغزاة، وكان عزمه أن يتركها مع ابن أخيه سيف الدين غازي، صاحب الموصل بالشام، ويسير هو بعساكره إلى مصر، فبينما هو يتجهز لذلك أتاه أمر الله الذي لا مرد له. حكى لي طبيب يعرف بالطبيب الرحبي وهو كان يخدم نور الدين، وهو من حذاق الأطباء، قال: استدعاني نور الدين في مرضه الذي توفي فيه مع غيري من الأطباء، فدخلنا إليه وهو في بيت صغير في قلعة دمشق، وقد تمكنت الخوانيق منه، وقارب الهلاك، فلا يكاد يسمع صوته؛ وكان يخلو فيه للتعبد، فابتدأ به المرض، فلم ينتقل عنه، فلما دخلنا ورأيت ما به قلت له: كان ينبغي أن لا تؤخر إحضارنا إلى أن يشتد بك المرض الآن، وينبغي أن تعجل الانتقال من هذا المكان إلى مكان فسيح مضيء، فله اثر في هذا المرض. وشرعنا في علاجه، وأشرنا بالفصد، فقال: ابن ستين لا يفتصد، وامتنع به، فعالجناه بغيره، فلم ينجع فيه الدواء، وعظم الداء، ومات، رحمه الله ورضي عنه. وكان أسمر، طويل القامة، ليس له لحية إلا في حنكه، وكان واسع الجبهة، حسن الصورة، حلو العينين، وكان قد اتسع ملكه جداً، وخطب له بالحرمين الشريفين، وباليمن، لما دخلها شمس الدولة بن أيوب وملكها، وكان مولده سنة إحدى عشرة وخمسمائة، وطبق ذكره الأرض بحسن سيرته وعدله. وقد طالعت سير الملوك المتقدمين، فلم أر فيها بعد الخلفاء الراشدين وعمر بن عبد العزيز أحسن من سيرته، ولا أكثر تحرياً للعدل منه. وقد أتينا على كثير من ذلك في كتاب الباهر من أخبار دولتهم، ولنذكر هاهنا نبذة مختصرة لعل يقف عليها من له حكم فيقتدي به؛ فمن ذلك زهده وعبادته وعلمه، فإنه كان لا يأكل ولا يلبس ولا يتصرف في الذي يخصه إلا من ملك كان له قد اشتراه من سهمه من الغنيمة ومن الأموال المرصدة لمصالح المسلمين، ولقد شكت إليه زوجته من الضائقة، فأعطاها ثلاث دكاكين في حمص كانت له، منها يحصل له في السنة نحو عشرين ديناراً، فلما استقلتها قال: ليس لي إلا هذا، وجميع ما يدي أنا خازن فيه للمسلمين لا أخونهم فيه، ولا أخوض نار جهنم لأجلك. وكان يصلي كثيراً بالليل، وله فيه أوراد حسنة، وكان كما قيل: جمع الشجاعة والخشوع لربه ... ما أحسن المحراب في المحراب وكان عارفاً بالفقه على مذهب أبي حنيفة، ليس عنده فيه تعصب، وسمع الحديث، واسمعه طلباً للأجر. وأما عدله، فإنه لم يترك في بلاده ، على سعتها، وكساً ولا عشراً بل أطلقها جميعها في مصر والشام والجزيرة والموصل، وكان يعظم الشريعة، ويقف عند أحكامها؛ وأحضره إنسان إلى مجلس الحكم، فمضى معه إليه، وأرسل إلى القاضي كمال الدين الشهرزوري يقول: قد جئت محاكماً، فاسلك معي ما تسلك مع الخصوم؛ وظهر الحق له، فوهبه الخصم الذي أحضره، وقال: أردت أن أترك له ما يدعيه، وإنما خفت أن يكون الباعث لي على ذلك الكبر والأنفة من الحضور إلى مجلس الشريعة، فحضرت، ثم وهبته ما يدعيه. وبنى دار العدل في بلاده، وكان يجلس هو والقاضي بها ينصف المظلوم، ولو أنه يهودي، من الظالم ولو أنه ولده أم أكبر أمير عنده. وأما شجاعته فإليها النهاية، وكان في الحرب يأخذ قوسين وتركشين ليقاتل بها، فقال له القطب النشاوي الفقيه: بالله عليك لا تخاطر بنفسك وبالإسلام والمسلمين، فإن أصبت في معركة لا يبقى من المسلمين أحد إلا أخذه السيف. فقال له نور الدين: ومن محمود حتى يقال له ذلك؟ من قبلي من حفظ البلاد والإسلام؟ ذلك الله الذي لا إله إلا هو.
وأما فعله الصالح، فإنه بنى أسوار مدن الشام جميعها وقلاعها، فمنها دمشق وحمص وحماة وحلب وشيزر وبعلبك وغيرها، وبنى المدارس الكثيرة للحنفية والشافعية، وبنى الجامع النوري بالموصل، وبنى البيمارستانات والخانات في الطرق، وبنى الخانكاهات للصوفية في جميع البلاد، ووقف على الجميع الوقوف الكثيرة. سمعت أن حاصل وقفه كل شهر تسعة آلاف دينار صوري. وكان يكرم العلماء وأهل الدين ويعظمهم ويعطيهم ويقوم إليهم ويجلسهم معه، وينبسط معهم، ولا يرد لهم قولاً، ويكاتبهم بخط يده؛ وكان وقوراً مهيباً مع تواضعه، وبالجملة فحسناته كثيرة ومناقبه غزيرة لا يحتملها هذا الكتاب. ذكر ملك ولده الملك الصالحلما توفي نور الدين قام ابنه الملك الصالح إسماعيل بالملك بعده، وكان عمره إحدى عشرة سنة، وحلف له الأمراء والمقدمون بدمشق، وأقام بها، وأطاعه الناس بالشام وصلاح الدين بمصر، وخطب له بها، وضرب السكة باسمه، وتولى تربيته الأمير شمس الدين محمد بن عبد الملك المعروف بابن المقدم، وصار مدبر دولته؛ فقال له كمال الدين بن الشهرزوري ولمن معه من الأمراء: قد علمتم أن صلاح الدين صاحب مصر هو من مماليك نور الدين ونوابه أصحاب نور الدين، والمصلحة أن نشاوره في الذي نفعله، ولا نخرجه من بيننا فيخرج عن طاعتنا، ويجعل ذلك حجة علينا، وهو أقوى منا، لأنه قد انفرد اليوم بملك مصر؛ فلم يوافق هذا القول أغراضهم، وخافوا أن يدخل صلاح الدين ويخرجهم، فلم يمض غير قليل حتى وردت كتب صلاح الدين إلى الملك الصالح يعزيه ويهنئه بالملك، وأرسل دنانير مصرية عليها اسمه ويعرفه أن الخطبة والطاعة له كما كانت لأبيه. فلما سار سيف الدين غازي، صاحب الموصل، وملك البلاد الجزرية، على ما نذكرهن أرسل صلاح الدين أيضاً إلى الملك الصالح يعتبه حيث لم يعلمه قصد سيف الدولة بلاده وأخذها، ليحضر في خدمته ويكف سيف الدين، وكتب إلى كمال الدين والأمراء يقول: لو أن نور الدين يعلم أن فيكم من يقوم مقامي ن أو يثق به مثل ثقت | |
|
 | |
الشيخ عودة الشيخ عودة

عدد المساهمات : 1748 تاريخ التسجيل : 28/09/2008 العمر : 73
 | موضوع: رد: كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير الخميس فبراير 27, 2014 6:37 am | |
| وفيها، في رمضان، توالت الأمطار في ديار بكر والجزيرة والموصل، فدامت أربعين يوماً ما رأينا الشمس فيها غير مرتين، كل مرة مقدار لحظة، وخربت المساكن وغيرها، وكثر الهدم، ومات تحته كثير من الناس، وزادت دجلة زيادة عظيمة، وكان أكثرها ببغداد، فإنها زادت على كل زيادة تقدمت منذ بنيت بغداد بذراع وكسر، وخاف الناس الغرق، وفارقوا البلد، وأقاموا على شاطئ دجلة خوفاً من انفتاح القورج وغيره، وكانوا كلما انفتح موضع بادروا بسده، ونبع الماء في البلاليع، وخرب كثيراً من الدور، ودخل الماء إلى البيمارستان العضدي، ودخلت السفن من الشبابيك التي له، فإنها كانت قد تقلعت، فمن الله على الناس بنقص الماء بعد أن أشرفوا على الغرق. وفيها في جمادى الأولى، كانت الفتنة ببغداد بين قطب الدين قايماز والخليفة، وسببها أن الخليفة أمر بإعادة عضد الدين بن رئيس الرؤساء إلى الوزارة، فمنع منه قطب الدين، وأغلق باب النوبي وباب العامة، وبقيت دار الخليفة كالمحاصرة، فأجاب الخليفة إلى ترك وزارته، فقال قطب الدين: لا أقنع إلا بإخراج عضد الدين من بغداد؛ فأمر بالخروج منها، فالتجأ إلى صدر الدين شيخ الشيوخ عبد الرحيم بن إسماعيل، فأخذه إلى رباطه وأجاره، ونقله إلى دار الوزير بقطفتا، فأقام بها، ثم عاد إلى بيته في جمادى الآخرة.
وفيها سقط الأمير أبو العباس أحمد بن الخليفة، وهو الذي صر خليفة، من قبة عالية إلى ارض التاج ومعه غلام له اسمه نجاح، فألقى نفسه بعده، وسلم ابن الخليفة ونجاح، فقيل لنجاح: لم ألقيت نفسك؟ فقال: ما كنت أريد البقاء بعد مولاي؛ فرعى له الأمير أبو العباس ذلك؛ فلما صار خليفة جعله شرابياً، وصارت الدولة جميعها بحكمه، ولقبه الملك الرحيم عز الدين، وبالغ في الإحسان إليه والتقديم له، وخدمه جميع الأمراء بالعراق والوزراء وغيرهم. وفيها، في رمضان، وقع ببغداد برد كبار ما رأى الناس مثله، فهدم الدور، وقتل جماعة من الناس وكثيراً من المواشي، فوزنت بردة منها فكانت سبعة أرطال، وكان عامته كالنارنج يكسر الأغصان. هكذا ذكره أبو الفرج بن الجوزي في تاريخه، والعهدة عليه. وفيها كانت وقعة عظيمة بين المؤيد، ن صاحب نيسابور، وبين شاه مازندران، قتل فيها كثير من الطائفتين، فانهزم شاه مازندران، ودخل المؤيد بلد الديلم وخربه وفتك بأهله وعاد عنه. وفيها وقعت وقعة كبيرة بين أهل باب البصرة وأهل باب الكرخ، وسببها أن الماء لما زاد سكر أهل الكرخ سكراً رد الماء عنهم، فغرق مسجد فيه شجرة، فانقلعت، فصاح أهل الكرخ انقلعت الشجرة، لعن الله العشرة! فقامت الفتنة، فتقدم الخليفة إلى علاء الدين تنامش بكفهم، فمال على أهل باب البصرة لأنه كان شيعياً، وأراد خول المحلة، فمنعه أهلها، وأغلقوا الأبواب ووقفوا على السور؛ وأراد إحراق الأبواب، فبلغ ذلك الخليفة فأنكره أشد إنكار، وأمر بإعادة تنامش، فعاد، ودامت الفتنة أسبوعاً، ثم انفصل الحال من غير توسط سلطان. وفيها عبر الروم خليج القسطنطينية وقصد بلاد قلج ارسلان، فجرى بينهما حرب استظهر فيها المسلمون، فلما رأى ملك الروم عجزه عاد إلى بلاده، وقد قتل من عسكره جماعة كثيرة. وفيها في جمادى الأولى، مات أحمد بن علي بن المعمر بن محمد بن عبد الله أبو عبد الله العلوي الحسيني نقيب العلويين ببغداد. وفيها توفي الحافظ أبو العلاء الحسن بن احمد بن الحسن بن أحمد بن محمد العطار الهمذاني، سافر الكثير في طلب الحديث وقراءة القرآن واللغة، وكان من أعيان المحدثين في زمانه، وكان له قبول عظيم ببلده عند العامة والخاصة. وفيها توفي أبو محمد سعيد بن المبارك المعروف بابن الدهان النحوي البغدادي بالموصل، وكان إماماً في النحو، له التصانيف المشهورة منها الغرة وغيرها. ثم دخلت سنة سبعين وخمسمائة ذكر وصول أسطول صقلية إلى الإسكندرية وانهزامه عنها في هذه السنة، في المحرم، ظفر أهل الإسكندرية وعسكر مصر بأسطول الفرنج من صقلية، وكان سبب ذلك ما ذكرناه من إرسال أهل مصر إلى ملك الفرنج بساحل الشام، وإلى صاحب صقلية، ليقصدوا ديار مصر ليثوروا بصلاح الدين ويخرجوه من مصر، فجهز صاحب صقلية أسطولاً كثيراً، عدته مائتا شيني تحمل الرجالة، وست وثلاثون طريدة تحمل الخيل، وستة مراكب تحمل آلة الحرب، وأربعون مركباً تحمل الأزواد، وفيها من الراجل خمسون ألفاً، ومن الفرسان ألف وخمسمائة، منها خمسمائة تركبلي.
وكان المقدم عليهم ابن عم صاحب صقلية، وسيره إلى الإسكندرية من ديار مصر، فوصلوا إليها في التاسع والعشرين من ذي الحجة سنة تسع وستين، على حين غفلة من أهلها وطمأنينة، فخرج أهل الإسكندرية بعدتهم وسلاحهم ليمنعوهم من النزول، وابعدوا عن البلد، فمنعهم الوالي من ذلك، وأمرهم بملازمة السور، ونزل الفرنج إلى البر مما يلي البحر والمنارة وتقدموا إلى المدينة ونصبوا عليها الدبابات والمجانيق وقاتلوا أشد قتال، وصبر لهم أهل البلد، ولم يكن عندهم من العسكر إلا القليل، ورأى الفرنج من شجاعة أهل الإسكندرية وحسن سلاحهم ما راعهم وسيرت الكتب بالحال إلى صلاح الدين يستدعونه لدفع العدو عنهم، ودام القتال أول يوم إلى آخر النهار، ثم عاود الفرنج القتال في اليوم الثاني، وجدوا، ولازموا الزحف، حتى وصلت الدبابات إلى قرب السور، ووصل ذلك اليوم من العساكر الإسلامية كل من كان له في أقطاعة، وهو قريب من الإسكندرية، فقويت بهم نفوس أهلها، وأحسنوا القتال والصبر، فلما كان اليوم الثالث فتح المسلمون باب البلد وخرجوا منه على الفرنج من كل جانب، وهم غارون، وكثر الصياح من كل الجهات، فارتاع الفرنج واشتد القتال، فوصل المسلمون إلى الدبابات فأحرقوها، وصبروا للقتال فأنزل الله نصره عليهم، وظهرت أماراته، ولم يزالوا مباشرين القتال حتى أخر النهار، ودخل أهل البلد إليه وهم فرحون مستبشرون بما رأوا من تباشير الظفر وقوتهم، وفشل الفرنج وفتور حربهم، وكثرة القتل والجراح في رجالاتهم. وأما صلاح الدين فإنه لما وصله الخبر سار بعساكره، وسير مملوكاً له ومعه ثلاث جنائب ليجد السير عليها إلى الإسكندرية يبشر بوصوله، وسير طائفة من العسكر إلى دمياط خوفاً عليها، واحتياطاً لها، فسار ذلك المملوك، فوصل الإسكندرية من يومه وقت العصر، والناس قد رجعوا من القتال، فنادى في البلد بمجيء صلاح الدين والعساكر مسرعين، فلما سمع الناس ذلك عادوا إلى القتال، و قد زال ما بهم من تعب وألم الجراح، وكل منهم يظن ان صلاح الدين معه، فهو يقاتل قتال من يريد أن يشاهد قتاله. وسمع الفرنج بقرب صلاح الدين في عساكره، فسقط في أيديهم، وازدادوا تعباً وفتوراً، فهاجمهم المسلمون عند اختلاط الظلام، ووصلوا إلى خيامهم فغنموها بما فيها من الأسلحة الكثيرة والتحملات العظيمة، وكثر القتل في رجالة الفرنج، فهرب كثير منهم إلى البحر، وقربوا شوانيهم إلى إلى الساحل ليركبوا فيها، فسلم بعضهم وركب، وغرق بعضهم، وغاص بعض المسلمين بالماء وخرق بعض شواني الفرنج فغرقت، فخاف الباقون من ذلك، فولوا هاربين، واحتمى ثلاثمائة من فرسان الفرنج على رأس تل، فقاتلهم المسلمون إلى بكرة، ودام القتال إلى أن أضحى النهار، فغلبهم أهل البلد وقهروهم فصاروا بين قتيل وأسير، كفى الله المسلمين شرهم وحاق بالكافرين مكرهم. ذكر خلاف الكنز بصعيد مصرفي أول هذه السنة خالف الكنز بصعيد مصر، واجتمع إليه من رعية البلاد والسودان والعرب وغيرهم خلق كثير، وكان هناك أمير من الصلاحية في أقطاعه، وهو أخو الأمير أبو الهيجاء السمين، فقتله الكنز، فعظم قتله على أخيه، وهو من أكبر الأمراء وأشجعهم، فسار إلى قتال الكنز، وسير معه صلاح الدين جماعة من الأمراء، وكثيراً من العسكر، ووصلوا إلى مدينة طود، فاحتمت عليهم، فقاتلوا من بها، وظفروا بهم، وقتلوا منهم كثيراُ، وذلوا بعد العز وقهروا واستكانوا. ثم سار العسكر بعد فراغهم من طود إلى الكنز، وهو في طغيانه يعمه، فقاتلوه، فقتل هو ومن معه من الأعراب وغيرهم، وأمنت بعده البلاد واطمأن أهلها. ذكر ملك صلاح الدين دمشق
في هذه السنة، سلخ ربيع الأول، ملك صلاح الدين يوسف بن أيوب مدينة دمشق. وسبب ذلك أن نور الدين لما مات وملك ابنه الملك الصالح بعده كان بدمشق، كان سعد الدين كمشتكين قد هرب من سيف الدين غازي إلى حلب، كما ذكرناه، فأقام بها عند شمس الدين بن الداية، فلما استولى سيف الدين على البلاد الجزرية خاف ابن الداية أن يغير إلى حلب فيملكها، فأرسل سعد الدين إلى دمشق ليحضر الملك الصالح ومعه العساكر إلى حلب، فلما قارب دمشق سير إليه شمس الدين محمد بن المقدم عسكراً فنهبوه، وعاد منهزماً إلى حلب، فأخلف عليه ابن الداية عوض ما أخذ منه، ثم إن الأمراء الذين بدمشق نظروا في المصلحة، فعلموا أن مسيره إلى حلب أصلح للدولة من مقامه بدمشق، فأرسلوا إلى ابن الدية يطلبون إرسال سعد الدين ليأخذ الملك الصالح، فجهزه وسيره وعلى نفسها براقش تجني، فسار إلى دمشق في المحرم من هذه السنة، واخذ الملك الصالح وعاد إلى حلب، فلما وصلوا إليها قبض سعد الدين على شمس الدين بن الداية وأخوته، وعلى ابن الخشاب رئيس حلب ومقدم الأحداث فيها، ولولا مرض شمس الدين بن الداية لم يتمكن من ذلك. واستبد سعد الدين بتدبير الملك الصالح، فخافه ابن المقدم وغيره من الأمراء الذين بدمشق وقالوا: إذا استقر أمر حلب أخذ الملك الصالح وسار به إلينا، وفعل مثل ما فعل بحلب؛ وكاتبوا سيف الدين غازي صاحب الموصل ليعبر الفرات إليهم ليسلموا إليه دمشق فيمنع عنها ويقصده ابن عمه وعسكر حلب من وراء ظهره فيهلك. وأشار عليه بهذا زلفندار عز الدين، والجبان يقدر البعيد من الشر قريباً، ويرى الجبن حزماً كما قال: يرى الجبناء أن الجبن حزم ... وتلك طبيعة الرجل الجبان فلما أشار عيه بهذا الرأي زلفندار قبله وامتنع عن قصد دمشق، وراسل سعد الدين الملك الصالح وصالحهما على ما أخذه من البلاد، فلما امتنع عن العبور إلى دمشق عظم خوفهم، وقالوا: حيث صالحهم سيف الدين لم يبق لهم مانع عن المسير إلينا؛ فكاتبوا حينئذ صلاح الدين يوسف بن أيوب، صاحب مصر، واستدعوه ليملكوه عليهم، وكان كبيرهم في ذلك شمس الدين بن المقدم، ومن أشبه أباه فما ظلم، وقد ذكرنا مخامرة أبيه في تسليم سنجار سنة أربع وأربعين وخمسمائة. فلما وصلت الرسل إلى صلاح الدين بذلك لم يلبث، وسار جريدة في سبع مائة فارس والفرنج في طريقه، فلم يبال بهم، فلما وطئ ارض الشام قصد بصرى، وكان بها حينئذ صاحبها وهو من جملة من كاتبه، فخرج ولقيه، فلما رأى قلة من معه خاف على نفسه، واجتمع بالقاضي الفاضل وقال: ما أرى معكم عسكراً، وهذا بلد عظيم لا يقصد بمثل هذا العسكر ولو منعكم من به ساعة من النهار أخذكم أهل السواد، فإن كان معكم مال سهل الأمر. فقال معنا مال كثير يكون خمسين ألف دينار؛ فضرب صاحب بصرى على رأسه وقال: هلكتم وأهلكتمونا؛ وجميع ما كان معهم عشرة آلاف دينار. ثم سار صلاح الدين إلى دمشق فخرج كل من بها من العسكر إليه، فلقوه وخدموه، ودخل البلد، ونزل في دار والده المعروفة بدار العقيقي، وكانت القلعة بيد خادم اسمه ريحان، فأحضر صلاح الدين كمال الدين بن الشهرزوري وهو قاضي البلد والحاكم في جميع أموره من الديوان والوقف وغير ذلك، وأرسله إلى ريحان ليسلم القلعة إليه، وقال: أنا مملوك الملك الصالح، وما جئت إلا لأنصره وأخدمه، وأعيد البلاد التي أخذت منه إليه؛ وكان يخطب له في بلاده كلها، فصعد كمال الدين إلى ريحان، ولم يزل معه حتى سلم القلعة، فصعد صلاح الدين غليها، وأخذ ما فيها من الأموال، وأخرجها واتسع بها وثبت قدمه، وقويت نفسه، وهو مع هذا يظهر الطاعة للملك الصالح، ويخاطبه بالمملوك، والخطبة والسكة باسمه. ذكر ملك صلاح الدين مدينتي حمص وحماة
لما استقر ملك صلاح الدين لدمشق، وقرر أمرها، استخلف بها أخاه سيف الإسلام طغدكين بن أيوب، وسار إلى مدينة حمص مستهل جمادى الأولى، وكانت حمص وحماة وقلعة بعين وسلمية وتل خالد والرها من بلد الجزيرة في أقطاع الأمير فخر الدين مسعود الزعفراني، فلما مات نور الدين لم يمكنه المقام بها لسوء سيرته في أهلها، ولم يكن له في قلاع هذه البلاد حكم إنما فيها ولاة لنور الدين. وكان بقلعة حمص وال يحفظها، فلما نزل صلاح الدين على حمص، حادي عشر الشهر المذكور، راسل من فيها بالتسليم، فامتنعوا، فقاتلهم من الغد، فملك البلد وأمن أهله، وامتنعت عليه القلعة وبقيت ممتنعة إلى أن عاد من حلب، على ما نذكره إن شاء الله، وترك بمدينة حمص من يحفظها، ويمنع من بالقلعة من التصرف، وأن تصعد إليهم ميرة. وسار إلى مدينة حماة، وهو في جميع أحواله لا يظهر إلا طاعة الملك الصالح بن نور الدين، وانه إنما خرج لحفظ بلاده عليه من الفرنج، واستعادة ما أخذه سيف الدين صاحب الموصل من البلاد الجزرية، فلما وصل إلى حماة ملك المدينة مستهل جمادى الآخرة، وكان بقلعتها الأمير عز الدين جورديك، وهو من المماليك النورية، فامتنع من التسليم إلى صلاح الدين، فأرسل إليه صلاح الدين ما يعرفه ما هو عليه من طاعة الملك الصالح، وإنما يريد حفظ بلاده عليه، فاستحلفه جورديك على ذلك فحلف له وسيره إلى حلب في اجتماع الكلمة على طاعة الملك الصالح، وفي إطلاق شمس الدين علي وحسن وعثمان أولاد الداية من السجن، فسار جورديك إلى حلب، واستخلف بقلعة حماة أخاه ليحفظها، فلما وصل جورديك إلى حلب قبض عليه كمشتكين وسجنه، فلما علم أخوه بذلك سلم القلعة إلى صلاح الدين فملكها. ذكر حصر صلاح الدين حلب وعوده عنها وملكه قلعة حمص وبعلبك لما ملك صلاح الدين حماة سار إلى حلب فحصرها ثالث جمادى الآخرة، فقاتله أهلها، وركب الملك الصالح، وهو صبي عمره اثنتا عشر سنة، وجمع أهل حلب وقال لهم: قد عرفتم إحسان أبي إليكم ومحبته لكم وسيرته فيكم، وأنا يتيمكم، وقد جاء هذا الظالم الجاحد إحسان والدي إليه يأخذ بلدي ولا يراقب الله تعالى، ولا الخلق، وقال من هذا كثير وبكى فأبكى الناس، فبذلوا له الأموال والأنفس، واتفقوا على القتال دونه، والمنع عن بلده، وجدوا في القتال، وفيهم شجاعة، وقد ألفوا الحرب واعتادوها، حيث كان الفرنج بالقرب نهم، فكانوا يخرجون ويقاتلون صلاح الدين عند جبل حوشن، فلا يقدر على القرب من البلد. وأرسل سعد الدين كمشتكين إلى سنان مقدم الإسماعيلية، وبذل له أموالاً كثيرة ليقتلوا صلاح الدين، فأرسلوا جماعة منهم إلى عسكره، فلما وصلوا رآهم أمير اسمه خمارتكين، صاحب قلعة أبي قبيس، فعرفهم لأنه جارهم في البلاد،كثير الاجتماع بهم والقتال لهم، فلما رآهم قال لهم: ما الذي أقدمكم وفي أي شيء جئتم؟ فجرحوه جراحات مثخنة، وحمل أحدهم على صلاح الدين ليقتله، فقتل دونه، وقاتل الباقون من الإسماعيلية، فقتلوا جماعة ثم قتلوا. وبقي صلاح الدين محاصراً لحلب إلى سلخ جمادى الآخرة، ورحل عنها مستهل رجب وسبب رحيله أن القمص ريمند الصنجيلي، صاحب طرابلس، كان قد أسره نور الدين على حارم سنة تسع وخمسين وخمسمائة، وبقي في الحبس إلى هذه السنة، فأطلقه سعد الدين بمائة ألف وخمسين ألف دينار صورية وألف أسير، فلما وصل إلى بلده اجتمع الفرنج عليه يهنئونه بالسلامة، وكان عظيماً فيهم من أعيان شياطينهم، فاتفق أن مري ملك الفرنج، لعنه الله، مات أول هذه السنة، وكان أعظم ملوكهم شجاعة وأجودهم رأياً ومكراً ومكيده، فلما توفي خلف ابناً مجذوماً عاجزاً عن تدبير الملك، فملكه الفرنج صورة لا معنى تحتها، وتولى القمص ريمند تدبير الملك، وإليه الحل والعقد، عن أمره يصدرون، فأرسل إليه من بحلب يطلبون منه أن يقصد بعض البلاد التي بيد صلاح الدين ليرحل عنهم، فسار إلى حمص ونازلها سابع رجب، فلما تجهز لقصدها سمع صلاح الدين الخبر فرحل عن حلب، فوصل إلى حماة ثامن رجب، بعد نزول الفرنج على حمص بيوم، ثم رحل إلى الرستن، فلما سمع الفرنج بقربه رحلوا عن حمص، ووصل صلاح الدين إليها، فحصر القلعة إلى أن ملكها في الحادي والعشرين من شعبان من السنة، فصار أكثر الشام بيده.
ولما ملك حمص سار منها إلى بعلبك، وبها خادم اسمه يمن، وهو وال عليها من أيام نور الدين، فحصرها صلاح الدين، فأرسل يمن يطلب الأمان له ولمن عنده، فأمنهم صلاح الدين، وسلم القلعة رابع شهر رمضان من السنة المذكورة. ذكر حصر سيف الدين أخاه عماد الدين بسنجارلما ملك صلاح الدين دمشق وحمص وحماة كتب الملك الصالح إسماعيل ابن نور الدين إلى ابن عمه سيف الدين غازي بن قطب الدين مودود، يستنجده على صلاح الدين، ويطلب أن يعبر إليه ليقصدوا صلاح الدين ويأخذوا البلاد منه، فجمع سيف الدولة عساكره، وكاتب أخاه عماد الدين زنكي، صاحب سنجار، يأمره أن ينزل إليه بعساكره ليجتمعا على المسير إلى الشام، فامتنع من ذلك. وكان صلاح الدين قد كاتب عماد الدين وأطمعه في الملك لأنه هو الكبير، فحمله الطمع على الامتناع عن أخيه، فلما رأى سيف الدين امتناعه جهز أخاه عز الدين مسعوداً في عسكر كثير، هو معظم عسكره، وسيره إلى الشام، وجعل المقدم على العسكر مع أخيه عز الدين محمود ويلقب أيضاً زلفندار،وجعله المدبر للأمر، وسار سيف الدين إلى سنجار فحصرها في شهر رمضان وقاتلها، وجد في القتال، وامتنع عماد الدين بها، وأحسن حفظها والذب عنها، فدام الحصار عليها، فبينما هو يحاصرها أتاه الخبر بانهزام عسكره مع أخيه عز الدين مسعود من صلاح الدين، فراسل حينئذ أخاه عماد الدين وصالحه على ما بيده، ورحل إلى الموصل، وثبت قدم صلاح الدين بعد الهزيمة، وخافه الناس، وترددت الرسل بينه وبين سيف الدين غازي في الصلح، فلم يستقر حال. انهزام سيف الدين من صلاح الدين ذكر انهزام عسكر سيف الدين من صلاح الدين وحصره مدينة حلب في هذه السنة سار عسكر سيف الدين مع أخيه عز الدين وعز الدين زلفندار إلى حلب، واجتمع معهما عساكر حلب، وساروا كلهم إلى صلاح الدين ليحاربوه، فارسل صلاح الدين إلى سيف الدين يبذل تسليم حمص وحماة، وأن يقر بيده مدينة دمشق، وهو فيها نائب الملك الصالح، فلم يجب إلى ذلك، وقال: لا بد من تسليم جميع ما أخذ من بلاد الشام ويعود إلى مصر. وكان صلاح الدين يجمع عساكره ويتجهز للحرب، فلما امتنع سيف الدين من إجابته إلى ما بذل سار في عساكره إلى عز الدين مسعود وزلفندار، فالتقوا تاسع عشر رمضان، بالقرب من مدينة حماة، بموضع يقال له قرون حماة، وكان زلفندار جاهلاً بالحروب والقتال، غير عالم بتدبيرها، مع جبن فيه، إلا انه قد رزق سعادة وقبولاً من سيف الدين، فلما التقى الجمعان لم يثبت العسكر السيفي، وانهزموا لا يلوي أخ على أخيه، وثبت عز الدين أخو سيف الدين بعد انهزام أصحابه، فلما رأى صلاح الدين ثباته قال: إما أن هذا أشجع الناس، أم أنه لا يعرف الحرب؛ وأمر أصحابه بالحملة عليه، فحملوا فأزاحوه عن موقفه،وتمت الهزيمة عليهم. وتبعهم صلاح الدين وعسكره حتى جازوا معسكرهم، وغنموا منهم غنائم كثيرة، وآلة، وسلاحاً عظيماً ودواب فارهة، وعادوا بعد طول البيكار مستريحين، وعاد المنهزمون إلى حلب، وتبعهم صلاح الدين، فنازلهم بها محاصراً لها ومقاتلاً، وقطع خطبة الملك الصالح بن نور الدين، وأزال اسمه عن السكة في بلاده، ودام محاصراً لهم، فلما طال الأمر عليهم راسلوه في الصلح على أن يكون له ما بيده من بلاد الشام ولهم ما بأيديهم منها، فأجابهم إلى ذلك، وانتظم الصلح ورحل عن حلب في العشر الأول من شوال ووصل إلى حماة، ووصلت إليه بها خلع الخليفة مع رسوله. ذكر ملك صلاح الدين قلعة بعرين
في هذه السنة، في العشر الأول من شوال، ملك صلاح الدين قلعة بعرين من الشام،وكان صاحبها فخر الدين مسعود بن الزعفراني، وهو من أكابر الأمراء النورية، فلما رأى قوة صلاح الدين نزل منها، واتصل بصلاح الدين، ظن أنه يكرمه ويشاركه في ملكه، ولا ينفرد عنه بأمر مثل ما كان مع نور الدين، فلم ير من ذلك شيئاً، ففارقه، ولم يكن بقي من أقطاعه الذي كان له في الأيام النوريه غير بعرين ونائبه بها، فلما صالح صلاح الدين الملك الصالح بحلب، عاد إلى حماة وسار منها إلى بعرين، وهي قريبة منها، فحصرها ونصب عليها المجانيق، وأدام قتالها، فسلمها واليها بالأمان، فلما ملكها عاد إلى حماة، فأقطعها خاله شهاب الدين محمود بن تكش الحارمي، وأقطع حمص ناصر الدين محمد ابن عمه شيركوه، وسار منها إلى دمشق فدخلها أواخر شوال من السنة. ذكر ملك البهلوان مدينة تبريزفي هذه السنة ملك البهلوان بن إيلدكز مدينة تبريز، وهي من جملة بلاد آقسنقر الأحمديلي، وسبب ذلك أن البهلوان سار إلى مراغة وحصرها، وكان ابن أقسنقر الأحمديلي صاحبها قد مات ووصى بالملك لابنه فلك الدين، فقصده البهلوان، ونزل على قلعة روبين دز وحصرها فامتنعت عليه، فتركها، وحصر مراغة، وسير أخاه قزل أرسلان في جيش إلى مدينة تبريز فحصرها أيضاً. وكان البهلوان يقاتل أهل مراغة فظفروا بطائفة من عسكره فخلع عليهم صدر الدين قاضي مراغة، وأطلقهم، فحسن ذلك عند البهلوان، وشرع القاضي في الصلح على ان يسلموا تبريز إلى البهلوان، فأجيب إلى ذلك، واستقرت القاعدة عليه، وحلف كل واحد منهما إلى صاحبه، وتسلم البهلوان تبريز وأعطاها أخاه قزل أرسلان، ورحل عن مراغة. ذكر وفاة شملةفي هذه السنة، مات شملة التركماني، صاحب خوزستان، وكان قد كثرت ولايته، وعظم شانه، وبنى عدة حصون، وبقي كذلك زيادة على عشرين سنة. وكان سبب موته انه قصد بعض التركمان، فعلموا بذلك، فاستعانوا بشمس الدين البهلوان بن إيلدكز، صاحب عراق العجم، فسير إليهم جيشاً، فاقتتلوا فأصاب شملة سهم، ثم أخذ أسيراً وولده وابن أخيه، وتوفي بعد يومين، وهو من التركمان الأقشرية، ولما مات ملك ابنه بعده. ذكر هرب قطب الدين قايماز من بغدادفي هذه السنة، في شوال، سير علاء الدين تنامش، وهو من اكابر الأمراء ببغداد، وهو ابن أحمد قطب الدين قايماز زوج اخته، عسكراً إلى الغراف، فنهبوا أهله وبالغوا في أذاهم، فجاء منهم جماعة إلى بغداد واستغاثوا، فلم يغاثوا لضعف الخليفة مع قايماز وتنامش، وتحكمهما عليه، فقصدوا جامع القصر واستغاثوا فيهن ومنعوا الخطيب، وفاتت الصلاة اكثر الناس، فأنكر الخليفة ما جرى، فلم يلتفت قطب الدين وتنامش إلى ما فعل، واحتقروه، فلا جرم لم يمهلهم الله تعالى لاحتقارهم الدعاء وازدرائهم أهله. فلما كان الخامس من ذي القعدة قصد قطب الدين قايماز أذى ظهير الدين بن العطار، وكان صاحب المخزن، وهو خاص الخليفة، وله به عناية تامة، فلم يراع الخليفة في صاحبه، فارسل إليه يستدعيه ليحضر عنده، فهرب، فاحرق قطب الدين داره، وحال الأمراء على المساعدة والمظاهرة له، وجمعهم، وقصد دار الخليفة لعلمه أن ابن العطار فيها، فلما علم الخليفة ذلك ورأى الغلبة صعد إلى سطح داره وظهر للعامة وأمر خادماً فصاح واستغاث، وقال للعامة: مال قطب الدين لكم ودمه لي؛ فقصد الخلق كلهم دار قطب الدين للنهب، فلم يمكنه المقام لضيق الشوارع وغلبة العامة، فهرب من داره من باب فتحة فيظهرها، لكثرة الخلق على بابها، وخرج من بغداد ونهبت داره، وأخذ منها من الأموال ما لا يحد ولا يحصى، فرؤي فيها من التنعم ما ليس لأحد مثله، فمن جملة ذلك ان بيت الطهارة الذي كان له فيه سلسلة ذهب من السقف إلى محاذي وجه القاعد على الخلا، وفي أسفلها كرة كبيرة ذهب، مخرمة، محشوة بالمسك والعنبر ليشمها إذا قعد، فتشبث بها إنسان وقطعها وأخذها، ودخل بعض الصعاليك فاخذ عدة أكياس مملوءة دنانير.
وكان الأقوياء قد وقفوا على الباب يأخذون ما يخرج به الناس، فلما أخذ ذلك الصعلوك الأكياس قصد المطبخ فاخذ منه قدراً مملوئة طبيخاً، وألقى الأكياس فيها وحملها على رأسه وخرج بها، والناس يضحكون منه، فيقول: أنا أريد شيئاً أطعمه عيالي اليوم؛ فنجا بما معه، فاستغنى بعد ذلك، فظهر المال، ولم يبق من نعمة قطب الدين في ساعة واحدة كثير ولا قليل. ولما خرج من البلد تبه تنامش وجماعة من الأمراء، فنهبت دورهم أيضاً، وأخذت أموالهم واحرق أكثرها، وسار قطب الدين إلى الحلة ومعه الأمراء، فسير الخليفة غليه صدر الدين شيخ الشيوخ، فلم يزل به يخدعه حتى سار عن الحلة إلى الموصل على البر، فلحقه ومن معه عطش شديد فهلك أكثرهم من شدة الحر والعطش، ومات قطب الدين قبل وصوله إلى الموصل فحمل ودفن بظاهر باب العمادي وقبره مشهور هناك. وهذا عاقبة عصيان الخليفة، وكفران الإحسان، والظلم، سوء التدبير، فإنه ظلم أهل العراق، وكفر إحسان الخليفة الذي كان قد غمره، ولو أقام بالحلة وجمع العساكر عاود بغداد لاستولى على الأمور كلها كما كان، فإن عامة بغداد كانوا يريدونه، وكان قوي بالاستيلاء على البلاد فأطاعوه. ولما مات في ذي الحجة وصل علاء الدين تنامش إلى الموصل، فأقام مديدة، ثم أمره الخليفة بالقدوم إلى بغداد، فعاد إليها، وبقي فيها إلى أن مات بغير إقطاع، وكان هذا آخر أمرهم. ولما أقام قطب الدين بالحلة امتنع الحاج من السفر، فتأخروا إلى أن رحل عنها، فدخلوا من الكوفة إلى عرفات في ثمانية عشر يوماً، وهذا ما لم يسمع بمثله، وفات كثير منهم الحج. ولما هرب قطب الدين خلع الخليفة على عضد الدين الوزير وأعيد إلى الوزارة. قال بعض الشعراء في قطب الدين وتنامش هذه الأبيات: إن كنت معتبراً بملك زائل ... وحوادث عنقية الإدلاج فدع العجائب والتواريخ الأولى ... وانظر إلى قايماز وابن قماج عطف الزمان عليهما فسقاهما ... من كأسه صرفاً بغير مزاج فتبدلوا بعد القصور وظلها ... ونعيمها بمهامه وفجاج فليحذر الباقون من أمثالها ... نكبات دهر خائن مزعاج وكان قطب الدين كريماً، طلق الوجه، محباً للعدل والإحسان، كثير البذل للمال. والذي كان جرى منه غنما كان يحمله عليه تنامش ولم يكن بإرادته. ذكر عدة حوادثفي هذه السنة مات زعيم الدين صاحب المخزن، واسمه يحيى بن عبد الله ابن محمد بن المعمر بن جعفر أبو الفضل، وحج بالناس عدة سنين، وغليه الحكم في الطريق، وناب عن الوزارة، وتنقل في هذه الأعمال اكثر من عشرين سنة، وكان يحفظ القرآن. ثم دخلت سنة إحدى وسبعين وخمسمائة ذكر انهزام سيف الدين من صلاح الدين في هذه السنة، عاشر شوال، كان المصاف بين سيف الدين غازي بن مودود وبين صلاح الدين يوسف بن أيوب بتل السلطان، على مرحلة من حلب، على طريق حماة، وانهزم سيف الدين. وسبب ذلك أنه لما انهزم أخوه عز الدين مسعود من صلاح الدين في العام الماضي وصالح سيف الدين أخاه عماد الدين صاحب سنجار، عاد إلى الموصل، وجمع عساكره، وفرق فيهم الأموال، واستنجد صاحب حصن كيفا، وصاحب ماردين وغيرها، فاجتمعت معه عساكره كثيرة بلغت عدتهم ستة آلاف فارس، فسار إلى نصبين في ربيع الأول من هذه السنة، وأقام بها فأطال المقام حتى انقضى الشتاء وهو مقيم، فضجر العسكر ونفدت نفقاتهم، وصار العود إلى بيوتهم مع الهزيمة أحب إليهم من الظفر لما يتوقعونه، إن ظفروا، من طول المقام بالشام بعد هذه المدة.
ثم سار إلى حلب، فنزل إليه سعد الدين كمشتكين الخادم، مدبر دولة الملك الصالح، ومعه عساكر حلب، وكان صلاح الدين في قلة من العساكر لأنه كان صالح الفرنج في المحرم من هذه السنة، على ما نذكره إن شاء الله، وقد سير عساكره إلى مصر، فأرسل يستدعيها، فلو عاجلوه لبلغوا غرضهم منه، لكنهم تريثوا وتأخروا عنه، فجاءته عساكره، فسار من دمشق إلى ناحية حلب، ليلقى سيف الدين، فالتقى العسكران بتل السلطان، وكان سيف الدين قد سبقه، فلما وصل صلاح الدين كان وصوله العصر، وقد تعب هو وأصحابه وعطشوا، فألقوا نفوسهم إلى الأرض ليس بهم حركة، فأشار جماعة على سيف الدين بقتالهم وهم على هذا الحال، فقال زلفندار: ما بنا هذه الحاجة إلى قتال هذا الخارجي في هذه الساعة، غداً بكرة نأخذهم كلهم؛ فترك القتال إلى الغد. فلما اصبحوا اصطفوا للقتال، فجعل زلفندار، وهو المدبر للعسكر السيفي، أعلامهم في وهدة من الأرض، لا يراها إلا من هو بالقرب منها، فلما لم يرها الناس ظنوا أن السلطان قد هزم، فلم يثبتوا وانهزموا، ولم يلو أخ على أخيه، ولم يقتل بين الفريقين على كثرتهم غير رجل واحد، ووصل سيف الدين إلى حلب، وترك بها أخاه عز الدين مسعوداً في جمع من العسكر، ولم يقم هو، وعبر الفرات، وسار إلى الموصل، وهو لا يصدق أنه ينجو. وظن أن صلاح الدين يعبر الفرات ويقصده بالموصل، فاستشار وزيره جلال الدين، ومجاهد الدين قايماز، في مفارقة الموصل، والاعتصام بقلعة عقر الحميدية، فقال له مجاهد الدين: أرأيت إن ملكت الموصل عليك، أتقدر أن تمنع ببعض أبراج الفصيل؟ فقال : لا. فقال: برج في الفصيل خير من القعر؛ وما زال الملوك ينهزمون ويعاودون الحرب، واتفق هو والوزير على شد أزره، وتقوية قلبه، فثبت ثم أعرض عن زلفندار وعزله واستعمل مكانه على إمارة الجيوش مجاهد الدين قايماز، على ما نذكره إن شاء الله. وقد ذكر العماد الكاتب في كتاب البرق الشامي في تاريخ الدولة الصلاحية أن سيف الدين كان عسكره في هذه الوقعة عشرين ألف فارس، ولم يكن كذلكن غنما كان على التحقيق يزيد على ستة آلاف فارس اقل من خمسمائة، فإنني وقفت على جريدة العرض، وترتيب العسكر للمصاف ميمنة وميسرة وقلباًن وجاليشة، وغير ذلك، وكان المتولي لذلك والكاتب له أخي مجد الدين أبا السعادات المبارك بن محمد بن عبد الكريم، رحمه الله، وإنما قصد العماد أن يعظم أمر صاحبه بأنه هزم بستة آلاف عشرين ألفاً، والحق أحق أن يتبع، ثم ياليت شعري كم هي الموصل وأعمالها إلى الفرات حتى يكون لها وفيها عشرون ألف فارس؟ ذكر ملك صلاح الدين بعد الكسرة من بلاد الصالح نور الدين لما انهزم سيف الدين وعسكره ووصلوا إلى حلب عاد سيف الدين إلى الموصل كما ذكرناه، وترك بحلب أخاه عز الدين مسعوداً في طائفة من العسكر نجدة للملك الصالح، وأما صلاح الدين فإنه لما استولى على أثقال العسكر الموصلي هو وعسكره، وغنموها واتسعوا بها وقووا، سار إلى بزاعة فحصرها، وقاتله من بالقلعة، ثم تسلمها وجعل بها من يحفظها، وسار إلى مدينة منبج فحصرها آخر شوال، وبها صاحب قطب الدين ينال بن حسان المنبجي، وكان شديد العداوة لصلاح الدين والتحريض عليه، والإطماع فيه، والطعن فيه، فصلاح الدين حنق عليه متهدد له، فأما المدينة فملكها، ولم تمتنع عليه، وبقي القلعة وبها صاحبها قد جمع إليها الرجال والذخائر والسلاح، فحصره صلاح الدين وضيق عليه وزحف إلى القلعة، فوصل النقابون إلى السور فنقبوها وملكوها عنوة، وغنم العسكر الصلاحي كل ما بها، وأخذ صاحبها ينال أسيراً، فأخذ صلاح الدين كل ماله واصبح فقيراً لا يملك نقيراً، ثم أطلقه صلاح الدين فسار إلى الموصل، فأقطعه سيف الدين غازي مدينة الرقة.
ولما فرغ صلاح الدين من منبج سار إلى قلعة إعزاز، فنازلها ثالث ذي القعدة من السنة، وهي من أحصن القلاع وأمنعها، فنازلها وحصرها، وأحاط بها وضيق على من فيها ونصب عليها المجانيق، وقتل عليها كثير من العسكر؛ فبينما صلاح الدين يوماً في خيمة لبعض أمراءه يقال له جاولي، وهو مقدم الطائفة الأسدية، إذ وثب عليه باطني فضربه بسكين في رأسه فجرحه، فلولا أن المغفر الزند كانت تحت القلنسوة لقتله، فأمسك صلاح الدين يد الباطني بيده، إلا انه لا يقدر على منعه من الضرب بالكلية، إنما يضرب ضرباً ضعيفاً، فبقي الباطني يضربه في رقبته بالسكين، وكان عليه كزاغند فكانت الضربات تقع في زيق الكزاغند فتقطعه، والزرد يمنعها من الوصول إلى رقبته لبعد اجله فجاء أمير من أمراءه اسمه يازكش، فأمسك السكين بكفه فجرحه الباطني، ولم يطلقها من يده إلى أن قتل الباطني، وجاء آخر من الإسماعيلية فقتل أيضاً، وثلث فقتل، وركب صلاح الدين إلى خيمته كالمذعور لا يصدق بنجاته، ثم اعتبر جنده، فمن أنكره أبعده، ومن عرفه اقره على خدمته، ولازم حصار إعزاز ثمانية وثلاثين يوماً، كل يوم اشد قتالاً مما قبله، وكثرت النقوب فيهان فأذعن من بها، وسلموا القلعة غليه، فتسلمها حادي عشر ذي الحجة. ذكر حصر صلاح الدين مدينة حلب والصلح عليها لما ملك صلاح الدين إعزاز رحل إلى حلب فنازلها منتصف ذي الحجة وحصرها، وبها الملك الصالح ومن معه من العساكر، وقد قام العامة في حفظ البلد القيام المرضي، بحيث انهم منعوا صلاح الدين من القرب من البلد، لأنه كان إذا تقدم للقتال خسر هو وأصحابه، كثر الجراح فيهم والقتل، كانوا يخرجون ويقاتلونه خارج البلد، فترك القتال وأخلد للمطاولة. وانقضت سنة إحدى وسبعين ودخلت سنة اثنتين وسبعين، وهو محاصر لها، ثم ترددت الرسل بينهم في الصلح في العشرين من المحرم، فوقعت الإجابة إليه من الجانبين، لأن أهل حلب خافوا من طول الحصار، فإنهم ربما ضعفوا، وصلاح الدين رأى انه لا يقدر على الدنو من البلد، ولا على قتال من به، فأجاب أيضاً، وتقررت القاعدة في الصلح للجميع، للملك الصالح، ولسيف الدين صاحب الموصل، ولصاحب الحصن، ولصاحب ماردين، وتحالفوا واستقرت القاعدة ان يكونوا كلهم عوناً على الناكث الغادر. فلما انفصل الأمر وتم الصلح رحل صلاح الدين عن حلب، بعد أن أعاد قلعة إعزاز إلى الملك الصالح، فإنه اخرج إلى صلاح الدين أختاً له طفلة، فأكرمها صلاح الدين وحمل لها شيئاً كثيراً، وقال لها : ما تريدين؟ قالت: أريد قلعة إعزاز؛ وكانوا قد علموها ذلك، فسلمها إليهم، ورحل إلى بلد الإسماعيلية. ذكر الفتنة بمكة وعزل أميرها وإقامة غيرهفي هذه السنة، في ذي الحجة، كان بمكة حرب شديدة بين أمير الحاج طاشتكين وبين الأمير مكثر أمير مكة، وكان الخليفة قد أمر أمير الحاج بعزل مكثر وإقامة أخيه داود مقامه. وسبب ذلك أنه كان قد بنى قلعة على جبل أبي قبيس، فلما سار الحاج من عرفات لم يبيتوا بالمزدلفة، وإنما اجتازوا بها، فلم يرموا الجمار، إنما بعضهم رمى بعضها وهو سائر، ونزلوا الأبطح فخرج إليهم ناس من أهل مكة فحاربوهم، وقتل من الفريقين جماعة، وصاح الناس: الغزاة إلى مكة، فهجموا عليها، فهرب أمير مكة مكثر، فصعد القلعة التي بناها على جبل أبي قبيس فحصروه بها، ففارقها وسار عن مكة، وولي أخوه داود الإمارة، ونهب كثير من الحاج مكة وأخذوا من أموال التجار المقيمين بها الشيء الكثير، وأحرقوا دوراً كثيرة. ومن أعجب ما جرى فيها أن إنساناً زراقاً ضرب داراً بقارورة نفط فأحرقها، وكانت لأيتام، فأحرقت ما فيها، ثم أخذ قارورة أخرى ليضرب فيها مكاناً آخر، فأتاه حجر فأصاب القارورة فكسرها، فاحترق هو بها، فبقي ثلاثة أيام يعذب بالحريق ثم مات. ذكر عدة حوادثفي هذه السنة، في شهر رمضان، انكسفت الشمس جميعها، وأظلمت الأرض حتى بقي الوقت كأنه ليل مظلم، وظهرت الكواكب، وكان ذلك ضحوة النهار، يوم الجمعة التاسع والعشرين منه، وكنت حينئذ صبياً بظاهر جزيرة ابن عمر مع شيخ لنا من العلماء أقرأ عليه الحساب، فلما رأيت ذلك خفت خوفاً شديداً، وتمسكت به، فقوي قلبي، وكان عالماً بالنجوم أيضاَ ، وقال لي: الآن تر هذا جميعه، فانصرف سريعاً.
وفيها ولي الخليفة المستضيء بأمر الله حجابة الباب أبا طالب نصر بن علي الناقد، وكان يلقب في صغره قنبراً، فصاروا يصيحون به ذلك إذا خرج، فأمر الخليفة أن يركب معه جماعة من الأتراك ويمنعوا الناس من ذلك، فامتنعوا، فلما كان العيد خلع عليه ليركب في الموكب، فاشترى جماعة من أهل بغداد من القنابر شيئاً كثيراً، وعزموا على إرسالها في الموكب إذا رأوا ابن الناقد، فأنهي ذلك إلى الخليفة، وقيل له يصير الموكب ضحكة، فعزله وولى ابن المعوج. وفيها، في ذي الحجة، يوم العيد، وقعت فتنة ببغداد، بين العامة وبعض الأتراك بسبب أخذ جمال النحر، فقتل بينهم جماعة ونهب شيء كثير من الأموال، ففرق الخليفة أموالاً جليلة فيمن نهب ماله. وفيها زلزلت بلاد العجم من حد العراق إلى ما وراء الري، وهلك فيها خلق كثير، وتهدمت دور كثيرة، وأكثر ذلك كان بالري وقزوين. وفيها، في ربيع الآخر، استوزر سيف الدين غازي جلال الدين أبا الحسن علي بن جمال الدين محمد بن علي، وكان ابوه جمال الدين وزير البيت الأتابكي، وقد تقدمت أخباره، وهو المشهود بالجود والأفضال، ولما ولي جلال الدين الوزارة ظهرت منه كفاية عظيمة، ومعرفة تامة بقوانين الوزارة، وله مكاتبات وعهود حسنة مدونة مشهورة، وكان جواداً فاضلاً خيراً، عمره، لما ولي الوزارة خمس وعشرون سنة. وفيها، في ذي الحجة ، استناب سيف الدين أيضاً عنه بقلعة الموصل مجاهد الدين قايماز، وفوض إليه الأمور، وكان قبل ذلك قد فوض إليه الأمر بمدينة إربل وأعمالها، وكان ، رحمه الله، من صالحي الأمراء وأرباب المعروف، بنى كثيراً من الجوامع والخانات في الطرق، والقناطر على الأنهار والربط وغير ذلك من أبواب البر، وكان دائم الصدقة، كثير الإحسان، عادل السيرة، رحمه الله. وفيها قبض الخليفة علي عماد الدين صندل المقتفوي، أستاذ الدار، ورتب مكانه أبا الفضل هبة الله بن علي بن هبه الله بن الصاحب. وفيها، في رمضان، قدم شمس الدولة توارنشاه بن أيوب الذي ملك اليمن إلى دمشق لما سمع أن أخاه صلاح الدين قد ملكها، وقد حن إلى الوطن والأتراب، ففارق اليمن وسار إلى الشام، وأرسل من الطريق إلى أخيه يعلمه بوصوله، وكتب في الكتاب شعراً من قول ابن المنجم المصري: وإلى صلاح الدين أشكو أنني ... من بعده مضنى الجوانح مولع جزعاً لبعد الدار منه ولم أكن ... لولا هواه لبعد دار أجزع فلأركبن إليه متن عزائمي ... ويخب بي ركب الغرام ويوسع ولأقطعن من النهار هواجراً ... قلب النهار بحرها يتقطع ولأسرين الليل لا يسرى به ... طيف الخيال ولا البروق اللمع وأقدمن إليه قلبي مخبراً ... أني بجسمي من قريب أتبع حتى أشاهد منه أسعد طلعة ... من أفقها صبح السعادة يطلع وفي هذه السنة، في المحرم، برز صلاح الدين من دمشق، وقد عظم شأنه بما ملكه من بلاد الشام، وبكسره عسكر الموصل، فخافه الفرنج وغيرهم، وعزم على دخول بلدهم، ونبه والإغارة عليه، فأرسلوا إليه يطلبون الهدنة معه، فأجابهم إليها وصالحهم، فأمر العساكر المصرية بالعود إلى مصر، والاستراحة إلى أن يعود طلبهم، وشرط عليهم أنه متى أرسل يستدعيهم لا يتأخرون، فساروا إليها وأقاموا بها إلى أن استدعاهم للحرب مع سيف الدين على ما نذكره. وفيها مات أبو الحسن علي بن عساكر البطائحي المقرئ، وكان قد سمع الحديث الكثير ورواه، وكان نحوياً جيداً. وفي ذي الحجة، منها ، توفي أبو سعد محمد بن سعيد بن محمد بن الرزاز، سمع الحديث ورواه، وله شعر جيد، فمن ذلك أنه كتب إليه بعض أصدقائه مكاتبة وضمنها شعراً، فأجابه: يا من أياديه تغني من يعددها ... وليس يحصي مالها من لها يصف عجزت عن شكر ما أوليت من كرم ... وصرت عبداً ولي في ذلك الشرف أهديت منظوم شعر كله درر ... فكل ناظم عقد دونه يقف إذا أتيت ببيت منه كان لنا ... قصراً ودر المعاني له شرف وإن أتيت أنا بيت يناقضه ... أتيت ولكن ببيت سقفه يكف ما كنت منه ولا من أهله أبداً ... وإنما حين أدنو منه أقتطف
وقيل كانت وفاته سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة وهو الصحيح. ثم دخلت سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة ذكر نهب صلاح الدين بلد الإسماعيلية لما رحل صلاح الدين من حلب، على ما ذكرناه قبل، قصد بلاد الإسماعيلية، في المحرم ليقاتلهم بما فعلوه من الوثوب عليه وإرادة قتله، فنهب بلدهم وخربه وأحرقه، وحصر قلعة مصياب، وهي أعظم حصونهم، وأحصن قلاعهم، فنصب عليها المجانيق، وضيق على من بها، ولم يزل كذلك، فأرسل سنان مقدم الإسماعيلية إلى شهاب الدين الحارمي، صاحب حماة، وهو ابن خال صلاح الدين، يسأله أن يدخل بينهم ويصلح الحال ويشفع فيهم، ويقول له: إن لم تفعل قتلناك وجميع أهل صلاح الدين وأمراءه، فحضر شهاب الدين عند صلاح الدين وشفع فيهم وسأل الصفح عنهم، فأجابه إلى ذلك، وصالحهم، ورحل عنهم. وكان عسكره قد ملوا من طول البيكار، وقد امتلأت أيديهم من غنائم عسكر الموصل، ونهب بلد الإسماعيلية، فطلبوا العود إلى بلادهم للراحة، فأذن لهم، وسار هو إلى مصر مع عسكرها، لأنه قد طال بعده عنها، ولم يمكنه المضي إليها فيما تقدم خوفاً على بلاد الشام؛ فلما انهزم سيف الدين، وحصر هو حلب، وملك بلادها، واصطلحوا، امن على البلاد، فسار إلى مصر، فلما وصل إليها أمر ببناء سور على مصر في الشعاري والغياض والقاهرة والقلعة التي على جبل المقطم، دوره تسعة وعشرون ألف ذراع وثلاثمائة ذراع بالذراع الهاشمي، ولم يزل العمل فيه إلى أن مات صلاح الدين. ذكر ظفر المسلمين بالفرنج والفرنج بالمسلمينكان شمس الدين محمد بن عبد الملك بن المقدم صاحب بعلبك، قد أتاه خبراً ان جمعاً من الفرنج قد قصدوا البقاع من أعمال بعلبك، وأغاروا عليها، فسار إليهم، وكمن لهم في الشعاري والغياض، وأوقع بهم، وقتل فيهم وأكثر، وأسر نحو مائتي رجل منهم وسيرهم إلى صلاح الدين. وكان شمس الدولة توارنشاه، أخو صلاح الدين، وهو الذي ملك اليمن، قد وصل إلى دمشق، كما ذكرناه، وهو فيها، فسمع أن طائفة من الفرنج قد خرجوا من بلادهم إلى أعمال دمشق، فسار إليهم ولقيهم عند عين الجر في تلك المروج، فلم يثبت لهم، وانهزم عنهم، فظفروا بجمع من أصحابه، فأسروهم، منهم سيف الدين أبو بكر بن السلار، وهو من أعيان الجند الدمشقيين، واجترأ الفرنج بعده، وانبسطوا في تلك الولاية، وجبروا الكسر الذي ناله منهم ابن المقدم. عصيان صاحب شهرزور على سيف الدين ذكر عصيان صاحب شهرزور على سيف الدين وعوده إلى طاعته في هذه السنة عصى شهاب الدين محمد بن بزان، صاحب شهرزور، على سيف الدين غازي وكان في طاعته وتحت حكمه. وكان سبب ذلك أن مجاهد الدين قايماز كان متولياً مدينة أربل، وكان بينه وبين ابن بزان عداوة محكمة، فلما استناب سيف الدين مجاهد الدين بالموصل خاف ابن بزان ان يناله منه أذى، فأظهر الامتناع من النزول إلى الخدمة، فأرسل إليه جلال الدين وزيره سيف الدين كتاباً يأمره بمعاودة الطاعة، ويحذره عاقبة المخالفة، وهو من احسن الكتب وأبلغها في هذا المعنى، ولولا خوف التطويل لذكرته، فليطلب من مكاتباته؛ فلما وصل إليه الكتاب والرسول، بادر إلى حضور الخدمة بالموصل وزال الخلف. ذكر فرج بعد شدة يتعلق بالتاريخبالقرب من جزيرة ابن عمر حصن منيع من امنع المعاقل اسمه فنك، وهو على راس جبل عال، وهو للأكراد البشنوية، له بأيديهم نحو ثلاثمائة سنة؛ وكان صاحبه هذه السنة أمير منهم اسمه إبراهيم، وله أخ اسمه عيسى، قد خرج منه، وهو لا يزال يسعى في أخذه من أخيه إبراهيم ن فأطاعه بعض بطانة إبراهيم، وفتح باب السر ليلاً، واصعد منه إلى رأس القلعة نيفاً وعشرين رجلاً من أصحاب عيسى، فقبضوا على إبراهيم ومن عنده، ولم يكن عنده إلا نفر من خواصه، وهذه قلة على صخرة كبيرة مرتفعة عن سائر القلعة ارتفاعاً كثيراُ؛ وبها يسكن الأمير وأهله وخواصه، وباقي الجند في القلعة تحت القلة، فلما قبضوا إبراهيم جعلوه في خزانة، وضربه بعضهم بسيف في يده على عاتقه، فلم يصنع شيئاً، فلما جعل في الخزانة وكل به رجلان، وصعد الباقون إلى سطح القلة، ولا يشكون ان القلعة لهم لا مانع عنها.
ووصل من الغد بكرة الأمير عيسى ليتسلم القلعة، وبينها دجلة، وكانت امرأة الأمير إبراهيم في خزانة أخرى، وفيها شباك حديد ثقيل يشرف على القلعة، فجذبته بيدها فانقلع، وجند زوجها في القلعة لا يقدرون على شيء، فلما قلعت الشباك أرادت أن تدلي حبلاً ترفع به الرجال إليها، فلم يكن عندها غير ثياب خام، فوصلت بعضها ببعض ودلتها إلى القلعة، وشدت طرفيها عندها في عود فأصعدت إليها عشرة رجال، ولم يكن يراهم الذين على السطح. ورأى الأمير عيسى، هو على جانب دجلة، الرجال يصعدون، فصاح هو ومن معه إلى أولئك الذين على السطح ليحذروا، وكانوا كلما صاحوا صاح أهل القلعة لتختلف الأصوات فلا يفهم الذين على السطح، فينزلون ويمنعون من ذلك، فلما اجتمع عندها عشرة رجال أرسلت مع خادم عندها إلى زوجها قدح شراب وأمرته أن يقرب منه كأنه يسقيه الشراب ويعرفه الحال، ففعل ذلك، وجلس بين يديه ليسقيه، وعرفه الحال، فقال: ازدادوا من الرجال، فأصعدت عشرين رجلاً، وخرجوا من عندها، فمد إبراهيم يده إلى الرجلين الموكلين به، فأخذ شعورهما، وأمر الخادم بقتلهما، وكان عنده، فقتلهما بسلاحهما، فخرج واجتمع بأصحابه وأرادوا فتح القلعة ليصعد إليه أصحابه من القلعة، فلم يجد المفاتيح،وكانت مع أولئك الرجال الذين على السطح، فاضطروا إلى الصعود إلى سطح القلة ليأخذوا أصحاب عيسى، فعلموا الحال، فجاؤوا ووقفوا على راس الممرق فلم يقدر أحد ان يصعد، فاخذ بعض أصحاب إبراهيم ترساً وجعله على رأسه، وحصل في الدرجة، وصعد وقاتل القوم على رأس الممرق، حتى صعد أصحابه فقتلوا الجماعة وبقي منهم رجل ألقى نفسه من السطح، فنزل إلى أسفل الجبل فتقطع. فلما رأى عيسى ما حل بأصحابه عاد خائباً مما أمله، واستقر الأمير إبراهيم في قلعته على حاله. ذكر نهب البندنيجينفي هذه السنة وصل الملك الذي بخوزستان عند شملة، وهو ابن ملكشاه ابن محمود، إلى البندنيجين، فخربها ونهبها وفتك في الناس، وسبى حريمهم، وفعل كل قبيح. ووصل الخبر إلى بغداد فخرج الوزير عضد الدين وعرض العسكر، ووصل عسكر الحلة وواسط مع طاشتكين أمير الحاج وغرغلي، وساروا نحو العدو | |
|
 | |
الشيخ عودة الشيخ عودة

عدد المساهمات : 1748 تاريخ التسجيل : 28/09/2008 العمر : 73
 | موضوع: رد: كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير الخميس فبراير 27, 2014 6:39 am | |
| ذكر قصد الفرنج مدينة حماة أيضا ً في هذه السنة، في ربيع الأول، سار جمع كثير من الفرنج بالشام إلى مدينة حماة، وكثر جمعهم من الفرسان والرجالة طمعاً في النهب والغارة، فشنوا الغارة، ونهبوا وخربوا القرى، وأحرقوا، واسروا، وقتلوا، فلما سمع العسكر المقيم بحماة ساروا إليهم، وهم قليل، متوكلين على الله تعالى، فالتقوا، واقتتلوا، وصدق المسلمون القتال، فنصرهم الله تعالى، وانهزم الفرنج، وكثر القتل والأسر فيهم، واستردوا منهم ما غنموه من السواد. وكان صلاح الدين قد عاد من مصر إلى الشام في شوال من السنة المتقدمة، وهو نازل بظاهر حمص، فحملت الرؤوس والأسرى والأسلاب إليه، فأمر بقتل الأسرى فقتلوا. ذكر عصيان ابن المقدم على صلاح الدين وحصر بعلبك وأخذ البلد منه
في هذه السنة عصى شمس الدين محمد بن عبد الملك المقدم على صلاح الدين ببعلبك، وكانت له قد سلمها إليه صلاح الدين لما فتحها جزاء له حيث سلم إليه ابن المقدم دمشق، على ما سبق ذكره، فلم تزل بيده إلى الآن، فطلب شمس الدولة بن أيوب أخو صلاح الدين منه بعلبك، وألح عليه في طلبها لأن تربيته ومنشأه كان بها، وكان يحبها، ويختارها على غيرها من البلاد، وكان الأكبر، فلم يمكن صلاح الدين مخالفته، فأمر شمس الدين بتسليمها إلى أخيه ليعوضه عنها، فلم يجب إلى ذلك، وذكره العهود التي له، وما اعتمده معه من تسليم البلاد، فلم يصغ إليه ولج عليه في أخذها، وسار ابن المقدم إليها، واعتصم بها، فتوجه إليه صلاح الدين، وحصره بها مدة، ثم رحل عنها من غير أن يأخذها، وترك عليه عسكرا يحصره، فلما طال عليه الحصار أرسل إلى صلاح الدين يطلب العوض عنها ليسلمها إليه، فعوضه عنها وسلمها، فأقطعها صلاح الدين أخاه شمس الدولة. ذكر الغلاء والوباء العامفي هذه السنة انقطعت الأمطار بالكلية في سائر البلاد الشامية والجزيرة والبلاد العراقية، والديار بكرية، والموصل وبلاد الجبل وخلاط، وغير ذلك، واشتد الغلاء، وكان عاماً في سائر البلاد، فبيعت غرارة الحنطة بدمشق، وهي اثنا عشر مكوكاً بالموصلي، بعشرين ديناراً صورية عتقاً، وكان الشعير بالموصل كل ثلاثة مكاكي بدينار أميري، وفي سائر البلاد ما يناسب ذلك. واستسقى الناس في أقطار الأرض، فلم يسقوا ، وتعذرت الأقوات، وأكلت الناس الميتة وما ناسبها، ودام كذلك إلى آخر سنة خمس وسبعين؛ ثم تبعه بعد ذلك وباء شديد عام أيضاً، كثر فيه الموت، وكان مرض الناس شيئاً واحداً، وهو السرسام، وكان الناس لا يلحقون يدفنون الموتى، إلا أن بعض البلاد كان أشد من البعض. ثم إن الله تعالى رحم العباد والبلاد والدواب وأرسل الأمطار، وأرخص الأسعار. ومن عجيب ما رأيت أنني قصدت رجلاً من العلماء الصالحين بالجزيرة لأسمع عليه شيئاً من حديث النبي، عليه السلام، في شهر رمضان سنة خمس وسبعين، والناس أشد ما كانوا غلاء وقنوطاً من الأمطار، وقد توسط الربيع ولم تجئ قطرة واحدة من المطر، فبينا أنا جالس ومعي جماعة ننتظر الشيخ، إذ أقبل إنسان تركماني قد أثر عليه الجوع، وكأنه قد أخرج من قبر، فبكى وشكا الجوع، فأرسلت من يشتري له خبزاً، فتأخر إحضاره لعدمه، وهو يبكي ويتمرغ، على الأرض ويشكو الجوع، فلم يبقى فينا إلا من بكى رحمة له وللناس، ففي الحال تغيمت السماء وجاءت نقط من المطر متفرقة، فضج الناس واستغاثوا،ثم جاء الخبز، فأكل التركماني بعضه، وأخذ الباقي بعضه، وأخذ الباقي ومشى واشتد المطر ودام المطر من تلك الساعة. ذكر غارات الفرنج على بلاد المسلمينفي هذه السنة، في ذي القعدة، اجتمع الفرنج وساروا إلى بلد دمشق مع ملكهم، فأغاروا على أعمالها فنهبوها وأسروا وقتلوا وسبوا، فأرسل صلاح الدين فرخشاه، ولد أخيه، في جمع من العسكر إليهم، وأمره إذا قاربهم يرسل غليه يخبره على جناح طائر ليسير إليه، وتقدم إليه أن يأمر أهل البلاد بالانتزاح من بين يديي الفرنج، فسار فرخشاه في عسكره يطلبهم، فلم يشعر إلا والفرنج قد خالطوه، فاضطر إلى القتال، فاقتتلوا اشد قتال رآه الناس، وألقى فرخشاه نفسه عليهم، وغشي الحرب ولم يكلها إلى سواه، فانهزم الفرنج ونصر المسلمون عليهم، وقتل من مقدميهم جماعة ومنهم همفري، وما أدراك ما همفري؟ به كان يضرب المثل في الشجاعة والرأي في الحرب، وكان بلاء صبه الله على المسلمين، فأراح الله من شره. وقتل غيره من أضرابه، ولم يبلغ عسكر فرخشاه ألف فارس.وفيها أيضاً أغار البرنس صاحب أنطاكية ولاذقية على جشير المسلمين بشيزر وأخذه، وأغار صاحب طرابلس على جمع كثير من التركمان، فاحتجف أموالهم، وكان صلاح الدين على بانياس، على ما نذكره إن شاء الله تعالى، فسير ولد أخيه تقي الدين عمر إلى حماة وابن عمه ناصر الدين محمد بن شيركوه إلى مصر، وأمرهما بحفظ البلاد، وحياطة أطرافها من العدو، دمرهم الله تعالى. ذكر عدة حوادثليلة النصف من ربيع الآخر، انكسف القمر نحو نصف الليل الأخير وغاب منكسفاً. وفيها أيضاً، في التاسع والعشرين، انكسفت الشمس وقت العصر، فغربت منكسفة.
وفي هذه السنة، في شعبان، توفي الحيص بيص الشاعر، واسمه سعد ابن محمد بن سعد أبو الفوارس، وكان قد سمع الحديث، ومدح الخلفاء والسلاطين والأكابر، وشعره مشهور، فمنه قوله: كلما أوسعت حلمي جاهلاً ... أوسع فحش له فحش المقال وإذا شاردة فهت بها ... سبقت مر النعامة والشمال لا تلمني في شقائي بالعلى ... رغد العيش لربات الحجال سيف عز زانه رونقه ... فهو بالطبع غني عن سقال وفي المحرم ماتت شهدة بنت احمد بن عمر الإبري الكاتبة وسمعت الحديث من السراج وطراد وغيرهما، وعمرت حتى قاربت مائة سنة، وسمع عليها خلق كثير الحديث لعلو إسنادها. ثم دخلت سنة خمس وسبعين وخمسمائة ذكر تخريب الحصن الذي بناه الفرنج عند مخاضة الأحزان كان الفرنج قد بنوا حصناً منيعاً يقارب بانياس، عند بيت يعقوب ، عليه السلام، بمكان يعرف بمخاضة الأحزان؛ فلما سمع صلاح الدين بذلك سار من دمشق إلى بانياس، وأقام بها، وبث الغارات على بلاد الفرنج، ثم سار إلى الحصن ليخبره ثم يعود إليه عند اجتماع العساكر؛ فلما نازل الحصن قاتل من به من الفرنج، ثم عاد عنه، فلما دخلت سنة خمس وسبعين لم يفارق بانياس بل أقام بها وخيله تغير على بلاد العدو. وأرسل جماعة من عسكره مع جالبي الميرة، فلم تشعر إلا والفرنج مع ملكهم قد خرجوا عليهم، فأرسلوا إلى صلاح الدين يعرفونه الخبر، فسار في العساكر مجداً حتى وافاهم في القتال، فقاتل الفرنج قتالاً شديداً، وحملوا على المسلمين عدة حملات كادوا يزيلونهم عن مواقفهم، ثم أنزل الله نصره على المسلمين، وهزم المشركين، وقتلت منهم مقتلة كثيرة، ونجا ملكهم فريداً وأسر منهم كثير، منهم: ابن البيرزان صاحب الرملة ونابلس، وهو أعظم الفرنج محلاً بعد الملك، وأسروا أيضاً أخا صاحب جبيل، وصاحب طبرية، ومقدم الداوية، ومقدم الاسبارتية، وصاحب جنين وغيرهم، من مشاهير فرسانهم وطواغيتهم، فأما ابن البيرزان فإنه فدى نفسه بمائة ألف وخمسين ألف دينار صورية، وإطلاق ألف أسير من المسلمين، وكان أكثر العمل في هذا اليوم لعز الدين فرخشاه ابن أخي صلاح الدين؛ وحكي عنه أنه قال: ذكرت في تلك الحال بيتي المتنبي وهما: فإن تكن الدولات قسماً فإنها ... لمن يرد الموت الزؤام تؤول ومن هون الدنيا على النفس ساعة ... وللبيض في هام الكماة صليل فهان الموت في عيني، فألقيت نفسي إليه، وكان ذلك سبب الظفر؛ ثم عاد صلاح الدين إلى بانياس من موضع المعركة، وتجهز للدخول إلى ذلك الحصن ومحاصرته، فسار إليه في ربيع الأول، وأحاط به، وقوى طمعه بالهزيمة المذكورة في فتحه، وبث العساكر في بلد الفرنج للإغارة، ففعلوا ذلك، وجمعوا من الأخشاب والزرجون شيئاً كثيراً ليجعله متارس للمجانيق، فقال له جاولي الأسدي وهو مقدم الأسدية وأكابر الأمراء: الرأي أننا نجربهم بالزحف أول مرة، ونذوق قتال من به، وننظر الحال معهم، فإن استضعفناهم، وإلا فنصب المجانيقما يفوت. فقبل رأيه، وأمر فنودي بالزحف إليه، والجد في قتاله، فزحفوا واشتد القتال، وعظم المر، فصعد إنسان من العامة بقميص خلق في باشورة الحصن وقاتل على السور لما علاه وتبعه غيره من أضرابه، ولحق بهم الجند فملكوا الباشورة، فصعد الفرنج حينئذ منها إلى أسوار الحصن ليحموا نفوسهم وحصنهم إلى أن يأتيهم المدد.
وكان الفرنج قد جمعوا في طبرية، فألح المسلمون في قتال الحصن، خوفاً من وصول الفرنج وإزاحتهم عنه، وأدركهم الليل، فأمر صلاح الدين بالمبيت بالباشورة إلى الغد، ففعلوا، فلما كان الغد أصبحوا وقد نقبوا الحصن، وعمقوا النقب، وأشعلوا النيران فيه، وانتظروا سقوط السور، فلم يسقط لعرضه، فإنه كان تسعة أذرع بالنجاري، يكون الذراع ذراعاً ونصفاً، فانتظروه يومين ليسقط فلم يسقط، فأمر صلاح الدين بإطفاء النار التي في النقب، فحمل الماء والقي عليها فطفئت، وعاد النقابون فنقبوا، وخرقوا السور، وألقوا فيه النار، فسقط يوم الخميس لست بقين من ربيع الأول، ودخل المسلمون الحصن عنوة واسروا كل من فيه، وأطلقوا من كان به من أسارى المسلمين، ؛ وقتل صلاح الدين كثيراً من أسرى الفرنج، وأدخل الباقين إلى دمشق، وأقام صلاح الدين بمكانه حتى هدم الحصن، وعفى أثره، وألحقه بالأرض، وكان قد بذل الفرنج ستين ألف دينار مصرية ليهدموه بغير قتال، فلم يفعلوا ظناً منهم أنه إذا بقي بناؤه تمكنوا به من كثير من بلاد الإسلام، وأما الفرنج فاجتمعوا بطبرية ليحموا الحصن، فلما أتاهم الخبر بأخذه فت في أعضادهم، فتفرقوا إلى بلادهم، وأكثر الشعراء فيه، فمن ذلك قول صديقنا النشو بن نفاذة، رحمه الله: هلاك الفرنج أتى عاجلاً ... وقد آن تكسير صلبانها ولو لم يكن قد دنا حتفها ... لما عمرت بيت أحزانها وقول علي بن محمد الساعاتي الدمشقي: أتسكن أوطان النبيين عصبة ... تمين لدى أيمانها وهي تحلف نصحتكم والنصح للدين واجب ... ذروا بيت يعقوب فقد جاء يوسف ذكر الحرب بين عسكر صلاح الدين وعسكر قلج أرسلانفي هذه السنة كانت الحرب بين عسكر صلاح الدين يوسف بن أيوب ومقدمه ابن أخيه تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب، وبين عسكر الملك قلج أرسلان بن مسعود بن قلج أرسلان، صاحب بلاد قونية، وأقصرا. وسببها أن نور الدين محمود بن زنكي بن آقسنقر، رحمه الله، كان قد أخذ قديماً من قلج أرسلان حصن رعبان، وكان بيد شمس الدين بن المقدم إلى الآن، فطمع فيه قلج أرسلان بسبب أن الملك الصالح بحلب بينه وبين صلاح الدين، فأرسل إليه من يحصره، فاجتمع عليه جمع كثير، يقال: كانوا عشرين ألفاً، فأرسل إليهم صلاح الدين تقي الدين في ألف فارس، فواقعهم وقاتلهم وهزمهم، وأصلح حال تلك الولاية، وعاد إلى صلاح الدين، ولم يحضر معه تخريب حصن الأحزان، فكان يفتخر ويقول: هزمت بألف مقاتل عشرين ألفاً. ذكر وفاة المستضئ بأمر الله وخلافة الناصر لدين اللهفي هذه السنة، في ثاني ذي القعدة، توفي الإمام المستضيء بأمر الله أمير المؤمنين أبو محمد الحسن بن يوسف المستنجد، رضي الله عنه، وأمه أم ولد أرمنية تدعى غضة؛ وكانت خلافته نحو تسع سنين وسبعة أشهر؛ وكان مولده سنة ست وثلاثين وخمسمائة، وكان عادلاً حسن السيرة في الرعية، كثير البذل للأموال، غير مبالغ في ما جرت العادة في أخذه؛ وكان الناس معه في أمن عام وإحسان شامل، وطمأنينة وسكون،لم يروا مثله، وكان حليماً قليل المعاقبة على الذنوب، محباً للعفو والصفح عن المذنبين، فعاش حميداً، ومات سعيداً، رضي الله عنه، فكانت أيامه كما قيل: كأن أيامه من حسن سيرته ... مواسم الحج والأعياد والجمع ووزر له عضد الدين أبو الفرج بن رئيس الرؤساء إلى أن قتل في ذي القعدة سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة، ولما قتل حكم في الدولة ظهير الدين أبو بكر منصور بن نصر المعروف بابن العطار، وكان خيراً، حسن السيرة، كثير العطاء، وتمكن تمكناً كثيراً، فلما مات المستضيء شرع ظهير الدين ابن العطار في اخذ البيعة لولده الناصر لدين الله، أمير المؤمنين، فلما تمت البيعة صار الحاكم في الدولة أستاذ الدار مجد الدين أبو الفضل بن الصاحب.
وفي سابع ذي القعدة، قبض على ابن العطار ظهير الدين، ووكل عليه في داره، ثم نقل إلى التاج، وقيد ووكل به، وطلبت ودائعه وأمواله، وفي ليلة الأربعاء ثامن عشر ذي القعدة اخرج ميتاً على رأس حمال سراً، فغمز به بعض الناس، فثار به العامة، فألقوه على رأس الحمال، وكشفوا سوءته، وشدوا في ذكره حبلاً وسحبوه في البلد، وكانوا يضعون بيده مغرفة يعني أنها قلم وقد غمسوها في العذرة ويقولون: وقع لنا يا مولانا، إلى غير هذا من الأفعال الشنيعة، ثم خلص من أيديهم ودفن، هذا فعلهم به مع حسن سيرته فيهم وكفه عن أموالهم وأعراضهم؛ وسيرت الرسل إلى الآفاق لأخذ البيعة، فسير صدر الدين شيخ الشيوخ إلى البهلوان، صاحب همذان وأصفهان والري وغيرها، فامتنع من البيعة، فراجعه صدر الدين، واغلظ له في القول، حتى أنه قال لعسكره في حضرته: ليس لهذا عليكم طاعة ما لم يبايع أمير المؤمنين، بل يجب عليكم أن تخلعوه من الأمارة، وتقاتلوه، فاضطر إلى المبايعة والخطبة، وأرسل إلى رضي الدين القزويني مدرس النظامية إلى الموصل لأخذ البيعة، فبايع صاحبها، وخطب للخليفة الناصر لدين الله أمير المؤمنين. ذكر عدة حوادثفي هذه السنة هبت ريح سوداء مظلمة بالديار الجزرية والعراق وغيرها، وعمت اكثر البلاد من الظهر إلى أن مضى من الليل ربعه، وبقيت الدنيا مظلمة لا يبصر الإنسان صاحبه، وكنت حينئذ بالموصل، فصلينا الظهر والعصر والمغرب والعشاء الآخرة على الظن والتخمين، وأقبل الناس على التوبة والتضرع والاستغفار، وظنوا ان القيامة قد قامت، فلما مضى مقدار ربع الليل زال ذاك الظلام والعتمة التي غطت السماء، فنظرنا فرأينا النجوم، فعلمنا مقدار ما مضى من الليل، لأن الظلام لم يزدد بدخول الليل، وكان كل من يصل من جهة من الجهات يخبر بمثل ذلك. وفيها في ذي القعدة، نزل شمس الدولة أخو صلاح الدين عن بعلبك، وطلب عوضاً عنها الإسكندرية، فأجابه صلاح الدين إلى ذلك واقطع بعلبك لعز الدين فرخشاه ابن أخيه، فسار إليها، وجمع أصحابه، وأغار على بلاد الفرنج، حتى وصل إلى قلعة صفد، وهي مطلة على طبرية، فسبى وأسر وغنم وخرب وفعل بالفرنج أفاعيل عظيمة. وأما شمس الدولة فإنه سار إلى مصر وأقام بالإسكندرية، وإذا أراد الله أن يقبض رجلاً بأرض جعل له إليها حاجة، فإنه أقام بها إلى أن مات بها. وفيها قارب الجامع الذي بناه مجاهد الدين قايماز بظاهر الموصل منجهة باب الجسر الفراغ، وأقيمت فيه الصلوات الخمس والجمعة، وهو من احسن الجوامع. وفيها توفي أحمد بن عبد الرحمن الصوفي شيخ رباط الزوزني، وسمع الحديث وكان يصوم الدهر؛ وعبد الحق بن عبد الخالق بن يسف، سمع الحديث ورواه، وهو من بيت الحديث؛ والقاضي عمر بن علي بن الخضر أبو الحسن الدمشقي، سمع الحديث ورواه وولي قضاء الحريم؛ وعلي بن أحمد الزيدي، سمع الحديث الكثير، وله وقف كتب كثيرة ببغداد، وكان زاهداً، خيراً، صالحاً؛ ومحمد بن علي بن حمزة أبو علي الأقساسي نقيب العلويين بالكوفة، وكان ينشد كثيراً: رب قوم في خلائقهم ... عرر قد صيروا غرراً ستر المال القبيح لهم ... سترى إن زال ما سترا ومحمد بن محمد بن عبد الكريم المعروف بابن سديد الدولة الأنباري، كاتب الإنشاء بعد أبيه؛ وأبو الفتوح بصر بن عبد الرحمن الدامغاني الفقيه، كان مناظراً حسن المناظرة، كثير العبادة، ودفن عند قبر أبي حنيفة. ثم دخلت سنة ست وسبعين وخمسمائة ذكر وفاة سيف الدين صاحب الموصل وولاية أخيه عز الدين بعده في هذه السنة، ثالث صفر، توفي سيف الدين غازي بن مودود بن زنكي، صاحب الموصل وديار الجزيرة، وكان مرضه السل، وطال به، ثم أدركه في آخره سرسام، ومات.
ومن عجيب ما يحكى ان الناس خرجوا سنة خمس وسبعين يستسقون لانقطاع الغيث وشدة الغلاء، وخرج سيف الدين في موكبه، فثار به الناس وقصدوه بالاستغاثة، وطلبوا منه ان يأمر بالمنع من بيع الخمر، فأجابهم إلى ذلك، فدخلوا البلد وقصدوا مساكن الخمارين، وخربوا أبوابها، ودخلوها، ونهبوها، وأراقوا ما بها من خمور، وكسروا الظروف، وعملوا ما لا يحل، فاستغاث أصحاب الدور إلى نواب السلطان ، وخصوا بالشكوى رجلاً من الصالحين يقال له أبو الفرج الدقاق، ولم يكن له يد في الذي فعله العامة من النهب، وما لا يجوز فعله، إنما هو أراق الخمور، ونهى العامة على الذي يفعلونه، فلم يسمعوا منه، فلما شكى الخمارون منه أحضر بالقلعة، وضرب على رأسه، فسقطت عمامته، فلما أطلق لينزل من القلعة نزل مكشوف الرأس، فأرادوا تغطيته بعمامته، فلم يفعل، وقال: والله لا غطيت رأسي حتى ينتقم الله لي ممن ظلمني! فلم يمض غير أيام حتى توفي الدزدار الذي تولى أذاه، ثم بعقبه موت سيف الدين، واستمر بها إلى أن مات، وعمره حينئذ نحو ثلاثين سنة. وكانت ولايته عشر سنين وثلاثة أشهر، وكان حسن الصورة، مليح الشباب، تام القامة، ابيض اللون، وكان عاقلاً وقوراً، قليل الالتفات إذا ركب وإذا جلس، عفيفاً لم يذكر عنه ما ينافي العفة. وكان غيوراً شديد الغيرة لا يدخل دوره غير الخدم الصغار، فإذا كب أحدهم منعه، وكان لا يحب سفك الدماء، ولا أخذ الأموال على شح فيه وجبن. ولما اشتد مرضه أراد ان يعهد بالملك لابنه معز الدين سنجر شاه، وكان عمره حينئذ اثنتي عشر سنة، فخاف على الدولة من ذلك لأن صلاح الدين يوسف بن أيوب كان قد تمكن بالشام، وقوي أمره، وامتنع أخوه عز الدين مسعود بن مودود من الإذعان لذلك، والإجابة إليه، فأشار الأمراء الأكابر ومجاهد الدين قايماز بأن يجعل الملك بعده في عز الدين أخيه، لما هو عليه من الكبر في السن والشجاعة والعقل وقوة النفس، وأن يعطي ابنيه بعض البلاد، ويكون مرجعهما إلى هز الدين عمهما والمتولي لأمرهما مجاهد الدين قايماز، ففعل ذلك، وجعل الملك في أخيه، وأعطى جزيرة ابن عمر وقلاعها لولده سنجر شاه، وقلعة عقر الحميدية لولده الصغير ناصر الدين كسك.فلما توفي سيف الدين ملك بعده الموصل والبلاد أخوه عز الدين، وكان المدبر للدولة مجاهد الدين، وهو الحاكم في الجميع، واستقرت الأمور ولم يختلف اثنان. ذكر مسير صلاح الدين لحرب قلج أرسلانفي هذه السنة سار صلاح الدين يوسف بن أيوب من الشام إلى بلاد قلج أرسلان بن مسعود بن قلج أرسلان، وهي ملطية وسيواس وما بينهما، وقونية، ليحاربه.وسبب ذلك أن نور الدين محمد بن قرا أرسلان بن داود، صاحب حصن كيفا وغيره من ديار بكر، كان قد تزوج ابنة قلج أرسلان المذكور، وبقيت عنده مدة، ثم إنه أحب مغنية، فتزوجها، ومال إليها، وحكمت في بلاده وخزائنه، واعرض عن ابنة قلج أرسلان، وتركها نسياً منسياً، فبلغ أباها الخبر، فعزم على قصد نور الدين واخذ بلاده، فأرسل نور الدين إلى صلاح الدين يستجير به ويسأله كف يد قلج ارسلان عنه، فأرسل صلاح الدين إلى قلج أرسلان في المعنى، فأعاد الجواب: إنني كنت قد سلمت إلى نور الدين عدة حصون مجاورة بلاده لما تزوج ابنتي، فحيث آل الأمر معه إلى ما تعلمهن فأنا أريد أن يعيد إلي ما أخذه مني.
وترددت الرسل بينهما، فلم يستقر حال فيها، فهادن صلاح الدين الفرنج، وسار في عساكره، وكان الملك الصالح إسماعيل بن نور الدين محمود صاحب حلب فيها، فتركها ذات اليسار، وسار على تل باشر إلى رعبان، فأتاه بها نور الدين محمد وأقام عنده، فلما سمع قلج أرسلان بقربه منه أرسل إليه أكبر أمير عنده، ويقول له: إن هذا الرجل فعل مع ابنتي كذا، ولا بد من قصد بلاده، وتعريفه محل نفسه، فلما وصل الرسول، واجتمع بصلاح الدين، وأدى الرسالة،امتعض صلاح الدين لذلك واغتاظ، وقال للرسول: قل لصاحبك والله الذي لا غله إلا هو لئن لم يرجع لأسيرن إلى ملطية وبيني وبينها يومان، ولا أنزل عن فرسي إلا في البلد، ثم أقصد جميع بلاده وآخذها منه.فرأى الرسول أمراً شديداً، فقام من عنده، وكان قد رأى العسكر وما هو عليه من القوة والتجمل، وكثرة السلاح والدواب وغير ذلك، وليس عنده ما يقاربه، فعلم أنه إن قصدهم أخذ بلادهم، فأرسل إليه من الغد يطلب أن يجتمع به، فأحضره فقال له: أريد أن أقول شيئاً من عندي ليس رسالة من عند صاحبي، واحب ان تنصفني. فقال له: قل!! قال: يا مولانا ما هو قبيح بمثلك، وأنت من اعظم السلاطين وأكبرهم شأناً، أن تسمع الناس عنك انك صالحت الفرنج، وتركت الغزو ومصالح المملكة، وأعرضت عن كل ما فيه صلاح لك ولرعيتك وللمسلمين عامة، وجمعت العساكر من أطراف البلاد البعيدة والقريبة، وسرت وخسرت أنت وعساكرك الأموال الكثيرة من أجل قحبة مغنية؟ ما يكون عذرك عند الله تعالى، ثم عند الخليفة وملوك الإسلام والعالم كافة؟ واحسب ان أحداً ما يواجهك بهذا، أما يعلمون أن الأمر هكذا؟ ثم احسب أن قلج ارسلان مات، وهذه ابنته أرسلتني إليك تستجير بك، وتسألك أن تنصفها من زوجها، فإن فعلت، فهو الظن بك أن لا تردها. فقال: والله الحق بيدك، وإن الأمر لكما تقولن ولكن هذا الرجل دخل علي وتمسك بي ويقبح بي تركه، لكنك أنت اجتمع به، واصلح الحال بينكم على ما تحبون، وأنا أعينكم عليه وأقبح فعله عنده؛ ووعد من نفسه بكل جميل، فاجتمع الرسول بصاحب الحصن، وتردد القول بينهم، فاستقر أن صاحب الحصن يخرج المغنية من عنده بعد سنة، وإن كان لا يفعل ينزل صلاح الدين عن نصرته، ويكون هو وقلج أرسلان عليه، واصطلحوا على ذلك، وعاد صلاح الدين عنه إلى الشام، وعاد نور الدين إلى بلاده ، فلما انقضت المدة أخرج نور الدين المغنية عنه، فتوجهت إلى بغداد، وأقامت بها إلى أن ماتت. ذكر قصد صلاح الدين بلد ابن ليونوفيها قصد صلاح الدين بلد ابن ليون الأرمني بعد فراغه من أمر قلج أرسلان، وسبب ذلك أن أبن ليون الأرمني قد استمال قوماً من التركمان وبذل لهم الأمان، فأمرهم أن يرعوا مواشيهم في بلاده، وهي بلاد حصينة كلها حصون منيعة، والدخول إليها صعب، لأنها مضائق وجبال وعرة، ثم غدر بهم وسبى حريمهم، واخذ أموالهم، وأسر رجالهم بعد أن قتل منهم من حان أجله. ونزل صلاح الدين على النهر الأسود، وبث الغارات على بلاده، فخاف ابن ليون على حصن له على رأس جبلن أن يؤخذ فخربه وأحرقه، ، فسمع صلاح الدين بذلك، فأسرع السير إليه، فأدركه قبل أن ينقل ما فيه من ذخائر وأقوات، فغنمها، وانتفع المسلمون بما غنموه، فأرسل ابن ليون يبذل إطلاق ما عنده من الأسرى والسبي وإعادة أموالهم على أن يعودوا عن بلاده، فأجابه صلاح الدين إلى ذلك واستقر الحال، وأطلق الأسرى وأعيدت أموالهم، وعاد صلاح الدين عنه في جمادى الآخرة. ملك يوسف بن عبد المؤمن مدينة قفصة ذكر ملك يوسف بن عبد المؤمن مدينة قفصة بعد خلاف صاحبها عليه في هذه السن ة سار أبو يعقوب يوسف بن عبد المؤمن إلى إفريقية،وملك قفصة.
وكان سبب ذلك أن صاحبها ابن عبد المعز بن المعتز لما رأى دخول الترك إلى إفريقية واستيلائهم على بعضها، وانقياد العرب إليهم، طمع أيضاً في الاستبداد والانفراد عن يوسف وكان في طاعته، فأظهر ما في نفسه وخالفه وأظهر العصيان، ووافقه أهل قفصة، فقتلوا كل من كان عندهم من الموحدين أصحاب أبي يعقوب، وكان ذلك في شوال سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة، فأرسل والي بجاية إلى يوسف بن عبد المؤمن يخبره باضطراب أمور البلاد، واجتماع كثير من العرب إلى قراقوش التركي الذي دخل إلى إفريقية وقد تقدم ذكر ذلك وما جرى في قفصة من قتل الموحدين ومساعدة أهل قفصة صاحبهم على ذلك، فشرع في سد الثغور التي يخافها بعد مسيره، فلما فرغ من جميع ذلك جهز العسكر وسار نحو إفريقية سنة خمس وسبعين، ونزل على مدينة قفصة وحصرها ثلاثة أشهرن وهي بلدة حصينة، وأهلها أنجاد، وقطع شجرها. فلما اشتد الأمر على صاحبها وأهلهان خرج منها مستخفياً لم يعرف به أحد من أهل قفصة ولا من عسكره، وسار إلى خيمة يوسف، وعرف حاجبه انه قد حضر إلى أمير المؤمنين يوسف، فدخل الحاجب واعلم يوسف بوصول صاحب قفصة إلى باب خيمته، فعجب منه كيف أقدم على الحضور عنده بغير عهد، وأمر بإدخاله عليه، فدخل وقبل يده، وقال: قد حضرت أطلب عفو أمير المؤمنين عني وعن أهل بلدي، وان يفعل ما هو أهله؛ واعتذر، فرق له يوسف فعفا عنه وعن أهل البلد، وتسلم المدينة أول سنة ست وسبعين وسير على بن المعز صاحبها إلى بلاد المغرب، فكان فيه مكرماً عزيزاً، وأقطعه ولاية كبيرة؛ ورتب يوسف لقفصة طائفة من أصحابه الموحدين، وحضر مسعود بن زمام أمير العرب عند يوسف أيضاً، فعفا عنه وسيره إلى مراكش، وسار يوسف إلى المهدية، فاتاه بها رسول ملك الفرنج، صاحب صقلية، يلتمس الصلح منه، فهادنه عشر سنين، وكانت بلاد إفريقية مجدبة فتعذر على العسكر القوت وعلف الدواب، فسار إلى المغرب مسرعاً، والله أعلم. ذكر عدة حوادثفي هذه السنة توفي شمس الدولة تورانشاه بن أيوب، أخو صلاح الدين الأكبر، بالإسكندرية، وكان قد أخذها من أخيه إقطاعاً، فأقام بها فتوفي، وكان له أكثر بلاد اليمن، ونوابه هناك يحملون له الأموال من زبيد وعدن، وكل ما بينهما من البلاد والمعاقل، وكان أجود الناس وأسخاهم كفاً، يخرج كل ما يحمل إليه من أموال اليمن، ودخل الإسكندرية، وحكمه في بلاد أخيه صلاح الدين وأمواله نافذ، ومع هذا، فلما مات كان عليه نحم مائتي ألف دينار مصرية ديناً، فوفاها أخوه صلاح الدين عنه لما دخل إلى مصر، فإنه لما بلغه خبر وفاته سار إلى مصر في شعبان من السنة،واستخلف بالشام عز الدين فرخشاه ابن أخيه شاهتشاه، وكان عاقلاً حازماً شجاعاً. وفيها توفي الحافظ أبو طاهر أحمد بن محمد بن سلفة الأصفهاني بالإسكندرية، وكان حافظ الحديث وعالماً به سافر في طلب الكثير. وتوفي أيضاً في المحرم علي بن عبد الرحيم المعروف بابن العصار اللغوي ببغداد، وسمع الحديث وكان من أصحاب ابن الجواليقي. ثم دخلت سنة سبع وسبعين وخمسمائة ذكر غزاة إلى بلد الكرك من الشام في هذه السنة سار فرخشاه نائب صلاح الدين بدمشق إلى أعمال الكرك ونهبها. وسبب ذلك أن البرنسن صاحب الكر، كان من شياطين الفرنج ومردتهم، وأشدهم عداوة للمسلمين، فتجهز ، وجمع عسكره ومن أمكنه الجمع، وعزم على المسير في البر إلى تيماء، ومنها إلى مدينة النبي صلى الله عليه وسلم، للاستيلاء على تلك النواحي الشريفة، فسمع عز الدين فرخشاه ذلك، فجمع العساكر الدمشقية وسار إلى بلده ونهبه وخربه، وعاد إلى طرف بلادهم، وأقام ليمنع البرنس من بلاد الإسلام، فامتنع بسببه عن مقصده، فلما طال مقام كل واحد منهم في مقابلة الآخر علم البرنس أن المسلمين لا يعودون حتى يفرق جمعه، ففرقهم وانقطع طمعه من الحركة، فعاد فرخشاه إلى دمشق، وكفى الله المؤمنين شر الكفار. ذكر تلبيس ينبغي أن يحتاط من مثله
كان سيف الدولة مبارك بن كامل بن منقذ الكناني ينوب عن شمس الدولة أخي صلاح الدين باليمن وتحكم في الأموال والبلاد بعد أن فارقها شمس الدولة،كما ذكرنا، وكان هواه بالشام لأنه وطنه، فأرسل إلى شمس الدولة يطلب الإذن له المجيء إليه، فأذن له في المجيء، فاستناب بزبيد أخاه حطان ابن كامل بن منقذ الكناني، وعاد إلى شمس الدولة، وكان معه بمصر. فمات شمس الدولة، وبقي مع صلاح الدين فقيل عنه: إنه أخذ أموال اليمن وادخرها، وسعى به أعداؤه، فلم يعارضه صلاح الدين. فلما كان هذه السنة وصلاح الدين بمصر اصطنع سيف الدولة طعاماً وعمل دعوة كبيرة، ودعا إليها أعيان الدولة الصلاحية بقرية تسمى العدوية. وأرسل أصحابه يتجهزون من البلد، ويشترون ما يحتاجون إليه من الأطعمة وغيرها، فقيل لصلاح الدين أن ابن منقذ يريد الهرب، وأصحابه يتزودون له، ومتى دخل اليمن أخرجه عن طاعتك؛ فأرسل صلاح الدين فأخذه والناس عنده وحبسه، فلما سمع صلاح الدين جلية الحال علم أن الحيلة تمت لأعدائه في قبضه، فخفف ما كان عنده عليه، وسهل أمره وصانعه على ثمانين ألف دينار مصرية، سوى ما لحقها من الحمل لأخوة صلاح الدين وأصحابه وأطلقه وأعاده إلى منزلته، وكان أديباً شاعراً. ذكر إرسال صلاح الدين العساكر إلى اليمنفي هذه السنة سير صلاح الدين جماعة من أمرائه منهم صارم الدين قتلغ أبه، والي مصر، إلى اليمن، للاختلاف الواقع بها بين نواب أخيه شمس الدولة، وهم عز الدين عثمان بن الزنجيلي، والي عدن، وحطان بن منقذ والي زبيد وغيرهما، فإنهم لما بلغهم وفاة صاحبهم اختلفوا وجرت بين عز الدين عثمان وبين حطان حرب، وكل واحد منهما يروم أن يغلب الآخر على ما بيده، واشتد الأمر، فخاف صلاح الدين أن يطمع أهل البلاد فيها بسبب الاختلاف بين أصحابه وأن يخرجوهم من البلاد، فأرسل هؤلاء الأمراء إليها. واستولى قتلغ أبه على زيبد وأزال حطان عنها. ثم مات قتلغ أبه، فعاد حطان إلى إمارة زبيد، وأطاعه الناس لجوده وشجاعته. ذكر وفاة الملك الصالح وملك ابن عمه عز الدين مسعود مدينة حلب في هذه السنة، في رجب، توفي الملك الصالح إسماعيل بن نور الدين محمود صاحب حلب بها، وعمره نحو تسع عشرة سنة، ولما اشتد مرضه وصف له الأطباء شرب الخمر للتداوي، فقال: لا أفعل حتى أستفتي الفقهاء؛ فاستفتى، فأفتاه فقيه من مدرسي الحنفية بجواز ذلك، فقال له: أرأيت إن قدر الله تعالى بقرب الأجل أيؤخره شرب الخمر؟ فقال له الفقيه: لا فقال: والله لا لقيت الله سبحانه وقد استعملت ما حرمه علي؛ ولم يشربها. فلما أيس من نفسه، أحضر الأمراء، وسائر الأجناد، ووصاهم بتسليم البلد إلى ابن عمه عز الدين مسعود بن مودود بن زنكي، واستحلفهم على ذلك، فقال له بعضهم: إن عماد الدين ابن عمك أيضاً، وهو زوج أختك، وكان والدك يحبه ويؤثره، وهو تولى تربيته، وليس له غير سنجار، فلو أعطيته البلد لكان أصلحن وعز الدين له من البلاد من نهر الفرات إلى همذان، ولا حاجة به إلى بلدك، فقال له: إن هذا لم يغب عني، ولكن قد علمتم أن صلاح الدين قد تغلب على عامة بلاد الشام سوى ما بيدي، ومتى سلمت حلب إلى عماد الدين يعجز عن حفظها وإن ملكها صلاح الدين لم يبق لأهانا معه مقام، وإن سلمتها إلى عز الدين أمكنه حفظها بكثرة عساكره وبلاده. فاستحسنوا قوله وعجبوا من جودة فطنته مع شدة مرضه وصغر سنه. ثم مات، وكان حليماً كريماً عفيف اليد والفرج واللسان، ملازماً للدين، لا يعرف له شيء مما يتعاطاه الملوك والشباب من شرب خمر أو غيره، حسن السيرة في رعيته عادلاً فيهم.
ولما قضى نحبه أرسل الأمراء إلى أتابك عز الدين يستدعونه إلى حلب، فسار هو ومجاهد الدين قايماز إلى الفرات، وأرسل فأحضر الأمراء عنده من حلب،فحضروا، وساروا جميعاً إلى حلب، ودخلها في العشرين من شعبان، وكان صلاح الدين حينئذ بمصر، ولولا ذلك لزاحمهم عليها وقاتلهم، فلما اجتاز طريقه إلى الفرات كان تقي الدين عمر ابن أخي صلاح الدين بمدينة منبج، فسار عنها هارباً إلى حماة، وثار أهل حماة، ونادوا بشعار عز الدين، فأشار عسكر حلب على عز الدين بقصد دمشق، وأطمعوه فيها وفي غيرها من بلاد الشام، وأعلموه محبة أهلها له ولأهل بيته، فلم يفعل، وقال:بيننا يمين فلا نغدر به؛ وأقام بحلب عدة شهور، ثم سار عنها إلى الرقة. ذكر تسليم حلب إلى عماد الدينوأخذ سنجار عوضاً عنها لما وصل عز الدين إلى الرقة جاءته رسل أخيه عماد الدين، صاحب سنجار، يطلب أن يسلم إليه حلب ويأخذ عنها مدينة سنجار، فلم يجبه إلى ذلك، ولج عماد الدين، وقال: إن سلمتم إلي حلب، وإلا سلمت أنا سنجار إلى صلاح الدين ، فأشار حينئذ جماعة من الأمراء بتسليمها إليه، وكان أشدهم في ذلك مجاهد الدين قايماز، فلم يمكن عز الدين مخالفته لتمكنه في الدولة، وكثرة عساكره وبلاده، وإنما حمل مجاهد الدين على ذلك خوفه من عز الدين، لأنه عظم في نفسه، وكثر معه العسكر. وكان الأمراء الحلبيون لا يلتفتون إلى مجاهد الدين، ولا يسلكون معه من الأدب ما يفعله عساكر الموصل، فاستقر الأمر على تسليم حلب إلى عماد الدين واخذ سنجار بدلاً عنها، فسار عماد الدين فتسلمها، وسلم سنجار إلى أخيه، وعاد إلى الموصل. وكان صلاح الدين بحلب قد وصله خبر ملك عز الدين حلب، فعظم عليه الأمر، وخاف أن يسير منها إلى دمشق وغيرها، ويملك الجميع، وأيس من حلب، فلما بلغه خبر ملك عماد الدين لها برز من يومه وسار إلى الشام، وكان من الوهن على دولة عز الدين ما نذكره إن شاء الله. ذكر حصر صاحب ماردين قلعة البيرة ومصير صاحبها مع صلاح الدينكانت قلعة البيرة، وهي مطلة على الفرات من أرض الجزيرة، لشهاب الدين الآرتقي، وهو أبن عم قطب الدين إيلغازي بن ألبي بن تورتاش بن إيلغازي بن ارتق صاحب ماردين، وكان في طاعة نور الدين محمود بن زنكي، صاحب الشام، فمات شهاب الدين وملك القلعة بعده ولده وصار في طاعة عز الدين مسعود صاحب الموصل. فلما كان هذه السنة أرسل صاحب ماردين إلى عز الدين يطلب منه أن يأذن له في حصر البيرة وأخذها، فأذن له في ذلك، فسار في عسكره إلى قلعة سميساط، وهي له، ونزل بها وسير العسكر إلى البيرة، فحصرها، فلم يظفر منها بطائل، إلا أنهم لازموا الحصار، فأرسل صاحبها إلى صلاح الدين وقد خرج من ديار مصر، على ما نذكره، يطلب منه أن ينجده ويرحل العسكر المارديني عنه، ويكون هو في خدمته، كما كان أبوه في خدمة نور الدين، فأجابه إلى ذلك، وأرسل رسولاً إلى صاحب ماردين يشفع فيه، ويطلب أن يرحل عسكره عنه، فلم يقبل شفاعته. واشتغل صلاح الدين بما نذكره من الفرنج، فلما رأى صاحب ماردين طول مقام عسكره على البيرة، ولم يبلغوا منها غرضاً، أمرهم بالرحيل عنها، وعاد إلى ماردين، فسار صاحبها إلى صلاح الدين، وكان معه حتى عبر معه الفرات، على ما نذكره إن شاء الله تعالى. ذكر عدة حوادثفي هذه السنة كثرت المنكرات ببغداد، فأقام حاجب الباب جماعة لإراقة الخمور، وأخذ المفسدات، فبينما امرأة منهم في موضع، علمت بمجيء أصحاب حاجب الباب، فاضطجعت،وأظهرت أنها مريضة، وارتفع أنينها، فرأوها على تلك الحال، فتركوها وانصرفوا، فاجتهدت بعدهم أن تقوم، فلم تقدر، وجعلت تصيح: الكرب الكرب، إلى أن ماتت. وهذا من أعجب ما يحكى. وفيها، عاشر ذي الحجة، توفي الأمير همام الدين تتر، صاحب قلعة تكريت بالمزدلفة، كان قد استخلف الأمير عيسى ابن أخي مودود وحج، فتوفي، ودفن بالمعلى مقبرة مكة. وفيها، في شعبان، توفي عبد الرحمن بن محمد بن عبيد الله بن أبي سعيد أبو البركات النحوي المعروف بابن الأنباري ببغداد، وله تصانيف حسنة في النحو، وكان فقيهاً صالحاً. وفيها توفي إبراهيم بن مهران الفقيه الشافعي بجزيرة ابن عمر، وكان فاضلاً كثير الورع. ثم دخلت سنة ثمان وسبعين وخمسمائة ذكر مسير صلاح الدين إلى الشام
وإغارته على الفرنج في هذه السنة، خامس المحرم، سار صلاح الدين عن مصر إلى الشام، ومن عجيب ما يحكى من التطير أنه لما برز من القاهرة أقام بخيمته حتى تجتمع العساكر والناس عنده، وأعيان دولته والعلماء وأرباب الآداب، فمن بين مدع له وسائر معه، وكل منهم يقول شيئاً في الوداع والفراق، وما هم بصدده من السفر، وفي الحاضرين معلم لبعض أولاده، فاخرج رأسه من بين الحاضرين وانشد: تمتع من شميم عرار نجد ... فما بعد العشية من عرار فانقبض صلاح الدين من بعد انبساطه وتطير، وتنكد المجلس على الحاضرين، فلم يعد إليها إلى أن مات بعد طول المدة. ثم سار عن مصر وتبعه من التجار وأهل البلاد، ومن كان قصد مصر من الشام بسبب الغلاء بالشام وغيره، عالم كثير، فلما سار جعل طريقه على أيلة، فسمع أن الفرنج قد جمعوا له ليحاربوه ويصدوه عن المسير، فلما قارب بلادهم سير الضعفاء والأثقال مع أخيه تاج الملوك بوري إلى دمشق، وبقي هو في العساكر المقاتلة لا غير، فشن الغارات بأطراف بلادهم، وأكثر ذلك ببلد الكرك والشوبك، فلم يخرج إليه منهم أحد، ولا أقدم على الدنو منه، ثم سار فأتى دمشق، فوصلها حادي عشر صفر من السنة. ذكر ملك المسلمين شقيفاً من الفرنج في هذه السنة أيضاً، في صفر، فتح المسلمون بالشام شقيفاً من الفرنج، يعرف بحبس جلدك، وهو من أعمال طبرية، مطل على السواد. وسبب فتحه أن الفرنج لما سمعوا بمسير صلاح الدين من مصر إلى الشام جمعوا له، وحشدوا الفارس والراجل، واجتمعوا بالكرك بالقرب من الطريق، لعلهم ينتهزون فرصة، أو يظفرون بنصرة، وربما عاقوا المسلمين عن المسير بأن يقفوا على بعض المضايق، فلما فعلوا ذلك خلت بلادهم من ناحية الشام، فسمع فرخشاه الخبر، فجمع من عنده من عساكر الشام، ثم قصد بلاد الفرنج وأغار عليها، ونهب دبورية وما يجاورها من القرى، واسر الرجال وقتل فيهم واكثر وسبى النساء، وغنم الأموال وفتح منهم الشقيف، وكان على المسلمين منه أذى شديد، ففرح المسلمون بفتحه فرحاً عظيماً، وأرسل إلى صلاح الدين بالبشارة، فلقيه في الطريق، ففت ذلك في عضد الفرنج، وانكسرت شوكتهم. ذكر إرسال سيف الإسلام إلى اليمن وتغلبه عليهفي هذه السنة سير صلاح الدين أخاه سيف الإسلام طغدكين إلى بلاد اليمن وأمره بتملكها وقطع الفتن بها، وفوض إليه أمرها، وكان بها حطان بن منقذ، كما ذكرناه قبل، وكتب عز الدين عثمان الزنجيلي متولي عدن إلى صلاح الدين يعرفه باختلال البلاد، ويشير بإرسال بعض أهله إليها لأن حطان كان قوي عليه، فخافه عثمان، فجهز صلاح الدين أخاه سيف الإسلام وسيره إلى أهل اليمن، فوصل إلى زبيد، فخافه حطان ابن منقذ واستشعر منه، وتحصن في بعض القلاع، فلم يزل به سيف الإسلام يؤمنه ويهدي إليه ويتلطفه حتى نزل إليه، فأحسن صحبته، واعتمد معه ما لم يكن يتوقعه من الإحسان؛ فلم يثق حطان به، وطلب نه دستوراً ليقصد الشام، فامتنع في إجابته إظهاراً للرغبة في كونه عنده، فلم يزل حطان يراجعه حتى أذن له، فأخرج أثقاله، وأمواله، وأهله، وأصحابه وكل ما له، وسير الجميع بين يديه. فلما كان الغد دخل على سيف الإسلام ليودعه، قبض عليه واسترجع جميع ماله فأخذه عن أخره لم يسلم منه قليل ولا كثير، ثم سجنه في بعض القلاع، وكان أخر العهد به، فقيل أنه قتله، وكان في جملة ما اخذ منه الأموال والذهب والعين في سبعين غلافاً زردية مملوءة عيناً. وأما عز الدين عثمان الزنجيلي فإنه لما سمع ما جرى على حطان خاف فسار نحو الشام خائفاً يترقب، وسير معظم أمواله في البحر، فصادفهم مراكب فيها أصحاب سيف الإسلام، فخذوا كل ما لعز الدين، ولم يبق إلا ما صحبه في الطريق، وصفت زبيد وعدن وما معهما من البلاد لسيف الإسلام. ذكر إغارة صلاح الدين على الغور | |
|
 | |
الشيخ عودة الشيخ عودة

عدد المساهمات : 1748 تاريخ التسجيل : 28/09/2008 العمر : 73
 | موضوع: رد: كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير الخميس فبراير 27, 2014 6:40 am | |
| وغيره من بلاد الفرنج
لما وصل صلاح الدين إلى دمشق، كما ذكرناه، أقام أياماً يريح ويستريح هو وجنده، ثم سار إلى بلاد الفرنج في ربيع الأول، فقصد طبرية، فنزل بالقرب منها، وخيم في الأقحوانة من الأردن، وجاءت الفرنج بجموعها فنزلت في طبرية، فسير صلاح الدين ابن أخيه فرخشاه إلى بيسان، فدخلها قهراً ، وغنم ما فيها، وقتل وسبى، وجحف الغور غارة شعواء، فعم أهله قتلاً وأسراً، وجاءت العرب فأغارت على جنين واللجون وتلك الولاية، حتى قاربوا مرج عكا. وسار الفرنج من طبرية، فنزلوا تحت جبل كوكب، فتقدم صلاح الدين إليهم، وأرسل العساكر عليهم يرمونهم بالنشاب، فلم يبرحوا، ولم يتحركوا للقتال، فأمر أبني أخيه تقي الدين عمر وعز الدين فرخشاه، فحملا على الفرنج فيمن معهما، فقاتلوا قتالاً شديداً، ثم إن الفرنج انحازوا على حاميتهم، فنزلوا غفربلا، فلما رأى صلاح الدين ما قد أثخن فيهم وفي بلادهم عاد عنهم إلى دمشق. ذكر حصر بيروتثم إنه سار عن دمشق إلى بيروت، فنهب بلدها، وكان قد أمر الأسطول المصري بالمجيء في البحر إليها، فساروا ونازلوها، وأغاروا عليها وعلى بلدها، وسار صلاح الدين فوافاهم ونهب ما لم يصل الأسطول إليه، وحصرها عدة أيام. وكان عازماً على ملازمتها إلى أن يفتحها، فأتاه الخبر وهو عليها أن البحر قد ألقى بطسة للفرنج فيها جمع عظيم منهم إلى دمياط، وكانوا قد خرجوا لزيارة البيت المقدس، فأسروا من بها إلى أن غرق منهم الكثير فكان عدة الأسرى ألفاً وستمائة وستة وسبعين أسيراً، فضربت بذلك البشائر. ذكر عبور صلاح الدين الفرات وملكه ديار الجزيرة في هذه السنة عبر صلاح الدين الفرات إلى الديار الجزرية وملكها. وسبب ذلك أن مظفر الدين كوكبري بن زين الدين علي بن بكتكين، وهو مقطع حران كان قد أقطعه إياها عز الدين أتابك، المدينة والقلعة، ثقة به واعتماداً عليه، أرسل إلى صلاح الدين هو يحاصر بيروت يعلمه بها أنه معه محب لدولته، ووعده النصرة له إن عبر الفرات، ويطمعه في البلاد ويحثه على الوصول إليها، فسار صلاح الدين عن بيروت، ورسل مظفر الدين تترى إليه يحثه على المجيء، فجد صلاح الدين السير مظهراً أنه يريد حصر حلب ستراً للحال. فلما قارب الفرات سار إليه مظفر الدين فعبر الفرات واجمع به وعاد معه فقصد البيرة، وهي قلعة منيعة على الفرات، من الجانب الجزري، وكان صاحبها قد سار مع صلاح الدين، وفي طاعته، وقد ذكرنا سبب ذلك قبل، فعبر هو وعسكره الفرات على الجسر الذي عند البيرة. وكان عز الدين صاحب الموصل ومجاهد الدين لما بلغهما وصول صلاح الدين إلى الشام قد جمعا العسكر وسارا إلى نصيبين، ليكونا على أهبة واجتماع لئلا يتعرض صلاح الدين إلى حلب، ثم تقدما إلى دارا، فنزلا عندها، فجاءهما أمر لم يكن في الحساب، فلما بلغهما عبور صلاح الدين الفرات، عادا إلى الموصل وأرسلا إلى الرها عسكراً يحميها ويمنعها، فلما سمع صلاح الدين ذلك قوي طمعه في البلاد، ولما عبر صلاح الدين الفرات، كاتب الملوك أصحاب الأطراف ووعدهم، وبذل لهم البذول على نصرته، فأجابه نور الدين محمد بن قراآرسلان، صاحب الحصن، إلى ما طلب منه، لقاعدة كانت قد استقرت بينهما لما كان نور الدين عنده بالشام، فإنه استقر الحال أن صلاح الدين يحصر آمد ويملكها، ويسلمها إليه، وسار صلاح الدين إلى مدينة الرها، فحصرها في جمادى الأولى، وقاتلها أشد قتال. فحدثني بعض من كان بها من الجند انه عد في غلاف رمح أربعة عشر خرقاً وقد خرقته السهام. ووالى الزحف عليها، وكان بها حينئذ مقطعها، وهو الأمير فخر الدين مسعود بن الزعفراني، فحيث رأى شدة القتال أذعن إلى التسليم، وطلب الأمان وسلم البلد، وصار في خدمة صلاح الدين، فلما ملك المدينة زحف إلى القلعة، فسلمها إليه الدزدار الذي بها على مال أخذه، فلما ملكها سلمها إلى مظفر الدين مع حران، ثم سار عنها، على حران، إلى الرقة، فلما وصل إليها كان بها مقطعها قطب الدين ينال بن حسان المنبجي، فسار عنها إلى عز الدين أتابك، وملكها صلاح الدين، وسار إلى الخابور، قرقيسيا، وماكسين وعابان، فملك جميع ذلك.
فلما استولى على الخابور جميعه سار إلى نصيبين، فملك المدينة لوقتها، وبقيت القلعة، فحصرها عدة أيام، فملكها أيضاً، وأقام بها ليصلح شانها، ثم أقطعها أميراً كان معه يقال له أبو الهيجاء السمين، وسار عنه ومعه نور الدين صاحب الحصن. وأتاه الخبر أن الفرنج قصدوا دمشق، ونهبوا القرى، ووصلوا إلى داريا، وأرادوا تخريب جامعها، فأرسل النائب بدمشق إليهم جماعة من النصارى يقولون لهم: إذا خربتم الجامع جددنا عمارته، وخربنا كل بيعة لكم في بلادنا، ولا نمكن أحداً من عمارتها، فتركوه، ولما وصل الخبر إلى صلاح الدين بذلك أشار عليه من يتعصب لعز الدين بالعود، فقال: يخربون قرى ونملك عوضها بلاداً، ونعود نعمرها، ونقوى على قصد بلادهم؛ ولم يرجع، فكان كما قال. ذكر حصر صلاح الدين الموصللما ملك صلاح الدين نصيبين، جمع أمراءه وأرباب المشورة عنده، واستشارهم بأي البلاد يبدأ، وأيها يقصد، بالموصل أم بسنجار أم بجزيرة ابن عمر، فاختلفت آراؤهم، فقال له مظفر الدين كوكبري بن زين الدين: لا ينبغي أن يبدأ بغير الموصل، فإنها في أيدينا لا مانع لها، فإن عز الدين ومجاهد الدين متى سمعا بمسيرنا إليها تركاها وسارا عنها إلى بعض القلاع الجبلية. ووافقه ناصر الدين محمد ابن عمه شيركوه، وكان قد بذل لصلاح الدين مالاً كثيراً ليقطعه الموصل إذا ملكها، وقد أجابه صلاح الدين إلى ذلك، فأشار بهذا الرأي لهواه، فسار صلاح الدين إلى الموصل، وكان عز الدين صاحبها ومجاهد الدين قد جمعا العساكر الكثيرة ما بين فارس وراجل، وأظهرا من السلاح وآلات الحصار ما حارت له الأبصار، وبذلا الأموال الكثيرة، واخرج مجاهد الدين من ماله كثيراً، واصطلى الأمور بنفسه، فأحسن تدبيرها، وشحنوا ما بقي بأيديهم من البلاد، كالجزيرة وسنجار وإربل وغيرها من البلاد، بالرجال والسلاح والأموال. وسار صلاح الدين حتى قارب الموصل وترك عسكره، وانفرد هو ومظفر الدين وابن عمه ناصر الدين بن شيركوه، ومعهما نفر من أعيان دولته، وقربوا من البلد، فلما قربه رآه وحققه، فرأى ما هاله وملأ صدره وصدور أصحابه، فإنه رأى بلداً عظيماً كبيراً، ورأى السور والفصيل ملئا من الرجال، وليس فيه شرافة غلا وعليها رجل يقاتل سوى من عليه من عامة البلد المتفرجين، فلما رأى ذلك علم انه لا يقدر على أخذه، وانه يعود خائباً، فقال لناصر الدين ابن عمه: إذا رجعنا إلى المعسكر فاحمل ما بذلت من المال فنحن معك على القول. فقال ناصر الدين: قد رجعت عما بذلت من المال، فإن هذا البلد لا يرام. فقال له ولمظفر الدين: غررتماني وأطمعتماني في غير مطمع، ولو قصدت غيره قبله لكان أسهل أخذاً بالاسم والهيبة التي حصلت لنا، ومتى نازلناه، وعدنا منه، ينكسر ناموسنا ويفل حدنا وشوكتنا.
ثم رجع إلى معسكره وصبح البلد، وكان نزوله عليه في رجب، فنازله وضايقه، ونزل محاذي باب كندة، وانزل صاحب الحصن بباب الجسر، وانزل أخاه تاج الملوك عند الباب العمادي، وانشب القتال، فلم يظفر، وخرج غليه يوماً بعض العامة، فنالوا منه، ولم يمكن عز الدين ومجاهد الدين أحداً من العسكر أن يخرجوا لقتال بل ألزموا الأسوار؛ ثم عن تقي الدين أشار على عمه صلاح الدين بنصب منجنيق، فقال: مثل هذا البلد لا ينصب عليه منجنيق، ومتى نصبناه أخذوه، ولو خربنا برجاً وبدنة من يقدر على الدخول للبلد وفيه هذا الخلق الكثير؟ فألح تقي الدين وقال: نجربهم به؛ فنصب منجنيقاً، فنصب عليه من البلد تسعة مجانيق، وخرج جماعة من العامة فأخذوه وجرى عنده قتال كثير، فأخذ بعض العامة لألكة من رجليه، فيها المسامير الكثيرة، ورمى بها أميراً يقال له جاولي الأسدي، مقدم الأسدية وكبيرهم، فأصاب صدره، فوجد لذلك ألماً شديداً، وأخذ اللاكة وعاد عن القتال إلى صلاح الدين وقال: قد قاتلنا أهل الموصل بحماقات ما رأينا بعد مثلها؛ وألقى اللاكة، وحلف أنه لا يعود يقاتل عليها أنفة حيث ضرب بهذه.ثم إن صلاح الدين رحل من قرب لبلد، ونزل متأخراً، خوفاً من البيات، فإنه لقربه كان لا يأمن ذلك، وكان سببه أيضاً أن مجاهد الدين اخرج في بعض الليالي جماعة من باب السر الذي للقلعة، ومعهم المشاعل، فكان أحدهم يخرج من الباب وينزل إلى دجلة، مما يلي عين الكبريت، ويطفئ المشعل، فرأى العسكر الناس يخرجون، فلو يشكوا في الكبسة، فحملهم ذلك على الرحيل والتأخر ليتعذر البيات على أهل الموصل. وكان صدر الدين شيخ الشيوخ، رحمه الله، وقد وصل إليه، قبل نزوله على الموصل، ومعه بشير الخادم، وهم من خواص الخليفة الناصر لدين الله، في الصلح، فأقاما معه على الموصل، وترددت الرسل إلى عز الدين ومجاهد الدين في الصلح، فطلب عز الدين إعادة البلاد التي أخذت منهم، فأجاب صلاح الدين إلى ذلك بشرط أن تسلم إليه حلب، فامتنع عز الدين ومجاهد الدين، ثم نزل عن ذلك، وأجاب إلى تسليم البلاد بشرط أن يتركوا إنجاد صاحب حلب عليه، فلم يجيبوه إلى ذلك أيضاً، وقال عز الدين: هو أخي وله العهود والمواثيق ولا يسعني نكثها. ووصلت أيضاً رسل قزل أرسلان صاحب أذربيجان، ورسل شاه أرمن صاحب خلاط، في المعنى، فلم ينتظم أمر ولا تم صلح؛ فلما رأى صلاح الدين أنه لا ينال من الموصل غرضاً، ولا يحصل على غير العناء والتعب، وأن من بسنجار من العساكر الموصلية يقطعون طريق من يقصدونه من عساكره وأصحابه، سار من الموصل إليها. ذكر ملكه مدينة سنجارلما سار صلاح الدين عن الموصل إلى سنجار، سير مجاهد الدين إليها عسكراً قوة لها ونجدة، فسمع بهم صلاح الدين، فمنعهم من الوصول إليها، وأوقع بهم، وأخذ سلاحهم ودوابهم وسار إليها ونازلها، وكان بها شرف الدين أمير أميران هندوا أخو عز الدين، صاحب الموصل، في عسكر معه، فحصر البلد وضايقه، وألح في قتاله، فكاتبه بعض أمراء الأكراد الذين به من الزرزارية، وخامر معه، وأشار بقصده من الناحية التي هو بها ليسلم إليه البلد، فطرقه صلاح الدين ليلاً، فسلم إليه ناحيته، فملك الباشورة لا غير. فلما سمع شرف الدين الخبر استكان وخضع، و طلب الأمان، فأمن، ولو قاتل على تلك الناحية لأخرج العسكر الصلاحي عنها، ولو امتنع بالقلعة لحفظها ومنعها، ولكنه عجز، فلما طلب الأمان أجابه صلاح الدين إليه، فأمنه وملك البلد. وسار شرف الدين ومن معه إلى الموصل، واستقر جميع ما ملكه صلاح الدين بملك سنجار، فإنه كان قصد أن يسترده المواصلة إذا فارقه، لأنه لم يكن فيه حصن غير الرُّها، فلما ملك سنجار صارت على الجميع كالسور، واستناب بها سعد الدين بن معين الدين أنز، وكان من أكابر الأمراء وأحسنهم صورة ومعنى. ؟ ذكر عود صلاح الدين إلى حران لما ملك صلاح الدين سنجار وقرر قواعدها سار إلى الصين، فلقيه أهلها شاكين من أبي الهيجاء السمين، باكين من ظلمه، متأسفين على دولة عز الدين وعدله فيهم، فلما سمع ذلك أنكر على أبي الهيجاء ظلمه، وعزله عنهم، وأخذه معه، وسار إلى حران، وفرق عساكره ليستريحوا، وبقي جريدة في خواصه وثقات أصحابه، وكان وصوله إليها أوائل ذي القعدة من السنة. ذكر اجتماع عز الدين وشاه أرمن
في هذه السنة، في ذي الحجة، اجتمع أتابك عز الدين، صاحب الموصل، وشاه أرمن صاحب خلاط، على قتال صلاح الدين. وسبب ذلك أن رسل عز الدين ترددت إلى شاه أرمن يستنجده ويستنصره على صلاح الدين، فأرسل شاه أرمن إلى صلاح الدين عدة رسل في الشفاعة إليه بالكف عن الموصل وما يتعلق بعز الدين، فلم يجبه إلى ذلك، وغالطه، فأرسل إليه أخيراً مملوكه سيف الدين بكتمر الذي ملك خلاط بعد شاه أرمن، فأتاه وهو يحاصر سنجار يطلب إليه أن يتركها ويرحل عنها، وقال له: إن رحل عنها وإلا فتهدده بقصده ومحاربته؛ فأبلغه بكتمر الشفاعة، فسوّفه في الجواب رجاء أن يفتحها، فلما رأى بكتمر ذلك أبلغه الرسالة الثانية بالتهديد، وفارقه غضبان، ولم يقبل منه خلعة ولا صلة، وأخبر صاحبه الخبر، وخوفه عاقبة الإهمال والتواني عن صلاح الدين، فسار شاه أرمن من خلاط، وكان مخيماً بظاهرها، وسار إلى ماردين، وصاحبها حينئذ قطب الدين بن نجم الدين ألبي، وهو ابن أخت شاه أرمن، وابن خال عز الدين وحموه، لأن عز الدين كان قد زوج ابنته قطب الدين، وحضر مع شاه أرمن دولة شاه صاحب بدليس وأرزن، وسار أتابك عز الدين من الموصل في عسكره جريدة من الأثقال. وكان صلاح الدين قد ملك سنجار، وسار عنها إلى حران، وفرق عساكره، فلما سمع باجتماعهم سير إلى تقي الدين ابن أخيه، وهو بحماة، يستدعيه، فوصل إليه مسرعاً، وأشار عليه بالرحيل وحذره منه آخرون وكان هوى صلاح الدين في الرحيل، فرحل إلى راس عين، فلما سمعوا برحيله تفرقوا، فعاد شاه أرمن إلا خلاط، واعتذر بأنني أجمع العساكر وأعود، ورجع عز الدين إلى الموصل، وأقام قطب الدين بماردين، وسار صلاح الدين فنزل بحرزم تحت ماردين عدة أيام. ذكر الظفر بالفرنج في بحر عيذابفي هذه السنة عمل البرنس صاحب الكرك أسطولاً، وفرغ منه بالكرك، ولم يبق إلا جمع قطعه بعضها إلى بعض، وحملها إلى بحر أيله، وجمعها في أسرع وقت. وفرغ منها وشحنها بالمقاتلة وسيرها، فساروا في البحر، وافترقوا فرقتين: فرقة أقامت على حصن أيلة وهو للمسلمين يحصرونه، ويمنع أهله من ورود الماء، فنال أهله شدة شديدة وضيق عظيم؛ وأما الفرقة الثانية فإنهم ساروا نحو عيذاب، وأفسدوا في السواحل، ونهبوا، وأخذوا ما وجدوا من المراكب الإسلامية ومن فيها من التجار، وبتغوا الناس في بلادهم على حين غفلة منهم، فإنهم لم يعهدوا بهذا البحر فرنجياً قط لا تاجراً ولا محارباً. وكان بمصر الملك العادل أبو بكر بن أيوب ينوب عن أخيه صلاح الدين، فعمر أسطولاً وسيره، وفيه جمع كثير من المسلمين، ومقدمهم حسام الدين لؤلؤ، وهو متولي الأسطول بديار مصر، وكان مظفراً فيه، شجاعاً، كريماً، فسار لؤلؤ مجداً في طلبهم، فأبتدأ بالذين على أيلة فانقض عليهم انقضاض العقاب على صيدها، فقاتلهم، فقتل بعضهم، وأسر الباقي؛ وسار من وقته بعد الظفر يقص أثر الذين قصدوا عيذاب، فلم يرهم، وكانوا قد أغاروا على ما وجدوه بها، وقتلوا من لقوه عندها، وساروا إلى غير ذلك المرسى ليفعلوا كما فعلوا فيه؛ وكانوا عازمين على الدخول إلى الحجاز مكة والمدينة، حرسهما الله تعالى، وأخذ الحاج ومنعهم عن البيت الحرام، والدخول بعد ذلك إلى اليمن. فلما وصل لؤلؤ إلى عيذاب ولم يرهم سار يقفو أثرهم، فبلغ رابغ وساحل الجوزاء وغيرهما، فأدركهم بساحل الجوزاء، فأوقع بهم هناك، فلما رأوا العطب وشاهدوا الهلاك خرجوا إلى البر، واعتصموا ببعض تلك الشعاب، فنزل لؤلؤ من مراكبه إليهم، وقاتلهم أشد قتال، وأخذ خيلاً من الأعراب الذين هناك، فركبها، وقاتلهم فساناً ورجالة، فظفر بهم وقتل أكثرهم، وأخذ الباقين أسرى، وأرسل بعضهم إلى منى لينحروا بها عقوبة لمن رام إخافة حرم الله تعالى وحرم رسوله صلى الله عليه وسلم، وعاد بالباقين إلى مصر، فقتلوا جميعهم. ذكر عدة حوادثفي هذه السنة، في جمادى الأولى، توفي عز الدين فرخشاه ابن أخي صلاح الدين، وكان ينوب عنه بدمشق، وهو ثقته من أهله، وكان اعتماده عليه أكثر من جميع أهله وامرأته، وكان شجاعاً كريماً، فاضلاً، عالماً بالأدب وغيره، وله شعر جيد من بين أشعار الملوك.
وكان ابتداء مرضه أنه خرج من دمشق إلى غزو الفرنج، فمرض، وعاد مريضاً، فمات، ووصل خبر موته إلى صلاح الدين، وقد عبر الفرات إلى الديار الجزرية، فأعاد شمس الدين محمد بن المقدم إلى دمشق ليكون مقدماً على عسكرها. وفيها مات فخر الدولة أبو المظفر بن الحسن بن هبة الله بن المطلب. كان أبوه وزير الخليفة، وأخوه أستاذ الدار، فتصوف هو من زمن الصبا، وبنى مدرسة ورباطاً ببغداد عند عقد المصطنع، وبنى جامعاً بالجانب الغربي منها. وفيها توفي الأمير أبو منصور هاشم ولد المستضيء بأمر الله ودفن عند أبيه. وفيها توفي أبو العباس أحمد بن علي بن الرفيعي من سواد واسط، وكان صالحاً ذا قبول عظيم عند الناس، وله من التلامذة ما لا يحصى. ثم دخلت سنة تسع وسبعين وخمسمائة ذكر ملك صلاح الدين آمد وتسليمها إلى صاحب الحصن قد ذكرنا نزول صلاح الدين بحرزم، تحت ماردين، فلم ير لطمعه وجهاً، وسار عنها إلى آمد، على طريق البارعية، وكان نور الدين محمد بن قرا أرسلان يطالبه في كل وقت بقصدها وأخذها وتسليمها إليه، على ما استقرت القاعدة بينهما، فوصل إلى آمد سابع عشر ذي الحجة من سنة ثمان وسبعين ونازلها، و أقام يحاصرها. وكان المتولي لأمرها والحاكم فيها بهاء الدين بن نيسان؛ وكان صاحبها ليس له من الأمر شيء مع ابن نيسان، فلما نازلها صلاح الدين أساء ابن نيسان التدبير، ولم يعط الناس من الذخائر شيئاً، ولا فرق فيهم ديناراً ولا قوتاً، وقال لأهل البلد: قاتلوا عن نفوسكم. فقال له بعض أصحابه: ليس العدو بكافر حتى يقاتلوا عن نفوسهم. فلم يفعل شيئاً. وقاتلهم صلاح الدين، ونصب المجانيق، وزحف إليها، وهي الغاية في الحصانة والمنعة، بها وبسورها يضرب المثل، وابن نيسان على حاله من الشح بالمال، وتصرفه تصرف من ولت سعادته وأدبرت دولته؛ فلما رأى الناس ذلك منه تهاونوا بالقتال، وجنحوا إلى السلامة. وكانت أيام ابن نيسان قد طالت، وثقلت على أهل البلد لسوء صنيعهم وملكتهم وتضييقهم عليهم في مكاسبهم، فالناس كارهون لهان محبون لانقراضها. وأمر صلاح الدين أن يكتب على السهام إلى أهل البلد يعدهم الخير والإحسان إن أطاعوه، ويتهددهم إن قاتلوه، فزادهم ذلك تقاعداً وتخاذلاً، وأحبوا ملكه وتركوا القتال؛ فوصل النقابون إلى السور، فنقبوه وعلقوه، فلما رأى الجند وأهل البلد ذلك طمعوا في ابن نيسان واشتطوا في المطالب. فحين صارت الحال كذلك أخرج ابن نيسان نساءه إلى القاضي الفاضل، وزير صلاح الدين، يسأله أن يأخذ له الأمان ولأهله وماله، وأن يؤخره ثلاثة أيام حتى ينقل ما له بالبلد من الأموال والذخائر؛ فسعى له الفاضل في ذلك، فأجابه صلاح الدين إليه، فسلم البلد في العشر الأول من المحرم هذه السنة، وأخرج خيمه إلى ظاهر البلد، ورام نقل ماله، فتعذر ذلك عليه لزوال حكمه عن أصحابه، واطراحهم أمره ونهيه، فأرسل إلى صلاح الدين يعرفه الحال، ويسأله مساعدته على ذلك، فأمده بالدواب والرجال، فنقل البعض وسرق البعض وانقضت الأيام الثلاثة قبل الفراغ فمنع من الباقي. وكانت أبراج المدينة مملوءة من أنواع الذخائر، فتركها بحالها، ولو أخرج البعض منها لحفظ البلد وسائر نعمه وأمواله، لكن إذا أراد الله أمراً هيأ أسبابه؛ فلما تسلمها صلاح الدين سلمها نور الدين إلى صاحب الحصن، فقيل له قبل تسليمها: إن هذه المدينة فيها من الذخائر ما يزيد على ألف ألف دينار، فلو أخذت ذلك وأعطيته جندك وأصحابك، وسلمت البلد إليه فارغاً، لكان راضياً، فإنه لا يطمع في غيره. فامتنع من ذلك، وقال: ما كنت لأعطيه الأصل وأبخل بالفرع؛ فلما تسلم نور الدين البلد اصطنع دعوة عظيمة، ودعا إليها صلاح الدين وأمراءه، ولم يكن دخل البلد، وقدم له ولأصحابه من التحف والهدايا أشياء كثيرة. ذكر ملك صلاح الدين تل خالد وعين تاب من أعمال الشام لما فرغ صلاح الدين من أمر آمد سار إلى الشام، وقصد تل خالد، وهي من أعمال حلب، فحصرها ورماها بالمنجنيق، فنزل أهلها وطلبوا الأمان فأمنهم، وتسلمها في المحرم أيضاً.
ثم سار منها إلى عين تاب فحصرها وبها ناصر الدين محمد، وهو أخو الشيخ إسماعيل الذي كان خازن نور الدين محمود بن زنكي وصاحبه، وكان قد سلمها إليه نور الدين، فبقيت معه إلى الآن. فلما نازله صلاح الدين أرسل إليه يطلب أن يقر الحصن بيده وينزل إلى خدمته ويكون تحت حكمه وطاعته، فأجابه صلاح الدين إلى ذلك، وحلف له عليه، فنزل إليه، وسار في خدمته؛ وكان أيضاً في المحرم من هذه السنة. ذكر وقعتين مع الفرنج في البحر والشامفي هذه السنة، في العاشر من المحرم، سار أسطول المسلمين من مصر في البحر، فلقوا بُطسة فيها نحو ثلثمائة من الفرنج بالسلاح التام، ومعهم الأموال والسلاح إلى فرنج الساحل، فقاتلوهم، وصبير الفريقان، وكان الظفر للمسلمين، وأخذوا الفرنج أسرى، فقتلوا بعضهم وأبقوا بعضهم أسرى، وغنموا ما معهم وعادوا إلى مصر سالمين. وفيها أيضاً سارت عصابة كبيرة من الفرنج من نواحي الدارم إلى نواحي مصر ليغيروا وينهبوا، فسمع بهم المسلمون، فخرجوا إليهم على طريق صدر وأيلة، فانتزح الفرنج من بين أيديهم فنزلوا بماء يقال له العسيلة، وسبقوا المسلمين إليه، فأتاهم المسلمون وهم عطاش قد أشرفوا على الهلاك، فرأوا الفرنج قد ملكوا الماء، فأنشأ الله سبحانه وتعالى، بلطفه سحابة عظيمة فمرطوا منها حتى رووا، وكان الزمان قيظاً، والحر شديداً في بر مهلك، فلما رأوا ذلك قويت نفوسهم، ووثقوا بنصر الله لهم، وقاتلوا الفرنج، فنصرهم الله عليهم فقتلوهم، ولم يسلم منهم إلا الشريد الفريد، وغنم المسلمون ما معهم من سلاح ودواب، وعادوا منصورين قاهرين بفضل الله. ذكر ملك صلاح الدين حلبوفي هذه السنة سار صلاح الدين من عين تاب إلى حلب، فنزل عليها في المحرم أيضاً، في الميدان الأخضر، وأقام به عدة أيام، ثم انتقل إلى جبل جوشن فنزل بأعلاه، وأظهر أنه يريد أن يبني مساكن له ولأصحابه وعساكره، وأقام عليها أياماً والقتال بين العسكرين كل يوم. وكان صاحب حلب عماد الدين زنكي بن مودود بن زنكي، ومعه العسكر النوري، وهم مجدون في القتال، فلما رأى كثرة الخرج، كأنه شح بالمال، فحضر يوماً عنده بعض أجناده، وطلبوا منه شيئاً، فاعتذر بقلة المال عنده، فقال له بعضهم: من يريد أن يحفظ مثل حلب يخرج الأموال، ولو باع حلي نسائه؛ فمال حينئذ إلى تسليم حلب وأخذ العوض منها، وأرسل مع الأمير طمان الياروقي، وكان يميل إلى صلاح الدين وهواه معه، فلهذا أرسله فقرر قاعدة الصلح على أن يسلم عماد الدين حلب إلى صلاح الدين ويأخذ عوضها سنجار، ونصيبين، والخابور، والرقة وسروج، وجرت اليمن على ذلك وباعها بأوكس الأثمان، أعطى حصناً مثل حلب، وأخذ عوضها قرى ومزارع، فنزل عنها عشر صفر، وتسلمها صلاح الدين، فعجب الناس كلهم من ذلك، وقبحوا ما أتى، حتى إن بعض عامة حلب أحضر اجانة وماء وناداه: أنت لا يصلح لك الملك، وإنما يصلح لك أن تغسل الثياب؛ وأسمعوه المكروه. واستقر ملك صلاح الدين بملكها، وكان مزلزلاً، فثبت قدمه بتسليمها وكان على شفا جرف هار، وإذا أراد الله أمراً فلا مرد له. وسار عماد الدين إلى البلاد التي أعطيها عوضاً عن حلب فتسلمها، وأخذ صلاح الدين حلب، واستقر الحال بينهما: إن عماد الدين يحضر في خدمة صلاح الدين بنفسه وعسكره، إذا استدعاه لا يحتج بحجة؛ ومن الاتفاقات العجيبة أن محيي الدين بن الزكي، قاضي دمشق، مدح صلاح الدين بقصيدة منها: وفتحكم حلباً بالسيف في صفر ... مبشر بفتوح القدس في رجب فوافق فتح القدس في رجب سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة، على ما ذكرناه إن شاء الله تعالى. ومما كتبه القاضي الفاضل في المعنى عن صلاح الدين: فأعطيناه عن حلب كذا وكذا، وهو صرف على الحقيقة أخذنا فيه الدنانير وأعطيناه الدراهم، ونزلنا عن القرى، وأحرزنا العواصم. وكتب أيضاً: أعطيناه ما لم يخرج عن اليد، يعني أنه متى شاء أخذه لعدم حصانته.
وكان ي جملة من قتل على حلب تاج الملوك بوري، أخو صلاح الدين الأصغر، وكان فارساً شجاعاً، كريماً حليماً، جامعاً لخصال الخير، ومحاسن الأخلاق، طعن في ركبته فانفكت، فمات منعها بعد أن استقر الصلح بين عماد الدين وصلاح الدين على تسليم حلب قبل أن يدخلها صلاح الدين، فلما استقر أمر الصلح حضر صلاح الدين عند أخيه يعوده، وقال له: هذه حلب قد أخذناها، وهي لك؛ فقال: ذلك لو كان وأنا حي. ووالله لقد أخذتها غالية حيث تفقد مثلي. فبكى صلاح الدين وأبكى. | |
|
 | |
الشيخ عودة الشيخ عودة

عدد المساهمات : 1748 تاريخ التسجيل : 28/09/2008 العمر : 73
 | موضوع: رد: كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير الخميس فبراير 27, 2014 6:42 am | |
| ولما خرج عماد الدين إلى صلاح الدين، وقد عمل له دعوة احتفل فيها، فبينما هم في سرور إذ جاء إنسان فأسر إلى صلاح الدين بموت أخيه، فلم يظهر هلعاً، ولا جزعاً، وأمر بتجهيزه سراً، ولم يعلم عماد الدين ومن معه في الدعوة، واحتمل الحزن وحده لئلا يتنكر ما هم فيه، وكان هذا من الصبر الجميل. ذكر فتح صلاح الدين حارملما ملك صلاح الدين حلب كان بقلعة حارم، وهي من أعمال حلب، بعض المماليك النورية، واسمه سرحك، وولاه عليها الملك الصالح عماد الدين، فامتنع من تسليمها إلى صلاح الدين، فراسله صلاح الدين في التسليم، وقال له: اطلب من الإقطاع ما أردت؛ ووعده الإحسان، فاشتط في الطلب، وترددت الرسل بينهما، فراسل الفرنج ليحتمي بهم، فسمع من معه من الأجناد أنه يراسل الفرنج، فخافوا أن يسلمها إليهم، فوثبوا عليه وقبضوه وحبسوه، وراسلوا صلاح الدين يطلبون منه الأمان والإنعام، فأجابهم إلى ما طلبوا، وسلموا إليه الحصن فرتب به دزداراً بعض خواصه. وأما باقي قلاع حلب، فإن صلاح الدين أقر عين تاب بيد صاحبها، كما تقدم، وأقطع تل خالد لأمير يقال له داروم الباروقي، وهو صاحب تل باشر. وأما قلعة إعزاز، فإن عماد الدين إسماعيل كان قد خربها، فأقطعها صلاح الدين لأمير يقال له دلدرم سلمان بن جندر، فعمرها. وأقام صلاح الدين بحلب إلى أن فرغ من تقرير قواعدها وأحوالها وديوانها، وأقطع أعمالها، وأرسل منها فجمع العساكر من جميع بلاده. ذكر القبض على مجاهد الدين وما حصل من الضرر بذلك في هذه السنة، في جمادى الأولى، قبض عز الدين مسعود، صاحب الموصل، على نائبه مجاهد الدين قايماز، وكان إليه الحكم في جميع البلاد، واتبع في ذلك هوى من أراد المصلحة لنفسه، ولم ينظر في مضرة صاحبه. وكان الذي أشار بذلك عز الدين محمود زلفندار، وشرف الدين أحمد ابن أبي الخير الذي كان أبوه صاحب الغراف، وهما من أكابر الأمراء، فلما أراد القبض عليه لم يقدم على ذلك لقوة مجاهد الدين، فأظهر أنه مريض، وانقطع عن الركوب عدة أيام، فدخل إليه مجاهد الدين وحده، وكان خصياً لا يمتنع من الخول على النساء، فلما دخل عليه قبض عليه، وركب لوقته إلى القلعة، فاحتوى على الأموال التي لمجاهد الدين وخزائنه، وولى زلفندار قلعة الموصل بعد مجاهد الدين، وجعل ابن صاحب الغراف أمير حاجب وحكمهما في دولته. وكان تحت حكم مجاهد الدين حينئذ إربل وأعمالها، ومعه فيها زين الدين يوسف بن زين الدين علي، وهو صبي صغير ليس له من الحكم شيء والحكم والعسكر إلى مجاهد الدين، وتحت حكمه أيضاً جزيرة ابن عمر، وهي لمعز الدين سنجر شاه بن سيف الدين غازي بن مودود، وهو أيضاً صبي، والحكم والنواب والعسكر لمجاهد الدين، وبيده أيضاً شهرزور وأعمالها، ونوابه فيها، ودقوقا، ونائبه فيها، وقلعة عقر الحميدية، ونائبه فيها، ولم يبق لعز الدين مسعود بعد أن أخذ صلاح الدين البلاد الجزرية سوى الموصل وقلعتها بيد مجاهد الدين، وهو على الحقيقة الملك واسمه لعز الدين، فلما قبض عليه امتنع صاحب إربل من طاعة عز الدين، واستبد، وكذلك أيضاً صاحب جزيرة ابن عمر، وأرسل الخليفة إلى دقوقا فحصرها وأخذها، ولم يحصل لعز الدين مسعود غير شهر زور والعقر، وصارت إربل والجزيرة أضر شيء على صاحب الموصل، وأرسل صاحبها إلى صلاح الدين بالطاعة له، والكون في خدمته.
وكان الخليفة الناصر لدين الله قد أرسل صدر الدين شيخ الشيوخ، ومعه بشير الخادم الخاص، إلى صلاح الدين في الصلح مع عز الدين، صاحب الموصل، وسير عز الدين معه القاضي محيي الدين أبا حامد بن الشهرزوري في المعنى، فأجاب صلاح الدين إلى ذلك وقال: ليس لكم مع الجزيرة وإربل حديث؛ فامتنع محيي الدين عن ذلك وقال: هما لنا؛ فلم يجب صلاح الدين إلى الصلح إلا بأن تكون إربل والجزيرة معه، فلم يتم أمره، وقوي طمع صلاح الدين في الموصل بقبض مجاهد الدين، فلما رأى صاحب الموصل الضرر بقبض مجاهد الدين قبض على شرف الدين أحمد بن صاحب الغراف وزلفندار، عقوبة لهما، ثم أخرج مجاهد الدين، على ما نذكره إن شاء الله. ذكر غزو بيسانلما فرغ صلاح الدين من أمر حلب جعل فيها ولده الملك الظاهر غازي، وهو صبي، وجعل معه الأمير سيف الدين يازكج، وكان أكبر الأمراء الأسدية، وسار إلى دمشق، وتجهز للغزو، ومعه عساكر الشام والجزيرة، وديار بكر، وسار إلى بلد الفرنج، فعبر نهر الأردن تاسع جمادى الآخرة من السنة، فرأى أهل تلك النواحي فقد فارقوها خوفاً، فقصد بيسان فأحرقها وخربها، وأغار على ما هناك، فاجتمع الفرنج، وجاءوا إلى قبالته، فحين رأوا كثرة عساكره لم يقدموا عليه، فأقام عليهم، وقد استندوا إلى جبل هناك، وخندقوا عليهم، فأحاط بهم، وعساكر الإسلام ترميهم بالسهام، وتناوشهم القتال، فلم يخرجوا وأقاموا كذلك خمسة أيام، وعاد المسلمون عنهم سابع عشر الشهر، لعل الفرنج يطمعون ويخرجون، فيستدرجونهم ليبلغوا منهم غرضاً، فلما رأى الفرنج ذلك لم يطمعوا أنفسهم في غير السلامة. وأغار المسلمون على تلك الأعمال يميناً وشمالاً، ووصلوا إلى ما لم يكونوا يطمعون في الوصول إليه والإقدام عليه، فلما كثرت الغنائم معهم رأوا العود إلى بلادهم بما غنموا مع الظفر أولى، فعادوا إلى بلادهم على عزم الغزو. ذكر غزو الكرك وملك العادل حلبلما عاد صلاح الدين والمسلمون من غزوة بيسان تجهزوا غزو الكرك، فسار إليه في العساكر، وكتب إلى أخيه العادل أبي بكر بن أيوب، وهو نائبه بمصر، يأمره بالخروج بجميع العساكر إلى الكرك. وكان العادل قد أرسل إلى صلاح الدين يطلب منه مدينة حلب وقلعتها، فأجابه إلى ذلك، وأمره أن يخرج معه بأهله وماله، فوصل صلاح الدين إلى الكرك في رجب، ووافاه أخوه العادل في العسكر المصري، وكثر جمعه، وتمكن من حصره، وصعد المسلمون إلى ربضه وملكه، وحصر الحصن من الربض، وتحكم عليه في القتال؛ ونصب عليه سبعة مجانيق لا تزال ترمي بالحجارة ليلاً ونهاراً. وكان صلاح الدين يظن أن الفرنج لا يمكنونه من حصر الكرك، وأنهم يبذلون جهدهم في رده عنهم، فلم يستصحب معه من آلاف الحصار ما يكفي لمثل ذلك الحصن العظيم والمعقل المنيع، فرحل عنه منتصف شعبان، وسير تقي الدين ابن أخيه إلى مصر نائباً عنه ليتولى ما كان أخوه العادل يتولاه، واستصحب أخاه العادل معه إلى دمشق، وأعطاه مدينة حلب وقلعتها وأعمالها، ومدينة منبج وما يتعلق بها، وسيره إليها في شهر رمضان من السنة، وأحضر ولده الظاهر منها إلى دمشق. ذكر عدة حوادثفي هذه السنة فتح الرباط الذي بنته أم الخليفة بالمأمونية. وفيها، في ذي الحجة، توفي مكرم بن بختيار أبو الخير الزاهد ببغداد. روى الحديث، وكان كثير البكاء. وفي جمادى الآخرة توفي محمد بن بختيار بن عبد الله أبو عبد الله المولد الشاعر ويعرف بالأبله، فمن جملة شعره: أرق دمعي لا بل أراق دمي ... ظلماً بظلم من ريقه الشبم ذو قامة كالقضيب ناضرة ... وناظر من سقامه سقمي حصلت من وعده على أصدق ال ... وعد ومن وصله على التهم ثم دخلت سنة ثمانين وخمسمائة ذكر إطلاق مجاهد الدين من الحبس وانهزام العجم
في هذه السنة، في المحرم، أطلق أتابك عز الدين، صاحب الموصل، مجاهد الدين قايماز من الحبس بشفاعة شمس الدين البهلوان، صاحب همذان، وبلاد الجبل، وسيره إلى البهلوان وأخيه قزل يستنجدهما على صلاح الدين، فسار إلى قزل أولاً، وهو صاحب أذربيجان، فلم يمكنه من المضي إلى البهلوان، وقال: ما تختاره أنا أفعله؛ وجهز معه عسكراً كثيراً نحو ثلاثة آلاف فارس، وساروا نحو إربل ليحصروها، فلما قاربوها أفسدوا في البلاد وخربوها، ونهبوا وسبوا، وأخذوا النساء قهراً، ولم يقدر مجاهد الدين على منعهم، فسار إليهم زين الدين يوسف، صاحب إربل، في عسكره، فلقيهم وهم متفرقون في القرى ينهبون ويحرقون، فانتهز الفرصة فيهم بتفرقهم، وألقى بنفسه وعسكره على أول من لقيه منهم، فهزمهم وتمت الهزيمة على الجميع، وغنم الأربليون أموالهم ودوابهم وسلاحهم، وعاد العجم إلى بلادهم منهزمين، وعاد صاحب إربل إلى بلده مظفراً غانماً، وعاد مجاهد الدين إلى الموصل، فكان يحكي: إنني ما زلت أنتظر العقوبة من الله تعالى على سوء أفعال العجم، فإنني رأيت منهم ما لم أكن أظنه يفعله مسلم بمسلم، وكنت أنهاهم فلا يسمعون، حتى كان من الهزيمة ما كان. ذكر وفاة يوسف بن عبد المؤمن وولاية ابنه يعقوب في هذه السنة سار أبو يعقوب يوسف بن عبد المؤمن إلى بلاد الأندلس، وجاز البحر إليها في جمع عظيم من عساكر المغرب، فإنه جمع وحشد الفارس والراجل؛ فلما عبر الخليج قصد غربي البلاد، فحصر مدينة شنترين، وهي للفرنج، شهراً، فأصابه بها مرض فمات منه في ربيع الأول، وحمل في تابوت إلى مدينة إشبيلية من الأندلس. وكانت مدة ملكه اثنتين وعشرين سنة وشهراً، ومات عن غير وصية بالملك لأحد من أولاده، فاتفق رأي قواد الموحدين وأولاد عبد المؤمن على تمليك ولده أبي يوسف يعقوب بن يوسف ابن عبد المؤمن فملكوه من الوقت الذي مات فيه أبوه لئلا يكونوا بغير ملك يجمع كلمتهم لقربهم من العدو؛ فقام في ذلك أحسن قيام، وأقام راية الجهاد، وأحسن السيرة في الناس. وكان ديناً مقيماً للحدود في الخاص والعام، فاستقامت له الدولة وانقادت إليه بأسرها مع سعة أقطارها، ورتب ثغور الأندلس وشحنها بالرجال، ورتب المقاتلة في سائر بلادها، وأصلح أحوالها وعاد إلى مراكش. وكان أبوه يوسف حسن السيرة، وكان طرقه ألين من طريق أبيه مع الناس، يحب العلماء ويقربهم ويشاورهم، وهم أهل خدمته وخاصته. وأحبه الناس ومالوا إليه، وأطاعه من البلاد ما امتنع على أبيه، وسلك في جباية الأموال ما كان أبوه يأخذه، ولم يتعده إلى غيره، واستقامت له البلاد بحسن فعله مع أهلها، ولم يزل كذلك إلى أن توفي، رحمه الله تعالى. ذكر غزو صلاح الدين الكركفي هذه السنة، في ربيع الآخر، سار صلاح الدين من دمشق يريد الغزو، وجمع عساكره، فأتته من كل ناحية، ومن أتاه نور الدين محمد بن قرا أرسلان، صاحب الحصن. وكتب إلى مصر ليحضر عسكرها عنده على الكرك، فنازل الكرك وحصره، وضيق على من به، وأمر بنصب المجانيق على ربضه، واشتد القتال، فملك المسلمون الربض، وبقي الحصن، وهو الربض على سطح جبل واحد، إلا أن بينهما خندقاً عظيماً عمقه نحو ستين ذراعاً، فأمر صلاح الدين بإلقاء الأحجار والتراب فيه ليطمه، فلم يقدر أحد على الدنو منه لكثرة الرمي عليهم بالسهام من الجرخ والقوس والأحجار من المجانيق، فأمر أن يبني بالأخشاب واللبن ما يمكن الرجال يمشون تحته إلى الخندق ولا يصل إليهم شيء من السهام والأحجار، ففعل ذلك، فصاروا يمشون تحت السقائف ويلقون في الخندق ما يطمه، ومجانيق المسلمين مع ذلك ترمي الحصن ليلاً نهاراً.
وأرسل من فيه من الفرنج إلى ملكهم وفرسانهم يستمدونهم ويعرفونهم عجزهم وضعفهم عن حفظ الحصن، فاجتمعت الفرنج عن آخرها، وساروا إلى نجدتهم عجلين، فلما بلغ الخبر بمسيرهم إلى صلاح الدين رحل عن الكرك إلى طرقهم ليلقاهم ويصاففهم، ويعود بعد أن يهزمهم إلى الكرك، فقرب منهم وخيم ونزل، ولم يمكنه الدنو منهم لخشونة الأرض وصعوبة المسلك إليهم وضيقه، فأقام أياماً ينتظر خروجهم من ذلك المكان ليتمكن منهم، فلم يبرحوا منه خوفاً على نفوسهم، فلما رأى ذلك رحل عنهم عدة فراسخ، وجعل بإزائهم من يعلمه بمسيرهم، فساروا ليلاً إلى الكرك، فلما علم صلاح الدين ذلك علم أنه لا يتمكن حينئذ ولا يبلغ غرضه، فسار إلى مدينة نابلس، ونهب كل ما على طريقه من البلاد؛ فلما وصل إلى نابلس أحرقها وخربها ونهبها، وقتل فيها وأسر من المسلمين، فاستنقذهم، ورحل إلى جينين فنهبها وخربها، وعاد إلى دمشق ونهب ما على طريه وخربه، وبث السرايا في طريقه يميناً وشمالاً يغنون ويخربون، ووصل إلى دمشق. ذكر ملك الملثمين بجاية وعودها إلى أولاد عبد المؤمن في هذه السنة في شعبان، خرج علي بن إسحاق المعروف بابن غانية وهو من أعيان الملثمين الذين كانوا ملوك المغرب، وهو حينئذ صاحب جزيرة ميورقة، إلى بجاية فملكها، وسبب ذلك أنه لما سمع بوفاة يوسف بن عبد المؤمن عمر أسطوله فكان عشرين قطعة وسار في جموعه فأرسى في ساحل بجاية، وخرجت خيله ورجاله من الشواني فكانوا نحو مائتي فارس من الملثمين وأربعة آلاف راجل، فدخل مدينة بجاية بغير قتال لأنه اتفق أن واليها سار عنها قبل ذلك بأيام إلى مراكش ولم يترك فيها جيشاً ولا ممانعاً لعدم عدو يحفظها منه، فجاء الملثم ولم يكن في حسابهم أنه يحدث نفسه بذلك، فأرسى بها ووافقه جماعة من بقايا الدولة بين حماد وصاروا معه فكثر جمعه بهم وقويت نفسه، فسمع خبره والي بجاية فعاد من طريقه ومعه من الموحدين ثلثمائة فارس، فجمع من العرب والقبائل الذين في تلك الجهات نحو ألف فارس، فسمع بهم الملثم وبقربهم منه، فخرج إليهم وقد صار معه قدر ألف فارس، وتواقفوا ساعة فانضاف جميع الجموع التي كانت مع والي بجاية إلى الملثم، فانهزم حينئذ والي بجاية ومن معه من الموحدين وساروا إلى مراكش، وعاد الملثم إلى بجاية فجمع جيشه وخرج إلى أعمال بجاية فأطاعه جميعهم إلا قسنطينة الهوى فحصرها إلى أن جاء جيش من الموحدين من مراكش في صفر سنة إحدى وثمانين وخمسمائة في البر والبحر وكان بها يحيى وعبد الله أخو علي بن إسحق الملثم، فخرجا منها هاربين ولحقا بأخيهما فرحل عن قسنطينة وسار إلى إفريقية. وكان سبب إرسال الجيش من مراكش أن والي بجاية وصل إلى يعقوب بن يوسف صاحب المغرب وعرفه ما جرى ببجاية واستيلاء الملثمين عليها وخوفه عاقبة التواني فجهز العساكر في البر عشرين ألف فارس وجهز الأسطول في البحر في خلق كثير واستعادوها. ذكر وفاة صاحب ماردين وملك ولدهفي هذه السنة مات قطب الدين إيلغازي بن نجم الدين بن ألبي بن تمرتاش ابن إيلغازي بن أرتق صاحب ماردين، وملك بعده ابنه حاسم الدين بولق أرسلان وهو طفل وقام بتربيه وتدبير مملكته نظام الدين البقش مملوك أبيه، وكان شاه أرمن صاحب خلاط خال قطب الدين فحكم في دولته، وهو رتب البقش مع ولده، وكان البقش ديناً خيراً عادلاً حسن السيرة حليماً، فأحسن تربيته وتزود أمه، فلما كبر الولد لم يمكنه النظام من مملكته لخبط وهوج فيه، وكان لنظام الدين هذا مملوك اسمه لؤلؤ قد تحكم في دولته وحكم فيها فكان يحمل النظام على ما يفعله مع الولد، ولم يزل الأمر كذلك إلى أن مات الولد وله أخ أصغر منه لقبه قطب الدين فرتبه النظام في الملك وليس له منه إلا الاسم والحكم إلى النظام ولؤلؤ، فبقي كذلك إلى سنة إحدى وستمائة، فمرض النظام البقش فأتاه قطب الدين يعوده، فلما خرج من عنده معه لؤلؤ وضربه قطب الدين بسكين معه فقتله ثم دخل إلى النظام وبيده السكين فقتله أيضاً وخرج وحده ومعه غلام له وألقى الرأسين إلى الأجناد وكانوا كلهم قد أنشأهم النظام ولؤلؤ فأذعنوا له بالطاعة، فلما تمكن أخرج من أراد وترك من أراد واستولى على قلعة ماردين وأعمالها وقلعة البارعية وصور وهو إلى الآن حاكم فقيهاً حازم في أفعاله. ذكر عدة حوادث
في هذه السنة توفي صدر الدين شيخ الشيوخ عبد الرحمن بن شيخ الشيوخ إسماعيل بن شيخ الشيوخ أبي سعيد أحمد في شعبان، وكان قد سار في ديوان الخلافة رسولاً إلى صلاح الدين ومعه شهاب الدين بشير الخادم في معنى الصلح بينه وبين عز الدين صاحب الموصل، فوصلا إلى دمشق وصلاح الدين بحصر الكرك، فأقاما إلى أن عاد فلم يستقر في الصلح أمر ومرضا وطلبا العودة إلى العراق، فأشار عليهما صلاح الدين بالمقام إلى أن يصطلحا، فلم يفعل وسارا في الحر فمات بشير بالحسنة. ومات صدر الدين بالرحبة، ودفن بمشهد البوق، وكان واحد زمانه، قد جمع بين رياسة الدين والدنيا، وكان ملجأ لكل خائف، صالحاً، كريماً، حليماً، وله مناقب كثيرة، ولم يستعمل في مرضه هذا دواء توكلاً على الله تعالى. وفيها توفي عبد اللطيف بن محمد بن عبد اللطيف الخجندي الفقيه الشافعي، رئيس أصفهان، وكان موته بباب همذان وقد عاد الحج، وله شعر فمنه: بالحمى دار سقاها مدمعي ... يا سقى الله الحمى من مربع ليت شعري والأماني ضلة ... هل إلى وادي الغض من مرجع أذنت علوة للواشي بنا ... ما على علوة لو لم تسمع أو تحرت رشداً فيما وشى ... أو عفت عني فما قلبي معي رحمه الله، ورضي عنه وأرضاه. ثم دخلت سنة إحدى وثمانين وخمسمائة ذكر حصر صلاح الدين الموصل ورحيله عنها لوفاة شاه أرمن في هذه السنة حصر صلاح الدين يوسف بن أيوب الموصل مرة ثانية، وكان مسيره من دمشق في ذي القعدة من السنة الماضية، فوصل إلى حلب، وأقام بها إلى أن خرجت السنة، وسار منها فعبر إلى أرض الجزيرة. فلما وصل حران قبض على مظفر الدين كوكبري بن زين الدين الذي كان سبب ملكه الديار الجزرية. وسبب قبضه عليه أن مظفر الدين كان يراسل صلاح الدين كل وقت، ويشير عليه بقصد الموصل، ويحسن له ذلك ويقوي طمعه، حتى إنه بذل له، إذا سار إليها، خمسين ألف دينار، فلما وصل صلاح الدين إلى حران لم يف له بما بذل من المال، وأنكر ذلك، فقبض عليه، ووكل به، ثم أطلقه، وأعاد إليه مدينتي حران والرها، وكان قد أخذهما منه، وإنما أطلقه لأنه خاف انحراف الناس عنه بالبلاد الجزرية، لأنهم كلهم علموا بما اعتمده مظفر الدين معه من تمليكه البلاد فأطلقه. وسار صلاح الدين عن حران في ربيع الأول، فحضر عنده عساكر الحصن ودارا ومعز الدين سنجر شاه، صاحب الجزيرة، وهو ابن عز الدين صاحب الموصل، وكان قد فارق طاعة عمه بعد قبض مجاهد الدين، وسار مع صلاح الدين إلى الموصل، فلما وصلوا إلى مدينة بلد سير أتابك عز الدين والدته إلى صلاح الدين ومعها ابنة عمه نور الدين محمود بن زنكي وغيرهما من النساء، وجماعة من أعيان الدولة، يطلبون منه المصالحة، وبذلوا الموافقة، والإنجاد بالعساكر ليعود عنهم، وإنما أرسلهن لأنه وكل من عنده ظنوا أنهن إذا طلبن منه الشام أجابهن إلى ذلك، لا سيما ومعهن ابنة مخدومه وولي نعمته نور الدين، فلما وصلن إليه أنزلهن، وأحضر أصحابه واستشارهم فيما يفعله ويقوله، فأشار أكثرهم بإجابتهن إلى ما طلبن منه؛ وقال له الفقيه عيسى وعلي نب أحمد المشطوب، وهما من بلد الهكارية من أعمال الموصل: مثل الموصل لا يترك لامرأة، فإن عز الدين ما أرسلهن إلا وقد عجز عن حفظ البلد. ووافق ذلك هواه، فأعادهن خائبات، واعتذر بأعذار غير مقبولة، ولم يكن إرسالهن عن ضعف ووهن، إنما أرسلهن طلباً لدفع الشر بالتي هي أحسن. فلما عدن رحل صلاح الدين إلى الموصل وهو كالمتيقن أنه يملك البلد، وكان الأمر بخلاف ذلك، فلما قارب البلد نزل على فرسخ منه، وامتد عسكره في تلك الصحراء بنواحي الحلة المراقية، وكان يجري بين العسكرين مناوشات بظاهر الباب العمادي، وكنت إذا ذاك بالموصل، وبذل العامة نفوسهم غيظاً وحنقاً لرده النساء؛ فرأى صلاح الدين ما لم يكن يحسبه، فندم على رجه النساء ندامة الكسعي، حيث فاته حسن الذكر وملك البلد، وعاد على الذين أشاروا بردهن باللوم والتوبيخ.
وجاءته كتب القاضي الفاضل وغيره ممن ليس له هوى في الموصل يقبحون فعله وينكرونه، وأتاه وهو على الموصل زين الدين يوسف بن زين الدين صاحب إربل، فأنزله ومعه أخوه مظفر الدين كوكبري وغيرهما من الأمراء بالجانب الشرقي من الموصل، وسير من المنزلة علي بن أحمد المشطوب الهكاري إلى قلعة الجديدة من بلد الهكارية، فحصرها واجتمع عليه من الأكراد والهكارية كثير، وبقي هناك إلى أن رحل صلاح الدين عن الموصل. وكان عامة الموصل يعبرون دجلة فيقاتلون من الجانب الشرقي من العسكر ويعودون؛ ولما كان صلاح الدين يحاصر الموصل بلغ أتابك عز الدين صاحبها أن نائبه بالقلعة زلفندار يكاتبه، ويصدر عن رأيه، وضبط الأمور، وأصلح ما كان فسد من الأحوال، حتى آل الأمر إلى الصلح، على ما نذكره إن شاء الله. وحضر عند صلاح الدين إنسان بغدادي أقام بالموصل، ثم خرج إلى صلاح الدين، فأشار عليه بقطع دجلة عن الموصل إلى ناحية نينوى، وقال: إن دجلة إذا نقلت عن الموصل عطش أهلها فملكناها بغير قتال. فظن صلاح الدين أن قوله صدق، فعزم على ذلك، حتى علم أنه لا يمكن قطعه بالكلية، فإن المدة تطول، والتعب يكثر، ولا فائدة وراءه، وقبحه عنده أصحابه، فأعرض عنه. وأقام بمكانه من أول ربيع الآخر إلى أن قارب آخره، ثم رحل عنها إلى ميافارقين. وكان سبب ذلك أن شاه أرمن، صاحب خلاط، توفي بها تاسع ربيع الآخر، فوصل الخبر بوفاته في العشرين منه، فعزم على الرحيل إليها وتملكها، حيث إن شاه أرمن لم يخلف ولداً ولا أحداً من أهل بيته يملك بلاده بعده، وإنما قد استولى عليها مملوك له اسمه بكتمر ولقبه سيف الدين، فاستشار صلاح الدين أمراءه ووزراءه، فاختلفوا، فأما من هواه بالموصل فيشير بالمقام وملازمة الحصار لها؛ وأما من يكره أذى البيت الأتابكي فإنه أشار بالرحيل، وقال: إن ولاية خلاط أكبر وأعظم، وهي سائبة لا حافظ لها، و هذه لها سلطان يحفظها ويذب عنها، وإذا ملكنا تلك سهل أمر هذه وغيرها؛ فتردد في أمره، فاتفق أنه جاءه كتب جماعة من أعيان خلاط، من أهلها وأمرائها، يستدعونه ليسلموا إليه البلد، فسار عن الموصل، وكانت مكاتبة من كاتبه خديعة ومكراً، فإن شمس الدين البهلوان بن إيلدكز، صاحب أذربيجان وهمذان وتلك المملكة، قد قصدهم ليأخذ البلاد منهم، وكان قبل ذلك قد زوج شاه أرمن، على كبر سنه، بنتاً له ليجعل ذلك طريقاً إلى ملك خلاط وأعمالها، فلما بلغهم مسيره إليهم كاتبوا صلاح الدين يستدعونه إليهم ليسلموا البلد إليه ليدفعوا به البهلوان يدفعوه بالبهلوان، ويبقى البلد بأيديهم؛ فسار صلاح الدين وسير في مقدمته ابن عمه ناصر الدين محمد بن شيركوه، ومظفر الدين بن زين الدين وغيرهم، فساروا إلى خلاط، ونزلوا بطوانة بالقرب من خلاط، وسار صلاح الدين إلى ميافارقين،؛ وأما البهلوان فإنه سار إلى خلاط، ونزل قريباً منها، وترددت رسل أهل خلاط بينهم وبينه وبين صلاح الدين، ثم إنهم أصلحوا أمرهم مع البهلوان، وصاروا من حزبه وخطبوا له. ذكر وفاة نور الدين صاحب الحصنفي هذه السنة توفي نور الدين محمد بن قرا أرسلان بن داود، صاحب الحصن وآمد، لما كان صلاح الدين على الموصل، وخلف ابنين، فملك الأكبر منهما واسمه سقمان، ولقبه قطب الدين، وتولى تدبير الأمور وزيره القوام بن سماقا الأسعردي. وكان عماد الدين بن قرا أرسلان قد سيره أخوه نور الدين في عساكره إلى صلاح الدين، وهو يحاصر الموصل، وهو معه، فلما بلغه خبر وفاة أخيه سار ليملك البلاد بعد لصغر أولاده، فتعذر عليه ذلك، فسار إلى خرت برت فملكها، وهي بيد أولاده إلى سنة عشرين وستمائة، ولما حصر صلاح الدين ميافارقين حضر عنده ولد نور الدين فأقره على ملك أبيه، ومن جملته آمد، وكانوا خافوا أن يأخذها منهم، فلم يفعل، وردهم إلى بلادهم، وشرط عليهم أن يراجعوه فيما يفعلونه، ويصدروا عن أمره ونهيه، ورتب معه أميراً لقبه صلاح الدين من أصحابه أبيه. ذكر ملك صلاح الدين ميافارقين
| |
|
 | |
الشيخ عودة الشيخ عودة

عدد المساهمات : 1748 تاريخ التسجيل : 28/09/2008 العمر : 73
 | موضوع: رد: كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير الخميس فبراير 27, 2014 6:45 am | |
| لما سار صلاح الدين إلى خلاط جعل طريقه على ميافارقين مطمع ملكها، حيث كان صاحبه قطب الدين، صاحب ماردين، قد توفي كما ذكرنا، وملك بعد ابنه، وهو طفل، وكان حكمها إلى شاه أرمن، وعسكره فيها، فلما توفي طمع في أخذها، فلما نازلها رآها مشحونة بالرجال، وبها زوجة قطب الدين المتوفي، ومعها بنات لها منه، وهي أخت نور الدين محمد، صاحب الحصن، فأقام صلاح الدين عليها يحصرها من أول جمادى الأولى. وكان المقدم على أجنادها أميراً اسمه يرنقش، ولقبه أسد الدين، وكان شجاعاً شهماً، يحفظ البلد، فأحسن إليه، واشتد القتال عليه ونصبت المجانيق والعرادات، فلم يصل صلاح الدين إلى ما يريد منها؛ فلما رأى ذلك عدل عن القوة والحرب إلى أعمال الحيلة، فراسل امرأة قطب الدين المقيمة بالبلد يقول لها: إن أسد الدين يرنقش قد مال إلينا في تسليم البلد ونحن نرعى حق أخيك نور الدين فيك بعد وفاته، ونريد أن يكون لك في هذا الأمر نصيب، وأنا أزوج بناتك بأولادي وتكون ميافارقين وغيرها لك وبحكمك؛ ووضع من أرسل إلى أسد يعرفه أن الخاتون قد مالت للمقاربة والانقياد إلى السلطان، وأن من بخلاط قد كاتبوه ليسلموا إليه، فخذ لنفسك. واتفق أن رسولاً وصله من خلاط، يبذلون له الطاعة، وقالوا له من الاستدعاء إليهم ما كانوا يقولونه، فأمر صلاح الدين الرسول، فدخل إلى ميافارقين، وقال لأسد: أنت عمن تقاتل، وأنا قد جئت في تسليم خلاط إلى صلاح الدين! فسقط في يده، وضعفت نفسه، وأرسل يقترح أقطاعاً ومالاً، فأجيب إلى ذلك، وسمل البلد سلخ جمادى الأولى، وعقد النكاح لبعض أولاده على بعض بنات الخاتون، وأقر بيدها قلعة الهتاخ لتكون فيها هي وبناتها. ذكر عود صلاح الدين إلى بلد الموصل والصلح بينه وبين أتابك عز الدين لما فرغ صلاح الدين من أمر ميافارقين، وأحكم قواعدها، وقرر أقطاعها وولاياتها، أجمع على العود إلى الموصل، فسار نحوها، وجعل طريقه على نصيبين، فوصل إلى كفر زمار، والزمان شتاء، فنزلها في عسكره، وعزم على المقام بها وإقطاع جميع بلاد الموصل، وأخذ غلالها ودخلها، وإضعاف الموصل بذلك، إذ علم أنه لا يمكنه التغلب عليها؛ وكان نزوله في شعبان، وأقام بها شعبان ورمضان، وتردد الرسل بينه وبين عز الدين، صاحب الموصل، وصار مجاهد الدين يراسل ويتقرب، وكن قوله مقبولاً عند سائر الملوك لما علموا من صحته. فبينما الرسل تتردد في الصلح، إذ مرض صلاح الدين، وسار من كفر زمار عائداً إلى حران، فلحقه الرسل بالإجابة إلى ما طلب، فتقرر الصلح، وحلف على ذلك، وكاتب القاعدة أن يسلم إليه عز الدين شهرزور وأعمالها وولاية القرابلي، وجميع ما وراء الزاب من الأعمال، وأن يخطب له على منابر بلاده، ويضرب اسمه على السكة، فلما حلف أرسل رسله فحلف عز الدين له، وتسلموا البلاد التي استقرت القاعدة على تسليمها. ووصل صلاح الدين إلى حران، فأقام بها مريضاً، وأمنت الدنيا، وسكنت الدهماء، وانحسمت مادة الفتن، وكان ذلك بتوصل مجاهد الدين قايماز، رحمه الله. وأما صلاح الدين فإنه طال مرضه بحران، وكان عنده من أهله أخوه الملك العادل، وله حينئذ حلب، وولده الملك العزيز عثمان، واشتد مرضه حتى أيسوا من عافيته، فحلف الناس لأولاده، وجعل لكل منهم شيئاً من البلاد معلوماً، وجعل أخاه العادل وصياً على الجميع، ثم إنه عوفي وعاد إلى دمشق في المحرم سنة اثنتين وثمانين وخمسمائة.
ولما كان مريضاً بحران كان عنده ابن عمه ناصر الدين محمد بن شيركوه، وله من الأقطاع حمص والرحبة، فسار من عنده إلى حمص، فاجتاز بحلب وأحضر جماعة من أحداثها وأعطاهم مالاً، ولما وصل إلى حمص راسل جماعة من الدمشقيين وواعدهم على تسليمهم البلد إليه إذا مات صلاح الدين، وأقام بحمص ينتظر موته ليسير إلى دمشق فيملكها، فعوفي وبلغه الخبر على جهته، فلم يمض غير قليل حتى مات ابن شيركوه ليلة عيد الأضحى فإنه شرب الخمر وأكثر منها، فأصبح ميتاً، فذكروا، والعهدة عليهم، أن صلاح الدين وضع عليه إنساناً يقال له الناصح بن العميد، وهو من دمشق، فحضر عنده، ونادمه وسقاه سماً، فلما أصبحوا من الغد لم يروا الناصح، فسألوا عنه، فقيل: إنه سار من ليلته إلى صلاح الدين؛ فكان هذا مما قوى الظن. فلما توفي أعطى أقطاعه لولده شيركوه، وعمره اثنتا عشرة سنة. وخلف ناصر الدين من الأموال والخيل والآلات شيئاً كثيراً، فحضر صلاح الدين في حمص واستعرض تركته، وأخذ أكثرها ولم يترك إلا ما لا خير فيه. وبلغني أن شيركوه بن ناصر الدين حضر عند صلاح الدين، بعد موت أبيه بسنة، فقال له: إلى أين بلغت من القرآن؟ فقال: إلى قوله تعالى: (إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً وسيصلون سعيراً) النساء 10، فعجب صلاح الدين والحاضرون من ذكائه. ذكر الفتنة بين التركمان والأكراد بديار الجزيرة والموصل في هذه السنة ابتدأت الفتنة بين التركمان والأكراد بديار الجزيرة والموصل وديار بكر وخلاط والشام وشهرزور وأذربيجان، وقتل فيها من الخلق ما لا يحصى، ودامت عدة سنين، وتقطعت الطرق، ونهبت الأموال، وأريقت الدماء. وكان سببها أن امرأة من التركمان تزوجت بإنسان تركماني، واجتازوا في طريقهم بقلعة من الزوزان للأكراد، فجاء أهلها وطلبوا من التركمان وليمة العرس، فامتنعوا من ذلك، وجرى بينهم كلام صاروا منه إلى القتال، فنزل صاحب تلك القلعة فأخذ الزوج فقتله، فهاجت الفتنة، وقام التركمان على ساق، وقتلوا جمعاً كثيراً من الأكراد، وثار الأكراد فقتلوا من التركمان أيضاً كذلك، وتفاقم الشر ودام. ثم إن مجاهد الدين قايماز، رحمه الله، جمع عنده جمعاً من رؤساء الأكراد والتركمان، وأصلح بينهم، وأعطاهم الخلع والثياب وغيرها، وأخرج عليهم مالاً جماً، فانقطعت الفتنة وكفى الله شرها، وعاد الناس إلى ما كانوا عليه من الطمأنينة والأمان. ذكر ملك الملثمين والعرب إفريقية وعودها إلى الموحدينقد ذكرنا سنة ثمانين ملك علي بن إسحق الملثم بجاية، وإرسال يعقوب ابن يوسف بن عبد المؤمن، صاحب المغرب، العساكر واستعادتها، فسار علي إلى إفريقية، فلما وصل إليها اجتمع سليم ورباح ومن هناك من العرب، وانضاف إليهم الترك الذين كانوا قد دخلوا من مصر مع قراقوش، وقد تقدم ذكر وصوله إليها، ودخل أيضاً من أتراك مصر مملوك لتقي الدين ابن أخي صلاح الدين، اسمه بوزابة، فكثر جمعهم، وقويت شوكتهم، فلما اجتمعوا بلغت عدتهم مبلغاً كثيراً، وكلهم كاره لدولة الموحدين، واتبعوا جميعهم علي ابن إسحاق الملثم، لأنه من بيت المملكة والرياسة القديمة، وانقادوا إليه، ولقبوه بأمير المسلمين، وقصدوا بلاد إفريقية فملكوها جميعها شرقاً وغرباً إلا مدينتي تونس والمهدية، فإن الموحدين أقاموا بهما، وحفظوهما على خوف وضيق شدة، وانضاف إلى المفسد الملثم كل مفسد في تلك الأرض، ومن يريد الفتنة والنهب والفساد والشر، فخربوا البلاد والحصون والقرى، وهتكوا الحزم، وقطعوا الأشجار.
وكان الوالي على إفريقية حينئذ عبد الواحد بن عبد الله الهنتاتي وهو بمدينة تونس، فأرسل إلى ملك المغرب يعقوب وهو بمراكش يعلمه الحال، وقصد اللثم جزيرة باشرا، وهي بقرب تونس، تشتمل على قرى كثيرة، فنازلها وأحاط بها، فطلب أهلا منه الأمان، فأمنهم، فلما دخلها العسكر نهبوا جميع ما فيها من الأموال والدواب والغلات، وسلبوا الناس حتى أخذوا ثيابهم، وامتدت الأيدي إلى النساء والصبيان، وتركوهم هلكى، فقصدوا مدينة تونس، فأما الأقوياء فكانوا يخدمون ويعملون ما يقوم بقوتهم، وأما الضعفاء فكانوا يستعطون ويسألون الناس؛ ودخل عليهم فصل الشتاء، فأهلكهم البرد ووقع فيهم الوباء، فأحصي الموتى منهم فكانوا اثنتي عشر ألفاً، هذا من موضع واحد، فما الظن بالباقي؟. ولما استولى الملثم على إفريقية قطع خطبة أولاد عبد المؤمن وخطب للإمام الناصر لدين الله الخليفة العباسي، وأرسل إليه يطلب الخلع والأعلام السود. وقصد في سنة اثنتين وثمانين مدينة قفصة فحصرها، فأخرج أهلها الموحدين من عساكر ولد عبد المؤمن وسلموها إلى الملثم، فرتب فيها جنداً من الملثمين والأتراك، وحصنها بالرجال مع حصانتها في البناء. وأما يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن فإنه لما وصله الخبر اختار من عساكره عشرين ألف فارس من الموحدين، وقصد قلة العسكر لقلة القوت في البلاد، ولما جرى فيها من التخريب والأذى، وسار في صفر سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة، فوصل إلى مدينة تونس، وأرسل ستة آلاف فارس مع ابن أخيه، فساروا إلى علي بن إسحق الملثم ليقاتلوه، وكان بقفصة، فوافوه، وكان مع الموحدين جماعة من الترك، فخامروا عليهم، فانهزم الموحدون، وقتل جماعة من مقدميهم، وكان ذلك في ربيع الأول سنة ثلاث وثمانين. فلما بلغ يعقوب الخبر أقام بمدينة تونس إلى نصف رجب من السنة، ثم خرج فيمن معه من العساكر يطلب الملثم والأتراك، فوصل إليهم، فالتقوا بالقرب من مدينة قابس، واقتتلوا، فانهزم الملثم ومن معه، فأكثر الموحدون القتل حتى كادوا يفنونهم، فلم ينج منهم إلا القليل فقصدوا البر، ورجع يعقوب من يومه إلى قابس ففتحها وأخذ منها أهل قراقوش وأولاده وحملهم إلى مراكش، وتوجه إلى مدينة قفصة فحصرها ثلاثة أشهر، وقطع أشجارها، وخرب ما حولها، فأرسل إليه الترك الذين فيها يطلبون الأمان لأنفسهم ولأهل البلد، فأجابهم إلى ذلك، وخرج الأتراك منها سالمين، وسير الأتراك إلى الثغور لما رأى من شجاعتهم ونكايتهم في العدو، وتسلم يعقوب البلد وقتل من فيه من الملثمين، وهدم أسواره، وترك المدينة مثل قرية، وظهر ما أنذر به المهدي بن تومرت، فإنه قال إنها تخرب أسوارها وتقطع أشجارها، وقد تقدم ذلك ذلك؛ فلما فرغ يعقوب من أمر قفصة واستقامت إفريقية عاد إلى مراكش، وكان وصوله إليها سنة أربع وثمانين وخمسمائة. ذكر عدة حوادثفي هذه السنة فارق الرضي أبو الخير إسماعيل القزويني الفقيه الشافعي بغداد، وكان مدرس النظامية بها، وعاد إلى قزوين، ودرس فيها بعده الشيخ أبو طالب المبارك صاحب ابن الخل، وكان من العلماء الصالحين. وفيها كان بني أهل الكرخ ببغداد وبين أهل باب البصرة فتنة عظيمة جرح فيها كثير منهم وقتل، ثم أصلح النقيب الظاهر بينهم. وفيها توفي الفقيه مهذب الدين عبد الله بن أسعد الموصلي، وكان عالماً بمذهب الشافعي، وله نظم حسن ونثر أجاد فهي، وكان من محاسن الدنيا، وكانت وفاته بحمص. ثم دخلت سنة اثنتين وثمانين وخمسمائة ذكر نقل العادل من حلب والملك العزيز إلى مصر وإخراج الأفضل من مصر إلى دمشق وإقطاعه إياها في هذه السنة أخرج صلاح الدين ولده الأفضل علياً من مصر إلى دمشق، وأقطعها له، وأخذ حلب من أخيه العادل، وسيره مع ولده العزيز عثمان إلى مصر، وجعل نائباً عنه، واستدعي تقي الدين منها.
وسبب ذلك أنه كان قد استناب تقي الدين بمصر، كما ذكرناه، وجعل معه ولده الأكبر الأفضل علياً، فأرسل تقي الدين يشكو من الأفضل، ويذكر أنه قد عجز عن جباية الخراج معه لأنه كان حليماً كريماً إذا أراد تقي الدين معاقبة أحد منعه؛ فأحضر ولده الأفضل، وقال لتقي الدين: لا تحتج في الخراج وغيره بحجة؛ وتغير عليه بذلك، وظن أنه يريد إخراج ولده الأفضل لينفرد بمصر حتى يملكها إذا مات صلاح الدين، فلما قوي هذا الخاطر عنده أحضر أخاه العادل من حلب وسيره إلى مصر ومعه ولده العزيز عثمان، واستدعى تقي الدين إلى الشام، فامتنع من الحضور، وجمع الأجناد والعساكر ليسير إلى المغرب، إلى مملوكه قراقوش، وكان قد استولى على جبال نفوسة وبرقة وغيرها، وقد كتب إليه يرغبه في تلك البلاد، فتجهز للمسير إليه، واستصحب معه أنجاد العسكر وأكثر منهم. فلم سمع ذلك صلاح الدين ساءه، وعلم أنه إن أرسل إليه يمنعه لم يجبه، فأرسل إليه يقول له: أريد أن تحضر عندي لأودعك، وأوصيك بما تفعله؛ فلما حضر عنده منعه، وزاد في إقطاعه، فصار إقطاعه عندي لأودعك، وأوصيك بما تفعله؛ فلما حضر عنده منعه، وزاد في إقطاعه، فصار إقطاعه حماة، ومنبج، والمعزة، وكفر طاب، وميافارقين، وجبل جور، بجميع أعمالها، وكان تقي الدين قد سير في مقدمته مملوكه بوزابة، فاتصل بقراقوش، وكان منهم ما ذكرناه سنة إحدى وثمانين وخمسمائة. وقد بلغني من خبير بأحوال صلاح الدين أنه إنما حمله على أخذ حلب من العادل وإعادة تقي الدين إلى الشام، أن صلاح الدين لما مرض بحران، على ما ذكرناه، أرجف بمصر أنه قد مات، فجرى من تقي الدين حركات من يريد أن يستبد بالملك، فلما عوفي صلاح الدين بلغه ذلك، فأرسل الفقيه عيس الهكاري، وكان كبير القدر عنده، مطاعاً في الجند، إلى مصر، وأمره بإخراج تقي الدين والمقام بمصر؛ فسار مجداً، فلم يشعر تقي الدين إلا وقد دخل الفقيه عيس إلى داره بالقاهرة، وأرسل إليه يأمره بالخروج منا، فطلب أن يمهل إلى أن يتجهز، فلم يفعلن وقال: تقيم خارج المدينة وتتجهز. فخرج وأظهر أنه يريد الدخول إلى الغرب، فقال له: اذهب حيث شئت؛ فلما سمع صلاح الدين الخبر أرسل إليه يطلبه، فسار إلى الشام، فأحسن إليه ولم يظهر له شيئاً مما كان لأنه كان حليماً، كريماً، صبوراً، رحمه الله. وأما أخذ حلب من العادل، فإن السبب فيه أنه كان من جملة جندها أمير كبير اسمه سليمان بن جندر، بينه وبين صلاح الدين صحبة قدية، قبل الملك، وكان صلاح الدين يعتمد عليه، وكان عاقلاً ذا مكر ودهاء، فاتفق أن الملك العادل لما كان بحلب مل يفعل معه ما كان يظنه، وقدم غيره عليه، فتأثر بذلك. فلما مرض صلاح الدين، وعوفي، سار إلى الشام، فسايره يوماً سليمان ابن جندر، فجرى حديث مرضه، فقال له سليمان: بأي رأي كنت تظن أنك تمضي إلى الصيد فلا يخالفونك؟ بالله ما تستحي يكون الطائر أهدى منك إلى المصلحة؟ قال: وكيف ذلك؟ وهو بضحك، قال: إذا أراد الطائر أن يعمل عشاً لفراخه قصد أعالي الشجر ليحمي فراخه، وأنت، سلمت الحصون إلى أهلك، وجعلت أولادك على الأرض. هذه حلب بيد أخيك، وحماه بيد تقي الدين، وحصن بيد ابن شيركوه، وابنك العزيز مع تقي الدين بمصر يخرجه أي وقت أراد، وهذا ابنك الآخر مع أخيك في خيمه يفعل به ما أراد. فقال له: صدقت، واكتم هذا الأمر؛ ثم أخذ حلب من أخيه، وأخرج تقي الدين من مصر، ثم أعطى أخاه العادل حران والرها وميافارقين ليخرجه من الشام ومصر، لتبقى لأولاده، فلم ينفعه ما فعل لما أراد الله تعالى نقل الملك عن أولاده على ما نذكر. ذكر وفاة البهلوان وملك أخيه قزلفي هذه السنة، في أولها، توفي البهلوان محمد بن إيلدكز، صاحب بلد الجبل والري وأصفهان وأذربيجان وأرانية وغيرها من البلاد، وكان عادلاً، حسن السيرة، عاقلاً، حليماً، ذا سياسة حسنة للملك، وكانت تلك البلاد في أيامه آمنة والرعايا مطمئنة، فلما مات جرى بأصفهان بين الشافعية والحنفية من الحروب والقتل والإحراق والنهب ما يجل عن الوصف، وكان قاضي البلد رأس الحنفية، وابن الخجندي رأس الشافعية، وكان بمدينة الري أيضاً فتنة عظيمة بني السنة والشيعة، وتفرق أهلها وقتل منهم، وخربت المدينة وغيرها من البلاد.
ولما مات البهلوان ملك أخوه قزل أرسلان واسمه عثمان، وكان السلطان طغرل بن أرسلان بن طغرل بن محمد بن ملكشاه مع البهلوان، والخطبة له في البلاد بالسلطنة، وليس له من الأمر شيء، وإنما البلاد والأمراء والأموال بحكم البهلوان، فلما مات البهلوان خرج طغرل عن حكم قزل، ولحق به جماعة من الأمراء والجند، فاستولى على بعض البلاد، وجرت بينه وبين قزل حروب نذكرها إن شاء الله تعالى. ذكر اختلاف الفرنج بالشام وإنحياز القمص صاحب طرابلس إلى صلاح كان القمص، صاحب طرابلس، واسمه ريمند بن ريمند الصنجيلي، قد تزوج بالقومصة، صاحبة طبرية، وانتقل إليها، وأقام عندها بطبرية، ومات ملك الفرنج بالشام، وكان مجذوماً، وأوصى بالملك إلى ابن أخت له، وكان صغيراً، فكفه القمص، وقام بسياسة الملك وتدبيره لأنه لم يكن للفرنج ذلك الوقت أكبر من شأناً، ولا أشجع ولا أجود رأياً منه، فطمع في الملك بسبب هذا الصغير؛ فاتفق أن الصغير توفي، فانتقل الملك إلى أمه، فبطل ما كان القمص يحدث نفسه به. ثم إن هذه الملكة هويت رجلاً من الفرنج الذين قدموا الشام من الغرب اسمه كي، فتزوجته، ونقلت الملك إليه، وجعلت التاج على رأسه، وأحضرت البطريك والقسوس والرهبان والإسبتارية والدواية والبارونية، وأعلمتهم أنها قد ردت الملك إليه، وأشهدتهم عليها بذلك، فأطاعوه، ودانوا له، فعظم ذلك على القمص، وسقط في يديه، طولب بحساب ما جبى من الأموال مدة ولاية ذلك الصبي، فأدعى أنه أنفقه عليه، وزاده ذلك نفوراً، وجاهر بالمشاقة والمباينة، وراسل صلاح الدين، وانتمى إليه، واعتضد به، وطلب منه المساعدة على بلوغ غرضه من الفرنج، ففرح صلاح الدين والمسلمون بذلك، ووعده النصرة، والسعي له في كل ما يريده، وضمن له أنه يجعله ملكاً مستقلاً للفرنج قاطبة، وكان عنده جماعة من فرسان القمص أسرى فأطلقهم، فحل ذلك عنده أعظم محل، وأظهر طاعة صلاح الدين، ووافقه على ما فعل جماعة من الفرنج، فاختلفت كلمتهم وتفرق شملهم، وكان ذلك من أعظم الأسباب الموجبة لفتح بلادهم، واستنفاذ البيت المقدس منهم، على ما نذكره إن شاء الله. وسير صلاح الدين السرايا من ناحية طبرية، فشنت الغارات على بلاد الفرنج، وخرجت سالمة غانمة، فوهن الفرنج بذلك، وضعفوا وتجرأ المسلمون عليهم وطمعوا فيهم. ذكر غدر البرنس أرناطكان البرنس أرناط، صاحب الكرك، من أعظم الفرنج وأخبثهم، وأشدهم عداوة للمسلمين، وأعظمهم ضرراً عليهم، فلما رأى صلاح الدين ذلك منه قصد بالحصر مرة بعد مرة، وبالغارة على بلاده كرة بعد أخرى، فذل، وخضع، وطلب الصلح من صلاح الدين، فأجابه إلى ذلك، وهادنه وتحالفا، وترددت القوافل من الشام إلى مصر، ومن مصر إلى الشام. فلا كان هذه السنة اجتاز به قافلة عظيمة غزيرة الأموال، كثيرة الرجال، ومعها جماعة صالحة من الأجناد، فغدر اللعين بهم، وأخذهم عن آخرهم، وغنم أموالهم ودوابهم وسلاحهم، وأودع السجون من أسره منهم؛ فأرسل إليه صلاح الدين يلومه، ويقبح فعله وغدره، ويتهدده إن لم يطلب الأسى والأموال، فلم يجب إلى ذلك، وأصر على الامتناع، فنذر صلاح الدين نذراً أن يقتله إن ظفر به، فكان ما نذكره إن شاء الله تعالى. ذكر عدة حوادثكان المنجون قديماً وحديثاً قد حكموا أن هذه السنة التاسع والعشرين من جمادى الآخرة تجتمع الكواكب الخمسة في برج الميزان، ويحدث باقترانها رياح شديدة، وتراب يهلك العباد ويخرب البلاد، فلما دخلت هذه السنة لم يكن لذلك صحة، ولم يهب من الرياح شيء البتة، حتى إن غلال الحنطة والشعير تأخر نجازها لعدم الهواء الذي يذري به الفلاحون، فأكذب الله أحدوثة المنجمين وأخزاهم. وفيها توفي عبد الله بن بري بن عبد الجبار بن بري النحوي المصري، وكان إماماً في النحو، رحمه الله تعالى. ثم دخلت سنة ثلاث وثمانين وخمسمائةاتفق أول هذه السنة يوم السبت، وهو يوم النوروز السلطاني، ورابع عشر آذار سنة ألف وأربع مائة وثمان وتسعين إسكندرية؛ وكان القمر والشمس في الحمل، واتفق أول سنة العرب، وأول سنة الفرس التي جددوها أخيراً، وأول سنة الروم، والشمس والقمر في أول البروج، وهذا يبعد وقوع مثله. ذكر حصر صلاح الدين الكرك
في هذه السنة كتب صلاح الدين إلى جميع البلاد يستنفر الناس للجهاد، وكتب إلى الموصل وديار الجزيرة وإربل وغيرها من بلاد الشرق، وإلى مصر وسائر بلاد الشام، يدعوهم إلى الجهاد، ويحثهم عليه، ويأمرهم بالتجهز له بغاية الإمكان. ثم خرج من دمشق، أواخر المحرم، في عسكرها الخاص فسار إلى رأس الماء، وتلاحقت به العساكر الشامية، فلما اجتمعوا جعل عليهم ولده الملك الأفضل علياً ليجتمع إليه من يرد إليه منها، وسار هو إلى بصرى، جريدة. وكان سبب مسيره وقصده إليها أنه أتته الأخبار أن البرنس أرناط، صاحب الكرك، يريد أن يقصد الحجاج ليأخذهم من طريقهم، وأظهر أنه إذا فرغ من أخذ الحجاج يرجع إلى طريق العسكر المصري يصدهم عن الوصول إلى صلاح الدين، فسار إلى بصرى ليمنع البرنس أرناط من طلب الحجاج، ويلزم بلده خوفاً عليه. وكان من الحجاج جماعة من أقاربه منهم محمد بن لاجين، وهو ابن أخت صلاح الدين، وغيره، فلما سمع أرناط بقرب صلاح الدين من بلده لم يفارقه، وانقطع عما طمع فيه، فوصل الحجاج سالمين؛ فلما وصلوا وفرغ سره من جهتهم سار إلى الكرك فحصره وضيق عليه الكرك والشوبك وغيرهما، فنهبوا وخربوا وأحرقوا، والبرنس محصور لا يقدر على المنع عن بلده، وسائر الفرنج قد لزموا طرف بلادهم، خوفاً من العسكر الذي مع ولده الأفضل، فتمكن من الحصر والنهب والتحريق والتخريب، هذا فعل صلاح الدين. ذكر الغارة على بلد عكاأرسل صلاح الدين إلى ولده الأفضل يأمره أن يرسل قطعة صالحة من الجيش إلى بلد عكا ينهبونه ويخربونه، فسير مظفر الدين كوكبري بن زين، وهو صاحب حران والرها، وأضاف إليه قايماز النجمي ودلدرم اليارقي، وهما من أكابر الأمراء، وغيرهما، فساروا ليلاً، وصبحوا صفورية أواخر صفر، فخرج إليهم الفرنج في جمع من الدواية والاسبتارية وغيرهما، فالتقوا هناك، وجرت بينهم حرب تشيب لها المفارق السود. ثم أنزل الله تعالى نصره على المسلمين، فانهزم الفرنج، وقتل منهم جماعة، وأسر الباقون، وفيمن قتل مقدم الاسبتارية، وكان من فرسان الفرنج المشهورين، وله النكايات العظيمة في المسلمين، ونهب المسلمون ما جاورهم من البلاد، وغنموا وسبوا، وعادوا سالمين، وكان عودهم على طبرية، وبها القمص، فلم ينكر ذلك، فكان فتحاً كثيراً، فإن الداوية والاسبتارية هم جمرة الفرنج، وسيرت البشائر إلى البلاد بذلك. ذكر عود صلاح الدين إلى عسكره ودخوله إلى الفرنج لما أتت صلاح الدين البشارة بهزيمة الاسبتارية والدواية، وقتل من قتل منهم، وأسر من أسر، عاد عن الكرك إلى العسكر الذي مع ولده الملك الأفضل، وقد تلاحقت سائر الأمداد والعساكر، واجتمع بهم، وساروا جميعاً، وعرض العسكر، فبلغت عدتهم اثني عشر ألف فارس ممن له الأقطاع والجامكية، وسوى المتطوعة، فعبا عسكره قلباً وجناحين، وميمنة وميسرة، وجالشية وساقة، وعرف كل منهم موضعه وموقفه، وأمره بملازمته، وسار على تعبئة، فنزل بالأقحوانة بقرب طبرية، وكان القمص قد انتمى إلى صلاح الدين، كما ذكرنا، وكبه متصلة إليه يعده النصرة، ويمنيه المعاضدة، وما يعدهم الشيطان إلا غروراً. فلما رأى الفرنج اجتماع العساكر الإسلامية، وتصميم العزم على قصد بلادهم، أرسلوا إلى القمص البطرك والقوس والرهبان، وكثيراً من الفرسان، فأنكروا عليه انتماءه إلى صلاح الدين، و قالوا له: لا شك أنك أسلمت، و إلا لم تصبر على ما فعل المسلمون أمس بالفرنج، يقتلون الداوية والاسبتارية، ويأسرونهم، ويجتازون بهم عليك، وأنت لا تنكر ذلك ولا تمنع عنه؛ ووافقهم على ذلك من عنده من عسكر طبرية وطرابلس، وتهدده البطرك أنه يحرمه، ويفسخ نكاح زوجته، إلى غير ذلك من التهديد؛ فلما رأى القمص شدة الأمر عليه خاف، فاعتذر وتنصل وتاب، فقبلوا عذره، وغفروا زلته، وطلبوا منه الموافقة على المسلمين، والمؤازرة على حفظ بلادهم، فأجابهم إلى المصالحة والانضمام إليهم، والاجتماع معهم، وسار معهم إلى ملك الفرنج، واجتمعت كلمتهم بعد فرقتهم، ولم تغن عنهم من الله شيئاً، وجمعوا فارسهم وراجلهم، ثم ساروا من عكا إلى صفورية، وهم يقدمون رجلاً ويؤخرون أخرى، قد ملئت قلوبهم رعباً. ذكر فتح صلاح الدين طبرية
لما اجتمع الفرنج وساروا إلى صفورية، جمع صلاح الدين أمراءه ووزراءه واستشارهم، فأشار أكثرهم عليه بترك اللقاء، وأن يضعف الفرنج بشن الغارات، وإخراب الولايات ومرة بعد مرة، فقال له بعض أمرائه: الرأي عندي أننا نجوس بلادهم، وننهب، ونخرب، ونحرق، ونسبي، فإن وقف أحد من عسكر الفرنج بن أيدينا لقيناه، فإن الناس بالمشرق يلعنوننا ويقولون ترك قتال الكفار، وأقبل يريد قتال المسلمين؛ والرأي أن نفعل فعلاً نعذر فيه ونكف الألسنة عنا؛ فقال صلاح الدين: الرأي عندي أن نلقي بجمع المسلمين جمع الكفار، فإن الأمور لا تجري بحكم الإنسان، ولا نعلم قدر الباقي من أعمارنا، ولا ينبغي أن نفرق هذا الجمع إلا بعد الجد بالجهاد. ثم رحل من الأقحوانة، اليوم الخامس من نزوله بها، وهو يوم الخميس لسبع بقين من ربيع الآخر، فسار حتى خلف طبرية وراء ظهره، وصعد جبلها، وتقدم حتى قارب الفرنج، فلم ير الفرنج من يمنعهم من القتال، ونزل جريدة إلى طبرية وقاتلهم، ونقب بعض أبراجها، وأخذ المدينة عنوة في ليلة، ولجأ من بها إلى القلعة التي لها، فامتنعوا بها، وفيها صاحبتها، ومعها أولادها، فنهب المدينة وأحرقها. فلما سمع الفرنج نزول صلاح الدين إلى طبرية وملكه المدينة، وأخذ ما فيها، وإحراقها، وإحراق ما تخلف مما لا يحمل، اجتمعوا للمشورة، فأشار بعضهم بالتقدم إلى المسلمين وقتالهم، ومنعهم عن طبرية، فقال القمص: إن طبرية لي ولزوجتي، وقد فعل صلاح الدين بالمدينة ما فعل، وبقي القلعة، وفيها زوجتي، وقد رضيت أن يأخذ القلعة وزوجتي وما لنا بها ويعود، فوالله لقد رأيت عساكر الإسلام قديماً وحديثاً ما رأيت مثل هذا العسكر الذي مع صلاح الدين كثرة وقوة، وإذا أخذ طبرية لا يمكنه المقام بها، فمتى فارقها وعاد عنها أخذناها، وإن أقام بها لا يقدر على المقام بها إلا بجميع عساكره، ولا يقدرون على الصبر طول الزمان عن أوطانهم وأهليهم، فيضطر إلى تركها، ونفتك من أسر منا. فقال له برنس أرناط، صاحب الكرك: قد أطلت في التخويف من المسلمين، ولا شك أنك تريدهم، وتميل إليهم، وإلا ما كنت تقول هذا، وأما قولك: إنهم كثيرون، فإن النار لا يضرها كثرة الحطب. فقال: أنا واحد منكم إن تقدمتم تقدمت، وإن تأخرتم تأخرت، وسترون ما يكون. فقوي عزمهم على التقدم إلى المسلمين وقتالهم، فرحلوا من معسكرهم الذي لزموه، وقربوا من عساكر الإسلام؛ فلما سمع صلاح الدين بذلك عاد عن طبرية إلى عسكره، وكان قريباً منه، وإنما كان قصده بمحاصرة طبرية أن يفارق الفرنج مكانهم لتمكن من قتالهم. وكان المسلمون قد نزلوا على الماء، والزمان قيظ شديد الحر، فوجد الفرنج العطش، ولم يتمكنوا من الوصول إلى ذلك الماء من المسلمين، وكانوا قد أفنوا ما هناك من ماء الصهاريج ولم يتمكنوا من الرجوع خوفاً من المسلمين، فبقوا على حالهم إلى الغد، وهو يوم السبت، وقد أخذ العطش منهم. وأما المسلمون فإنهم طمعوا فيهم، وكانوا من قبل يخافونهم، فباتوا يحرض بعضهم بعضاً، وقد وجدوا ريح النصر والظفر، وكلما رأوا حال الفرنج خلاف عادتهم مما ركبهم من الخذلان، زاد طمعهم وجرأتهم، فأكثروا التكبير والتهليل طول ليلتهم، ورتب السلطان تلك الليلة الجاليشية، وفرق فيهم النشاب. ذكر انهزام الفرنج بحطينأصبح صلاح الدين والمسلمون يوم السبت لخمس بقين من ربيع الآخر، فركبوا وتقدموا إلى الفرنج، فركب الفرنج، ودنا بعضهم من بعض، إلا أن الفرنج قد اشتد بهم العطش وانخذلوا، فاقتتلوا، واشتد القتال، وصبر الفريقان، ورمى جاليشية المسلمين من النشاب ما كان كالجراد المنتشر، فقتلوا من خيول الفرنج كثيراً. هذا القتال بينهم، والفرنج قد جمعوا نفوسهم براجلهم وهم يقاتلون سائرين نحو طبرية، لعلهم يردون الماء.
فلما علم صلاح الدين مقصدهم صدهم عن مرادهم، ووقف بالعسكر في وجوههم، وطاف بنفسه على المسلمين يحرضهم، ويأمرهم بما يصلحهم، وينهاهم عما يضرهم، والناس يأتمرون لقوله، ويقفون عند نهيه، فحمل مملوك من مماليكه الصبيان حملة منكرة على صف الفرنج، فقاتل قتالاً عجب منه الناس، ثم تكاثر الفرنج عليه فقتلوه، فحين قتل حمل المسلمون حملة منكرة فضعضعوا الكفار وقتلوا منهم كثيراً. فلما رأى القمص شدة الأمر علم أنهم لا طاقة لهم بالمسلمين، فاتفق هو وجماعته وحملوا على من يليهم وكان المقدم من المسلمين، في تلك الناحية، تقي الدين عمر ابن أخي صلاح الدين، فلما رأى حملة الفرنج حملة مكروب، علم أنه لا سبيل إلى الوقوف في وجوههم، فأمر أصحابه أن يفتحوا لهم طريقاً يخرجون منه، ففعلوا، فخرج القمص وأصحابه ثم التأم الصف. وكان بعض المتطوعة من المسلمين قد ألقى في تلك الأرض ناراً، وكان الحشيش كثيراً فاحترق، وكانت الريح على الفرنج، فحملت حر النار والدخان إليهم، فاجتمع عليهم العطش وحر الزمان وحر النار، والدخان، وحر القتال، فلما انهزم القمص سقط في أيديهم وكادوا يستسلمون، ثم علموا أنهم لا ينجيهم من الموت إلا الإقدام عليه، فحملوا حملات متداركة كادوا يزيلون بها المسلمين، على كثرتهم، عن مواقفهم لولا لطف الله بهم، إلا أن الفرنج لا يحملون حملة فيرجعون إلا وقد قتل منهم، فوهنوا لذلك وهناً عظيماً، فأحاط بهم المسلمون إحاطة الدائرة بقطرها، فارتفع من بقي من الفرنج إلى تل بناحية حطين، وأرادوا أن ينصبوا خيامهم، ويجموا نفوسهم به، فاشتد القتال لعيهم من سائر الجهات، ومنعوهم عما أرادوا، ولم يتمكنوا من نصب خيمة غير خيمة ملكهم، وأخذ المسلمون صليبهم الأعظم الذي يسمونه صليب الصلبوت، ويذكرون أن فيه قطعة من الخشبة التي صلب عليها المسيح، عليه السلام، بزعمهم، فكان أخذه عندهم من أعظم المصائب عليهم، وأيقنوا بعده بالقتل والهلاك، هذا والقتل والأسر يعملان في فرسانهم ورجالتهم، فبقي الملك على التل في مقدار مائة وخمسين فارساً من الفرسان المشهورين والشجعان المذكورين. فحكي لي عن الملك الأفضل، ولد صلاح الدين، قال: كنت إلى جانب أبي في ذلك الصاف، وهو أول مصاف شاهدته، فلما صار ملك الفرنج على التل في تلك الجماعة حملوا حملة منكرة على من بإزائهم من المسلمين حتى ألحقوهم بوالدي. قال: فنظرت إليه، وقد علته كآبة، وأربد لونه، وأمسك بلحيته، وتقدم، وهو يصيح: كذب الشيطان. قال: فعاد المسلمون على الفرنج، فرجعوا فصعدوا إلى التل، فلما رأيت الفرنج قد عادوا، والمسلمون يتبعونهم، صحت من فرحي: هزمناهم! فعاد الفرنج فحملوا حملة ثانية مثل الأولى حتى ألحقوا المسلمين بوالدي، وفعل مثل ما فعل أولاً، وعطف المسلمون عليهم فألحقوهم بالتل، فصحت أنا أيضاً: هزمناهم! لالتفت والدي إلي وقال: اسكت! ما نهزمهم حتى تسقط تلك الخيمة، قال: فهو يقول لي، وإذا الخيمة قد سقطت، فنزل السلطان وسجد شكراً لله تعالى، وبكى من فرحه. وكان سبب سقوطها أن الفرنج لما حملوا تلك الحملات ازدادوا عطشاً، وقد كانوا يرجون الخلاص في بعض تلك الحملات مما هم فيه، فلما لم يجدوا إلى الخلاص طريقاً، نزلوا عن دوابهم وجلسوا على الأرض، فصعد المسلمون إليهم، فألقوا خيمة الملك، وأسروهم على بكرة أبيهم، وفيهم الملك وأخوه والبرنس أرناط، صاحب الكرك، ولم يكن للفرنج أسد منه عداوة للمسلمين، وأسروا أيضاً صاحب جبيل، وابن هنفري، ومقدم الداوية، وكان من أعظم الفرنج شأناً، وأسروا أيضاً جماعة من الداوية، وجماعة من الاسبتارية، وكثر القتل والأسر فيهم، فكان من يرى القتلى لا يظن أنهم أسروا واحداً، ومن يرى الأسرى لا يظن أنهم قتلوا أحداً، وما أصيب الفرنج، منذ خرجوا إلى الساحل، وهو سنة إحدى وتسعين وأربعمائة إلى الآن، بمثل هذه الوقعة.
فلما فرغ المسلمون منهم نزل صلاح الدين في خيمته، وأحضر ملك الفرنج عنده، وبرنس صاحب الكرك، وأجلس الملك إلى جانبه وقد أهلكه العطش، فسقاه ماء مثلوجاً، فشرب، وأعطى فضله برنس صاحب الكرك، فشرب، فقال صلاح الدين: إن هذا الملعون لم يشرب الماء بإذني فينال أماني؛ ثم كلم البرنس، وقرعه بذنوبه، وعدد عليه غدارته، وقام إليه بنفسه فضرب رقبته وقال: كنت نذرت دفعتين أن أقتله إن ظفرت به: إحداهما لما أراد المسير إلى مكة والمدينة، والثانية لما أخذ القفل غدراً؛ فلما قتله وسحب وأخرج ارتعدت فرائض الملك، فسكن جأشه وأمنه. وأما القمص، صاحب طرابلس، فإنه لما نجا من المعركة، كما ذكرناه، وصل إلى صور، ثم قصد طرابلس، ولم يلبث إلا أياماً قلائل حتى مات غيظاً وحنقاً مما جرى على الفرنج خاصة، وعلى دين النصرانية عامة. ذكر عود صلاح الدين إلى طبرية وملك قلعتها مع المدينة لما فرغ صلاح الدين من هزيمة الفرنج أقام بموضعه باقي يومه، وأصبح يوم الأحد، فعاد إلى طبرية ونازلها، فأرسلت صاحبتها تطلب الأمان لها ولأولادها وأصحابها ومالها، فأجابها إلى ذلك، فخرجت بالجميع، فوفى لها، فسارت آمنة، ثم أمر بالملك وجماعة من أعيان الأسرى فأرسلوا إلى دمشق، وأمر بمن أسر من الداوية والاسبتارية أن يجمعوا ليقتلهم. ثم علم أن من عنده أسير لا يسمح به لما يرجوا من فدائه، فبذل في كل أسير من هذين الصنفين خمسين ديناراً مصرية، فأحضر عنده في الحال مائتا أسير منهم، فأمر بهم فضربت أعناقهم، وإنما خص هؤلاء بالقتل لأنهم أشد شوكة من جميع الفرنج، فأراح الناس من شرهم؛ وكتب إلى نائبه خص هؤلاء بالقتل لأنهم أشد شوكة من جميع الفرنج، فأراح الناس من شرهم؛ وكتب إلى نائبه بدمشق ليقتل من دخل البلد منهم سواء كان له أو لغيره، ففعل ذلك، ولقد اجتزت بموضع الوقعة بعدها بنحو سنة، فرأيت الأرض ملأى من عظامهم تبين على البعد، منها المجتمع بعضه على بعض، ومنها المفترق، هذا سوى ما جحفته السيول، وأخذته السباع في تلك الأكام والوهاد. ذكر فتح مدينة عكالما فرغ صلاح الدين من طبرية سار عنها يوم الثلاثاء ووصل إلى عكا يوم الأربعاء، وقد صعد أهلها على سورها يظهرون الامتناع والحفظ، فعجب هو والناس من ذلك لأنهم علموا أن عساكرهم من فارس وراجل بين قتيل وأسير، وأنهم لم يسلم منهم إلا القليل، إلا أنه نزل يومه، وركب يوم الخميس، وقد صمم على الزحف إلى البلد وقتاله، فبينما هو ينظر من أين يزحف ويقاتل إذ خرج كثير من ألها يضرعون، ويطلبون الأمان، فأجابهم إلى ذلك، وأمنهم على أنفسهم وأموالهم، وخيرهم بين الإقامة والظعن، فاختاروا الرحيل خوفاً من المسلمين، وساروا عنها متفرقين، وحملوا ما أمكنهم حمله من أموالهم، وتركوا الباقي على حاله. ودخل المسلمون إليها يوم الجمعة مستهل جمادى الأولى، وصلوا بها الجمعة في جامع كان للمسلمين قديماً، ثم جعله الفرنج ببيعة، ثم جعله صلاح الدين جامعاً، وهذه الجمعة أول جمعة أقيمت بالساحل الشامي بعد أن ملكه الفرنج. وسلم البلد إلى ولده الأفضل، وأعطى جميع ما كان فيه للداوية من أقطاع وضياع وغير ذلك للفقيه عيسى، وغنم المسلمون ما بقي مما لم يطق الفرنج حمله، وكان من كمثرته يعجز الإحصاء عنه، فرأوا فيها من الذهب والجوهر والسقلاط، والبندقي، والشكر، والسلاح، وغير ذلك من أنواع الأمتعة كثيراً، فإنها كانت مقصداً للتجار الفرنج والروم وغيرهم، من أقصى البلاد وأدناها، وكان كثير منها قد خزنه التجار، وسافروا عنه لكساده، فلم يكن له من ينقله، ففرق صلاح الدين وابنه الأفضل ذلك جميعه على أصحابهما، وأكثر ذلك فعله الأفضل لأنه كان مقيماً بالبلد، وأنت شيمته في الكرم معروفة. و أقام صلاح الدين بعكا عدة أيام لإصلاح حالها. وتقرير قواعدها. ذكر فتح مجدليابةلما هزم صلاح الدين الفرنج أرسل إلى أخيه العادي بمصر يبشره بذلك، ويأمره بالمسير إلى بلاد الفرنج من جهة مصر بمن بقي عنده من العسكر، ومحاصرة ما يليه منها، فسارع إلى ذلك، وسار عن مصر فنازل حصن مجليابة وحصره وغنم ما فيه. وورد كتابه بذلك إلى صلاح الدين، وكانت بشارة كبيرة. ذكر فتح عدة حصون
في مدة مقام صلاح الدين بعكا تفرق عسكره إلى الناصرة، وقيسارية، وحيفا، وصفورية، ومعليا، والشقيف، والفولة، وغيرها من البلاد المجاورة لعكا، فملكوها ونهبوها وأسروا رجالها، وسبوا نساءها وأطفالها، وقدموا من ذلك بما سد القضاء، وسير تقي الدين فنزل على تبنين ليقطع المرة عنها وعن صور، وسير حسام الدين عمر بن لاجين في عسكره إلى نابلس فدخلها وحصر قلعتها واستنزل من فيها بالأمان، وتسلم القلعة، وأقام أهل البلد به، وأقرهم على أملاكهم وأموالهم. ذكر فتح يافالما خرج العادل من مصر، وفتح مجدليابة، كما ذكرنا، سار إلى مدينة يافا، وهي على الساحل، فحصرها وملكها عنوة، ونهبها، وأسر الرجال، وسبى الحريم، وجرى على أهلها ما لم يجر على أحد من أهل تلك البلاد. وكان عندي جارية من أهلها، وأنا بحلب، ومعها طفل عمره نحو سنة، فسقط من يدها فانسلخ وجهه، فبكت عليه كثيراً، فسكنتها وأعلمتها أنه ليس بولدها ما يوجب البكاء؛ فقالت: ما له أبكي، إنما أبكي لما جرى علينا. كان لي ستة أخوة هلكوا جميعهم، وزوج أختان لا أعلم ما كان منهم. هذا من امرأة واحدة والباقي بالنسبة، ورأيت بحلب امرأة فرنجية قد جاءت مع سيدها إلى باب، فطرقه سيدها، فخرج صاحب البيت فكلمهما، ثم أخرج امرأة فرنجية، فحين رأتها الأخرى صاحتا واعتنقتا، وهما تصرخان وتبكيان، وسقطتا إلى الأرض، ثم قعدتا تتحدثان، وإذا هما أختان؛ وكان لهما عدة من الأهل ليس لهما علم بأحد منهم. ذكر فتح تبنين وصيدا وجبيل وبيروتفأما تبنين، فقد ذكرنا إنفاذ صلاح الدين تقي الدين ابن أخيه إلى تبنين، فلما وصلها نازلها، وأقام عليها، فرأى حصرها لا يتم إلا بوصول عمه صلاح الدين إليه، فأرسل إليه يعلمه الحال ويحثه على الوصول إليه، فرحل ثامن جمادى الأولى، ونزل عليه في الحادي عشر منه، فحصرها، وضايقها، وقاتلها بالزحف، وهي من القلاع المنيعة على جبل، فلما ضاق عليهم الأمر واشتد الحصر أطلقوا من عندهم من أسرى المسلمين، وهم يزيدون على مائة رجل، فلما دخلوا العسكر أحضرهم صلاح الدين وكساهم، وأعطاهم نفقة، وسيرهم إلى أهليهم. وبقي الفرنج كذلك خمسة أيام ثم أرسلوا يطلبون الأمان، فأمنهم على أنفسهم فسلموها إليه، ووفى لهم وسيرهم إلى مأمنهم. وأما صيدا فإن صلاح الدين لما فرغ من تبنين رحل عنها إلى صيدا، فاجتاز في طريقه بصرفند فأخذها صفواً عفواً بغير قتال، وسار عنها إلى صيدا، وهي من مدن الساحل المعروفة، فلما سمع صاحبها بمسيره نحوه سار عنها وتركها فارغة من مانع ومدافع. فلما وصلها صلاح الدين تسلمها ساعة وصوله وكان ملكها حادي عشر جمادى الأولى. وأما بيروت فهي من أحصن مدن الساحل وأنزهها أطيبها. فلما فتح صلاح الدين صيدا سار عنها من يومه نحو بيروت ووصل إليها من الغد فرأى أهلها قد صعدوا عل سورها وأظهروا القوة والجلد والعدة وقاتلوا على سورها عدة أيام قتالاً شديداً واغتروا بحصانة البلد، وظنوا أنهم قادرون على حفظه، وزحف المسلمون إليهم مرة بعد مرة، فبينما الفرنج على السور يقاتلون إذ سمعوا من البلد جلبة عظيمة وغلبة زائدة، فأتاهم من أخبرهم أن البلد قد دخله المسلمون من الناحية الأخرى قهراً وغلبة، فأرسلوا ينظرون ما الخبر وإذا ليس له صحة، فأرادوا تسكين من به فلم يمكنهم ذلك لكثرة ما اجتمع فيه من السواد، فلما خافوا على أنفسهم من الاختلاف الواقع أرسلوا يطلبون الأمان، فأمنهم على أنفسهم وأموالهم وتسلمها في التاسع والعشرين من جمادى الأولى من السنة فكان مدة حصرها ثمانية أيام. وأما جبيل فإن صاحبها كان من جملة الأسى الذين سيروا إلى دمشق مع ملكهم فتحدث مع نائب صلاح الدين بدمشق في تسليم جبيل على شرط إطلاقه، فعرف صلاح الدين بذلك، فأحضره مقيداً عنده تحت الاستظهار والاحتياط، وكان العسكر حينئذ على بيروت، فسلم حصنه وأطلق أسرى المسلمين الذين به، وأطلقه صلاح الدين كما شرط له، وكان صاحب جبيل هذا من أعيان الفرنج وأصحاب الرأي والمكر والشر به يضرب المثل بينهم، وكان للمسلمين منه عدو أزرق، وكان إطلاقه من الأسباب الموهنة للمسلمين على ما يأتي بيانه. ذكر خروج المركيش إلى صور
لما انهزم القمص صاحب طرابلس من حطين إلى مدينة صور أقام بها، وهي أعظم بلاد الساحل حصانة وأشدها امتناعاً على من رامها، فلما رأى السلطان قد ملك تبنين وصيدا وبيوت، خاف أن يقصد صلاح الدين صور وهي فارغة ممن يقاتل فيها ويحميها ويمنعها فلا يقوى على حفظها، وتركها وسار إلى مدينة طرابلس فبقيت صور شاغرة لا مانع لها ولا عاصم من المسلمين، فلو بدأ بها صلاح الدين قبل تبنين وغيرها لأخذها بغير مشقة، لكنه استعظمها لحصانتها فأراد أن يفرغ باله مما يجاورها من نواحيها ليسهر أخذها، فكان ذلك سبب حفظها وكان أمر الله قدراً مقدوراً، واتفق أن إنساناً من الفرنج الذين داخل البحر يقال له المركيش، لعنه الله، خرج في البحر بمال كثير للزيارة والتجارة، ولم يشعر بما كان من الفرنج فأرسى بعكا، وقد رابه ما رأى من ترك عوائد الفرنج عند وصول المراكب من الفرنج وضرب الأجراس وغير ذلك، وما رأى أيضاً من زي أهل البلد، فوقف ولم يدر ما الخبر، وكانت الريح قد ركدت، فأرسل الملك الأفضل إليه بعض أصحابه في سفينة يبصر من هو وما يريد، فأتاه القاصد فسأله المركيش عن الأخبار لما أنكره فأخبره بكسرة الفرنج وأخذ عكا وغيرها، وأعلمه أن صور بيد الفرنج وعسقيلان وغيرها، وحكى الأمر له على وجهه فلم يمكنه الحركة لعدم الريح، فرد الرسول يطلب الأمان ليدخل البلد بما معه من متاع ومال، فأجيب إلى ذلك فردده مراراً كل مرة يطلب شيئاً لم يطلبه في المرة الأولى، وهو يفعل ذلك انتظاراً لهبوب الهواء ليسير به، فبينما هو في مراجعاته إذ هبت الريح فسار نحو صور، وسير الملك الأفضل الشواني في طلبه فلم يدركوه، فأتى صور وقد اجتمع بها من الفرنج خلق كثير لأن صلاح الدين كان كلما فتح مدينة من عكا وبيوت وغيرهما ما ذكرنا أعطى أهلها الأمان، فساروا كلهم إلى صور وكثر الجمع بها إلا أنهم ليس لهم رأس يجمعهم، ولا مقدم يقاتل بهم، وليسوا أهل حرب، وهم عازمون على مراسلة صلاح الدين وطلب الأمان وتسليم البلد إليه، فأتاهم المركيش وهم على ذلك العزم، فردهم عنه وقوى نفوسهم وضمن لهم حفظ المدينة وبذل ما معه من الأموال وشرط عليهم أن تكون المدينة وأعمالها له دون غيره، فأجابوه إلى ذلك، فأخذ أيمانهم عليه وأقام عندهم ودبر أحوالهم، وكان من شياطين الإنس حسن التدبير والحفظ، وله شجاعة عظيمة، وشرع في تحصينها فجدد حفر خنادقها وعمل أسوارها، وزاد في حصانتها واتفق من بها على الحفظ والقتال دونها. ذكر فتح عسقلان وما يجاورهالما ملك صلاح الدين بيروت وجبيل وغيرهما، كان أمر عسقلان والقدس أهم عنده من غيرهما لأسباب منها أنهما على طريق مصر، يقطع بينهما وبين الشام. وكان يختار أن تتصل الولايات له ليسهل خروج العسكر منها ودخولهم إليها، ولما في فتح القدس من الذكر الجميل والصيت العظيم، إلى غير ذلك من الأغراض، فسار عن بيروت نحو عسقلان، واجتمع بأخيه العادل ومن معه من عساكر مصر، ونازلوها يوم الأحد سادس عشر جمادى الآخرة، وكان صلاح الدين قد أحضر ملك الفرنج ومقدم الداوية إليه من دمشق، وقال لهما: إن سلمتما البلاد إلي فلكما الأمان؛ فأرسلا إلى من بعسقلان من الفرنج يأمرانهم بتسليم البلد، فلم يسمعوا أمرهما وردوا عليهما أقبح رد وجبهوهما بما يسوءهما. فلما رأى السلطان ذلك جد في قتال المدينة ونصب المجانيق عليها، وزحف مرة بعد أخرى، وتقدم النقابون إلى السور، فنالوا من باشورته شيئاً. هذا وملكهم يكرر المراسلات إليهم بالتسليم، ويشير عليهم، ويعدهم أنه إذا أطلق من الأسر أضرم البلاد على المسلمين ناراً، واستنجد الفرنج من البحر، و أجلب الخيل والرجل إليهم من أقاصي بلاد الفرنج وأدانيها، وهم لا يجيبون إلى ما يقول ولا يسمعون ما يشير به.
ولما رأوا أنهم كل يوم يزدادون ضعفاً ووهناً، وإذا قتل منهم الرجل لا يجدون له عوضاً، ولا لهم نجدة ينتظرونها، راسلوا ملكهم المأسور في تسليم البلد على شروط اقترحوها، فأجابهم صلاح الدين إليها، وكانوا قتلوا في الحصار أميراً كبيراً من المهرانية، فخافوا عند مفارقة البلد أن عشيرته يقتلون منهم بثأره، فاحتاطوا فيما اشترطوا لأنفسهم، فأجيبوا إلى ذلك جميعه، وسلموا المدينة سلخ جمادى الآخرة من السنة، وكانت مدة الحصار أربعة عشر يوماً، وسيرهم صلاح الدين ونساءهم وأموالهم وأولادهم إلى بيت القدس، ووفي لهم بالأمان. ذكر فتح البلاد والحصون المجاورة لعسقلان.لما فتح صلاح الدين عسقلان أقام بظاهرها، وبث السرايا في أطراف البلاد المجاورة لها، ففتحوا الرملة، والداروم، وغزة، ومشهد إبراهيم الخليل، عليه السلام، ويبنى، وبيت لحم، وبيت جبريل، والنظرون، وكل ما كان للداوية. ذكر فتح البيت المقدسلما فرغ صلاح الدين من أمر عسقلان وما يجاورها من البلاد، على ما تقدم، وكان قد أرسل إلى مصر أخرج الأسطول الذي بها في جمع من المقاتلة، ومقدمهم حسام الدين لؤلؤ الحاجب، وهو معروف بالشجاعة، والشهامة، ويمن النقيبة، فأقاموا في البحر يقطعون الطريق على الفرنج، كلما رأوا لهم مركباً غنموه، وشانياً أخذوه، فحين وصل الأسطول وخلا سره من تلك الناحية سار عن عسقلان إلى البيت المقدس، وكان به البطرك المعظم عندهم، وهو أعظم شأناً من ملكهم، وبه أيضاً باليان بن بيرزان، صاحب الرملة، وكانت مرتبته عندهم تقارب مرتبة الملك، وبه أيضاً من خلص من فرسانهم من حطين، وقد جمعوا وحشدوا، واجتمع أهل تلك النواحي، عسقلان وغيرها، فاجتمع به كثير من الخلق، كلهم يرى الموت أيسر عليه من أن يملك المسلمون البيت المقدس ويأخذوه منهم، ويرى أن بذل نفسه وماله وأولاده بعض ما يجب عليه من حفظه، وحص | |
|
 | |
الشيخ عودة الشيخ عودة

عدد المساهمات : 1748 تاريخ التسجيل : 28/09/2008 العمر : 73
 | موضوع: رد: كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير الخميس فبراير 27, 2014 6:46 am | |
| ومحاصرتها
لما فتح صلاح الدين البيت المقدس أقام بظاهره إلى الخامس والعشرين من شعبان يرتب أمور البلد وأحواله، وتقدم بعمل الربط والمدارس، فجعل دار الاسبتار مدرسة للشافعية، وهي في غاية ما يكون من الحسن؛ فلما فرغ من أمر البلد سار إلى مدينة صور، وكانت قد اجتمع فيها من الفرنج عالم كثير، وقد صار المركيش صاحبها والحاكم فيها، وقد ساسهم أحسن سياسة، وبالغ في تحصين البلد، ووصل صلاح الدين إلى عكا، وأقام بها أياماً، فلما سمع المركيش بوصوله إليها جد في عمل سور صور وخنادقها وتعميقها، ووصلها من البحر إلى البحر من الجانب الآخر، فصارت المدينة كالجزيرة في وسط الماء لا يمكن الوصول إليها ولا الدنو منها. ثم رحل صلاح الدين من عكا، فوصل إلى صور تاسع شهر رمضان، فنزل على نهر قريب من البلد بحيث يراه، حتى اجتمع الناس وتلاحقوا، وسار في الثاني والعشرين من رمضان، فنزل على تل يقارب سور البلد، بحيث يرى القتال، وقسم القتال على العسكر كل جمع منهم له وقت معلوم يقاتلون فيه، بحيث يتصل القتال على أهل البلد لحفظه، وعليه الخنادق التي قد وصلت من البحر إلى البحر، فلا يكاد الطير يطير عليها، فإن المدينة كالكف في البحر، والساعد متصل بالبر والبحر من جانبي الساعد، والقتال إنما هو في الساعد، فزنف المسلمون مرة بالمجانيق، والعرادات، والجروخ، والدبابات، وكان أهل صلاح الدين يتناوبون القتال مثل: ولده الأفضل، وولده الظاهر غازي، وأخيه العادل بن أيوب، وابن أخيه تقي الدين، وكذلك سائر الأمراء. وكان للفرنج شوان وحراقات يركبون فيها في البحر، ويقفون من جانبي الموضع الذي يقاتل المسلمون منه أهل البلد، فيرمون المسلمين من جانبهم بالجوخ، ويقاتلونهم. وكان ذلك يعظم عليهم، لأن أهل البلد يقاتلونهم من بين أيديهم، وأصحاب الشواني يقاتلونهم من جانبيهم، فكانت سهامهم تنفذ من أحد الجانبين إلى الجانب الآخر لضيق الموضع، فكثرت الجراحات في المسلمين والقتل، ولم يتمكنوا من الدنو إلى البلد؛ فأرسل صلاح الدين إلى الشواني التي جاءت من مصر، وهي عشر قطع، وكانت بعكا، فأحضرها برجالها ومقاتلتها وعدتها، وكانت في البحر تمنع شواني أه صور من الخروج إلى قتال المسلمين، فتمكن المسلمون حينئذ من القرب من البلد، ومن قتالهن فقاتلوه براً وبحراً وضايقوه حتى كادوا يظفرون، فجاءت الأقدار بما لم يكن في الحساب، وذلك أن خمس قطع من شواني المسلمين باتت، في بعض تلك الليالي، مقابل ميناء صور ليمنعوا من الخروج منه والدخول إليه، فباتوا ليلتهم يحرسون، وكان مقدمهم عبد السلام المغربي الموصوف بالحذق في صناعته وشجاعته، فلما كان وقت السحر أمنوا فناموا، فما شعروا إلا بشواني الفرنج قد نازلتهم وضايقتهم، فأوقعت بهم، فقتلوا من أرادوا قتله، وأخذوا الباقين بمراكبهم، وأدخلوهم ميناء صور، والمسلمون في البر ينظرون إليهم، ورمى جماعة من المسلمين أنفسهم من الشواني في البحر، فمنهم من سبح فنجا، ومنهم من غريق. وتقدم السلطان إلى الشواني الباقية بالمسير إلى بيروت لعدم انتفاعه بها لقلتها، فسارت، فتبعها شواين الفرنج، فحين رأى من في شواني المسلمين الفرنج مجدين في طلبهم ألقوا نفوسهم في شوانيهم إلى البر فنجوا وتركوها، فأخذها صلاح الدين، ونقضها وعاد إلى مقاتلة صور في البر، وكان ذلك قليل الجدوى لضيق المجال. وفي بعض الأيام خرج الفرنج فقاتلوا المسلمين من وراء خنادقهم، فاشتد القتال بين الفريقين، ودام إلى آخر النهار؛ كان خروجهم قبل العصر، وأسر مهم فارس كبير مشهور، بعد أن كثر القتال والقتل عليه من الفريقين، لما سقط، فلما أسر قتل، وبقوا كذلك عدة أيام. ذكر الرحيل عن صور إلى عكا وتفريق العساكر
لما رأى صلاح الدين أن أمر صور يطول رحل عنها، وهذه كانت عادته، متى ثبت البلد بين يديه ضجر منه ومن حصاره فرحل عنه. وكان هذه السنة لم يطل مقامه على مدينة بل فتح الجميع في الأيام القريبة، كما ذكرناه، بغير تعب ولا مشقة. فلما رأى هو وأصحابه شدة أمر صور ملوها، وطلبوا الانتقال عنها، ولم يكن لأحد ذنب في أمرها غير صلاح الدين، فإنه هو جهز إليها جنود الفرنج، وأمدها بالرجال والأموال من أهل عكا وعسقلان والقدس وغير ذلك، كما سبق ذكره؛ كان يعطيهم الأمان ويرسلهم إلى صور، فصار فيها من سلم من فرسان الفرنج بالساحل، بأموالهم وأموال التجار وغيرهم، فحفظوا المدينة وراسلوا الفرنج داخل البحر يستمدونهم، فأجابوهم بالتلبية لدعوتهم، ووعدوهم بالنصرة، وأمروهم بحفظ صور لتكون دار هجرتهم يحتمون بها ويلجأون إليها، فزادهم ذلك حرصاً على حفظها والذب عنها. وسنذكر إن شاء الله ما صار إليه الأمر بعد ذلك ليعلم أن الملك لا ينبغي أن يترك الحزم، وإن ساعدته الأقدار، فلأن يعجز حازماً خير له من أن يظفر مفرطاً، مضيعاً للحزم، وأعذر له عند الناس. ولما أراد الرحيل استشار أمراءه، فاختلفوا، فجماعة يقولون: الرأي أن نرحل، فقد جرح الرجال، وقتلوا، وملوا، وفنيت النفقات، وهذا الشتاء قد حضر، والشوط بطين، فنريح ونستريح في هذا البرد، فإذا جاء الربيع اجتمعنا وعاودناها وغيرها. وكان هذا قول الأغنياء منهم، وكأنهم خافوا أن السلطان يقترض منهم ما ينفقه في العسكر إذا أقام لخلو الخزائن وبيوت الأموال من الدرهم والدينار، فإنه كان يخرج كل ما حمل إليه منها. وقالت الطائفة الأخرى: الرأي أن نصابر البلد ونضايقه، فهو الذي يعتمدون عليه من حصونهم، ومتى أخذناه منهم انقطع طمع من داخل البحر من هذا الجانب وأخذنا باقي البلاد صفواً عفواً. فبقي صلاح الدين متردداً بين الرحيل والإقامة، فلما رأى من يرى الرحيل إقامته أخل بما رد إليه من المحاربة والرمي بالمنجنيق، واعتذروا بجراح رجالهم، وأنهم قد أرسلوا بعضهم ليحضروا نفقاتهم والعلوفات لدوابهم والأقوات لهم، إلى غير ذلك من الأعذار، فصاروا مقيمين بغير قتال، فاضطر إلى الرحيل، فرحل عنها آخر شوال، وكان أول كانون الأول، إلى عكا، فأذن للعساكر جميعها بالعود إلى أوطانهم والاستراحة في الشتاء، والعود في الربيع، فعادت عساكر الشرق والموصل وغيرها، وعساكر الشام، وعساكر مصرن وبقي حلقته الخاص مقيماً بعكا، فنزل بقلعتها، ورد أمر البلد إلى عز الدين جورديك، وهو من أكابر المماليك النورية، جمع الديانة والشجاعة وحسن السيرة. ذكر فتح هونينلما فتح صلاح الدين تبنين امتنع من بهونين من تسليمها، وهي من أحسن القلاع وأمنعها، فلم ير التعريج عليها ولا الاشتغال بمحاصرتها، بل سير إليها جماعة من العسكر والأمراء فحصروها، ومنعوا من حمل الميرة إليها؛ واشتغل بما تقدم ذكره من فتح عسقلان والبيت المقدس وغير ذلك، فلما كان يحاصر مدينة صور أرسل من فيها يطلبون الأمان، فأمنهم، فسلموا، ونزلوا منها فوفى لهم بأمانهم. ذكر حصر صفد وكوكب والكركلما سار صلاح الدين إلى عسقلان جعل على قلعة كوكب، وهي مطلة على الأردن، من يحصرها، ويحفظ الطريق للمجتازين لئلا ينزل من به من الفرنج يقطعونه، وسير طائفة أخرى من العسكر أيضاً إلى قلعة صفد فحصروها، وهي مطلة على مدينة طبرية. وكان حصن كوكب للإسبتار، وحصن صفد للداوية، وهما قريبان من حطين، موضع المصاف، فلجأ إليها جمع ممن سلم من الداوية والإسبتار فحموهما، فلما حصرهما المسلمون استراح الناس من شر من فيهما، واتصلت الطرق حتى كان يسير فيها المنفرد فلا يخاف.
وكان مقدم الجماعة الذين يحصرون قلعة كوكب أميراً يقال له سيف الدين، وهو أخو جاولي الأسدي، وكان شهماً شجاعاً، يرجع إلى دين وعبادة، فأقام عليه إلى آخر شوال، وكان أصحابه يحرسون نوباً مرتبة، فلما كان آخر ليلة من شوال غفل الذي كانت نوبته في الحراسة، وكان قد صلى ورده من الليل إلى السحر، وكانت ليلة كثيرة الرعد والبرق، والريح والمطر، فلم يشعر المسلمون وهم نازلون إلا والفرنج قد خالطوهم بالسيوف، ووضعوا السلاح فيهم، فقتلوهم أجمعين، وأخذوا ما كان عندهم من طعام وسلاح وغيره وعادوا إلى قلعتهم، فقووا بذلك قوة عظيمة أمكنتهم أن يحفظوا قلعتهم إلى أن أخذت أواخر سنة أربع وثمانين، على ما سنذكره إن شاء الله. وأتى الخبر إلى صلاح الدين بذلك، عند رحيله عن صور، فعظم ذلك عليه، مضافاً إلى ما ناله من أخذ شوانيه ومن فيها، ورحيله عن صور، ثم رتب على حصن كوكب الأمير قايماز النجمي في جماعة أخرى من الأجناد، فحصروها. ذكر الفتنة بعرفات وقتل ابن المقدمفي هذه السنة، يوم عرفة، قتل شمس الدين محمد بن عبد الملك المعروف بابن المقدم بعرفات، وهو أكبر الأمراء الصلاحية، وقد تقدم من ذكره ما فيه كفاية. وسبب قتله أنه لما فتح المسلمون البيت المقدس طلب إذناً من صلاح الدين ليحج ويحرم من القدس، ويجمع في سنة بين الجهاد والحج وزيارة الخليل، عليه السلام، وما بالشام من مشاهد الأنبياء، وبين زيارة رسول الله صلى الله عليه وسلم أجمعين، فأذن له. وكان قد اجتمع تلك السنة من الحجاج بالشام الخلق العظيم من البلاد: العراق، والموصل، وديار بكر، والجزيرة، وخلاط، وبلاد الروم ومصر وغيرها، ليجمعوا بين زيارة البيت المقدس ومكة، فجعل ابن المقدم أميراً عليهم فساروا حتى وصلوا إلى عرفات سالمين، ووقفوا في تلك المشاعر، وأدوا الواجب والسنة. فلما كان عشية عرفة تجهز هو وأصحابه ليسيروا من عرفات، فأمر بضرب كوساته التي هي أمارة الرحيل، فضربها أصحابه، فأرسل إليه أمير الحاج العراقي، وهو مجبر الدين طاش تكين، ينهاه عن الإفاضة من عرفات قبله، ويأمره بكف أصحابه عن ضرب كوساته، فأرسل إليه : إني ليس لي معك تعلق، أنت أمير الحاج العراقي، وأنا أمير الحاج الشامي، وكل منا يفعل ما يراه ويختاره؛ وسار ولم يقف، ولم يسمع قوله، فلما رأى طاش تكين إصراره على مخالفته ركب في أصحابه وأجناده، وتبعه من غوغاء الحاج العراقي وبطاطيهم، وطاعتهم، والعالم الكثير، والجم الغفير، وقصدوا حاج الشام مهولين عليهم، فلما قربوا منهم خرج الأمر من الضبط، وعجزوا عن تلافيه، فهجم طماعة العراق على حاج الشام وفتكوا فيهم، وقتلوا جماعة ونهيت أموالهم وسبيت جماعة من نسائهم، إلا أنهن رددن عليهم، وجرح ابن المقدم عدة جراحات، وكان يكف أصحابه عن القتال، ولو أذن لهم لانتصف منهم وزاد، لكنه راقب الله تعالى، وحرمة المكان واليوم، فلما أثخن بالجراحات أخذه طاش تكين إلى خيمته، وأنزله عنده ليمرضه ويستدرك الفارط في حقه، وساروا تلك الليلة من عرفات، فلما كان الغد مات بمنى، ودفن بمقبرة المعلى، ورزق الشهادة بعد الجهاد، و شهود فتح البيت المقدس، رحمه الله تعالى. ذكر قوة السلطان طغرل على قزلفي هذه السنة قوي أمر السلطان طغرل، وكثر جمعه، وملك كثيراً من البلاد، فأرسل قزل إلى الخليفة يستنجده، ويخوفه من طغرل، ويبذل من نفسه الطاعة والتصرف على ما يختارونه، وأرسل طغرل رسولاً إلى بغداد يقول: أريد أن يتقدم الديوان بعمارة دار السلطنة لأسكنها إذا وصلت؛ فأكرم رسول قزل ووعده بالنجدة، ورد رسول السلطان طغرل بغير جواب، وأمر الخليفة بنقض دار السلطنة، فهدمت إلى الأرض وعفي أثرها. ذكر ملك شرستي من الهند وغيرها وانهزام المسلمين بعدهافي آخر هذه السنة سار شهاب الدين الغوري، ملك غزنة، إلى بلاد الهند، وقصد بلاد أجمير، وتعرف بولاية السوالك، واسم ملكهم كولة، وكان شجاعاً شهماً، فلما دخل المسلمون بلاده ملكوا مدينة تبرندة، وهي حصن منيع عامر، وملكوا شرستي، وملكوا كورام.
فلما سمع ملكهم جمع العساكر فأكثر، وسار إلى المسلمين، فالتقوا، وقامت الحرب على ساق، وكان مع الهند أربعة عشر فيلاً، فلما اشتدت الحرب انهزمت ميمنة المسلمين وميسرتهم، فقال لشهاب الدين بعض خواصه: قد انكسرت الميمنة والميسرة، فانج بنفسك لا يهلك المسلمون؛ فأخذ شهاب الدين الرمح وحمل على الهنود، فوصل إلى الفيلة، فطعن فيلاً منها في كتفه، وجرح الفيل لا يندمل، فلما وصل شهاب الدين إلى الفيلة زرقه بعض الهنود بحربة، فوقعت الحربة في ساعده، فنفذت الحربة من الجانب الآخر، فوقع حينئذ إلى الأرض، فقاتل عليه أصحابه ليخلصوه، وحرصت الهنود على أخذه، وكان عنده حرب لم يسمع بمثلها، وأخذه أصحابه فركبوه فرسه وعادوا به منهزمين، فلم يتبعهم الهنود، فلما أبعدوا عن موضع الوقعة بمقدار فرسخ أغمي على شهاب الدين من كثرة خروج الدم، فحمله الرجال على أكتافهم في محفة اليد أربعة وعشرين فرسخاً، فلما وصل إلى لهاوور أخذ الأمراء الغورية، وهم الذين انهزموا ولم يثبتوا، وعلق على كل واحد منم عليق شعير؛ وقال: أنتم دواب ما أنتم أمراء! وسار إلى غزنة، وأمر بعضهم فمشى إليها ماشياً، فلما وصل إلى غزنة أقام بها ليستريح الناس، ونذكر ما فعله بملك الهند الذي هزمه سنة ثمان وثمانين إن شاء الله تعالى. ذكر عدة حوادثفي هذه السنة، في ربيع الأول، قتل مجد الدين أبو الفضل بن الصاحب، وهو أستاذ دار الخليفة، أمر الخليفة بقتله، وكان متحكماً في الدولة، ليس للخليفة معه حكم؛ وكان هو القيم بالبيعة له، وظهر له أموال عظيمة، أخذ جميعها، وان حسن السيرة عفيفاً عن الأموال، وكان الذي سعى به إنسان من أصحابه وصنائعه، يقال له عبيد الله بن يونس، فسعى به إلى الخليفة، وقبح آثاره، فقبض عليه وقتله. وفيها، في ربيع الآخر، وقع حريق في الحظائر ببغداد، واحترقت أحطاب كثيرة، وسببه أن فقيهاً بالمدرسة النظامية كان يطبخ طعاماً يأكله، فغفل عن النار والطبيخ، فعلقت النار واتصلت إلى الحظائر، فاحترقت جميعها، واحترق درب السلسلة وغيره مما يجاوره. وفيها، في شوال، استوزر الخليفة الناصر لدين الله أبا المظفر عبيد الله ابن يونس، ولقبه جلال الدين، ومشى أرباب الدولة في ركابه، حتى قضى القضاة، وكان ابن يونس من شهوده. وكان يمشي ويقول: لعن الله طول العمر. وفيها، في المحرم، توفي عبد المغيث بن زهير الحري ببغداد، وكان من أعيان الحنابلة، قد سمع الحديث الكثير، وصنف كتاباً في فضائل يزيد ابن معاوية أتى فيه بالعجائب، وقد رد عليه أبو الفرج بن الجوزي، وكان بنيهما عداوة. وفيها توفي قاضي القضاة أبو الحسن بن الدامغاني، وولي قضاء القضاة للمقتفي بعد موت الزينبي، ثم للمستنجد بالله، ثم عزل، ثم أعيد إلى المستضيء بأمر الله. وفيها توفي الوزير جلال الدين أبو الحسن علي بن جمال الدين أبي جعفر محمد بن أبي منصور وزير صاحب الموصل، وهو الجواد ابن الجواد، وقد ذكرنا من أخباره وأخبار أبيه ما يعلم به محلهما، وحمل إلى مدينة النبي صلى الله عليه وسلم، فدفن بها عند أبيه علي بن خطاب بن ظفر الشيخ الصالح من جزيرة ابن عمر، وكان من الأولياء أرباب الكرامات، وصحبته أنا مدة، فلم أر مثله حسن خلق وسمت وكرم وعبادة، رحمه الله. وفيها ولدت امرأة من سواد بغداد بنتاً لها أسنان. وفيها توفي نصر بن فتيان بن مطر أبو الفتح بن المني الفقيه الحنبلي، لم يكن لهم مثله، رحمه الله. ثم دخلت سنة أربع وثمانين وخمسمائة ذكر حصر صلاح الدين كوكب في هذه السنة، في المحرم انحسر الشتاء، فسار صلاح الدين من عكا فيمن تخلف عنده من العسكر إلى قلعة كوكب، فحصرها، ونازلها، ظناً منه أن ملكها سهل وأن أخذها، وهو في قلة من العسكر، متيسر، فلما رآها عالية منيعة أدرك أن الوصول إليها متعذر، وكان عنده منها ومن صفد والكرك المقيم المقعد، لأن البلاد الساحلية، من عكا إلى جهة الجنوب، كانت قد ملك جميعها، ما عدا هذه الحصون، وكان يختار أن يبقى في وسطها ما يشغل قلبه، ويقسم همه، ويحتاج إلى حفظه، ولئلا ينال الرعايا والمجتازين منهم الضرر والعظيم.
فلما حصر كوكب، ورآها منيعة، يبطئ ملكها وأخذها، رحل عنها، وجعل عليها قايماز النجمي، مستديماً لحصاره. وكان رحيله عنها في ربيع الأول. وأتاه رسل الملك قلج أرسلان. وقزل أرسلان وغيرهما. وينئونه بالفتح والظفر، وسار من كوكب إلى دمشق، ففرح الناس بقدومه، وكتب إلى البلاد جميعها باجتماع العساكر. وأقام بها إلى أن سار إلى الساحل. ذكر رحيل صلاح الدين إلى بلد الفرنجلما أراد صلاح الدين المسير عن دمشق حضر عند القاضي الفاضل مودعاً له ومستشيراً، وكان مريضاً، وودعه وسار عن دمشق منتصف ربيع الأول إلى حمص، فنزل على بحيرة قدس، غربي حمص، وجاءته العساكر: فأول من أتاه من أصحاب الأطراف عماد الدين زنكي بن مودود بن اقسنقر. صاحب سنجار، ونصيبين. الخابور، وتلاحقت العساكر من الموصل وديار الجزيرة وغيرها. فاجتمعت عليه، وكثرت عنده. فسار حتى نزل تحت حصن الأكراد من الجانب الشرقي؛ وكنت معه حينئذ، فأقام يومين، وسار جريدة، وترك أثقال العسكر موضعها تحت الحصن، ودخل إلى بلد الفرنج، فأغار على صافيثا، والعريمة، ويحمور، وغيرها من البلاد والولايات، ووصل إلى قرب طرابلس، وأبصر البلاد، وعرف من أين يأتيها، وأين يسلك منها، ثم عاد إلى معسكره سالماً. وقد غنم العسكر من الدواب، على اختلاف أنواعها، ما لا حد له، وأقام تحت حصن الأكراد إلى آخر ربيع الآخر. ذكر فتح جبلةلما أقام صلاح الدين تحت حصن الأكراد، أتاه قاضي جبلة، وهو منصور بن نبيل، يستدعيه إليها ليسلمها إليه، وكان هذا القاضي عند بيمند، صاحب أنطاكية وجبلة، مسموع القول مقبول الكلمة، له الحرمة الوافرة، والمنزلة العالية، وهو يحكم على جميع المسلمين، بجبلة ونواحيها، على ما يتعلق بالبيمند، فحملته الغيرة للدين على قصد السلطان، وتكفل له بفتح جبلة ولاذقية والبلاد الشمالية، فسار صلاح الدين معه رابع جمادى الأولى، فنزل بأنطرطوس سادسه، فرأى الفرنج قد أخلوا المدينة، واحتموا في برجين حصينين، كل واحد منهما قلعة حصينة ومعقل منيع، فخرب المسلمون دورهم ومساكنهم وسور البلد، ونهبوا ما وجدوه من ذخائرهم. وكان الداوية بأحد البرجين، فحصرهما صلاح الدين، فنزل إليه من في أحد البرجين بأمان وسلموه، فأمنهم، وخرب البرج وألقى حجارته في البحر، وبقي الذي فيه الداوية لم يسلموه، وكان معهم مقدمهم الذي أسره صلاح الدين يوم المصاف، وكان قد أطلقه لما ملك البيت المقدس، فهو الذي حفظ هذا الحصن، فخرب صلاح الدين ولاية أنطرطوس، ورحل عنها وأتى مرقية، وقد أخلاها أهلها، ورحلوا عنها، وساروا إلى المرقب، وهو من حصونهم التي لا ترام، ولا يحدث أحد نفسه بملكه لعلوه وامتناعه، وهو للإسبتار، والطريق تحته، فيكون الحصن على يمين المجتاز إلى جبلة، والبحر عن يساره، والطريق مضيق لا يسلكه إلا الواحد بعد الواحد. فاتفق أن صاحب صقلية من الفرنج قد سير نجدة إلى فرنج الساحل في ستين قطعة من الشواني، وكانوا بطرابلس، فلما سمعوا بمسير صلاح الدين جاؤوا ووقفوا في البحر، تحت المرقب، في شوانيهم، ليمنعوا من يجتاز بالسهام. فلما رأى صلا الدين ذلك أمر بالطارقيات والجفتيات، فصفت على الطريق ما يلي البحر من أول المضيق إلى آخره، وجعل وراءها الرماة، فمنعوا الفرنج من الدنو إليهم. فاجتاز المسلمون عن آخرهم، حتى عبروا المضيق ووصلوا إلى جبلة ثامن عشر جمادى الأولى. وتسلمها وقت وصوله. وكان قاضيها قد سبق إليها ودخل. فلما وصل صلاح الدين رفع أعلامه على سورها وسلمها إليه ، وتحصن الفرنج الذين كانوا بها بحصنها، واحتموا بقلعتها، فما زال قاضي جبلة يخوفهم ويرغبهم، حتى استنزلهم بشرط الأمان، وأن يأخذ رهائنهم يكونون عنده إلى أن يطلق الفرنج رهائن المسلمين من أهل جبلة.
وكان بيمند. صاحبها، قد أخذ رهائن القاضي ومسلمي جبلة، وتركهم عنده بأنطاكية، فأخذ القاضي رهائن الفرنج فأنزلهم عنده حتى أطلق بيمند رهائن المسلمين فأطلق المسلمون رهائن الفرنج، وجاء رؤساء أهل الجبل إلى صلاح الدين بطاعة أهله، وهو من أمنع الجبال وأشقها مسلكاً، وفيه حصن يعرف ببكسرائيل، بين جبلة ومدينة حماة، فملكه المسلمون، وصار الطريق في هذا الوقت عليه من بلاد الإسلام إلى العسكر، وكان الناس يلقون شدة في سلوكه. وقرر صلاح الدين أحوال جبلة، وجعل فيها لحفظها الأمير سابق الدين عثمان بن الداية، صاحب شيزر، وسار عنها. ذكر فتح لاذقيةلما فرغ السلطان من أمر جبلة، سار عنها إلى لاذقية، فوصل إليها في الرابع والعشرين من جمادى الأولى، فترك الفرنج المدينة لعجزهم عن حفظها، وصعدوا إلى حصنين لها على الجبل فامتنعوا بهما، فدخل المسلمون المدينة وحصروا القلعتين اللتين فيهما الفرنج، وزحفوا إليهما، ونقبوا السور ستين ذراعاً، وعلقوه، وعظم القتال، واشتد الأمر عند الوصول إلى السور؛ فلما أيقن الفرنج بالعطب، ودخل إليهم قاضي جبلة فخوفهم من المسلمين، طلبوا الأمان فأمنهم صلاح الدين، ورفعوا الأعلام الإسلامية إلى الحصنين، وكان ذلك في اليوم الثالث من النزول عليها. وكانت عمارة اللاذقية من أحسن الأبنية وأكثرها زخرفة مملوءة بالرخام على اختلاف أنواعها، فخرب المسلمون كثيراً منها، ونقلوا رخامها، وشعثوا كثيراً من بيعها التي قد غرم على كل واحد منها الأموال الجليلة المقدار، وسلمها إلى ابن أخيه تقي الدين عمر، فعمرها، وحصن قلعتها، حتى إذا رآها اليوم من رآها قبل ينكرها، فلا يظن أن هذه تلك؛ وكان عظيم الهمة في تحصين القلاع والغرامة الوافرة عليها، كما فعل بقلعة حماة. ذكر حال أسطول صقليةلما نازل صلاح الدين لاذقية جاء أسطول صقلية الذي تقدم ذكره، فوقف بإزاء ميناء لاذقية، فلما سلمها الفرنج الذين بها إلى صلاح الدين، عزم أهل هذا الأسطول على أخذ من يخرج منها من أهلها غيظاً وحنقاً، حيث سلموها سريعاً، فسمع بذلك أهل لاذقية، فأقاموا، وبذلوا الجزية، وكان سبب مقامهم. ثم إن مقدم هذا الأسطول طلب من السلطان الأمان ليحضر عنده، فأمنع، وحضر وقبل الأرض بين يديه، وقال ما معناه: إنك سلطان رحيم وكريم، وقد فعلت بالفرنج ما فعلت فذلوا، فاتركهم يكونون مماليكك وجندك تفتح بهم البلاد والممالك، وترد عليهم بلادهم، وإلا جاءك من البحر ما لا طاقة لك به، فيعظم عليك الأمر ويشتد الحال. فأجابه صلاح الدين بنحو من كلامه من إظهار القوة والاستهانة بكل من يجيء من البحر، وإنهم إن خرجوا أذاقهم ما أذاق أصحابهم من القتل والأسر؛ فصلب على وجهه، ورجع إلى أصحابه. ذكر فتح صهيون وعدة من الحصونثم رحل صلاح الدين عن لاذقية في السابع والعشرين من جمادى الأولى، وقصد قلعة صهيون، وهي قلعة منيعة شاهقة في الهواء، صعبة المرتقى، على قرنة جبل، يطيف بها واد عميق، فيه ضيق في بعض المواضع، بحيث إن حجر المنجنيق يصل منه إلى الحصن، إلا أن الجبل متصل بها من جهة الشمال، وقد عملوا لها خندقاً عميقاً لا يرى قعره، وخمسة أسوار منيعة، فنزل صلاح الدين على هذا الجبل الملتصق بها، ونصب عليه المجانيق ورماها، وتقدم إلى ولده الظاهر، صاحب حلب، فنزل على المكان الضيق من الوادي، ونصب عليه المجانيق أيضاً، فرمى الحصن منه. وكان معه من الرجالة الحلبيين كثير، وهم في الشجاعة بالمنزلة المشهورة، ودام رشق السهام من قسي اليد، والجرخ، والزنبورك، والزيار، فجرح أكثر من بالحصن، وهم يظهرون التجلد والامتناع، وزحف المسلمون إليهم ثاني جمادى الآخرة، فتعلقوا بقرنة من ذلك الجبل قد أغفل الفرنج إحكامها، فتسلقوا منها بين الصخور، حتى التحقوا بالسور الأول فقاتلوهم عليه حتى ملكوه، ثم إنهم قاتلوهم على باقي الأسوار فملكا منها ثلاثة وغنموا ما فيها من أبقار ودواب وذخائر وغير ذلك، واحتمى الفرنج بالقلة التي للقلعة، فقاتلهم المسلمون عليها، فنادوا وطلبوا الأمان، فلم يجبهم صلاح الدين إليه، فقرروا على أنفسهم مثل قطيعة البيت المقدس، وتسلم الحصن وسلمه إلى أمير يقال له ناصر الدين منكوبرس، صاح قلعة أبي قبيس، فحصنه وجعله من أحصن الحصون.
ولما ملك المسلمون صهيون تفرقوا في تلك النواحي، فملكوا حصن بلاطنوس، وكان من به من الفرنج قد هربوا منه وتركوه خوفاً ورعباً. وملك أيضاً حصن العيدو، وحصن الجماهرتين، فاتسعت المملكة الإسلامية بتلك الناحية، إلا أن الطريق إليها من البلاد الإسلامية على عقبة بكسرائيل شاق شديد، لان الطريق السهلة كانت غير مسلوكة، لأن بعضها بيد الإسماعيلية، وبعضها بيد الفرنج. ذكر فتح حصن بكاس والشغرثم سار صلاح الدين عن صهيون، ثالث جمادى الآخرة، فوصل إلى قلعة بكاس فرأى الفرنج قد أخلوها، وتحصنوا بقلعة الشغر، فملك قلعة بكاس بغير قتال، وتقدم إلى قلعة الشغر وحصرها، وهي وبكاس على الطريق السهل المسلوك إلى لاذقية وجبلة، والبلاد التي افتتحها صلاح الدين من بلاد الشام الإسلامية. فلما نازلها رآها منيعة حصينة لا ترام، ولا يوصل إليها بطريق من الطرق؛ إلا أنه أمر بمزاحفتهم ونصب منجنيق عليهم، ففعلوا ذلك، ورمى بالمنجنيق، فلم يصل من أحجاره إلى القلعة شيء إلا القليل الذي لا يؤذي، فبقي المسلمون عليه أياماً لا يرون فيه طمعاً، وأهله غير مهتمين بالقتال لامتناعهم عن ضرر يتطرق إليهم، وبلاء ينزل عليهم. فبينما صلاح الدين جالس، وعنده أصحابه، وهم في ذكر القلعة وإعمال الحلية في الوصول إليها. قال بعضهم: هذا الحصن كما قال الله تعالى: (فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقباً) الكهف 97، فقال صلاح الدين: أو يأتي الله بنصر من عنده وفتح. فبينما هم في هذا الحديث إذ قد أشرف عليهم فرنجي ونادى بطلب الأمان لرسول يحضر عند صلاح الدين، فأجيب إلى ذلك، ونزل رسول، وسأل إنظارهم ثلاثة أيام، فإن جاءهم من يمنعهم، وإلا سلموا القلعة بما فيها من ذخائر ودواب وغير ذلك، فأجابهم إليه وأخذ رهائنهم على الوفاء به. فلما كان اليوم الثالث سلموها إليه، واتفق يوم الجمعة سادس عشر جمادى الآخرة؛ وكان سبب استمهالهم أنهم أرسلوا إلى البيمند، صاحب أنطاكية، وكان هذا الحصن له، يعرفونه أنهم محصورون، ويطلبون منه أن يرحل عنهم المسلمين، فإن فعل، إلا سلموها، وإنما فعلوا ذلك لرعب قذفه الله تعالى في قلوبهم، وإلا فلو أقاموا الدهر الطويل لم يصل إليهم أحد، ولا بلغ المسلمون منهم غرضاً؛ فلما تسلم صلاح الدين الحصن سلمه إلى أمير يقال له قلج، وأمره بعمارته، ورحل عنه. ذكر فتح سرمينيةلما كان صلاح الدين مشغولاً بهذه القلاع والحصون، سير ولده الظاهر غازي، صاحب حلب، فحصر سرمينية، وضيق على أهلها، واستنزلهم على قطيعة قررها عليهم، فلما أنزلهم، وأخذ منهم المقاطعة، هدم الحصن وعفى أثره وعالي بنيانه. وكان فيه وفي هذه الحصون من أسارى المسلمين الجم الغفير، فأطلقوا، وأعطوا كسوة ونفقة، وكان فتحه في يوم الجمعة الثالث والعشرين من جمادى الآخرة. واتفق أن فتح هذه المدن والحصون جميعها من جبلة إلى سرمينية، مع كثرتها، كان في ست جمع مع أنها في أيدي أشجع الناس وأشدهم عداوة للمسلمين، فسبحان من إذا أراد أن يسهل الصعب فعل؛ وهي جميعها من أعمال أنطاكية، ولم يبق لها سوى القصير، وبغراس، ودرب ساك، وسيأتي ذكرها إن شاء الله تعالى في مكانه. ذكر فتح برزيةلما رحل صلاح الدين من قلعة الشغر سار إلى قلعة برزية، وكانت قد وصفت له، وهي تقابل حصن أفامية، وتناصفها في أعمالها، وبينهما بحيرة تجتمع من ماء العاصي وعيون تتفجر من جبيل برزية وغيره، وكان أهلها أضر شيء على المسلمين، يقطعون الطريق، ويبالغون في الأذى، فلما وصل إليها نزل شرقيها في الرابع والعشرين من جمادى الآخرة، ثم ركب من الغد وطاف عليها لينظر موضعاً يقاتلها منه، فلم يجد إلا من جهة الغرب، فنصب له هناك خيمة صغيرة، ونزل فيها ومعه بعض العسكر جريدة لضيق المواضع. وهذا القلعة لا يمكن أن تقاتل من جهة الشمال والجنوب البتة، فإنها لا يقدر أحد أن يصعد جبلها من هاتين الجهتين، وأما الجانب الشرقي فيمكن الصعود منه لكن لغير مقاتل، لعلوه وصعوبته، وأما جهة الغرب فإن الوادي المطيف بجبلها قد ارتفع هناك ارتفاعاً كثيراً، حتى قارب القلعة، بحيث يصل منه حجر المنجنيق والسهام، فنزله المسلمون ونصبوا عليه المجانيق، ونصب أهل القلعة عليها منجنيقاً بطلها.
ورأيت أنا من رأس جبل عال يشرف على القلعة، لكنه لا يصل منه شيء إليها، امرأة ترمي من القلعة عن المنجنيق، وهي التي بطلت منجنيق المسلمين، فلما رأى صلاح الدين أن المنجنيق لا ينتفعون به، عزم على الزحف، ومكاثرة أهلها بجموعه، فقسم عسكره ثلاثة أقسام: يزحف قسم، فإذا تعبوا وكلوا عادوا وزحف القسم الثاني، فإذا تعبوا وضجروا عادا وزحف القسم الثالث، ثم يدور الدور مرة بعد أخرى حتى يتعب الفرنج وينصبوا، فإنهم لم يكن عندهم من الكثرة ما يتقسمون كذلك، فإذا تعبوا وأعيوا سلموا القلعة. فلما كان الغد، وهو السابع والعشرون من جمادى الآخرة، تقدم أحد الأقسام، وكان المقدم عليهم عماد الدين زنكي بن مودود بن زنكي، صاحب سنجار، وزحفوا، وخرج الفرنج من حصنهم، فقاتلهم على فصليهم، ورماهم المسلمون بالسهام من وراء الجفتيات والجنويات والطارقيات، ومشوا إليهم حتى قربوا إلى الجبل، فلا قاربوا الفرنج عجوزا عن الدنو منهم لخشونة المرتقى، وتسلط الفرنج عليهم، لعلو مكانهم، بالنشاب والحجارة، فإنهم كانوا يلقون الحجارة الكبار فتتدحرج إلى أسفل الجبل، فلا يقوم لها شيء. فلما تعب هذا القسم انحدروا، وصعد القسم الثاني، وكانوا جلوساً ينتظرونهم، وهم حلقة صلاح الدين الخاص، فقاتلوا قتالاً شديداً، وكان الزمان حراً شديداً، فاشتد الكرب على الناس، وصلاح الدين في سلاحه يطوف عليهم ويحرضهم، وكان تقي الدين ابن أخيه كذلك، فقاتلوهم إلى قريب الظهر ثم تعبوا، ورجعوا. فلما رآهم صلاح الدين قد عادوا تقدم إليهم وبيده جماق يردهم، وصاح في القسم الثالث، وهم جلوس ينتظرون نوبتهم، فوثبوا ملبين، وساعدوا إخوانهم، وزحفوا معهم، فجاء الفرنج ما لا قبل لهم به، وكان أصحاب عماد الدين قد استراحوا، فقاموا أيضاً معهم، فحينئذ اشتد الأمر على الفرنج وبلغت القلوب الحناجر، وكانوا قد اشتد تعبهم ونصبهم، فظهر عجزهم عن القتال، وضعفهم عن حمل السلاح لشدة الحر والقتال، فخالطهم المسلمون فعاد الفرنج يدخلون الحصن، فدخل المسلمون معهم، وكان طائفة قليلة في الخيام، شرقي الحصن، فرأوا الفرنج قد أهملوا ذلك الجانب، لأنهم لا يرون فيه مقاتلاً، وليكثروا في الجهة التي فيها صلاح الدين، فصعدت تلك الطائفة من العسكر، فلم يمنعهم مانع، فصعدوا أيضاً الحصن من الجهة الأخرى، فالتقوا مع المسلمين الداخلين مع الفرنج؛ فملكوا الحصن عنوة وقهراً، ودخل الفرنج القلة التي للحصن، وأحاط بها المسلمون، وأرادوا نقبها. وكان الفرنج قد رفعوا من عندهم من أسرى المسلمين إلى سطح القلة، وأرجلهم في القيود والخشب المنقوب، فلما سمعوا تكبير المسلمين في نواحي القلعة كبروا في سطح القلة، وظن الفرنج أن المسلمين قد صعدوا على السطح فاستسلموا وألقوا بأيديهم إلى الأسر، فملكها المسلمون عنوة، ونهبوا ما فيها، وأسروا وسبوا من فيها، وأخذوا صاحبها وأهلها، وأمست خالية لا ديار بها، وألقى المسلمون النار في بعض بيوتهم فاحترقت. ومن أعجب ما يحكى من السلامة أنني رأيت رجلاً من المسلمين على هذا الحصن قد جاء من طائفة من المؤمنين شمالي القلعة إلى طائفة أخرى من المسلمين جنوبي القلعة، وهو يعدو في الجبل عرضاً، فألقيت عليه الحجارة، وجاءه حجر كبير لو ناله لبعجه، فنزل عليه، فناداه الناس يحذرونه، فالتفت ينظر ما الخبر، فسقط على وجهه من عثرة، فاسترجع الناس، وجاء الحجر إليه، فلا قاربه وهو منبطح على وجهه، لقيه حجر آخر ثابت في الأرض فوق الرجل، فضبه المنحدر فارتفع عن الأرض، وجاز الرجل، ثم عاد إلى الأرض من جانبه الآخر لم ينله منه أذى ولا ضرر، وقام يعدو حتى لحق بأصحابه، فكان سقوطه سبب نجاته فتعست أم الجبان. وأما صاحب برزية، فإنه أسر هو وامرأته وأولاده، ومنهم بنت له معها زوجها، فتفرقهم العسكر، فأرسل صلاح الدين في الوقت وبحث عنهم واشتراهم، وجمع شمل بعضهم ببعض؛ فلما قارب أنطاكية أطلقهم وسيرهم إليها، وكانت امرأة صاحب برزية أخت امرأة بيمند، صاحب أنطاكية، وكانت تراسل صلاح الدين وتهاديه، وتعلمه كثيراً من الأحوال التي تؤثر، فأطلق هؤلاء لأجلها. ذكر فتح درب ساك
لما فتح صلاح الدين حصن برزية رحل عنه من الغد، فأتى جسر الحديد، وهو على العاصي، بالقرب من أنطاكية، فأقام عليه حتى وافاه من تخلف عنه من عسكره، ثم سار عنه إلى قلعة درب ساك، فنزل عليها ثامن رجب، وهي من معاقل الداوية الحصينة وقلاعهم التي يدخرونها لحماياتهم عند نزول الشدائد. فلما نزل عليها نصب المجانيق، وتابع الرمي بالحجارة، فهدمت من سورها شيئاً يسيراً، فلم يبال من فيه بذلك، فأمر بالزحف عليها ومهاجمتها، فبادرها العسكر بالزحف وقاتلوها، وكشفوا الرجال عن سورها، وتقدم النقابون فنقبوا منها برجاً وعلقوه، فسقط واتسع المكان الذي يريد المقاتلة أن يدخلوا منه، وعادوا يومهم ذلك، ثم باكروا الزحف من الغد. وكان من فيه قد أرسلوا إلى صاحب أنطاكية يستنجدونه، فصروا، وأظهروا الجلد، وهم ينظرون وصول جوابه إما بإنجادهم وإزاحة المسلمين عنهم، وإما بالتخلي عنهم ليقوم عذرهم في التسليم، فلما علموا عجزه عن نصرتهم، وخافوا هجوم المسلمين عليها، وأخذهم السيف، وقتلهم وأسرهم، ونهب أموالهم، طلبوا الأمان، فأمنهم على شرط أن لا يخرج أحد إلا بثيابه التي عليه بغير مال، ولا سلاح، ولا أثاث بيت، ولا دابة، ولا شيء مما بها، ثم أخرجهم منه وسيرهم إلى أنطاكية، وكان فتحه تاسع عشر رجب. ذكر فتح بغراسثم سار عن درب ساك إلى قلعة بغراس، فحصرها، بعد أن اختلف أصحابه في حصرها، فمنهم من أشار به، ومنهم من نهى عنه وقال: هو حصن حصين، وقلعة منيعة، وهو بالقرب من أنطاكية، ولا فرق بين حصره وحصرها، ويحتاج أن يكون أكثر العسكر في اليزك مقابل أنطاكية، فإذا كان الأمر كذلك قل المقاتلون عليها، ويتعذر حينئذ الوصول إليها. فاستخار الله تعالى وسار إليها، وجعل أكثر عسكره يزكاً مقابل أنطاكية، يغيرون على أعمالها، وكانوا حذرين من الخوف من أهلها، إن غفلوا، لقربهم منها، وصلاح الدين في بعض أصحابه على القلعة يقاتلها، ونصب المجانيق، فلم يؤثر فيها شيئاً لعلوها وارتفاعها، فغلب على الظنون تعذر فتحها وتأخر ملكها، وشق على المسلمين قلة الماء عندهم، إلا أن صلاح الدين نصب الحياض، وأمر بحمل الماء إليها، فخفف الأمر عليهم. فبينما هو على هذه الحال إذ قد فتح باب القلعة، وخرج منه إنسان يطلب الأمان ليحضر، فأجيب إلى ذلك، فأذن له في الحضور، فحضر، وطلب الأمان لمن في الحصن حتى يسلموه إليه، بما فيه على قاعدة درب ساك، فأجابهم إلى ما طلبوا؛ فعاد الرسول ومعه الأعلام الإسلامية، فرفعت على رأس القلعة، ونزل من فيها، وتسلم المسلمون القلعة بما فيها من ذخائر وأموال وسلاح، وأمر صلاح الدين بتخريبه، فخرب، وكان ذلك مضرة عظيمة وأتقنه، وجعل فيه جماعة من عسكره يغيرون منه على البلاد، فتأذى بهم السواد الذي بحلب، وهو إلى الآن بأيديهم. ذكر الهدنة بين المسلمين وصاحب أنطاكيةلما فتح صلا الدين بغراس عزم على التوجه إلى أنطاكية وحصرها، فخاف البيمند صاحبها من ذلك، وأشفق منه، فأرسل إلى صلاح الدين يطلب الهدنة، وبذل إطلاق كل أسير عنده من المسلمين، فاستشار من عنده من أصحاب الأطراف وغيرهم، فأشار أكثرهم بإجابته إلى ذلك ليعود الناس ويستريحوا ويجددوا ما يحتاجون إليه، فأجاب إلى ذلك، واصطلحوا ثمانية أشهر، أولها: أول تشرين الأول، وآخرها: آخر أيار، وسير رسوله إلى صاحب أنطاكية يستخلفه، ويطلق من عنده من الأسرى. وكان صاحب أنطاكية، في هذا الوقت، أعظم الفرنج شأناً، وأكثرهم ملكاً، فإن الفرنج كانوا قد سلموا إليه طرابلس، بعد موت القمص، وجميع أعمالها، مضافاً إلى ما كان له، أن القمص لم يخلف ولداً، فلما سلمت إليه طرابلس جعل ولده الأكبر فيها نائباً عنه. وأما صلاح الدين فإنه عاد إلى حلب ثالث شعبان، فدخلها وسار منها إلى دمشق، وفرق العساكر الشرقية، كعماد الدين زنكي بن مودود صاحب سنجار والخابور، وعسكر الموصل، وغيرها، ثم رحل من حلب إلى دمشق، وجعل طريقه على قبر عمر بن عبد العزيز، فزاره، وزار الشيخ الصالح أبا زكرياء المغربي، وكان مقيماً هناك، وكان من عباد الله الصالحين، وله كرامات ظاهرة.
وكان مع صلاح الدين الأمير عز الدين أبو الفليتة قاسم بن المهنا العلوي الحسيني، وهو أمير مدينة النبي صلى الله عليه وسلم، كان قد حضر عنده، وشهد معه مشاهده وفتوحه، وكان صلاح الدين قد تبارك برؤيته، وتيمن بصحبته، وكان يكرمه كثيراً، وينبسط معه، ويرجع إلى قوله في أعماله كلها، ودخل دمشق أول شهر رمضان، فأشير عليه بتفريق العساكر، فقال: إن العمر قصير والأجل غير مأمون؛ وقد بقي بيد الفرنج هذه الحصون: كوكب، وصفد، والكرك، وغيرها، ولا بد من الفراغ منها، فإنها في وسط بلاد الإسلام، ولا يؤمن شر أهلها، وإن أغفلناهم ندمنا فيما بعد، والله أعلم. ذكر فتح الكرك وما يجاورهكان صلاح الدين قد جعل على الكرك عسكراً يحصره، فلازموا الحصار هذه المدة الطويلة، حتى فنيت أزواد الفرنج وذخائرهم، وأكلوا دوابهم، وصبروا حتى لم يبق للصبر مجال، فراسلوا الملك العادل، أخا صلاح الدين، وان جعله صلاح الدين على قلعة الكرك في جمع من العسكر يحصرها، ويكون مطلعاً على هذه الناحية من البلاد لما أبعد هو إلى درب ساك، وبغراس، فوصلته رسل الفرنج من الكرك يبذلون تسليم القلعة إليه، ويطلبون الأمان، فأجابهم إلى ذلك، وأرسل إلى مقدم العسكر الذي يحصرها في المعنى، فتسلم القلعة منهم وأمنهم. وتسلم أيضاً ما يقاربه من الحصون كالشوبك وهرمز والوعيرة والسلع، وفرغ القلب من تلك الناحية، وألقى الإسلام هناك جرانه، وأمنت قلوب من في ذلك السقع من البلاد، كالقدس وغيره، فإنهم كانوا ممن بتلك الحصون وجلين، ومن شرهم مشفقين. ذكر فتح قلعة صفدلما وصل صلاح الدين إلى دمشق، وأشير عليه بتفريق العساكر، وقال: لا بد من الفراغ من صفد وكوكب وغيرهما، أقام بدمشق إلى منتصف رمضان، وسار عن دمشق إلى قلعة صفد فحصرها وقاتلها، ونصب عليها المجانيق، وأدام الرمي إليها ليلاً ونهاراً بالحجارة والسهام. وكان أهلها قد قاربت ذخائرهم وأزوادهم أن تفنى في المدة التي كانوا فيها محاصرين، فإن عسكر صلاح الدين كان يحاصرهم، كما ذكرناه، فلما رأى أهله جد صلاح الدين في قتالهم، خافوا أن يقيم إلى أن يفنى ما بقي معهم من أقواتهم، وكانت قليلة، ويأخذهم عنوة ويهلكهم، أو أنهم يضعفون عن مقاومته قبل فناء ما عندهم من القوت فيأخذهم، فأرسلوا يطلبون الأمان، فأمنهم وتسلمها منهم، فخرجوا عنها وساروا إلى مدينة صور، وكفى الله المؤمنين شرهم، فإنهم كانوا وسط البلاد الإسلامية. ذكر فتح كوكبلما كان صلاح الدين يحاصر صفد، اجتمع من بصور من الفرنج، وقالوا: إن فتح المسلمون قلعة صفد لم تبق كوكب، ولو أنها معلقة بالكوكب، وحينئذ ينقطع طمعنا من هذا الطرف من البلاد؛ فاتفق رأيهم على إنفاذ نجدة لها سراً من رجال وسلاح وغير ذلك، فأخرجوا مائتي رجل من شجعان الفرنج وأجلادهم، فساروا الليل مستخفين، وأقاموا النهار مكمنين. فاتفق من قدر الله تعالى أن رجلاً من المسلمين الذين يحاصرون كوكب خرج متصيداً، فلقي رجلاً من تلك النجدة، فاستغربه بتلك الأرض، فضربه ليعلمه بحاله، وما الذي أقدمه إلى هناك، فأقر بالحال، ودله على أصحابه، فعاد الجندي المسلم إلى قايماز النجمي، وهو مقدم ذلك العسكر، فأعلمه الخبر، والفرنجي معه، فركب في طائفة من العسكر إلى الموضع الذي قد اختفى فيه الفرنج، فكبسهم، فأخذهم، وتتبعهم في الشعاب والكهوف، فلم يفلت منهم أحد، فكان معهم مقدمان من فرسان الإسبتار، فحملا إلى صلاح الدين وهو على صفد، فأحضرهما ليقتلهما، وكانت عادته قتل الداوية والإسبتارية لشدة عداوتهم للمسلمين وشجاعتهم، فلما أمر بقتلهما قال له أحدهما: ما أظن ينالنا سوء وقد نظرنا إلى طلعتك المباركة ووجهك الصبيح. وكان رحمه الله، كثير العفو، يفعل الاعتذار والاستعطاف فيه، فيعفو ويصفح، فلما سمع كلامهما لم يقتلهما، وأمر بهما فسجنا. ولما فتح صفد سار عنها إلى كوكب ونازلها وحصرها، وأرسل إلى من بها من الفرنج يبذل لهم الأمان إن سلموا، ويتهددهم بالقتل والسبي والنهب إن امتنعوا، فلم يسمعوا قولهن وأصروا على الامتناع، فجد في قتالهم، ونصب عليهم المجانيق، وتابع رمي الأحجار إليهم، وزحف مرة بعد مرة، وكانت الأمطار كثيرة، لا تنقطع ليلاً ولا نهاراً، فلم يتمكن المسلمون من القتال على الوجه الذي يريدوه، وطال مقامهم عليها.
وفي آخر الأمر زحفوا إليها دفعات متناوبة في ويم واحد، ووصلوا إلى باشورة القلعة، ومعهم النقابون والرماة يحمونهم بالنشاب عن قوس اليد والجروخ، فلم يقدر أحد منهم أن يخرج رأسه من أعلى السور، فنقبوا الباشورة فسقطت، وتقدموا إلى السور الأعلى، فلما رأى الفرنج ذلك أذعنوا بالتسليم، وطلبوا الأمان فأمنهم، وتسلم الحصن منهم منتصف ذي القعدة، وسيرهم إلى صور، فوصلوا إليها. واجتمع بها من شياطين الفرنج وشجعانهم كل صنديد، فاشتدت شوكتهم، وحميت جمرتهم، وتابعوا الرسل إلى من بالأندلس وصقلية وغيرهما من جزائر البحر يستغيثون ويستنجدون، والأمداد كل قليل تأتيهم، وكان ذلك كله بتفريط صلاح الدين في إطلاق كل من حصره، حتى عض بنانه ندماً وأسفاً حيث لم ينفعه ذلك. واجتمع للمسلمين بفتح كوكب وصفد من حد أيلة إلى أقصى أعمال بيروت، لا يفصل بينه غير مدينة صور، وجميع أعمال أنطاكية، سوى القصير، ولما ملك صلاح الدين صفد سار إلى البيت المقدس، فعيد فيه عيد الأضحى، ثم سار منه إلى عكا، فأقام بها حتى انسلخت السنة. ذكر ظهور طائفة من الشيعة بمصرفي هذه السنة ثار بالقاهرة جماعة من الشيعة، عدتهم اثنا عشر رجلاً، ليلاً، ونادوا بشعار العلويين،: يال علي، يال علي، وسلكوا الدروب ينادون، ظناً منهم أن رعية البلد يلبون ويملكون البلد، فلم يلتفت أحد منهم إليهم، ولا أعارهم سمعه. فلما رأوا ذلك تفرقوا خائفين، فأخذوا، وكتب بذلك إلى صلاح الدين، فأهمه أمرهم وأزعجه، فدخل عله القاضي الفاضل، فأخبره الخبر، فقال القاضي الفاضل: ينبغي أن تفرح بذلك ولا تحزن ولا تهتم، حيث علمت من بواطن رعيتك المحبة لك والنصح، وترك الميل إلى عدوك، ولو وضعت جماعة يفعلون مثل هذه الحالة لتعلم بواطن أصحابك ورعيتك، وخسرت الأموال الجليلة عليهم، لكان قليلاً؛ فسري عنه. وكان هذا القاضي صاحب دولة صلاح الدين، وأكبر من بها، وستأتي مناقبه عند وفاته، ما تراه. ذكر انهزام عسكر الخليفة من السلطان طغرلفي هذه السنة جهز الخليفة الناصر لدين الله عسكراً كثيراً، وجعل المقدم عليهم وزيره جلال الدين عبيد الله بن يونس، وسيرهم إلى مساعدة قزل، ليكف السلطان طغرل عن البلاد، فسار العسكر ثالث صفر إلى أن قارب همذان، فلم يصل قزل إليهم، وأقبل طفرل إليهم في عساكره، فالتقوا ثامن ربيع الأول بداي مرج عند همذان، واقتتلوا، فلم يثبت عسكر بغداد، بل انهزموا وتفرقوا، وثبت الوزير قائماً، ومعه مصحف وسيف، فأتاه من عسكره طغرل من أسره، وأخذ ما معه من خزانة وسلاح ودواب وغير ذلك، وعاد العسكر إلى بغداد متفرقين. وكنت حينئذ بالشام في عسكر صلاح الدين يريد الغزاة، فأتاه الخبر مع النجابين بميسر العسكر البغدادي، فقال: كأنكم وقد وصل الخبر بانهزامهم. فقال له بعض الحاضرين: وكيف ذلك؟ فقال: لا شك أن أصحابي وأهيل أعرف بالحرب من الوزير، وأطوع في العسكر منه، ومع هذا، فما أرسل أحداً منهم في سرية للحرب إلا وأخاف عليه، وهذا الوزير غير عارف بالحرب، وقريب العهد بالولاية، ولا يراه الأمراء أهلاً أن يطاع، وفي مقابلة سلطان شجاع قد باشر الحرب بنفسه، ومن معه يطيعه، وكان الأمر كذلك، ووصل الخبر إليه بانهزامهم فقال لأصحابه: كنت أخبرتكم بكذا وكذا، وقد وصل الخبر بذلك. ولما عادت عساكر بغداد منهزمة قال بعض الشعراء، وهو أحمد بن الواثق بالله: أتركونا من جائحات الجريمة ... طلعة طلعة تكون وخيمة بركات الوزير قد شملتنا ... فلهذا أمورنا مستقيمة خرجت جندنا تريد خراسا ... ن جميعاً بأبهات عظيمة بخيول وعدة وعديد ... وسيوف مجربات قديمة ووزير وطاق طنب ونفش ... وخيول معدة للهزيمة هم رأوا غرة العدو وقد أق ... بل ولوا وانحل عقد العزيمة وأتونا ولا بخفي حنين ... بوجوه سود قباح دميمة لو رأى صاحب الزمان ولوعا ... ين أفعالهم وقبح الجريمة قابل الكل بالنكال وناهي ... ك بها سبة عليهم مقيمة كان ينبغي أن تتقدم هذه الحادثة، وإنما أخرتها لتتبع الحوادث المتقدمة بعضها بعضاً، لتعلق كل واحدة منها بالأخرى.
ذكر عدة حوادث في هذه السنة توفي شيخنا أبو محمد عبد الله بن علي بن عبد الله بن سويدة التكريتي، كان عالماً بالحديث، وله تصانيف حسنة. وفيها توفيت سلجوقة خاتون بنت قلج أرسلان بن مسعود بن قلج أرسلان زوجة الخليفة وكانت قبله زوجة نور الدين محمد بن قرا أرسلان، صاحب الحصن، فلما توفي عنها تزوجها الخليفة، ووجد الخليفة عليها وجداً عظيماً ظهر للناس كلهم، وبنى على قبرها تربة بالجانب الغربي، وإلى جانب التربة رباطه المشهور بالرملة. وفيها توفي علاء الدين تنامش وحمل تابوته إلى مشهد الحسين، عليه السلام. وفيها توفي خالص خادم الخليفة، و ك | |
|
 | |
الشيخ عودة الشيخ عودة

عدد المساهمات : 1748 تاريخ التسجيل : 28/09/2008 العمر : 73
 | موضوع: رد: كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير الخميس فبراير 27, 2014 6:48 am | |
| ذكر وقعة أخرى ووقعة العربثم إن المسلمين نهضوا إلى الفرنج من الغد وهو سادس شعبان عازمين على بذل جهدهم، واستنفاد وسعهم في اسئصالهم فتقدموا على تعبئتهم، فرأوا الفرنج حذرين محتاطين، قد ندموا على ما فرطوا فيه بالأمس، وهم قد حفظوا أطرافهم ونواحيهم، وشرعوا في حفر خندق يمنع من الوصول إليهم، فألح المسلمون عليهم في القتال، فلم يتقدم الفرنج إليهم، ولا فارقوا مرابضهم؛ فلما رأى المسلمون ذلك عادوا عنهم. ثم إن جماعة من العرب بلغهم أن الفرنج تخرج من الناحية الأخرى إلى الاحتطاب وغيره من أشغالهم، فكمنوا لهم في معاطف النهر ونواحيه سادس عشر شعبان، فلما خرج جمع من الفرنج على عادتهم حملت عليهم العرب، فقتلوهم عن آخرهم، وغنموا ما كان معهم، وحملوا الرؤوس إلى صلاح الدين، فأحسن إليهم، وأعطاهم الخلع. ذكر الوقعة الكبرى على عكالما كان بعد هذه الوقعة المذكورة بقي المسلمون إلى العشرين من شعبان، كل يوم يغادرون القتال مع الفرنج ويرواحونه، والفرنج لا يظهرون من معسكرهم ولا يفارقونه، ثم إن الفرنج اجتمعوا للمشورة، فقالوا: إن عسكر مصر لم يحضر والحال مع صلاح الدين هكذا، فكيف يكون إذا حضر، والرأي أننا نلقي المسلمين غداً لعلنا نظفر بم قبل اجتماع العساكر والأمداد إليهم. وكان كثير من عسكر صلاح الدين غائباً عنه، بعضها مقابل أنطاكية ليردوا عادية بيمند صاحبها عن أعمال حلب، وبعضها في حمص مقابل طرابلس لتحفظ ذلك الثغر أيضاً، وعسكر في مقابل صور لحماية ذلك البلد، وعسكر بمصر يكون بثغر دمياط والإسكندرية وغيرهما، والذي بقي من عسكر مصر كانوا لم يصلوا لطول بيكارهم، كما ذكرناه قبل، وكان هذا مما أطمع الفرنج في الظهور إلى قتال المسلمين.
وأصبح المسلمون على عادتهم، منم من يتقدم إلى القتال، ومنهم من هو في خيمته، ومنهم من قد توجه في حاجته من زيارة صديق وتحصيل ما يحتاج إليه هو وأصحابه ودوابه، إلى غير ذلك، فخرج الفرنج من معسكرهم كأنهم الجراد المنتشر، يدبون على وجه الأرض، قد ملأوها طولاً وعرضاً، وطلبوا ميمنة المسلمين وعليها تقي الدين عمر ابن أخي صلاح الدين، فلما رأى الفرنج نحوه قاصدين حذر هو وأصحابه، فتقدموا إليه، فلما قربوا منه تأخر عنهم. فلما رأى صلاح الدين الحال، وهو في القلب، أمد تقي الدين برجال من عنده ليتقوى بهم، وكان عسكر ديار بكر وبعض الشرقيين في جناح القلب، فلما رأى الفرنج قلة الرجال في القلب، وأن كثيراً منهم قد سار نحو الميمنة مدداً لهم، عطفوا على القلب، فحملوا حملة رجل واحد، فاندفعت العساكر بين أيديهم منهزمين، وثبت بعضهم، فاستشهد جماعة منهم كالأمير مجلى بن مروان والظهير أخي الفقيه عيس، وكان والي بعضهم، فاستشهد جماعة منهم كالأمير مجلى بن مروان والظهير أخي الفقيه عيسى، وكان والي البيت المقدس قد جمع بين الشجاعة والعلم والدين، وكالحاجب خليل الهكاري وغيرهم من الشجعان الصابرين في مواطن الحرب، ولم يبق بين أيديهم في القلب من يردهم، فقصدوا التل الذي عليه خيمة صلاح الدين، فقتلوا من مروا به، ونهبوا، وقتلوا عند خيمة صلاح الدين جماعة، منهم شيخنا جمال الدين أبو علي بن رواحة الحموي، وهو من أهل العلم، وله شعر حسن، وما ورث الشهادة من بعيد، فإن جده عبد الله بن رواحة، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قتله الروم يوم مؤتة، وهذا قتله الفرنج يوم عكا، وقتلوا غيره، وانحدروا إلى الجانب الآخر من التل، فوضعوا السيف فيمن لقوه، وكان من لطف الله تعالى بالمسلمين أن الفرنج لم يلقوا خيمة صلاح الدين، ولو لقوها لعلم الناس وصولهم إليها، وانهزام العساكر بين أيديهم، فكانوا انهزموا أجمعون. ثم إن الفرنج نظروا وراءهم، فرأوا أمدادهم قد انقطعت عنهم، فرجعوا خوفاً أن ينقطعوا عن أصحابهم، وكان سبب انقطاعهم أن الميمنة وقفت مقابلتهم، فاحتاج بعضهم أن يقف مقابلها، وحملت ميسرة المسلمين على الفرنج، فاشتغل المدد بقتال من بها عن الاتصال بأصحابهم، وعادوا إلى طرف خنادقهم، فحملت الميسرة على الفرنج، الواصلين إلى خيمة صلاح الدين، فصادفوهم وهم راجعون، فقاتلوهم، وثار بهم غلمان العسكر. وكان صلاح الدين لما انهزم القلب قد تبعهم يناديهم، ويأمرهم بالكرة، ومعاودة القتال، فاجتمع معه منهم جماعة صالحة، فحمل بهم على الفرنج من وراء ظهورهم وهم مشغولين بقتال الميسرة، فأخذتهم سيوف الله من كل جانب، فلم يفلت منهم أحد، بل قتل أكثرهم، وأخذ الباقون أسرى، وفي جملة من أسر مقدم الداوية الذي كان قد أسره صلاح الدين وأطلقه، فلما ظفر به الآن قتله. وكانت عدة القتلى، سوى من كان إلى جانب البحر، نحو عشرة آلاف قتيل، فأمر بهم، فألقوا في النهر الذي يشرب الفرنج منه؛ وكان عامة القتلى من فرسان الفرنج، فإن الرجالة لم يلحقوهم، وكان في جملة الأِسرى ثلاث نسوة فرنجيات كن يقاتلن على الخيل، فلما أسرن، وألقي عنهن السلاح عرفن أنهن نساء. وأما المنهزمون من المسلمين، فمنهم من رجع من طبرية، ومنهم من جاز الأردن وعاد، ومنهم من بلغ دمشق، ولولا أن العساكر تفرقت في الهزيمة لكانوا بلغوا من الفرنج من الاستئصال، والإهلاك، مرادهم، على أن الباقين بذلوا جهدهم، وجدوا في القتال وصمموا على الدخول مع الفرنج إلى معسكرهم لعلهم يفزعون منهم، فجاءهم الصريخ بأن رحالهم وأموالهم قد نهبت، وكان سبب هذا النهب أن الناس لما رأوا الهزيمة حملوا أثقالهم على الدواب، فثار بهم أوباش العسكر وغلمانه، فنهبوه وأتوا عليه، وكان في عزم صلاح الدين أن يباكرهم القتال والزحف، فرأى اشتغال الناس بما ذهب من أموالهم، وهم يسعون في جمعها وتحصيلها، فأمر بالنداء بإحضار ما أخذ، فأحضر منه ما ملأ الأرض من المفارش، والعيب المملوءة والثياب والسلاح وغير ذلك، فرد الجميع على أصحابه، ففاته ذلك اليوم ما أراد، فسكن روع الفرنج، وأصلحوا شأن الباقين منهم. ذكر رحيل صلاح الدين عن الفرنج وتمكنهم من حصر عكا
لما قتل من الفرنج ذلك العدد الكثير، جافت الأرض من نتن ريحهم، وفسد الهواء والجو، وحدث للأمزجة فساد، وانحرف مزاج صلاح الدين، وحدث له قولنج مبرح كان يعتاده، فحضر عنده الأمراء، وأشاروا عليه بالانتقال من ذلك الموضع، وترك مضايقة الفرنج، وحسنوه له، وقالوا: قد ضيقنا على الفرنج، ولو أرادوا الانفصال عن مكانهم لم يقدروا، والرأي أننا نبعد عنهم بحيث يتمكنون من الرحيل والعود، فإن رحلوا، وهو ظاهر الأمر، فقد كفينا شرهم وكفوا شرنا، وإن أقاموا عاودنا القتال ورجعنا معهم إلى ما نحن فيه، ثم إن مزاجك منحرف، والألم شديد، ولو وقع إرجاف لهلك الناس، والرأي على كل تقدير البعد عنهم. ووافقهم الأطباء على ذلك، فأجابهم إليه إلى ما يريد الله يفعله: (وإذا أراد الله بقوم سواء فلا مرد له وما لهم من دونه من والٍ) الرعد 11، فرحلوا إلى الخروبة رابع شهر رمضان وأمر من بعكا من المسلمين بحفظها، وإغلاق أبوابها، والاحتياط، وأعلمهم بسبب رحيله. فلما رحل هو وعساكره أمن الفرنج وانبسطوا في تلك الأرض، وعادوا فحصروا عكا، وأحاطوا بها من البحر إلى البحر، ومراكبهم أيضاً في البحر تحصرها، وشرعوا في حفر الخندق، وعمل السور من التراب الذي يخرجونه من الخندق، وجاؤوا بما لم يكن في الحساب؛ وكان اليزك كل يوم يوافقهم، وهم لا يقاتلون، ولا يتحركون، إنما هم مهتمون بعمل الخندق والسور عليهم ليتحصنوا به من صلاح الدين، إن عاد إلى قتالهم، فحينئذ ظهر رأي المشيرين بالرحيل. وكان اليزك كل يوم يخبرون صلاح الدين بما يصنع الفرنج، ويعظمون الأمر عليه، وهو مشغول بالمرض، لا يقدر على النهوض للحرب، وأشار عليه بعضهم بأن يرسل العساكر جميعها إليهم ليمنعهم من الخندق والسور، ويقاتلوهم، ويتخلف هو عنهم، فقال: إذا لم أحضر معهم لا يفعلون شيئاً، وربما كان من الشر أضعاف ما نرجوه من الخير؛ فتأخر الأمر إلى أن عوفي، فتمكن الفرنج وعملوا ما أرادوا، وأحكموا أمورهم، وحصنوا نفوسهم بما وجدوا إليه السبيل، وكان من بعكا يخرجون إليهم كل يوم، ويقاتلونهم، وينالون منهم بظاهر البلد. ذكر وصول عسكر مصر والأسطول المصري في البحرفي منتصف شوال وصلت العساكر المصرية، ومقدمها الملك العادل سيف الدين أبو بكر بن أيوب، فلما وصل قويت نفوس الناس به وبمن معه، واشتدت ظهورهم، وأحضر معه من آلات الحصار، من الدرق والطارقيات والنشاب والأقواس، شيئاً كثيراً، ومعهم من الرجالة الجم الغفير، وجمع صلاح الدين من البلاد الشامية راجلاً كثيراً، وهو على عزم الزحف إليهم بالفارس والراجل. ووصل بعده الأسطول المصري، ومقدمه الأمير لؤلؤ، وكان شهماً، شجاعاً، مقداماً، خبيراً بالبحر والقتال فيه، ميمون النقيبة، فوصل بغتة، فوقع على بطسة كبيرة للفرنج، فغنمها، وأخذ منها أموالاً كثيرة وميرة عظيمة، فأدخلها إلى عكا، فسكنت نفوس من بها بوصول الأسطول وقوي جنانهم. ذكر عدة حوادثفي هذه السنة، في صفر، خطب لولي العهد أبي نصر محمد بن الخليفة الناصر لدين الله ببغداد، ونثرت الدنانير والدراهم، وأرسل إلى البلاد في إقامة الخطبة، ففعل ذلك. وفيها، في شوال، ملك الخليفة تكريت، وسب ذلك أن صاحبها، وهو الأمير عيسى، قتله إخوته، وملكوا القلعة بعده، فسير الخليفة إليهم عسكراً فحصروها وتسلموها، ودخل أصحابه إلى بغداد فأعطوا أقطاعاً. وفيها، في صفر، فتح الرباط الذي بناه الخليفة بالجانب الغربي من بغداد، وحضر الخلق العظيم، فكان يوماً مشهوداً. وفي هذه السنة، في رمضان، مات شرف الدين أبو سعد عبد الله بن محمد ابن هبة الله بن أبي عصرون، الفقيه الشافعي بدمشق، وكان قاضيها، وأضر، وولي القضاء بعده ابنه، وكان الشيخ من أعيان الفقهاء الشافعية. وفيها، في ذي القعدة، توفي الفقيه ضياء الدين عيسى الهكاري بالخروبة مع صلاح الدين، وهو من أعيان أمراء عسكره، ومن قدماء الأسدية، وكان فقيهاً، جندياً، شجاعاً، كريماً، ذا عصبية ومروءة، وهو من أصحاب الشيخ الإمام أبي القاسم بن البرزي، تفقه عليه بجزيرة ابن عمر، ثم اتصل بأسد الدين شيركوه فصار إماماً له، فرأى من شجاعته ما جعل له أقطاعاً، وتقدم عند صلاح الدين تقدماً عظيماً.
وفيها، في صفر توفي شيخنا أبو العباس أحمد بن عبد الرحمن بن وهبان، المعروف بابن أفضل الزمان، بمكة، وكان رحمه الله عالماً متبحراً في علوم كثيرة، خلاف فقه مذهبه والأصولين، والحساب والفرائض، والنجوم، والهيئة، والمنطق، وغير ذلك، وختم أعماله بالزهد، ولبس الخشن، وأقام بمكة، حرسها الله تعالى، مجاوراً، فتوفي بها، وكان من أحسن الناس صحبة وخلقاً. وفيها، في ذي القعدة، مات أبو طالب المبارك بن المبارك بن المبارك الكرخي مدرس النظامية، وكان من أصحاب أبي الحسن بن الخل، وكان صالحاً خيراً له عند الخليفة والعامة حرمة عظيمة، وجاه عريض، وكان حسن الخط يضرب به المثل. ثم دخلت سنة ست وثمانين وخمسمائة ذكر وقعة الفرنج واليزك وعود صلاح الدين إلى منازلة الفرنج قد ذكرنا رحيل صلاح الدين عن عكا إلى الخروبة لمرضه، فما برأ أقام بمكانه إلى أن ذهب الشتاء؛ وفي مدة مقامه بالخروبة كان يزكه وطلائعه لا تنقطع عن الفرنج. فلما دخل صفر من سنة ست وثمانين وخمسمائة سمع الفرنج أن صلاح الدين قد سار للصيد، ورأى العسكر الذي ي اليزك عندهم قليلاً، وأن الوحل الذي في مرج عكا كثير يمنع من سلوكه من أراد أن ينجد اليزك، فاغتنموا ذلك، وخرجوا من خندقهم على اليزك وقت العصر، فقاتلهم المسلمون، وحموا أنفسهم بالنشاب، وأحجم الفرنج عنهم، وحتى فني نشابهم، فحملوا عليهم حينئذ حملة رجل واحد، فاشتد القتال، وعظم الأمر، وعلم المسلمون أنه لا ينجيهم إلا الصبر وصدق القتال، فقاتلوا قتال مستقتل إلى أن جاء الليل، وقتل من الفريقين جماعة كثيرة، وعاد الفرنج إلى خندقهم. ولما عاد صلاح الدين إلى المعسكر سمع خبر الوقعة، فندب الناس إلى نصر إخوانهم، فأتاه الخبر أن الفرنج عادوا إلى خندقهم، فأقام، ثم إنه رأى الشتاء قد ذهب، وجاءته العساكر من البلاد القريبة منه دمشق وحمص وحماة وغيرها، فتقدم من الخروبة نحو عكا، فنزل بتل كيسان، وقاتل الفرنج كل يوم ليشغلهم عن قتال من بعكا من المسلمين، فكانوا يقاتلون الطائفين ولا يسأمون. ذكر إحراق الأبراج ووقعة الأسطولكان الفرنج، في مدة مقامهم على عكا، قد عملوا ثلاثة أبراج من الخشب عالية جداً، طول كل برج منها في السماء ستون ذراعاً، وعملوا كل برج منها خمس طبقات، كل طبقة مملوءة من المقاتلة، وقد جمعوا أخشابها من الجزائر، فإن مثل هذه الأبراج العظيمة لا يصلح لها من الخشب إلا القليل النادر، وغشوها بالجلود والخل والطين والأدوية التي تمنع النار من إحراقها، وأصلحوا الطرق لها، وقدموها نحو مدينة عكا من ثلاث جهات، وزحفوا بها في العشرين من ربيع الأول، فأشرفت على السور، وقاتل من بها من عليه، فانكشفوا، وشرعوا في طم خندقها، فأشرف البلد على أن يملك عنوة وقهراً. فأرسل أهله إلى صلاح الدين إنساناً سبح في البحر، فأعلمه ما هم فيه من الضيق، وما قد أشرفوا عليه من أخذهم وقتلهم، فركب هو وعساكره وتقدموا إلى الفرنج وقاتلوهم من جميع جهاتهم قتالاً عظيماً دائماً يشغلهم عن مكاثرة البلد، فافترق الفرنج فرقتين: فرقة تقاتل صلاح الدين، وفرقة تقاتل أهل عكا، إلا أن الأمر قد خف عمن بالبلد، ودام القتال ثمانية أيام متتابعة، آخرها الثامن والعشرون من الشهر، وسئم الفريقان القتال، وملوا منه لملازمته ليلاً ونهاراً، والمسلمون قد تيقنوا استيلاء الفرنج على البلد، لما رأوا من عجز من فيه عن دفع الأبراج، فإنهم لم يتركوا حيلة إلا وعملوها، فلم يفد ذلك ولم يغن عنهم شيئاً، وتابعوا رمي النفط الطيار عليها، فلم يؤثر فيها، فأيقنوا بالبوار والهلاك، فأتاهم الله بنصر من عنده وإذن في إحراق الأبراج. وكان سبب ذلك أن إنساناً من أهل دمشق كان مولعاً بجمع آلات النفاطين، وتحصيل عقاقير تقوي عمل النار، فكان من يعرفه يلومه على ذلك وينكره عليه، وهو يقول: هذه حالة لا أباشرها بنفسي إنما أشتهي معرفتها، وكان بعكا لأمر يريده الله، فلما رأى الأبراج قد نصبت على عكا شرع في عمل ما يعرفه من الأدوية المقوية للنار، بحيث لا يمنعها شيء من الطين والخل وغيرهما، فلما فرغ منها حضر عند الأمير قراقوش، وهو متولي الأمور بعكا والحاكم فيها، وقال له: تأمر المنجنيقي أن يرمي في المنجنيق المحاذي لبرج من هذه الأبراج ما أعطيه حتى أحرقه.
وكان عند قراقوش من الغيظ والخوف على البلد ومن فيه ما يكاد يقتله، فازداد غيظاً بقوله وحرد عليه، فقال له: قد بالغ أهل هذه الصناعة في الرمي بالنفط وغيره فلم يفلحوا؛ فقال له من حضر: لعل الله تعالى قد جعل الفرنج على يد هذا، ولا يضرنا أن نوافقه على قوله؛ فأجابه إلى ذلك، وأمر المنجنيقي بامتثال أمره، فرمى عدة قدور نفطاً وأدوية ليس فيها نار، فكان الفرنج إذا رأوا القدر لا يحرق شيئاً يصيحون، ويرقصون، ويلعبون على سطح البرج، حتى إذا علم أن الذي ألقاه قد تمكن من البرج، ألقى قدراً مملوءة وجعل فيها النار فاشتعل البرج، وألقى قدراً ثانية وثالثة، فاضطرمت النار في نواحي البرج، وأعجلت من في طبقاته الخمس عن الهرب والخلاص، فاحترق هو ومن فيه، وكان فيه من الزرديات والسلاح شيء كثير. وكان طمع الفرنج بما رأوا أن القدور الأولى لا تعمل شيئاً يحملها على الطمأنينة وترك السعي في الخلاص، حتى عجل الله لهم النار في الدنيا قبل الآخرة، فلما احترق البرج الأول انتقل إلى الثاني، وقد هرب من فيه لخوفهم، فأحرقه، وكذلك الثالث، وكان يوماً مشهوداً لم ير الناس مثله، والمسلمون ينظرون ويفرحون، وقد أسفرت وجوههم بعد الكآبة فرحاً بالنصر وخلاص المسلمين من القتل لأنهم ليس فيهم أحد ألا وله في البلد إما نسيب وإما صديق. وحمل ذلك الرجل إلى صلاح الدين فبذل له الأموال الجزيلة والإقطاع الكثير فلم يقبل منه الحبة الفرد، وقال: إنما عملته لله تعالى، ولا أريد الجزاء إلا منه. وسيرت الكتب إلى البلاد بالبشائر، وأرسل يطلب العساكر الشرقية، فأول من أتاه عماد الدين زنكي بن مودود بن زنكي، وهو صاحب سنجار وديار الجزيرة، ثم أتاه علاء الدين ولد عز الدين مسعود بن مودود بن زنكي، سيره أبوه مقدماً على عسكره وهو صاحب الموصل، ثم وصل زين الدين يوسف صاحب إربل؛ وكان كل منهم إذا وصل يتقدم إلى الفرنج بعسكره، وينضم إليه غيرهم، ويقاتلونهم، ثم ينزلون. ووصل الأسطول من مصر، فلما سمع الفرنج بقربه منهم جهزوا إلى طريقه أسطولاً ليلقاه ويقاتله، فركب صلاح الدين في العساكر جميعها، وقاتلهم من جهاتهم ليشتغلوا بقتاله عن قتال الأسطول ليتمكن من دخول عكا، فلم يشتغلوا عن قصده بشيء، فكان القتال بين الفريقين براً وبحراً، وكان يوماً مشهوداً لم يؤرخ مثله، وأخذ المسلمون من الفرنج مركباً بما فيه من الرجال والسلاح، وأخذ الفرنج من المسلمين مثل ذلك، إلا أن القتل في الفرنج كان أكثر منه في المسلمين، ووصل الأسطول الإسلامي سالماً. ذكر وصول ملك الألمان إلى الشامفي هذه السنة خرج ملك الألمان من بلاده، وهم نوع من الفرنج، من أكثرهم عدداً، وأشدهم بأساً، وكان قد أزعجه ملك الإسلام البيت المقدس، فجمع عساكره، وأزاح علتهم، وسار عن بلاده وطريقه على القسطنطينية، فأرسل ملك الروم بها إلى صلاح الدين يعرفه الخبر ويعد أنه لا يمكنه من العبور في بلاده. فلما وصل ملك الألمان إلى القسطنطينة عجز ملكها عن منعه من العبور لكثرة جموعه، لكنه منع عنهم الميرة، ولم يمكن أحداً من رعيته من حمل ما يريدونه إليهم، فضاقت بهم الأزواد والأقوات، وساروا حتى عبروا خليج القسطنطينية، وصاروا على أرض بلاد الإسلام، وهي مملكة الملك قلج أرسلان ابن مسعود بن سليمان بن قتلمش بن سلجق. فلما وصلوا إلى أوائلها ثار بهم التركمان الأوج، فما زالوا يسايرونهم ويقتلون من انفرد ويسرقون ما قدروا عليه، وكان الزمان شتاء والبرد يكون في تلك البلاد شديداً، والثلج متراكماً، فأهلكهم البرد والجوع والتركمان فقل عددهم.
فلما قاربوا مدينة قونية خرج إليهم الملك قطب الدين ملكشاه بن قلج أرسلان ليمنعهم، فلم يكن له بهم قوة، فعاد إلى قونية وبها أبوه قد حجر ولده المذكور عليه، وتفرق أولاده في بلاده، وتغلب كل واحد منهم على ناحية منها، فلما عاد عنهم قطب الدين أسرعوا السير في أثره، فنازلوا قونية، وأرسلوا إلى قلج أرسلان هدية وقالوا له: ما قصدنا بلادك ولا أردناها، وإنما قصدنا البيت المقدس؛ وطلبوا منه أن يأذن لرعيته في إخراج ما يحتاجون إليه من قوت وغيره، فأذن في ذلك، فأتاهم ما يريدون، فشبعوا، وتزودوا، وساروا؛ ثم طلبوا من قطب الدين أن يأمر رعيته بالكف عنهم، وأن يسلم إليهم جماعة من أمرائه رهائن، وكان يخافهم، فسلم إليهم نيفاً وعشرين أميراً كان يكرههم، فساروا بهم معهم ولم يمتنع اللصوص وغيرهم من قصدهم والتعرض إليهم، فقبض ملك الألمان على من منعه من الأمراء وقيدهم، فمنهم من هلك في أسره، ومنهم من فدى نفسه. وسار ملك الألمان حتى أتى بلاد الأرمن وصاحبها لافون بن اصطفانة بن ليون، فأمدهم بالأقوات والعلوفات، وحكمهم في بلاده، وأظهر الطاعة لهم، ثم ساروا نحو أنطاكية، وكان في طريقهم نهر، فنزلوا عنده، ودخل ملكهم إليه ليغتسل، فغرق في مكان منه لا يبلغ الماء وسط الرجل وكفى الله شره. وكان معه ولد له، فصار ملكاً بعده، وسار إلى أنطاكية، فاختلف أصحابه عليه، فأحب بعضهم العود إلى بلاده، فتخلف عنه، وبعضهم مال إلى تمليك أخ له، فعاد أيضاً، وسار فيمن صحت نيته له، فعرضهم، وكانوا نيفاً وأربعين ألفاً، ووقع فيهم الوباء والموت، فوصلوا إلى أنطاكية وكأنهم قد نبشوا من القبور، فتبرم بهم صاحبها، وحسن لهم المسير إلى الفرنج الذين على عكا، فساروا على جبلة ولاذقية وغيرهما من البلاد التي ملكها المسلمون، وخرج أهل حلب وغيرها إليهم، وأخذوا منهم خلقاً كثيراً، ومات أكثر ممن أخذ، فبلغوا طرابلس، وأقاموا بها أياماً، فكثر فيهم الموت، فلم يبق منهم إلا نحو ألف رجل، فركبوا في البحر إلى الفرنج الذين على عكا، ولما وصولا ورأوا ما نالهم في طريقهم وما هم فيه من الاختلاف عادوا إلى بلادهم فغرقت بهم المراكب ولم ينج منهم أحد. وكان الملك قلج أرسلان يكاتب صلاح الدين بأخبارهم، ويعده أنه يمنعهم من العبور في بلاده، فلما عبروها وخلفوها أرسل يعتذر بالعجز عنهم، لأن أولاده حكموا عليه، وحجروا عليه، وتفرقوا عنه، وخرجوا عن طاعته. وأما صلاح الدين عند وصول الخبر بعبور ملك الألمان، فإنه استشار أصحابه، فأشار كثير منهم عليه بالمسير إلى طريقهم ومحاربتهم قبل أن يتصلوا بمن على عكا، فقال: بل نقيم إلى أن يقربوا منا، وحينئذ نفعل ذلك لئلا يستسلم من بعكا من عساكرنا؛ لكنه سير بعض من عنده من العساكر، منها عسكر حلب وجبلة ولاذقية وشيزر وغير ذلك، إلى أعمال حلب ليكونوا في أطراف البلاد يحفظونها من عاديتهم، وكان حال المسلمين كما قال الله عز وجل: (إذ جاءكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا، هنالك ابتلى المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديداً) الأحزاب 10 - 11، فكفى الله شرهم ورد كيدهم في نحرهم. ومن شدة خوفهم أن بعض أمراء صلاح الدين كان له ببلد الموصل قرية، وكان أخي، رحمه الله، يتولاها، فحصل دخلها من حنطة وشعير وتبن، فأرسل إليه في بيع الغلة، فوصل كتابه يقول: لا تبع الحبة الفرد، واستكثر لنا من التبن؛ ثم بعد ذلك وصل كتابه يقول: تبيع الطعام فما بنا حاجة إليه، ثم إن ذلك الأمير قدم الموصل، فسألناه عن المنع من بيع الغلة، ثم الإذن فيها بعد مدة يسيرة، فقال: لما وصلت الأخبار بوصول ملك الألمان أيقنا أننا ليس لنا بالشام مقام، فكتبت بالمنع من بيع الغلة لتكون ذخيرة لنا إذا جئنا إليكم، فلما أهلكهم الله تعالى وأغنى عنها كتبت ببيعها والانتفاع بثمنها. ذكر وقعة للمسلمين والفرنج على عكا
وفي هذه السنة، في العشرين من جمادى الآخرة، خرجت الفرنج فأرسلها وراجلها من وراء خنادقهم، وتقدموا إلى المسلمين، وهم كثير لا يحصى عددهم، وقصدوا نحو عسكر مصر، ومقدمهم الملك العادل أبو بكر بن أيوب، وكان المصريون قد ركبوا واصطفوا للقاء الفرنج، فالتقوا، واقتتلوا قتالاً شديداً، فانحاز المصريون عنهم، ودخل الفرنج خيامهم، ونهبوا أموالهم، فعطف المصريون عليهم، فقاتلوهم من وسط خيامهم فأخرجوهم عنها، وتوجهت طائفة من المصريين نحو خنادق الفرنج، فقطعوا المدد عن أصحابهم الذين خرجوا، وكانوا متصلين كالنمل، فلما انقطعت أمدادهم ألقوا بأيديهم، وأخذتهم السيوف من كل ناحية فلم ينج منهم إلا الشريد، وقتل منهم مقتلة عظيمة، يزيد عدد القتلى على عشرة آلاف قتيل. وكانت عساكر الموصل قريبة من عسكر مصر، وكان مقدمهم علاء الدين خرمشاه بن عز الدين مسعود صاحب الموصل، فحملوا أيضاً على الفرنج، وبالغوا في قتالهم، ونالوا منهم نيلاً كثيراً، هذا جميعه، ولم يباشر القتال أحد من الحلقة التي مع صلاح الدين، ولا أحد من الميسرة، وكان بها عماد الدين زنكي، صاحب سنجار، وعسكر إربل وغيرهم. ولما جرى على الفرنج هذه الحادثة خمدت جمرتهم، ولانت عريكتهم، وأشار المسلمون على صلاح الدين بمباكرتهم القتال، ومناجزتهم وهم على هذه الحال من الهلع والجزع، فاتفق أنه وصله من الغد كتاب من حلب يخبر فيه بموت ملك الألمان، وما أصاب أصحابه من الموت والقتل والأسر، وما صار أمرهم إليه من القلة والذلة، واشتغل المسلمون بهذه البشرى والفرح بها عن قتال من بإزائهم، وظنوا أن الفرنج إذا بلغهم هذا الخبر ازدادوا وهناً على وهنهم وخوفاً على خوفهم؛ فلما كان بعد يومين أتت الفرنج أمداد في البحر مع كند كبير من الكنود البحرية يقال له الكند هري ابن أخي ملك إفرنسيس لأبيه، وابن أخي ملك انكلتار لأمه، ووصل معه من الأموال شيء كثير يفوق الإحصاء، فوصل إلى الفرنج، فجند الأجناد، وبذل الأموال فعادت نفوسهم فقويت واطمأنت، وأخبرهم أن الأمداد واصلة إليهم يتلو بعضها بعضاً، فتماسكوا وحفظوا مكانهم، ثم أظهروا أنهم يريدون الخروج إلى لقاء المسلمين وقتالهم، فانتقل صلاح الدين من مكانه إلى الخروبة في السابع والعشرين من جمادى الآخرة، ليتسع المجال، وكانت المنزلة قد أنتنت بريح القتلى. ثم إن الكند هري نصب منجنيقاً ودبابات وعرادات، فخرج من بعكا من المسلمين فأخذوها، وقتلوا عندها كثيراً من الفرنج؛ ثم إن الكند هري بعد أخذ مجانيقه أراد أن ينصب منجنيقاً، فلم يتمكن من ذلك لأن المسلمين بعكا كانوا يمنعون من عمل ستائر يستتر بها من يرمي من المنجنيق، فعمل تلاً من تراب بالبعد من البلد. ثم إن الفرنج كانوا ينقلون التل إلى البلد بالتدريج، ويستترون به، ويقربونه إلى البلد، فلما صار من البلد بحيث يصل من عنده حجر منجنيق، نصبوا وراءه منجنيقين، وصار التل سترة لهما، وكانت الميرة قد قلت بعكا، فأرسل صلاح الدين إلى الإسكندرية يأمرهم بإنفاذ الأقوات واللحوم وغير ذلك في المراكب إلى عكا، فتأخر إنفاذها، فسير إلى نائبه بمدينة بيروت في ذلك، فسير بطسة عظيمة مملوءة من كل ما يريدونه، وأمر من بها فلبسوا ملبس الفرنج وتشبهوا بهم ورفعوا عليها الصلبان، فلما وصلوا إلى عكا لم يشك الفرنج أنها لهم، فلم يتعرضوا لها، فلما حاذت ميناء عكا أدخلها من بها، ففرح بها المسلمون، وانتعشوا وقيت نفوسهم، وتبلغوا بما فيها إلى أن أتتهم الميرة من الإسكندرية. وخرجت ملكة من الفرنج من داخل البحر في نحو ألف مقاتل، فأخذت بنواحي الإسكندرية، وأخذ من معها، ثم إن الفرنج وصلهم كتاب من بابا، وهو كبيرهم الذي يصدرون عن أمره، وقوله عندهم كقول النبيين لا يخالف، والمحروم عندهم من حرمه، والمقرب من قربه، وهو صاحب رومية الكبرى، يأمرهم بملازمة ما هم بصدده، ويعلمهم أنه قد أرسل إلى جميع الفرنج يأمرهم بالمسير إلى نجدتهم براً وبحراً، ويعلمهم بوصول الأمداد إليهم، فازدادوا قوة وطمعاً. ذكر خروج الفرنج من خنادقهم
لما تتابعت الأمداد إلى الفرنج، وجند لهم الكند هري جمعاً كثيراً بالأموال التي وصلت معه عزموا على الخروج من خنادقهم ومناجزة المسلمين، فتركوا على عكا من يحصرها ويقاتل أهلها، وخرجوا، حادي عشر شوال، في عدد كالرمل كثرة وكالنار جمرة؛ فلما رأى صلاح الدين ذلك نقل أثقال المسلمين إلى قيمون، وهو على ثلاثة فراسخ عن عكا، وكان قد عاد إليه من فرق من عساكره لما هلك ملك الألمان، ولقي الفرنج على تعبئة حسنة. وكان أولاده الأفضل علي والظاهر غازي والظافر مما يلي القلب، وأخوه العادل أبو بكر في الميمنة، ومعه عساكر مصر ومن انضم إليهم، وكان في الميسرة عماد الدين، صاحب سنجار، وتقي الدين، صاحب حماة، ومعز الدين سنجر شاه، صاحب جزيرة ابن عمر، مع جماعة من أمرائه، واتفق أن صلاح الدين أخذه مغس كان يعتاده، فنصب له خيمة صغيرة على تل مشرف على العسكر، ونزل فيها ينظر إليهم، فسار الفرنج، شرقي نهر هناك، حتى وصلوا إلى رأس النهر، فشاهدوا عساكر الإسلام وكثرتها، فارتاعوا لذلك، ولقيهم الجالشية، وأمطروا عليهم من السهام ما كاد يستر الشمس، فلما رأوا ذلك تحولوا إلى غربي النهر، ولزمهم الجالشية يقاتلونهم، والفرنج قد تجمعوا، ولزم بعضهم بعضاً، وكان غرض الجالشية أن تحمل الفرنج عليهم، فيلقاهم المسلمون ويلتحم القتال، فيكون الفصل، ويستريح الناس، وكان الفرنج قد ندموا على مفارقة خنادقهم، فلزموا مكانهم، وباتوا ليلتهم تلك. فلما كان الغد عادوا نحو عكا ليعتصموا بخندقهم، والجالشية في أكتافهم يقاتلونهم تارة بالسيوف وتارة بالرماح وتارة بالسهام، وكلما قتل من الفرنج قتيل أخذوه معهم لئلا يعلم المسلمون ما أصابهم، فلولا ذلك الألم الذي حدث بصلاح الدين لكانت هي الفصيل، وإنما لله أمر هو بالغه، فلما بلغ الفرنج خندقهم، ولم يكن لهم بعدها ظهور منه، عاد المسلمون إلى خيامهم، وقد قتلوا من الفرنج خلقاً كثيراً. وفي الثالث والعشرين من شوال أيضاً كمن جماعة من المسلمين، وتعرض للفرنج جماعة أخرى، فخرج إليهم أربع مائة فارس، فقاتلهم المسلمون شيئاً من قتال، وتطاردوا لهم، وتبعهم الفرنج حتى جازوا الكمين، فخرجوا عليهم فلم يفلت منهم أحد. واشتد الغلاء على الفرنج، حتى بلغت غرارة الحنطة أكثر من مائة دينار صوري، فصبروا على هذا، وكان المسلمون يحملون إليهم الطعام من البلدان منهم الأمير أسامة، مستحفظ بيروت، كان يحمل الطعام وغيره؛ ومنهم سيف الدين علي بن أحمد المعروف بالمشطوب، كان يحمل من صيدا أيضاً إليهم؛ وكذلك من عسقلان وغيرها، ولولا ذلك لهلكوا جوعاً خصوصاً في الشتاء عند انقطاع مراكبهم عنهم لهياج البحر. ذكر تسيير البدل إلى عكا والتفريط فيه حتى أخذتلما هجم الشتاء، وعصفت الرياح، خاف الفرنج على مراكبهم التي عندهم لأنها لم تكن في الميناء، فسيروها إلى بلاد صور والجزائر، فانفتح الطريق إلى عكا في البحر، فأرسل أهلها إلى صلاح الدين يشكون الضجر والملل والسآمة، وكان بها الأمير حسام الدين أبو الهيجاء السمين مقدماً على جندها، فأمر صلاح الدين بإقامة البدل وإنفاذه إليها، وإخراج من فيها، وأمر أخا الملك العادل بمباشرة ذلك، فانتقل إلى جانب البحر، ونزل تحت جبل حيفا، وجمع المراكب والشواني، وكلما جاءه جماعة من العسكر سيرهم إليها، وأخرج عوضهم، فدخل إليها عشرون أميراً، وكان بها ستون أميراً، فكان الذين دخلوا قليلاً بالنسبة إلى الذين خرجوا، وأهمل نواب صلاح الدين تجنيد الرجال وإنفاذهم. وكان على خزانة ماله قوم من النصارى، وكانوا إذا جاءهم جماعة قد جندوا تعنتوهم بأنواع شتى، تارة بإقامة معرفة، وتارة بغير ذلك، فتفرق بهذا السبب خلق كثير، وانضاف إلى ذلك تواني صلاح الدين ووثوقه بنوابه، وإهمال النواب، فانحسر الشتاء والأمر كذلك، وعادت مراكب الفرنج إلى عكا وانقطع الطريق إلا من سابح يأتي بكتاب.
وكان من جملة الأمراء الذين دخلوا إلى عكا سيف الدين علي بن أحمد المشطوب، وعز الدين أرسل مقدم الأسدية بعد جاولي وابن جاولي، وغيرهم، وكان دخولهم عكا أول سنة سبع وثمانين، وكان قد أشار جماعة على صلاح الدين بأن يرسل إلى من بعكا النفقات الواسعة والذخائر والأقوات الكثيرة، ويأمرهم بالمقام، فإنهم قد جربوا وتدربوا واطمأنت نفوسهم على ما هم فيه، فلم يفعل، وظن فيهم الضجر والملل، وأن ذلك يحملهم على العجز والفشل، فكان الأمر بالضد. ذكر وفاة زين الدين يوسف صاحب إربل ومسير أخيه مظفر الدين إليهاكان زين الدين يوسف بن زين الدين علي، صاحب إربل، قد حضر عند صلاح الدين بعساكره، فمرض ومات ثامن عشر شهر رمضان، وذكر العماد الكاتب في كتابه البرق الشامي قال: جئنا إلى مظفر الدين نعزيه بأخيه، وظنناً به الحزن، وليس له أخ غيره، ولا ولد يشغله عنه، فإذا هو في شغل شاغل عن العزاء، مهتم بالاحتياط على ما خلفه، وهو جالس في خيام أخيه المتوفي، وقد قبض على جماعة من أمرائه، واعتقلهم، وعجل عليهم، وما أغفلهم، منهم بلداجي، صاحب قلعة خفتيذكان، وأرسل إلى صلاح الدين يطلب منه إربل لنزل عن حران والرها، فأقطعه إياها، وأضاف إليها شهرزور وأعمالها ودربند قرابلي، وبنيث قفجاق؛ ولما مات زين الدين كاتب من كان بإربل مجاهد الدين قايماز لهواهم فيه، وحسن سيرته فيهم، وطلبوه إليهم لملكوه، فلم يجسر هو ولا صاحبه عز الدين أتابك مسعود بن مودود على ذلك، خوفاً من صلاح الدين. وكان أعظم الأٍسباب في تركها أن عز الدين كان قد قبض على مجاهد الدين، فتمكن زين الدين من إربل، ثم إن عز الدين أخرج مجاهد الدين من القبض، وولاه نيابته، وقد ذكرنا ذلك أجمع. فلما ولاه النيابة عنه لم يمكنه، وجعل معه إنساناً كان من بعض غلمان مجاهد الدين، فكان يشاركه في الحكم ويحل عليه ما يعقده، فلحق مجاهد الدين من ذلك غيظ شديد، فلما طلب إلى إربل قال لمن يثق به: لا أفعل لئلا يحكم فيها فلان، ويكف يدي عنها؛ فجاء مظفر الدين إليها وملكها، وبقي غصة في حلق البيت الأتابكي لا يقدرون على إساغتها. وسنذكر ما اعتمده معهم مرة بعد أخرى، إن شاء الله تعالى. ذكر ملك الفرنج مدينة شلب وعودها إلى المسلمين في هذه السنة ملك ابن الرنك، وهو من ملوك الفرنج، غرب بلاد الأندلس، مدينة شلب وهي من كبار مدن المسلمين بالأندلس، واستولى عليها، فوصل الخبر بذلك إلى الأمير أبي يوسف يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن، صاحب الغرب والأندلس، فتجهز في العساكر الكثيرة وسار إلى الأندلس، وعبر المجاز، وسير طائفة كثيرة من عسكره في البحر، ونازلها وحصرها، وقاتل من بها قتالاً شديداً، حتى ذلوا وسألوا الأمان فأمنهم وسلموا البلد وعادوا إلى بلادهم. وسير جيشاً من الموحدين ومعهم جمع من العرب إلى بلاد الفرنج، ففتحوا أربع مدن كان الفرنج قد ملكوها قبل ذلك بأربعين سنة، وفتكوا في الفرنج، فخافهم ملك طليطلة من الفرنج، وأرسل يطلب الصلح، فصالحه خمس سنين، وعاد أبو يوسف إلى مراكش، وامتنع من هذه الهدنة طائفة منالفرنج لم يرضوها ولا أمكنهم إظهار الخلاف، فبقوا متوقفين حتى دخلت سنة تسعين وخمسمائة، فتحركوا. وسنذكر خبرهم هناك، إن شاء الله تعالى. ذكر الحرب بين غياث الدين وسلطان شاه بخراسانكان سلطان شاه أخو خوارزم شاه قد تعرض إلى بلاد غياث الدين ومعز الدين ملكي الغورية، من خراسان، فتجهز غياث الدين وخرج من فيروزكوه إلى خراسان سنة خمس وثمانين وخمسمائة، فبقي يتردد بين بلاد الطالقان، وبنجده، ومرو، وغيرها يريد حرب سلطان شاه، فلم يزل كذلك إلى أن دخلت سنة ست وثمانين، فجمع سلطان شاه عساكره وقصد غياث الدين، فتصافاً واقتتلا، فانهزم سلطان شاه، وأخذ غياث الدين بعض بلاده وعاد إلى غزنة. ذكر عدة حوادث
في هذه السنة، في ربيع الأول، تسلم الخليفة الناصر لدين الله حديثة عانة، وكان سير إليها جيشاً حصروها سنة خمس وثمانين فقاتلوا عليها قتالاً شديداً، ودام الحصار، وقتل من الفريقين خلق كثير، فلما ضاقت عليهم الأقوات سلموها على أقطاع عينوها، ووصل صاحبها وأهلها إلى بغداد وأعطوا أقطاعاً ثم تفرقوا في البلاد واشتدت الحاجة بهم حتى رأيت بعضهم وإنه ليتعرض بالسؤال وبعض خدم الناس، ونعوذ بالله من زوال نعمته وتحول عافيته. وفي هذه السنة توفي مسعود بن النادر الصفار ببغداد، وكان مكثراً من الحديث، حسن الخط، خيراً ثقة. وفيها توفي أبو حامد محمد بن محمد بن عبد الله بن القاسم الشهرزوري بالموصل، وكان قاضيها، وقبلها ولي قضاء حلب وجميع الأعمال بها، وكان رئيساً جواداً ذا مروءة عظيمة، يرجع إلى دين وأخلاق جميلة. ثم دخلت سنة سبع وثمانين وخمسمائة ذكر حصر عز الدين صاحب الموصل الجزيرة في هذه السنة، في ربيع الأول، سار أتابك عز الدين مسعود بن مودود ابن زنكي صاحب الموصل إلى جزيرة ابن عمر، فحصرها، وكان بها صاحبها سنجر شاه بن سيف الدين غازي بن مودود، وهو ابن أخي عز الدين. وكان سبب حصره أن سنجر شاه كان كثير الأذى لعمه عز الدين، والشناعة عليه، والمراسلة إلى صلاح الدين في حقه، تارة يقول إنه يريد قصد بلادك، وتارة يقول إنه يكاتب أعداءك ويحثهم على قصدك، إلى غير ذلك من الأمور المؤذية، وعز الدين يصبر منه على ما يكره لأمور تارة للرحم، وتارة خوفاً من تسليمها إلى صلاح الدين؛ فلما كان في السنة الماضية سار صاحبها إلى صلاح الدين، وهو على عكا، في جملة من سار من أصحابه الأطراف، وأقام عنده قليلاً، وطلب دستوراً للعود إلى بلده، فقال له صلاح الدين: عندنا من أصحاب الأطراف جماع منهم عماد الدين، صاحب سنجار وغيرها، وهو أكبر منك، ومنهم ابن عمك عز الدين، وهو أصغر منك، وغيرهم، ومتى فتحت هذا الباب اقتدى بك غيرك؛ فلم يلتفت إلى قوله، وأصر على ذلك. وكان عند صلاح الدين جماعة من أهل الجزيرة يستغيثون على سنجر شاه لأنه ظلمهم، وأخذ أموالهم وأملاكهم، فكان يخافه لهذا. ولم يزل في طلب الإذن في العود إلى ليلة الفطر من سنة ست وثمانين، فركب تلك الليلة في السحر وجاء إلى خيمة صلاح الدين أرسل يطلب الإذن عليه، وكان صلاح الدين قد بات محموماً، وقد عرق، فلم يمكن أن يأذن له، فبقي كذلك متردداً على باب خيمته إلى أن أذن له، فلما دخل عليه هنأه بالعيد، وأكب عليه يودعه، فقال له: ما علمنا بصحة عزمك على الحركة، فتصبر علينا حتى نرسل ما جرت به العادة، فما يجوز أن تنصرف عنا، بعد مقامك عندنا، على هذا الوجه. فلم يرجع وودعه وانصرف. وكان تقي الدين عمر ابن أخي صلاح الدين قد أقبل من بلده حماة في عسكره، فكتب إليه صلاح الدين يأمره بإعادة سنجر شاه طوعاً أو كرهاً؛ فحكى له عن تقي الدين أنه قال: ما رأيت مثل سنجر شاه، لقيته بعقبة فيق، فسألته عن سبب انصرافه، فغالطني، فقلت له: سمعت بالحال، ولا يليق أن تنصرف بغير تشريف السلطان وهديته، فيضع تعبك؛ وسألته العود فلم يصغ إلى قولي، فكلمني كأنني بعض مماليكه، فلما رأيت ذلك منه قلت له: إن رجعت بالتي هي أحسن، وإلا أعدتك كارهاً؛ فنزل عن دابته وأخذ ذيلي وقال: قد استجرت بك؛ وجعل يبكي، فعجبت من حماقته أولاً، وذلته ثانياً، فعاد معي. فلما عاد بقي عند صلاح الدين عدة أيام، وكتب صلاح الدين إلى عز الدين أتابك يأمره بقصد الجزيرة، ومحاصرتها، وأخذها، وأنه يرسل إلى طريق سنجر شاه ليقبض عليه إذا عاد؛ فخاف عز الدين أن صلاح الدين قد فعل ذلك مكيدة ليشنع عليه بنكث العهد، فلم يفعل شيئاً من ذلك بل أرسل إليه يقول: أريد خطك بذلك ومنشوراً منك بالجزيرة؛ فترددت الرسل في ذلك إلى أن انقضت سنة ست وثمانين، ودخلت هذه السنة فاستقرت القاعدة بينهما، فسار عز الدين إلى الجزيرة، فحصرها أربعة أشهر وأياماً آخرها شعبان، ولم يملكها بل استقرت القاعدة بينه وبين سنجر شاه على يد رسول صلاح الدين، فإنه كان قد أرسله بعد قصدها يقول: إن صاحب سنجار، وصاحب إربل وغيرهما قد شفعا في سنجر شاه، فاستقر الصلح على أن لعز الدين نصف أعمال الجزيرة، ولسنجر شاه نصفها، وتكون الجزيرة بيد سنجر شاه من جملة النصف.
وعاد عز الدين في شعبان إلى الموصل، وكان صلاح الدين بعد ذلك يقول: ما قيل لي عن أحد شيء من الشر فرأيته إلا كان دون ما يقال فيه، إلا سنجر شاه، فإنه كان يقال لي عنه شيئاً استعظمتها، فلما رأيته صغر في عيني ما قيل فيه. ؟؟ ذكر عبور تقي الدين الفرات وملكه حران وغيرها من البلاد الجزرية ومسيره إلى خلاط ومؤتة في هذه السنة، في صفر، سار تقي الدين من الشام إلى البلاد الجزرية: حران والرها، كان قد أقطعه إياها عمه صلاح الدين، بعد أخذها من مظفر الدين، مضافاً إلى ما كان له بالشام، وقرر معه أنه يقطع البلاد للجند، ويعود وهم معه إليه ليتقوى بهم على الفرنج؛ فلما عبر الفرات، وأصلح حال البلاد، سار إلى ميافارقين، وكانت له، فلما بلغها تجدد له طمع في غيرها من البلاد المجاورة لها، فقصد مدينة حاني من ديار بكر، فحصرها وملكها، وكان في سبع مائة فارس؛ فلما سمع سيف الدين بكتمر، صاحب خلاط، بملكه حاني جمع عساكره وسار إليه، فاجتمعت عساكره أربعة آلاف فارس، فلما التقوا اقتتلوا فلم يثبت عسكر خلاط لتقي الدين، بل انهزموا، وتبعهم تقي الدين، ودخل بلادهم. وكان بكتمر قد قبض على مجد الدين بن رشيق، وزير صاحبه شاه أرمن، وسجنه في قلعة هناك، فلما انهزم كتب إلى مستحفظ القلعة يأمره بقتل ابن رشيق، فوصل القاصد وتقي الدين قد نازل القلعة، فأخذ الكتاب، وملك القلعة، وأطلق ابن رشيق، وسار إلى خلاط فحصرها، ولم يكن في كثرة من العسكر فليم يبلغ منها غرضاً، فعاد عنها، وقصد ملازكرد وحصرها، وضيق على من بها، وطال مقامه عليها؛ فلما ضاق عيهم الأمر طلبوا منه المهلة أياماً ذكروها، فأجابهم إليها. ومرض تقي الدين، فمات قبل انقضاء الأجل بيومين، وتفرقت العساكر عنها، وحمله ابنه وأصحابه ميتاً إلى ميافارقين، وعاد بكتمر فقوي أمره، وثبت ملكه بعد أن أشرف على الزوال، وهذه الحادثة من الفرج بعد الشدة، فإن ابن رشيق نجا من القتل وبكتمر نجا من أن يؤخذ. ذكر وصول الفرنج من الغرب في البحر إلى عكاوفي هذه السنة وصلت أمداد الفرنج في البحر إلى الفرنج الذين على عكا، وكان أول من وصل منهم الملك فليب، ملك إفرنسيس، وهو من أشرف ملوكهم نسباً، وإن كان ملكه ليس بالكثير، وان وصوله إليها ثاني عشر ربيع الأول، ولم يكن في الكثرة التي ظنوها وإنما كان معه ست بطس كبار عظام فقويت به نفوس من على عكا منهم، ولجوا في قتال المسلمين الذين فيها. وكان صلاح الدين على شفرعم، فكان يركب كل يوم ويقصد الفرنج ليشغلهم بالقتال عن مزاحفة البلد، وأرسل إلى الأمير أسامة، مستحفظ بيروت، يأمره بتجهيز ما عنده من الشواني والمراكب وتشحينها بالمقاتلة، وتسييرها في البحر ليمنع الفرنج من الخروج إلى عكا، ففعل ذلك، وسير الشواني في البحر، فصادفت خمسة مراكب مملوءة رجالاً من أصحاب ملك انكلتار الفرنج، كان قد سيرهم بين يديه، وتأخر هو بجزيرة قبرس ليملكها، فأقبلت شواني المسلمين مع مراكب الفرنج، فاستظهر المسلمون عليهم، وأخذوهم، وغنموا ما معهم من قوت ومتاع ومال وأسروا الرجال. وكتب أيضاً صلاح الدين إلى من بالقرب من النواب له يأمرهم بمثل ذلك ففعلوا. وأما الفرنج الذين على عكا، فإنهم لازموا قتال من بها، ونصبوا عليها سبعة مجانيق رابع جمادى الأولى، فلما رأى صلاح الدين ذلك تحول من شفرعم، ونزل عليهم لئلا يتعب العسكر كل يوم في المجيء إليهم والعود عنهم، فقرب منهم. وكانوا كلما تحركوا للقتال ركب وقاتلهم من وراء خندقهم، فكانوا يشتغلون بقتالهم، فيخف القتال عمن بالبلد. ثم وصل ملك انكلتار ثالث عشر جمادى الأولى. وكان قد استولى في طريقه على جزيرة قبرس، وأخذها من الروم؛ فإنه لما وصل إليها غدر بصاحبها وملكها جميعاً، فكان ذلك زيادة في ملكه وقوة للفرنج؛ فلما فرغ منها سار عنها إلى من على عكا من الفرنج، فوصل إليهم في خمس وعشرين قطعة كباراً مملوءة رجالاً وأموالاً، فعظم به شر الفرنج، واشتدت نكايتهم في المسلمين. وكان رجل زمانه شجاعة ومكراً وجلداً وصبراً، وبلي المسلمون منه بالداهية التي لا مثل لها.
ولما وردت الأخبار بوصوله أمر صلاح الدين بتجهيز بطسة كبيرة مملوءة من الرجال والعدة والقوت، فجهزت وسيرت من بيروت، وفيها سبع مائة مقاتل، فلقيها ملك إنكلتار مصادفة، فقاتلها، وصبر من فيها على قتالها، فلما أيسوا من الخلاص نزل مقدم من بها إلى أسفلها، وهو يعقوب الحلبي مقدم الجندارية، يعرف بغلام ابن شقين، فخرقها خرقاً واسعاً لئلا يظفر الفرنج بمن فيها وما معهم من الذخائر، فغرق جميع ما فيها. وكانت عكا محتاجة إلى رجال لما ذكرناه من سبب نقصهم، ثم إن الفرنج عملوا دبابات زحفوا بها فأحرق المسلمون بعضها وأخذوا بعضها، ثم عملوا كباشاً وزحفوا بها، فخرج المسلمون وقاتلوهم بظاهر البلد، وأخذوا تلك الكباش، فلما رأى الفرنج أن ذلك جميعه لا ينفعهم عملوا تلاً كبيراً من التراب مستطيلاً، وما زالوا يقربونه إلى البلد ويقاتلون من ورائه لا ينالهم من البلد أذى، حتى صار على نصف علوه، فكانوا يستظلون به، ويقاتلون من خلفه، فلم يكن للمسلمين فيه حيلة لا بالنار ولا بغيرها، فحينئذ عظمت المصيبة على من بعكا من المسلمين، فأرسلوا إلى صلاح الدين يعرفونه حالهم، فلم يقدر لهم على نفع. ذكر ملك الفرنج عكافي يوم الجمعة، سابع عشر جمادى الآخرة، استولى الفرنج، لعنهم الله، على مدينة عكا، وكان أول وهن دخل على من بالبلد أن الأمير سيف الدين علي بن أحمد الهكاري، المعروف بالمشطوب، كان فيها، ومعه عدة من الأمراء كان هو أمثلهم وأكبرهم، خرج إلى ملك إفرنسيس وبذل له تسليم البلد بما فيه على أن يطلق المسلمين الذين فيه، ويمكنهم من اللحاق بسلطانهم، فلم يجبه إلى ذلك، فعاد علي بن أحمد إلى البلد، فوهن من فيه، وضعفت نفوسهم، وتخاذلوا، وأهمتهم أنفسهم. ثم إن أميرين ممن كان بعكا، لما رأوا ما فعلوا بالمشطوب، وأن الفرنج لم يجيبوا إلى الأمان، اتخذوا الليل جملاً، وركبوا في شيني صغير، وخرجوا سراً من أصحابهم، ولحقوا بعسكر المسلمين، وهم عز الدين أرسل الأسدي، وابن عز الدين جاولي، ومعهم غيرهم، فلما أصبح الناس ورأوا ذلك ازدادوا وهناً إلى وهنهم، وضعفاً إلى ضعفهم، وأيقنوا بالعطب. ثم إن الفرنج أرسلوا إلى صلاح الدين في معنى تسليم البلد، فأجابهم إلى ذلك، والشرط بينهم أن يطلق من أسراهم بعدد من في البلد ليطلقوا هم من بعكا، وأن يسلم إليهم صليب الصلبوت، فلم يقنعوا بما بذل، فأرسل إلى من بعكا من المسلمين يأمرهم أن يخرجوا من عكا يداً واحدة ويسيروا مع البحر ويحملوا على العدو حملة واحدة، ويتركوا البلد بما فيه، ووعدهم أنه يتقدم إلى تلك الجهة التي يخرجون منها بعساكره، يقاتل الفرنج فيها ليلحقوا به، فشرعوا في ذلك، واشتغل كل منهم باستصحاب ما يملكه، فما فرغوا من أشغالهم حتى أسفر الصبح، فبطل ما عزموا عليه لظهوره. فلما أصبحوا عجز الناس عن حفظ البلد، وزحف إليهم الفرنج بحدهم وحديدهم، فظهر من بالبلد على سوره يحركون أعلامهم ليراها المسلمون، وكانت هي العلامة إذا حزبهم | |
|
 | |
الشيخ عودة الشيخ عودة

عدد المساهمات : 1748 تاريخ التسجيل : 28/09/2008 العمر : 73
 | موضوع: رد: كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير الخميس فبراير 27, 2014 6:50 am | |
| فلما خربت عسقلان رحل صلاح الدين عنها ثاني شهر رمضان، ومضى إلى الرملة فخربت حصنها وخب كنيسة لد، وفي مدة مقامه لتخريب عسقلان كانت العساكر مع الملك العادل أبي بكر بن أيوب نجاه الفرنج، ثم سار صلا الدين إلى القدس بعد تخريب الرملة، فاعتبره وما فيه من سلاح وذخائر، وقرر قواعده وأسبابه، وما يحتاج إليه، وعاد إلى المخيم ثامن رمضان. وفي هذه الأيام خرج ملك إنكلتار من يافا، ومعه نفر من الفرنج من معسكرهم، فوقع به نفر من المسلمين، فقاتلوهم قتالاً شديداً، وكاد ملك إنكلتار يؤسر، ففداه بعض أصحابه بنفسه، فتخلص الملك وأسر ذلك الرجل. وفيها أيضاً كانت وقعة بين طائفة من المسلمين وطائفة من الفرنج انتصر فيها المسلمون. ذكر رحيل الفرنج إلى نطرونلما رأى صلاح الدين أن الفرنج قد لزموا يافا ولم يفارقوها، وشرعوا في عمارتها. رحل من منزلته إلى النطرون ثالث عشر رمضان، وخيم به، فراسله ملك إنكلتار يطلب المهادنة، فكانت الرسل تتردد إلى الملك العادل أبي بكر بن أيوب، أخي صلاح الدين، فاستقرت القاعدة أن ملك إنكلتار يزوج أخته من العادل أبي بكر بن أيوب، أخي صلاح الدين، فاستقرت القاعدة أن ملك إنكلتار يزوج أخته من العادل، ويكون القدس وما بأيدي المسلمين من بلاد الساحل للعادل، وتكون عكا وما بيد الفرنج من البلاد لأخت ملك إنكلتار، مضافاً إلى مملكة كانت لها داخل البحر قد ورثتها من زوجها، وأن يرضى الداوية بما يقع الاتفاق عليه، فعرض العادل ذلك على صلاح الدين، فأجاب إليه، فلما ظهر الخبر اجتمع القسيسون، والأساقفة، والرهبان إلى أخت ملك إنكلتار وأنكروا عيها، فامتنعت من الإجابة، وقيل كان المانع منه غير ذلك، والله أعلم. وكان العادل وملك إنكلتار يجتمعان بعد ذلك ويتجاريان حديث الصلح، وطلب من العادل أن يسمعه غناء المسلمين، فأحضر له مغنية تضرب بالجنك، فغنت له، فاستحسن ذلك، ولم يتم بينهما صلح، وكان ملك إنكلتار يفعل ذلك خديعة ومكراً.
ثم إن الفرنج أظهروا العزم على قصد البيت المقدس، فسار صلاح الدين إلى الرملة، جريدة، وترك الأثقال بالنطرون، وقرب من الفرنج، وبقي عشرين يوماً ينتظرهم، فلم يبرحوا، فكن بين الطائفتين، مدة المقام، عدة وقعات في كلها ينتصر المسلمون على الفرنج، وعاد صلاح الدين إلى النطرون، ورحل الفرنج من يافا إلى الرملة ثالث ذي القعدة، على عزم قصد البيت المقدس، فقرب بعضهم من بعض فعظم الخطب واشتد الحذر، فكان كل ساعة يقع الصوت في العسكرين بالنفير فلقوا من ذلك شدة شديدة، وأقبل الشتاء، وحالت الأوحال والأمطار بينهما. ذكر مسير صلاح الدين إلى القدسلما رأى صلاح الدين أن الشتاء قد هجم، والأمطار متوالية متتابعة، والناس منها في ضنك وحرج، ومن شدة البرد ولبس السلاح والسهر في تعب دائم، وكان كثير من العساكر قد طال بيكارها، فأذن لهم في العود إلى بلادهم للاستراحة والإراحة، وسار هو إلى البيت المقدس فيمن بقي معه، فنزلوا جميعاً داخل البلد، فاستراحوا مما كانوا فيه، ونزل هو بدار الأقسا مجاور بيعة قمامة، وقدم إليه عسكر من مصر مقدمهم الأمير أبو الهيجاء السمين، فقويت نفوس المسلمين بالقدس. وسار الفرنج من الرملة إلى النطرون ثالث ذي الحجة، على عزم قصد القدس، فكانت بينهم وبين يزك المسلمين وقعات، أسر المسلمون في وقعة منها نيفاً وخمسين فارساً من مشهوري الفرنج وشجعانهم، وكان صلاح الدين لما دخل القدس أمر بعمارة سوره، وتجديد ما رث منه، فأحكم الموضع الذي ملك البلد منه، وأتقنه، وأمر بحفر خندق خارج الفصيل، وسلم كل برج إلى أمير يتولى عمله، فعمل ولده الأفضل من ناحية باب عمود إلى باب الرحمة، وأرسل أتابك عز الدين مسعود، صاحب الموصل، جماعة من الحصاصين، ممن له في قطع الصخر اليد الطولى، فعملوا له هناك برجاً وبدنة، وكذلك جميع الأمراء. ثم إن الحجارة قلت عند العمالين، فكان صلاح الدين، رحمه الله يركب وينقل الحجارة بنفسه على دابته من الأمكنة البعيدة، فيقتدي به العسكر، فكان يجمع عنده ن العمالين في اليوم الواحد ما يعملونه عدة أيام. ذكر عود الفرنج إلى الرملةفي العشرين من ذي الحجة عاد الفرنج إلى الرملة، وكان سبب عودهم أنهم كانوا ينقلون ما يريدونه من الساحل، فلما أبعدوا عنه كان المسلمون يخرجون على من يجلب لهم الميرة فيقطعون الطريق ويغنمون ما معهم، ثم إن ملك إنكلتار قال لمن معه من الفرنج الشاميين: صوروا لي مدينة القدس، فإني ما رأيتها؛ فصوروها له، فرأى الوادي يحيط بها ما عدا موضعاً يسير من جهة الشمال، فسأل عن الوادي وعن عمقه، فأخبر أنه عميق، وعر المسلك. فقال: هذه مدينة لا يمكن حصرها ما دام صلاح الدين حياً وكلمة المسلمين مجتمعة، لأننا إن نزلنا في الجانب الذي يلي المدينة بقيت سائر الجوانب غير محصورة، فيدخل إليهم منها الرجال والذخائر وما يحتاجون إليه، وإن نحن افترقنا فنزل بعضنا من جانب الوادي وبعضنا من الجانب الآخر، جمع صلاح الدين عسكره وواقع إحدى الطائفتين، ولم يمكن الطائفة الأخرى إنجاد أصحابهم، لأنهم إن فارقوا مكانهم خرج من بالبلد من المسلمين فغنموا ما فيه، وإن تركوا فيه من يحفظه وساروا نحو أصحابهم، فإلى أن يتخلصوا من الوادي ويلحقوا بهم يكون صلاح الدين قد فرغ منهم، هذا سوى ما يتعذر علينا من إيصال ما يحتاج إليه من العلوفات والأقوات. فلا قال لهم ذلك علموا صدقه، ورأوا قلة الميرة عندهم، وما يجري للجالبين لها من المسلمين، فأشاروا عليه بالعود إلى الرملة، فعادوا خائبين خاسرين. ذكر قتل قزل أرسلانفي شعبان من هذه السنة قتل قزل أرسلان، واسمه عثمان بن إيلدكز، وقد ذكرنا أنه ملك البلاد، بعد وفاة أخيه البهلوان، ملك أران، وأذربيجان، وهمذان، وأصفهان، والري، وما بينها، وأطاعه صاحب فارس وخوزستان، واستولى على السلطتان طغرل بن أرسلان بن طغرل، فاعتقله في بعض القلاع، ودانت له البلاد.
وفي آخر أمره سار إلى أصفهان، والفتن بها متصلة من لدن توفي البهلوان إلى ذلك الوقت، فتعصب على الشافعية، وأخذ جماعة من أعيانهم فصلبهم، وعاد إلى همذان، وخطب لنفسه بالسلطنة، وضرب النوب الخمس، ثم إنه دخل ليلة قتل إلى منزله لينام، وتفرق أصحابه، فدخل إليه من قتله على فراشه، ولم يعرف قاتله، فأخذ أصحابه صاحب بابه ظناً وتخميناً؛ وكان كريماً حسن الأخلاق، يحب العدل ويؤثره، ويرجع إلى حلم وقلة عقوبة. ذكر عدة حوادثفي هذه السنة قدم معز الدين قيصر شاه بن قلج أرسلان، صاحب بلاد الروم، على صلاح الدين في رمضان، وكان سب قدومه أن والده عز الدين قلج أرسلان فرق مملكته على أولاده، وأعطى ولده هذا ملطية وأعطى ولده قطب الدين ملك شاه سيواس، فاستولى قطب الدين على أبيه، وحجر عليه، وأزال حكمه، وألزمه أن يأخذ ملطية من أخيه هذا ويسلمها إليه، فخاف معز الدين، فسار إلى صلاح الدين ملتجئاً إليه، معتضداً به، فأكرمه صلاح الدين، وزوجه بابنه أخيه الملك العادل، فامتنع قطب الدين من قصده، وعاد معز الدين إلى ملطية في ذي القعدة. وحدثني من أثق به قال: رأيت صلاح الدين وقد ركب ليودع معز الدين هذا، فترجل له معز الدين، وترجل صلاح الدين، وودعه راجلاً، فلما أراد الركوب عضده معز الدين هذا، وأركبه، وسوى ثيابه علاء الدين خرمشاه بن عز الدين، صاحب الموصل، قال: فعجبت من ذلك، وقلت ما تبالي يا ابن أيوب أي موتة تموت؟ يركبك ملك سلجوقي وابن أتابك زنكي. وفيها توفي حسام الدين محمد بن لاجين، وهو ابن أخت صلاح الدين؛ وعلم الدين سليمان بن جندر، وهو من أكابر أمراء صلاح الدين أيضاً. وفي رجب توفي الصفي بن القابض، وكان متولي دمشق لصلاح الدين، يحكم في جميع بلاده. ثم دخلت سنة ثمان وثمانين وخمسمائة ذكر عمارة الفرنج عسقلان في هذه السنة، في المحرم، رحل الفرنج نحو عسقلان وشرعوا في عمارتها، وكان صلاح الدين بالقدس، فسار ملك إنكلتار، جريدة، من عسقلان إلى يزك المسلمين، فواقعهم، وجرى بين الطائفتين قتال شديد انتصف بعضهم من بعض. وفي مدة مقام صلاح الدين بالقدس ما برحت سراياه تقصد الفرنج، فتارة تواقع طائفة منهم، وتارة تقطع الميرة عنهم، ومن جملتها سرية كان مقدمها فارس الدين ميمون القصري، وهو من مقدمي المماليك الصلاحية، خرج على قافلة كبيرة للفرنج، فأخذها وغنم ما فيها. ذكر قتل المركيس وملك الكندهرفي هذه السنة، في ثالث عشر ربيع الآخر، قتل المركيس الفرنجي، لعنه الله، صاحب صور، وهو أكبر شياطين الفرنج. وكان سبب قتله أن صلاح الدين راسل مقدم الإسماعيلية، وهو سنان، وبذل له أن يرسل من يقتل ملك إنكلتار، وإن قتل المركيس فله عشرة آلاف دينار، فلم يمكنهم قتل ملك إنكلتار، ولم يره سنان مصلحة لهم لئلا يخلو وجه صلاح الدين من الفرنج ويتفرغ لهم، وشره في أخذ المال، فعدل إلى قتل المركيس، فأرسل رجلين في زي الرهبان، واتصلا بصاحب صيدا وابن بارزان، صاحب الرملة، وكانا مع المركيس بصور، فأقاما معهما ستة أشهر يظرهان العبادة، فأنس بهما المركيس، ووثق بهما، فلما كان بعد التاريخ عمل الأسقف بصور دعوة للمركيس، فحضرها، وأكل طعامه، وشرب مدامه، وخرج من عنده، فوثب عليه الباطنيان المذكوران، فجرحاه جراحاً وثيقة، وهرب أحدهما، ودخل كنيسة يختفي فيها، فاتفق أن المركيس حمل إليها ليشد جراحه، فوثب عليه ذلك الباطني فقتله، وقتل الباطنيان بعده. ونسب الفرنج قتله إلى وضع من ملك إنكلتار لينفرد بملك الساحل الشامي، فلما قتل ولي بعده مدينة صور كند من الفرنج، من داخل البحر، يقال له الكند هري، وتزوج بالملكة في ليلته، ودخل بها وهي حامل، وليس الحمل عندهم مما يمنع النكاح. وهذا الكند هري هو ابن أخت ملك إفرنسيس من أبيه، وابن أخت ملك إنكلتار من أمه، وملك كند هري هذا بلاد الفرنج بالساحل بعد عود ملك إنكلتار، وعاش إلى سنة أربع وتسعين وخمسمائة، فسقط من سطح فمات؛ وكان عاقلاً، كثير المدارة والاحتمال. ولما رحل ملك إنكلتار إلى بلاده أرسل كند هري هذا إلى صلاح الدين يستعطفه، ويستميله، يطلب منه خلعة، وقال: أنت تعلم أن لبس القباء والشربوش عندنا عيب، وأنا ألبسهما منك محبة لك؛ فأنفذ إليه خلعة سنية منها القباء والشربوش، فلبسهما بعكا.
ذكر نهب بني عامر البصرة في هذه السنة، في صفر، اجتمع بنو عامر في خلق كثير، وأميرهم اسمه عميرة، وقصدوا البصرة، وكان الأمير بها اسمه محمد بن إسمعيل، ينوب عن مقطعها الأمير طغرل، مملوك الخليفة الناصل لدين الله، فوصلوا إليها يوم السبت سادس صفر، فخرج إليهم الأمير محمد فيمن معه من الجند، فوقعت الحرب بينهم بدرب الميدان، بجانب الخريبة، ودام القتال إلى آخر النهار، فلما جاء الليل ثلم العرب في السور عدة ثلم، ودخلوا البلد من الغد، فقاتلهم أهل البلد، فقتل بينهم قتلى كثيرة من الفريقين، ونهبت العرب الخانات بالشاطئ وبعض محال البصرة، وعبر أهلها إلى شاطئ الملاحين، وفارق العرب البلد في يومهم وعاد أهله إليه. وكان سبب سرعة العرب في مفارقة البلد أنهم بلغهم أن خفاجة والمنتفق قد قاربوهم، فساروا إليهم وقاتلوهم أشد قتال، فظفرت عامر، وغنمت أموال خفاجة والمنتفق، وعادوا إلى البصرة بكرة الاثنين، وكان الأمير قد جمع من أهل البصرة والسواد جمعاً كثيراً، فلما عادت عامر قاتلهم أهل البصرة ومن اجتمع معهم، فلم يقوموا للعرب وانهزموا، ودخل العرب البصرة ونهبوها، وفارق البصرة أهلها، ونهبت أموالهم، وجرت أمور عظيمة، ونهبت القسامل وغيرها يومين، وفارقها العرب وعاد أهلها إليها، وقد رأيت هذه القصة بعينها في سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة، والله أعلم. ذكر ما كان من ملك إنكلتارفي تاسع جمادى الأولى من هذه السنة استولى الفرنج على حصن الداروم، فخربوه، ثم ساروا إلى البيت المقدس وصلاح الدين فيه، فبلغوا بيت نوبة. وكان سبب طمعهم أن صلاح الدين فرق عساكره الشرقية وغيرها لأجل الشتاء، وليستريحوا، وليحضر البدل عوضهم، وسار بعضهم مع ولده الأفضل وأخيه العادل إلى البلاد الجزرية، لما نذكره إن شاء الله تعالى، وبقي من حلقته الخاص بعض العساكر المصرية، فظنوا أنهم ينالون غرضاً، فلما سمع صلاح الدين بقربهم منه فرق أبراج البلد على الأمراء، وسار الفرنج من بيت نوبة إلى قلونية، سلخ الشهر، وهي على فرسخين من القدس، فصب المسلمون عليهم البلاء، وتابعوا إرسال السرايا فبلي الفرنج منهم بما لا قبل لهم به، وعلموا أنهم إذا نازلوا القدس كان الشر إليهم أسرع والتسلط عليهم أمكن، فرجعوا القهقرى، وركب المسلمون أكتافهم بالرماح والسهام. ولما أبعد الفرنج عن يافا سير صلاح الدين سرية من عسكره إليها، فقاربوها، وكمنوا عندها، فاجتاز بهم جماعة من فرسان الفرنج مع قافلة، فخرجوا عليهم، فقتلوا منهم وأسروا وغنموا، وكان ذلك آخر جمادى الأولى. ذكر استيلاء الفرنج على عسكر المسلمينفي تاسع جمادى الآخرة بلغ الفرنج الخبر بوصول عسكر من مصر، ومعهم قفل كبير، ومقدم العسكر فلك الدين سليمان، أخو العادل لأمه، ومعه عدة من الأمراء، فأسرى الفرنج إليهم، فواقعهم بنواحي الخليل، فانهزم الجند، ولم يقتل منهم رجل من المشهورين إنما قتل من الغلمان والأصحاب، وغنم الفرنج خيامهم وآلاتهم؛ وأما القفل فإنه أخذ بعضه، وصعد من نجا جبل الخليل، فلم يقدم الفرنج على أتباعهم، ولو اتبعوهم نصف فرسخ لأتوا عليهم؛ وتمزق من نجا من القفل، وتقطعوا، ولقوا شدة إلى أن اجتمعوا. حكى لي بعض أصحابنا، وكنا قد سيرنا معه شيئاً للتجارة إلى مصر، وكان قد خرج في هذا القفل، قال: لما وقع الفرنج علينا كنا قد رفعنا أحمالنا للسير، فحملوا علينا وأوقعوا بنا، فضربت أحمالي وصعدت الجبل ومعي عدة أحمال لغيري. فلحقنا قوم من الفرنج، فأخذوا الأحمال التي في صحبتي، وكنت بين أيديهم بمقدار رمية سهم، فلم يصلوا إلي، فنجوت بما معي، وسرت لا أدري أين أقصد، وإذ قد لاح لي بناء كبير على جبل، فسألت عنه، فقيل لي: هذا الكرك؛ فوصلت إليه ثم عدت منه إلى القدس سالماً. وسار هذا الرجل من القدس سالماً، فلما بلغ بزاعة، عند حلب، أخذه الحرامية، فنجا من العطب، وهلك عند ظنه السلامة. ذكر سير الأفضل والعادل إلى بلاد الجزيرة
قد تقدم ذكر موت تقي الدين عمر ابن أخي صلاح الدين، واستيلاء ولده ناصر الدين محمد على بلاد الجزيرة، فلما استولى عليها أرسل إلى صلاح الدين يطلب تقريرها عليه، مضافاً إلى ما كان لأبيه بالشام، فلم ير صلاح الدين أن مثل تلك البلاد تسلم إلى صبي، فما أجابه إلى ذلك، فحدث نفسه بالامتناع على صلاح الدين لاشتغاله بالفرنج، فطلب الأفضل علي بن صلاح الدين من أبيه أن يقطعه ما كان لتقي الدين، وينزل عن دمشق، فأجابه إلى ذلك، وأمره بالمسير إليها، فسار إلى حلب في جماعة من العسكر، وكتب صلاح الدين إلى أصحاب البلاد الشرقية، مثل صاحب الموصل، وصاحب سنجار، وصاحب الجزيرة، وصاحب ديار بكر، وغيرها، يأمرهم بإنفاذ العساكر إلى ولده الأفضل. فلما رأى ولد تقي الدين ذلك علم أنه لا قوة له بهم، فراسل الملك العادل، عم أبيه، يسأله إصلاح حاله مع صلاح الدين، فأنهى ذلك إلى صلاح الدين، وأصلح حاله، وقرر قاعدته بأن يقرر له ما كان لأبيه بالشام، وتؤخذ منه البلاد الجزرية، واستقرت القاعدة على ذلك. وأقطع صلاح الدين البلاد الجزرية، وهي حران، والرها، وسميساط، وميافارقين، وحاني العادل، وسيره إلى ابن تقي الدين ليتسلم منه البلاد، ويسيره إلى صلاح الدين، ويعيد الملك الأفضل أين أدركه؛ فسار العادل، فلحق الأفضل بحلب، فأعاده إلى أبيه، وعبر العادل الفرات وتسلم البلاد من ابن تقي الدين وجعل نوابه فيها، واستصحب ابن تقي الدين معه، وعاد إلى صلاح الدين بالعساكر، وكان عوده في جمادى الآخرة من هذه السنة. ذكر عود الفرنج إلى عكالما عاد الملك الأفضل فيمن معه، وعاد الملك العادل وابن تقي الدين فيمن معهما من عساكرهما، ولحقتهم العساكر الشرقية، عسكر الموصل وعسكر ديار بكر وعسكر سنجار وغير ذلك من البلاد، واجتمعت العساكر بدمشق، أيقن الفرنج أنهم لا طاقة لهم بها، إذا فارقوا البحر، فعادوا نحو عكا يظهرون العزم على قصد بيوت ومحاصرتها، فأمر صلاح الدين ولده الأفضل أن يسير إليها في عسكره والعساكر الشرقية جميعها، معارضاً للفرنج في مسيرهم نحوها، فسار إلى مرج العيون، واجتمعن العساكر معه، فأقام هنالك ينتظر مسير الفرنج، فلما بلغهم ذلك أقاموا بعكا ولم يفارقوها. ذكر ملك صلاح الدين يافالما رحل الفرنج نحو عكا كان قد اجتمع عند صلاح الدين عسكر حلب وغيره، فسار إلى مدينة يافا، وكانت بيد الفرنج، فنازلها وقاتل من بها منهم، وملكها في العشرين من رجب بالسيف عنوة، ونهبها المسلمون، وغنموا ما فيها، وقتلوا الفرنج وأسروا كثيراً، وكان بها أكثر ما أخذوه من عسكر مصر والقفل الذي كان معهم، وقد ذكر ذلك. وكان جماعة من المماليك الصلاحية قد وقفوا على أبواب المدينة، وكل من خرج من الجند ومعه شيء من الغنيمة أخذوه منه، فإن امتنع ضربوه وأخذوا ما معه قهراً، ثم زحفت العساكر إلى القلعة، فقاتلوا عيها آخر النهار، وكادوا يأخذونها، فطلب من بالقلعة الأمان على أنفسهم، وخرج البطرك الكبير الذي لهم، ومعه عدة من أكابر الفرنج، في ذلك، وترددوا، وكان قصدهم منع المسلمين عن القتال، فأدركهم الليل، وواعدوا المسلمين أن ينزلوا بكرة غد ويسلموا القلعة. فلما أصبح الناس طالبهم صلاح الدين بالنزول عن الحصن، فامتنعوا، وإذا قد وصلهم نجدة من عكا، وأدركهم ملك إنكلتار، فأخرج من بيافا من المسلمين، وأتاه المدد من عكا وبرز إلى ظاهر المدينة، واعترض المسلمين وحده، وحمل علهم، فلم يتقدم إليه أحد، فوقف بين الصفين واستدعى طعاماً من المسلمين، ونزل فأكل، فأمر صلاح الدين عسكره بالحملة عليهم، وبالجد في قتالهم، فتقدم إليه بعض أمرائه يعرف بالجناح، وهو أخو المشطوب ابن عي بن أحمد الهكاري، فقال له: يا صلاح الدين قل لمماليكك الذين أخذوا أمس الغنيمة، وضربوا الناس بالحماقات، أن يتقدموا فيقاتلوا، إذا كان القتال فنحن، وإذا كان الغنيمة فلهم. فغضب صلاح الدين من كلامه وعاد عن الفرنج. وكان رحمه الله حليماً كريماً كثير العفو عند المقدرة، ونزل في خيامه، وأقام حتى اجتمعت العساكر، وجاء إليه ابنه الأفضل وأخوه العادل وعساكر الشرق، فرحل بهم إلى الرملة لينظر ما يكون منه ومن الفرنج، فلزم الفرنج يافا ولم يبرحوا منها. ذكر الهدنة مع الفرنج وعود صلاح الدين إلى دمشق
في العشرين من شعبان من هذه السنة عقدت بين المسلمين والفرنج هدنة لمدة ثلاث سنين وثمانية أشهر، أولها هذا التاريخ، وافق أول أيلول؛ وكان سبب الصلح أن ملك إنكلتار لما رأى اجتماع العساكر، وأنه لا يمكنه مفارقة ساحل البرح، وليس بالساحل للمسلمين بلد يطمع فيه، وقد طالت غيبته عن بلاده، راسل صلاح الدين في الصلح، وأظهر من ذلك ضد ما كان يطلب منه المصاف والحرب، فأعاد الفرنجي رسله مرة بعد مرة، ونزل عن تتمة عمارة عسقلان وعن غزة والداروم والرملة، وأرسل إلى الملك العادل في تقرير هذه القاعدة، فأشار هو وجماعة الأمراء بالإجابة إلى الصلح، وعرفوه ما عند العسكر من الضجر والملل، وما قد هلك من أسلحتهم ودوابهم ونفد من نفقاتهم، وقالوا: إن هذا الفرنجي إنما طلب الصلح ليركب البحر ويعود إلى بلاده، فإن تأخرت إجابته إلى أن يجيء الشتاء وينقطع الركوب في البحر نحتاج للبقاء هاهنا سنة أخرى، وحينئذ يعظم الضرر على المسلمين. وأكثروا القول له في هذا المعنى، فأجاب حينئذ إلى الصلح، فحضر رسل الفرنج وعقدوا الهدنة، وتحالفوا على هذه القاعدة، وكان في جملة من حضر عند صلاح الدين باليان بن بارزان الذي كان صاحب الرملة ونابلس، فلما حلف صلاح الدين قال له: اعلم أنه ما عمل أحد في الإسلام ما عملت، ولا هلك من الفرنج مثل ما هلك منهم هذه المدة فإننا أحصينا من خرج إلينا في البحر من المقاتلة، فكانوا ستمائة ألف رجل ما عاد منهم إلى بلادهم من كل عشرة واحد، بعضهم قتلته أنت، وبعضهم مات، وبعضهم غرق. وأما صلاح الدين، فإنه بعد تمام الهدنة سار إلى البيت المقدس، وأمر بإحكام سوره، وعمل المدرسة والرباط والبيمارستان وغير ذلك من مصالح المسلمين، ووقف عليها الوقوف، وصام رمضان بالقدس، وعزم على الحج والإحرام منه، فلم يمكنه ذلك، فسار عنه خامس شوال نحو دمشق، واستناب بالقدس أميراً اسمه عز الدين جورديك، وهو من المماليك النورية. ولما سار عنه جعل طريقه على الثغور الإسلامية كنابلس وطبرية وصفد وتبنين وقصد بيروت، وتعهد هذه البلاد، وأمر بإحكامها، فلما كان في بيروت أتاه بيمند صاحب أنطاكية وأعمالها، واجتمع به وخدمه، فخلع عليه صلاح الدين وعاد إلى بلده، فلما عاد رحل صلاح الدين إلى دمشق، فدخلها في الخامس والعشرين من شوال، وكان يوم دخوله إليها يوماً مشهوداً، وفرح الناس به فرحاً عظيماً لطول غيبته، وذهاب العدو عن بلاد الإسلام. ذكر وفاة قلج أرسلانفي هذه السنة، منتصف شعبان، توفي الملك قلج أرسلان بن مسعود بن قلج أرسلان بن سليمان بن قتلمش بن سلجوق السلجوقي بمدينة قونية، وكان له من البلاد قونية وأعمالها، وأقصرا، وسيواس، وملطية، وغير ذلك من البلاد، وكانت مدة ملكه نحو تسع وعشرين سنة، وكان ذا سياسة حسنة، وهيبة عظيمة، وعدل وافر، وغزوات كثيرة إلى بلاد الروم، فلما كبر فوق بلاده على أولاده، فاستضعفوه، ولم يلتفتوا إليه، وحجر عليه ولده قطب الدين. وكان قلج أرسلان قد استناب، في تدبير ملكه، رجلاً يعرف باختيار الدين حسن، فلما غلب قطب الدين على الأمر قتل حسناً، ثم أخذ والده وسار به إلى قيسارية ليأخذها من أخيه الذي سلمها إليه أبوه، فحصرها مدة، فوجد والده قلج أرسلان فرصة، فهرب ودخل قيسارية وحده. فلما علم قطب الدين ذلك عاد إلى قونية وأقصر فملكهما، ولم يزل قلج أرسلان يتحول من ولد إلى ولد، وكل منهم يتبرم به، حتى مضى إلى ولده غياث الدين كيخسرو، صاحب مدينة برغلوا، فلما رآه فرح به، وخدمه، وجمع العساكر، وسار هو معه إلى قونية، فملكها، وسار إلى اقصرا ومعه والده قلج أرسلان، فحصرها، فمرض أبوه، فعاد به إلى قونية فتوفي بها ودفن هناك، وبقي ولده غياث الدين في قونية مالكاً لها، حتى أخذتها منه أخوه ركن الدين سليمان، على ما نذكره إن شاء الله تعالى. وقد حدثني بعض من أثق به من أهل العلم بما يحكيه، وكان قد وصل تلك البلاد بغير هذا، ونحن نذكره، قال إن قلج أرسلان قسم بلاده بين أولاده في حياته، فسلم دوقاط إلى ابنه ركن الدين سليمان، وسلم قونية إلى ولده كيخسر وغياث الدين، وسلم أنقرة، وهي التي تسمى انكشورية إلى ولده محيي الدين، وسلم ملطية إلى ولده معز الدين قيصر شاه، وسلم أبلستين إلى ولده قطب الدين، وسلم نكسار إلى ولد آخر، وسلم أماسيا إلى ولد أخيه.
هذه أمهات البلاد، وينضاف إلى كل بلد من هذه ما يجاورها من البلاد الصغار التي ليست مثل هذه، ثم إنه ندم على ذلك، وأراد أن يجمع الجميع لولده الأكبر قطب الدين، وخطب له ابنه صلاح الدين يوسف، صاحب مصر والشام، ليقوى به، فلما سمع باقي أولاده بذلك امتنعوا عليه، وحرجوا عن طاعته، وزال حكمه عنهم، فسار يتردد بينهم على سبيل الزيارة، فيقيم عند كل واحد منهم مدة، وينتقل إلى الآخر، ثم إنه مضى إلى ولده كيخسرو، صاحب قونية، على عادته، فخرج إليه، ولقيه، وقبل الأرض بين يديه، وسلم قونية إليه وتصرف عن أمره، فقال لكيخسرو: أريد أن أسير إلى ولدي الملعون محمود، وهو صاحب قيسارية، وتجيء أنت معي لأخذها منه؛ فتجهز وسار معه، وحصر محموداً بقيسارية، فمرض قلج أرسلان، وتوفي عليها. فعاد كيخسرو، وبقي كل واحد من الأولاد على البلد الذي بيده. وكان قطب الدين، صاحب أقصرا وسيواس، إذا أراد أن يسير من إحدى المدينتين إلى الأخرى يجعل طريقه على قيسارية، وبها أخوه نور الدين محمود، وليست على طريقه إنما كان يقصدها ليظهر المودة لأخيه والمحبة له، وفي نفسه الغدر، فكان أخوه محمود يقصده ويجتمع به، ففي بعض المرات نزل بظاهر البلد على عادته، وحضر أخوه محمود عنده غير محتاط، فقتله قطب الدين، وألقى رأسه إلى أصحابه، وأراد أخذ البلد، فامتنع من به من أصحاب أخيه عليه، ثم إنهم سلموه إليه على قاعدة استمرت بينهم. وكان عند محمود أمير كبير، وكان يحذره من أخيه قطب الدين ويخوفه، فلم يصغ إليه، وكان جواداً، كثير الخير، والتقدم في الدولة عند نور الدين، فلما قتل قطب الدين أخاه قتل حسناً معه، وألقاه على الطريق، فجاء كلب يأكل من لحمه، فثار الناس، وقالوا: لا سمعاً ولا طاعة! هذا رجل مسلم، وله هاهنا مدرسة، وتربة، وصدقات دارة، وأفعال حسنة، لا نتركه تأكله الكلاب؛ فأمر به فدفن في مدرسته، وبقي أولاد قلج أرسلان على حالهم. ثم إن قطب الدين مرض ومات، فسار أخوه ركن الدين سليمان صاحب دوقاط إلى سيواس، وهي تجاوره، فملكها، ثم سار منها إلى قيسارة وأقصرا، ثم بقي مديدة، وسار إلى قونية وبها أخوه غياث الدين، وفحصره بها وملكها ففارقها غياث الدين إلى الشام، ثم إلى بلد الروم، وكان من أمره ما نذكره إن شاء الله تعالى؛ ثم سار بعد ذلك إلى ركن الدين إلى نكسار وأماسيا، فملكها، وسار إلى ملطية سنة سبع وتسعين وخمسمائة، فملكها وفارقها أخوه معز الدين إلى الملك العادل أبي بكر بن أيوب، وكان معز الدين هذا تزوج ابنة للعادل، فأقام عنده. واجتمع لركن الدين ملك جميع الإخوة ما عدا أنقرة فإنه منيعة لا يوصل إليها، فجعل عليها عسكراً يحصرها صيفاً وشتاء ثلاث سنين، فتسلمها سنة إحدى وستمائة، ووضع على أخيه الذي كان بها من يقتله إذ فارقها، فلما سار عنها قتل. وتوفي ركن الدين في تلك الأيام، ولم يسمع خبر قتل أخيه بل عاجله الله تعالى لقطع رحمه. وإنما أوردنا هذه الحادثة هاهنا لنتبع بعضها بعضاً، ولأني لم أعلم تاريخ كل حادثة منها لأثبتها فيه. ذكر ملك شهاب الدين أجمير وغيرها من الهند قد ذكرنا سنة ثلاث وثمانين غزوة شهاب الدين الغوري إلى بلد الهند، وانهزامه، وبقي إلى الآن وفي نفسه الحقد العظيم على الجند الغورية الذين انهزموا، وما ألزمهم من الهوان. فلما كان هذه السنة خرج من غزنة وقد جمع عساكره وسار منهم يطلب عدوه الهندي الذي هزمه تلك النوبة، فلما وصل إلى برشاوور تقدم إليه شيخ من الغورية كان يدل عليه، فقال له: قد قربنا من العدو؛ وما يعلم أحد أني نمضي ولا من نقصد ولا نرد على الأمراء سلاماً، وهذا لا يجوز فعله، فقال له السلطان: اعلم أنني منذ هزمني هذا الكافر ما نمت مع زوجتي، ولا غيرت ثياب البياض عني، وأنا سائر إلى عدوي، ومعتمد على الله تعالى لا على الغورية، ولا على غيرهم، فإن نصرني الله، سبحانه، ونصر دينه فمن فضله وكرمه، وإن انهزمنا فلا تطلبوني فيمن انهزم، ولو هلكت تحت حوافر الخيل. فقال له الشيخ: سوف ترى بني عمك من الغورية ما يفعلون، فينبغي أن تكلمهم وترد سلامهم. ففعل ذلك، وبقي أمراء الغورية يتضرعون بين يديه، ويقولون سوف ترى ما نفعل.
وسار إلى أن وصل إلى موضع المصاف الأول، وجازه مسيرة أربعة أيام، وأخذ عدة مواضع من بلاد العدو، فلما سمع الهندي تجهز، وجمع عساكره، وسار يطلب المسلمين، فلما بقي بين الطائفتين مرحلة عاد شهاب الدين وراءه والكافر في أعقابه أربع منازل، فأرسل الكافر إليه يقول له: أعطني يدك، إنك تصاففني في باب غزنة حتى أجيء وراءك إلا فنحن مثقلون، ومثلك لا يدخل البلاد شبه اللصوص ثم يخرج هارباً، ما هذا فعل السلاطين، فأعاد الجواب: إنني لا أقدر على حربك. وتم على حاله عائداً إلى أن بقي بينه وبين بلاد الإسلام ثلاثة أيام، والكافر في أثره يتبعه، حتى لحقه قريباً من مرندة فجرد شهاب الدين من عسكره سبعين ألفاً، وقال: أريد هذه الليلة تدورون حتى تكونوا وراء عسكر العدو، وعند صلاة الصبح تأتون أنتم من تلك الناحية، وأنا من هذه الناحية؛ ففعلوا ذلك، وطلع الفجر. ومن عادة الهنود أنهم لا يبرحون من مضجعهم إلى أن تطلع الشمس، فلما أصبحوا حمل عليهم عسكر المسلمين من كل جانب، وضربت الكوسات، فلم يلتفت ملك الهند إلى ذلك وقال: من يقدم علي، أنا هذا؟ والقتل قد كثر في الهنود، والنصر قد ظهر للمسلمين؛ فلما رأى ملك الهند ذلك أحضر فرساً له سابقاً، وركب ليهرب، فقال له أعيان أصحابه: إنك حلفت لنا أنك لا تخلينا وتهرب؛ فنزل عن الفرس وركب الفيل ووقف موضعه، والقتال شديد، والقتل قد كثر في أصحابه، فانتهى المسلمون إليه وأخذوه أسيراً، وحينئذ عظم القتل والأسر في الهنود، ولم ينج منهم إلا القليل. وأحضر الهندي بين يدي شهاب الدين، فلم يخدمه فأخذ بعض الحجاب بلحيته، وجذبه إلى الأرض، حتى أصابها جبينه، وأقعده بين يدي شهاب الدين، فقال له شهاب الدين: لو استأسرتني ما كنت تفعل بي؟ فقال الكافر: كنت استعملت لك قيداً من ذهب أقيدك به، فقال شهاب الدين: بل نحن ما نجعل لك من القذر ما نقيدك. وغنم المسلمون من الهنود أموالاً كثيرة وأمتعة عظيمة، وفي جملة ذلك أربعة عشر فيلاً، من جملتها الفيل الذي جرح شهاب الدين في تلك الوقعة. وقال ملك الهند لشهاب الدين: إن كنت طالب بلاد، فما بقي فيها من يحفظها، وإن كنت طالب مال، فعندي أموال تحمل أجمالك كلها. فسار شهاب الدين وهو معه إلى الحصن الذي له يعول عليه، وهو أجمير، فأخذه، وأخذ جميع البلاد التي تقاربه، وأقطع جميع البلاد لمملوكه قطب الدين أيبك، وعاد إلى غزنة، وقتل ملك الهند. ذكر عدة حوادثفي هذه السنة قبض على أمير الحاج طاشتكين ببغداد، وكان نعم الأمير، عادلاً في الحاد، رفيقاً بهم، نحباً لهم، له أوراد كثيرة من صلوات وصيام، وكان كثير الصدقة، لا جرم، وقفت أعماله بين يديه فخلص من السجن، على ما نذكره إن شاء الله تعالى. وفيها خرج السلطان طغرل بن أرسلان بن طغرل من الحبس بعد موت قزل أرسلان بن إيلدكز، والتقى هو وقتلغ إينانج بن البهلوان بن إيلدكز، فانهزم إينانج إلى الري، وكان ما نذكره، إن شاء الله تعالى، سنة تسعين وخمسمائة. وفيها، في رجب، توفي الأمير السيد علي بن المرتضى العلوي الحنفي مدرس جامع السلطان ببغداد. وفي شعبان منها توفي أبو علي الحسن بن هبة الله بن البوقي، الفقيه الشافعي الواسطي، وكان عالماً بالمذهب انتفع به الناس. ثم دخلت سنة تسع وثمانين وخمسمائة ذكر وفاة صلاح الدين وبعض سيرته في هذه السنة في صفر، توفي صلاح الدين يوسف بن أيوب بن شاذي، صاحب مصر والشام والجزيرة وغيرها من البلاد، بدمشق، ومولده بتكريت، وقد ذكرنا سبب انتقالهم منها، وملكهم مصر سنة أربع وستين وخمسمائة. وكان سبب مرضه أن خرج يتلقى الحاج، فعاد، ومرض من يومه مرضاً حاداً بقي به ثمانية أيام وتوفي، رحمه الله.
وكان قبل مرضه قد أحضر ولده الأفضل علياً وأخاه الملك العادل أبا برك، واستشارهما فيما يفعل، وقال: قد تفرغنا من الفرنج، وليس لنا في هذه البلاد شاغل، فأي جهة نقصد؟ فأشار عليه أخوه العادل بقصد خلاط، لأنه كان قد وعده، إذا أخذهتا، أن يسلمها إليه، وأشار ولده الأفضل بقصد بلد الروم التي بيد أولاد قلج أرسلان، وقال: هي أكثر بلاداً وعسكراً ومالاً وأسرع مأخذاً، وهي أيضاً طريق الفرنج إذا خرجوا على البر، فإذا ملكناها منعناهم من العبور فيها. فقال: كلاكما مقصر، ناقص الهمة، بل أقصد أنا بلد الروم، وقال لأخيه: تأخذ أنت بعض أولادي وبعض العسكر وتقصد خلاط، فإذا فرغت أنا من بلد الروم جئت إليكم، وندخل منها أذربيجان، ونتصل ببلاد العجم، فما فيها من يمنع عنها. ثم أذن لأخيه العادل في المضي إلى الكرك، وكان له، وقال له: تجهز واحضر لتسير؛ فلما سار إلى الكرك مرض صلاح الدين، و توفي قبل عوده. وكان رحمه الله، كريماً، حليماً، حسن الأخلاق، متواضعاً، صبوراً عل ما يكره، كثير التغافل عن ذنوب أصحابه، يسمع من أحدهم ما يكره ولا يعلمه بذلك ولا يتغير عليه. وبلغني أنه كان يوماً جالساً وعنده جماعة، فرمى بعض المماليك بعضاً بسرموز فأخطأته ووصلت إلى صلاح الدين فأخطأته ووقعت بالقرب منه، فالتفت إلى الجهة الأخرى يكلم جليسه ليتغافل عنها. وطلب مرة الماء فلم يحضر، وعاود الطلب في مجلس واحد خمس مرات فلم يحضر، فقال: يا أصحابنا، والله قد قتلني العطش! فأحضر الماء، فشربه ولم ينكر التواني في إحضاره. وكان مرة قد مرض مرضاً شديداً أرجف عليها بالموت، فلما برئ منه وأدخل الحمام كان الماء حاراً، فطلب ماء بارداً، فأحضره الذي يخدمه، فسقط من الماء شيء على الأرض، فناله منه شيء، فتأمل له لضعفه، ثم طلب البارد أيضاً، فأحضر، فلما قاربه سقطت الطاسة على الأرض، فوقع الماء جميعه عليه، فكاد يهلك، فلم يزد على أن قال للغلام: إن كنت تريد قتلي فعرفني! فاعتذر إليه، فسكت عنه. وأما كرمه، فإنه كان كثير البذل لا يقف في شيء يخرجه، ويكفي دليلاً على كرمه أنه لما مات لم يخلف في خزائنه غير دينار واحد صوري، وأربعين درهماً ناصرية، وبلغني أنه أخرج في مدة مقام على عكا قبالة الفرنج ثمانية عشر ألف دابة من فرس وبغل سوى الجمال، وأما العين والثياب والسلاح فإنه لا يدخل تحت الحصر، ولما انقرضت الدولة العلوية بمصر أخذ من ذخائرهم من سائر الأنواع ما يفوت الإحصاء ففرقه جميعه. وأما تواضعه، فإنه كان ظاهراً لم يتكبر على أحد من أصحابه، وكان يعيب الملوك المتكبرين بذلك، وكان يحضر عنده الفقراء والصوفية، ويعمل لهم السماع، فإذا قام أحدهم لرقص أو سماع يقوم له فلا يقعد حتى يفرغ الفقير. ولم يلبس شيئاً مما ينكره الشرع، وكان عنده علم ومعرفة، وسمع الحديث وأسمعه، وبالجملة كان نادراً في عصره، كثير المحاسن والأفعال الجميلة، عظيم الجهاد في الكفار، وفتوحه تدل على ذلك، وخلف سبعة عشر ولداً ذكراً. ذكر حال أهله وأولاده بعدهلما مات صلاح الدين بدمشق كان معه بها ولده الأكبر والأفضل نور الدين علي، وكان قد حلف له العساكر جميعها، غير مرة، في حياته، فلما مات ملك دمشق، والساحل، والبيت المقدس، وبعلبك، وصرخد، وبصرى، وبانياس، وهونين، وتبنين، وجمع الأعمال إلى الداروم. وكان ولده الملك العزيز عثمان بمصر، فاستولى عليها، وعلى جميع أعمالها، مثل: حارم، وتل باشر، وإعزاز، وبرزية، ودرب ساك، ومنبج وغير ذلك. وكان بحماة محمود بن تقي الدين عمر فأطاعه وصار معه. وكان بحمص شيركوه بن محمد بن شيركوه، فأطاع الملك الأفضل.
وكان الملك العادل قد سار إليه، كما ذكرنا، فامتنع فيه، لم يحضر عند أحد من أولاد أخيه، فأرسل إليه الملك الأفضل يستدعيه ليحضر عنده، فوعده ولم يفعل، فأعاد مراسلته، وخوفه من الملك العزيز، صاح مصر، ومن أتابك عز الدين، صاحب الموصل، فإنه كان قد سار عنها إلى بلاد العادل الجزرية، على ما نذكره، ويقول له: إن حضرت جهزت العساكر وسرت إلى بلادك فحفظتها، وإن أقمت قصدك أخي الملك العزيز لما بينكما من العداوة، وإذا ملك عز الدين بلادك فليس له دون الشام مانع؛ وقال لرسوله: إن حضر معك، وإلا فقل له قد أمرني، إن سرت إليه بدمشق عدت معك، وإن لم تفعل أسير إلى الملك العزيز أحالفه على ما يختار. فلما حضر الرسول عنده وعده بالمجيء، فلما رأى أن ليس معه منه غير الوعد أبلغه ما قيل له في معنى موافقة العزيز، فحينئذ سار إلى دمشق، وجهز الأفضل معه عسكراً من عنده، وأرسل إلى صاحب حمص، وصاحب حماة، وإلى أخيه الملك الظاهر بحلب، يحثهم على إنفاذ العساكر مع العادل إلى البلاد الجزرية ليمنعها من صاحب الموصل، ويخوفهم إن هم لم يفعلوا. ومما قال لأخيه الظاهر: قد عرفت صحبة أهل الشام لبيت أتابك، فوالله لئن ملك عز الدين حران ليقومن أهل حلب عليك، ولتخرجن منها وأننت لا تعقل، وكذلك يفعل بي أهل دمشق، فاتفقت كلمتهم على تسيير العساكر معه، فجهزوا عساكرهم وسيروها إلى العادل وقد عبر الفرات. فعسكرت عساكرهم بنواحي الرها بمرج الريحان، وسنذكر ما كان منه إن شاء الله تعالى. ذكر مسير أتابك عز الدين إلى بلاد العادل وعوده بسبب مرضه لما بلغ أتابك عز الدين مسعود بن مودود بن زنكي، صاحب الموصل، وفاة صلاح الدين جمع أهل الرأي من أصحابه، وفيهم مجاهد الدين قايماز، كبير دولته، والمقدم على كل من فيها، وهو نائبه فيهم، واستشارهم فيما يفعل، فسكتوا. فقال له بعضهم، وهو أخي مجد الدين أبو السعادات المبارك: أنا أرى أنك تخرج مسرعاً جريدة فيمن خف من أصحابك وحلقتك الخاص، وتتقدم إلى الباقين باللحاق بك، وتعطي من هو محتاج إلى شيء ما يتجهز به ما يخرجه ويلحق بك إلى نصيبين، وتكاتب أصحاب الأطراف مثل مظفر الدين بن زين الدين، وصاحب إربل، وسنجر شاه ابن أخيك صاحب جزيرة ابن عمر، وأخيك عماد الدين صاحب سنجار ونصيبين، تعرفهم أنك قد سرت، وتطلب منهم المساعدة وتبذل لهم اليمين على ما يلتمسونه، فمتى رأوك قد سرت خافوك، وإن أجابك أخوك صاح بسنجار ونصيبين إلى الموافقة، وإلا بدأ بنصيبين فأخذتها وتركت عسكره مقابل أخيك يمنعه الحركة، إن أرادها، أو قصدت الرقة، فلا تمنع نفسها، وتأتي حران والرها، فليس فيها من يحفظها لا صاحب ولا عسكر ولا ذخيرة، فإن العادل أخذهما من ابن تقي الدين، ولم يقم فيهما ليصلح حالهما، وكان القوم يتكلون على قوتهم، فلم يظنوا هذا الحادث، فإذا فرغت من ذلك الطرف عدت إلى من امتنع من طاعتك فقاتلته، وليس وراءك ما تخاف عليه، فإن بلدك عظيم لا يبالي بكل من وراءك. فقال مجاهد الدين: المصلحة أننا نكاتب أصحاب الأطراف، ونأخذ رأيهم في الحركة، ونستميلهم، فقال له أخي: إن أشاروا بترك الحركة تقبلون منهم؟ قال: لا! قال: إنهم لا يشيرون إلا بتركها، لأنهم لا يريدون أن يقوى هذا السلطان خوفاً منه، وكأني بهم يغالطونكم ما دامت البلاد الجزرية فارغة من صاحب وعسكر فإذا جاء إليها من يحفظها جاهروكم بالعداوة. ولم يمكنه أكثر من هذا القول خوفاً من مجاهد الدين، حيث رأى ميله إلى ما تكلم به، فانفصلوا على أن يكاتبوا أصحاب الأطراف، فكاتبوهم، فكل أشار بترك الحركة إلى أن ينظر ما يكون من أولاد صلاح الدين وعمهم فتثبطوا.
ثم إن مجاهد الدين كرر المراسلات إلى عماد الدين، صاحب سنجار، يعده ويستميله، فبينما هم على ذلك إذ جاءهم كتاب الملك العادل من المناخ بالقرب من دمشق، وقد سار عن دمشق إلى بلاده، يذكر فيه موت أخيه، وأن البلاد قد استقرت ولده الملك الأفضل، والناس متفقون على طاعته، وأنه هو المدبر لدولة الأفضل، وقد سيره في عسكر جم، كثير العدد، لقصد ماردين لما بلغه أن صاحبها تعرض إلى بعض القرى التي له، وذكر من هذا النحو شيئاً كثيراً، فظنوه حقاً وأن قوله لا ريب فيه، ففتروا عن الحركة، وذلك الرأي، فسيروا الجواسيس، فأتتهم الأخبار بأنه في ظاهر حران نحو من مائتي خيمة لا يغر، فعادوا فتحركوا، فإلى أن تقررت القواعد بينهم وبين صاحب سنجار، وصلته العساكر الشامية التي سيرها الأفضل وغيره إلى العادل، فامتنع بها وسار أتابك عز الدين عن الموصل إلى نصيبين، واجتمع هو وأخوه عماد الدين بها، وساروا على سنجار نحو الرها، وكان العادل قد عسكر قريباً منها بمرج الربحان، فخافهم خوفهاً عظيماً. فلما وصل أتابك عز الدين إلى تل موزن مرض بالإسهال، فأقام عدة أيام فضعف عن الحركة، وكثر مجيء الدم من، فخاف الهلاك، فترك العساكر مع أخيه عماد الدين وعاد جريدة في مائتي فارس، ومعه مجاهد الدين وأخي مجد الدين، فلما وصل إلى دنيسر استولى عليه الضعف، فأحضر أخي وكتب وصية، ثم سار فدخل الموصل وهو مريض أول رجب. ذكر وفاة أتابك عز الدين وشيء من سيرته في هذه السنة توفي أتابك عز الدين مسعود بن مودود بن زنكي بن أاقسنقر، صاحب الموصل، بالموصل، وقد ذكرنا عوده إلهيا مريضاً، فبقي في مرضه إلى التاسع والعشرين من شعبان، فتوفي، رحمه الله، ودفن بالمدرسة التي أنشأها مقابل دار الملكة، وكان قد بقي ما يزيد على عشرة أيام لا يتكلم إلا بالشهادتين، وتلاوة القرآن، وإذا تكلم بغيرها استغفر الله، ثم عاد إلى ما كان عليه، فرزق خاتمة خير، رضي الله عنه. وكان، رحمه الله، خير الطبع، كثير الخير والإحسان، لا سيما إلى شيوخ قد خدموا أباه، فإنه كان يتعهدهم بالبر والإحسان، والصلة والإكرام، ويرجع إلى قولهم، ويزور الصالحين، ويقربهم، ويشفعهم. وكان حليماً، قليل المعاقبة، كثير الحياء، لم يكلم جليساً له إلا وهو مطرق، وما قال في شيء يسأله: لا، حياء وكرم طبع. وكان قد حج، ولبس بمكة، حرسها الله، خرقة التصوف، وكان يلبس تلك الخرقة كل ليلة، ويخرج إلى المسجد قد بناه في داره، ويصلي فيه نحو ثلث الليل؛ وكان رقيق القلب، شفيقاً على الرعية. بلغني عنه أنه قال، بعض الأيام: إنني سهرت الليلة كثيراً، وسبب ذلك أني سمعت صوت نائحة، فظننت أن ولد فلان قد مات، وكان قد سمع أنه مريض، قال: فضاق صدري، وقمت من فراشي أدور في السطح، فلما طال علي الأمر أرسلت خادماً إلى الجاندارية، فأرسل منهم واحداً يستعلم الخبر، فعاد وذكر إنساناً لا أعرفه، فسكن بعض ما عندي فنمت، ولم يكن الرجل الذي ظن أن ابنه مات من أصحابه إنما كان من رعيته. كان ينبغي أن تتأخر وفاته، وإنما قدمناها لتتبع أخباره بعضها بعضاً. ذكر قتل بكتمر صاحب بخلاطفي هذه السنة، أول جمادى الأولى، قتل سيف الدين بكتمر، صاحب خلاط، وكان بين قتله وموت صلاح الدين شهران، فإنه أسرف في إظهار الشماتة بموت صلاح الدين، فلم يمهله الله تعالى، ولما بلغه موت صلاح الدين فرح فرحاً كثيراً، وعمل تختاً جلس عليه، ولقب نفسه بالسلطان المعظم صلاح الدين، وكان لقبه سيف الدين، فغيره، وسمي نفسه عبد العزيز، وظهرت منه اختلال وتخليط، وتجهز ليقصد ميافارقين يحصرها، فأدركته منيته. وكان سبب قتله أن هزار ديناري، وهو أيضاً من مماليك شاه أرمن ظهير الدين، كان قد قوي وكثر جمعه، وتزوج ابنة بكتمر، فطمع في الملك، فوضع عليه من قتله، فلما قتل ملك بعده هزار ديناري بلاد خلاط وأعمالها. وكان بكتمر ديناً، خيراً، صالحاً، كثير الخير، والصلاح، والصدقة، محباً لأهل الدين والصوفية، كثير الإحسان إليهم، قريباً منهم ومن سائر رعيته، محبوباً إليهم، عادلاًُ فيهم، وكان جواداً شجاعاً عادلاً في رعيته حسن السيرة فيهم. ذكر عدة حوادث
في هذه السنة شتى شهاب الدين ملك غزنة في برشاوور، وجهز مملوكه أيبك في عساكر كثيرة، فأدخله بلاد الهند يغنم ويسبي، ويفتح من البلاد ما يمكنه، فدخلها، وعاد فخرج هو وعساكره سالماً، قد ملأوا أيديهم من الغنائم. وفيها، في رمضان، توفي سلطان شاه، صاحب مرو وغيرها من خراسان، وملك أخوه علاء الدين تكش بلاده، وسنذكر سنة تسعين إن شاء الله تعالى. وفيها أمر الخليفة الناصر لدين الله بعمارة خزانة الكتب بالمدرسة النظامية ببغداد، ونقل إليها من الكتب النفيسة ألوفاً لا يوجد مثلها. وفيها، في ربيع الأول فرغ من عمارة الرباط الذي أمر بإنشائه الخليفة أيضاً بالحريم الطاهري، غربي بغداد على دجلة، وهو من أحسن الربط، ونقل إليه كتباً كثيرة من أحسن الكتب. وفيها ملك الخليفة قلعة من بلاد خوزستان، وسبب ذلك أن صاحبها سوسيان بن شملة جعل فيها دزداراً، فأساء السيرة مع جندها، فغدر به بعضهم فقتله، ونادوا بشعار الخليفة، فأرسل إليها وملكها. وفيها انقض كوكبان عظيمان، وسمع صوت هدة عظيمة، وذلك بعد طاوع الفجر، وغلب ضوءهما القمر وضوء النهار. وفيها مات الأمير داود بن عيسى بن محمد بن أبي هشام، أمير مكة، وما زالت إمارة مكة تكون له تارة، ولأخيه مكثر تارة، إلى أن مات. وفي هذه السنة توفي أبو الرشيد الحاسب البغدادي، وكان قد أرسله الخليفة الناصر لدين الله في رسالة إلى الموصل فمات هناك. ثم دخلت سنة تسعين وخمسمائة ذكر الحرب بين شهاب الدين وملك بنارس الهندي كان شاب الدين الغوري، ملك غزنة، وقد جهز مملوكه قطب الدين أيبك، وسيره إلى بلد الهند للغزاة، فدخلها فقتل فيها و سبى وغنم وعاد، فلما سمع به ملك بنارس، وهو أكبر ملك في الهند، ولايته من حد الصين إلى بلاد ملاوا طولاً، ومن البحر إلى مسيرة عشرة أيام من لهاوور عرضاً، وهو ملك عظيم، فعندها جمع جيوشه، وحشرها، وسار يطلب بلاد الإسلام. ودخلت سنة تسعين فسار شهاب الدين الغوري من غزنة بعساكره نحوه، فالتقى العسكران على ماجون، وهو نهر كير يقارب دجلة بالموصل، وكان مع الهندي سبع مائة فيل، ومن العسكر على ما قيل ألف ألف رجل، ومن جملة عسكره عدة أمراء مسلمين، كانوا في تلك البلاد أباً عن جد، من أيام السلطان محمود بن سبكتكين، يلازمون شريعة الإسلام، ويواظبون على الصلوات وأفعال الخير، فلما التقى المسلمون والهنود اقتتلوا، فصبر الكفار لكثرتهم، وصبر المسلمون لشجاعتهم، فانهزم الكفار، ونصر المسلمون، وكثر القتل في الهنود، حتى امتلأت الأرض وجافت، وكانوا لا يأخذون إلا الصبيان والجواري، وأما الرجال فيقتلون، وأخذ منهم تسعين فيلاً، وباقي الفيلة قتل بعضها، وانهزم بعضها، وقتل ملك الهند، ولم يعرفه أحد، إلا أنه كانت أسنانه قد ضعفت أصولها، فأمسكوها بشريط الذهب، فبذلك عرفوه. فلما انهزم الهنود دخل شهاب الدين بلاد بنارس، وحمل من خزائنها على ألف وأربع مائة جمل، وعاد إلى غزنة ومعه الفيلة التي أخذها من جملتها فيل أبيض، حدثني من رآه: لما أخذت الفيلة، وقدمت إلى شهاب الدين، أمرت بالخدمة، فخدمت جميعها إلا | |
|
 | |
الشيخ عودة الشيخ عودة

عدد المساهمات : 1748 تاريخ التسجيل : 28/09/2008 العمر : 73
 | موضوع: رد: كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير الخميس فبراير 27, 2014 6:51 am | |
| وكان الوزير مؤيد الدين بن القصاب قد توفي في أوائل شعبان، فوقع بينه وبين عسكره الخليفة مصاف، نصف شعبان سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة، فقتل بينهم كثير من العسكرين، وانهزم عسكر الخليفة، وغنم الخوارزميون منهم شيئاً كثيراً، وملك خوارزم شاه همذان، ونبش الوزير من قبره وقطع رأسه وسيره إلى خوارزم، وأظهر أنه قتله في المعركة؛ ثم إن خوارزم شاه أتاه من خراسان ما أوجب أن يعود إليها، فترك البلاد وعاد إلى خراسان. ذكر غزو ابن عبد المؤمن الفرنج بالأندلسفي هذه السنة، في شعبان، غزا أبو يوسف يعقوب بن عبد المؤمن، صاحب بلاد المغرب والأندلس، بلاد الفرنج بالأندلس؛ وسبب ذلك أن ألفنش ملك الفرنج بها، ومقر ملكه مدينة طليطلة، كتب إلى يعقوب كتاباً نسخته: باسمك اللهم فاطر السموات والأرض؛ أما بعد أيها الأمير، فإنه لا يخفى على كل ذي عقل لازب، ولا ذي لب وذكاء ثاقب، أنك أمير الملة الحنيفية، كما أنا أمير الملة النصرانية، وأنك من لا يخفى عليه ما هم عليه رؤساء الأندلس من التخاذل والتواكل، وإهمال الرعية، واشتمالهم على الراحات، وأنا أسومهم الخسف وأخلي الديار، وأسبي الذاراري، وأمثل بالكهول، وأقتل الشباب، ولا عذر لك في التخلف عن نصرتهم، وقد أمكنتك يد القدرة، وأنتم تعتقدون أن الله فرض عليكم قتال عشرة منا بواحد منكم، والآن خفف الله عنكم، وعلم أن فيكم ضعفاً، فقد فرض عليكم قتال اثنين منا بواحد منكم، ونحن الآن نقاتل عدداً منكم بواحد منا، ولا تقدرون دفاعاً، ولا تستطيعون امتناعاً. ثم حكي لي عنك أنك أخذت في الاحتفال، وأشرفت على ربوة القتال، وتمطل نفسك عاماً بعد عام، تقدم رجلاً وتؤخر أخرى، ولا أدري الجبن أبطأ بك أم التكذيب بما أنزل عليك. ثم حكي لي عنك أنك لا تجد سبيلاً للحرب لعلك ما يسوغ لك التقحم فيها، فها أنا أقول لك ما فيه الراحة، وأعتذر عنك، ولك أن توافيني بالعهود والمواثيق والأيمان أن تتوجه بجملة من عندك في المراكب والشواني، وأجوز إليك بجملتي وأبارزك في أعز الأماكن عندك، فإن كانت لك فغنيمة عظيمة جاءت إليك، وهدية مثلت بين يديك، وإن كانت لي كانت يدي العليا عليك، واستحققت إمارة الملتين، والتقدم على الفئتين، والله يسهل الإرادة، ويوفق السعادة بمنه لا رب غيره، ولا خير إلا خيره. فلما وصل كتابه وقرأه يعقوب كتب في أعلاه هذه الآية: (ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها ولنخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون) النمل 37، وأعاده إليه، وجمع العساكر العظيمة من المسلمين وعبر المجاز إلى الأندلس. وقيل: كان سبب عبوره إلى الأندلس أن يعقوب لما قاتل الفرنج سنة ست وثمانين وصالحهم، بقي طائفة من الفرنج لم ترض الصلح، كما ذكرناه، فلما كان الآن جمعت تلك الطائفة جمعاً من الفرنج، وخرجوا إلى بلاد الإسلام، فقتلوا وسبوا وغنموا وأسروا، وعاثوا فيها عيثاً شديداً، فانتهى ذلك إلى يعقوب، فجمع العساكر، وعبر المجاز إلى الأندلس في جيش يضيق عنهن الفضاء، فسمعت الفرنج بذلك، فجمعت قاصيهم ودانيهم، وأقبلوا إليه مجدين على قتاله، واثقين بالظفر لكثرتهم، فالتقوا، تاسع شعبان، شمالي قرطبة عند قلعة رياح، بمكان يعرف بمرج الحديد، فاقتتلوا قتالاً شديداً، فكانت الدائرة أولاً على المسلمين، ثم عادت على الفرنج، فانهزموا أقبح هزيمة وانتصر المسلمون عليهم (وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم) التوبة 40. وكان عدد من قتل من الفرنج مائة ألف وستة وأربعين ألفاً، وأسر ثلاثة عشر ألفاً، وغنم المسلمون منهم شيئاً عظيماً، فمن الخيام مائة ألف وثلاثة وأربعون ألفاً، ومن الخيل ستة وأربعون ألفاً، ومن البغال مائة ألف، ومن الحمير مائة ألف. وكان يعقوب قد نادى في عسكره: من غنم شيئاً فهو له سوى السلاح؛ وأحصى ما حمل إليه منه، فكان زيادة على سبعين ألف لبس، وقتل من المسلمين نحو عشرين ألفاً. ولما انهزم الفرنج اتبعهم أو يوسف، فرآهم قد أخذوا قلعة رياح، وساروا عنها من الرعب والخوف، فملكها، وجعل فيها والياً، وجنداً يحفظونها، وعاد إلى مدينة إشبيلية.
وأما ألفنش، فإنه لما انهزم حلق رأسه، ونكس صليبه، وركب حماراً، وأقسم أن لا يركب فرساً ولا بغلاً حتى تنصر النصرانية، فجمع جموعاً عظيمة، وبلغ الخبر بذلك إلى يعقوب، فأرسل إلى بلاد الغرب مراكش وغيرها يستنفر الناس من غير إكراه، فأتاه من المتطوعة والمرتزقين جمع عظيم، فالتقوا في ربيع الأول سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة، فانهزم الفرنج هزيمة قبيحة، وغنم المسلمون ما معهم من الأموال والسلاح والدواب وغيرها، وتوجه إلى مدينة طليلطة فحصرها، وقاتلها قتالاً شديداً، وقطع أشجارها، وشن الغارة على ما حولها من البلاد، وفتح فيها عدة حصون، فقتل رجالها، وسبى حريمها، وخرب دورها، وهدم أسوارها، فضعفت النصرانية حينئذ، وعظم أمر الإسلام بالأندلس، وعاد يعقوب إلى إشبيلية فأقام بها. فلما دخلت سنة ثلاث وتسعين سار عنها إلى بلاد الفرنج، وذلوا، واجتمع ملوكها، وأرسلوا يطلبون الصلح، فأجابهم إليه بعد أن كان عازماً على الامتناع مريداً لملازمة الجهاد إلى أن يفرغ منهم، فأتاه خبر علي بن إسحق الملثم الميورقي أنه فعل بإفرقية ما نذكره من الأفاعيل الشنيعة، فترك عزمه، وصاحلهم مدة خمس سنين، وعاد إلى مراكش آخر سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة. ذكر فعلة الملثم بإفريقيةلما عبر أبو يوسف يعقوب، صاحب المغرب، إلى الأندلس، كما ذكرنا، وأقام مجاهداً ثلاث سنين، انقطعت أخباره عن إفريقية، فقوي طمع علي بن إسحق الملثم الميورقي، وكان بالبرية مع العرب، فعاود قصد إفريقية، فانبث جنوده في البلاد فخربوها، وأكثروا الفساد فيها، فمحيت آثار تلك البلاد وتغيرت، وصارت خالية من الأنيس، خاوية على عروشها. وأراد المسير إلى بجاية ومحاصرتها لاشتغال يعقوب بالجهاد، وأظهر أنه إذا استولى على بجاية سار إلى المغرب؛ فوصل الخبر إلى يعقوب بذلك، فصالح الفرنج على ما ذكرناه، وعاد إلى مراكش عازماً على قصده، وإخراجه من البلاد، كما فعل سنة إحدى وثمانين وخمسمائة وقد ذكرناه. ذكر ملك عسكر الخليفة أصفهانفي هذه السنة جهز الخليفة الناصر لدين الله جيشاً وسيره إلى أصفهان، ومقدمهم سيف الدين طغرل، مقطع بلد اللحف من العراق، وكان بأصفهان عسكر لخوارزم شاه مع ولده. وكان أهل أصفهان يكرهونهم، فكاتب صدر الدين الخجندي رئيس الشافعية بأصفهان الديوان ببغداد يبذل من نفسه تسليم البلد إلى من يصل الديوان من العساكر، وكان هو الحكام بأصفهان على جميع أهلها، فسيرت العساكر، فوصلوا إلى أصفهان، ونزلوا بظاهر البلد، وفارقه عسكر خوارزم شاه، وعادوا إلى خراسان، وتبعهم بعض عسكر الخليفة، فتخطفوا منهم، وأخذوا من ساقة العسكر من قدروا عليه، ودخل عسكر الخليفة إلى أصفهان وملكوها. ذكر ابتداء حال كوكجه وملكه بلد الري وهمذان وغيرهما لما عاد خوارزم شاه إلى خرسان، كما ذكرنا، اتفق المماليك الذين للبهلوان والأمراء، وقدموا على أنفسهم كوكجه، وهو من أعيان المماليك البهلوانية، واستولوا على الري وما جاورها من البلاد، وساروا إلى أصفهان لإخراج الخوارزمية منها، فلما قاربوها سمعوا بعسكر الخليفة عندها، فأرسل إلى مملوك الخليفة سيف الدين طغرل يعرض نفسه على خدمة الديوان، ويظهر العبودية، وأنه إنما قصد أصفهان في طلب العساكر الخوارزمية، وحيث رآهم فارقوا أصفهان سار في طلبهم، فلم يدركهم، وسار عسكر الخليفة من أصفهان إلى همذان. وأما كوكجه فإنه تبع الخوارزمية إلى طبس، وهي من بلاد الإسماعيلية، وعاد فقصد أصفهان وملكها، وأرسل إلى بغداد يطلب أن يكون له الري وخوار الري وساوة وقم وقاجان وما ينضم إليها إلى حد مزدغان، وتكون أصفهان وهمذان وزنجان وقزوين لديوان الخليفة، فأجيب إلى ذلك، وكتب له منشور بما طلب، وأرسلت له الخلع، فعظم شأنه، وقوي أمره، وكثرت عساكره، وتعظم على أصحابه. ذكر حصر العزيز دمشق ثانية وانهزمه عنها وفي هذه السنة أيضاً خرج الملك العزيز عثمان بن صلاح الدين من مصر في عساكره إلى دمشق يريد حصرها، فعاد عنها منهزماً.
وسبب ذلك أن من عنده من مماليك أبيه، وهم المعروفون بالصلاحية: فخر الدين جركس، وسرا سنقر، وقراجا، وغيرهم كانوا منحرفين عن الأفضل علي بن صلاح الدين لأنه كان قد أخرج من عنده منهم مثل: ميمون القصري، وسنقر الكبير، وأيبك وغيرهم، فكانوا لا يزالون يخوفون العزيز من أخيه، ويقولون: إن الأكراد والمماليك الأسدية من عسكر مصر يريدون أخاك، ونخاف أن يميلوا إليه ويخرجوك من البلاد، والمصلحة أن نأخذ دمشق؛ فخرج من العام الماضي وعاد، كما ذكرناه، فتجهز هذه السنة ليخرج، فبلغ الخبر إلى الأفضل، فسار من دمشق إلى عمه الملك العادل، فاجتمع به بقلعة جعبر، ودعاه إلى نصرته، وسار من عنده إلى حلب، إلى أخيه الملك الظاهر غازي، فاستنجد به، وسار الملك العادل من قلعة جعبر إلى دمشق، فسبق الأفضل إليها ودخلها، وكان الأفضل لثقته به قد أمر نوابه بإدخاله إلى القلعة ثم عاد الأفضل من حلب إلى دمشق ووصل الملك العزيز إلى قرب دمشق، فأرسل مقدم الأسدية، وهو سيف الدين أيازكوش، وغيره منهم، ومن الأكراد أبو الهيجاء السمين وغيره، إلى الأفضل والعادل بالانحياز إليهما والكون معهما، ويأمرهما بالاتفاق على العزيز والخروج من دمشق ليسلموه إليهما. وكان سبب الانحراف عن العزيز وميلهم إلى الأفضل أن العزيز لما ملك مصر مال إلى المماليك الناصرية، وقدمهم، ووثق بهم، ولم يلتفت إلى هؤلاء الأمراء، فامتعضوا من ذلك، ومالوا إلى أخيه، وأرسلوا إلى الأفضل والعادل فاتفقا على ذلك، واستقرت القاعدة بحضور رسل الأمراء أن الأفضل يملك الديار المصرية، ويسلم دمشق إلى عمه الملك العادل، وخرجا من دمشق، فانحاز إليهما من ذكرنا، فلم يمكن العزيز المقام، بل عاد منهزماً يطوي المراحل خوف الطلب ولا يصدق بالنجاة، وتساقط أصحابه عنه إلى أن وصل إلى مصر. وأما العادل والأفضل فإنهما أرسلا إلى القدس، وفيه نائب العزيز، فسلمه إليهما، وسارا فيمن معهما من الأسدية والأكراد إلى مصر، فرأى العادل انضمام العساكر إلى الأفضل، واجتماعهم عليه، فخاف أنه يأخذ مصر، ولا يسلم إليه دمشق، فأرسل حينئذ سراً إلى العزيز يأمره بالثبات، وأن يجعل بمدينة بلبيس من يحفها، وتكفل بأنه يمنع الأفضل وغيره من مقاتلة من بها، فجعل العزيز الناصرية ومقدمهم فخر الدين جركس بها ومعهم غيرهم، ووصل العادل والأفضل إلى بلبيس، فنازلوا من بها من الناصرية، وأراد الأفضل مناجزتهم، أو تركهم بها والرحيل إلى مصر، فمنعه العادل من الأمرين، وقال: هذه عساكر الإسلام، فإذا اقتتلوا في الحرب فمن يرد العدو الكافر، وما بها حاجة إلى هذا، فإن البلاد لك وبحكمك، ومتى قصدت مصر والقاهرة وأخذتهما قهراً زالت هيبة البلاد، وطمع فيها الأعداء، وليس فيها من يمنعك عنها. وسلك معه أمثال هذا، فطالت الأيام، وأرسل إلى العزيز سراً يأمره بإرسال القاضي الفاضل، وكان مطاعاً عند البيت الصلاحي لعلو منزلته كانت عند صلاح الدين، فحضر عندهما، وأجرى ذكر الصلح، وزاد القول ونقص، وانفسخت العزائم واستقر الأمر على أن يكون للأفضل القدس وجميع البلاد بفلسطين وطبرية والأردن وجميع ما بيده، ويكون للعادل إقطاعه الذي كان قديماً، ويكون مقيماً بمصر عند العزيز، إنما اختار ذلك لأن الأسدية والأكراد لا يريدون العزيز، فهم يجتمعون معه، فلا يقدر العزيز على منعه عما يريد، فلما استقر الأمر على ذلك وتعاهدوا عاد الأفضل إلى دمشق وبقي العادل بمصر عند العزيز. ذكر عدة حوادثفي ذي القعدة، التاسع عشر منه، وقع حريق عظيم ببغداد بعقد المصطنع فاحترقت المربعة التي بين يديه، ودكان ابن البخيل الهراس، وقيل كان ابتداؤه من دار ابن البخيل. ثم دخلت سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة ذكر ملك شهاب الدين بهنكر وغيرها من بلد الهند
في هذه السنة سار شهاب الدين الغوري، صاحب غزنة، إلى بلد الهند، وحصر قلعة بهنكر، وهي قلعة عظيمة منيعة، فحصرها، فطلب أهلها منه الأمان على أن يسلموا إليه، فأمنهم وتسلمها، وأقام عندها عشرة أيام حتى رتب جندها وأحوالها وسار عنها إلى قلعة كوالير، وبينهما مسيرة خمسة أيام، وفي الطريق نهر كبير، فجازه، ووصل إلى كوالير، وهي قلعة منيعة حصينة على جبل عال لا يصل إليها حجر منجنيق، ولا نشاب، وهي كبيرة، فأقام عليها صفراً جميعه يحاصلها، فلم يبلغ منها غرضاً، فراسله من بها في الصلح، فأجابهم إليه على أن يقر القلعة بأيديهم على مال يحملونه إليه، فحملوا إليه فيلاً حمله ذهب، فرحل عنها إلى بلاد آي وسور، فأغار عليها ونهبها، وسبى وأسر ما يعجز العاد عن حصره، ثم عاد إلى غزنة سالماً. ذكر ملك العادل مدينة دمشق من الأفضلفي هذه السنة، في السابع والعشرين من رجب، ملك الملك العادل أبو بكر ابن أيوب مدينة دمشق من ابن أخيه الأفضل علي بن صلاح الدين. وكان أبلغ الأسباب في ذلك وثوق الأفضل بالعادل، وأنه بلغ من وثوقه به أنه أدخله بلده وهو غائب عنه، ولقد أرسل إليه أخوه الظاهر غازي، صاحب حلب، يقول له: أخرج عمنا من بيننا فإنه لا يجيء علينا منه خير، ونحن ندخل لك تحت كل ما تريد، وأنا أعرف به منك، وأقرب إليه، فإنه عمي مثل ما هو عمك، وأنا زوج ابنته، ولو علمت أنه يريد لنا خيراً لكنت أولى به منك. فقال له الأفضل: أنت سيء الظن في كل أحد؛ أي مصلحة لعمنا في أن يؤذينا؟ ونحن إذا اجتمعت كلمتنا، وسيرنا معه العساكر من عندنا كلنا، ملك من البلاد أكثر من بلادنا، ونربح سوء الذكر. وهذا كان أبلغ الأٍسباب، ولا يعلمها كل أحد، وأما غير هذا، فقد ذكرنا مسير العادل والأفضل إلى مصر وحصارهم بلبيس، وصلحهم مع الملك العزيز بن صلاح الدين، ومقام العادل معه بمصر، فلما أقام عنده استماله، وصلحهم مع الملك العزيز بن صلاح الدين، ومقام العادل معه بمصر، فلما أقام عنده استماله، وقرر معه أنه يخرج معه إلى دمشق ويأخذها من أخيه ويسلمها إليه، فسار معه من مصر إلى دمشق، وحصروها، واستمالوا أميراً من أمراء الأفضل يقال له العزيز بن أبي غالب الحمصي، وكان الأفضل كثير الإحسان إليه، والاعتماد عليه، والوثوق به، فسلم إليه باباً من أبواب دمشق يعرف بالباب الشرقي ليحفظه، فمال إلى العزيز والعادل، ووعدهما أنه يفتح لهما الباب، ويدخل العسكر منه إلى البلد غيلة، ففتحه اليوم السابع والعشرين من رجب، وقت العصر، وأدخل الملك العادل منه ومعه جماعة من أصحابه، فلم يشعر الأفضل إلا وعمه معه في دمشق، وركب الملك العزيز، ووقف بالميدان الأخضر غربي دمشق. فلما رأى الأفضل أن البلد قد ملك خرج إلى أخيه، وقت المغرب، واجتمع به، ودخلا كلاهما البلد، واجتمعا بالعادل، وقد نزل في دار أسد الدين شيركوه، وتحادثوا، فاتفق العادل والعزيز على أن أوهما الأفضل أنهما يبقيان عليه البلد خوفاً أنه ربما جمع من عنده من العسكر وثار بهما، ومعه العامة، فأخرجهم من البلد، لأن العادل لم يكن في كثرة؛ وأعاد الأفضل إلى القلعة، وبات العادل في دار شيركوه، وخرج العزيز إلى الخيم فبات فيها، وخرج العادل من الغد إلى جوسقه فأقام به وعساكره في البلد في كل يوم يخرج الأفضل إليهما، ويجتمع بهما، فبقوا كذلك أياماً، ثم أرسلا إليه وأمراه بمفارقة القلعة وتسليم البلد على قاعدة أن تعطى قلعة صرخد له، ويسلم جميع أعمال دمشق، فخرج الأفضل، ونزل في جوسق بظاهر البلد، غربي دمشق، وتسلم العزيز القلعة، ودخلها، وأقام بها أياماً، فجلس يوماً في مجلس شرابه، فلما أخذت منه الخمر جرى على لسانه أنه يعيد البلد إلى الأفضل، فنقل ذلك إلى العادل في وقته، فحضر المجلس في ساعته، والعزيز سكران، فلم يزل به حتى سلم البلد إليه، وخرج منه، وعاد إلى مصر، وسار الأفضل إلى صرخد، وكان العادل يذكر أن الأفضل سعى في قتله، فلهذا أخذ البلد منه، وكان الأفضل ينكر ذلك ويتبرأ منه (فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون) البقرة 113. ذكر عدة حوادثفي هذه السنة، في المحرم، هبت ريح شدية بالعراق، واسودت لها الدنيا، ووقع رمل أحمر، واستعظم الناس ذلك وكبروا، واشتعلت الأضواء بالنهار.
وفيها قتل صدر الدين محمود بن عبد اللطيف بن محمد بن ثابت الخجندي، رئيس الشافعية بأصفهان، قتله فلك الدين سنقر الطويل، شحنة أصفهان بها، وكان قدم بغداد سنة ثمان وثمانين وخمسمائة، واستوطنها، وولي النظر في المدرسة النظامية ببغداد، ولما سار مؤيد الدين بن القصاب إلى خوزستان سار في صحبته، فلما ملك الوزير أصفهان أقام ابن الخجندي بها في بيته وملكه ومنصبه، فجرى بينه وبين سنقر الطويل شحنة أصفهان للخليفة منافرة فقتله سنقر. وفي رمضان درس مجير الدين أبو القاسم محمود بن المبارك البغدادي، الفقيه الشافعي بالمدرسة النظامية ببغداد. وفي شوال منها استنيب نصير الدين ناصر بن مهدي العلوي الرازي في الوزارة ببغداد، وكان قد توجه إلى بغداد لما ملك ابن القصاب الري. وفيها ولي أبو طالب يحيى بن سعيد بن زيادة ديوان الإنشاء ببغداد، وكان كاتباً مفلقاً، وله شعر جيد. وفي صفر منها توفي الفخر محمود بن علي القوفاني الفقيه الشافعي بالكوفة، عائداً من الحج، وكان من أعيان أصحابه محمد بن يحيى. وفي رجب منها توفي أبو الغنائم محمد بن علي بن المعلم الشاعر الهرثي، والهرث بضم الهاء والثاء المثلثة قرية من أعمال واسط، عن إحدى وتسعين سنة. وفي رابع شعبان منها توفي الوزير مؤيد الدين أبو الفضل محمد بن علي بن القصاب بهمذان، وقد ذكرنا من كفايته ونهضته ما فيه كفاية. ثم دخلت سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة ذكر إرسال الأمير أبي الهيجاء إلى همذان في هذه السنة، في صفر، وصل إلى بغداد أمير كبير من أمراء مصر اسمه أبو الهيجاء، ويعرف بالسمين، لأنه كان كثير السمن، وكان من أكابر أمراء مصر، وكان في إقطاعه أخيراً البيت المقدس وغيره مما يجاوره، فلما ملك العزيز والعادل مدينة دمشق من الأفضل، أخذ القدس منه ففارق الشام، وعبر الفرات إلى الموصل، ثم انحدر إلى بغداد، لأنه طلب من ديوان الخلافة، فلما وصل إليها أكرم إكراماً كثيراً، ثم أمر بالتجهيز والمسير إلى همذان مقدماً على العساكر البغدادية، فسار إليها والتقي عندها بالملك أوزبك بن البهلوان وأمير علم وابنه، وابن سطمس وغيرهم، وهم قد كاتبوا الخليفة بالطاعة، فلما اجتمع بهم وثقوا به ولم يحذروه، فقبض على أوزبك وابن سطمس وابن قرا بموافقة من أمير علم، فلما وصل الخبر بذلك إلى بغداد أنكرت هذه الحال على أبي الهيجاء، وأمر بالإفراج عن الجماعة وسيرت لهم الخلع من بغداد تطيباً لقلوبهم، فلم يسكنوا بعد هذه الحادثة ولا أمنوا، ففارقوا أبا الهيجاء السمين، فخاف الديوان، فلم يرجع إليه، ولم يمكنه أيضاً المقام، فعاد يريد إربل لأنه من بلدها هو، فتوفي قبل وصوله إليها، وهو من الأكراد الحكمية من بلد إربل. ذكر ملك العادل يافا من الفرنج وملك الفرنج بيروت من المسلمين وحصر الفرنج تبنين ورحيلهم عنها في هذه السنة، في شوال، ملك العادل أبو بكر بن أيوب مدينة يافا من الساحل الشامي وهي بيد الفرنج، لعنهم الله. وسبب ذلك أن الفرنج كان قد ملكهم الكند هري، على ما ذكرناه قبل، وكان الصلح قد استقر بين المسلمين والفرنج أيام صلاح الدين يوسف بن أيوب، رحمه الله تعالى، فلما توفي وملك أولاده بعده، كما ذكرناه، جدد الملك العزيز الهدنة مع الكند هري وزاد في مدة الهدنة، وبقي ذلك إلى الآن.
وكان بمدينة بيروت أمير يعرف بأسامة، وهو مقطعها، فكان يرسل الشواني تقطع الطريق على الفرنج، فاشتكى الفرنج من ذلك غير مرة إلى الملك العادل بدمشق، وإلى الملك العزيز بمصر، فلم يمنعا أسامة من ذلك، فأرسلوا إلى ملوكهم الذين داخل البحر يشتكون إليهم ما يفعل بهم المسلمون، ويقولون: إن لم تنجدونا، وإلا أخذ المسلمون البلاد؛ فأمدهم الفرنج بالعساكر الكثيرة، وكان أكثرهم من ملك الألمان، وكان المقدم عليهم قسيس يعرف بالخنصلير، فلما سمع العادل بذلك أسل إلى العزيز بمصر يطلب العساكر، وأرسل إلى ديار الجزيرة الموصل يطلب العساكر، فجاءته الأمداد واجتمعوا على عين الجالوت، فأقاموا شهر رمضان وبعض شوال، ورحلوا إلى يافا، وملكوا المدينة، وامتنع من بها بالقلعة التي لها، فخرب المسلمون المدينة، وحصروا القلعة، فملكوها عنوة وقهراً بالسيف في يومها، وهو يوم الجمعة، وأخذ كل ما بها غنيمة وأسراً وسبياً، ووصل الفرنج من عكا إلى قيسارية ليمنعوا المسلمين عن يافا، فوصلهم الخبر بها بملكها فعادوا. وكان سبب تأخرهم أن ملكهم الكندي هري سقط من موضع علا بعكا فمات، فاختلت أحوالهم فتأخروا لذلك. وعاد المسلمون إلى عين الجالوت، فوصلهم الخبر بأن الفرنج على عزم قصد بيروت، فرحل العادل والعسكر في ذي القعدة إلى مرج العيون، وعزم على تخريب بيروت، فسار إليها جمع من العسكر، وهدموا سور المدينة سابع ذي الحجة، وشرعوا في تخريب دورها وتخريب القلعة، فمنعهم أسامة من ذلك، وتكفل بحفظها. ورحل الفرنج من عكا إلى صيدا، وعاد عسكر المسلمين من بيروت، فالتقوا الفرنج بنواحي صيدا، وجرى بينهم مناوشة، فقتل من الفريقين جماعة، وحجز بينهم الليل، وسار الفرنج تاسع ذي الحجة، فوصلوا إلى بيروت، فلما قاربوها هرب منها أسامة وجميع من معه من المسلمين، فملكوها صفواً عفواً بغير حرب ولا قتال، فكانت غنيمة باردة؛ فأسل العادل إلى صيدا من خرب ما كان بقي منها، فإن صلاح الدين كان قد خرب أكثرها، وسارت العساكر الإسلامية إلى صور، فقطعوا أشجارها، وخربوا ما لها من قرى وأبراج، فلما سمع الفرنج بذلك رحلوا من بيروت إلى صور، وأقاموا عليها. ونزل المسلمون عند قلعة هونين وأذن للعساكر الشرقية بالعود ظناً منه أن الفرنج يقيمون ببلادهم، وأراد أن يعطي العساكر المصرية دستوراً بالعود، فأتاه الخبر، منتصف المحرم، أن الفرنج قد نازلوا حصن تبنين، فسير العادل إليه عسكراً يحمونه ويمنعون عنه، ورحل الفرنج من صور، ونازلوا تبنين أول صفر سنة أربع وتسعين وقاتلوا من به، وجدوا في القتال، ونقبوه من جهاتهم، فلما علم العادل بذلك أرسل إلى العزيز بمصر يطلب منه أن يحضر هو بنفسه، ويقول له: إن حضرت، وإلا فلا يمكن حفظ هذا الثغر؛ فسار العزيز مجداً فيمن بقي معه من العساكر. وأما من بحصن تبنين فإنهم لما رأوا النقوب قد خربت تل القلعة، ولم يبق إلا أن يملكوها بالسيف، نزل بعض من فيها إلى الفرنج يطلب الأمان على أنفسهم وأموالهم ليسلموا القلعة، وكان المرجع إلى القسيس الخنصلير من أصحاب ملك الألمان، فقال لهؤلاء المسلمين بعض الفرنج الذين من ساحل الشام: إن سلمتم الحصن استأسركم هذا وقتلكم؛ فاحفظوا نفوسكم؛ فعادوا كأنهم يراجعون من في القلعة ليسلموا، فلما صعد إليها أصروا على الامتناع، وقاتلوا قتال من يحمي نفسه، فحموها إلى أن وصل الملك العزيز إلى عسقلان في ربيع الأول، فلما سمع الفرنج بوصوله واجتماع المسلمين، وأن الفرنج ليس لهم ملك يجمعهم، وأن أمرهم إلى امرأة، وهي الملكة، اتفقوا وأرسلوا إلى ملك قبرس واسمه هيمري، فأحضروه، وهو أخو الملك الذي أسر بحطين، كما ذكرناه، فزوجوه بالملكة زوجة الكند هري، وكان رجلاً عاقلاً يحب السلامة والعافية، فلما ملكهم لم يعد إلى الزحف على الحصن، ولا قاتله. واتفق وصول العزيز أول شهر ربيع الآخر، ورحل هو والعساكر إلى جبل الخليل الذي يعرف بجبل عاملة، فأقاموا أياماً، والأمطار متداركة، فبقي إلى ثالث عشر الشهر، ثم سار وقارب الفرنج، وأرسل رمالة النشاب، فرموهم ساعة وعادوا، ورتب العساكر ليزحف إلى الفرنج ويجد في قتالهم، فرحلوا إلى صور خامس عشر الشهر المذكور ليلاً، ثم رحلوا إلى عكا، فسار المسلمون فنزلوا اللجون، وتراسلوا في الصلح، وتطاول الأمر، فعاد العزيز إلى مصر قبل انفصال الحال.
وسبب رحيله أن جماعة من الأمراء، وهم ميمون القصري، وأسامة، وسرا سنقر، والحجاف، وابن المشطوب، وغيرهم، قد عزموا على الفتك به وبفخر الدين جركس مدبر دولته، وضعهم العادل على ذلك، فلما سمع بذلك سار إلى مصر وبقي العادل، وترددت الرسل بينه وبين الفرنج في الصلح، فاصطلحوا على أن تبقى بيروت بيد الفرنج، وكان الصلح في شعبان سنة أربع وتسعين، فلما انتظم الصلح عاد العادل إلى دمشق، وسار منها إلى ماردين، من أرض الجزيرة، فكان ما نذكره، إن شاء الله تعالى. ذكر وفاة سيف الإسلام وملك ولدهفي شوال من هذه السنة توفي سيف الإسلام طغتكين بن أيوب: أخو صلاح الدين، وهو صاحب اليمن، بزبيد، وقد ذكرنا كيف ملك. وكان شديد السيرة، مضيقاً على رعيته، يشتري أموال التجار لنفسه ويبيعها كيف شاء. وأراد ملك مكة، حرسها الله تعالى، فأرسل الخليفة الناصر لدين الله إلى أخيه صلاح الدين في المعنى، فمنعه من ذلك، وجمع من الأموال ما لا يحصى، حتى إنه من كثرته كان يسبك الذهب ويجعله كالطاحون ويدخره. ولما توفي ملك بعده ابنه إسمعيل، وكان أهوج، كثير التخليط بحيث إنه ادعى أنه قرشي من بني أمية، وخطب لنفسه بالخلافة، وتلقب بالهادي، فلما سمع عمه الملك العادل ذلك ساءه وأهمه، وكتب إليه يولمه ويوبخه، ويأمره بالعود إلى نسبه الصحيح، وبترك ما ارتكبه مما يضحك الناس منه، فلم يلتفت إليه ولم يرجع وبقي كذلك، وانضاف إلى ذلك أنه أساء السيرة مع أجناده وأمرائه، فوثبوا عليه فقتلوه، وملكوا عليهم بعده أميراً من مماليك أبيه. ذكر عدة حوادثفي هذه السنة، في ربيع الآخر، توفي أبو بكر عبد الله بن منصور بن عمران الباقلاني المقري الواسطي بها عن ثلاث وتسعين سنة وثلاثة أشهر وأيام، وهو آخر من بقي من أصحاب القلانسي. وفي جمادى الآخرة توفي قاضي القضاة أبو طالب علي بن علي بن البخاري ببغداد ودفن بتربته في مشهد باب التين. وفيها، في ربيع الآخر، توفي ملكشاه بن خوارزم شاه تكش بنيسابور، وكان أبوه قد جعله فيها، وأضاف إليه عساكر جميع بلاده التي بخراسان وجعله ولي عهده في الملك، وخلف ولداً اسمه هندوخان، فلما مات جعل فيها أبوه خوارزم شاه بعد ولده الآخر قطب الدين محمداً، وهو الذي ملك بعد أبيه، وكان بين الأخوين عداوة مستحكمة أفضت إلى أن محمداً لما ملك بعد أبيه هرب هندوخان بن ملكشاه منه على ما نذكره. وفيها توفي شيخنا أبو القاسم يعيش بن صدقة بن علي الفراتي الضرير، الفقيه الشافعي، كان إماماً في الفقه، مدرساً صالحاً كثير الصلاح، سمعت عليه كثيراً، لم أر مثله، رحمه الله تعالى. ولقد شاهدت منه عجباً يدل على دينه وإرادته، بعمله، وجه الله تعالى، وذلك أني كنت أسمع عليه ببغداد سنن أبي عبد الرحمن النسائي، وهو كتاب كبير، والوقت ضيق لأني كنت مع الحجاج قد عدنا من مكة، حرسها الله، فبينما نحن نسمع عليه مع أخي الأكبر مجد الدين أبي السعادات، إذ قد أتاه إنسان من أيان بغداد، وقال له: قد برز الأمر لتحضر لأمر كذا؛ فقال: أنا مشغول بسماع هؤلاء السادة، ووقتهم يفوت، والذي يراد مني لا يفوت؛ فقال: أنا لا أحسن أذكر هذا في مقابل أمر الخليفة. فقال: لا عليك! قل: قال أبو القاسم لا أحضر حتى يفرغ السماع؛ فسألناه ليمشي معه، فلم يفعل ذلك، وقال: اقرأوا؛ فقرأنا، فلما كان الغد حضر غلام لنا، وذكر أن أمير الحاج الموصلي قد رحل، فعظم الأمر علينا فقال: ولم يعظم عليكم العود إلى أهلكم وبلدكم؟ فقلنا: لأجل فراغ هذا الكتاب؛ فقال: إذا رحلتم أستعير دابة وأركبها، فأسير معكم وأنتم تقرأون، فإذا فرغتم عدت. فمضى الغلام ليتزود، ونحن نقرأ، فعاد وذكر أن الحاج لم يرحلوا، ففرغنا من الكتاب؛ فانظر إلى هذا الدين المتين يرد أمر الخليفة وهو يخافه ويرجوه، ويريد أن يسير معنا ونحن غرباء لا يخافنا ولا يرجونا. ثم دخلت سنة أربع وتسعين وخمسمائة ذكر وفاة عماد الدين وملك ولده قطب الدين محمد
في هذه السنة، في المحرم، توفي عماد الدين زنكي بن مودود بن زنكي ابن اقسنقر، صاحب سنجار ونصيبين، والخابور والرقة، وقد تقدم ذكره كيف ملكها سنة تسع وسبعين، وملك بعده ابنه قطب الدين محمد، وتولى تدبير دولته مجاهد الدين يرنقش مملوك أبيه، وكان ديناً خيراً عادلاً، حسن السيرة في رعيته، عفيفاً عن أموالها وأملاكهم، متواضعاً، يحب أهل العلم والدين، ويحترمهم، ويجلس معهم، ويرجع إلى أقوالهم، وكان رحمه الله شديد التعصب على مذهب الحنفية، كثير الذم للشافعية، فمن تعصبه أنه بني مدرسة للحنفية بسنجار، وشرط أن يكون النظر للحنفية من أولاده دون الشافعية، وشرط أن يكون البواب والفراش على مذهب أبي حنيفة، وشرط للفقهاء طبيخاً يطبخ لهم كل يوم، وهذا نظر حسن، رحمه الله. ذكر ملك نور الدين نصيبينفي هذه السنة، في جمادة الأولى، سار نور الدين أرسلان شاه بن مسعود ابن مودود صاحب الموصل، إلى مدينة نصيبين، فملكها، وأخذها من ابن عمه قطب الدين محمد. وسبب ذلك أن عمه عماد الدين كان له نصيبين، فتطاول نوابه بها، واستولوا على عدة قرى من أعمال بين النهرين من ولاية الموصل، وهي تجاور نصيبين، فبلغ الخبر مجاهد الدين قايماز القائم بتدبير مملكة نور الدين بالموصل وأعمالها والمرجوع إليه فيها، فلم يعلم مخدومه نور الدين بذلك، لما علم من قلة صبره على احتمال مثل هذا، وخاف أن يجري خلف بينهم، فأرسل من عنده رسولاً إلى عماد الدين في المعنى، وقبح هذا الفعل الذي فعله النواب بغير أمره، وقال: أنني ما أعلمت نور الدين بالحال لئلا يخرج عن يدك، فإنه ليس كوالده، وأخاف أن يبدو منه ما يخرج الأمر فيه عن يدي؛ فأعاد الجواب: إنهم لم يفعلوا إلا ما أمرتهم به، وهذه القرى من أعمال نصيبين. فترددت الرسل بينهما، فلم يرجع عماد الدين عن أخذها، فحينئذ أعلم مجاهد الدين نور الدين بالحال، فأرسل نور الدين رسولاً من مشايخ دولته ممن خدم جدهم الشهيد زنكي ومن بعده، وحمله رسالة فيها بعض الخشونة، فمضى الرسول فلحق عماد الدين وقد مرض، فلما سمع الرسالة لم يلتفت، وقال: لا أعيد ملكي؛ فأشار الرسول من عنده، حيث هو من مشايخ دولتهم، بترك اللجاج، وتسليم ما أخذه، وحذره عاقبة ذلك؛ فأغلظ عليه عماد الدين القول، وعرض بذم نور الدين واحتقاره، فعاد الرسول وحكى لنور الدين جلية الحال، فغضب لذلك، وعزم على المسير إلى نصيبين وأخذها من عمه. فاتفق أن عمه مات، وملك بعده ابنه، فقوي طمعه، فمنعه مجاهد الدين فلم يمتنع وتجهز وسار إليها، فلما سمع قطب الدين صاحبها سار إليها من سنجار في عسكره، ونزل عليها ليمنع نور الدين عنها، فوصل نور الدين، وتقدم إلى البلد، وكان بينهما نهر، فجازه بعض أمرائه، وقاتل من بإزائه، فلم يثبتوا له، فعبر جميع العسكر النوري، وتمت الهزيمة على قطب الدين، فصعد هو ونائبه مجاهد الدين يرنقش إلى قلعة نصيبين، وأدركهم الليل، فخرجوا منها هاربين إلى حان، وراسلوا الملك العادل أبا بكر بن أيوب، صاحب حران وغيرها، وهو بدمشق، وبذلوا له الأموال الكثيرة لينجدهم ويعيد نصيبين إليهم. وأقام نور الدين بنصيبين مالكاً لها، فتضعضع عسكره بكثرة الأمراض، وعودهم إلى الموصل، وموت كثير منهم، ووصل العادل إلى الديار الجزرية، فحينئذ فارق نور الدين نصيبين وعاد إلى الموصل في شهر رمضان، فلما فارقها تسلمها قطب الدين. وممن توفي من أمراء الموصل: عز الدين جورديك، وشمس الدين عبد الله بن إبراهيم، وفخر الدين عبد الله بن عيسى المهرانيان، ومجاهد الدين قايماز، وظهير الدين يولق بن بلنكري، وجمال الدين محاسن وغيرهم، ولما عاد نور الدين إلى الموصل قصد العادل قلعة ماردين فحصرها، وضيق على أهلها، على ما نذكره إن شاء الله تعالى. ذكر ملك الغورية مدينة بلخ من الخطا الكفرة في هذه السنة ملك بهاء الدين سام بن محمد بن مسعود، وهو ابن أخت غياث الدين وشهاب الدين صاحبي غزنة وغيرها، وله باميان، مدينة بلخ، وكان صاحبها تركياً اسمه أزيه، وكان يحمل الخراج كل سنة إلى الخطا، بما وراء النهر، فتوفي هذه السنة، فسار بهاء الدين سام إلى المدينة، فملكها، وتمكن فيها، وقطع الحمل إلى الخطا، وخطب لغياث الدين، وصارت من جملة بلاد الإسلام بعد أن كانت في طاعة الكافر.
ذكر انهزام الخطا من الغورية وفي هذه السنة عبر الخطا نهر جيحون إلى ناحية خراسان، فعاثوا في البلاد وأفسدوا، فلقيهم عسكر غياث الدين الغوري وقاتلهم فانزم الخطا. وكان سبب ذلك أن خوارزم شاه تكش كان قد سار إلى بلد الري، وهمذان وأصفهان وما بينهما من البلاد، وملكها، وتعرض إلى عساكر الخليفة، وأظهر طلب السلطنة والخطبة ببغداد، فأرسل الخليفة إلى غياث الدين ملك الغور وغزنة يأمره بقصد بلاد خوارزم شاه ليعود عن قصد العراق، وكان خوارزم شاه قد عاد إلى خوارزم، فراسله غياث الدين يقبح له فعله، ويتهدده بقصد بلاده وأخذها، فأرسل خوارزم شاه إلى الخطا يشكو إليهم من غياث الدين، ويقول: إن لم تدركوه بإنفاذ العساكر، وإلا أخذ غياث الدين بلاده، كما أخذ مدين بلخ، وقصد بعد ذلك بلادهم، ويتعذر عليهم منعه، ويعجزون عنه، ويضعفون عن رده عما وراء النهر؛ فجهز ملك الخطا جيشاً كثيفاً، وجعل مقدمهم المعروف بطاينكوا، وهو كالوزير له، فساروا وعبروا جيحون في جمادى الآخرة، وكان الزمان شتاء، وكان شهاب الدين الغوري أخو غياث الدين ببلاد الهند، والعساكر معه، وغياث الدين به من النقرس ما يمنعه من الحركة، إنما يحمل في محفة، والذي يقود الجيش ويباشر الحروب أخوه شهاب الدين، فلما وصل الخطا إلى جيحون سار خوارزم شاه إلى طوس، عازماً على قصد هراة ومحاصرتها، وعبر الخطا النهر، ووصلوا إلى بلاد الغور مثل: كرزبان وسرقان وغيرهما، وقتلوا وأسروا ونهبوا وسبوا كثيراً لا يحصى، فاستغاث الناس بغياث الدين، فلم يكن عنده من العساكر ما يلقاهم بها، فراسل الخطا بهاء الدين سام ملك باميان يأمرونه بالإفراج عن بلخ، أو أنه يحمل ما كان من قبله يحمله من المال، فلم يجبهم إلى ذلك. وعظمت المصيبة على المسلمين بما فعله الخطا، فانتدب الأمير محمد بن جربك الغوري، وهو مقطع الطالقان من قبل غياث الدين، وكان شجاعاً، وكاتب الحسين بن خرميل، وكان بقلعة كرزبان، واجتمع معهما الأمير حروش الغوري، وساروا بعساكرهم إلى الخطا، فبيتوهم، وكبسوهم ليلاً، ومن عادة الخطا أنهم لا يخرجون من خيامهم ليلاً، ولا يفارقونها، فآتاهم هؤلاء الغورية وقاتلوهم، وأكثروا القتل في الخطا، وانهزم من سلم منهم من القتل، وأين ينهزمون والعسكر الغوري خلفهم، وجيحون بن أيديهم؟ وظن الخطا أن غياث الدين قد قصدهم في عساكره، فلما أصبحوا، وعرفوا من قاتلهم، وعلموا أن غياث الدين بمكانه، قويت قلوبهم، وثبتوا واقتتلوا عامة نهارهم فقتل من الفريقين خلق عظيم، ولحقت المتطوعة بالغوريين، وأتاهم مدد من غياث الدين وهم في الحرب، فثبت المسلمون، وعظمت نكايتهم في الكفار. وحمل الأمير حروش على قلب الخطا، وكان شيخاً كبيراً، فأصابه جراحة توفي منها، ثم إن محمود بن جربك، وابن خرميل حملا في أصحابهما، وتمادوا: لا يرم أحد بقوس، ولا يطعن برمح؛ وأخذوا اللتوت، وحملوا على الخطا فهزموهم وألحقوهم بجيحون، فمن صبر قتل، ومن ألقى نفسه في الماء غرق. ووصل الخبر إلى ملك الخطا فعظم عليه وأرسل إلى خوارزم شاه يقول له: أنت قتلت رجالي، وأريد عن كل قتيل عشرة آلاف دينار؛ وكان القتلى اثني عشر ألفاً، وأنفذ إليه من رده إلى خوارزم، وألزموه بالحضور عنده، فأرسل حينئذ خوارزم شاه إلى غياث الدين يعرفه حاله مع الخطا، ويشكو إليه ويستعطفه غير مرة، فأعاد الجواب يأمره بطاعة الخليفة، وإعادة ما أخذه الخطا من بلاد الإسلام، فلم ينفصل بينهما حال. ذكر ملك خوارزم شاه مدينة بخارىلما ورد رسول ملك الخطا على خوارزم شاه بما ذكرناه، أعاد الجواب: إن عسكرك إنما قصد انتزاع بلخ، ولم يأتوا إلى نصرتي، ولا اجتمعت بهم، ولا أمرتهم بالعبور، إن كنت فعلت ذلك، فأنا مقيم بالمال المطلوب مني، ولكن حيث عجزتم أنتم عن الغورية عدتم علي بهذا القول وهذا المطلب، وأما أنا فقد أصلحت الغورية، ودخلت في طاعتهم، ولا طاعة لكم عندي.
فعاد الرسول بالجواب، فجهز ملك الخطا جيشاً عظيماً وسيره إلى خوارزم فحصروها، فكان خوارزم شاه يخرج إليهم كل ليلة، ويقتل منهم خلقاً، وأتاه من المتطوعة خلق كثير، فلم يزل هذا فعله بهم حتى أتى على أكثرهم، فدخل الباقون إلى بلادهم، ورحل خوارزم شاه في أثارهم، وقصد بخاري فنازلها وحصرها، وامتنع أهلها منه، وقاتلوه مع الخطا، حتى إنهم أخذوا كلباً أعور وألبسوه قباء وقلنسوة، وقالوا: هذا خوارزم شاه، لأنه كان أعور، وطافوا به على السور، ثم ألقوه في منجنيق إلى العسكر، وقالوا: هذا سلطانكم. وكان الخوارزميون يسبونهم ويقولون: يا أجناد الكفار، أنتم قد ارتددتم عن الإسلام، فلم يزل هذا دأبهم حتى ملك خوارزم شاه البلد، بعد أيام يسيرة، عنوة وعفا عن أهله، وأحسن إليهم، وفرق فيهم مالاً كثيراً، وأقام به مدة ثم عاد إلى خوارزم. ذكر عدة حوادثفي هذه السنة، في ذي الحجة، توفي أبو طالب يحيى بن سعيد بن زيادة، كاتب الإنشاء بديوان الخليفة، وكان عالماً فاضلاً، له كتابة حسنة، وكان رجلاً عاقلاً خيراً، كثير النفع للناس، وله شعر جيد. وفيها حصر الملك العادل أبو بكر بن أيوب قلعة ماردين في شهر رمضان، وقاتل من بها، وكان صاحبها حسام الدين يولق أرسلان بن إيلغازي بن ألبي ابن تمرتاش بن إيلغازي بن أرتق، كل هؤلاء ملوك ماردين، وقد تقدم من أخبارهم ما يعلم به محلهم، وكان صبياً والحاكم في بلده ودولته مملوك أبيه النظام يرنقش، وليس لصاحبه معه حكم البتة في شيء من الأمور، ولما حصر العادل ماردين ودام عليها سلم إليه بعض أهلها الربض بمخامرة بينهم، فنهب العسكر أهله نهباً قبيحاً، وفعلوا بهم أفعالاً عظيمة لم يسمع بمثلها، فلما تسلم الربض تمكن من حصر القلعة وقطع الميرة عنها، وبقي عليها إلى أن رحل عنها خمسة وتسعين على ما نذكره إن شاء الله. وفيها توفي الشيخ أبو علي الحسن بن مسلم بن أبي الحسن القادسي الزاهد، المقيم ببغداد، والقادسية التي ينسب إليها قرية بنهر عيس من أعمال بغداد، وكان من عباد الله الصالحين العاملين، ودفن بقريته. وأبو المجد علي بن أبي الحسن علي بن الناصر بن محمد الفقيه الحنفي مدرس أصحاب أبي حنيفة ببغداد، وكان من أولاد محمد بن الحنفية ابن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، رضي الله عنه. ثم دخلت سنة خمس وتسعين وخمسمائة ذكر وفاة الملك العزيز وملك أخيه الأفضل ديار مصر في هذه السنة، في العشرين من المحرم، توفي الملك العزيز عثمان بن صلاح الدين يوسف بن أيوب، صاحب ديار مصر، وكان سبب موته أنه خرج إلى الصيد، فوصل إلى الفيوم متصيداً. فرأى ذئباً فركض فرسه في طلبه، فعثر الفرس فسقط عنه في الأرض ولحقته حمى، فعاد إلى القاهرة مريضاً، فبقي كذلك إلى أن توفي، فلما مات كان الغالب على أمره مملوك والده فخر الدين جهاركس، وهو الحاكم في بلده، فأحضر إنساناً كان عندهم من أصحاب الملك العادل أبي بكر بن أيوب، وأراه العزيز ميتاً، وسيره إلى العادل وهو يحاصر ماردين، كما ذكرناه، ويستدعيه ليملكه البلاد، فسار القاصد مجداً، فلما كان بالشام رأى بعض أصحاب الأفضل علي بن صلاح الدين، فقال له: قل لصاحبك إن أخاه العزيز توفي، وليس في البلاد من يمنعها، فليسر إليها فليس دونها مانع.
وكان الأفضل محبباً إلى الناس يريدونه، فلم يلتفت الأفضل إلى هذا القول، وإذا قد وصله رسل الأمراء من مصر يدعونه إليهم لملكوه، وكان السب في ذلك أن الأمير سيف الدين يازكج مقدم الأسدية، والفرقة الأسدية والأمراء الأكراد يريدونه ويميلون إليه، وكان المماليك الناصرية الذين هم ملك أبيه يكرهونه، فاجتمع سيف الدين، مقدم الأسدية، وفخر الدين جهاركس، مقدم الناصرية، ليتفقوا على من يولونه الملك، فقال فخر الدين: نولي ابن الملك العزيز؛ فقال سيف الدين: إنه طفل، وهذه البلاد ثغر الإسلام، ولا بد من قيم بالملك يجمع العساكر، ويقاتل بها، والرأي أننا نجعل الملك في هذا الطفل الصغير، ونجعل معه بعض أولاد صلاح الدين يدبره إلى أن يكبر، فإن العساكر لا تطيع غيرهم، ولا تنقاد لأمير؛ فاتفقا على هذا، فقال جهاركس: فمن يتولى هذا؟ فأشار يازكج بغير الأفضل ممن بينه وبين جهاركس منازعة لئلا يتهم وينفر جهاركس عنه، فامتنع من ولايته، فلم يزل يذكر من أولاد صلاح الدين واحداً بعد آخر إلى أن ذكر آخرهم الأفضل، فقال جهاركس: هو بعيد عنا؛ وكان بصرخد مقيماً فيها من حين أخذت منه دمشق، فقال يازكج: نرسل إليه من يطلبه مجداً؛ فأخذ جهاركس يغالطه، فقال يازكج: تمضي إلى القاضي الفاضل ونأخذ رأيه؛ فاتفقا على ذلك، وأرسل يازكج يعرفه ذلك، ويشير بتمليك الأفضل، فلما اجتمعا عنده، وعرفاه صورة الحال، أشار بالأفضل، فأرسل يازكج في الحال القصاد وراءه، فسار عن صرخد لليلتين بقيتا من صفر، متنكراً في تسعة عشر نفساً، لأن البلاد كانت للعادل، ويضبط نوابه الطرق، لئلا يجوز إلى مصر ليجيء العادل ويملكها. فلما قارب الأفضل القدس، وقد عدل عن الطريق المؤدي إليه، لقيه فارسان قد أرسلا إليه من القدس، فأخبراه أن من بالقدس قد صار في طاعته، وجد في السير، فوصل إلى بليس خامس ربيع الأول، ولقيه إخوته، وجماعته الأمراء المصرية، وجميع الأعيان، فاتفق أن أخاه الملك المؤيد مسعوداً صنع له طعاماً، وصنع له فخر الدين مملوك أبيه طعاماً، فابتدأ بطعام أخيه ليمين حلفها أخوه أنه يبدأ به، فظن جهاركس أنه فعل هذا انحرافاً عنه وسوء اعتقاد فيه، فتغيرت نيته، وعزم على الهرب، فحضر عند الأفضل وقال: إن طائفة من العرب قد اقتتلوا، ولئن مل تمض إليهم تصلح بينهم يؤد ذلك إلى فساد؛ فأذن له الأفضل في المضي إليهم ، ففارقه، وسار مجداً حتى وصل إلى البيت المقدس، ودخله، وتغلب عليه، ولحقه جماعة من الناصرية منهم قراجة الزره كش، وسرا سنقر، وأحضروا عندهم ميموناً القصري صاحب نابلس، وهو أيضاً من المماليك الناصرية، فقويت شوكتهم به، واجتمعت كلمتهم على خلاف الأفضل، وأرسلوا إلى الملك العادل وهو ماردين يطلبونه إليهم ليدخلوا معه إلى مصر ليملكوها، فلم يسر إليهم لأنه كانت أطماعه قد قويت في أخذ ماردين، وقد عجز من بها عن حفظها، فظن أنه يأخذها، والذي يريدونه منه لا يفوته. وأما الأفضل فإنه دخل إلى القاهرة سابع ربيع الأول، وسمع بهرب جهاركس، فأمه ذلك، وترددت الرسل بينه وبينهم ليعودوا إليه، فلم يزدادوا إلا بعداً، ولحق بهم جماعة من الناصرية أيضاً، فاستوحش الأفضل من الباقين، فقبض عليهم، وهم شقيرة وأيبك فطيس، والبكي الفارس، وكل هؤلاء بطل مشهور ومقدم مذكور، سوى من ليس مثلهم في التقدم وعلو القدر، وأقام الأفضل بالقاهرة وأصلح الأمور، وقرر القواعد، والمرجع في جميع الأمور إلى سيف الدين يازكج. ذكر حصر الأفضل مدينة دمشق وعوده عنها
لما ملك الأفضل مصر، واستقر بها، ومعه ابن أخيه الملك العزيز، اسم الملك له لصغره، واجتمعت الكلمة على الأفضل بها، وصل إليه رسول أخيه الملك الظاهر غازي، صاح بحلب، ورسل ابن عمه أسد الدين شيركوه بن محمد بن شيركوه، صاحب حمص، يحثانة على الخروج إلى دمشق، واغتنام الفرصة بغيبة العادل عنها، وبذلا له المساعدة بالمال والنفس والرجال، فبرز من مصر، منتصف جمادى الأولى من السنة، على عزم المسير إلى دمشق، وأقام بظاهر القاهرة إلى ثالث رجب، ورحل فيه تعوق في مسيره، ولو بادر وعجل المسير لملك دمشق، لكنه تأخر، فوصل إلى دمشق ثالث عشر شعبان، فنزل عند جسر الخشب على فرسخ ونصف من دمشق، وكان العادل قد أرسل إليه نوابه بدمشق يعرفونه قصد الأفضل لهم، ففارق ماردين وخلف ولده الملك الكامل محمداً في جميع العساكر على حصارها، وسار جريدة فجد في السير، فسبق الأفضل، فدخل دمشق قبل الأفضل بيومين. وأما الأفضل فإنه تقدم إلى دمشق من الغد، وهو رابع عشر شعبان، ودخل ذلك اليوم بعينه طائفة يسيرة من عسكره إلى عسقلان إلى دمشق من باب السلامة، وسبب دخولهم أن قوماً من أجناده، ممن بيوتهم مجاورة الباب، اجتمعوا بالأمير مجد الدين أخي الفقيه عيسى الهكاري، وتحدثوا معه في أن يقصد هو والعسكر باب السلامة ليفتحوه لهم، فأراد مجد الدين أن يختص بفتح الباب وحده، فلم يعلم الأفضل، ولا أخذ معه أحداً من الأمراء، بل سار وحده بمفرده، ومعه نحو خمسين فارساً من أصحابه، ففتح له الباب، فدخله هو ومن معه، فلما رآهم عامة البلد نادوا بشعار الأفضل واستسلم من به من الجند، ونزلوا عن الأسوار، وبلغ الخبر إلى الملك العادل، فكاد يستسلم، وتماسك. وأما الذين دخلوا البلد فإنهم وصولا إلى باب البريد، فلما رأى عسكر العادل بدمشق قلة عددهم، وانقاطع مددهم، وثبوا بهم وأخرجوهم منه، وكان الأفضل قد نثب خيمة بالميدان الأخضر وقارب عسكره الباب الحديد، وهو من أبواب القلعة، فقدر الله تعالى أن أشير على الأفضل بالانتقال إلى ميدان الحصى، ففعل ذلك، فقويت نفوس من فيه، وضعفت نفوس العسكر المصري، ثم إن الأمراء الأكراد منهم تحالفوا فصاروا يداً واحدة يغضبون لغضب الدمشقيين، فرحلوا من موضعهم، وتأخروا في العشرين من شعبان، ووصل بعده الملك الظاهر، صاحب حلب، ثاني | |
|
 | |
الشيخ عودة الشيخ عودة

عدد المساهمات : 1748 تاريخ التسجيل : 28/09/2008 العمر : 73
 | موضوع: رد: كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير الخميس فبراير 27, 2014 6:53 am | |
| وكان عاقلاً، ديناً، خيراً، فاضلاً، يعرف الفقه على مذهب أبي حنيفة، ويحفظ، من التاريخ والأشعار والحكايات، شيئاً كثيراً. وكان كثير الصوم، يصوم من كل سنة نحو سبعة أشهر، وله أوراد كثيرة حسنة كل ليلة، ويكثر الصدقة، وكان يكثر الصدقة، وكان له فراسة حسنة فيمن يستحق الصدقة ويعرف الفقراء المستحقين ويبرهم، وبنى عدة جوامع منها الجوامع منها الجامع الذي يظاهر الموصل بباب الجسر، وبنى الربط والمدارس والخانات في الطرق، وله من المعروف شيء كثير، رحمه الله، فلقد كان من محاسن الدنيا. وفيها فارق غياث الدين، صاحب غزنة وبعض خراسان، مذهب الكرامية، وصار شافعي المذهب، وكان سبب ذلك أنه كان عنده إنسان يعرف بالفخر مبارك شاه يقول الشعر بالفارسية، متفنناً في كثير من العلوم، فأوصل إلى غياث الدين الشيخ وحيد الدين أبا الفتح محمد بن محمود المروروذي الفقيه الشافعي، فأوضح له مذهب الشافعي، وبين له فساد مذهب الكرامية، فصار شافعياً، وبنى المدارس للشافعية، وبنى بغزنة مسجداً لهم أيضاً، وأكثر مراعاتهم، فسعى الكرامية في أذى وحيد الدين فلم يقدرهم الله تعالى على ذلك. وقيل إن غياث الدين وأخاه شهاب الدين لما ملكا في خراسان قيل لهما: إن الناس في جميع البلاد يزرون على الكرامية ويحتقرونهم. والرأي أن تفارقوا مذاهبهم، فصارا شافعيين؛ وقيل: إن شهاب الدين كان حنفياً، والله أعلم. وفي هذه السنة توفي أبو القاسم يحيى بن علي بن فضلان الفقيه الشافعي، وكان إماماً فاضلاً، ودرس ببغداد، وكان من أعيان أصحاب محمد بن يحيى نجى النيسابوري. ثم دخلت سنة ست وتسعين وخمسمائة ذكر ملك العادل الديار المصرية قد ذكرنا سنة خمس وتسعين حصر الأفضل والظاهر ولدي صلاح الدين دمشق، ورحيلها إلى رأس الماء، على عزم المقام بحوران إلى أن يخرج الشتاء، فلما أقاموا برأس الماء وجد العسكر برداً شديداً، لأن البرد في ذلك المكان في الصيف موجود، فكيف في الشتاء، فتغير العزم عن المقام، واتفقوا على أن يعود كل إنسان منهم إلى بلده، ويعودوا إلى الاجتماع، فتفرقوا تاسع ربيع الأول، فعاد الظاهر وصاحب حمص إلى بلادهما، وسار الأفضل إلى مصر، فوصل بلبيس، فأقام بها، ووصلته الأخبار بأن عمه الملك العادل قد سار من دمشق قاصداً مصر ومعه المماليك الناصرية، وقد حلفوه على أن يكون ولد الملك العزيز هو صاحب البلاد، وهو المدبر للملك، إلى أن يكبر، فساروا على هذا. وكان عسكره بمصر قد تفرق عن الأفضل من الخشبي، فسار كل منهم إلى إقطاعه ليربعوا دوابهم، فرام الأفضل جمعهم من أطراف البلاد، فأعجله الأمر عن ذلك، ولم يجتمع منهم إلا طائفة يسيرة ممن قرب إقطاعه، ووصل العادل، فأشار بعض الناس على الأفضل أن يخرب سور بلبيس ويقيم بالقاهرة، وأشار غيرهم بالتقدم إلى أطراف البلاد، ففعل ذلك، فسار عن بلبيس، ونزل موضعاً يقال له السائح إلى طرف البلاد، ولقاء العادل قبل دخول البلاد سابع ربيع الآخر، فانهزم الأفضل، ودخل القاهرة ليلاً. وفي تلك الليلة توفي القاضي الفاضل عبد الرحيم بن علي البيساني كاتب الإنشاء لصلاح الدين ووزيره، فحضر الأفضل الصلاة عليه، وسار العادل فنزل على القاهرة وحصرها، فجمع الأفضل من عنده من الأمراء واستشارهم، فرأى منهم تخاذلاً، فأرسل رسولاً إلى عمه في الصلح وتسليم البلاد إليه، وأخذ العوض عنها، وطلب دمشق، فلم يجبه العادل، فنزل عنها إلى حران والرها فمل يجبه، فنزل إلى ميافارقين وحاني وجبل جور، فأجابه إلى ذلك، وتحالفوا عليه، وخرج الأفضل من مصر ليلة السبت ثامن عشر ربيع الآخر، واجتمع بالعادل، وسار إلى صرخد، ودخل العادل إلى القاهرة يوم السبت ثامن عشر ربيع الآخر. ولما وصل الأفضل إلى صرخد أرسل من تسلم ميافارقين وحاني وجبل جور، فامتنع نجم الدين أيوب ابن الملك العادل من تسليم ميافارقين، وسلم ما عداها، فترددت الرسل بين الأفضل والعادل في ذلك، والعادل يزعم أن ابنه عصاه، فأمسك عن المراسلة في ذلك لعلمه أن هذا فعل بأمر العادل. ولما ثبتت قدم العادل بمصر قطع خطبة الملك المنصور ابن الملك العزيز في شوال من السنة وخطب لنفسه، وحاقق الجند في إقطاعاتهم، واعتراضهم في أصحابهم ومن عليهم من العسكر المقرر، فتغيرت لذلك نياتهم، فكان ما نذكره سنة سبع وتسعين إن شاء الله.
ذكر وفاة خوارزم شاه في هذه السنة، في العشرين من رمضان، توفي خوارزم شاه تكش بن ألب أرسلان، صاحب خوارزم وبعض خراسان والري وغيرها من البلاد الجبالية، بشهرستانة بين نيسابور وخوارزم. وكان قد سار من خوارزم إلى خراسان، وكان به خوانيق، فأشار عليه الأطباء بترك الحركة، فامتنع، وسار، فلما قارب شهرستانة اشتد مرضه ومات، ولما اشتد مرضه أرسلوا إلى ابنه قطب الدين محمد يستدعونه، ويعرفونه شدة مرض أبيه، فسار إليهم وقد مات أبوه، فولي الملك بعده، ولقب علاء الدين، لقب أبيه، وكان لقبه قطب الدين، وأمر فحمل أبوه ودفن بخوارزم في تربة عملها في مدرسة بناها كبيرة عظيمة، وكان عادلاً حسن السيرة، له معرفة حسنة وعلم، يعرف الفقه على مذهب أبي حنيفة، ويعرف الأصول. وكان ولده علي شاه بأصفهان، فأرسل إليه أخوه خوارزم شاه محمد يستدعيه، فسار إليه، فنهب أهل أصفهان خزانته ورحله، فلما وصل إلى أخيه ولاه حرب أهل خراسان، والتقدم على جندها، وسلم إليه نيسابور، وكان هندوخان بن ملكشاه بن خوارزم شاه تكش يخاف عمه محمداً، فهرب منه، ونهب كثيراً من خزائن جده تكش لما مات، وكان معه، وسار إلى مرو. ولما سمع غياث الدين ملك غزنة بوفاة خوارزم شاه أمر أن لا تضرب نوبته ثلاثة أيام، وجلس للعزاء على ما بينهما من العداوة والمحاربة، فعل ذلك عقلاً منه ومروءة، ثم إن هندوخان جمع جمعاً كثيراً يخرسان، فسير إليه عمه خوارزم شاه محمد جيشاً مقدمهم جقر التركي، فلما سمع هندوخان بمسيرهم هرب عن خراسان وسار إلى غياث الدين يستنجده على عمه، فأكرم لقاءه وإنزاله، وأقطعه، ووعده النصرة، فأقام عنده، ودخل جقر مدينة مرو، وبها والدة هندوخان وأولاده، فاستظهر عليهم، وأعلم صاحبه، فأمره بإرسالهم إلى خوارزم مكرمين؛ فلما سمع غياث الدين ذلك أرسل إلى محمد بن جربك، صاحب الطالقان، يأمره أن يرسل إلى جقر يتهدده، ففعل ذلك وسار من الطالقان، فأخذ مرو الروذ، والخمس قرى وتسمى بالفارسية بنج ده، وأرسل إلى جقر يأمره بإقامة الخطبة بمرو لغياث الدين، أو يفارق البلد، فأعاد الجواب يتهدد ابن جربك ويتوعده، وكتب إليه سراً يسأله أن يأخذ له أماناً من غياث الدين ليحضر خدمته، فكتب إلى غياث الدين بذلك، فلما قرأ كتابه علم أن خوارزم شاه ليس له قوة، فلهذا طلب جقر الانحياز إليه، فقوي طمعه في البلاد، وكتب إلى أخيه شهاب الدين يأمره بالخوارج إلى خراسان، ليتفقا على أخذ بلاد خوارزم شاه محمد. ذكر عدة حوادثفي هذه السنة، في جمادى الآخرة، وثب الملاحدة الإسماعيلية على نظام الملك مسعود بن علي، وزير خوارزم شاه تكش، فقتلوه، وكان صالحاً كثير الخير، حسن السيرة، شافعي المذهب، بنى للشافعية بمرو جامعاً مشرفاً على جامع الحنفية، فتعصب شيخ الإسلام وهو مقدم الحنابلة بها، قديم الرياسة، وجمع الأوباش، فأحرقه. فأنفذ خوارزم شاه فأحضر شيخ الإسلام وجماعة ممن سعى في ذلك، فأغرمهم مالاً كثيراً. وبنى الوزير أيضاَ مدرسة عظيمة بخوارزم وجامعاً وجعل فيها خزانة كتب، وله آثار حسنة بخراسان باقية، لوما مات خلف ولداً صغيراً، فاستوزره خوارزم شاه رعاية لحق أبيه، فأشير عليه أن يصلح له إلى أن أكبر، فإن كنت أصلح فأنا المملوك؛ فقال خوارزم شاه: لست أعفيك، وأنا وزيرك، فكن مراجعي في الأمور، فإنه لا يقف منها شيء. فاستحسن الناس هذا، ثم إن الصبي لم تطل أيامه، فتوقبل خوارزم شاه بيسير. وفي هذه السنة، في ربيع الأول، توفي شيخنا أبو الفرج عبد المنعم بن عبد الوهاب بن سعد بن صدقة بن الخضر بن كليب الحراني المقيم ببغداد وله ست وتسعون سنة وشهران، وكان عالي الإسناد في الحديث، وكان ثقة صحيح السماع. وفي ربيع الآخر منها توفي القاضي الفاضل عبد الرحيم البيساني الكاتب المشهور، لم يكن في زمانه أحسن كتابة منه، ودفن بظاهر مصر بالقرافة، وكان ديناً كثير الصدقة والعبادة، وله وقوف كثيرة على الصدقة وفك الأسارى، وكان يكثر الحج والمجاورة مع اشتغاله بخدمة السلطان، وكان السلطان صلاح الدين يعظمه ويحترمه ويكرمه، ويرجع إلى قوله، رحمهما الله. ثم دخلت سنة سبع وتسعين وخمسمائة ذكر ملك الملك الظاهر صاحب حلب منبج وغيرها من الشام وحصره هو وأخوه الأفضل مدينة دمشق وعودهما عنها
قد ذكرنا قبل ملك العادل ديار مصر، وقطعه خطبة الملك المنصور ولد الملك العزيز عثمان بن صلاح الدين يوسف بن أيوب، وأنه لما فعل ذلك لم يرضه الأمراء المصريون، وخبثت نياتهم في طاعته، فراسلوا أخويه: الظاهر بحلب، والأفضل بصرخد، وتكررت المكاتبات والمراسلات بينهم، يدعونهم إلى قصد دمشق وحصرها ليخرج الملك العادل إليهم، فإذا خرج إليهم من مصر أسلموه، وصاروا معهما، فيملكان البلاد. وكثر ذلك، حتى فشا الخبر واتصل بالملك العادل، وانضاف إلى ذلك أن النيل لم يزد بمصر الزيادة التي تركب الأرض ليزرع الناس، فكثر الغلاء فضعفت قوة الجند، وكان فخر الدين جركس قد فارق مصر إلى الشامخ هو وجماعة من المماليك الناصرية لحصار بانياس ليأخذها لنفسه بأمر العادل، وكانت لأمير كبير تركي اسمه بشارة، قد اتهمنه العادل، فأمر جركس بذلك. وكان أمير من أمراء العادل يعرف بأسامة قد حج هذه السنة، فلما عاد من الحج، وقارب صرخد، نزل الملك الأفضل، فلقيه وأكرمه، ودعاه إلى نفسه، فأجابه وحلف له، وعرفه الأفضل جلية الحال، وكان أسامة من بطانة العادل، وإنما حلف لينكشف له الأمر، فلما فارق الأفضل أرسل إلى العادل، وهو بمصر، يعرفه الخبر جميعه، فأرسل إلى ولده الذي بدمشق يأمره بحصر الأفضل بصرخد، وكتب إلى إياس جركس وميمون القصري، صاحب بلبيس، وغيرهما من الناصرية، يأمرهم الاجتماع مع ولده على حصر الأفضل. وسمع الأفضل الخبر، فسار إلى أخيه الظاهر بحلب مستهل جمادى الأولى من السنة، ووصل إلى حلب عاشر الشهر، وكان الظاهر قد أرسل أميراً كبيراً من أمرائه إلى عمه العادل، فمنعه العادل من الوصول إليه، وأمره بأن يكتب رسالته، فلم يفعل وعاد لوقته، فتحرك الظاهر لذلك وجمع عسكره وقصد منبج فملكها للسادس والعشرين من رجب، وسار إلى قلعة نجم وحصرها، فتسلمها سلخ رجب. وأما ابن العادل المقيم بدمشق فإنه سار إلى بصرى، وأرسل إلى جركس ومن معه، وهم على بانياس يحصرونها، يدعوهم إليه، فلم يجيبوه إلى ذلك بل غالطوه، فلما طال مقامه على بصرى عاد إلى دمشق، وأرسل الأمير أسامة إليهم يدعوهم إلى مساعدته، فاتفق أنه جرى بينه وبين البكى الفارس، بعض المماليك الكبار الناصرية، منافرة فأغلظ له البكى القول، وتعدى إلى الفعل باليد، وثار العسكر جميعه على أسامة، فاستذم بميمون، فأمنه وأعاده إلى دمشق، واجتمعوا كلهم عند الملك الظافر خضر بن صلاح الدين، وأنزلوه من صرخد، وأرسلوا إلى الملك الظاهر والأفضل يحثونهما على الوصول إليهم، والملك الظاهر يتربص ويتعوق، فوصل من منبج إلى حماة في عشرين يوماً، وأقام على حماة يحصرها وبها صاحبها ناصر الدين محمد بن تقي الدين إلى تاسع عشر شهر رمضان، فاصطلحا وحمل له ابن تقي الدين ثلاثين ألف دينار صورية، وساروا منها إلى حمص، ثم سارا منها إلى دمشق على طريق بعلبك، فنزلوا عليها عند مسجد القدم، فلما نزلوا على دمشق أتاهم المماليك الناصرية مع الملك الظافر خضر بن صلاح الدين، وكانت القاعدة استقرت بني الظاهر وأخيه الأفضل أنهم إذا ملكوا دمشق تكون بيد الأفضل، وكانت القاعدة استقرت بني الظاهر وأخيه الأفضل أنهم إذا ملكوا دمشق تكون بيد الأفضل، ويسيرون إلى مصر، فإذا ملكوها تسلم الظاهر دمشق، فيبقى الشام جميعه له، وتبقى مصر للأفضل، وسلم الأفضل صرخد إلى زين الدين قراجة مملوك والده ليحضر في خدمته، وأنزل والدته وأهله منها وسيرهم إلى حمص، فأقاموا عند أسد الدين شيركوه صاحبها.
وكان الملك العادل قد سار من مصر إلى الشام، فنزل على مدينة نابلس وسير جمعاً من العسكر إلى دمشق ليحفظها، فوصلوا قبل وصول الظاهر والأفضل، وحضر فخر الدين جركس وغيره من الناصرية عند الظاهر، وزحفوا إلى دمشق وقاتلوها رابع عشر ذي القعدة، واشتد القتال عليها، فالتصق الرجل بالسور، فأدركهم الليل، فعادوا وقد قوي الطمع في أخذها، ثم زحفوا إليها مرة ثانية وثالثة، فلم يبق إلا ملكها، لأن العسكر صعد إلى سطح خان ابن المقدم، وهو ملاصق السور، فلو لم يدركهم الليل لملكوا البلد؛ فلما أدركهم الليل، وهم عازمون على الزحف بكرة، وليس لهم عن البلد مانع، حسد الظاهر أخاه الأفضل، فأرسل إليه يقول له تكون دمشق له وبيده ويسير العساكر معه إلى مصر. فقال له الأفضل، قد علمت أن والدتي وأهلي، وهم أهلك أيضاً، على الأرض، ليس لهم موضع يأوون إليه، فاحسب أن هذا البلد لك تعيرناه ليسكنه أهلي هذه المدة إلى أن يملك مصر. فلم يجبه الظاهر إلى ذلك، ولج، فلما رأى الأفضل ذلك الحال قال للناصرية وكل من جاء إليهم من الجند: إن كنتم جئتم إلي فقد أذنت لكم في العود إلى العادل، وإن كنتم جئتم إلى أخي الظاهر فأنتم وهو أخبر، وكان الناس كلهم يريدون الأفضل، فقالوا: ما نريد سواك، والعادل أحب إلينا من أخيك؛ فأذن لهم في العود، فهرب فخر الدين جركس وزين الدين قراجة الذي أعطاه الأفضل صرخد، فمنهم من دخل دمشق، ومنهم من عاد إلى إقطاعه، فلما انفسخ الأمر عليهم عادوا إلى تجديد الصلح مع العادل، فترددت الرسل بينهم واستقر الصلح على أن يكون للظاهر منبج، وأفامية وكفر طاب، وقرى معينة من المعرة، ويكون للأفضل سميساط، وسروج، ورأس عين، وحملين، ورحلوا عن دمشق أول المحرم سنة ثمان وتسعين، فقصد الأفضل حمص فأقام بها، وسار الظاهر إلى حلب، ووصل العادل إلى دمشق تاسع المحرم، وسار الأفضل إليه من حمص، فاجتمع به بظاهر دمشق، وعاد من عنده إلى حمص، وسار منها ليتسلم سميساط، فتسلمها، وتسلم باقي ما استقر له: رأس عين وسروج وغيرهما. ذكر ملك غياث الدين وأخيه ما كان لخوارزم شاه بخراسان قد ذكرنا مسير محمد بن خرميل من الطلقان. واستيلاء على مرو الروذ وسؤال جقر اتركي نائب علاء الدين محمد خوارزم شاه بمرو أن يكون في جملة عسكر غياث الدين، ولما وصل كتاب ابن خرميل إلى غياث الدين في معنى جقر، علم أن هذا إنما دعاه إلى الانتماء إليهم ضعف صاحبه، فأرسل إلى أخيه شهاب الدين يستدعيه إلى خراسان، فسار من غزنة في عساكره وجنوده وعدته وما يحتاج إليه. وكان بهراة الأمير عمر بن محمد المرغني نائباً عن غياث الدين، وكان يكره خروج غياث الدين إلى خراسان، فأحضره غياث الدين واستشاره، فأشار بالكف عن قصدها، وترك المسير إليها، فأنكر عليه ذلك، و أراد إبعاده عنه، ثم تركه، ووصل شهاب الدين في عساكره وعساكر سجستان وغيرها في جمادى الأولى من هذه السنة، فلما وصلوا إلى ميمنة، وهي قرية بين الطالقان وكرزيان، وصل إلى شهاب الدين كتاب جقر مستحفظ مرو، يطلبه ليسلمها إليه، فاستأذن أخاه غياث الدين، فأذن له، فسار إليها، فخرج أهلها مع العسكر الخوارزمي وقاتلوه، فأمر أصحابه بالحملة عليهم والجد في قتالهم، فحملوا عليهم، فأدخلوهم البلد، وزحفوا بالفيلة إلى أن قاربوا السور، فطلب أهل البلد الأمان، فأمنهم وكف الناس عن التعرض إليهم، وخرج جقر إلى شهاب الدين فوعده الجميل. ثم حضر غياث الدين إلى مرو بعد فتحها، فأخذ جقر وسيره إلى هراة مكرماً، وسلم مرو إلى هندوخان بن ملكشاه بن خوارزم شاه تكش، وقد ذكرنا هربه من عمه خوارزم شاه محمد بن تكش إلى غياث الدين، ووصاه بالإحسان إلى أهلها.
ثم سار غياث الدين إلى مدينة سرخس، فأخذها صلحاً، وسلمها إلى الأمير زنكي بن مسعود، وهو من أولاد عمه، وأقطعه معها نسا وأبيورد؛ ثم سار بالعساكر إلى طوس، فأراد الأمير الذي بها أن يمتنع فيها ولا يسلمها، فأغلق باب البلد ثلاثة أيام، فبلغ الخبز ثلاثة أمناء بدينار ركني، فضج أهل البلد عليه، فأرسل إلى غياث الدين يطلب الأمان، فأمنه، فخرج إليه، فخلع عليه وسيره إلى هراة؛ ولما ملكها أرسل إلى علي شاه بن خوارزم شاه تكش، وهو نائب أخيه علاء الدين. وكان مع علي شاه عسكر من خوارزم شاه، فاتفقوا على الامتناع من تسليم البلد، وحصنوه، وخربوا ما بظاهره من العمارة، وقطعوا الأشجار. وسار غياث الدين إلى نيسابور، فوصل إليها أوائل رجب، وتقدم عسكر أخيه شهاب الدين إلى القتال؛ فلما رأي غياث الدين ذلك قال لولده محمود: قد سبقنا عسكر غزنة بفتح مرو، ومن يريدون أن يفتحوا نيسابور، فيحصلون بالاسم، فاحمل إلى البلد، ولا ترجع حتى تصل إلى السور، فحمل، وحمل معه وجوه الغورية، فلم يردهم أحد من السور، حتى اصعدوا علم غياث الدين إليه، فلما رأى شهاب الدين علم أخيه على السور قال لأصحابه: اقصدوا بنا هذه الناحية، واصعدوا السور من هاهنا؛ وأشار إلى مكان فيه، فسقط السور منهدماً، فضج الناس بالتكبير، وذهل الخوارزميون وأهل البلد، ودخل الغورية البلد، وملكوه عنوة، ونهبوه ساعة من نهار، فبلغ الخبر إلى غياث الدين فأمر بالنداء: من نهب مالاً أو أذى أحداً فدمه حلال؛ فأعاد الناس ما نهبوه عن آخره. ولقد حدثني بعض أصدقائنا من التجار، وكان بنيسابور في هذه الحادثة: نهب من متاعي شيء من جملته سكر، فلما سمع العسكر النداء ردوا جميع ما أخذوا مني، وبقي لي بساط وشيء من السكر، فرأيت السكر مع جماعة، فطلبته منهم، فقالوا: أما السكر فأكلناه، فنسألك ألا يسمع أحد، وإن أردت ثمنه أعطيناك؛ فقلت: أنتم في حل منه؛ ولم يكن البساط مع أولئك، قال: فمشيت إلى باب البلد مع النظارة، فرأيت البساط الذي لي قد ألقي عند باب البلد لم يجسر أحد على أن يأخذه، فأخذته وقلت: هذا لي؛ فطلبوا مني من يشهد به، فأحضرت من شهد لي وأخذته. ثم إن الخوارزميين تحصنوا بالجامع، فأخرجهم أهل البلد، فأخذهم الغورية ونهبوا ما لهم، وأخذ علي شاه بن خوارزم شاه وأحضر عند غياث الدين رجلاً، فأنكر ذلك على من أحضره، وعظم الأمر فيه، وحضرت داية كانت لعلي شاه، وقالت لغياث الدين: أهكذا يفعل بأولاد الملوك؟ فقال: لا! بل هكذا، وأخذ بيده، وأقعده معه على السرير، وطيب نفسه، وسير جماعة الأمراء الخوارزمية إلى هراة تحت الاستظهار، وأحضر غياث الدين ابن عمه، وصهره على ابنته، ضياء الدين محمد بن أبي علي الغوري، وولاه حرب خراسان وخراجها، ولقبه علاء الدين، وجعل معه وجوه الغورية، ورحل إلى هراة، وسلم علي شاه إلى أخيه شهاب الدين، وأحسن إلى أهل نيسابور وفرق فيهم مالاً كثيراً. ثم رحل بعده شهاب الدين إلى ناحية قهستان، فوصل إلى قرية، فذكر له أن أهلها إسماعيلية، فأمر بقتل المقاتلة، ونهب الأموال، وسبي الذراري، وخرب القرية فجعلها خاوية على عروشها، ثم سار إلى كناباد وهي من المدن التي جميع أهلها إسماعيلية، فنزل عليها وحصرها، فأرسل صاب قهستان إلى غياث الدين يشكو أخاه شهاب الدين، ويقول: بيننا عهد، فما الذي بدا منا حتى تحاصر بلدي؟ واشتد خوف الإسماعيلية الذين بالمدينة من شهاب الدين، فطلبوا الأمان ليخرجوا منها، فأمنهم، وأخرجهم وملك المدينة وسلمها إلى بعض الغورية، فأقام بها الصلاة، وشعار الإسلام، ورحل شهاب الدين فنزل على حصن آخر للإسماعيلية، فوصل إليه رسول أخيه غياث الدين، فقال الرسول: معي تقدم من السلطان، فلا يجري حرد إن فعلته؟ فقال: لا فقال: إنه يقول لك ما لك ولرعيتي، ارحل، قال: لا أرحل! قال: إذن أفعل ما أمرني. قال: افعل؛ فسل سيفه وقطع أطناب سرادق شهاب الدين، وقال: ارحل بتقدم السلطان، فرحل شهاب الدين والعسكر وهو كاره، وسار إلى بلد الهند، ولم يقم بغزنة غضباً لما فعله أخوه معه. ذكر قصد نور الدين بلاد العادل والصلح بينهما
في هذه السنة أيضاً تجهز نور الدين أرسلان شاه، صاحب الموصل، وجمع عساكره وسار إلى بلاد الملك العادل بالجزيرة: حران والرها؛ وكان سبب حركته أن الملك العادل لما ملك مصر، على ما ذكرناه قبل، اتفق نور الدين والملك الظاهر، صاحب حلب وصاحب ماردين وغيرهما، على أن يكونوا يداً واحدة، متفقين على منع العادل عن قصد أحدهم، فلما تجددت حركة الأفضل والظاهر أرسلا إلى نور الدين ليقصد البلاد الجزرية، فسار عن الموصل في شعبان من هذه السنة، وسار معه ابن عمه قطب الدين محمد بن عماد الدين زنكي، صاحب سنجار ونصيبين، وصاحب ماردين، ووصل إلى رأس عين، وكان الزمان قيظاً، فكثرت الأمراض في عسكره. وكان بحران ولد العادل يلقب بالملك الفائز ومعه عسكر يحفظ البلاد، فلما وصل نور الدين إلى رأس عين جاءته رسل الفائز ومن معه من أكابر الأمراء يطلبون الصلح ويرغبون فيه، وكان نور الدين قد سمع بأن الصلح بدأ يتم بين الملك العادل والملك الظاهر والأفضل، وانضاف إلى ذلك كثرة الأمراض في عسكره، فأجاب إليه، وحلف الملك لفائز ومن عنده من أكابر الأمراء عل القاعدة التي استقرت، وحلفوا له أنهم يحلفون الملك العادل له، فإن امتنع كانوا معه عليه، وحلف هو للملك العادل. وسارت الرسل من عنده ومن عند ولده في طلب اليمين من العادل، فأجاب إلى ذلك، وحلف له، واستقرت القاعدة، وأمنت البلاد وعاد نور الدين إلى الموصل في ذي القعدة من السنة. ذكر ملك شهاب الدين نهروالهلما سار شهاب الدين من خراسان، على ما ذكرناه، لم يقم بغزنة، وقصد بلاد الهند، وأرسل مملوكه قطب الدين أيبك إلى نهرواله، فوصلها سنة ثمان وتسعين، فلقيه عسكر الهنود، فقاتلوه قتالاً شديداً، فهزمهم أيبك، واستباح معسكرهم، وما لهم فيه من الدواب وغيرها، وتقدم إلى نهرواله فملكها عنوة، وهرب ملكها، فجمع وحشد، فكثر جمعه. وعلم شهاب الدين أنه لا يقدر على حفظها إلا بأن يقيم هو فيها ويخليها من أهلها، ويتعذر عليه ذلك، فإن البلد عظيم، هو أعظم بلاد الهند، وأكثرهم أهلاً، فصالح صاحبها على مال يؤديه إليه عاجلاً وآجلاً، وأعاد عساكره عنها وسلمها إلى صاحبها. ذكر ملك ركن الدين ملطية من أخيه وأرزن الرومفي هذه السنة، في شهر رمضان، ملك ركن الدين سليمان بن قلج أرسلان مدينة ملطية، وكانت لأخيه معز الدين قيصر شاه، فسار إليه وحصره أياماً وملكها، وسار منها إلى أرزن الروم، وكانت لولد الملك ابن محمد بن صلتق، وهم بيت قديم قد ملكوا أرزن الروم هذه مدة طويلة، فلما سار إليها وقاربها خرج صاحبها إليه ثقة به ليقرر معه الصلح على قاعدة يؤثرها ركن الدين، فقبض عليه واعتقله عنده وأخذ البلد، وكان هذا آخر أهل بيته الذين ملكوا، فتبارك الله الحي القيوم الذي لا يزول ملكه أبداً سرمداً. ذكر وفاة سقمان صاحب آمد وملك أخيه محمود في هذه السنة توفي قطب الدين سقمان بن محمد بن قرا أرسلان بن داود بن سقمان، صاحب آمد وحصن كيفا، سقط من سطح جوسق كان له بظاهر حصن كيفا فمات، وكان شديد الكراهة لأخيه هذا، والنفور عنه، قد أبعده وأنزله حصن منصور في آخر بلادهم، واتخذ مملوكاً اسمه إياس، فزوجه أخته، وأحبه حباً شديداً، وجعله ولي عهده، فلما توفي ملك بعده عدة أيام، وتهدد وزيراً كان لقطب الدين، وغيره من أمراء الدولة، فأرسلوا إلى أخيه محمود سراً يستدعونه، فسار مجداً، فوصل إلى آمد وقد سبقه إليها إياس مملوك أخيه، فلم يقدم على الامتناع، فتسلم محمود البلاد جميعها وملكها، وحبس المملوك فبقي مدة محبوساً، ثم شفع له صاحب بلاد الروم، فأطلق من الحبس، وسار إلى الروم، فصار أميراً من أمراء الدولة. ذكر عدة حوادثفي هذه السنة اشتد الغلاء بالبلاد المصرية لعدم زيادة النيل، وتعذرت الأقوات حتى أكل الناس الميتة، وأكل بعضهم بعضاً، ثم لحقهم عليه وباء وموت كثير أفنى الناس. وفي شعبان منها تزلزلت الأرض بالموصل، وديار الجزيرة كلها، والشام، ومصر، وغيرها، فأثرت في الشام آثاراً قبيحة، وخربت كثيراً من الدور بدمشق، وحمص، وحماة، وانخسفت قرية من قرى بصرى، وأثرت في الساحل الشامي أثراً كثيراً، فاستولى الخراب على طرابلس، وصور، وعكا، ونابلس، وغيرها من القلاع، ووصلت الزلزلة إلى بلاد الروم، وكانت بالعراق يسيرة لم تهدم دوراً.
وفيها ولد ببغداد طفل له رأسان، وذلك أن جبهته مفروقة بمقدار ما يدخل فيها ميل. وفي هذه السنة، في شهر رمضان، توفي أبو الفرج عبد الرحمن بن علي ابن الجوزي الحنبلي الواعظ ببغداد، وتصانيفه مشهورة، وكان كثير الوقيعة في الناس لا سيما في العلماء المخالفين لمذهبه والموافقين له، وكان مولده سنة عشر وخمسمائة. وفيه أيضاً توفي عيسى بن نصير النميري الشاعر، وكان حسن الشعر، وله أدب وفضل، وكان موته ببغداد. وفيها توفي العماد أبو عبد الله محمد بن محمد بن حامد بن محمد بن أله، أوله باللام المشددة، وهو العماد الكاتب الأصفهاني، كتب لنور الدين محمود ابن زنكي ولصلاح الدين يوسف بن أيوب، رضي الله عنهما، وكان كاتباً مفلقاً، قادراً على القول. وفيها جمع عبد الله بن حمزة العلوي المتغلب على جبال اليمن جموعاً كثيرة فيها اثنا عشر ألف فارس، ومن الرجالة ما لا يحصى كثرة، وكان قد انضاف إليه من جند المعز بن إسمعيل بن سيف الإسلام طغدكين بن أيوب، صاحب اليمن، خوفاً منه، وأيقنوا بملك البلاد، واقتسموها، وخافهم ابن سيف الإسلام خوفاً عظيماً، فاجتمع قواد عسكر ابن حمزة ليلاً ليتفقوا على رأي يكون العمل بمقتضاه، وكانوا اثني عشر قائداً فنزلت عليهم صاعقة أهلكتهم جميعهم، فأتى الخبر ابن سيف الإسلام في باقي الليلة بذلك، فسار إليهم مجداً فأوقع بالعسكر المجتمع، فلم يثبتوا له، وانهزموا بين يديه، ووضع السيف فيهم، فقتل منهم ستة آلاف قتيل أو أكثر من ذلك وثبت ملكه واستقر بتلك الأرض. وفيها وقع في بني عنزة بأرض الشراة، بين الحجاز واليمن، وباء عظيم، وكانوا يسكنون في عشرين قرية، فوقع الوباء في ثماني عشرة قرية، فلم يبق منهم أحد. وكان الإنسان إذا قرب من تلك القرى يموت ساعة ما يقاربها، فتحاماها الناس، وبقيت إبلهم وأغنامهم لا مانع لها، وأما القريتان الأخريان فلم يمت فيهما أحد، ولا أحسوا بشيء مما كان فيه أولئك. ثم دخلت سنة ثمان وتسعين وخمسمائة ذكر ملك خوارزم شاه ما كان أخذه الغورية من بلاده قد ذكرنا في سنة سبع وتسعين ملك غياث الدين وأخيه شهاب الدين ما كان لخوارزم شاه محمد بن تكش بخراسان ومرو ونيسابور وغيرها، وعودهما عنها بعد أن أقطعا البلاد، ومسير شهاب الدين إلى الهند، فلما اتصل بخوارزم شاه علاء الدين محمد بن تكش عود العساكر الغورية عن خراسان، ودخول شهاب الدين الهند، أرسل إلى غياث الدين يعاتبه، ويقول: كنت أعتقد أن تخلف علي بعد أبي، وأن تنصرني على الخطا، وتردهم عن بلادي، فحيث لم تفعل فلا أقل من أن لا تؤذيني وتأخذ بلادي، والذي أريده أن تعيد ما أخذته مني إلي، وإلا استنصرت عليك بالخطا وغيرهم من الأتراك، إن عجزت عن أخذ بلادي، فإنني إنما شغلني عن منعكم عنها الاشتغال بعزاء والدي وتقرير أمر بلادي، وإلا فما أنا عاجز عنكم وعن أخذ بلادكم بخراسان وغيرها؛ فغالطه غياث الدين في الجواب لتميد الأيام بالمراسلات، ويخرج أخوه شهاب الدين من الهند بالعساكر، فإن غياث الدين كان عاجزاً باستيلاء النقرس عليه. فلما وقف خوارزم شاه على رسالة غياث الدين أرسل إلى علاء الدين الغوري، نائب غياث الدين بخراسان، يأمره بالرحيل عن نيسابور، ويتهدده إن لم يفعل، فكتب علاء الدين إلى غياث الدين بذلك، ويعرفه ميل أهل البلد إلى الخوارزميين، فأعاد غياث الدين جوابه يقوي قلبه، ويعده النصرة والمنع عنه. وجمع خوارزم شاه عساكره وسار عن خوارزم نصف ذي الحجة سنة سبع وتسعين وخمسمائة، فلا قارب نسا وأبيورد هرب هندوخان ابن أخي ملكشاه من مرو إلى غياث الدين بفيروزكوه، وملك خوارزم شاه مدينة مرو، وسار إلى نيسابور وبها علاء الدين، فحصره، وقاتله قتالاً شديداً، وطال مقامه عليها، وراسله غير مرة في تسليم البلد إليه، وهو لا يجيب إلى ذلك انتظاراً للمدد من غياث الدين، فبقي نحو شهرين، فلما أبطأ عنه النجدة أرسل إلى خوارزم شاه يطلب الأمان لنفسه ولمن معه من الغورية، وأنه لا يتعرض إليهم بحبس ولا غيره من الأذى، فأجابه إلى ذلك، وحلف لهم، وخرجوا من البلد وأحسن خوارزم شاه إليهم، ووصلهم بمال جليل وهدايا كثيرة، وطلب من علاء الدين أن يسعى في الصلح بينه وبين غياث الدين وأخيه، فأجابه إلى ذلك.
وسار إلى هراة، ومنها إلى إقطاعه، ولم يمض إلى غياث الدين تجنياً عليه لتأخر أمداده، ولما خرج الغورية من نيسابور أحسن خوارزم شاه إلى الحسين ابن خرميل، وهو من أعيان أمرائهم، زيادة على غيره، وبالغ في إكرامه، فقيل إنه من ذلك اليوم استحلفه لنفسه، وأن يكون معه بعد غياث الدين وأخيه شهاب الدين. ثم سار خوارزم شاه إلى سرخس، وبها الأمير زنكي، فحصره أربعين يوماً، وجرى بين الفريقين حروب كثيرة، فضاقت الميرة على أهل البلد، لا سيما الحطب، فأرسل زنكي إلى خوارزم شاه يطلب منه أن يتأخر عن باب البلد حتى يخرج هو وأصحابه ويترك البلد له، فراسله خوارزم شاه في الاجتماع به ليحسن إليه وإلى من معه، فلم يجبه إلى ذلك، واحتج بقرب نسبه من غياث الدين، فأبعد خوارزم شاه عن باب البلد بعساكره، فخرج زنكي فأخذ من الغلات وغيرها التي في المعسكر ما أراد لا سيما من الحطب، وعاد إلى البلد وأخرج منه من كان قد ضاق به الأمر، وكتب إلى خوارزم شاه: العود أحمد؛ فندم حيث لم ينفعه الندم؛ ورحل عن البلد، وترك عليه جماعة من الأمراء يحصرونه. فلما أبعد خوارزم شاه سار محمد بن جربك من الطالقان، وهو من أمراء الغورية، وأرسل إلى زنكي أمير سرخس يعرفه أنه يريد أن يكبس الخوارزميين لئلا ينزعج إذا سمع الغلبة، وسمع الخوارزميون الخبر، ففارقوا سرخس، وخرج زنكي ولقي محمد بن جربك وعسكر في مرو الروذ، وأخذ خراجها وما يجاورها، فسير إليهم خوارزم شاه عسكراً مع خاله، فلقيهم محمد بم جربك وقاتلهم، وحمل بلت في يده على صاحب علم الخوارزمية فضربه فقتله، وألقى علمهم، وكسر كوساتهم، فانقطع صوتها عن العسكر، ولم يروا أعلامهم، فانزموا، وركبهم الغورية قتلاً وأسراً نحو فرسخين فكانوا ثلاثة آلاف فارس وابن جربك في تسع مائة فارس، وغنم جميع معسكرهم؛ فلما سمع خوارزم شاه ذلك عاد إلى خوارزم، وأرسل إلى غياث الدين في الصلح، فأجابه عن رسالته مع أمير كبير من الغورية يقال له الحسين بن محمد المرغني، ومرغن من قرى الغور، فقبض عليه خوارزم شاه. ذكر حصر خوارزم شاه هراة وعوده عنها لما أرسل خوارزم شاه إلى غياث الدين في الصلح، وأجابه عن رسالته مع الحسين المرغني مغالطاً، قبض خوارزم شاه على الحسين، وسار إلى هراة ليحاصرها، فكتب الحسين إلى أخيه عمر بن محمد المرغني، أمير هراة، يخبره بذلك، فاستعد للحصار. وكان سبب قصد خوارزم شاه حصار هراة أن رجلين أخوين، ممن كان يخدم محمداً سلطان شاه، اتصلا بغياث الدين، بعد وفاة سلطان شاه، فأكرمهما غياث الدين، وأحسن إليهما، يقال لأحدهما الأمير الحاجي، فكاتبا خوارزم شاه، وأطمعاه في البلد، وضمنا له تسليمه إليه، فسار لذلك، ونازل المدينة وحصرها، فسلم الأمر عمر المرغني، أمير البلد، مفتاح الأبواب إليهما، وجعلهما على القتال ثقة منه بهما، وظنا منه أنهما عدواً خوارزم شاه تكش وابنه محمد بعده، فاتفق أن بعض الخوارزمية أخبر الحسين المرغني المأسور عند خوارزم شاه بحال الرجلين، وأنهما هما اللذان يدبران خوارزم شاه ويأمرانه بما يفعل، فلم يصدقه، وأتاه بخط الأمير الحاجي، فأخذه وأرسله إلى أخيه عمر أمير هراة، فأخذهما واعتقلهما وأخذ أصحابهما. ثم إن ألب غازي، وهو ابن أخت غياث الدين، جاء في عسكر من الغورية، فنزل على خمسة فراسخ من هراة، فكان يمنع الميرة عن عسكر خوارزم شاه؛ ثم إن خوارزم شاه سير عسكراً إلى أعمال الطالقان للغارة عليها، فلقيهم الحسن بن خرميل فقاتلهم، فظفر بهم فلم يفلت منهم أحد. وسار غياث الدين عن فيروزكوه إلى هراة في عسكره، فنزل برباط رزين بالقرب من هراة، ولم يقدم على خوارزم شاه لقلة عسكره لان أكثر عساكره كانت مع أخيه بالهند وغزنة، فأقام خوارزم شاه على هراة أربعين يوماً، وعزم على الرحيل لأنه بلغه انهزام أصحابه بالطالقان وقرب غياث الدين، وكذلك أيضاً قرب ألب غازي؛ وسمع أيضاً أن شهاب الدين قد خرج من الهند إلى غزنة، وكان وصوله إليها في رجب من هذه السنة، فخاف أن يصل بعساكره فلا يمكنه المقام على البلد، فأرسل إلى أمير هراة عمر المرغني في الصلح فصالحه على مال حمله إليه وارتحل عن البلد.
وأما شهاب الدين، فإنه لما وصل إلى غزنة بلغه الخبر بما فعله خوارزم شاه بخراسان وملكه لها، فسار إلى خراسان، فوصل إلى بلخ ومنها إلى باميان ثم إلى مرو، عازماً على حرب خوارزم شاه، وكان نازلاً هناك، فالتقت أوائل عسكريهما، واقتتلوا، فقتل من الفريقين خلق كثير، ثم إن خوارزم شاه ارتحل عن مكانه شبه المنهزم، وقطع القناطر، وقتل الأمير سنجر، صاحب نيسابور، لأنه اتهمه بالمخامرة عليه، وتوجه شهاب الدين إلى طوس فأقام بها تلك الشتوة على عزم المسير إلى خوارزم ليحصرها، فأتاه الخبر بوفاة أخيه غياث الدين، فقصد هراة وترك ذلك العزم. ذكر عدة حوادثفي هذه السنة درس مجد الدين أبو علي يحيى بن الربيع، الفقيه الشافعي، بالنظامية ببغداد في ربيع الأول. وفيها توفيت بنفشة جارية الخليفة المستضيء، بأمر الله، وكان كثير الميل إليها، والمحبة لها، وكانت كثير المعروف والإحسان والصدقة. وفيها أيضاً توفي الخطيب عبد الملك بن زيد الدولعي، خطيب دمشق، وكان فقيهاً شافعياً، هو من الدولعية قرية من أعمال الموصل. ثم دخلت سنة تسع وتسعين وخمسمائة ذكر حصر عسكر العادل ماردين وصلحه مع صاحبها في هذه السنة، في المحرم، سير الملك العادل أبو بكر بن أيوب، صاحب دمشق ومصر، عسكراً مع ولده الملك الأشرف موسى إلى ماردين، فحصروها، وشحنوا على أعمالها، وانضاف إليه عسكر الموصل وسنجار وغيرهما، ونزلوا بخرزم تحت ماردين، ونزل عسكر من قلعة البارعية، وهي لصاحب ماردين، يقطعون الميرة عن العسكر العادلي، فسار إليهم طائفة من العسكر العادلي، فاقتتلوا، فانهزم عسكر البارعية. وثار التركمان وقطعوا الطريق في تلك الناحية، وأكثروا الفساد، فتعذر سلوك الطريق إلى لجماعة من أرباب السلاح، فسار طائفة من العسكر العادلي إلى رأس عين لإصلاح الطرق، وكف عادية الفساد، وأقام ولد العادل، ولم يحصل له غرض، فدخل الملك الظاهر غازي بن صلاح الدين يوسف، صاحب حلب، في الصلح بينهم، وأرسل إلى عمه العادل ي ذلك، فأجاب إليه على قاعدة أن يحمل هل صاحب ماردين مائة وخمسين ألف دينار، فجاء صرف الدينار أحد عشر قيراطاً من أميري، ويخطب له ببلاده، ويضرب اسمه على السكة، ويكون عسكره في خدمته أي وقت طلبه، وأخذ الظاهر عشرين ألف دينار من النقد المذكور، وقرية القرادي من أعمال شيختان، فرحل ولد العادل عن ماردين. ذكر وفاة غياث الدين ملك الغور وشيء من سيرته في هذه السنة، في جمادى الأولى، توفي غياث الدين أبو الفتح محمد بن سام الغوري، صاحب غزنة وبعض خراسان وغيرها، وأخفيت وفاته، وكان أخوه شهاب الدين بطوس، عازماً على قصد خوارزم شاه، فأتاه الخبر بوفاة أخيه، فسار إلى هراة، فلما وصل إليها جلس للعزاء بأخيه في رجب، وأظهرت وفاته حينئذ. وخلف غياث الدين من الولد ابناً اسمه محمود، لقب بعد موت أبيه غياث الدين، وسنورد من أخباره كثيراً. ولا سار شهاب الدين من طوس استخلف بمرو الأمير محمد بن جربك، فسار إليه جماعة من الأمراء الخوارزمية، فخرج إليهم محمد ليلاً، وبيتهم، فمل ينج منهم إلا القليل، وأنفذ الأسرى والرؤوس إلى هراة، فأمر شهاب الدين بالاستعداد لقصد خوارزم على طريق الرمل، وجهز خوارزم شاه جيشاً وسيرهم مع بوفور التركي إلى قتال محمد بن جربك، فسمع بهم، فخرج إليهم، ولقيهم على عشرة فراسخ من مرو، فاقتتلوا قتالاً شديداً، قتل بين الفريقين خلق كثير، وانهزم الغورية ودخل محمد بن جربك مرو في عشرة فرسان، وجاء الخوارزميون فحصروه خمسة عشر يوماً، فضعف عن الحفظ، فأرسل في طلب الأمان، فحلفوا له إن خرج إليهم على حكمهم أنهم لا يقتلونه، فخرج إليهم، فقتلوه، وأخذوا كل ما معه.
وسمع شهاب الدين الخبر فعظم عليه، وتردد الرسل بينه وبين خوارزم شاه، فلم يستقر الصلح، وأراد العود إلى غزنة، فاستعمل على هراة ابن أخيه ألب غازي، وفك الملك علاء الدين محمد بن أبي علي الغوري على مدينة فيروزكوه، وجعل إليه حرب خراسان وأمر كل ما يتعلق بالملكة، وأتاه محمود ابن أخيه غياث الدين، فولاه مدينة بست واسفرار، وتلك الناحية، وجعله بمعزل من الملك جميعه، ولم يحسن الخلافة عليه بعد أبيه، ولا على غيره من أهله، فمن جملة فعله أن غياث الدين كانت له زوجة كانت مغنية، فهويها وتزوجها، فلا مات غياث الدين قبض عليها وضربها ضرباً مبرحاً، وضرب ولدها غياث الدين، وزوج أختها، وأخذ أموالهم وأملاكهم وسيرهم إلى بلد الهند، فكانوا في أقبح صورة؛ وكانت قد بنت مدرسة، ودفنت فيها أباها وأمها وأخاها، فهدمها، ونبش قبور الموتى، ورمى بعظامهم منها. وأما سيرة غياث الدين وأخلاقه، فإنه كان مظفراً منصوراً في حروبه، لم تنهزم له راية قط، وكان قليل المباشرة للحروب، وإنما كان له دهاء ومكر، وكان جواداً، حسن الاعتقاد، كثير الصدقات والوقوف بخراسان، بنى المساجد والمدارس بخراسان لأصحاب الشافعي، وبنى الخانكاهات في الطرق، وأسقط المكوس، ولم يتعرض على مال أحد من الناس، ومن مات ببلده يسلم ماله إلى أهل بلده من التجار، فإن لم يجد أحداً، يسلمه إلى القاضي، ويختم عليه إلى أن يصل من يأخذه بمقتضى الشرع. وكان إذا وصل إلى بلد عم إحسانه أهله والفقهاء وأهل الفضل، يخلع عليهم، ويفرض لهم الأعطيات كل سنة من خزانته، ويفرق الأموال في الفقراء، وكان يراعي كل من وصل إلى حضرته من العلويين والشعراء وغيرهم، وكان فيه فضل غزير، وأدب مع حسن خط وبلاغة، وكان رحمه الله، ينسخ المصاحف بخطه ويقفها في المدارس التي بناها، ولم يظهر منه تعصب على مذهب، ويقول: التعصب في المذاهب من الملك قبيح؛ إلا أنه كان شافعي المذهب، فهو يميل إلى الشافعية من غير أن يطمعهم في غيرهم، ولا أعطاهم ما ليس لهم. ذكر أخذ الظاهر قلعة نجم من الأفضلفي هذه السنة أخذ الظاهر غازي قلعة نجم من أخيه الأفضل، وكانت في جملة ما أخذ من العادل ملا صالحه سنة سبع وتسعين، فلما كان هذه السنة أخذ العادل من الأفضل سروج وحملين ورأس عين، وبقي بيد سمساط، وقلعة نجم، فأرسل الظاهر إليه يطلب منه قلعة نجم، وضمن له أنه يشفع إلى عمه العادل في إعادة ما أخذ منه، فلم يعطه، فتهدده بأن يكون إلباً عليه؛ ولم تزل الرسل تتردد حتى سلمها إليه في شعبان، وطلب منه أن يعوضه قرى أو مالاً، فلم يفعل، وكان هذا من أقبح ما سمع عن ملك يزاحم أخاه في مثل قلعة نجم مع خستها وحقارتها، وكثرة بلاده وعدمها لأخيه. وأما العادل، فإنه لما أخذ سروج ورأس عين من الأفضل أرسل والدته إليه لتسأل في رجهما، فلم يشفعها، وردها خائبة، ولقد عوقب البيت الصلاحي بما فعله أبوهم مع البيت الأتابكي، فإنه لما قصد حصار الموصل سنة ثمانين وخمسمائة أرسل صاحب الموصل والدته وابنة عمه نور الدين إليه يسألانه أن يعود، فلم يشفعهما، فجرى لأولاده هذا، وردت زوجته خائبة، كما فعل. ولما رأى الأفضل عمه وأخاه قد أخذا ما كان بيده أرسل إلى ركن الدين سليمان بن قلج أرسلان، صاحب ملطية وقونية، وما بينهما من البلاد، يبذل له الطاعة، وأن يكون في خدمته، ويخطب له ببلده، ويضرب السكة باسمه، فأجابه ركن الدين إلى ذلك، وأرسل له خلعة فلبسها الأفضل، وخطب له بسميساط في سنة ستمائة وصار في جملته. ذكر ملك الكرج مدينة دوين
في هذه السنة استولى الكرج على مدينة دوي، من أذربيجان، ونهبوها، واستباحوها، وأكثروا القتل في أهلها؛ وكانت هي وجميع بلاد أذربيجان للأمير أبي بكر بن البهلوان، وكان على عادته مشغولاً بالشرب ليلاً نهاراً، لا يفيق، ولا يصحو، ولا ينظر في أمر مملكته ورعيته وجنده، قد ألقى الجميع عن قلبه، وسلك طريق من ليس له علاقة؛ وكان أهل تلك البلاد قد أكثرت الاستغاثة به، وإعلامه بقصد الكرج بلادهم بالغارة مرة بعد أخرى، فكأنهم ينادون صخرة صماء؛ فلما حصر الكرج، هذه السنة، مدينة دوين، سار منهم جماعة يستغيثون، فلم يغثهم وخوفه جماعة من أمرائه عاقبة إهماله وتوانيه وإصراره على ما هو فيه فلم يصغ إليهم؛ فلما طال الأمر على أهلها ضعفوا، وعجزوا، وأخذهم الكرج عنوة بالسيف، وفعلوا ما ذكرنا. ثم إن الكرج بعد أن استقر أمرهم بها أحسنوا إلى من بقي من أهلها، فالله تعالى ينظر إلى المسلمين، ويسهل لثغورهم من يحفظها ويحميها، فإنها مستباحة، لا سيما هذه الناحية، فإنا لله وإنا إليه راجعون، فلقد بلغنا من فعل الكرج بأهل دوين من القتل والسبي والأمر ما تقشعر منه الجلود. ذكر عدة حوادثفي هذه السنة أحضر الملك العادل محمداً ولد العزيز صاحب مصر إلى الرها، وسبب ذلك أنه لما قطع خطبته من مصر سنة ست وتسعين، كما ذكرناه، خاف شيعة أبيه أن يجتمعوا عليه، ويصير له معهم فتنة، فأخرجه سنة ثمان وتسعين إلى دمشق، ثم نقله هذه السنة إلى الرها، فأقام بها ومعه جميع إخوته وأخواته ووالدته ومن يخصه. وفيها، في رجب، توفي الشيخ وجيه الدين محمد بن محمود المروروذي، الفقيه الشافعي، وهذا الذي كان السبب في أن صار وحيد الدين شافعياً. وفي ربيع الأول منها توفي أبو الفتوح عبيد الله بن أبي المعمر الفقيه الشافعي المعروف بالمستملي ببغداد، وله خط حسن. وفي ربيع الآخر توفيت زمرد خاتون أم الخليفة الناصر لدين الله، وأخرجت جنازتها ظاهرة، وصلى الخلق الكثير عليها، ودفنت في التربة التي بنتها لنفسها، وكانت كثيرة المعروف. ثم دخلت سنة ستمائة ذكر حصار خوارزم شاه هراة ثانية في هذه السنة، أول رجب، وصل خوارزم شاه محمد إلى مدينة هراة، فحصرها، وبها ألب غازي ابن أخت شهاب الدين الغوري ملك غزنة، بعد مراسلات جرت بينه وبين شهاب الدين في الصلح، فلم يتم. وكان شهاب الدين قد سار عن غزنة إلى لهاوور عازماً على غزو الهند، فأقام خوارزم شاه على حصار هراة إلى سلخ شعبان. وكان القتال دائماً، والقتل بين الفريقين كثيراً، وممن قتل رئيس خراسان، وكان كير القدر يقيم بمشهد طوس؛ وكان الحسين بن خرميل بكرزيان، وهي إقطاعة، فأرسل إلى خوارزم شاه يقول له: أرسل إلي عسكراً لنسلم إليهم الفيلة وخزانة شهاب الدين؛ فأرسل إليه ألف فارس من أعيان عسكره إلى كرزيان، فخرج عليه هو والحسين بن محمد المرغني، فقتلوهم إلا القليل، فبلغ الخبر إلى خوارزم شاه، فسقط في يده وندم على إنفاذ العسكر، وأرسل إلى ألب غازي يطلب منه أن يخرج إليه من البلد ويخدمه خدمة سلطانية ليرحل عنه، فلم يجبه إلى ذلك، فاتفق أن ألب غازي مرض واشتد مرضه، فخاف أن يشتغل بمرضه فيملك خوارزم شاه البلد، فأجاب إلى ما طلب منه، واستحلفه على الصلح، وأهدى له هدية جليلة، وخرج من البلد ليخدمه، فسقط إلى الأرض ميتاً، ولم يشعر أحد بذلك، وارتحل خوارزم شاه عن البلد وأحرق المجانيق وسار إلى سرخس فأقام بها. ذكر عود شهاب الدين من الهند وحصره خوارزم وانهزامه من الخطا في هذه السنة، في رمضان، عاد شهاب الدين الغوري إلى خراسان من قصد الهند، وسبب ذلك أنه بلغه حصر خوارزم شاه هراة، وموت ألب غازي نائبه بها، فعاد حنقاً على خوارزم شاه، فلما بلغ ميمند عدل على طريق أخرى قاصداً إلى خوارزم، فأرسل إليه خوارزم شاه يقول له: ارجع إلي لأحاربك، وإلا سرت إلى هراة، ومنها إلى غزنة.
وكان خوارزم شاه قد سار من سرخس إلى مرو، فأقام بظاهرها، فأعاد إليه شهاب الدين جوابه: لعلك تنهزم كما فعلت تلك الدفعة، لكن خوارزم تجمعنا؛ ففرق خوارزم شاه عساكره، وأحرق ما جمعه من العلف، ورحل يسابق شهاب الدين إلى خوارزم، فسبقه إليها، فقطع الطريق، وأجرى المياه فيها، فتعذر على شهاب الدين سلوكها، وأقام أربعين يوماً يصلحها حتى أمكنه الوصول إلى خوارزم، والتقى العسكران بسوقرا، ومعناه الماء الأسود، فجرى بينهم قتال شديد كثير القتلى فيه بين الفريقين، وممن قتل من الغورية الحسني المرغني وغيره، وأسر جماعة من الخوارزمية، فأمر شهاب الدين بقتلهم فقتلوا. وأرسل خوارزم شاه إلى الأتراك الخطا يستنجدهم، وهم حينئذ أصحاب ما وراء النهر، فاستعدوا، وساروا إلى بلاد الغورية، فلما بلغ شهاب الدين ذلك عاد من خوارزم، فلقي أوائلهم في صحراء أندخوي أول صفر سنة إحدى وستمائة، فقتل فيهم وأسر كثيراً، فلما كان اليوم الثاني دهمه من الخطا ما لا طاقة له بهمم، فانهزم المسلمون هزيمة قبيحة، وكان أول من انهزم الحسين بن خرميل صاب طالقان وتبعه الناس وبقي شهاب الدين في نفر يسير، وقتل بيده أربعة أفيال لأنها أعيت، وأخذ الكفار فيلين، ودخل شهاب الدين أندخوي فيمن معه، وحصره الكفار، ثم صالحوه على أن يعطيهم فيلاً آخر، ففعل، وخلص. ووقع الخبر في جميع بلاده بأنه قد عدم، وكثرت الأراج | |
|
 | |
الشيخ عودة الشيخ عودة

عدد المساهمات : 1748 تاريخ التسجيل : 28/09/2008 العمر : 73
 | موضوع: رد: كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير الخميس فبراير 27, 2014 6:55 am | |
| من العساكر العادلية في هذه السنة، في العشرين من شوال، انهزم نور الدين أرسلان شاه، صاحب الموصل، من العساكر العادلية، وسبب ذلك أن نور الدين كان بينه وبين عمه قطب الدين محمد بن زنكي، صاحب سنجار، وحشة مستحكمة أولاً ثم اتفقا، وسار معه إلى ميافارقين سنة خمس وتسعين، وقد ذكرناه، فلما كان الآن أرسل الملك العادل أبو بكر بن أيوب، صاحب مصر ودمشق وبلاد الجزيرة، إلى قطب الدين، واستماله، فمال إليه، وخطب له، فلما سمع نور الدين ذلك سار إلى مدينة نصيبين، وسلخ شعبان، وهي لقطب الدين، فحصرها، وملك المدينة، وبقيت القلعة فحصرها عدة أيام، فبينما هو يحاصرها وقد أشرف على أن يتسلمها أتاه الخبر أن مظفر الدين دوكبري بن زين الدين علي، صاحب إربل، قد قصد أعمال الموصل، فنهب نينوى، وأحرق غلاتها، فلما بلغه ذلك من نائبه المراتب بالموصل يحفظها، سار عن نصيبين إلى الموصل على عزم العبور إلى بلد إربل ونهبه جزاء بما فعل صاحبها ببلده، فوصل إلى مدينة بلد، وعاد مظفر الدين إلى بلده، وتحقق نور الدين أن الذي قيل له وقع فيه زيادة، فسار إلى تل أعفر من بلد وحصرها، وأخذها ورتب أمورها، وأقام عليها سبعة عشر يوماً.
وكان الملك الأشرف موسى ابن الملك العادل بن أيوب قد سار من مدينة حران إلى رأس عين نجدة لقطب الدين، صاح بسنجار ونصيبين، وقد اتفق هو ومظفر الدين، صاح إربل، وصاحب الحصن وآمد، وصاحب جزيرة ابن عمر، وغيرهم، على ذلك، وعلى منع نور الدين من أخذ شيء من بلاده، وكلهم خائفون منه، ولم يمكنهم الاجتماع وهو على نصيبين، فلما فارقها نور الدين سار الأشرف إليها، وأتاه صاحب الحصن، وصاحب الجزيرة، وصاحب دارا، وساروا عن نصيبين نحو بلد البقعا قريباً من بوشرى، وسار نور الدين من تل أعفر إلى كفر زمار، وعزم على المطاولة ليتفرقوا، فأتاه كتاب من بعض مماليكه، يسمى جرديك، وقد أرسله يتجسس أخبارهم، فيقللهم في عينه، ويطمعه فيهم، ويقول: إن أذنت لي لقيتهم بمفردي؛ فسار حينئذ نور الدين إلى بوشرى فوصل إليها من الغد الظهر وقد تعبت دوابه وأصحابه، ولقوا شدة من الحر، فنزل بالقرب منهم أقل من ساعة. وأتاه الخبر أن عساكر الخصم قد ركبوا، فركب هو وأصحابه وساروا نحوهم، فلم يروا لهم أثراً، فعاد إلى خيامه، ونزل هو وعساكره، وتفرق كثير منهم في القرى لتحصيل العلوفات وما يحتاجون إليه، فجاءه من أخبره بحركة الخصم وقصده، فركب نور الدين وعسكره، وتقدموا إليهم، وبينهم نحو فرسخين، فنزلوا وقد ازداد تعبهم، والخصم مستريح، فالتقوا، واقتتلوا، فلم تطل الحرب بينهم حتى انهزم عسكر نور الدين، وانهزم هو أيضاً، وطلب الموصل، فوصل إليها في أربعة أنفس، وتلاحق الناس، وأتى الأشرف ومن معه، فنزلوا في كفر زمار، ونهبوا البلاد نهباً عظيماً، وأهلكوا ما لم يصلح لهم لا سيما مدينة بَلدَ فإنهم أفحشوا في نهبها. ومن أعجب ما سمعنا أن امرأة كانت تطبخ، فرأت النهب، فألقت سوارين كانا في يديها في النار وهربت، فجاء بعض الجند ونهب ما في البيت، فرأى فيه بيضاً، فأخذه وجعله في النار ليأكله، فحركها، فرأى السوارين فيها فأخذهما. وطال مقامهم والرسل تتردد في الصلح، فوقف الأمر على إعادة تل أعفر، ويكون الصلح على القاعدة الأولى، وتوقف نور الدين في إعادة تل أعفر، فلما طال الأمر سلمها إليهم، وأصطلحوا أوائل سنة إحدى وستمائة، وتفرقت العساكر من البلاد. ذكر خروج الفرنج بالشام إلى بلد الإسلام والصلح معهمفي هذه السنة خرج كثير من الفرنج في البحر إلى الشام، وسهل الأمر عليهم بذلك لملكهم قسطنطينية، وأرسلوا بعكا، وعزموا على قصد البيت المقدس، حرسه الله، واستنقاذه من المسلمين، فلما استراحوا بعكا ساروا فنهبوا كثيراً من بلاد الإسلام بنواحي الأردن، وسبوا، وفتكوا في المسلمين. وكان الملك العادل بدمشق، فأرسل في جمع العساكر من بلاد الشام ومصر، وسار فنزل عند الطور بالقرب من عكا، لمنع الفرنج من قصد بلاد الإسلام، ونزل الفرنج بمرج عكا، وأغاروا على كفركنا، فأخذوا كل من بها وأموالهم، والأمراء يحثون العادل على قصد بلادهم ونهبها، فلم يفعل، فبقوا كذلك إلى أن انقضت السنة، وذلك سنة إحدى وستمائة، فاصطلح هو والفرنج على دمشق وأعمالها، وما بيد العادل من الشام، ونزل لهم عن جميع المناصفات في الصيدا والرملة وغيرهما، وأعطاهم ناصرة وغيرها، وسار نحو الديار المصرية. فقصد الفرنج مدينة حماة، فلقيهم صاحبها ناصر الدين محمد بن تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب، فقاتلهم، وكان في قلة، فهزموه وتبعوه إلى البلد، فخرج العامة إلى قتالهم، فقتل الفرنج منهم جماعة وعاد الفرنج. ذكر قتل كوكجة ببلاد الجبلقد ذكرنا قبل تغلب كوكجة مملوك البهلوان على الري، وهمذان، وبلد الجبل، وبقي إلى الآن، وكان قدج اصطنع مملوكاً آخر للبهلوان، اسمه إيدغمش، وقدمه، وأحسن إليه، ووثق به، فجمع إيدغمش الجموع من المماليك وغيرهم، ثم قصد كوكجة، فتصافا، واقتتل الفريقان، فقتل كوكجة في الحرب، واستولى إيدغمش على البلاد، وأخذ معه أوزبك بن البهلوان، له اسم الملك، وإيدغمش هو المدبر له والقيم بأمر المملكة، وكان شهماً، شجاعاً، ظالماً، وكان كوكجة عادلاً حسن السيرة، رحمه الله. ذكر وفاة ركن الدين بن قلج أرسلان وملك ابنه بعده
وفي هذه السنة، سادس ذي القعدة، توفي ركن الدين سليمان بن قلج أرسلان بن مسعود بن قلج أرسلان بن سليمان بن قتلمش بن سلجوق، صاحب ديار الروم، ما بين ملطية وقونية، وكان موته بمرض القولنج في سبعة أيام، وكان قبل مرضه بخمسة أيام قد غدر بأخيه صاحب أنكورية، وتسمى أيضاً أنقرة، وهي مدين منيعة، وكان مشاقاً لركن الدين، فحصره عدة سنين حتى ضعف وقلت الأقوات عنده، فأذعن بالتسليم على عوض يأخذه، فعوضه قلعة في أطراف بلده وحلف له عليها، فنزل أخوه عن مدينة أنقرة، وسلمها، ومعه ولدان له، فوضع ركن الدين عليه من أخذه، وأخذ أولاده معه، فقتله، فلم يمض غير خمسة أيام حتى أصابه القولنج فمات. واجتمع الناس على ولده قلج أرسلان، وكان صغيراً، فبقي في الملك إلى بعض سنة إحدى وستمائة، وأخذ منه، على ما نذكره هناك. وكان ركن الدين شديداً على الأعداء، قيماً بأمر الملك، إلا أن الناس كانوا ينسبونه إلى فساد الاعتقاد؛ كان يقال إنه يعتقد أن مذهبه مذهب الفلاسفة، وكان كل من يرمى بهذا المذهب يأوي إليه، ولهذه الطائفة منه إحسان كثير، إلا أنه كان عاقلاً يحب ستر هذا المذهب لئلا ينفر الناس عنه. حكي لي أنه كان عنده إنسان، وكان يرمى بالزندقة ومذهب الفلاسفة، وهو قريب منه، فحضر يوماً عنده فقيه، فتناظرا، فأظهر شيئاً من اعتقاد الفلاسفة، فقام الفقيه إليه ولطمه وشتمه بحضرة ركن الدين، وركن الدين ساكت، وخرج الفقيه فقال لكرن الدين: يجري علي مثل هذا في حضرتك ولا تنكره؟ فقال: لو تكلمت لقتلنا جميعاً، ولا يمكن إظهار ما تريده أنت؛ ففارقه. ذكر قتل الباطنية بواسطفي هذه السنة قتل الباطنية بواسط، وسبب كونهم بها وقتلهم أنه ورد إليها رجل يعرف بالزكم محمد بن طالب بن عصية، وأصله من القارب، من قرى واسط، وكان باطنياً ملحداً، ونزل مجاوراً لدور بني الهروي، وغشيه الناس، وكثر أتباعه. وكان ممن يغشاه رجل يعرف بحسن الصابوني، فاتفق أنه اجتاز بالسويقة، فكلمه رجل نجار في مذهبهم، فرد عليه الصابوني رداً غليظاً، فقام إليه النجار وقتله، وتسامع الناس بذلك، فوثبوا وقتلوا من وجدوا ممن ينتسب إلى هذا المذهب، وقصدوا دار ابن عصية وقد اجتمع إليه خلق من أصحابه، وأغلقوا الباب، وصعدوا إلى سطحها، ومنعوا الناس عنهم، فصعدوا إليهم من بعض الدور من على السطح، وتحصن من بقي في الدار بإغلاق الأبواب والممارق، فكسروها، ونزلوا فقتلوا من وجدوا في الدار وأحرقوا، وقتل ابن عصية، وفتح الباب، وهرب منهم جماعة فقتلوا؛ وبلغ الخبر إلى بغداد، وانحدر فخر الدين أبو البدر بن أمسينا الواسطي لإصلاح الحال، وتسكين الفتنة. ذكر استيلاء محمود على مرباط وغيرها من حضرموت في هذه السنة استولى إنسان اسمه محمود بن محمد الحميري على مدينة مرباط وظفار وغيرهما من حضرموت، وإن ابتداء أمره أنه له مركب يكريه في البحر للتجار، ثم وزر لصاحب مرباط، وفيه كرم وشجاعة وحسن سيرة، فلما توفي صاحب مرباط ملك المدينة بعده، وأطاعه الناس محبة له لكرمه وسيرته، ودامت أيامه بها؛ فلما كان سنة تسع عشرة وستمائة خرب مرباط وظفار، وبنى مدينة جديدة على ساحل البحر بالقرب من مرباط، وعندها عين عذبة كبيرة أجراها إلى المدينة، وعمل عليها سوراً وخندقاً، وحصنها وسماها الأحمدية، وكان يحب الشعر، ويكثر الجائزة عليه. ذكر عدة حوادثفي هذه السنة خرج أسطول من الفرنج إلى الديار المصرية، فنهبوا مدينة فوة، وأقاموا خمسة أيام يسبون وينهبون، وعساكر مصر مقابلهم، بينهم النيل، ليس لهم وصول إليهم لأنهم لم تكن لهم سفن. وفيها كانت زلزلة عظيمة عمت أكثر البلاد مصر، والشام، والجزيرة، وبلاد الروم، وصقلية، وقبرس، ووصلت إلى الموصل والعراق وغيرهما، وخرب من مدينة صور سورها وأثرت في كثير من الشام. وفيها، في رجب، اجتمع جماعة من الصوفية برباط شيخ الشيوخ ببغداد وفيهم صوفي اسمه أحمد بن إبراهيم الداري من أصحاب شيخ الشيوخ عبد الرحيم بن إسمعيل، رحمهم الله، ومعهم مغن يغني ويقول الشعر: عويذلتي أقصري كفى بمشيبي عذل ... شباب كأن لم يكن وشيب كأن لم يزل وحق ليالي الوصال أواخرها والأول ... وصفرة لون المحب عند استماع العذل
لئن عاد عيشي بكم ... حلا العيش لي واتصل فتحرك الجماعة، عادة الصوفية في السماع، وطرب الشيخ المذكور، وتواجد، ثم سقط مغشياً عيه، فحركوه فإذا هو ميت، فصلي عليه ودفن، وكان رجلاً صالحاً. وفيها توفي أبو الفتوح أسعد بن محمود العجلي، الفقيه الشافعي، بأصفهان في صفر، وكان إماماً فاضلاً. وفي رمضان منها توفي قاضي هراة عمدة الدين الفضل بن محمود بن صاعد الساوي، وولي بعده ابنه صاعد. ثم دخلت سنة إحدى وستمائة ملك كيخسرو بلاد الروم من ابن أخيه ذكر ملك كيخسرو بن قلج أرسلان بلاد الروم من ابن أخيه في هذه السنة، في رجب، ملك غياث الدين كيخسرو بن قلج أرسلان بلاد الروم التي كانت بيد أخيه ركن الدين سليمان وانتقلت بعد موته إلى ابنه قلج أرسلان بن ركن الدين. وكان سبب ملك غياث الدين لها أن ركن الدين كان قد أخذ ما كان لأخيه غياث الدين، وهو مدينة قونية، فهرب غياث الدين منه، وقصد الشام إلى الملك الظاهر غازي بن صلاح الدين، صاحب حلب، فلم يجد عنده قبولاً، وقصر به، فسار من عنده، وتقلب في البلاد إلى أن وصل إلى القسطنطينية، فأحسن إليه ملك الروم وأقطعه وأكرمه، فأقام عنده، وتزوج بابنة بعض البطارقة الكبار. وكان لهذا البطريق قلعة من عمل القسطنطينية، فلما ملك الفرنج القسطنطينية هرب غياث الدين إلى حميه، وهو بقلعته، فأنزله عنده وقال له: نشترك في هذه القلعة، ونقنع بدخلها. فأقام عنده؛ فلما مات أخوه سنة ستمائة، كما ذكرناه، اجتمع الأماء على ولده، وخالفهم الأتراك الأوج، وهم كثير بتلك البلاد، وأنف من اتباعهم، وأرسل إلى غياث الدين يستدعيه إليه ليملكه البلاد، فسار إليه، فوصل في جمادى الأولى، واجتمع به، وكثر جمعه، وقصد مدينة قونية ليحصرها، وكان ولد ركن الدين والعساكر بها، فأخرجوا إليه طائفة من العسكر، فلقوا فهزموه، فبقي حيران لا يدري أين يتوجه، فقصد بلدة صغيرة يقال لها أوكرم بالقرب من قونية. فقدر الله تعالى أن أهل مدينة أقصر وثبوا على الوالي فأخرجوه منها ونادوا بشعار غياث الدين، فلما سمع أهل قونية بما فعله أهل أقصرا قالوا: نحن أولى من فعل هذا؛ لأنه كان حسن السيرة فيهم لما كان مالكهم، فنادوا باسمه أيضاً، وأخرجوا من عندهم، واستدعوه، فحضر عندهم، وملك المدينة وقبض على ابن أخيه ومن معه، وآتاه الله الملك، وجمع له البلاد جميعها في ساعة واحدة، فسبحا من إذا أراد أمراً هيأ أسبابه. وكان أخوه قيصر شاه الذي كان صاحب ملطية، لما أخذها ركن الدين منه سنة سبع وتسعين، خرج منها، وقصد الملك العادل أبا بكر بن أيوب، لأنه كان تزوج ابنته مستنصراً به، فأمره بالمقام بمدينة الرها، فأقام بها، فلما سمع بملك أخيه غياث الدين سار إليه، فلم يجد عنده قبولاً، إنما أعطاه شيئاً وأمره بمفارقة البلاد، فعاد إلى الرها وأقام بها، فلما استقر ملك غياث الدين سار إليه الأفضل صاحب سميساط، فلقيه بمدينة قيسارية، وقصده أيضاً نظام الدين صاحب خرت برت، وصار معه، فعظم شأنه وقوي أمره. ذكر حصر صاحب آمد خرت برت ورجوعه عنها كانت خرت برت لعماد الدين بن قرا أرسلان، فمات، وملكها بعده ابنه نظام الدين أبو بكر، والتجأ إلى ركن الدين بن قلج أرسلان، وبعده إلى أخيه غياث الدين ليمتنع به من ابن عمه ناصر الدين محمود بن محمد بن قرا أرسلان، فامتنع به.
وكان صاح بآمد ملتجئاً إلى الملك العادل، وفي طاعته، وحضر مع ابنه الملك الأشرف قتال صاحب الموصل على شرط أنه يسير معه في عساكره، ويأخذ له خرت برت، وإنما طمع فيها بموت ركن الدين، فلما دخلت هذه السنة طلب ما كان استقر الأمر عليه، فسار معه الملك الأشرف وعساكر ديار الجزيرة من سنجار، وجزيرة ابن عمر، والموصل، وغيرها، وكان نزولهم عليها في شعبان؛ وفي رمضان تسلموا ربضها؛ وكان صاحبها قد اجتمع بغياث الدين، بعد أن ملك البلاد الرومية، وصار معه في طاعته، فلما نزل صاحب آمد على خرت برت خاطب صاحبها غياث الدين ينجده بعسكره يرحلهم عنه، فجهز عسكراً كثيراً عدتهم ستة آلاف فارس، وسيرهم مع الملك الأفضل علي بن صلاح الدين وهو صاحب سميساط، فلما وصل العسكر إلى ملطية فارق صاحب آمد ومن معه من خرت برت، ونزلوا إلى الصحراء، وحصروا البحيرة المعروفة ببحيرة سمنين وبها حصنان أحدهما لصاحب خرت برت، فحصره وزاحفه، ففتحه ثاني ذي الحجة. ووصل صاحب خرت برت مع العسكر الرومي إلى خرت برت، فرحل صاحب آمد عن البحيرة وقوى الحصن الذي فتحه فيها، فأزاح علته، ورحل إلى خلف مرحلة ونزل، وترددت الرسل؛ والعسكر الرومي يطلب البحيرة، وصاحب آمد يمتنع من ذلك، فلما طال الأمر بقي الحصن بيد صاحب آمد، وانفصل العسكران، وعاد كل فريق إلى بلاده. ذكر الفتن ببغدادفي سابع عشر رمضان جرت فتنة ببغداد بين أهل باب الأزج وأهل المأمونية، وسببها أن أهل باب الأزج قتلوا سبعاً وأرادوا أن يطوفوا به، فمنعهم أهل المأمونية، فوقعت الفتنة بينهما عند البستان الكبير، فجرح منه خلق كثير، وقتل جماعة، وركب صاحب الباب لتسكين الفتنة فجرح فرسه، فعاد. فلما كان الغد سار أهل المأمونية إلى أهل باب الأزج، فوقعت بينهم فتنة شديدة وقتال بالسيوف والنشاب، واشتد الأمر، فنهبت الدور القريبة منهم، وسعى الركن ابن عبد القادر ويوسف العقاب في تسكين الناس، وركب الأتراك، فصاروا يبيتون تحت المنظرة، فامتنع أهل الفتنة من الاجتماع، فسكنوا. وفي العشرين منه جرت فتنة بين أهل قطفتا والقرية، من محال الجانب الغربي، بسبب قتل سبع أيضاً، أراد أهل قطفتا أن يجتمعوا ويطوفوا به، فمنعهم أهل القرية أن يجوزوا به عندهم، فاقتتلوا، وقتل بينهم عدة قتلى، فأرسل إليهم عسكر من الديوان لتلافي الأمر ومنع الناس عن الفتنة، فامتنعوا. وفي تاسع رمضان كانت فتنة بين أهل سوق السلطان والجعفرية، منشأها أن رجلين من المحلتين اختصما وتوعد كل واحد منهما صاحبه، فاجتمع أهل المحلتين. واقتتلوا في مقبرة الجعفرية، فسير إليهم من الديوان من تلافى الأمر وسكنه؛ فلما كثرت الفتن رتب أمير كبير من مماليك الخليفة، ومعه جماعة كثيرة، فطاف في البلد، وقتل جماعة من فيه شبهة، فسكن الناس. ذكر غارة الكرج على بلاد الإسلامفي هذه السنة أغارت الكرج على بلاد الإسلام من ناحية أذربيجان، فأكثروا العيث والفساد والنهب والسبي، ثم أغاروا على ناحية خلاط من أرمينية، فأوغلوا في البلاد حتى بلغوا ملازكرد، ولم يخرج إليهم أحد من المسلمين يمنعهم، فجاسوا خلال البلاد ينهبون ويأسرون ويسبون، وكلما تقدموا تأخرت عساكر المسلمين عنهم، ثم إنهم رجعوا، فالله تعالى ينظر إلى الإسلام وأهله، وييسر لهم من يحمي بلادهم، ويحفظ ثغورهم، ويغزو أعداءهم. وفيها أغارت الكرج على بلاد خلاط، فأتوا إلى أرجيش ونواحيها، فنهبوا، وسبوا، وخربوا البلاد، وساروا إلى حصن التين، من أعمال خلاط، وهو مجاور أرزن الروم، فجمع صاحب خلاط عسكره وسار إلى ولد قلج أرسلان، صاحب أرزن الروم، فاستنجده على الكرج، فسير عسكره جميعه معه، فتوجهوا نحو الكرج، فلقوهم، وتصافوا، واقتتلوا، فانهزمت الكرج، وقتل زكري الصغير، وهو من أكابر مقدميهم، وهو الذي كان مقدم هذا العسكر من الكرج والمقاتل بهم، وغنم المسلمون ما معهم من الأموال والسلاح والكراع وغير ذلك، وقتلوا منهم خلقاً كثيراً، وأسروا كذلك، وعاد إلى بلاده. ذكر الحرب بين أمير مكة وأمير المدينة
وفي هذه السنة أيضاً كانت الحرب بين الأمير قتادة الحسني، أمير مكة، وبين الأمير سالم بن قاسم الحسيني، أمير المدينة، ومع كل واحد منهما جمع كثير، فاقتتلوا قتالاً شديداً، وكانت الحرب بذي الحليفة، بالقرب من المدينة، وكان قتادة قد قصد المدينة ليحصرها ويأخذها، فلقيه سالم بعد أن قصد الحجرة، على ساكنها الصلاة والسلام، فصلى عندها، ودعا وسار فلقيه، فانهزم قتادة، وتبعه سالم إلى مكة فحصره بها، فأرسل قتادة إلى من مع سالم من الأمراء، فأفسدهم عليه، فمالوا إليه وحالفوه، فلما رأى سالم ذلك رحل عنه عائداً إلى المدينة وعاد أمر قتادة قوياً. ذكر عدة حوادثفي هذه السنة، في يوم الجمعة رابع عشر جمادى الآخرة، قطعت خطبة ولي العهد، وأظهر خط قرئ بالدار الوزير نصير الدين ناصر بن مهدي الرازي، وإذا هو خط ولي العهد الأمير أبي نصر ابن الخليفة إلى أبيه الناصر لدين الله أمير المؤمنين، يتضمن العجز عن القيام بولاية العهد، ويطلب الإقالة، وشهد عدلان أنه خطه، وأن الخليفة أقاله، وعمل بذلك محضر شهد فيه القضاة والعدول والفقهاء. وفي هذه السنة ولدت امرأة ببغداد ولداً له رأسان وأربع أرجل ويدان، ومات في يومه. وفيها أيضاً وقع الحريق في خزانة السلاح التي للخليفة، فاحترق فيها منه شيء كثير، وبقيت النار يومين، وسار ذكر هذا الحريق في البلدان، فحمل الملوك من السلاح إلى بغداد شيئاً كثيراً. وفي هذه السنة وقع الثلج بمدينة هراة أسبوعاً كاملاً، فلما سكن جاء بعده سيل من الجبل من باب سرا، خرب كثيراً من البلد، ورمى من حصنه قطعة عظيمة، وجاء بعده برد شديد أهلك الثمار، فلم يكن بها تلك السنة شيء إلا اليسير. وفيها، في شعبان، خرج عسكر من الغورية مقدمهم الأمير زنكي بن مسعود إلى مدينة مرو، فلقيهم نائب خوارزم شاه بمدينة سرخس، وهو الأمير جقر، وكمن لهم كميناً، فلما وصولا إليه هزمهم، وأخذ وجوه الغورية أسرى، فلم يفلت منهم إلا القليل، وأخذ أميرهم زنكي أسيراً، فقتل صبراً، وعلقت رؤوسهم بمرو أياماً. وفيها، في ذي القعدة، سار الأمير عماد الدين عمر بن الحسين الغوري، صاحب بلخ، إلى مدينة ترمذ، وهي للأتراك الخطا، فافتتحها عنوة، وجعل بها ولده الأكبر، وقتل من بها من الخطا، ونقل العلويين منها إلى بلخ، وصارت ترمذ دار إسلام، وهي من أمنع الحصون وأقواها. وفيها توفي صدر الدين السجزي شيخ خانكاه السلطان بهراة. وفيها، في صفر، توفي أبو علي الحسن بن محمد بن عبدوس الشاعر الواسطي، وهو من الشعراء المجيدين، واجتمعت به بالموصل، وردها مادحاً لصاحبها نور الدين أرسلان شاه وغيره من المقدمين، وكان نعم الرجل، حسن الصحبة والعشرة. وفيها اجتمع ببغداد رجلان أعميان على رجل أعمى أيضاً، وقتلاه بمسجد طمعاً في أن يأخذا منه شيئاً، فلم يجدا معه ما يأخذانه، وأدركهما الصباح، فهربا من الخوف يريدان الموصل، ورؤي الرجل مقتولاً، ولم يعلم قاتله، فاتفق أن بعض أصحاب الشحنة اجتاز من الحريم في خصومة جرت، فرأى الرجلين الضريرين، فقال لمن معه: هؤلاء الذين قتلوا الأعمى؛ يقوله مزحاً، فقال أحدهما: هذا والله قتله؛ فقال الآخر: بل أنت قتلته، فأخذا إلى صاحب الباب، فأقرا، فقتل أحدهما، وصلب الآخر على باب المسجد الذي قتلا فيه الرجل. ثم دخلت سنة اثنتين وستمائة ذكر الفتنة بهراة في هذه السنة، في المحرم، ثار العامة بهراة، وجرت فيه فتنة عظيمة بين أهل السوقين: الحدادين والصفارين، قتل فيها جماعة، ونهبت الأموال، وخربت الديار، فخرج أمير البلد ليكفهم، فضربه بعض العامة بحجر ناله منه ألم شديد، واجتمع الغوغاء عليه، فرفع إلى القصر الفيروزي، واختفى أياماً إلى أن سكنت الفتنة ثم ظهر. ذكر قتال شهاب الدين الغوري بني كوكر
قد ذكرنا انهزام شهاب الدين محمد بن سام الغوري، صاحب غزنة، من الخطا الكفار، وأن الخبر ظهر ببلاده أنه عدم من المعركة ولم يقف أصحابه له على خبر، فلما اشتهر هذا الخبر ثار المفسدون في أطراف البلاد، وكان ممن أفسد دانيال، صاحب جبل الجودي، فإنه كان قد أسلم، فلما بلغه الخبر ارتد عن الإسلام، وتابع بني كوكر، وكان في جملة الخارجين عليه بنو كوكر ومساكنهم في جبال بين لهاوور والمولتان حصينة منيعة، وكانوا قد أطاعوا شهاب الدين، وحملوا له الخراج، فلما بلغهم خبر عدمه ثاروا فيمن معهم من قبائلهم وعشائرهم، وأطاعهم صاحب جبل الجودي وغيره من القانطين بتلك الجبال، ومنعوا الطريق من لهاوور وغيرها إلى غزنة. فلما فرغ شهاب الدين من قتل مملوكه أيبك باك، وقد ذكرناه، أرسل إلى نائبه بلهاوور والمولتان، وهو محمد بن أبي علي، يأمره بحمل المال لسنة ستمائة، وسنة إحدى وستمائة، ليتجهز به لحرب الخطا، فأجاب أن أولاد كوكر قد قطعوا الطريق، لا يمكنه إرسال المال، وحضر جماعة من التجار، وذكروا أن قفلا كبيراً أخذه أولاد كوكر، ولم ينج منه إلا القليل؛ فأمر شهاب الدين مملوكه أيبك، مقدم عساكر الهند، أن يراسل بني كوكر يدعوهم إلى الطاعة، ويتهددهم إن لم يجيبوا إلى ذلك، ففعل ذلك، فقال ابن كوكر: لأي معنى لم يرسل السلطان إلينا رسولاً؟ فقال له الرسول: وما قدركم أنتم حتى يرسل إليكم، وإنما مملوكه يبصركم رشدكم، ويهددكم. فقال ابن كوكر: لو كان شهاب الدين حياً لراسلنا، وقد كنا ندفع الأموال إليه، فحيث عدم فقل لأيبك يترك لنا لهاوور وما والاها، وفرشابور، ونحن نصالحه؛ فقال الرسول: أنفذ أنت جاسوساً تثق به فيأتيك بخبر شهاب الدين ن فرشابور؛ فلم يصغ إلى قوله، فرده، فعاد وأخبر بما سمع ورأى، فأمر شهاب الدين مملوكه قطب الدين أيبك بالعود إلى بلاده، وجمع العساكر، وقتال بني كوكر، فعاد إلى دهلي، وأمر عساكره بالاستعداد، فأقام شهاب الدين في فرشابور إلى نصف شعبان من سنة إحدى وستمائة، ثم عاد إلى غزنة فوصلها أول رمضان، وأمر بالنداء في العساكر بالتجهز لقتال الخطا، وأن المسير يكون أول شوال، فتجهزوا لذلك. فاتفق أن الشكايات كثرت من بني كوكر وما يتعهدونه من إخافة السبل وأنهم قد أنفذوا شحنة إلى البلاد، ووافقهم أكثر الهنود، وخرجوا من طاعة أمير لهاوور والمولتان وغيرهما. ووصل كتاب الوالي يذكر ما قد دهمه منهم، وأن عماله قد أخرجهم بنو كوكر، وجبوا الخراج، وأن ابن كوكر مقدمهم أرسل إليه ليترك له لهاوور والبلاد والفيلة ويقول أن يحضر شهاب وإلا قتله، ويقول: إن لم يحضر السلطان شهاب الدين بنفسه ومعه العساكر وإلا خرجت البلاد من يده. وتحدث الناس بكثرة من معهم من الجموع، وما هم من القوة، فتغير عزم شهاب الدين حينئذ عن غزو الخطا، وأخرج خيامه وسار عن غزنة خامس ربيع الأول سنة اثنتين وستمائة، فلما سار وأبعد انقطعت أخباره عن الناس بغزنة وفرشابور، حتى أرجف الناس بانهزامه. وكان شهاب الدين لما سار عن فرشابور أتاه خبر ابن كوكر أنه نازل في عساكره ما بين جيلم وسودرة، فجد السير إليه، فدهمه قبل الوقت الذي كان يقدر وصوله فيه، فاقتتلوا قتالاً شديداً يوم الخميس لخمس بقين من ربيع الآخر، من بكرة إلى العصر، واشتد القتال، فبينما هم في القتال أقبل قطب الدين أيبك في عساكره، فنادوا بشعار الإسلام، وحملوا حملة صادقة، فانهزم الكوكرية ومن انضم إليهم، وقتلوا بكل مكان، وقصدوا أجمة هناك، فاجتمعوا بها، وأضرموا ناراً، فكان أحدهم يقول لصاحبه: لا تترك المسلمين يقتلونك؛ ثم يلقي نفسه في النار فيلقي صاحبه نفسه بعده فيها، فعمهم الفناء قتلاً وحرقاً، ف (بعداً للقوم الظالمين) هود 44. وكان أهلهم وأموالهم معهم لم يفارقوها، فغنم المسلمون منهم ما لم يسمع بمثله، حتى أن المماليك كانوا يباعون كل خمسة بدينار ركني ونحوه، وهرب ابن كوكر بعد أن قتل إخوته وأهله.
وأما ابن دانيال، صاحب جبل الجودي، فإنه جاء ليلاً إلى قطب الدين أيبك، فاستجار به، فأجاره، وشفع فيه إلى شهاب الدين، فشفعه فيه، وأخذ منه قلعة الجودي؛ فلما فرغ منهم سار نحو لهاوور ليأمن أهلها ويسكن روعهم، وأمر الناس بالرجوع إلى بلادهم والتجهز لحرب بلاد الخطا، وأقام شهاب الدين بلهاوور إلى سادس عشر رجب، وعاد نحو غزنة، وأرسل إلى بهاء الدين سام، صاحب باميان، ليتجهز للمسير إلى سمرقند، ويعمل جسراً ليعبر هو وعساكره عليه. ذكر الظفر بالتيراهيةكان من جملة الخارجين المفسدين أيضاً على شهاب الدين التيراهية، فإنهم خرجوا إلى حدود سوران ومكرهان للغارة على المسلمين، فأوقع بهم نائب تاج الدين الدز، مملوك شهاب الدين بتلك الناحية، ويعرف بالحلحي، وقتل منهم خلقاً كثيراً، وحمل رؤوس المعروفين فعلقت ببلاد الإسلام. وكانت فتنة هؤلاء التيراهية على بلاد الإسلام عظيمة قديماً وحديثاً؛ وكانوا إذا وقع بأيديهم أسير من المسلمين عذبوه بأنواع العذاب. وكان أهل فرشابور معهم في ضر شديد لأنهم يحيطون بتلك الولاية من جوانبها، لا سيما آخر أيام بيت سكتكين، فإن الملوك ضعفوا وقوي هؤلاء عليهم، وكانوا يغيرون على أطراف البلاد، وكانوا كفاراً لا دين لهم يرجعون إليه، ولا مذهب يعتمدون عليه، إلا أنهم كانوا إذا ولد لأحدهم بنت وقف على باب داره ونادى: من يتزوج هذه؟ من يقبلها؟ فإن أجابه أحد تركها، وإلا قتلها، ويكون للمرأة عدة أزواج، فإذا كان أحدهم عندها جعل مداسه على الباب، فإذا جاء غيره من أزواجها ورأى مداسه عاد. ولم يزالوا كذلك حتى أسلم طائفة منهم آخر أيام شهاب الدين الغوري، فكفوا عن البلاد. وسبب إسلامهم أنهم أسروا إنساناً من فرشابور، فعذبوه فلم يمت، ودامت أيامه عندهم، فأحضره يوماً مقدمهم وسأله عن بلاد الإسلام، وقال له: لو حضرت أنا عند شهاب الدين ماذا كان يعطيني؟ فقال له المعلم: كان يعطيك الأموال والأقطاع ويرد إليك حكم جميع البلاد التي لكم؛ فأرسله إلى شهاب الدين في الدخول في الإسلام، فأعاده ومعه رسول بالخلع والمنشور بالأقطاع، فلما وصل إليه الرسول سار هو وجماعة من أهله إلى شهاب الدين، فأسلموا وعادوا، وكان للناس بهم راحة؛ فلما كانت هذه الفتنة واختلفت البلاد نزل أكثرهم من الجبال، فلم يكن لهذه الطائفة بهم قدرة ليمنعوهم، فأفسدوا وعملوا ما ذكرناه. ذكر قتل شهاب الدين الغوريفي هذه السنة، أول ليلة من شعبان، قتل شهاب الدين أبو المظفر محمد ابن سام الغوري، ملك غزنة وبعض خراسان، بعد عوده من لهاوور، بمنزل يقال له دميل، وقت صلاة العشاء. وكان سبب قتله أن نفراً من الكفار الكوكرية لزموا عسكره عازمين على قتله، كما فعل بهم من القتل والأسر والسبي، فلما كان هذه الليلة تفرق عنه أصحابه، وكان قد عاد ومعه من الأموال ما لا يحد، فإنه كان عازماً على قصد الخطا، والاستكثار من العساكر، وتفريق المال فيهم؛ وقد أمر عساكره بالهند باللحاق به، وأمر عساكره الخراسانية بالتجهز إلى أن يصل إليهم، فأتاه الله من حيث لم يحتسب، ولم يغن عنه ما جمع من مال وسلاح ورجال، لكن كان على نية صالحة من قتال الكفار. فلما تفرق عنه أصحابه، وبقي وحده في خركاه، ثار أولئك النفر، فقتل أحدهم بعض الحراس بباب سرادق شهاب الدين، فلما قتلوه صاح، فثار أصحابه من حول السرادق لينظروا ما بصاحبهم، فأخلوا مواقفهم، وكثر الزحام، فاغتنم الكوكرية غفلتهم عن الحفظ، فدخلوا على شهاب الدين وهو في الخركاه، فضربوه بالسكاكين اثنتين وعشرين ضربة فقتلوه، فدخل عليه أصحابه، فوجدوه على مصلاه قتيلاً وهو ساجد، فأخذوا أولئك الكفار فقتلوهم، وكان فيهم اثنان مختونان. وقيل إنما قتله الإسماعيلية لأنهم خافوا خروجه إلى خراسان، وكان له عسكر يحاصر بعض قلاعهم على ما ذكرناه. فلما قتل اجتمع الأمراء عند وزيره مؤيد الملك بن خوجا سجستان، فتحالفوا على حفظ الخزانة والملك، ولزوم السكينة إلى أن يظهر من يتولاه، وأجلسوا شهاب الدين وخيطوا جراحه وجعلوه في المحفة وساروا به، ورتب الوزير الأمور، وسكن الناس بحيث لم ترق محجمة دم، ولم يوجد في أحد شيء.
وكانت المحفة محفوفة بالحشم، والوزير، والعسكر، والشمسة، على حاله في حياته، وتقدم الوزير إلى أمير داذ العسكر بإقامة السياسة، وضبط العسكر، وكانت الخزانة التي في صحبته ألفي حمل ومائتي حمل؛ وشغب الغلمان الأتراك الصغار لينهبوا المال، فمنعهم الوزير والأمراء الكبار من المماليك، وهو صونج صهر الدز وغيره، وأمروا كل من له إقطاع عند قطب الدين أيبك مملوك شهاب الدين ببلاد الهند بالعود إليه، وفرقوا فيهم أموالاً كثيرة فعادوا. وسار الوزير ومعه من له إقطاع وأهل بغزنة، وعلموا أنه يكون بين غياث الدين محمود بن غياث الدين أخي شهاب الدين الأكبر، وبين بهاء الدين صاحب باميان، وهو ابن أخت شهاب الدين، حروب شديدة، وكان ميل الوزير والأتراك وغيرهم إلى غياث الدين محمود، وكان الأمراء الغورية يميلون إلى بهاء الدين سام، صاحب باميان، فأرسل كل طائفة إلى من يميلون إليه يعرفونه قتل شهاب الدين وجلية الأمور، وجاء بعض المفسدين من أهل غزنة، فقال للماليك: إن فخر الدين الرازي قتل مولاكم لأنه هو أوصل من قتله، بوضع من خوارزم شاه، فثاروا به ليقتلوه، فهرب، وقصد مؤيد الملك الوزير، فأعلمه الحال فسيره سراً إلى مأمنه. ولما وصل العسكر والوزير إلى فرشابور اختلفوا، فالغورية يقولون نسير إلى غزنة على طريق مكرهان، وكان غرضهم أن يقربوا من باميان ليخرج صاحبها بهاء الدين سام فيملك الخزانة، وقال الأتراك بل نسير على طريق سوران، وكان مقصودهم أن يكونوا قريباً من تاج الدين الدز مملوك شهاب الدين، وهو صاحب كرمان، مدينة بين غزنة ولهاوور، وليست بكرمان التي تجاور بلاد فارس، ليحفظ الدز الخزانة، ويرسلوا من كرمان إلى غياث الدين يستدعونه إلى غزنة ويملكونه. وكثر بينهم الاختلاف، حتى كادوا يقتتلون، فتوصل مؤيد الملك مع الغورية حتى أذنوا له وللأتراك بأخذ الخزانة والمحفة التي فيها شهاب الدين والمسير على كرمان، وساروا هم على طريق مكرهان؛ ولقي الوزير ومن معه مشقة عظيمة، وخرج عليهم الأمم الذين في تلك الجبال التيراهية وأوغان وغيرهم، فنالوا من أطراف العسكر إلى أن وصلوا إلى كرمان، فخرج إليهم تاج الدين الدز يستقبلهم، فلما عاين المحفة، وفيها شهاب الدين ميتاً، نزل وقبل الأرض على عادته في حياة شهاب الدين، وكشف عنه، فلما رآه ميتاً مزق ثيابه وصاح وبكى فأبكى الناس، وكان يوماً مشهوراً. ذكر ما فعله الدزكان الدز من أول مماليك شهاب الدين وأكبرهم وأقدمهم، وأكبرهم محلاً عنده، بحيث إن أهل شهاب الدين كانوا يخدمونه ويقصدونه في أشغالهم؛ فلما قتل صاحبه طمع أن يملك غزنة، فأول ما عمل أنه سأل الوزير مؤيد الملك عن الأموال والسلاح والدواب، فأخبره بما خرج من ذلك وبالباقي معه، فأنكر الحال، وأساء أدبه في الجواب، وقال: إن الغورية قد كاتبوا بهاء الدين سام صاحب باميان ليملكوه غزنة، وقد كتب إلي غياث الدين محمود، وهو مولاي، يأمرني أنني لا أترك أحداً يقرب من غزنة، وقد جعلني نائبه فيها وفي سائر الولاية المجاورة لها لأنه مشتغل بأمر خراسان. وقال للوزير: إنه قد أمرني أيضاً أن أتسلم الخزانة منك؛ فلم يقدر على الامتناع لميل الأتراك إليه، فسلمها إليه، وسار بالمحفة والمماليك والوزير إلى غزنة، فدفن شهاب الدين في التربة بالمدرسة التي أنشأها ودفن ابنته فيها، وكان وصوله إليها في الثاني والعشرين من شعبان من السنة. ذكر بعض سيرة شهاب الدينكان رحمه الله شجاعاً مقدماً، كثير الغزو إلى بلاد الهند، عادلاً في رعيته، حسن السيرة فيهم، حاكماً بينهم بما يوجبه الشرع المطهر، وكان القاضي بغزنة يحضر داره كل إسبوع السبت والأحد والاثنين والثلاثاء، ويحضر معه أمير حاجب، وأمير داذ، وصاحب البريد، فيحكم القاضي، وأصحاب السلطان ينفذون أحكامه على الصغير والكبير، والشريف والوضيع؛ وإن طلب أحد الخصوم الحضور عنده أحضره وسمع كلامه، وأمضى عليه، أوله، حكم الشرع، فكانت الأمور جارية على أحسن نظام. حكي لي عنه أنه لقيه صبي علوي، عمره نحو خمس سنين، فدعا له، وقال: لي خمسة إيام ما أكلت شيئاً؛ فعاد من الركوب لوقته، ومعه الصبي، فنزل في داره، وأطعمه العلوي أطيب الطعام بحضرته، ثم أعطاه مالاً، بعد أن أحضر أباه وسلمه إليه، وفرق في سائر العلويين مالاً عظيماً.
وحكي عنه أن تاجراً من مراغة كان بغزنة، وله على بعض مماليك شهاب الدين دين مبلغه عشرة آلاف دينار، فقتل المملوك في حرب كانت له، فرفع التاجر حاله، فأمر بأن يقر أقطاع المملوك بيد التاجر إلى أن يستوفي دينه، ففعل ذلك. وحكي عنه أنه كان يحضر العلماء بحضرته، فيتكلمون في المسائل الفقهية وغيرها، وكان فخر الدين الرازي يعظ في داره، فحضر يوماً فوعظ، وقال في آخر كلامه: يا سلطان، لا سلطانك يبقى ولا تلبيس الرازي، وإن مردنا إلى الله! فبكى شهاب الدين حتى رحمه الناس لكثرة بكائه. وكان رقيق القلب، وكان شافعي المذهب مثل أخيه؛ قيل: وكان حنفياً، والله أعلم. ذكر مسير بهاء الدين سام إلى غزنةلما ملك غياث الدين باميان أقطعها ابن عمه شمس الدين محمد بن مسعود، وزوجه أخته، فأتاه منها ولد اسمه سام، فبقي فيها إلى أن توفي، وملك بعده ابنه الأكبر، واسمه عباس، وأمه تركية، فغضب غياث الدين وأخوه شهاب الدين منن ذلك، وأرسلا من أحضر عباساً عندهما، فأخذا الملك منه، وجعلا ابن أختهما سام ملكاً على باميان، وتقلب بهاء الدين، وعظم شأنه ومحله، وجمع الأموال ليملك لبلاد بعد خاليه، وأحبه الغورية حباً شديداً وعظموه. فلما قتل خاله شهاب الدين سار بعض الأمراء الغورية إلى بهاء الدين سام فأخبره بذلك، فلما بلغه قتله كتب إلى من بغزنة من الأمراء الغورية يأمرهم بحفظ البلد، ويعرفهم أنه على الطريق سائر إليهم. وكان والي قلعة غزنة، ويعرف بأمير داذ، وقد أرسل ولده إلى بهاء الدين سام يستدعيه إلى غزنة، فأعاد جوابه أنه ت جهز، ويصل إليه، ويعده الجميل والإحسان. وكتب بهاء الدين إلى علاء الدين محمد بن أبي علي ملك الغور يستدعيه إليه؛ وإلى غياث الدين محمود بن غياث الدين، وإلى ابن خرميل، وإلي هراة، يأمرهما بإقامة الخطبة له، وحفظ ما بأيديهما من الأعمال، ولم يظن أن أحداً يخالفه، فأقام أهل غزنة ينتظرون وصوله، أو وصول غياث الدين محمود، والأتراك، ويقولون: لا نترك غير ابن سيدنا، يعنون غياث الدين، يدخل غزنة. والغورية يتظاهرون بالميل إلى بهاء الدين ومنع غيره، فسار من باميان إلى غزنة في عساكره، ومعه ولداه علاء الدين محمد وجلال الدين، فلما سار عن باميان مرحلتين وجد صداعاً، فنزل يستريح، ينتظر خفته عنه، فازداد الصداع، وعظم الأمر عليه، فأيقن بالموت، فأحضر ولديه، وعهد إلى علاء الدين، وأمرهما بقصد غزنة، وحفظ مشايخ الغورية، وضبط الملك، وبالرفق بالرعايا، وبذلك الأموال، وأمرهما أن يصالحا غياث الدين على أن يكون له خراسان وبلاد الغور، ويكون لهما غزنة وبلاد الهند. ذكر ملك علاء الدين غزنة وأخذها منهلما فرغ بهاء الدين من وصيته توفي، فسار ولداه إلى غزنة، فخرج أمراء الغورية وأهل البلد فلقوهما، وخرج الأتراك معهم على كره منهم، ودخلوا البلد وملكوه، ونزل علاء الدين وجلال الدين دار السلطنة مستهل رمضان، وكانوا قد وصلوا في ضر وقلة من العسكر، وأراد الأتراك منعهم، فنهاهم مؤيد الملك وزير شهاب الدين لقلتهم، ولإشتغال غياث الدين بابن خرميل، والي هراة، على ما نذكره، فلم يرجعوا عن ذلك. وملا استقرا بالقلعة، ونزلا بدار السلطانية، راسلهما الأتراك بأن يخرجا من الدار وإلا قاتلوهما، ففرقا فيهم أموالاً كثيرة، واستحلفاهم فحلفوا، واستثنوا غياث الدين محموداً، وأنفذا خلعاً إلى تاج الدين الدز، وهو بإقطاعه، مع رسول، وطلباه إلى طاعتهما، ووعداه بالأموال والزيادة في الإقطاع، وإمارة الجيش، والحكم في جميع المماليك؛ فأتاه الرسول فلقيه وقد سار عن كرمان في جيش كثير من الترك والخلج والغز وغيرهم يريد غزنة، فأبلغه الرسالة، فلم يلتفت إليه، وقال له: قل لهما أن يعودا إلى باميان، وفيها كفاية، فإني قد أمرني مولاي غياث الدين أن أسير إلى غزنة وأمنعهما عنها، فإن عادا إلى بلدهما، وإلا فعلت بهما وبمن معهما ما يكرهون. ورد ما معهما من الهدايا والخلع، لم يكن قصد الدز بهذا حفظ بيت صاحبه، وإنما أراد أن يجعل هذا طريقاً إلى ملك غزنة لنفسه.
فعاد الرسول وأبلغ علاء الدين رسالة الدز، فأرسل وزيره، وكان قبله وزير أبيه، إلى باميان وبلخ وترمذ وغيرها من بلادهم، ليجمع العساكر ويعود إليه، فأرسل الدز إلى الأتراك الذين بغزنة يعرفهم أن غياث الدين أمره أن يقصد غزنة ويخرج علاء الدين وأخاه منها، فحضروا عند ابن وزير علاء الدين، وطلبوا منه سلاحاً، ففتح خزانة السلاح، وهرب ابن الوزير إلى علاء الدين وقال له: قد كن كذا وكذا؛ فلم يقدر أن يفعل شيئاً. وسمع مؤيد الملك، وزير شهاب الدين، فركب وأنكر على الخازن تسليم المفاتيح، وأمره فاسترد ما نهبه الترك جميعه، لأنه كان مطاعاً فيهم. ووصل الدز إلى غزنة، فأخرج إليه علاء الدين جماعة من الغورية ومن الأتراك، وفيهم صونج صهر الدز، فأشار عليه أصحابه أن لا يفعل، وينتظر العسكر مع وزيره، فلم يقبل منهم، وسير العساكر، فالتقوا خامس رمضان، فلما لقوه خدمه الأتراك وعادوا معه على عسكر علاء الدين فقاتلوهم فهزموهم وأسروا مقدمهم، وهو محمد بن علي بن حردون، ودخل عسكر الدز المدينة فنهبوا بيوت الغورية والبامانية، وحصر الدز القلعة، فخرج جلال الدين منها في عشرين فارساً، وسار عن غزنة، فقالت له امرأة تستهزئ به: أين تمضي؟ خذ الجتر والشمسة معك! ما أقبح خروج السلاطين هكذا! فقال لها: إنك سترين اليوم، وأفعل بكم ما تقرون به بالسلطنة لي. وكان قد قال لأخيه: احفظ القلعة إلى أن آتيك بالعساكر؛ فبقي الدز يحاصرها، وأراد من مع الدز نهب البلد، فنهاهم عن ذلك، وأرسل إلى علاء الدين يأمره بالخروج من القلعة، ويتهدده إن لم يخرج منها، وترددت الرسل إلى علاء الدين يأمره بالخروج من القلعة، ويتهدده إن لم يخرج منها، وترددت الرسل بينهما في ذلك، فأجاب إلى مفارقتها والعود إلى بلده، وأرسل من حلف له الدز أن لا يؤذيه، ولا يتعرض له، ولا لأحد ممن يحلف له. وسار عن غزنة، فلما رآه الدز وقد نزل من القلعة عدل إلى تربة شهاب الدين مولاه، ونزل إليها، ونهب الأتراك ما كان منع علاء الدين، وألقوه عن فرسه، وأخذوا ثيابه، وتركوه عرياناً بسراويله. فلما سمع الدز ذلك أرسل إليه بدواب وثياب ومال، واعتذر إليه، فأخذ ما لبسه ورد الباقي، فلما وصل إلى باميان لبس ثياب سوادي، وركب حماراً، فأخرجوا له مراكب ملوكية، وملابس جميلة، فلم يركب، ولم يلبس، وقال: أريد أن يراني الناس وما صنع بي أهل غزنة، حتى إذا عدت إليها وخربتها ونهبتها لا يلومني أحد. ودخل دار الإمارة وشرع في جمع العساكر. ذكر ملك الدز غزنةقد ذكرنا استيلاء الدز على الأموال والسلاح والدواب وغير ذلك مما كان صحبة شهاب الدين وآخذه من الوزير مؤيد الملك، فجمع به العساكر من أنواع الناس، الأتراك والخلج والغز وغيرهم، وسار إلى غزنة وجرى له مع علاء الدين ما ذكرنا. فلما خرج علاء الدين من غزنة أقام الدز بداره أربعة أيام يظهر طاعة غياث الدين، إلا أنه لم يأمر الخطيب بالخطبة له ولا لغيره، وإنما يخطب للخليفة، ويترحم على شهاب الدين الشهيد حسب. فلما كان في اليوم الرابع أحضر مقدمي الغورية والأتراك، وذم من كاتب علاء الدين وأخاه، وقبض على أمير داذ والي غزنة، فلما كان الغد، وهو سادس عشر رمضان، أحضر القضاة والفقهاء والمقدمين وأحضر أيضاً رسول الخليفة، وهو الشيخ مجد الدين أبو علي بن الربيع، الفقيه الشافعي مدرس النظامية ببغداد، وكان قد ورد إلى غزنة رسولاً إلى شهاب الدين، فقتل شهاب الدين وهو بغزنة، فأرسل إليه وإلى قاخضي غزنة يقول له: إنني أريد أن أنتقل إلى دار السلطانية، وأن أخاطب بالملك، ولا بد من حضورك؛ والمقصود من هذا أن تستقر أمور الناس، فحضر عنده، فركب الدز، والناس في خدمته، وعليه ثياب الحزن، وجلس في الدار في غير المجلس الذي كان يجلس فيه شهاب الدين، فتغيرت لذلك نيات كثير من الأتراك، لأنهم كانوا يطيعونه ظناً منهم أنه يريد الملك لغياث الدين، فحيث رأوه يريد الانفراد تغيروا عن طاعته، حتى إن بعضهم بكى غيظاً من فعله؛ وأقطع الإقطاعات الكثيرة، وفرق الأموال الجليلة.
وكان عند شهاب الدين جماعة من أولاد ملوك الغور وسمرقند وغيرهم، فأنفوا من خدمة الدز، وطلبوا منه أن يقصد خدمة غياث الدين، فأذن لهم وفارقه كثير من أصحابه إلى غياث الدين وإلى علاء الدين وأخيه صاحبي باميان، وأرسل غياث الدين إلى الدز يشكره، ويثني عليه لإخراج أولاد بهاء الدين من غزنة، وسير له الخلع، وطلب منه الخطبة والسكة، فلم يفعل، وأعاد الجواب فغالطه، وطلب منه أن يخاطبه بالملك، وأن يعتقه من الرق لأن غياث الدين ابن أخي سيده لا وارث له سواه، وأن يزوج ابنه بابنة الدز، فلم يجبه إلى ذلك. واتفق أن جماعة من الغوريين، من عسكر صاحب باميان، أغاروا على أعمال كرمان وسوران، وهي أقطاع الدز القديمة، فغنموا، وقتلوا، فأرسل صهره صونج في عسكر، فلقوا عسكر الباميان فظفر بهم، وقتل منهم كثيراً، وأنفذ رؤوسهم إلى غزنة فنصبت بها. وأجرى الدز في غزنة رسوم شهاب الدين، وفرق في أهلها أموالاً جليلة المقدار، وألزم مؤيد الملك أن يكون وزيراً له، فامتنع من ذلك، فألح عليه، فأجابه على كره منه، فدخل على مؤيد الملك صديق له يهنئه، فقال: بماذا تهنئني؟ من بعد ركوب الجواد بالحمار؟ وأنشد: ومن ركب الثور بعد الجوا ... د أنكر إطلاقه والغبب بينا الدز يأتي إلى بابي ألف مرة حتى آذن له في الدخول أصبح على بابه! ولولا حفظ النفس مع هؤلاء الأتراك لكان لي حكم آخر. ذكر حال غياث الدين بعد قتل عمهوأما غياث الدين محمود بن غياث الدين فإنه كان في إقطاعه، وهو بست وأسفزار، لما قتل عمه شهاب الدين، وكان الملك علاء الدين بن محمد بن أبي علي قد ولاه شهاب الدين بلاد الغور وغيرها من أرض الروان، فلما بلغه قتله سار إلى فيروزكوه خوفاً أن يسبقه إليها غياث الدين فيملك البلد ويأخذ الخزائن التي بها. وكان علاء الدين حسن السيرة من أكابر بيوت الغورية، إلا أن الناس كرهوه لميلهم إلى غياث الدين، وأنف الأمراء من خدمته مع وجود ولد غياث الدين سلطانهم، ولأنه كان كرامياً مغالباً في مذهبه، وأهل فيروزكوه شافعية، وألزمهم أن يجعلوا الإقامة مثنى؛ فلما وصل إلى فيروزكوه أحضر جماعة من الأمراء منهم: محمد المرغني وأخوه، ومحمد بن عثمان، وهم من أكابر الأمراء، وحلفهم على مساعدته على قتال خوارزم شاه وبهاء الدين، صاحب باميان، ولم يذكر غياث الدين احتقاراً له، فحلفوا له ولولده من بعده. وكان غياث الدين بمدينة بست لم يتحرك في شيء انتظاراً لما يكون من صاحب باميان، لأنهما كانا قد تعاهدا أيام الدين أن تكون خراسان لغياث الدين وغزنة والهند لبهاء الدين، وكان بهاء الدين صاحب باميان بعد موت شهاب الدين أقوى منه، فلهذا لم يفعل شيئاً، فلما بلغه خبر موت بهاء الدين جلس على التخت، وخطب لنفسه بالسلطنة عاشر رمضان، وحلف الأمراء الذين قصدوه، وهم إسمعيل الخلجي، وسونج أمير أشكار، وزنكي بن خرجوم، وحسين الغوري صاحب تكياباذ وغيرهم، وتلقب بألقاب أبيه غياث الدنيا والدين، وكتب إلى علاء الدين محمد بن أبي علي وهو بفيروزكوه يستدعيه إليه، ويستعطفه ليصدر عن رأيه، ويسلم مملكته إليه؛ وكتب إلى الحسين بن خرميل، والي هراة، مثل ذلك أيضاً، ووعده الزيادة في الإقطاع. فأما علاء الدين فأغلظ له في الجواب، كتب إلى الأمراء الذين معه يتهددهم، فرحل غياث الدين إلى فيروزكوه، فأرسل علاء الدين عسكراً مع ولده، وفرق فيهم مالاً كثيراً، وخلع عليهم لمنعوا غياث الدين، فقوه قريباً من فيروزكوه، فلما تراءى الجمعان كشف إسمعيل الخلجي المغفر عن وجهه وقال: الحمد لله إذ الأتراك الذين لا يعرفون آباءهم لم يضيعوا حق التربية، وردوا ابن ملك باميان، وأنتم مشايخ الغورية الذين أنعم عليكم والد هذا السلطان، ورباكم، وأحسن إليكم كفرتم الإحسان، وجئتم تقاتلون ولده، أهذا فعل الأحرار؟ فقال محمد المرغني، وهو مقدم العسكر الذين يصدرون عن رأيه: لا والله! ثم ترجل عن فرسه، وألقى سلاحه، وقصد غياث الدين، | |
|
 | |
الشيخ عودة الشيخ عودة

عدد المساهمات : 1748 تاريخ التسجيل : 28/09/2008 العمر : 73
 | موضوع: رد: كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير الخميس فبراير 27, 2014 6:58 am | |
| ذكر عدة حوادث في هذه السنة، في جمادى الآخرة، توفي الأمير طاشتكين مجير الدين، أمير الحاج، بتستر، وكان قد ولاه الخليفة على جميع خوزستان، وكان أمير الحاج سنين كثيرة، وكان خيراً صالحاً، حسن السيرة، كثير العبادة، بتشيع. ولما مات ولى الخليفة على خوزستان مملوكه سنجر، وهو صهر طاشتكين زوج ابنته. وفيها قتل سنجر بن مقلد بن سليمان بن مهارش، أمير عبادة، بالعراق. وكان سبب قتله أنه سعى بأبيه مقلد إلى الخليفة الناصر لدين الله، فأمر بالتوكيل على أبيه، فبقي مدة ثم أطلقه الخليفة، ثم إن سنجر قتل أخاً له اسمه ........ فأوغر بهذه الأسباب صدور أهله وإخوته، فلما كان هذه السنة في شعبان نزل بأرض المعشوق، وركب في بعض الأيام، ومعه إخوته وغيرهم من أصحابه، فلما انفرد عن أصحابه ضربه أخوه علي بن مقلد بالسيف فسقط إلى الأرض، فنزل إخوته إليه فقتلوه. وفيها تجهز غياث الدين خسروشاه، صاحب مدينة الروم، إلى مدينة طرابزون، وحصر صاحبها لأنه كان قد خرج عن طاعته، فضيق عليه. فانقطعت لذلك الطرق من بلاد الروم، والروس، قفجاق وغيرها، براً وبحراً، ولم يخرج منهم أحد إلى بلاد غياث الدين، فدخل بذلك ضرر عظيم على الناس، لأنهم كانوا يتجرون معهم، ويدخلون بلادهم، ويقصدهم التجار من الشام، والعراق، والموصل، والجزيرة وغيرها، فاجتمع منهم بمدينة سيواس خلق كثير، فحيث لم ينفتح الطريق تأذوا أذى كثيراً، فكان السعيد منهم من عاد إلى رأس ماله. وفيها تزوج أبو بكر بن البهلوان، صاحب أذربيجان وأران، بابنة ملك الكرج، وسبب ذلك أن الكرج تابعة الغارات منهم على بلاده لما رأوا من عجزه وانهماكه في الشرب واللعب وما جانسهما، وإعراضه عن تدبير الملك وحفظ البلاد، فلما رأى هو أيضاً ذلك، ولم يكن عنده من عدل إلى الذب عنها بأيره، فخطب ابنة ملكهم، فتزوجها، فكف الكرج عن النهب والإغارة والقتل، فكان كما قيل: أغمد سيفه، وسل أيره. وفيها حمل إلى أزبك خروف وجهه صورة آدمي، وبدنه بدن خروف، وكان هذا من العجائب. وفيها توفي القاضي أبو حامد محمد بن المانداي الوسطي بها. وفيها، في شوال، توفي فخر الدين مبارك شاه بن الحسن المروروذي، وكان حسن الشعر بالفارسية والعربية، وله منزلة عظيمة عند غياث الدين الكبير، صاحب غزنة وهراة وغيرهما، وكان له دار ضيافة، فيها كتب وشطرنج، فالعلماء يطالعون الكتب، والجهال يلعبون بالشطرنج. وفيها، في ذي الحجة توفي أبو الحسن علي بن علي بن سعادة الفارقي، الفقيه الشافعي، ببغداد، وبقي مدة طويلة معيداً بالنظامية، وصار مدرساً بالمدرسة التي أحدثتها أم الخليفة الناصر لدين الله، وكان مع علمه صالحاً، طلب للنيابة في القضاء ببغداد، فامتنع فألزم بذلك، فوليه يسيراً، ثم في بعض الأيام مشى إلى جامع ابن المطلب، فنزل، ولبس مئزر صوف غليظ، وغير ثيابه، وأمر الوكلاء وغيرهم بالانصراف عنه، وأقام به حتى سكن الطلب عنه، وعاد إلى منزله بغير ولاية. وفيها وقع الشيخ أبو موسى المكي، المقيم بمقصورة جامع السلطان ببغداد، من سطح الجامع، فمات، وكان رجلاً صالحاً كثير العبادة. وفيها أيضاً توفي العفيف أبو المكارم عرفة بن علي بن بصلا البندنيجي ببغداد، وكان رجلاً صالحاً، منقطعاً إلى العبادة، رحمه الله. ثم دخلت سنة ثلاث وستمائة ذكر ملك عباس باميان وعودها إلى ابن أخيه في هذه السنة ملك عباس باميان من علاء الدين وجلال الدين ولدي أخيه بهاء الدين. وسبب ذلك أن عسكر باميان لما انهزموا من الدز، وعادوا إليها، أخبروا أن علاء الدين وجلال الدين أسرا، وأن الدز ومن معه غنموا ما في العسكر فأخذ وزير أبيهما، المعروف بالصاحب، من الأموال كثيراً، ومن الجواهر وغيرها من التحف، وأخذ فيلاً، وسار إلى خوارزم شاه يستنجده على الدز ليسير معه عسكراً يستخلص به صاحبيه.
فلما فارق باميان، ورأى عمهما عباس خلو البلد منه ومن ابني أخيه، جمع أصحابه وقام في البلد فملكه، وصعد إلى القلعة فملكها، وأخرج أصحاب ابني أخيه علاء الدين وجلال الدين منها؛ فبلغ الخبر إلى الوزير السائر إلى خوارزم شاه، فعاد إلى باميان، وجمع الجموع الكثيرة، وحصر عباساً في القلعة، وكان مطاعاً في جميع ممالك بهاء الدين وولديه من بعده، وأقام عليه محاصراً، إلا أنه لم يكن معه من المال ما يقوم بما يحتاج إليه، إنما كان معه ما أخذه ليحمله إلى خوارزم. فلما خلص جلال الدين من أسر الدز، على ما نذكره، سار إلى باميان، فوصل إلى أرصف، وهي مدينة باميان، وجاء إليه وزير أبيه الصاحب، واجتمع به، وساروا إلى القلاع، وراسلوا عباساً المتغلب عليها، ولاطفوه، فسلم الجميع إلى جلال الدين وقال: إنما حفظتها خوفاً أن يأخذها خوارزم شاه؛ فاستحسن فعله، وعاد إلى ملكه. ذكر ملك خوارزم شاه الطالقانلما سلم خوارزم شاه ترمذ إلى الخطا سار عنها إلى ميهنة وأندخوي وكتب إلى سونج أمير أشكار، نائب غياث الدين محمود بالطالقان، يستميله، فعاد الرسول خائباً لم يجبه سونج إلى ما أراد منه، وجمع عسكره وخرج يحارب خوارزم شاه، فالتقوا بالقرب من الطالقان. فلما تقابل العسكران حمل سونج وحده مجداً، حتى قارب عسكر خوارزم شاه، فألقى نفسه إلى الأرض، ورمى سلاحه عنه، وقبل الأرض، وسأل العفو، فظن خوارزم شاه أنه سكران، فلما علم أنه صاح ذمه وسبه، وقال: من يثق بهذا وأشباهه! ولم يلتفت إليه، وأخذ ما بالطالقان من مال وسلاح ودواب وأنفذه إلى غياث الدين مع رسول، وحمله رسالة تتضمن التقرب إليه والملاطفة له، واستناب بالطالقان بعض أصحابه، وسار إلى قلاع كالوين وبيوار، فخرج إليه حسام الدين علي بن أبي علي، صاحب كالوين، وقاتله على رؤوس الجبال، فأرسل إليه خوارزم شاه يتهدده إن لم يسلم إليه، فقال: أما أنا فمملوك، وأما هذه الحصون فهي أمانة بيدي، ولا أسلمها إلا إلى صاحبها؛ فاستحسن خوارزم شاه منه هذا، وأثنى عليه، وذم سونج. ولما بلغ غياث الدين خبر سونج، وتسليمه الطالقان إلى خوارزم شاه، عظم عنده وشق عليه، فسلاه أصحابه، وهونوا الأمر. ولما فرغ خوارزم شاه من الطالقان سار إلى هراة، فنزل بظاهرها، ولم يمكن ابن خرميل أحداً من الخوارزميين أن يتطرق بالأذى إلى أهلها، وإنما كانوا يجتمع منهم الجماعة بعد الجماعة، فيقطعون الطريق، وهذه عادة الخوارزميين. ووصل رسول غياث الدين إلى خوارزم شاه بالهدايا، ورأى الناس عجباً، وذلك أن الخوارزميين لا يذكرون غياث الدين الكبير والد غياث الدين هذا، ولا يذكرون أيضاً شهاب الدين أخاه، وهما حيان، إلا بالغوري، وصاحب غزنة، وكان وزير خوارزم شاه الآن، مع عظم شأنه وقلة شأن غياث الدين هذا، لا يذكره إلا بمولانا السلطان مع ضعفه وعجزه وقلة بلاده. وأما ابن خرميل فإنه سار من هراة في جمع من عسكر خوارزم شاه، فنزل على أسفزار في صفر، وكان صاحبها قد توجه إلى غياث الدين فحصرها وأرسل من بها يقسم بالله لئن سلموها أن يؤمنهم، وإن امتنعوا أقام عليهم إلى أن يأخذهم، فإذا أخذهم قهراً لا يبقى على كبير ولا صغير، فخافوا، فسلموها في ربيع الأول، فأمنهم ولم يتعرض إلى أهلها بسوء؛ فلما أخذها أرسل إلى حرب بن محمد، صاحب سجستان، يدعوه إلى طاعة خوارزم شاه والخطبة له ببلاده، فأجابه إلى ذلك، وكان غياث الدين قد راسله قبل ذلك في الخطبة والدخول في طاعته، فغالطه ولم يجبه إلى ما طلب. ولما كان خوارزم شاه على هراة عاد إليها القاضي صاعد بن الفضل الذي كان ابن خرميل قد أخرجه من هراة في العام الماضي، وسار إلى غياث الدين، فعاد الآن من عنده، فلما وصل قال ابن خرميل لخوارزم شاه: إن هذا يميل إلى الغورية، ويريد دولتهم، ووقع فيه، فسجنه خوارزم شاه بقلعة زوزن، وولى القضاء بهراة الصفي أبا بكر محمد السرخسي، وكان ينوب عن صاعد وابنه في القضاء بهراة. ذكر حال غياث الدين مع الدز وأيبك
لما عاد الدز إلى غزنة، وأسر علاء الدين وأخاه جلال الدين، كما ذكرناه، كتب إليه غياث الدين يطالبه بالخطبة له، فأجابه جواب مدافع، وكان جوابه في هذه المرة أشد منه فيما تقدم، فأعاد غياث الدين إليه يقول: إما أن تخطب لنا، وإما أن تعرفنا ما في نفسك؛ فلما وصل الرسول بهذا أحضر خطيب غزنة وأمره أن يخطب لنفسه بعد الترحم على شهاب الدين، فخطب لتاج الدين الدز بغزنة. فلما سمع الناس ذلك ساءهم، وتغيرت نياتهم، ونيات الأتراك الذين معه، ولم يروه أهلاً أن يخدموه، وإنما كانوا يطيعونه ظناً منهم أنه ينصر دولة غياث الدين، فلما خطب له أرسل إلى غياث الدين يقول له: بماذا تشتط علي، وتتحكم في هذه الخزانة؟ نحن جمعناها بأسيافنا، وهذا الملك قد أخذته، وأنت قد اجتمع عندك الذين هم أساس الفتنة، وأقطعتهم الإقطاعات، ووعدتني بأمور لم تقف عليها، فإن أنت أعتقتني خطبت لك وحضرت خدمتك. فلما وصل الرسول أجابه غياث الدين إلى عتق الدز، بعد الامتناع الشديد، والعزم على مصالحة خوارزم شاه على ما يريد، وقصد غزنة ومحاربته بها؛ فلما أجابه إلى العتق أشهد عليه به، وأشهد عليه أيضاً بعتق قطب الدين أيبك، مملوك شهاب الدين ونائبه ببلاد الهند، وأرسل إلى كل واحد منهما ألف قباء، وألف قلنسوة، ومناطق الذهب، وسيوفاً كثيرة وجترين، ومائة رأس من الخيل، وأرسل إلى كل واحد منهما رسولاً، فقبل الدز الخلع، ورد الجتر، وقال: نحن عبيد ومماليك، والجتر له أصحاب. سار رسول أبيك إليه، وكان بفرشابور قد ضبط المملكة وحفظ البلاد، ومنع المفسدين من الفساد والأذى، والناس معه في أمن، فلما قرب الرسول منه لقيه على بعد، وترجل وقبل حافر الفرس، ولبس الخلعة، وقال: أما الجتر فلا يصلح للمماليك، وأما العتق فمقبول، وسوف أجاريه بعبودية الأبد. وأما خوارزم شاه فإنه أرسل إلى غياث الدين يطلب منه أن يتصاهرا، ويطلب منه ابن خرميل صاحب هراة إلى طاعته، ويسير معه في العساكر إلى غزنة، فإذا ملكها من الدز اقتسموا المال أثلاثاً: ثلث لخوارزم شاه، وثلث لغياث الدين، وثلث للعسكر؛ فأجابه إلى ذلك، ولم يبق إلا الصلح، فوصل الخبر إلى خوارزم شاه بموت صاحب مازندران، فسار عن هراة إلى مرو، وسمع الدز بالصلح، فجزع لذلك جزعاً عظيماً ظهر أثره عليه، وأرسل إلى غياث الدين: ما حملك على هذا؟ فقال: حملني عليه عصيانك وخلافك علي. فسار الدز إلى نكياباذ فأخذها، وإلى بست وتلك الأعمال فملكها، وقطع خطبة غياث الدين منها، وأرسل إلى صاحب سجستان يأمره بإعادة الترحم على شهاب الدين، وقطع خطبة خوارزم شاه، وأرسل إلى ابن خرميل، صاحب هراة، بمثل ذلك، وتهددهما بقصد بلادهما، فخافهما الناس. ثم إن الدز أخرج جلال الدين، صاحب باميان، من أسره، وسير معه خمسة آلاف فارس مع أي دكز التتر، مملوك شهاب الدين، إلى باميان ليعيدوه إلى ملكه ويزيلوا ابن عمه عنه، وزوجه ابنته؛ وسار ومعه أي دكز، فلا خلا به وبخه على لبسه خلعة الدز وقال له: أنتم ما رضيتم أن تلبسوا خلعة غياث الدين، وهو أكبر سناً منكم، وأشرف بيتاً، تلبس خلعة هذا المأبون! يعين الدز، ودعاه إلى العود معه إلى غزنة، وأعلمه أن الأتراك كلهم مجمعون على خلاف الدز. فلم يجبه إلى ذلك، فقال أي دكز: فإنني لا أسير معك؛ وعاد إلى كابل، وهي إقطاعه، فلما وصل أي دكز إلى كابل لقيه رسول من قطب الدين أيبك إلى الدز يقبح له فعله، ويأمره بإقامة خطبة غياث الدينم، ويخبره أنه قد خطب له في بلاده، ويقول له إن لم يخطب له هو أيضاً بغزنة ويعود إلى طاعته، وإلا قصده وحاربه. فلما علم أي دكز ذلك قويت نفسه على مخالفة الدز، وصمم العزم على قصد غزنة، ووصل أيضاً رسول أيبك إلى غياث الدين بالهدايا والتحف، ويشير عليه بإجابة خوارزم شاه إلى ما طلب الآن، وعند الفراغ من أمر غزنة تسهل أمور خوارزم شاه وغيره، وأنفذ له ذهباً عليه اسمه، فكتب أي دكز إلى أيبك يعرفه عصيان الدز على غياث الدين وما فعله في البلاد، وأنه على عزم مشاققه الدز، وهو ينتظر أمره؛ فأعاد أيبك جوابه يأمره بقصد غزنة، فإن حصلت له القلعة أقام بها إلى أن يأتيه، وأن لم تحصل له القلعة وقصده الدز انحاز إليه، أو إلى غياث الدين، أو يعود إلى كابل.
فسار إلى غزنة، وكان جلال الدين قد كتب إلى الدز يخبره خبر أي دكز وما عزم عليه، فكتب الدز إلى نوابه بقلعة غزنة يأمرهم بالاحتياط منه، فوصلها أي دكز أول رجب من السنة، وقد حذروه فلم يسلموا إليه القلعة، ومنعوه عنها، فأمر أصحابه بنهب البلد، فنهبوا عدة مواضع منه، فتوسط القاضي الحال بأن سلم إليه من الخزانة خمسين ألف دينار ركنية، وأخذ له من التجار شيئاً آخر، وخطب أي دكز بغزنة لغياث الدين، وقطع خطبة الدز، ففرح الناس بذلك. وكان مؤيد الملك ينوب عن الدز بالقلعة، ووصل الخبر إلى الدز بوصول أي دكز إلى غزنة، ووصول رسول أيبك إليه، ففت في عضده، وخطب لغياث الدين في تكياباذ، وأسقط اسمه من الخطبة، فخطب له، ورحل إلى غزنة؛ فلما قاربها رحل أي دكز عنها إلى بلد الغور، فأقام في تمران، وكتب إلى غياث الدين يخبره بحاله، وأنفذ إليه المال الذي أخذه من الخزانة ومن أموال الناس، فأرسل إليه خلعاً وأعتقه، وخاطبه بملك الأمراء، ورد عليه المال الذي كان أخذه من الخزانة، وقال له: أما مال الخزانة فقد أعدناه إليك لتخرجه، وأما أموال التجار وأهل البلد فقد أرسلته مع رسولي ليعاد إلى أربابه لئلا نفتتح دولتنا بالظلم، وقد عوضتك عنه ضعفه. وأرسل أموال الناس إلى غزنة، إلى قاضي غزنة، وأمره أن يرد المال المنفذ على أربابه، فأنهى القاضي الحال إلى الدز، وأشار عليه بالخطبة لغياث الدين، وقال: أنا أسعى في الوصلة بينكما والصهر والصلح، فأمر بذلك، فبلغ الخبر إلى غياث الدين، فأرسل إلى القاضي ينهاه عن المجيء إليه، وقال: لا تسأل في عبد أبق قد بان فساده واتضح عناده؛ فأقام بغزنة هو والدز، وسير غياث الدين، وقد أقطعها لبعض الأمراء، فهجموا على صاحبها، فنهبوا ماله، وأخذوا أولاده، فنجا وحده إلى غياث الدين، فاقتضى الحال أن سار غياث الدين إلى بست وتلك الولاية، فاستردها وأحسن إلى أهلها، وأطلق لهم خراج سنة لما نالهم من الدز من الأذى. ذكر وفاة صاحب مازندران والخلف بين أولادهفي هذه السنة توفي حسام الدين أردشير، صاحب مازندران، وخلف ثلاثة أولاد، فملك بعده ابنه الأكبر، وأخرج أخاه الأوسط من البلاد، فقصد جرجان، وبها الملك علي شاه بن خوارزم شاه تكش، أخو خوارزم شاه محمد، وهو ينوب عن أخيه فيها، فشكا إليه ما صنع به أخوه من إخراجه من البلاد، وطلب منه أن ينجده عليه، ويأخذ له البلاد ليكون في طاعته، فكتب علي شاه إلى أخيه خوارزم شاه في ذلك، فأمر بالمسير معه إلى مازندران، وأخذ البلاد له، وإقامة الخطبة لخوارزم شاه فيها. فساروا عن جرجان، فاتفق أن حسام الدين، صاحب مازندران، مات في ذلك الوقت، وملك البلاد بعده أخوه الأصغر، واستولى على القلاع والأموال، فدخل علي شاه البلاد، ومعه صاحب مازندران، فنهبوها وخربوها، وامتنع منهم الأخ الصغير بالقلاع، وأقام بقلعة كور، وهي التي فيها الأموال والذخائر، وحصروه فيها بعد أن ملكوا أسامة البلاد مثل: سارية وآمل وغيرهما من البلاد والحصون، وخطب لخوارزم شاه فيها جميعها، سوى القلعة التي فيها أخوه الأصغر، وهو يراسله، ويستميله، ويستعطفه، وأخوه لا يرد جواباً، ولا ينزل عن صنه. ذكر ملك غياث الدين مدينة أنطاكيةفي هذه السنة، ثالث شعبان، ملك غياث الدين كيخسرو، صاحب قونية وبلد الروم، مدينة أنطاكية بالأمان، وهي للروم على ساحل البحر. وسبب ذلك أنه كان حصرها قبل هذا التاريخ، وأطال المقام عليها، وهدم عدة أبراج من سورها، ولم يبق إلا فتحها عنوة، فأرسل من بها من الروم إلى الفرنج الذين بجزيرة قبرس، وهي قريبة منها، فاستنجدوهم، فوصل إليها جماعة منهم، فعند ذلك يئس غياث الدين منها، ورحل عنها، وترك طائفة من عسكره بالقرب منها، بالجبال التي بينها وبين بلاده، وأمرهم بقطع الميرة منها.
فاستمر الحال على ذلك مدة حتى ضاق بأهل البلد، واشتد الأمر عليهم، فطلبوا من الفرنج الخروج لدفع المسلمين عن مضايقتهم، فظن الفرنج أن الروم يريدون إخراجهم من المدينة بهذا السبب، فوقع الخلف بينهم، فاقتتلوا، فأرسل الروم إلى المسلمين، وطلبوهم ليسلموا إليهم البلد، فوصلوا إليهم، واجتمعوا على قتال الفرنج، فانهزم الفرنج ودخلوا الحصن فاعتصموا به، فأرسل المسلمون يطلبون غياث الدين، وهو بمدينة قونية، فسار إليهم مجداً في طائفة من عسكره، فوصلها ثاني شعبان، وتقرر الحال بينه وبين الروم، وتسلم المدينة ثالثة، وحصر الحصن الذي فيه الفرنج، وتسلمه وقتل كل من كان به من الفرنج. ذكر عزل ولد بكتمر صاحب خلاط وملك بلبان ومسير صاحب ماردين إلى خلاط وعوده وفي هذه السنة قبض عسكر خلاط على صاحبها ولد بكتمر، وملكها بلبان مملوك شاه أرمن بن سكمان، وكتب أهل خلاط إلى ناصر الدين أرتق ابن إيلغازي بن البي بن تمرتاش بن إيلغازي بن أرتق يستدعونه إليها. وسبب ذلك أن ولد بكتمر كان صبياً جاهلاً، فقبض على الأمير شجاع الدين قتلغ؛ مملوك من مماليك شاه أرمن، وهو كان أتابكه، ومدبر بلاده، وكان حسن السيرة مع الجند والرعية، فلما قتله اختلفت الكلمة عليه من الجند والعامة، واشتغل هو باللهو واللعب وإدمان الشرب، فكاتب جماعة من عامة خلاط، وجماعة من جند ناصر الدين، صاحب ماردين يستدعونه إليهم؛ وإنما كاتبوه دون غيره من الملوك لأن أباه قطب الدين إيلغازي كان ابن أخت شاه أرمن بن سكمان، وكان شاه أرمن قد حلف له الناس في حياته لأنه لم يكن له ولد، فلما تجددت بعده هذه الحادثة تذاكروا تلك الأيمان، وقالوا: نستدعيه ونملكه، فإنه من أهل بيت شاه أرمن فكاتبوه وطلبوه إليهم. ثم إن بعض مماليك شاه أرمن، اسمه بلبان، وكان قد جاهر ولد بكتمر بالعداوة والعصيان، سار من خلاط إلى ملازكرد وملكها، واجتمع الأجناد عليه، وكثر جمعه، وسار إلى خلاط فحصرها، واتفق وصول صاحب ماردين إليها، وهو يظن أن أحداً لا يمتنع عليه، خلاط قد اتهموني بالميل إليك، وهم ينفرون من العرب، والرأي أنك ترحل عائداً مرحلة واحدة وتقيم، فإذا تسلمت البلد سلمته إليك، لأنني لا يمكنني أن أملكه أنا. ففعل صاحب ماردين ذلك، فلما أبعد عن خلاط أرسل إليه يقول له: تعود إلى بلدك، وإلا جئت إليك وأوقعت بك وبمن معك. وكان في قلة من الجيش، فعاد إلى ماردين. وكان الملك الأشرف موسى بن العادل أبي بكر بن أيوب، صاحب حران وديار الجزيرة، قد أرسل إلى صاحب ماردين، لما سمع أنه يريد قصد خلاط، يقول له: إن سرت إلى خلاط قصدت بلدك؛ وإنما خاف أن يملك خلاط فيقوى عليهم، فلما سار إلى خلاط جمع الأشرف العساكر وسار إلى ولاية ماردين، فأخذ دخلها، وأقام بدنيسر يجبي الأموال إليه، فلما فرغ منه عاد إلى حران، فكان مثل صاحب ماردين كما قيل: خرجت النعامة تطلب قرنين فعادت بلا أذنين. وأما بلبان فإنه جمع العسكر وحشد، وحصر خلاط وضيق على أهلها، وبها ولد بكتمر، فجمع من عنده بالبلد من الأجناد والعامة، و خرج إليه، فالتقوا، فانهزم بلبان ومن معه من بين يديه، وعاد إلى الذي بيده من البلاد، وهو: ملازكرد وأرجيش وغيرهما من الحصون، وجمع العساكر، واستكثر منها، وعاود حصار خلاط وضيق على أهلها، فاضطرهم إلى خذلان ولد بكتمر لصغره، وجهله بالملك، واستغاله بلهوه ولعبه، ثم قبضوا عليه في القلعة، وأرسلوا إلى بلبان وحلفوه على ما أرادوا، سلموا إليه البلد وابن بكتمر، واستولى على جميع أعمال خلاط، وسجن ابن بكتمر في قلعة هناك، و استقر ملكه، فسبحان من إذا أراد أمراً هيأ أسبابه؛ بالأمس يقصدها شمس الدين محمد البهلوان وصلاح الدين يوسف بن أيوب، فلم يقدر أحدهما عليها، والآن يظهر هذا المملوك العاجز، القاصر عن الرجال والبلاد والأموال، فيملكها صفواً عفواً. ثم إن نجم الدين أيوب بن العادل، صاحب ميافارقين، سار نحو ولاية خلاط؛ وكان قد استولى على عدة حصون من أعمالها منها: حصن موسى ومدينته، فلما قارب خلاط أظهر له بلبان العجز عن مقابلته، فطمع، وأوغل في القرب، فأخذ عليه بلبان الطريق وقاتله فهزمه، ولم يفلت من أصحابه إلا القليل وهم جرحى، وعاد إلى ميافارقين. ذكر ملك الكرج مدينة قرس وموت ملك الكرج
في هذه السنة ملك الكرج حصن قرس، من أعمال خلاط، وكانوا قد حصروه مدة طويلة، وضيقوا على من فيه، وأخذوا دخل الولاية عدة سنين، وكل من يتولى خلاط لا ينجدهم، ولا يسعى في راحة تصل إليهم. وكان الوالي بها يواصل رسله في طلب النجدة، وإزاحة من عليه من الكرج، فلا يجاب له دعاء، فلما طال الأمر عليه، ورأى أن لا ناصر له، صالح الكرج على تسليم القلعة على مال كثير وإقطاع يأخذه منهم، وصارت دار شرك بعد أن كانت دار توحيد، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ونسأل الله أن يسهل للإسلام وأهله نصراً من عنده، فإن ملومك زماننا قد اشتغلوا بلهوهم ولعبهم وظلمهم عن سد الثغور وحفظ البلاد. ثم إن الله تعالى نظر إلى قلة ناصر الإسلام، فتولاه هو، فأمات ملكة الكرج، واختلفوا فيما بينهم وكفى الله شرهم إلى آخر السنة. ذكر الحرب بين عسكر الخليفة وصاحب لرستان في هذه السنة، في رمضان، سار عسكر الخليفة من خوزستان مع مملوكه سنجر، وهو كان المتولي لتلك الأعمال؛ وليها بعد موت طاشتكين أمير الحاج، لأنه زوج ابنة طاشتكين، إلى جبال لرستان، وصاحبها يعرف بأبي طاهر، وهي جبال منيعة بني فارس وأصبهان وخوزستان، فقاتلوا أهلها وعادوا منهزمين. وسبب ذلك أن مملوكاً للخليفة الناصر لدين الله اسمه قشتمر من أكاب مماليكه كان قد فارق الخدمة لتقصير رآه من الوزير نصير الدين العلوي الرازي، واجتاز بخوزستان، وأخذ منها ما أمكنه ولحق بأبي طاهر صاحب لرستان، فأكرمه وعظمه وزوجه ابنته، ثم توفي أبو طاهر فقوي أمر قشتمر، وأطاعه أهل تلك الولاية. فأمر سنجر بجمع العساكر وقصده وقتاله، ففعل سنجر ما أمر به، وجمع العساكر وسار إليه، فأرسل قشتمر يعتذر، ويسأل أن لا يقصد ولا يخرج عن العبودية، فلم يقبل عذره، فجمع أهل تلك الأعمال، ونزل إلى العسكر، فلقيهم، فهزمهم، وأرسل إلى صاحب فارس بن دكلا وشمس الدين إيدغمش، صاحب أصبهان وهمذان والري، يعرفهما الحال، ويقول: إنني لا قوة لي بعسكر الخليفة، وربما أضيف إليهم عساكر أخرى من بغداد وعادوا إلى حربي، وحينئذ لا أقدر بهم؛ وطلب منهما النجدة، وخوفهما من عسكر الخليفة إن ملك تلك الجبال، فأجاباه إلى ما طلب، فقوي جنانه، واستمر على حاله. ذكر عدة حوادثفي هذه السنة قتل صبي صبياً آخر ببغداد، وكانا يتعاشران، وعمر كل واحد منهما يقارب عشرين سنة، فقال أحدهما للآخر: الساعة أضربك بهذه السكين؛ يمازحه بذلك، وأهوى نحوه بها، فدخلت في جوفه فمات، فهرب القاتل ثم أخذ وأمر به ليقتل، فلما أرادوا قتله طلب دواة ورقعه بيضاء، وكتب فيها من قوله: قدمت على الكريم بغير زاد ... من الأعمال بالقلب السليم وسوء الظن أن تعتد زاداً ... إذا كان القدوم على كريم وفيها حج برهان الدين صدر جهان محمد بن أحمد بن عبد العزيز بن مارة البخاري رأس الحنفية ببخارى، وهو كان صاحبها على الحقيقة، يؤدي الخراج إلى الخطا، وينوب عنهم في البلد، فلما حج لم تحمد سيرته في الطريق، ولم يصنع معروفاً، وكان قد أكرم ببغداد عند قدومه من بخارى، فلما عاد لم يلتفت إليه لسوء سيرته مع الحاج، وسماه الحجاج صدر جهنم. وفيها، في شوال، مات شيخنا أبو الحرم مكي بن ريان بن شبة النحوي المقري بالموصل، وكان عارفاً بالنحو واللغة والقراآت، لم يكن في زمانه مثله، وكان ضريراً، وكان يعرف سوى هذه العلوم من الفقه والحساب وغير ذلك معرفة حسنة؛ وكان من خيار عباد الله وصالحيهم، كثير التواضع، لا يزال الناس يشتغلون عليه من بكرة إلى الليل. وفيها فارق أمير الحاج مظفر الدين سنقر مملوك الخليفة المعروف بوجه السبع الحاج بموضع يقال له المرجوم، ومضى في طائفة من أصحابه إلى الشام، وسار الحاج ومعهم الجند، فوصولا سالمين، ووصل هو إلى الملك العادل أبي بكر بن أيوب، فأقطعه إقطاعاً كثيراً بمصر، وأقام عنده إلى أن عاد إلى بغداد سنة ثمان وستمائة في جمادى الأولى؛ فإنه لما قبض الوزير أمن على نفسه، وأرسل يطلب العود، فأجيب إليه، فلما وصل أكرمه الخليفة وأقطعه الكوفة.
وفيها، في جمادى الآخرة، توفي أبو الفضل عبد المنعم بن عبد العزيز الإسكندراني، المعروف بابن النطروني، في مارستان بغداد، وكان قد مضى إلى المايورقي في رسالة بإفريقية، فحصل له منه عشرة آلاف دينار مغربية، فرقها جميعها في بلده على معارفه وأصدقائه، وكان فاضلاً خيراً، نعم الرجل، رحمه الله وله شعر حسن، وكان قيماً بعلم الأدب، وأقام بالموصل مدة، واشتغل على الشيخ أبي الحرم، واجتمعت به كثيراً عنده. ثم دخلت سنة أربع وستمائة ذكر ملك خوارزم شاه ما وراء النهر وما كان بخراسان من الفتن وإصلاحها في هذه السنة عبر علاء الدين محمد بن خوارزم شاه نهر جيحون لقتال الخطا. وسبب ذلك أن الخطا كانوا قد طالت أيامهم ببلاد تركستان، وما وراء النهر، وثقلت وطأتهم على أهلها، ولهم في كل مدينة نائب يجبي إليهم الأموال، وهم يسكنون الخركاهات على عادتهم قبل أن يملكوا، وكان مقامهم بنواحي أوزكند، وبلاساغون، وكاشغر، وتلك النواحي، فاتفق أن سلطان سمرقند وبخارى، ويلقب خان خانان، يعني سلطان السلاطين، وهو من أولاد الخانية، عريق النسب في الإسلام والملك، أنف وضجر من تحكم الكفار على المسلمين، فارسل إلى خوارزم شاه يقول له: إن الله، عز وجل، قد أوجب عليك بما أعطاك من سعة الملك وكثرة الجنود أن تستنقذ المسلمين وبلادهم من أيدي الكفار، وتخلصهم مما يجري عليهم من التحكم في الأموال والأبشار، ونحن نتفق معك على محاربة الخطا، ونحمل إليك ما نحمله إليهم، ونذكر اسمك في الخطبة وعلى السكة؛ فأجابه إلى ذلك، وقال: أخاف أنكم لا تفون لي. فسير إليه صاحب سمرقند وجوه أهل بخار وسمرقند، بعد أن حلفوا صاحبهم على الوفاء بما تضمنه، وضمنوا عنه الصدق والثبات على ما بذل، وجعلوا عنده رهائن، فشرع في إصلاح أمر خراسان، وتقرير قواعدها، فولى أخاه علي شاه طبرستان مضافة إلى جرجان، وأمره بالحفظ والاحتياط، وولى الأمير كزلك خان، وهو من أقارب أمه وأعبان دولته، بنيسابور، وجعل معه عسكراً، وولى الأمير جلدك مدينة الخام، وولى الأمير أمين الدين أبا بكر مدينة زوزن. وكان أمين الدين هذا حمالاً، ثم صار أكبر الأمراء، وهو الذي ملك كرمان، على ما نذكره إن شاء الله تعالى، وأقر الأمير الحسين على هراة، وجعل معه فيها ألف فارس من الخوارزمية، وصالح غياث الدين محموداً على ما بيده من بلاد الغور، وكرمسير، واستناب في مرو وسرخس وغيرهما من خراسان نواباً، وأمرهم بحسن السياسة، والحفظ، والاحتياط، وجمع عساكره جميعها، وسار إلى خوارزم، وتجهز منها، وعبر جيحون، واجتمع بسلطان سمرقند، وسمع الخطا، فحشدوا، وجمعوا، وجاؤوا إليه فجرى بينهم وقعات كثيرة ومغاورات، فتارة له وتارة عليه. ذكر قتل ابن خرميل وحصر هراةثم إن ابن خرميل، صاحب هراة، رأى سوء معاملة عسكر خوارزم شاه للرعية، وتعديهم إلى الأموال، فقبض عليهم وحبسهم، وبعث رسولاً إلى خوارزم شاه يعتذر، ويعرفه ما صنعوا، فعظم عليه، ولم يمكنه محاقته لاشتغاله بقتال الخطا، فكتب إليه يستحسن فعله، ويأمره بإنفاذ الجند الذين قبض عليهم لحاجتاه إليهم، وقال له: إنني قد أمرت عز الدين جلدك بن طغرل، صاحب الخام، أن يكون عندك لما أعلمه من عقله، وحسن سيرته؛ وأرسل إلى جلدك يأمره بالمسير إلى هراة وأمر إليه أن يحتال في القبض على حسين بن خرميل ولو أول ساعة يلقاه. فسار جلدك في ألفي فارس، وكان أبوه طغرل، أيام السلطان سنجر، والياً بهراة، فهوى إليها بالأشواق يختارها على جميع خراسان، فلما قارب هراة أمر ابن خرميل الناس بالخروج لتلقيه؛ وكان للحسين وزير يعرف بخواجه الصاحب، وكان كبياً قد حنكته التجارب، فقال لابن خرميل: لا تخرج إلى لقائه، ودعه يدخل إليك منفرداً، فإنني أخاف أن يغدر بك، وأن يكون خوارزم شاه أمر بذلك. فقال: لا يجوز أن يقدم مثل هذا الأمير ولا ألتقيه، وأخاف أن يضطغن ذلك علي خوارزم شاه، وما أظنه يتجاسر علي.
فخرج إليه الحسين بن خرميل، فلما بصر كل واحد منهما بصاحبه ترجل للالتقاء، وكان جلدك قد أمر أصحابه بالقبض عليه، فاختلطوا بهما، وحالوا بين ابن خرميل وأصحابه، وقبضوا عليه، فانهزم أصحابه ودخلوا المدينة وأخبروا الوزير بالحال، فأمر بإغلاق الباب والطوع إلى الأسوار، واستعد للحصار، ونزل جلدك على البلد، وأرسل إلى الوزير يتهدده، إن لم يسلم البلد، بقتل ابن خرميل، فنادى الوزير بشعار غياث الدين محمود الغوري، وقال لجلدك: لا أسلم البلد إليك، ولا إلى الغادر ابن خرميل، وإنما هو لغياث الدين، ولأبيه قبله. فقدموا ابن خرميل إلى السور، فخاطب الوزير، وأمره بالتسليم، فلم يفعل، فقتل ابن خرميل، وهذه عاقبة الغدر، فقد تقدم من أخباره عند شهاب الدين الغوري ما يدل على غدره، وكفرانه الإحسان ممن أحسن إليه. فلما قتل ابن خرميل كتب جلدك إلى خوارزم شاه بجلية الحال، فأنفذ خوارزم شاه إلى كزلك خان، والي نيسابور، وإلى أمين الدين أبي بكر، صاحب زوزن، يأمرهم بالمسير إلى هراة وحصارها وأخذها، فسارا في عشرة آلاف فارس، فنزلوا على هراة، وراسلوا الوزير بالتسليم، فلم يلتفت إليهم، وقال: ليس لكم من المحل ما يسلم إليكم مثل هراة، لكن إذا وصل السلطان خوارزم شاه سلمتها إليه. فقاتلوه، وجدوا في قتاله، فلم يقدروا عليه. وكان ابن خرميل قد حصن هراة، وعمل لها أربعة أسوار محكمة، وحفر خندقها، وشحنها بالميرة، فلما فرغ من كل ما أراد قال: بقيت أخاف على هذه المدينة شيئاً واحداً، وهو أن تسكر المياه التي لها أياماً كثيرة، ثم ترسل دفعة واحدة فتخرق أسوارها. فلما حصرها هؤلاء سمعوا قول ابن خرميل، فسكروا المياه حتى اجتمعت كثيراً، ثم أطلقوها على هراة فأحاطت بها ولم تصل إلى السور لأن أرض المدينة مرتفعة، فامتلأ الخندق ماء، وصار حولها وحلاً، فانتقل العسكر عنهم، ولم يمكنهم القتال لبعدهم عن المدينة، فأقاموا مدة حتى نشف الماء، فكان قول ابن خرميل من أحسن الحيل. ونعود إلى قتال خوارزم شاه الخطا وأسره؛ وأما خوارزم شاه فإنه دام القتال بينه وبين الخطا، ففي بعض الأيام اقتتلوا، واشتد القتال، ودام بينهم، ثم انهزم المسلمون هزيمة قبيحة، وأسر كثير منهم، وقتل كثير منهم، وكان من جملة الأسرى خوارزم شاه، وأسر معه أمير كبير يقال له فلان بن شهاب الدين مسعود أسرهما رجل واحد. ووصلت العساكر الإسلامية إلى خوارزم، ولم يروا السلطان معهم، فأرسلت أخت كزلك خان، صاحب نيسابور، وهو يحاصر هراة، وأعلمته الحال، فلما أتاه الخبر سار عن هراة ليلاً إلى نيسابور، وأحس به الأمير أمين الدين أبو بكر، صاح زوزن، فأراد هو ومن عنده من الأمراء منعه، مخافة أن يجري بينهم حرب يطمع بسببها أهل هراة فيهم، فيخرجون إليهم فيبلغون منهم ما يريدونه، فأمسكوا عن معارضته. وكان خوارزم شاه قد خرب سور نيسابور لما ملكها من الغورية، فشرع كزلك خان يعمره، وأدخل إليها الميرة، واستكثر من الجند، وعزم على الاستيلاء على خراسان إن صح فقد السلطان. وبلغ خبر عدم السلطان إلى أخيه علي شاه وهو بطبرستان، فدعا إلى نفسه، وقطع خطبة أخيه واستعد لطلب السلطنة، واختلطت خراسان اختلاطاً عظيماً. وأما السلطان خوارزم شاه، فإنه لما أسر قال له ابن شهاب الدين مسعود: يجب أن تذع السلطنة في هذه الأيام، وتصير خادماً لعلي أحتال في خلاصك؛ فشرع يخدم ابن مسعود، ويقدم له الطعام، ويخلعه ثيابه وخفه، ويعظمه، فقال الرجل الذي أسرهما لابن مسعود: أرى هذا الرجل يعظمك، فمن أنت؟ فقال: أنا فلان، وهذا غلامي؛ فقام إليه وأكرمه، وقال: ولولا أن القوم عرفوا بمكانك عندي لأطلقتك؛ ثم تركته أياماً، فقال له ابن مسعود: إني أخاف أن يرجع المنهزمون، فلا يراني أهلي معهم، فيظنون أني قتلت، فيعملون العزاء والمأتم، وتضيق صدورهم لذلك، ثم يقتسمون مالي فأهلك، وأحب أن تقرر علي شيئاً من المال حتى أحمله إليك؛ فقرر عليه مالاً، وقال له: أريد أن تأمر رجلاً عاقلاً يذهب بكتابي إلى أهلي ويخبرهم بعاقبتي، ويحضر معه من يحمل المال.
ثم قال: إن أصحابكم لا يعرفون أهلنا، ولكن هذا غلامي أثق به، ويصدقه أهلي؛ فأذن له الخطائي بإنفاذه، فسيره وأرسل معه الخطائي فرساً، وعدة من الفرسان يحمونه، فساروا حتى قاربوا خوارزم، وعاد الفرسان عن خوارزم شاه، ووصل خوارزم شاه إلى خوارزم، فاستبشر به الناس وضربت البشائر، وزينوا البلد، وأتته الأخبار بما صنع كزلك بنيسابور، وبما صنع أخوه علي شاه بطبرستان. ذكر ما فعله خوارزم شاه بخراسانلما وصل خوارزم شاه إلى خوارزم أتته الأخبار بما فعله كزلك خان وأخوه علي شاه وغيرهما، فسار إلى خراسان، وتبعته العساكر، فتقطعت، ووصل هو إليها في اليوم السادس ومعه ستة فرسان، وبلغ كزلك خان وصوله، فأخذ أمواله وعساكره وهرب نحو العراق، وبلغ أخاه علي شاه، فخافه، وسار على طريق قهستان ملتجئاً إلى غياث الدين محمود الغوري، صاحب فيروزكوه، فتلقاه، وأكرمه، وأنزله عنده. أما خوارزم شاه فإنه دخل نيسابور، وأصلح أمرها، وجعل فيها نائباً، وسار إلى هراة، فنزل عليها مع عسكره الذين يحاصرونه، وأحسن إلى أولئك الأمراء، ووثق بهم لأنهم صبروا على امتثال أمره في تلك الحال ولم يتغيروا، ولم يبلغوا من هراة غرضاً بحسن تدبير ذلك الوزير؛ فأرسل خوارزم شاه إلى الوزير يقول له: إنك وعدت عسكري أنك تسلم المدينة إذا حضرت، وقد حضرت فسلم. فقال: لا أفعل، لأني أعرف أنكم غدارون، لا تبقون على أحد، ولا أسلم البلد إلا إلى غياث الدين محمود. فغضب خوارزم شاه من ذلك، وزحف إليه بعسكره، فلم يكن فيه حيلة، فاتفق جماعة من أهل هراة وقالوا: هلك الناس من الجوع والقلة، وقد تعطلت علينا معايشنا، وقد مضى سنة وشهر، وكان الوزير يعد بتسليم البلد إلى خوارزم شاه إذا وصل إليه، وقد حضر خوارزم شاه ولم يسلم، ويجب أن نحتال في تسليم البلد والخلاص من هذه الشدة التي نحن فيها. فانتهى ذلك إلى الوزير، فبعث إليهم جماعة من عسكره، وأمرهم بالقبض عليهم، فمضى الجند إليهم، فثارت فتنة في البلد عظم خطبها، فاحتاج الوزير إلى تداركها بنفسه، فمضى لذلك، فكتب من البلد إلى خوارزم شاه بالخبر، وزحف إلى البلد وأهله مختلطون، فخربوا برجين من السور، ودخلوا البلد فملكوه، وقبضوا على الوزير، فقتله خوارزم شاه، وملك البلد، وذلك سنة خمس وستمائة، وأصلح حاله، وسلمه إلى خاله أمير ملك، وهو من أعيان أمرائه، فلم يزل بيده حتى هلك خوارزم شاه. وأما ابن شهاب الدين مسعود فإنه أقام عند الخطا مديدة، فقال له الذي استأسره يوماً: إن خوارزم شاه قد عدم فإيش عندك من خبره؟ فقال له: أما تعرفه؟ قال: لا! قال: هو أسيرك الذي كان عندك. فقال: لم لم تعرفني حتى كنت أخدمه، وأسير بين يديه إلى مملكته؟ قال: خفتكم عيه، فقال الخطائي: سر بنا إليه، فسار إليه، فأكرمهما، وأحسن إليهما، وبالغ في ذلك. ذكر قتل غياث الدين محمودلا سلم خوارزم شاه هراة إلى خاله أمير ملك وسار إلى خوارزم، أمره أن يقصد غياث الدين محمود بن غياث الدين محمد بن سام الغوري، صاحب الغور وفيروزكوه، وأن يقبض عليه وعلى أخيه علي شاه بن خوارزم شاه، ويأخذ فيروزكوه من غياث الدين. فسار أمير ملك إلى فيروزكوه؛ وبلغ ذلك إلى محمود، فأرسل يبذل الطاعة ويطلب الأمان، فأعطاه ذلك، فنزل إليه محمود، فقبض عليه أمير ملك، وعلى علي شاه أخي خوارزم شاه، فسألاه أن يحملهما إلى خوارزم شاه ليرى فيهما رأيه، فأرسل إلى خوارزم شاه يعرفه الخبر، فأمره بقتلهما، فقتلا في يوم واحد، واستقامت خراسان كلها لخوارزم شاه، وذلك سنة خمس وستمائة أيضاً. وغياث الدين هذا هو آخر ملوك الغورية، وقد كانت دولتهم من أحسن الدول سيرة، وأعدلها وأكثرها جهاداً، وكان محمود هذا عادلاً، حليماً، كريماً، من أحسن الملوك سيرة وأكرمهم أخلاقاً، رحمه الله تعالى. ذكر عود خوارزم شاه إلى الخطالما استقر أمر خراسان لخوارزم شاه وعبر نهر جيحون، جمع له الخطا جمعاً عظيماً وساروا إليه، والمقدم عليهم شيخ دولتهم، القائم مقام الملك فيهم، المعروف بطاينكوه، وكان عمره قد جاوز مائة سنة، ولقي حروباً كثيرة، وكان مظفراً، حسن التدبير والعقل، واجتمع خوارزم شاه وصاحب سمرقند، وتصافوا هم والخطا سنة ست وستمائة، فجرت حروب لم يكن مثلها شدة وصبراً، فانهزم الخطا هزيمة منكرة، وقتل منه وأسر خلق لا يحصى.
وكان فيمن أسر طاينكوه مقدمهم، وجيء به إلى خوارزم شاه، فأكرمه، وأجلسه على سريرنه، وسيره إلى خوارزم، ثم قصد خوارزم شاه إلى بلاد ما وراء النهر، فملكها مدينة مدينة، وناحية ناحية، حتى بلغ إلى مدينة أوزكند، وجعل نوابه فيها وعاد إلى خوارزم ومعه سلطان سمرقند، وكان من أحسن الناس صورة، فكان أهل خوارزم يجتمعون حتى ينظروا إليه، فزوجه خوارزم شاه بابنته، ورده إلى سمرقند، وبعث معه شحنة يكون بسمرقند على ما كان رسم الخطا. ذكر غدر صاحب سمرقند بالخوارزميينلما عاد صاحب سمرقند إليها، ومعه شحنة لخوارزم شاه، أقام معه نحو سنة، فرأى من سوء سيرة الخوارزميين، وقبح معاملتهم، ما ندم معه على مفارقة الخطا، فأرسل إلى ملك الخطا يدعوه إلى سمرقند ليسلمها إليه، ويعود إلى طاعته، وأمر بقتل كل من في سمرقند من الخوارزمية ممن سكنها قديماً وحديثاً، وأخذ أصحاب خوارزم شاه، فكان يجعل الرجل منهم قطعتين ويعلقهم في الأسواق كمنا يعلق القصاب اللحم، وأساء غاية الإساءة، ومضى إلى القلعة ليقتل زوجته ابنة خوارزم شاه، فأغلقت الأبواب، ووقفت بجواريها تمنعه، وأرسلت إليه تقول: أنا امرأة وقتل مثلي قبيح ولم يكن مني إليك ما استوجب به هذا منك، ولعل تركي أحمد عاقبة، فاتق الله في! فتركها وكل بها من يمنعها التصرف في نفسها. ووصل الخبر إلى خوارزم شاه فقامت قيامته، وغضب غضباً شديداً، وأمر بقتل كل من بخوارزم من الغرباء، فمنعته أمه عن ذلك، وقالت: إن هذا البلد قد أتاه الناس من أقطار الأرض، ولم يرض كلهم بما كان من هذا الرجل، فأمر بقتل أهل سمرقند، فنهته أمه، فانتهى، وأمر عساكره بالتجهيز إلى ما وراء النهر، وسيرهم أرسالاً، كلما تجهز جماعة عبروا جيحون، فعبر منهم خلق كثير لا يحصى، ثم عبر هو بنفسه في آخرهم، ونزل على سمرقند، وأنفذ إلى صاحبها يقول له: قد فعلت ما لم يفعله مسلم، واستحللت من دماء المسلمين ما لا يفعله عاقل لا مسلم ولا كافر، وقد عفا الله عما سلف، فأخرج من البلاد وامض حيث شئت؛ فقال: لا أخرج وافعل ما بدا لك. فأمر عساكره بالزحف، فأشار عليه بعض من معه بأن يأمر بعض الأمراء، إذا فتحوا البلد، أن يقصدوا الدرب الذي يسكنه التجار، فيمنع من نهبه والتطرق إليهم بسوء، فإنهم غرباء، وكلهم كارهون لهذا الفعل. فأمر بعض الأمراء بذلك، وزحف، ونصب السلاليم على السور، فلم يكن بأسرع من أن أخذوا البلد، وأذن لعسكره بالنهب، وقتل من يجدونه من أهل سمرقند، فنهب البلد، وقتل أهله، ثلاثة أيام، فيقال إنهم قتلوا منهم مائتي ألف إنسان، وسلم ذلك الدرب الذي فيه الغرباء، فلم يعدم منهم الفرد ولا الآدمي الواحد. ثم أمر بالكف عن النب والقتل، ثم زحف إلى القلعة فرأى صاحبها ما ملأ قلبه هيبة وخوفاً، فأرسل يطلب الأمان، فقال: لا أمان لك عندي؛ فزحفوا عليها. فملكوها، وأسروا صاحبها، وأحضروه عند خوارزم شاه، فقبل الأرض وطلب العفو، فلم يعف عنه، وأمر بقتله، فقتل صبراً، وقتل معه جماعة من أقاربه، ولم يترك أحداً ممن ينسب إلى الخانية، ورتب فيها وفي سائر البلاد نوابه، ولم يبق أحد معه في البلاد حكم. ذكر الوقعة التي أفنت الخطالما فعل خوارزم شاه بالخطا ما ذكرناه مضى من سلم منهم إلى ملكهم، فإنه لم يحضر الحرب، فاجتمعوا عنده؛ وكان طائفة عظيمة من التتر قد خرجوا من بلادهم، حدود الصين قديماً، ونزلوا وراء بلاد تركستان، وكان بينهم وبين الخطا عداوة وحروب، فلما سمعوا بما فعله خوارزم شاه بالخطا قصدوهم مع ملكهم كشلي خان، فلما رأى ملك الخطا ذلك أرسل إلى خوارزم شاه يقول له: أما ما كان منك من أخذ بلادنا وقتل رجالنا فعفو عنه، وقد أتى من هذا العدو من لا قبل لنا به، وإنهم إن انتصروا علينا، وملكونا، فلا دافع لهم عنك، والمصلحة أن تسير إلينا بعساكرك وتنصرنا على قتالهم، ونحن نحلف لك أننا إذا ظفرنا بهم لا نتعرض إلى ما أخذت من البلاد، ونقنع بما في أيدينا. وأرسل إليه كشلي خان ملك التتر يقول: إن هؤلاء الخطا أعداؤك وأعداء آبائك وأعداؤنا، فساعدنا عليهم، ونحلف أننا إذا انتصرنا عليهم لا نقرب بلادك، ونقنع بالمواضع التي ينزلونها، فأجاب كلاً منهما: إنني معك، ومعاضدك على خصمك.
وسار بعسكره إلى أن نزل قريباً من الموضع الذي تصافوا فيه، فلم يخالطهم مخالطة يعلم بها أنه من أحدهما، فكانت كل طائفة منهم تظن أنه معها، وتواقع الخطا والتتر، فانهزم الخطا هزيمة عظيمة، فمال حينئذ خوارزم شاه، وجعل يقتل، ويأسر، وينهب، ولم يترك أحداً ينجو منهم، فلم يسلم منهم إلا طائفة يسيرة مع ملكهم في موضع من نواحي الترك يحيط به جبل ليس إليه طريق إلا من جهة واحدة، تحصنوا فيه؛ وانضم إلى خوارزم شاه منهم طائفة، وساروا في عسكره، وأنفذ خوارزم شاه إلى كشلي خان ملك التتر يمن عليه بأنه حضر لمساعدته، ولولاه لما تمكن من الخطا، فاعترف له كشلي خان بذلك مدة، ثم أرسل إليه يطلب منه المقاسمة على بلاد الخطا، وقال: كما أننا اتفقنا على إبادتهم ينبغي أن نقتسم بلاهم؛ فقال: ليس لك عندي غير السيف، ولستم بأقوى من الخطا شوكة، ولا أعز ملكاً، فإن قنعت بالمساكتة، وإلا سرت إليك، وفعلت بك شراً مما فعلت بهم. وتجهز وسار حتى نزل قريباً منهم، وعلم خوارزم شاه أنه لا طاقة له به، فكان يراوغه، فإذا سار إلى موضع قصد خوارزم شاه أهله وأثقالهم فينهبها، وإذا سمع أن طائفة سارت عن مواطنهم سار إليها فأوقع بها، فأرسل إليه كشلي خان يقول له: ليس هذا فعل الملوك! هذا فعل اللصوص، وإلا إن كنت سلطاناً، كما تقول، فيجب أن نلتقي، فإما أن تهزمني وتملك البلاد التي بيدي، وإما أفعل أنا بك ذلك. فكان يغالطه ولا يجيبه إلى ما طلب، لكنه أمر أهل الشاش وفرغاته وأسفيجاب وكاسان، وما حولها من المدن التي لم يكن في الدنيا أنزه منها، ولا أحسن عمارة، بالجلاء منها، واللحاق ببلاد الإسلام، ثم خربها جميعها خوفاً من التتر أن يملكوها. ثم اتفق خروج هؤلاء التتر الآخر الذين خربوا الدنيا وملكهم جنكزخان النهرجي على كشلي خان ملك التتر الأول، فاشتغل بهم كشلي خان عن خوارزم شاه، فخلا وجهه، فعبر النهر إلى خراسان. ذكر ملك نجم الدين ابن الملك العادل خلاطفي هذه السنة ملك الملك الأوحد نجم الدين أيوب ابن مالك العادل أبي بكر ابن أيوب مدينة خلاط. وسبب ذلك أنه كان بمدينة ميافارقين من أبيه، فلما كان من ملك بلبان خلاط ما ذكرناه، قصد هو مدينة موش، وحصرها، وأخذها، وأخذ معها ما يجاورها. وكان بلبان لم تثبت قدمه حتى منعه، فلما ملكها طمع في خلاط، فسار إليها، فزهمه بلبان، كما ذكرناه أيضاً، فعاد إلى بلده، وجمع وحشد، وسير إليه أبوه جيشاً، فقصد خلاط، فسار إليه بلبان، فتصافا واقتتلا، فانهزم بلبان، وتمكن نجم الدين من البلاد، وازداد منها. ودخل بلبان خلاط واعتصم بها، وأرسل رسولاً إلى مغيث الدين طغرل شاه بن قلج أرسلان، وهو صاحب أرزن الروم، يستنجده على نجم الدين، فحضر بنفسه ومعه عسكره، فاجتمعا، وهزما نجم الدين، وحصرا موش، فأشرف الحصن على أن يملك، فغدر ابن قلج أرسلان بصاحب خلاط وقتله طمعاً في البلاد، فلما قتله سار إلى خلاط، فمنعه أهلها عنها، فسار إلى ملازكرد، فرده أهلها أيضاً، وامتنعوا عليه، فلما لم يجد في شيء من البلاد مطمعاً عاد إلى بلده. فأرسل أهل خلاط إلى نجم الدين يستدعونه إليهم ليملكوه، فحضر عندهم، وملك خلاط وأعمالها سوى اليسير منها، وكره الملوك المجاورون له ملكه لها خوفاً من أبيه، وكذلك أيضاً خافه الكرج وكرهوه، فتابعوا الغارات على أعمال خلاط وبلادها، ونجم الدين مقيم بخلاط لا يقدر على مفارقتها، فلقي المسلمون من ذلك أذى شديداً. واعتزل جماعة من عسكر خلاط، واستولوا على حصن وان، وهو من أعظم الحصون وأمنعها، وعصوا على نجم الدين، واجتمع إليهم جمع كثير، وملكوا مدينة أرجيش، فأرسل نجم الدين إلى أبيه الملك العادل يعرفه الحال، ويطلب منه أن يمده بعسكر، فسير إليه أخاه الملك الأشرف موسى بن العادل في عسكر، فاجتمعا في عسكر كثير، وحصرا قلعة وان وبها الخلاطية، وجدوا في قتالهم، فضعف أولئك عن مقاومتهم، فسلموها صلحاً وخرجوا منها، وتسلمها نجم الدين، واستقر ملكه بخلاط وأعمالها، وعاد أخوه الأشرف إلى بلده حران والرها. ذكر غارات الفرنج بالشام
وفي هذه السنة كثر الفرنج الذين بطرابلس وحصن الأكراد، وأكثروا الإغارة على بلد حمص وولاياتها، ونازلوا مدينة حمص، وكان جمعهم كثيراً لم يكن لصاحبها أسد الدين شيركوه بن محمد بن شيركوه بهم قوة ولا يقدر على دفعهم ومنعهم، فاستنجد الظاهر غازي، صاحب حلب، وغيره من ملوك الشام، فلم ينجده إلا الظاهر، فإنه سير له عسكراً أقاموا عنده، ومنعوا | |
|
 | |
الشيخ عودة الشيخ عودة

عدد المساهمات : 1748 تاريخ التسجيل : 28/09/2008 العمر : 73
 | موضوع: رد: كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير الخميس فبراير 27, 2014 6:59 am | |
| ومسير العساكر إليه كان قطب الدين سنجر، مملوك الخليفة الناصر لدين الله، قد ولاه الخليفة خوزستان، بعد طاشتكين أمير الحاج كما ذكرناه، فلما كان سنة ست وستمائة بدا منه تغير عن الطاعة، فروسل في القدوم إلى بغداد، فغالط ولم يحضر؛ وكان يظهر الطاعة، ويبطن التغلب على البلاد، فبقي الأمر كذلك إلى الأول من هذه السنة، فتقدم الخليفة إلى مؤيد الدين، نائب الوزارة، وإلى عز الدين بن نجاح الشرابي، خاص الخليفة، بالمسير بالعساكر إليه بخوزستان وإخراجه عنها، فسارا في عساكر كثيرة إلى خوزستان، فلما تحقق سنجر قصدهم إليه فارق البلاد، ولحق بصاحب شيراز، وهو أتابك عز الدين سعد ابن دكلا، ملتجئاً إليه، فأكرمه وقام دونه. ووصل عسكر الخليفة إلى خوزستان في ربيع الآخر بغير ممانعة، فلما استقروا في البلاد راسلوا سنجر يدعونه إلى الطاعة، فلم يجب إلى ذلك، فساروا إلى أرجان عازمين على قصد صاحب شيراز، فأدركهم الشتاء، فأقاموا شهوراً والرسل مترددة بينهم وبين صاحب شيراز، فلم يجبهم إلى تسليمه، فلما دخل شوال رحلوا يريدون شيراز، فحينئذ أرسل صاحبها إلى الوزير والشرابي يشفع فيه، ويطلب العهد له على أن لا يؤذى، فأجيب إلى ذلك، وسلمه إليهم هو وماله وأهله، فعادوا إلى بغداد وسنجدر معهم تحت الاستظهار، وولى الخليفة بلاد خوزستان مملوكه ياقوتاً أمير الحاج. ووصل الوزير إلى بغداد في المحرم سنة ثمان وستمائة هو والشرابي والعساكر، وخرج أهل بغداد إلى تلقيهم، فدخلوها وسنجر معهم راكباً على بغل بإكاف، وفي رجله سلسلتان، في يد كل جندي سلسلة، وبقي محبوساً إلى أن دخل صفر، فجمع الخلق الكثير من الأمراء والأعيان إلى دار مؤيد الدين نائب الوزارة، فأحضر سنجر، وقرر بأمور نسبت إليه منكرة، فأقر بها، فقال مؤيد الدين للناس: قد عرفتم ما تقتضيه السياسة من عقوبة هذا الرجل، وقد عفا أمير المؤمنين عنه، وأمر بالخلع عليه، فلبسها وعاد إلى داره، فعجب الناس من ذلك. وقيل إن أتابك سعد نهب مال سنجر وخزانته ودوابه، وكل ماله ولأصحابه، وسيرهم، فلما وصل سنجر إلى الوزير والشرابي طلبوا المال، فأرسل شيئاً يسيراً، والله أعلم. ذكر وفاة نور الدين أرسلان شاه وشيء من سيرته في هذه السنة، أواخر رجب، توفي نور الدين أرسلان شاه بن مسعود بن مودود بن زنكي بن آقسنقر، صاحب الموصل، وكان مرضه قد طال، ومزاجه قد فسد، وكانت مدة ملكه سبع عشرة سنة واحد وأحد عشر شهراً، وكان شهماً شجاعاً، ذا سياسة للرعايا، شديداً على أصحابه، فكانوا يخافونه خوفا شديداً، وان ذلك مانعاً من تعدي بعضهم على بعض؛ وكان له همة عالية، أعاد ناموس البيت الأتابكي وجاهه، وحرمته، بعد أن كانت قد ذهبت، وخافه الملوك؛ وكان سريع الحركة في طلب الملك إلا أنه لم يكن له صبرا، فلهذا لم يتسع ملكه، ولو لم يكن له من الفضيلة إلا أنه لما رحل الكامل بن العادل عن ماردين، كما ذكرناه سنة خمس وتسعين وخمسمائة، عف عنها، وأبقاها على صاحبها، ولو قصدها وحصرها لم يكن فيها قوة الامتناع، لأن من كانوا بها كانوا قد هلكوا وضجروا، ولم يبق لهم رمق، فأبقاها على صاحبها. ولما ملك استغاث به إنسان من التجار، فسأل عن حاله، فقيل إنه قد أدخل قماشه إلى البلد ليبيعه، فلم يتم له البيع، ويريد إخراجه، وقد منع من ذلك، فقال: من منعه؟ فقيل: ضامن البز يريد منه ما جرت به العادة من المكس؛ وكان القيم بتدبير مملكته مجاهد الدين قايماز، وهو إلى جانبه، فسأله عن العادة كيف هي؟ فقال: إن اشترط صاحبه إخراج متاعه مكن من العادة مدبرة، إنسان لا يبيع متاعه لأي شيء يؤخذ منه ماله؟ فقال مجاهد الدين: لا شك في فساد العادة مدبة، إنسان لا يبيع متاعه لأي شيء يؤخذ منه ماله؟ فقال مجاهد الدين: لا شك في فساد هذه العادة مدبرة، إنسان لا يبيع متاعه لأي شيء يؤخذ منه ماله؟ فقال مجاهد الدين: لا شك في فساد هذه العادة؛ فقال: إذا قلت أنا وأنت إنها عادة فاسدة، فما المانع من تركها؟ وتقدم بإخراج مال الرجل، وأن لا يؤخذ إلا ممن باع.
وسمعت أخي مجد الدين أبا السعادات، رحمه الله، وكان من أكثر الناس اختصاصاً به، يقول: ما قلت له يوماً في فعل خير فامتنع منه بل بادر إليه بفرح واستبشار؛ واستدعى في بعض الأيام أخي المذكور، فركب إلى داره، فلما كان بباب الدار لقيته امرأة وبيدها رقعة، وهي تشكو، وتطلب عرضها على نور الدين، فأخذها، فلما دخل إليه جاراه في مهم له، فقال: قبل كل شيء تقف على هذه الرقعة، وتقضي شغل صاحبتها؛ فقال: لا حاجة إلى الوقوف عليها، عرفنا إيش فيها. فقال: والله لا أعلم إلا أنني رأيت امرأة بباب الدار، وهي متظلمة، شاكية. فقال: نعم عرفت حالها؛ ثم انزعج فظهر منه الغيظ والغضب، وعنده رجلان هما القيمان بأمور دولته، فقال لأخي: أبصر إلى أي شيء قد دفعت مع هذين. هذه المرأة كان لها ابن، وقد مات من مدة في الموصل، وهو غريب، وخلف قماشاً ومملوكين، فاحتاط نواب بيت المال على القماش، وأحضروا المملوكين إلينا، فبقيا عندنا ننتظر حضور من يستحق التركة ليأخذها، فحضرت هذه المرأة ومعها كتاب حكمي بأن المال الذي مع ولدها لها، فتقدم منا بتسليم مالها إليها، وقلت لهذين: اشتريا المملوكين منها، وأنصفاها في الثمن؛ فعادا وقالا: لم يتم بيننا بيع، لأنها طلبت ثمناً كبيراً، فأمرتهما بإعادة المملوكين إليها من مدة شهرين وأكثر، وإلى الآن ما عدت سمعت لها حديثاً، وظننت أنها أخذت مالها، ولا شك أنها لم يسلما المملوكين إليها، وقد استغاثت بهما، فلم ينصفاها، فجاءت إليك، وكل من رأى هذه المرأة تشكو وتستغيث يظن أني أنا منعتها أن تتسلم أنت المملوكين وتسلمها إليها؛ فأخذت المرأة مالها، وعادت شاكرة داعية، وله من هذا الجنس كثير لا نطول بذكره. ذكر ولاية ابنه الملك القاهرلما حضر نور الدين الموت أمر أن يرتب في الملك بعده ولده الملك القاهر عز الدين مسعود، وحلف له الجند وأعيان الناس، وكان قد عهد إليه قبل موته بمدة، فجدد العهد له عند وفاته، وأعطى ولده الأصغر عماد الدين زنكي قلعة عقر الحميدية، وقلعة شوش، وولايتهما، وسيره إلى العقر، وأمر أن يتولى تدبير مملكتهما، ويقوم بحفظهما، والنظر في مصالحهما، فتاه الأمير بدر الدين لؤلؤ ملا رأى من عقله وسداده، وحسن سياسته وتدبيره، وكمال خلال السيادة فيه، وكان عمر القاهر حينئذ عشر سنين. وملا اشتد مرضه وأيس من نفسه أمره الأطباء بالانحدار إلى الحامة المعروفة بعين القيارة، وهي بالقرب من الموصل، فانحدر إليها، فلم يجد بها راحة، وازداد ضعفاً، فأخذه بدر الدين وأصعده في الشبارة إلى الموصل، فتوفي في الطريق ليلاً ومعه الملاحون والأطباء، بينه وبينهم ستر. وكان مع بدر الدين، عند نور الدين، مملوكان، فلما توفي نور الدين قال لهما: لا يسمع أحد بموته؛ وقال للأطباء والملاحين: لا يتكلم أحد، فقد نام السلطان؛ فسكتوا، ووصلوا إلى الموصل في الليل، فأمر الأطباء والملاحين بمفارقة الشبارة لئلا يروه ميتاً، وأبعدوا، فحمله هو والمملوكان، وأدخله الدار، وتركه في الموضع الذي كان فيه ومعه المملوكان، ونزل على بابه من يثق به لا يمكن أحداً من الدخول والخروج، وقعد مع الناس يمضي أموراً كان يحتاج إلى إتمامها. فلما فرغ من جميع ما يريده أظهر موته وقت العصر، ودفن ليلاً بالمدرسة التي أنشأنها مقابل داره، وضبط البلد تلك الليلة ضبطاً جيداً بحيث إن الناس في الليل لم يزالوا مترددين لم يعدم من أحد ما مقداره الحبة الفرد، واستقر الملك لولده، وقام بدر الدين بتدبير الدولة والنظر في مصالحها. ذكر عدة حوادثفي هذه السنة، في شهر ربيع الآخر، درس القاضي أبو زكرياء يحيى بن القاسم ابن المفرج، قاضي تكريت، بالمدرسة النظامية ببغداد، استدعي من تكريت إليها. وفيها نقصت دجلة بالعراق نقصاً كثيراً، حتى كان الماء يجري ببغداد في نحو خمسة أذرع، وأمر الخليفة أن يكرى دجلة، فجمع الخلق الكثير، وكانوا كلما حفروا شيئاً عاد الرمل فغطاه، وكان الناس يخوضون دجلة فوق بغداد، وهذا مل يعهد مثله. وحج بالناس هذه السنة علاء الدين محمد ولد الأمير مجاهد الدين ياقوت أمير الحاج، وكان أبوه قد ولاه الخليفة خوزستان، وجعله هو أمير الحاج، وجعل معه من يدبر الحاج، لأنه كان صبياً.
وفيها، في العشرين من ربيع الآخر، توفي ضياء الدين أبو أحمد عب الوهاب ابن علي بن عبد الله الأمير البغدادي ببغداد، وهو سبط صدر الدين إسمعيل شيخ الشيوخ، وعمره سبع وثمانون سنة وشهور، وكان صوفياً، فقيهاً، محدثاً، سمعنا منه الكثير، رحمه الله؛ وكان من عباد الله الصالحين كثير العبادة والصلاح. وفيها توفي شيخنا أبو حفص عمر بن محمد بن المعمر بن طبرزد البغدادي، وكان عالي الإسناد. ثم دخلت سنة ثمان وستمائة ذكر استيلاء منكلي على بلاد الجبل وأصفهان وغيرها وهرب إيدغمش في هذه السنة، في شعبان قدم إيدغمش، صاحب همذان وأصفهان والري وما بينهما من البلاد، إلى بغداد، هارباً من منكلي. وسبب ذلك أن إيدغمش كان قد تمكن في البلاد، وعظمك شأنه، وانتشر صيته، وكثر عسكره، حتى إنه حصر صاحبه أبا بكر البهلوان، صاحب هذه البلاد: أذربيجان وأران، كما ذكرناه. فلما كان الآن خرج عليه مملوك اسمه منكلي، ونازعه في البلاد، وكثر أتباعه، وأطاعه المماليك البهلوانية، فاستولى عليها، وهرب منه شمس الدين إيدغمش إلى بغداد، فلما وصل إليها أمر الخليفة بالاحتفال له في اللقاء، فخرج الناس كافة، وكان يوم وصوله مشهوداً، ثم قدمت زوجته في رمضان في محمل، فأكرمت وأنزلت عند زوجها، وأقام ببغداد إلى سنة عشر وستمائة، فسار عنها، فكان من أمره ما نذكره. ذكر نهب الحاج بمنىوفي هذه السنة نهب الحاج بمنى؛ وسبب ذلك أن باطنياً وثب على بعض أهل الأمير قتادة، صاحب مكة، فقتله بمنى ظناً منه أنه قتادة، فلما سمع قتادة ذلك جمع الأشراف والعرب والعبيد وأهل مكة، وقصدوا الحاج، ونزلوا عليهم من الجبل، ورموهم بالحجارة والنبل وغير ذلك، وكان أمير الحاج ولد الأمير ياقوت المقدم ذكره، وهو صبي لا يعرف كيف يفعل، فخاف وتحير، وتمكن أمير مكة من نهب الحاج، فنهبوا منهم من كان في الأطراف، وأقاموا على حالهم إلى الليل. فاضطرب الحاج، وباتوا بأسوإ حال من شدة الخوف من القتل والنهب. فقال بعض الناس لأمير الحاج لينتقل بالحجاج إلى منزلة حجاج الشام، فأمر بالرحيل، فرفعوا أثقالهم على الجمال تؤخذ بأحمالها، والتحق من سلم بحجاج الشام، فاجتمعوا بهم، ثم رحلوا إلى الزاهر، ومنعوا من دخول مكة، ثم أذن لهم في ذلك، فدخلوها وتمموا حجهم وعادوا. ثم أرسل قتادة ولده وجماعة من أصحابه إلى بغداد، فدخلوها ومعهم السيوف مسلولة والأكفان، فقلبوا العتبة، واعتذروا مما جرى على الحجاج. ذكر عدة حوادثفي هذه السنة أظهر الإسماعيلية، ومقدمهم الجلال بن الصباح، الانتقال عن فعل المحرمات واستحلالها، وأمر بإقامة الصلوات وشرائع الإسلام ببلادهم من خراسان والشام، وأرسل مقدمهم رسلاًِ إلى الخليفة، وغيره من ملوك الإسلام، يخبرهم بذلك، وأرسل والدته إلى الحج، فأكرمت ببغداد إكراماً عظيماً، وكذلك بطريق مكة. وفيها، سلخ جمادى الآخرة، توفي أبو حامد محمد بن يونس بن ميعة، الفقيه الشافعي، بمدينة الموصل، وكان إماماً فاضلاً، إليه انتهت رياسة الشافعية، لم يكن في زمانه مثله، وكان حسن الأخلاق، كثير التجاوز عن الفقهاء والإحسان إليهم، رحمه الله. وفي شهر ربع الأول توفي القاضي أبو الفضائل علي بن يوسف بن أحمد بن الآمدي الواسطي، قاضيها، وكان نعم الرجل. وفي شعبان توفي المعين أبو الفتوح عبد الواحد بن أبي أحمد بن علي الأمين، شيخ الشيوخ ببغداد، وكان موته بجزيرة كاس، مضى إليها رسولاً من الخليفة، وكان من أصدقائنا، وبيننا وبينه مودة متأكدة، وصحبة كثيرة، وكان من عباد الله الصالحين، رحمه الله ورضي عنه؛ وله كتابة حسنة، وشعر جيد، وكان عالماً بالفقه وغيره، ولما توفي رتب أخوه زين الدين عبد الرزاق ابن أبي أحمد، وكان ناظراً على المارستان العضدي، فتركه واقتصر على الرباط. وفي ذي الحجة توفي محمد بن يوسف بن محمد بن عبيد الله النيسابوري الكاتب الحسن الخط، وكان يؤدي طريقه ابن البواب، وكان فقيهاً، حاسباً، متكلماً. وتوفي عمر بن مسعود أبي العز أبو القاسم البزاز البغدادي بها، وكان من الصالحين، يجتمع إليه الفقراء كثيراً، ويحسن إليهم. وتوفي أيضاً أبو سعيد الحسن بن محمد بن الحسن بن حمدون الثعلبي العدوي، وهو ولد مصنف التذكرة، وكان عالماً. ثم دخلت سنة تسع وستمائة
ذكر قدوم ابن منكلي بغداد في هذه السنة، في المحرم، قدم محمد بن منكلي المستولي على بلاد الجبل إلى بغداد. وسبب ذلكم أن أباه منكلي لما استولى على بلاد الجبل وهرب إيدغمش صاحبها منها إلى بغداد خاف أن يساعده الخليفة، ويرسل معه العساكر، فيعظم الأمر عليه، لأنه لم يكن قد تمكن في البلاد، فأرسل ولده محمداً ومعه جماعة من العسكر، فيعظم الأمر عليه، لأنه لم يكن قد تمكن في البلاد، فأرسل ولده محمداً ومعه جماعة من العسكر، فخرج الناس ببغداد على طبقاتهم يلتقونه، وأنزل وأكرم، وبقي ببغداد إلى أن قتل إيدغمش، فخلع عليه وعلى من معه، وأكرموا، وسيرهم إلى أبيه. ذكر عدة حوادثفي هذه السنة قبض الملك العادل أبو بكر بن أيوب، صاحب مصر والشام، على أمير اسمه أسامة، كان له إقطاع كثير من جملته حصن كوكب من أعمال الأردن بالشام، وأخذ منه حصن كوكب وخربه وعفى أثره، ومن بعده بني حصناً بالقرب من عكا على جبل يسمى الطور، وهو معروف هناك، وشحنه بالرجال والذخائر والسلاح. وفيها توفي الفقيه محمد بن إسمعيل بن أبي الصيف اليمني، فقيه الحرم الشريف بمكة. ثم دخلت سنة عشر وستمائة ذكر قتل إيدغمش في هذه السنة، في المحرم قتل إيدغمش الذي كان صاحب همذان، وقد ذكرنا سنة ثمان أنه قدم إلى بغداد وأقام بهتا، فأنعم عليه الخليفة، وشرفه بالخلع، وأعطاه الكوسات وما يحتاج إليه، وسيره إلى همذان، فسار في جمادى الآخرة عن بغداد قاصداً إلى همذان، فوصل إلى بلاد ابن ترجم واجتمعا، وأقام ينتظر وصول عساكر بغداد إليه ليسير معه على قاعدة استقرت بينهم. وكان الخليفة قد عزل سليمان بن ترجم عن الإمارة على عشيرته من التركمان الإيوانية، وولى أخاه الأصغر، فأرسل سليمان إلى منكلي يعرفه بحال إيدغمش، ومضى هو على وجهه، فأخذوه فقتلوه، وحملوا رأسه إلى منكلي، وتفرق من معه من أصحابه في البلاد لا يلوي أخ على أخيه. ووصل الخبر بقتله إلى بغداد، فعظم على الخليفة ذلك، وأرسل إلى منكلي ينكر عليه ما فعل، فأجاب جواباً شديداً، وتمكن من البلاد، وقوي أمره، وكثرت جموع عساكره، وكان من أمره ما نذكره إن شاء الله. ذكر عدة حوادثحج بالناس في هذه السنة أبو فراس بن جعفر بن فراس الحلي، نيابة عن أمير الحاج ياقوت، ومنع ابن ياقوت عن الحج لما جرى للحاج في ولايته. وفيها، في المحرم، توفي الحكيم المهذب علي بن أحمد بن هبل، الطبيب المشهور، كان أعلم أهل زمانه بالطب، روى الحديث، وكن مقيماً بالموصل، وبها مات، وكان كثير الصدقة، حسن الأخلاق، وله تصنيف حسن في الطب. وفيه توفي الضيا أحمد بن علي البغدادي، الفقيه الحنبلي، صاحب ابن المني. وفيه توفي أيضاً أحمد بن مسعود التركستاني، الفقيه الحنفي ببغداد، وهو مدرس مشهد أبي حنيفة. وفيها، في جمادى الأولى، توفي معز الدين أبو المعاني سعد بن علي المعروف بابن حديد الذي كان وزير الخليفة الناصر لدين الله، وكان قد ألزم بيته، ولما توفي حمل تابوته إلى مشهد أمير المؤمنين علي، عليه السلام، بالكوفة، وكان حسن السيرة في وزارته، كثير الخير والنفع للناس. ثم دخلت سنة إحدى عشرة وستمائة ذكر ملك خوارزم شاه كرمان ومكران والسند هذه الحادثة لا أعلم الحقيقة أي سنة كانت، إنما هي إما هذه السنة، أو قبلها، أو بعدها بقليل، لأن الذي أخبر بها كان من أجناد الموصل، وسافر إلى تلك البلاد وأقام بها عدة سنين، وسار مع الأمير أبي بكر الذي فتح كرمان ثم عاد فأخبرني بها على شك من وقتها، وقد حضرها فقال: خوارزم شاه محمد بن تكش كان من جملة أمراء أبيه أمير اسمه أبو بكر، ولقبه تاج الدين.
وكان في ابتداء أمره جمالاً يكري الجمال في الأسفار، ثم جاءته السعادة، فاتصل بخوارزم شاه، وصار سيروان جماله، فرأى منه جلداً وأمانة، فقدمه إلى أن صار من أعيان أمراء عسكره، فولاه مدينة زوزن، وكان عاقلاً ذا رأي، وحزم، وشجاعة، فتدم عند خوارزم شاه تقدماً كثيراً، فوثق به أكثر من جميع أمراء دولته، فقال أبو بكر لخوارزم شاه: إن بلاد كرمان مجاورة لبلدي، فلو أضاف السلطان إلي عسكراً لملكتها في أسرع وقت. فسير معه عسكراً كثيراً فمضى إلى كرمان، وصاحبها اسمه حرب بن محمد بن أبي الفضل الذي كان صاحب سجستان أيام السلطان سنجر، فقاتله، فلم يكن له به قوة، وضعف، فملك أبو بكر بلاده في أسرع وقت، وسار منها إلى نواحي مكران فملكها كلها إلى السند، من حدود كابل، وسار إلى هرمز، مدينة على ساحل بحر مكران، فأطاعه صاحبها، واسمه ملنك، وخطب بها لخوارزم شاه، وحمل عنها مالاً، وخطب له بقلهات، وبعض عمان، لأن أصحابها كانوا يطيعون صاحب هرمز. وسبب طاعتهم له، مع بعد الشقة، والبحر يقطع بينهم، أنهم يتقربون إليه بالطاعة ليأمن أصحاب المراكب التي تسير إليهم عنده، فإن هرمز مرسى عظيم، ومجمع للتجار من أقاصي الهند والصين واليمن، وغيرها من البلاد، وكان بين صاحب هرمز وبين صاحب كيش حروب ومغاورات، وكل منهما ينهى أصحاب المراكب أن ترسي ببلد خصمه، وهم كذلك إلى الآن؛ وكان خوارزم شاه يصيف بنواحي سمرقند لأجل التتر أصحاب كشلي خان، لئلا يقصد بلاده؛ وكان سريع السير، إذا قصد سبق خبره إليها. ذكر عدة حوادثفي هذه السنة قتل مؤيد الملك الشحري، وكان قد وزر لشهاب الدين الغوري، ولتاج الدين الدز بعده، و كان حسن السيرة، جميل الاعتقاد، محسناً إلى العلماء وأهل الخير وغيرهم، يزورهم ويبرهم، ويحضر الجمعة ماشياً وحده. وكان سبب قتله أن بعض عسكر الدز كرهوه، وكان كل سنة يتقدم إلى البلاد الحارة بين يدي الدز، أول الشتاء، فسار هذه السنة كعادته، فجاء أربعون نفراً أتراكاً وقالوا له: السلطان يقول لك تحضر جريدة في عشرة نفر لمهم تجدد؛ فسار معهم جريدة في عشرة مماليك، فلما وصلوا إلى نهوند، بالقرب من ماء السند، قتلوه وهربوا، ثم إنهم ظفر بهم خوارزم شاه محمد فقتلهم. وفيها، في رجب، توفي الركن أبو منصور عبد السلام بن عبد الوهاب بن عبد القادر الجليلي، البغدادي، وكان قد ولي عدة ولايات، وكان يتهم بمذهب الفلاسفة، حتى إنه رأى أبوه يوماً عليه قميصاً بخارياً، فقال: ما هذا القميص؟ فقال: بخاري؛ فقال أبوه: هذا عجب! ما زلنا نسمع: مسلم والبخاري، وأما كافر والبخاري فما سمعنا. وأخذت كتبه قبل موته بعدة سنين، وأظهرت في ملأ من الناس، ورؤي فيها من تبخير النجوم ومخاطبة زحل بالإلهية، وغير ذلك من الكفريات، ثم أحرقت بباب العامة، وحبس، ثم أفرج عنه بشفاعة أبيه، واستعمل بعد ذلك. وفيها أيضاً توفي أبو العباس أحمد بن هبة الله بن العلاء المعروف بابن الزاهد ببغداد، وكان عالماً بالنحو واللغة. وفي شعبان منها توفي أبو المظفر محمد بن علي بن البل اللوري الواعظ، ودفن برباط على نهر عيسى، ومولده سنة عشر وخمسمائة. وفي شوال منها توفي عبد العزيز بن محمود بن المبارك بن محمود بن الأخضر، وكان من فضلاء المحدثين، وله سبع وثمانون سنة. ثم دخلت سنة اثنتي عشرة وستمائة ذكر قتل منكلي وولاية أغملش ما كان بيده من الممالك في هذه السنة في جمادى الأولى، انهزم منكلي صاحب همذان وأصفهان والري وما بينهما من البلاد، ومضى هاباً، فقتل.
وسبب ذلك أنه كان قد ملك البلاد، كما ذكرناه، وقتل إيدغمش فأرسل إليه من الديوان الخليفي رسول ينكر ذلك عليه، وكان قد أوحش الأمير أوزبك ابن البهلوان، صاحب أذربيجان، وهو صاحبه ومخدومه، فأرسل إليه يحرضه على منكلي ويعده النصرة، وأرسل أيضاً إلى جلال الدين الإسماعيلي، صاحب قلاع الإسماعيلية ببلاد العجم، الموت وغيرها، يأمره بمساعدة أوزبك على قتال منكلي، واستقرت القواعد بينهم على أن يكون للخليفة بعض البلاد، ولأوزبك بعضها، ويعطي جلال الدين بعضها، فلما استقرت القواعد بينهم على ذلك جهز الخليفة عسكراً كثيراً، وجعل مقدمهم مملوكه مظفر الدين سنقر، الملقب بوجه السبع، وأرسل إلى مظفر الدين كوكبري بن زين الدين علي كوجك، وهو إذ ذاك صاحب إربل وشهرزور وأعمالها، يأمره أن يحضر بعساكره، ويكون مقدم العساكر جميعها، وإليه المرجع في الحرب. فحضر، وحضر معه عسكر الموصل وديار الجزيرة، وعسكر حلب، فاجتمعت عساكر كثيرة وساروا إلى همذان، فاجتمعت العساكر كلها فانزاح منكلي من بين أيديهم وتعلق بالجبال، وتبعوه، فنزلوا بسفح جبل هو في أعلاه بالقرب من مدينة كرج، وضاقت الميرة والأقوات على العسكر الخليفي جميعه ومن معهم، فلو أقام منكلي بموضعه لم يمكنهم المقام عليه أكثر من عشرة أيام، لكنه طمع فنزل ببعض عسكره من الجبل مقابل الأمير أوزبك، فحملوا عليه، فلم يثبت أوزبك، ومضى منهزماً، فعاد أصحاب منكلي وصعدوا الجبل، وعاد أوزبك إلى خيامه، فطمع منكلي حينئذ، ونزل من الغد في جميع عسكره، واصطفت العساكر للحرب، واقتتلوا أشد قتال يكون، فانهزم منكلي وصعد الجبل، فلو أقام بمكانه لم يقدر أحد على الصعود إليه، وكان قصاراهم العود عنه، لكنه اتخذ الليل جملاً، وفارق موضعه ومضى منهزماً، فتبعه نفر يسير ن عسكره، وفارقه الباقون وتفرقوا أيدي سبا. واستولى عسكر الخليفة وأوزبك على البلاد، فأعطى جلال الدين، ملك الإسماعيلية، من البلاد ما كان استقر له، وأخذ الباقي أوزبك، فسلمه إلى أغلمش مملوك أخيه، وكان قد توجه إلى خوارزم شاه علاء الدين محمد، وبقي عنده، ثم عاد عنه، وشهد الحرب وأبلى فيها، فولاه أوزبك البلاد، وعاد كل طائفة من العسكر إلى بلادهم. وأما منكلي فإنه مضى منهزماً إلى مدينة ساوة، وبها شحنة هو صديق له. فأرسل إليه يستأذنه في الدخول إلى البلد، فأذن له، وخلج إليه فلقيه، وقبل الأرض بين يديه، وأدخله البلد، وأنزله في داره، ثم أخذ سلاحه، وأراد أن يقيده ويرسله إلى أغلمش، فسأله أن يقتله هو ولا يرسله، فقتله، وأرسل رأسه إلى أوزبك، وأرسله أوزبك إلى بغداد، وكان يوم دخولها يوماً مشهوداً إلا أنه لم تتم المسرة للخليفة بذلك، فإنه وصل ومات ولده في تلك الحال، فأعيد ودفن. ذكر وفاة ابن الخليفةفي هذه السنة في العشرين من ذي القعدة، توفي ولد الخليفة، وهو الأصغر، وكان يلقب الملك المعظم، و اسمه أبو الحسن لعي، وكان أحب ولدي الخليفة إليه، وقد رشحه لولاية العهد بهده، وعزل ولده الأكبر عن ولاية العهد واطرحه لأجل هذا الولد. وكان رحمه الله، كريماً كثير الصدقة والمعروف، حسن السيرة، محبوباً إلى الخاص والعام، وكان سبب موته أنه أصابه إسهال فتوفي، وحزن عليه الخليفة حزناً لم يسمع بمثله، حتى إنه أرسل إلى أصحاب الأطراف ينهاهم عن إنفاذ رسول إليه يعزيه بولده، ولم يقرأ كتاباً ولا سمع رسالة، وانقطع، وخلا بهمومه وأحزانه، ورؤي عليه من الحزن والجزع ما لم يسمع بمثله. ولما توفي أخرج نهاراً، ومشى جميع الناس بين يدي تابوته إلى تربة جدته عند قبر معروف الكرخي، فدفن عندها، ولما أدخل التابوت أغلقت الأبواب، وسمع الصراخ العظيم من داخل التربة، فقيل إن ذلك صوت الخليفة. وأما العامة ببغداد فإنهم وجدوا عليه وجداً شديداً، ودامت المناحات عليه في أقطار بغداد ليلاً ونهاراً، ولم يبق ببغداد محلة إلا وفيها النوح، ولم تبق امرأة إلا وأظهرت الحزن، وما سمع ببغداد مثل ذلك في قديم الزمان وحديثه. وكان موته وقت وصول رأس منكلي إلى بغداد، فإن الموكب أمر بالخروج إلى لقاء الرأس، فخرج الناس كافة، فلما دخلوا بالرأس إلى رأس درب حبيب وقع الصوت بموت ابن الخليفة، فأعيد الرأس، وهذا دأب الدنيا، لا يصفو أبداً فرحها من ترح، وقد تخلص مصائبها من شائبة الفرح.
ذكر ملك خوارزم شاه غزنة وأعمالها في هذه السنة، في شعبان، ملك خوارزم شاه محمد بن تكش مدينة غزنة وأعمالها. وسبب ذلك أن خوارزم شاه لما استولى على عامة خراسان وملك باميان وغيرها، أرسل إلى تاج الدين، صاحب غزنة، وقد تقدمت أخباره حتى ملكها، يطلب منه أن يخطب له، ويضرب السكة باسمه، ويرسل إليه فيلاً واحداً ليصالحه ويقر بيده غزنة، ولا يعارضه فيها، فأحضر الأمراء وأعيان دولته واستشارهم. وكان فيهم أكبر أمير اسمه قتلغ تكين، وهو من مماليك شهاب الدين الغوري أيضاً، وإليه الحكم في دولة الدز، وهو النائب عنه بغزنة، فقال: أرى أن تخطب له، وتعطيه ما طلب، وتستريح من الحرب والقتال، وليس لنا بهذا السلطان قوة. فقال الجماعة مثل قوله، فأجاب إلى ما طلب منه، وخطب لخوارزم شاه، وضرب السكة باسمه، وأرسل إليه فيلاً، وأعاد رسوله إليه، ومضى إلى الصيد. فأرسل قتلغ تكين، والي غزنة، إلى خوارزم شاه يطلبه ليسلم إليه غزنة، فسار مجداً، وسبق خبره، فسلم إليه قتلغ تكين غزنة وقلعتها، فلما دخل إليها قتل من بها من عسكر الغورية لا سيما الأتراك، وفوصل الخبر إلى الدز بذلك فقال: ما فعل قتلغ تكين، وكيف ملك القلعة مع وجوده فيها؟ فقيل: هو الذي أحضره وسلم إليه؛ فمضى هارباً هو ومن معه إلى لهاوور، وأقام خوارزم شاه بغزنة، فلما تمكن منها أحضر قتلغ تكين فقال له: كيف حالك مع الدز؟ وكان عالماً به، وإنما أراد أن تكون له الحجة عليه. فقال: كلانا مماليك شهاب الدين، ولم يكن الدز يقيم بغزنة إلا أربعة أشهر الصيف، وأنا الحكم فيها، والمرجع إلي في كل الأمور. فقال له خوارزم شاه: إذا كنت لا ترعى لرفيقك ومن أحسن إليك صحبته وإحسانه، فكيف يكون حالي أنا معك، وما الذي تصنع مع ولدي إذا تركته عندك؟ فقبض عليه، وأخذ منه أموالاً جمة حملها ثلاثون دابة من أصناف الأموال والأمتعة، وأحضر أربع مائة مملوك، فلما أخذ ماله قتله وترك ولده جلال الدين بغزنة مع جماعة من عسكره وأمرائه وقيل إن ملك خوارزم شاه غزنة كان سنة ثلاث عشرة وستمائة. ذكر استيلاء الدز على لهاوور وقتلهلما هرب الدز من غزنة إلى لهاوور لقيه صاحبها ناصر الدين قباجة، وهو من مماليك شهاب الدين الغوري أيضاً، وله من البلاد لهاوور، وملتان، وأوجه، وديبل، وغير ذلك، إلى ساحل البحر، ومعه نحو خمسة عشر ألف فارس؛ وكان قد بقي مع الدز نحو ألف وخمسمائة فارس، فوقع بينهما مصاف، واقتتلوا، فانهزمت ميمنة الدز وميسرته، وأخذت الفيلة التي معه، ولم يبق له غير فيلين معه في القلب. فقال الفيال: إذا أخاطر بسعادتك؛ وأمر أحد الفيلين أن يحمل على العلم الذي لقباجة يأخذه، وأمر الفيل الآخر الذي له أيضاً أن يأخذ الجتر الذي له، فأخذه أيضاً، والفيلة المعلمة تفهم ما يقال لها؛ هذا رأيناه، فحمل الفيلان، وحمل معهما الدز فيمن بقي عنده من العسكر، وكشف رأسه، وقال بالعجمية ما معناه: إما ملك، وإما هلك! واختلط الناس بعضهم ببعض، وفعل الفيلان ما أمرهما الفيال من أخذ العلم والجتر، فانهزم قباجة وعسكره، وملك الدز مدينة لهاوور. ثم سار إلى بلاد الهند ليملك مدينة دهلة وغيرها مما بيد المسلمين، وكان صاحب دهلة أمير اسمه الترمش، ولقبه شمس الدين، وهو من مماليك قطب الدين أيبك، مملوك شهاب الدين أيضاً، وكان قد ملك الهند بعد سيده، فلما سمع به الترمش سار إليه في عساكره كلها، فلقيه عند مدينة سماتا، فاقتتلوا، فانهزم الدز وعسكره، وأخذ وقتل. وكان الدز محمود السيرة في ولايته، كثير العدل والإحسان إلى الرعية، لا سيما التجار والغرباء، ومن محاسن أعماله أنه كان له أولاد، ولهم معلم يعلمهم، فضرب المعلم أحدهم فمات، فاحضره الدز وقال له: يا مسكين! ما حملك على هذا؟ فقال: والله ما أردت إلا تأديبه. فاتفق أن مات. فقال: صدقت؛ وأعطاه نفقة، وقال له: تغيب، فإن أمه لا تقدر على الصبر، فربما أهلكتك، ولا أقدر أمنع عنك. فلما سمعت أم الصبي بموته طلبت الأستاذ لتقتله، فلم تجده، فسلم، وكان هذا من أحسن ما يحكى عن أحد من الناس. ذكر عدة حوادث
في هذه السنة توفي الوجيه المبارك بن أبي الأزهر سعيد بن الدهان الواسطي النحوي، الضرير، كان نحريراً فاضلاً، قرأ على الكمال عبد الرحمن بن الأنباري وعلى غيره، وكان حنبلياً، فصار حنفياً، ثم صار شافعياً، فقال فيه أبو البركات بن زيد التكريتي: ألا مبلغاً عني الوجيه رسالة ... وإن كان لا تجدي لديه الرسائل تمذهبت للنعمان من بعد حنبل ... وفارقته إذ غورتك المآكل وما اخترت رأي الشافعي تديناً ... ولكنما تهوى الذي هو حاصل وعما قليل أنت لا شك صائر ... إلى مالك، فافطن لما أنا قاتل ثم دخلت سنة ثلاث عشرة وستمائة ذكر وفاة الملك الظاهر صاحب حلب في هذه السنة، في جمادى الآخر، توفي الملك الظاهر غازي بن صلاح الدين يوسف بن أيوب، وهو صاحب مدينة حلب ومنبج وغيرهما من بلاد الشام، وكان مرضه إسهالاً، وكان شديد السيرة، ضابطاً لأموره كلها، كثير الجمع للأموال من غير جهاتها المعتادة، عظيم العقوبة على الذنب، لا يرى الصفح، وله مقصد يقصده كثير من أهل البيوتات من أطراف البلاد، والشعراء، وأهل الدين وغيرهم، فيكرمهم، ويجري عليهم الجاري الحسن. ولما اشتدت علته عهد بالملك بعده لولد له صغير اسمه محمد، ولقبه الملك العزيز غياث الدين، عمره ثلاث سنين، وعدل عن ولد كبير لأن الصغير كانت أمه ابنة عمه الملك العادل أبي بكر بن أيوب، صاحب مصر ودمشق وغيرهما من البلاد، فعهد بالملك له ليبقى عمه البلاد عليه، ولا ينازعه فيها. ومن أعجب ما يحكى أن الملك الظاهر، قبل مرضه، أرسل رسولاً إلى عمه العادل بمصر، يطلب منه أن يحلف لولده الصغير، فقال العادل: سبحان الله! أي حاجة إلى هذه اليمين؟ الملك الظاهر مثل بعض أولادي. فقال الرسول: قد طلب هذا واختاره، ولا بد من إجابته إليه. فقال العادل: كم من كبش في المرعى وخروف عند القصاب؛ وحِلف. فاتفق في تلك الأيام أن توفي الملك الظاهر والرسول في الطريق، ولما عهد الظاهر إلى ولده بذلك جعل أتابكه ومربيه خادماً رومياً، اسمه طغرل، ولقبه شهاب الدين، وهو من خيار عباد الله، كثير الصدقة والمعروف. ولما توفي الظاهر أحسن شهاب الدين هذا السيرة في الناس، وعدل فيهم، وأزال كثيراً من السنن الجارية، وأعاد أملاكاً كانت قد أخذت من أربابها، وقام بتربية الطفل أحسن قيام، وحفظ بلاده، واستقامت الأمور بحسن سيرته وعدله، وملك ما كان يتعذر على الظاهر ملكه، فمن ذلك تل باشر، كان الملك الظاهر لا يقدر أن يتعرض إليه، فلما توفي ملكها كيكاوش، ملك الروم، كما نذكره إن شاء الله تعالى، انتقلت إلى شهاب الدين، وما أقبح بالملوك وأبناء الملوك أن يكون هذا الرجل الغريب المنفرد أحسن سيرة، وأعف عن أموال الرعية، وأقرب إلى الخير منهم، ولا أعلم اليوم في ولاة أمور المسلمين أحسن سيرة منه، فالله يبقيه، ويدفع عنه، فلقد بلغني عنه كل حسن وجميل. ذكر عدة حوادثفي هذه السنة، في المحرم، وقع بالبصرة برد كثير، وهو مع كثرته عظيم القدر؛ قيل. كان أصغره مثل النازنجة الكبيرة، وقيل في أكبره ما يستحي الإنسان أن يذكره، فكسر كثيراً من رؤوس النخيل. وفي المحرم أيضاً سير الخليفة الناصر لدين الله ولدي ابنه المعظم علي إلى تستر، وهما المؤيد والموفق، وسار معهما مؤيد الدين النائب عن الوزارة، وعز الدين الشرابي، فأقاما بها يسيراً، ثم عاد الموفق مع الوزير والشرابي إلى بغداد أواخر ربيع الآخر. وفيها، في صفر، هبت ببغداد ريح سوداء شديدة، كثيرة الغبار والقتام، وألقت رملاً كثيراً، وقلعت كثيراً من الشجر، فخاف الناس وتضرعوا، ودامت من العشاء الآخرة إلى ثلث الليل وانكشفت. وفيهما توفي التاج زيد بن الحسن بن زيد بن الحسن بن زيد بن الحسن بن سعيد بن عصمة الكندي أبو اليمن، البغدادي المولد والمنشإ، انتقل إلى الشام فأقام بدمشق، وكان إماماً في النحو واللغة، وله الإسناد العالي في الحديث؛ وكان ذا فنون كثيرة من أنواع العلوم، رحمه الله. ثم دخلت سنة أربع عشرة وستمائة ذكر ملك خوارزم شاه بلد الجبل في هذه السنة سار خوارزم شاه علاء الدين محمد بن تكش إلى بلاد الجبل فملكها.
وكان سبب حركته، في هذا الوقت، أشياء، أحدها: أنه كان قد استولى على ما وراء النهر، وظفر بالخطا، وعظم أمره، وعلا شأنه، وأطاعه القريب والبعيد؛ ومنها: أنه كان يهوى أن يخطب له ببغداد. ويلقب بالسلطان. وكان الأمر بالضد لأنه كان لا يجد من ديوان الخلافة قبولاً، وكان سبيله إذا ورد إلى بغداد أن يقدم غيره عليه، ولعل في عسكره مائة مثل الذي يقدم سبيله عليه، فكان إذا سمع ذلك يغضبه؛ ومنها: أن أغلمش لما ملك بلاد الجبل خطب له فيها جميعها، كما ذكرناه، فلما قتله الباطنية غضب له، وخرج لئلا تخرج البلاد عن طاعته، فسار مجداً في عساكر تطبق الأرض، فوصل إلى الري فملكها. وكان أتابك سعد بن دكلا، صاحب بلاد فارس، لما بلغه مقتل أغلمش جمع عساكره وسار نحو بلاد الجبل طمعاً في تملكها لخلوها عن حام وممانع، فوصل إلى أصفهان، فأطاعه أهلها، وسار منها يريد الري، ولم يعلم بقدوم خوارزم شاه، فلقيه مقدمه خوارزم شاه فظنها عساكر تلك الديار قد اجتمعت لقتاله ومنعه عن البلاد، فقاتلهم، وجد في محاربتهم حتى كاد يهزمهم. فبينما هو كذلك إذ هو قد ظهر له جتر خوارزم شاه، فسأل عنه، فأخبر به فاستلم، وانهزمت عساكره، وأخذ أسيراً، وحمل إلى بين يدي خوارزم شاه، فأكرمه، ووعده الإحسان والجميل، وأمنه على نفسه، واستحلفه على طاعته، واستقرت القاعدة بينهما على أن يسلم بعض البلاد إليه، ويبقي بعضها، وأطلقه وسير معه جيشاً إلى بلاد فارس ليسلم إليهم ما استقرت القاعدة عليه؛ فلما قدم على ولده الأكبر رآه قد تغلب على بلاد فارس، فامتنع من التسليم إلى أبيه. ثم إنه ملك البلاد، كما نذكره، وخطب فيها لخوارزم شاه، وسار خوارزم شاه إلى ساوة فملكها، وأقطعها لعماد الملك عارض جيشه، وهو من أهلها، ثم سار إلى قزوين وزنجان وأبهر، فملكها كلها بغير ممانع ولا مدافع، ثم سار إلى همذان فملكها، وأقطع البلاد لأصحابه، وملك أصفها، وكذلك قم وقاشان، واستوعب ملك جميع البلاد، واستقرت القاعدة بينه وبين أوزبك بن البهلوان، صاحب أذربيجان وأران، بأن يخطب له أوزبك في بلاده ويدخل في طاعته. ثم إنه عزم على المسير إلى بغداد، فقدم بين يديه أميراً كبيراً في خمسة عشر ألف فارس، وأقطعه حلوان، فسار حتى وصل إليها؛ ثم أتبعه بأمير آخر، فلما سار عن همذان يومين أو ثلاثة سقط عليهم من الثلج ما لم يسمع بمثله، فهلكت دوابهم، ومات كثير منهم، طمع فيمن بقي بنو ترجم الأتراك، وبنو هكار الأكراد، فتخطفوهم، فلم يرجع منهم إلى خوارزم شاه إلا اليسير، فتطير خوارزم شاه من ذلك الطريق، وعزم على العود إلى خراسان خوفاً من التتر، لأنه طن أنه يقضي حاجته، ويفرغ من إرادته في المدة اليسيرة، فخاب ظنه، ورأى البيكار بين يديه طويلاً، فعزم على العود، فولى همذان أميراً من أقاربه من جهة والدته، يقال له طائيسي، وجعل في البلاد جميعها ابنه ركن الدين، وجعل معه متولياً لأمر دولته عماد الملك الساوي، وكان عظيم القدر عنده، وكان يحرص على قصد العراق. وعاد خوارزم شاه إلى خراسان، فوصل إلى مرو في المحرم سنة خمس عشرة وستمائة، وسار من وجهه إلى ما وراء النهر؛ ولما قدم إلى نيسابور جلس يوم الجمعة عند المنبر، وأمر الخطيب بترك الخطبة للخليفة الناصر لدين الله، وقال: إنه قد مات؛ وكان ذلك في ذي القعدة سنة أربع عشرة وستمائة؛ ولما قدم مرو قطع الخطبة بها، وكذلك ببلخ وبخارى وسرخس، وبقي خوارزم وسمرقند وهراة لم تقطع الخطبة فيها إلا عن قصد لتركها، لأن البلاد كانت لا تعارض من أشباه هذا، إن أحبوا خطبوا، وإن أرادوا قطعوا، فبقيت كذلك إلى أن كان منه ما كان. وهذه من جملة سعادات هذا البيت الشريف العباسي لم يقصد أحد بأذى إلا لقيه فعله، وخبث نيته، لا جرم لم يمهل خوارزم شاه هذا حتى جرى له ما نذكره مما لم يسمع بمثله في الدنيا قديماً ولا حديثاً. ذكر ما جرى لأتابك سعد مع أولاده | |
|
 | |
الشيخ عودة الشيخ عودة

عدد المساهمات : 1748 تاريخ التسجيل : 28/09/2008 العمر : 73
 | موضوع: رد: كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير الخميس فبراير 27, 2014 7:00 am | |
| لما قتل أغلمش، صاحب بلاد الجبل، همذان وأصفهان وما بينهما من البلاد، جمع أتابك سعد بن دكلا، صاحب فارس، عساكره وسار عن بلاده إلى أصفهان فملكها وأطاعه أهلها، فطمع في تلك البلاد جميعها، فسار عن أصفهان إلى الري، فلما وصل إليها لقي عساكر خوارزم شاه قد وصلت، كما ذكرناه، فعزم على محاربة مقدمة العسكر، فقاتلها حتى كاد يهزمها، فظهرت عساكر خوارزم شاه، ورأى الجتر، فسقط في يده، وألقى نفسه، وضعفت قوته وقوة عسكره، فولوا الأدبار، وأخذ أتابك سعد أسيراً، وأحضر بين يدي خوارزم شاه، فأكرمه، وطيب نفسه، ووعده الإحسان واستصحبه معه، إلى أن وصل إلى أصفهان، فسيره منها إلى بلاده، وهي تجاورها، وسير معه عسكراً مع أمير كبير ليتسلم منه ما كان استقر بينهما، فإنهما اتفقا على أن يكون لخوارزم شاه بعض البلاد ولأتابك سعد بعضها، وتكون الخطبة لخوارزم شاه في البلاد جميعها. وكان أتابك سعد قد استخلف ابناً له على البلاد، فلما سمع الابن بأسر أبيه خطب لنفسه بالمملكة وقطع خطبة أبيه، فلما وصل أبوه ومعه عسكر خوارزم شاه امتنع الابن من تسليم البلاد إلى أبيه، وجمع العساكر وخرج يقاتله، فلما تراءى الجمعان انحازت عساكر فارس إلى صاحبها أتابك سعد، وتركوا ابنه في خاصته، فحمل على أبيه، فلما رآه أبوه ظن أنه لم يعرفه، فقال له: أنا فلان! فقال: إياك أردت؛ فحينئذ امتنع منه وولى الابن منهزماً. ووصل أتابك سعد إلى البلاد فدخلها مالكاً لها وأخذ ابنه أسيراً، فسجنه إلى الآن، إلا أنني سمعت الآن، وهو سنة عشرين وستمائة، أنه قد خفف حبسه ووسع عليه. ولما عاد خوارزم شاه إلى خراسان غدر سعد بالأمير الذي عنده فقتله، ورجع عن طاعة خوارزم شاه، واشتغل خوارزم شاه بالحادثة العظمى التي شغلته عن هذا وغيره، ولكن الله انتقم له بابنه غياث الدين، كما ذكرناه سنة عشرين وستمائة، لأن سعداً كفر إحسان خوارزم شاه وكفر الإحسان عظيم العقوبة. مدينة دمياط وعودها إلى المسلمينكان من أول هذه الحادثة إلى آخرها أربع سنين غير شهر، وإنما ذكرناها هاهنا لأن ظهورهم كن فيها، وسقناها سياقة متتابعة ليتلو بعضها بعضاً، فنقول: في هذه السنة وصلت أمداد الفرنج في البحر من رومية الكبرى وغيرها من بلاد الفرنج في الغرب والشمال، إلا أن المتولي لها كان صاحب رومية، لأنه يتنزل عند الفرنج بمنزلة عظيمة، لا يرون مخالفة أمره ولا العدول عن حكمه فيما سرهم وساءهم، فجهز العساكر من عنده مع جماعة من مقدمي الفرنج، وأمر غيره من ملوك الفرنج إما أن يسير بنفسه، أو يرسل جيشاً، ففعلوا ما أمرهم، فاجتمعوا بعكا من ساحل الشام. وكان الملك العادل أبو بكر بن أيوب بمصر، فسار منها إلى الشام، فوصل إلى الرملة، ومنها إلى لد، وبرز الفرنج من عكا ليقصدوه، فسار العادل نحوهم، فوصل إلى نابلس عازماً على أن يسبقهم إلى أطراف البلاد مما يلي عكا ليحميها منهم، فساروا هم فسبقوه، فنزل على بيسان من الأردن، فتقدم الفرنج إليه في شعبان عازمين على محاربته لعلمهم أنه في قلة من العسكر، لأن العساكر كانت متفرقة في البلاد. فلما رأى العادل قربهم منه لم ير أن يلقاهم في الطائفة التي معه، خوفاً من هزيمة تكون عليه، وكان حازماً، كثير الحذر، ففارق بيسان نحو دمشق ليقيم بالقرب منها، ويرسل إلى البلاد ويجمع العساكر، فوصل إلى مرج الصفر فنزل فيه. وكان أهل بيسان، وتلك الأعمال، لما رأوا الملك العادل عندهم اطمأنوا، فلم يفارقوا بلادهم ظناً منهم أن الفرنج لا يقدمون عليه، فلما أقدموا سار على غفلة من الناس، فلم يقدر على النجاة إلا القليل، فأخذ الفرنج كل ما في بيسان من ذخائر قد جمعت، وكانت كثيرة، وغنموا شيئاً كثيراً، ونهبوا البلاد من بيسان إلى بانياس، بثوا السرايا في القرى فوصلت إلى خسفين، ونوى وأطراف البلاد، ونازلوا بانياس، وأقاموا عليها ثلاثة أيام، ثم عادوا عنها إلى مرج عكا ومعهم من الغنائم والسبي والأسرى ما لا يحصى كثرة، سوى ما قتلوا، وأحرقوا، وأهلكوا، فأقاموا أياماً استراحوا خلالها. ثم جاؤوا إلى صور، وقصدوا بلد الشقيف، ونزلوا بينهم وبين بانياس مقدار فرسخين، فنهبوا البلاد: صيدا والشقيف، وعادوا إلى عكا؛ وكان هذا من نصف رمضان إلى العيد، والذي سلم من تلك البلاد كان مخفاً حتى قدر على النجاة.
ولقد بلغني أن العادل لما سار إلى مرج الصفر رأى في طريقه رجلاً يحمل شيئاً، وهو يمشي تارة، وتارة يقعد ليستريح، فعدل العادل إليه وحده، فقال له: يا شيخ لا تعجل، وارفق بنفسك! فعرفه الرجل، فقال: يا سلطان المسلمين! أنت لا تعجل، فإنا إذا رأيناك قد سرت إلى بلادك وتركتنا مع الأعداء كيف لا نعجل! وبالجملة الذي فعله العادل هو الحزم والمصلحة لئلا يخاطر باللقاء على حال تفرق من العساكر؛ ولما نزل العادل على مرج الصفر سير ولده الملك المعظم عيسى، وهو صاحب دمشق في قطعة صالحة من الجيش إلى نابلس ليمنع الفرنج عن البيت المقدس. ذكر حصر الفرنج قلعة الطور وتخريبهالما نزل الفرنج بمرج عكا تجهزوا، وأخذوا معهم آلة الحصار من مجانيق وغيرها، وقصدوا قلعة الطور، وهي قلعة منيعة على رأس جبل بالقرب من عكا العادل قد بناها عن قريب، فتقدموا إليها وحصروها وزحفوا إليها، وصعدوا في جبلها حتى وصلوا إلى سورها وكادوا يملكونه. فاتفق أن بعض المسلمين ممن فيها قتل بعض ملوكهم، فعادوا عن القلعة فتركوها، وقصدوا عكا، وكانت مدة مقامهم على الطور سبعة عشر يوماً. ولما فارقوا الطور أقاموا قريباً، ثم ساروا في البحر إلى ديار مصر، على ما نذكره إن شاء الله تعالى، فتوجه الملك المعظم إلى قلعة الطور فخربها إلى أن ألحقها بالأرض لأنها بالقرب من عكا ويتعذر حفظها. ذكر حصر الفرنج دمياط إلى أن ملكوهالما عاد الفرنج من حصار الطور أقاموا بعكا إلى أن دخلت سنة خمس عشرة وستمائة، فساروا في البحر إلى دمياط، فوصلوا في صفر، فأرسلوا على بر الجيزة، بينهم وبين دمياط النيل، فإن بعض النيل يصب في البحر المالح عند دمياط، وقد بني في النيل برج كبير منيع، وجعلوا فيه سلاسل من حديد غلاظ، ومدوها في النيل إلى سور دمياط لتمنع المراكب الواصلة في البحر المالح أن تصعد في النيل إلى ديار مصر، ولولا هذا البرج وهذه السلاسل لكانت مراكب العدو لا يقدر أحد على منعها عن أقاصي ديار مصر وأدانيها. فلما نزل الفرنج على بر الجيزة، وبينهم وبين دمياط النيل، بنوا عليه سوراً، وجعلوا خندقاً يمنعهم من يريدهم، وشرعوا في قتال من بدمياط، وعملوا آلات، ومرمات، وأبراجاً متحركة يزحفون بها في المراكب إلى هذا البرج ليقاتلوه ويملكوه. وكان البرج مشحوناً بالرجال، وقد نزل الملك الكامل ابن الملك العادل، وهو صاحب ديار مصر، بمنزلة تعرف بالعادلية، بالقرب من دمياط، والعساكر متصلة من عنده إلى دمياط، ليمنع العدو من العبور إلى أرضهم. وأدام الفرنج قتال البرج وتابعوه، فلم يظفروا منه بشيء، وكسرت مرماتهم وآلاتهم، ومع هذا فهم ملازمون لقتاله، فبقوا كذلك أربعة أشهر ولم يقدروا على أخذه؛ فلما ملكوه قطعوا السلاسل لتدخل مراكبهم من البحر المالح في النيل ويتحكموا في البر، فنصب الملك الكامل عوض السلاسل جسراً عظيماً امتنعوا به من سلوك النيل، ثم أنهم قاتلوا عليه أيضاً قتالاً شديداً، كثيراً، متتابعاً حتى قطعوه، فلا قطع أخذ الملك الكامل عدة مراكب كبار وملأها وخرقها وغرقها في النيل، فمنعت المراكب من سلوكه. فلما رأى الفرنج ذلك قصدوا خليجاً هناك يعرف بالأزرق، كان النيل يجري فيه قديماً، فحفروا ذلك الخليج وعمقوه فوق المراكب التي جعلت في النيل، وأجروا الماء فيه إلى البحر المالح، وأصعدوا مراكبهم فيه إلى موضع يقال له بورة، على أرض الجيزة أيضاً، مقابل المنزلة التي فيها الملك الكامل ليقاتلوه من هناك، فإنهم لم يكن لهم إليه طريق يقاتلونه فيها؛ كانت دمياط تحجز بينهم وبينه، فلما صاروا في بورة حاذوه فقاتلوه في الماء، وزحفوا غير مرة، فلم يظفروا بطائل. ولم يتغير على أهل دمياط شيء لأن الميرة والأمداد متصلة بهم، والنيل يحجز بينهم وبين الفرنج، فهم ممتنعون لا يصل إليهم أذى، وأبوابها مفتحة، وليس عليها من الحصر ضيق ولا ضرر. فاتفق، كما يريد الله عز وجل، أن الملك العادل توفي في جمادى الآخرة من سنة خمس عشرة وستمائة، على ما نذكره إن شاء الله، فضعفت نفوس الناس لأنه السلطان حقيقة، وأولاده، وإن كانوا ملوكاً إلا أنهم يحكمه، والأمر إليه، وهو ملكهم البلاد، فاتفق موته والحال هكذا من مقاتلة العدو.
وكان من جملة الأمراء بمصر أمير يقال له عماد الدين أحمد بن علي، ويعرف بابن المشطوب، وهو من الأكراد الهكارية، وهو أكبر أمير بمصر، وله لفيف كثير، وجميع الأمراء، وأرادوا أن يخلعوا الملك الكامل من الملك ويملكوا أخاه الملك الفائز بن العادل ليصير الحكم إليهم عليه وعلى البلاد، فبلغ الخبر إلى الكامل، ففارق المنزلة ليلاً جريدة، وسار إلى قرية يقال لها أشموم طناح، فنزل عندها، وأصبح العسكر وقد فقدوا سلطانهم، فركب كل إنسان منهم هواه، ولم يقف الأخ على أخيه، ولم يقدروا على أخذ شيء من خيامهم وذخائرهم وأموالهم وأسلحتهم إلا اليسير الذي يخف حمله، وتركوا الباقي بحاله من ميرة، وسلاح، ودواب، وخيام وغير ذلك، ولحقوا بالكامل. وأما الفرنج فإنهم أصبحوا من الغد، فلم يروا من المسلمين أحداً على شاطئ النيل كجاري عادتهم، فبقوا لا يدرون ما الخبر، وإذ قد أتاهم من أخبرهم الخبر على حقيقة، فعبروا حينئذ النيل إلى بر دمياط آمنين بغير منازع ولا ممانع، وكان عبورهم في العشرين من ذي القعدة سنة خمس عشرة وستمائة، فغنموا ما في معسكر المسلمين، فكان عظيماً يعجز العادين. وكان الملك الكامل يفارق الديار المصرية لأنه لم يثق بأحد من عسكره، وكان الفرنج ملكوا الجميع بغير تعب ولا مشقة، فاتفق من لطف الله تعالى بالمسلمين أن الملك المعظم عيسى ابن الملك العادل وصل إلى أخيه الكامل بعد هذه الحركة بيومين، والناس في أمر مريج، فقوي به قلبه، واشتد ظهره، وثبت جنانه، وأقام بمنزلته، وأخرجوا ابن المشطوب إلى الشام، فاتصل بالملك الأشرف وصار من جنده. فلما عبر الفرنج إلى أرض دمياط اجتمعت العرب على اختلاف قبائلها، ونهبوا البلاد المجاورة لدمياط، وقطعوا الطريق، وأفسدوا، وبالغوا في الإفساد، فكانوا أشد على المسلمين من الفرنج، وكان أضر شيء على أهل دمياط أنها لم يكن بها من العسكر أحد لأن السلطان ومن معه من العساكر كانوا عندها يمنعون العدو عنها، فأتتهم هذه الحركة بغتة، فلم يدخلها أحد من العسكر، وكان ذلك من فعل ابن المشطوب، لا جرم لم يمهله الله، وأخذه أخذة رابية، على ما نذكره إن شاء الله. وأحاط الفرنج بدمياط، وقاتلوها براً وبحراً، وعملوا عليهم خندقاً يمنعهم من يريدهم من المسلمين، وهذه كانت عادتهم، وأداموا القتال، واشتد الأمر على أهلها، وتعذرت عليهم الأقوات وغيرها، وسئموا القتال وملازمته، لأن الفرنج كانوا يتناوبون القتال عليهم لكثرتهم، وليس بدمياط من الكثرة ما يجعلون القتال بينهم مناوبة، ومع هذا فقد صبروا صبراً لم يسمع بمثله، وكثر القتل فيهم والجراح والموت والأمراض، ودام الحصار عليهم إلى السابع والعشرين من شعبان سنة ست عشرة وستمائة، فعجز من بقي من أهلها عن الحفظ لقلتهم، وتعذر القوت عندهم، فسلموا البلد إلى الفرنج، في هذا التاريخ، بالأمان، فخرج منهم قوم وأقام آخرون لعجزهم عن الحركة، فتفرقوا أيدي سبا. ذكر ملك المسلمين دمياط من الفرنجلما ملك الفرنج دمياط أقاموا بها، وبثوا سراياهم في كل ما جاورهم من البلاد، ينهبون ويقتلون، فجلا أهلها عنها، وشرعوا في عمارتها وتحصينها، وبالغوا في ذلك حتى إنها بقيت لا ترام. وأما الملك الكامل فإنه أقام بالقرب منهم في أطراف بلاده يحميها منهم. ولما سمع الفرنج في بلادهم بفتح دمياط على أصحابهم أقبلوا إليهم يهرعون من كل فج عميق، وأصبحت دار هجرتهم، وعاد الملك المعظم صاحب دمشق إلى الشام فخرب البيت المقدس، وإنما فعل ذلك لأن الناس كافة خافوا الفرنج، وأشرف الإسلام وجميع أهله وبلاده على خطة خسف في شرق الأرض وغربها: أقبل التتر من المشرق حتى وصلوا إلى نواحي العراق وأذربيجان وأران وغيرها، على ما نذكره إن شاء الله تعالى؛ وأقبل الفرنج من المغرب فملكوا مثل دمياط في الديار المصرية، مع عدم الحصون المانعة بها من الأعداء، وأشرف سائر البلاد بمصر والشام على أن تملك، وخافهم الناس كافة، وصاروا يتوقعون البلاء صباحاً ومساء. وأراد أهل مصر الجلاء عن بلادهم خوفاً من العدو، (ولات حين مناص)، والعدو قد أحاط بهم من كل جانب، ولو مكنهم الكامل من ذلك لتركوا البلاد خاوية على عروشها، وإنا منعوا منه فثبتوا.
وتابع الملك الكامل كتبه إلى أخويه المعظم صاحب دمشق، والملك الأشرف موسى بن العادل، صاحب ديار الجزيرة وأرمينية وغيرهما، يستنجدهما، ويحثهما على الحضور بأنفسهما، فإن لم يكن فيرسلان العساكر إليه، فسار صاحب دمشق إلى الأشرف بنفسه بحران فرآه مشغولاً عن إنجادهم بما دهمه من اختلاف الكلمة عليه، وزوال الطاعة عن كثير ممن كان يطيعه؛ ونحن نذكر ذلك سنة خمس عشرة وستمائة إن شاء الله عند وفاة الملك القاهر، صاحب الموصل، فليطلب من هناك، فعذره، وعاد عنه، وبقي الأمر كذلك مع الفرنج. فأما الملك الأشرف فزال الخلف من بلاده، ورجع الملوك الخارجون عن طاعته إليه، واستقامت له الأمور إلى سنة ثماني عشرة وستمائة؛ والملك الكامل مقابل الفرنج. فلما دخلت سنة ثماني عشرة وستمائة علم بزوال مانع الملك الأشرف عن إنجاده، فأرسل يستنجده وأخاه، صاحب دمشق، فسار صاحب دمشق المعظم إلى الأشرف يحثه على المسير، ففعل، وسار إلى دمشق فيمن معه من العساكر، وأمر الباقين باللحاق به إلى دمشق وأقام بها ينتظرهم، فأشار عليه بعض أمرائه وخواصه بإنفاذ العساكر والعود إلى بلاده خوفاً من اختلاف يحدث بعده، فلم يقبل قولهم، وقال: قد خرجت للجهاد، ولا بد من إتمام ذلك العزم؛ فسار إلى مصر. وكان الفرنج قد ساروا عن دمياط في الفارس والراجل، وقصدوا الملك الكامل، ونزلوا مقابله، بينهما خليج من النيل يسمى بحر أشموم، وهم يرمون بالمنجنيق والجرخ إلى عسكر المسلمين، وقد تيقنوا هم وكل الناس أنهم يملكون الديار المصرية. وأما الأشراف فإنه سار حتى وصل مصر، فلما سمع أخوه الكامل بقربه منهم توجه إليه، فلقيه، واسبتشر هو وسائر المسلمين باجتماعهما، لعل الله يحدث بذلك نصراً وظفراً. وأما الأشرف فإنه سار حتى وصل مصر، فلما سمع أخوه الكامل بقربه منهم توجه إليه، فلقيه، واسبتشر هو وسائر المسلمين باجتماعهما، لعل الله يحدث بذلك نصراً وظفراً. وأما الملك المعظم، صاحب دمشق، فإنه سار أيضاً إلى ديار مصر، وقصد دمياط ظناً منه أن أخويه وعسكريهما قد نازلوها، وقيل بل أخبر في الطريق أن الفرنج قد توجهوا إلى دمياط، فسابقهم إليها ليلقاهم من بين أيديهم، وأخواه من خلفهم، والله أعلم. ولما اجتمع الأشراف بالكامل استقر الأمر بينهما على التقدم إلى خليج من النيل يعرف ببحر المحلة فتقدموا إليه، فقاتلوا الفرنج، وازدادوا قرباً، وتقدمت شواني المسلمين من النيل، وقاتلوا شواني الفرنج، فأخذوا منها ثلاث قطع بمن فيها من الرجال، وما فيها من الأموال والسلاح، ففرح المسلمون بذلك، واسبتشروا، وتفاءلوا، وقويت نفوسهم، واستطالوا على عدوهم. هذا يجري والرسل مترددة بينهم في تقرير قاعدة الصلح، وبذل المسلمون لهم تسليم البيت المقدس، وعسقلان، وطبرية، وصيدا، وجبلة، واللاذقية، وجميع ما فتحه صلاح الدين من الفرنج بالساحل وقد تقدم ذكره ما عدا الكرك، ليسلموا دمياط، فلم يرضوا وطلبوا ثلاثمائة ألف دينار عوضاً عن تخريب القدس ليعمروه بها، فلم يتم بينهم أمر وقالوا: لا بد من الكرك. فبينما الأمر في هذا، وهم يمتنعون، اضطر المسلمون إلى قتالهم، وكان الفرنج لاعتدادهم بنفوسهم لم يستصحبوا معهم ما يقوتهم عدة أيام، ظناً منهم أن العساكر الإسلامية لا تقوم لهم، وأن القرى والسواد جميعه يبقى بأيديهم، ويأخذون منه ما أرادوا من الميرة، لأمر يريده الله تعالى بهم، فعبر طائفة من المسلمين إلى الأرض التي عليها الفرنج، ففجروا النيل، فركب الماء أكثر تلك الأرض، ولم يبق للفرنج جهة يسلكون منها غير جهة واحدة فيها ضيق، فنصب الكامل حينئذ الجسور على النيل، عند أشموم، وعبرت العساكر عليها، فملك الطريق الذي يسلكه الفرنج إن أرادوا العود إلى دمياط، فلم يبق لهم خلاص. واتفق في تلك الحال أنه وصل إليهم مركب كبير للفرنج من أعظم المراكب يسمى مرمة، وحوله عدة حراقات تحميه، والجميع مملوء من الميرة والسلاح، وما يحتاجون إليه، فوقع عليها شواني المسلمين، وقاتلوهم، فظفروا بالمرمة وبما معها من الحراقات وأخذوها، فلما رأى الفرنج ذلك سقط في أيديهم، ورأوا أنهم قد ضلوا الصواب بمفارقة دمياط في أرض يجهلونها.
هذا وعساكر المسلمين محيطة بهم يرمونهم بالنشاب، ويحملون على أطرافهم، فلما اشتد الأمر على الفرنج أحرقوا خيامهم، ومجانيقهم، وأثقالهم، وأرادوا الزحف إلى المسلمين ومقاتلتهم، لعلم يقدرون على العود إلى دمياط، فرأوا ما أملوه بعيداً، وحيل بينهم وبين ما يشتهون، لكثرة الوحل والمياه حولهم، والوجه الذي يقدرون على سلوكه قد ملكه المسلمون. فلما تيقنوا أنهم قد أحيط بهم من سائر جهاتهم، وأن ميرتهم قد تعذر عليهم وصولها، وأن المنايا قد كشرت لهم عن أنيابها، ذلت نفوسهم، وتكسرت صلبانهم، وضل عنهم شيطانهم، فراسلوا الملك الكامل والأشرف يطلبون الأمان ليسلموا دمياط بغير عوض، فبينما المراسلات مترددة إذ أقبل جمع كبير، لهم رهج شديد، وجلبة عظيمة، من جهة دمياط، فظنه المسلمون نجدة أتت للفرنج، فاستشعروا، وإذا هو الملك المعظم، صاحب دمشق، قد وصل إليهم، وكان قد جعل طريقه على دمياط، لما ذكرناه، فاشتدت ظهور المسلمين، وازداد الفرنج خذلاناً وكان قد جعل طرقه على دمياط، لما ذكرناه، فاشتدت ظهور المسلمين، وازداد الفرنج خذلاناً ووهناً، وتمموا الصلح على تسليم دمياط، واستقرت القاعدة والأيمان سابع رجب من سنة ثماني عشرة وستمائة، وانتقل ملوك الفرنج، وكنودهم وقمامصتهم إلى الملك الكامل والأشرف رهائن على تسليم دمياط ملك عكا، ونائب بابا صاحب رومية، وكند ريش، وغيرهم، وعدتهم عشون ملكاً، وراسلوا قسوسهم ورهبانهم إلى دمياط في التسليم، فلم يمتنع من هبا، وسلموها إلى المسلمين تاسع رجب المذكور، وكان يوماً مشهوداً. ومن العجب أن المسلمين لما تسلموها وصلت للفرنج نجدة في البحر، فلو سبقوا المسلمين إليها لامتنعوا من تسليمها، ولكن سبقهم المسلمون ليقضي الله أمراً كان مفعولاً، ولم يبق بها من أهلها إلا آحاد، وتفرقوا أيدي سبا، وبعضهم سار عنها باختياره، وبعضهم مات، وبعضهم أخذه الفرنج. ولما دخلها المسلمون رأوها وقد حصنها الفرنج تحصيناً عظيماً بحيث بقيت لا ترام، ولا يوصل إليها، وأعاد الله، سبحانه وتعالى، الحق إلى نصابه، ورده إلى أربابه، وأعطى المسلمين ظفراً مل يكن في حسابهم، فإنهم كانت غاية أمانيهم أن يسلموا البلاد التي أخذت منهم بالشام ليعيدوا دمياط، فرزقهم الله إعادة دمياط، وبقيت البلاد بأيديهم على حالها، فالله المحمود المشكور على ما أنعم به على الإسلام والمسلمين من كف عادية هذا العدو، وكفاهم شر التتر، على ما نذكره إن شاء الله تعالى. ذكر عدة حوادثفي هذه السنة في المحرم، كانت ببغداد فتنة بين أهل المأمونية وبني أهل باب الأزج بسبب قتل سبع؛ وزاد الشر بينهم، واقتتلوا، فجرح بينهم كثير، فحضر نائب الباب وكفهم عن ذلك، فلم يقبلوا ذلك، وأسمعوه ما يكره، فأرسل من الديوان أمير من مماليك الخليفة، فرد أهل كل محلة إلى محلتهم، وسكنت الفتنة. وفيها كثر الفأر ببلدة دجيل من أعمال بغداد، فكان الإنسان لا يقدر أن يجلس إلا ومعه عصاً يردج الفأر عنه، وكان يرى الكثير منه ظاهراً يتبع بعضه بعضاً. وفيها زادت دجلة زيادة عظيمة لم يشاهد في قديم الزمان مثلها، وأشرفت بغداد على الغرق، فركب الوزير والأمراء والأعيان كافة، وجمعوا الخلق العظيم من العامة وغيرهم لعمل القورج حول البلد، وقلق الناس لذلك، وانزعجوا، وعاينوا الهلاك، وأعدوا السفن لينجوا فيها، وظهر الخليفة للناس وحثهم على العمل؛ وكان مما قال لهم: لو كان يفدى ما أرى بمال أو غيره لفعلت، ولو دفع بحرب لفعلت، ولكن أمر الله لا يرد. ونبع الماء من البلاليع والآبار من الجانب الشرقي، وغرق كثير منه، وغرق مشهد أبي حنيفة، وبعض الرصافة، وجامع المهدي، وقرية الملكية، والكشك، وانقطعت الصلاة بجامع السلطان. وأما الجانب الغربي، فتهدم أكثر القرية، ونهر عيسى، والشطيات، وخربت البساتين، ومشهد باب التبن، ومقبرة أحمد ابن حنبل، والحريم الطاهري، وبعض باب البصرة والدور التي على نهر عيسى، وأكثر محلة قطفتا. وفيها توفي أحمد بن أبي الفضائل عبد المنعم بن أبي البركات محمد بن طاهر ابن سعيد بن فضل الله بن سعيد بن أبي الخير الميهني، الصوفي، أبو الفضل شيخ رباط الخليفة ببغداد، وكان صالحاً من بيت التصوف والصلاح. ثم دخلت سنة خمس عشرة وستمائة ذكر وفاة الملك القاهر وولاية ابنه
نور الدين وما كان من الفتن بسبب موته إلى أن استقرت الأمور في هذه السنة توفي الملك القاهر عز الدين مسعود بن أرسلان شاه بن مسعود ابن مودود بن زنكي بن آقسنقر، صاحب الموصل، ليلة الاثنين لثلاث بقين من شهر ربيع الأول، وكانت ولايته سبع سنين وتسعة أشهر. وكان سبب موته أنه أخذته حمى، ثم فارقته الغد، وبقي يومين موعوكاً، ثم عاودته الحمى مع فيء كثير، وكرب شديد، وقلق متتابع، ثم برد بدنه، وعرق، وبقي كذلك إلى وسط الليل، ثم توفي. وكان كريماً حليماً، قليل الطمع في أموال الرعية، كافاً عن أذى يوصله إليهم، مقبلاً على لذاته كأنما ينهبها ويبادر بها الموت؛ وكن عنده رقة شديدة، ويكثر ذكر الموت. حكى لي بعض من كان يلازمه قال: كنا ليلة، قبل وفاته بنصف شهر، عنده، فقال لي: قد وجدت ضجراً من القعود، فقم بنا نتمشى إلى الباب العمادي؛ قال: فقمنا، فخرج من داره نحو الباب العمادي، فوصل التربة التي عملها لنفسه عند داره، فوقف عندها مفكراً لا يتكلم، ثم قال لي: والله ما نحن في شيء! أليس مصيرنا إلى هاهنا، وندفن تحت الأرض؟ وأطال الحديث في هذا ونحوه، ثم عاد إلى الدار، فقلت له: ألا نمشي إلى الباب العمادي؟ فقال: ما بقي عندي نشاط إلى هذا ولا إلى غيره، ودخل داره وتوفي بعد أيام. وأصيب أهل بلاده بموته، وعظم عليهم فقده، وكان محبوباً إليهم، قريباً من قلوبهم، ففي كل دار لأجله رنة وعويل؛ ولما حضرته الوفاة أوصى بالملك لولده الأكبر نور الدين أرسلان شاه، وعمره حينئذ نحو عشر سنين، وجعل الوصي عليه والمدبر لدولته بدر الدين لؤلؤ، وهو الذي كان يتولى دولة القاهر ودولة أبيه نور الدين قبله، وقد تقدم من أخباره ما يعرف به محله، وسيرد منها أيضاً ما يزيد الناظر بصيرة فيه. فلما قضى نحبه قام بدر الدين بأمر نور الدين، وأجلسه في مملكة أبيه، وأرسل إلى الخليفة يطلب له التقليد والتشريف، وأرسل إلى الملوك، وأصحاب الأطراف المجاورين لهم، يطلب منهم تجديد العهد لنور الدين على القاعدة التي كانت بينهم وبين أبيه، فلم يصبح إلا وقد فرغ من كل ما يحتاج إليه، وجلس للعزاء، وحلف الجند والرعايا، وضبط المملكة من التزلزل والتغير مع صغر السلطان وكثرة الطامعين في الملك، فإنه كان معه في البلد أعمام أبيه، وكان عمه عماد الدين زنكي بن أرسلان شاه بولايته، وهي قلعة عقر الحميدية، يحدث نفسه بالملك، لا يشك في أن الملك يصير إليه بعد أخيه، فرقع بدر الدين ذلك الخرق، ورتق ذلك الفتق، وتابع الإحسان والخلع على الناس كافة، وغير ثياب الحداد عنهم، فلم يخص بذلك شريفاً دون مشروف، ولا كبيراً دون صغير، وأحسن السيرة، وجلس لكف ظلامات الناس، وإنضاف بعضهم من بعض. وبعد أيام وصل التقليد من الخليفة لنور الدين بالولاية، ولبدر الدين بالنظر في أمر دولته، والتشريفات لهما أيضاً، وأتتهما رسل الملوك بالتعزية، وبذل ما طلب منهم من العهود، واستقرت القواعد لهما. ذكر ملك عماد الدين زنكي قلاع الهكارية والزوزانقد ذكرنا عند وفاة نور الدين سنة سبع وستمائة أنه أعطى ولده الأصغر زنكي قلعتي العقر وشوش، وهما بالقرب من الموصل، فكان تارة يكون بالموصل، وتارة بولايته، متجنياً لكثرة تلونه، وكان بقلعة العمادية مستحفظ من مماليك جده عز الدين مسعود بن مودود، قيل إنه جرى له منع زنكي مراسلات في معنى تسليم العمادية إليه، فنمى الخبر بذلك إلى بدر الدين، فبادره بالعزل مع أمير كبير وجماعة من الجند لم يمكنه الامتناع، وسلم القلعة إلى نائب بدر الدين كذلك، وجعل بدر الدين في غير العمادية من القلاع نواباً له. وكان نور الدين بن القاهر لا يزال مريضاً من جروح كانت به، وغيرها من الأمراض، وكان يبقى المدة الطويلة لا يركب، ولا يظهر للناس، فأرسل زنكي إلى من بالعمادية من الجند يقول: إن ابن أخي توفي، ويريد بدر الدين أن يملك البلاد، وأنا أحق بملك آبائي وأجدادي؛ فلم يزل حتى استدعاه الجند منها، وسلموا إليه، ثامن عشر رمضان سنة خمس عشرة وستمائة، وقبضوا على النائب البدري وعلى من معه.
فوصل الخبر إلى بدر الدين ليلاً فجد في الأمر، ونادى في العسكر لوقته بالرحيل، فساروا مجدين إلى العمادية وبها زنكي ليحصروه فيها، فلم يطلع الصبح إلا وقد فرغ من تسيير العساكر، فساروا إلى العمادية وحصروها، وكان الزمان شتاء، والبرد شديد، والثلج هناك كثير، فلم يتمكنوا من قتال من بها، لكنهم أقاموا يحصرونها، وقام مظفر الدين كوكبري بن زين الدين، صاحب إربل، في نصر عماد الدين، وتجرد لمساعدته، فراسله بدر الدين يذكره الأيمان والعهود التي من جملتها أنه لا يتعرض إلى شيء من أعمال الموصل، ومنها قلاع الهكارية والزوزان بأسمائها، ومتى تعرض إليها أحد من الناس، من كان، منعه بنفسه وعساكره، وأعان نور الدين وبدر الدين على منعه، ويطالبه بالوفاء بها. ثم نزل عن هذا، ورضي منه بالسكوت لا لهم ولا عليهم، فلم يفعل، وأظهر معاضدة عماد الدين زنكي، فحينئذ لم يمكن مكاثرة زنكي بالرجال والعساكر لقرب هذا الخصم من الموصل وأعمالها، إلا أن العسكر البدري محاصر للعمادية وبها زنكي. ثم إن بعض الأمراء من عسكر الموصل، ممن لا علم له بالحرب، وكان شجاعاً وهو جديد الإمارة أراد أن يظهر شجاعته ليزداد بها تقدماً، أشار على من هناك من العسكر بالتقدم إليها ومباشرتا بالقتال، وكانوا قد تأخروا عنها شيئاً يسيراً لشدة البرد والثلج، فلم يوافقوه، وقبحوا رأيه، فتركهم ورحل متقدماً إليهم ليلاً، فاضطروا إلى اتباعه خوفاً عليه من أذى يصيبه ومن معه، فساروا إليه على غير تعبئة لضيق المسلك، ولأنه أعجلهم عن ذلك، وحكم الثلج عليهم أيضاً. فسمع زنكي ومن مه، فنزلوا، ولقوا أوائل الناس، وأهل مكة أخبر بشعابها، فلم يثبتوا لهم، وانهزموا وعادوا إلى منزلتهم، ولم يقف العسكر عليهم، فاضطروا إلى العود، فلما عادوا راسل زنكي باقي قلاع الهكارية والزوزان، واستدعاهم إلى طاعته، فأجابوه، وسلموا إليه، فجعل فيها الولاة، وتسلمها وحكم فيها. ذكر اتفاق بدر الدين مع الملك الأشرفلما رأى بدر الدين خروج القلاع عن يده، واتفاق مظفر الدين وعماد الدين عليه، ولم ينفع معهما اللين ولا الشدة، وإنهما لا يزالان يسعيان في أخذ بلاده، ويتعرضان إلى أطرافها بالنهب والأذى، أرسل إلى الملك الأشرف موسى ابن الملك العادل، وهو صاحب ديار الجزيرة كلها، إلا القليل، وصاحب خلاط وبلادها، يطلب منه الموافقة والمعاضدة، وانتمى إليه، وصار في طاعته منخرطاً في سلك موافقته، فأجابه الأشرف بالقبول لذلك والفرح به والاستبشار، وبذل له المساعدة والمعاضدة، والمحاربة دونه، واستعادة ما أخذ من القلاع التي كانت له. وكان الملك الأشرف حينئذ بحلب، نازلاً بظاهرها، لما ذكرناه من تعرض كيكاوس، ملك بلاد الروم التي بيد المسلمين، قونية وغيرها، إلى أعمالها، وملكه بعض قلاعها، فأرسل إلى مظفر الدين يقبح هذه الحالة، ويقول له: إن هذه القاعدة تقررت بين جميعنا بحضور رسلك، وإننا نكون على الناكث إلى أن يرجع الحق، ولا بد من إعادة ما أخذ من بلد الموصل لندوم على اليمين التي استقرت بيننا، فإن امتنعت، وأصررت على معاضدة زنكي ونصرته، فأنا أجيء بنفسي وعساكري، وأقصد بلادك وغيرها، وأسترد ما أخذتموه وأعيده إلى أصحابه، والمصلحة أنك توافق، وتعود إلى الحق، لنجعل شغلنا جمع العساكر، وقصد الديار المصرية، وإجلاء الفرنج عنها قبل أن يعظم خطبهم ويستطير شرهم. | |
|
 | |
الشيخ عودة الشيخ عودة

عدد المساهمات : 1748 تاريخ التسجيل : 28/09/2008 العمر : 73
 | موضوع: رد: كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير الخميس فبراير 27, 2014 7:02 am | |
| فلم تحصل الإجابة منه إلى شيء من ذلك؛ وكان ناصر الدين محمود، صاحب الحصن وآمد، قد امتنع عن موافقة الأشرف ذلك جهز عسكراً وسيره إلى نصيبين نجدة لبدر الدين إن احتاج إليهم. ذكر انهزام عماد الدين من العسكر البدريلما عاد العسكر البدري من حصار العمادية وبها زنكي، كما ذكرناه، قويت نفسه، وفارقها، وعاد إلى قلعة العقر التي له ليتسلط على أعمال الموصل بالصحراء، فإن بلد الجبل كان قد فرغ منه، وأمده مظفر الدين بطائفة كثيرة من العسكر.
فلما اتصل الخبر ببدر الدين سير طائفة من عسكره إلى أطراف بلد الموصل يحمونها، فأقاموا على أربعة فراسخ من الموصل، ثم إنهم اتفقوا بينهم على المسير إلى زنكي، وهو عند العقر في عسكره، ومحاربته، ففعلوا ذلك، ولم يأخذوا أمر بدر الدين بل أعلموه بمسيرهم جريدة ليس معهم إلا سلاحهم، ودواب يقاتلون عليها، فساروا ليلتهم، وصبحوا زنكي بكرة الأحد لأربع بقين من المحرم من سنة ست عشرة وستمائة، فالتقوا واقتتلوا تحت العقر، وعظم الخطب بينهم، فأنزل الله نصره على العسكر البدري، فانهزم عماد الدين وعسكره، وسار إلى إربل منهزماً، وعاد العسكر البدري إلى منزلته التي كان بها، وحضرت الرسل من الخليفة الناصر لدين الله ومن الملك الأشرف في تجديد الصلح، فاصطلحوا، وتحالفوا بحضور الرسل. ذكر وفاة نور الدين صاحب الموصل وملك أخيه ولما تقرر الصلح توفي نور الدين أرسلان شاه ابن مالك القاهرة، صاحب الموصل، وكان لا يزال مريضاً بعدة أمراض، فرتب بدر الدين في الملك بعده أخاه ناصر الدين محموداً وله من العمر نحو ثلاث سنين، ولم يكن للقاهر ولد غيره، وحلف له الجند، وركبه، فطابت نفوس الناس، لأن نور الدين كان لا يقدر على الركوب لمرضه، فلما ركبوا هذا علموا أن لهم سلطاناً من البيت الأتابكي، فاستقروا واطمأنوا، وسكن كثير من الشغب بسببه. ذكر انهزام بدر الدين من مظفر الدينلما توفي نور الدين، وملك أخوه ناصر الدين، تجدد لمظفر الدين ولعماد الدين طمع لصغر سن ناصر الدين، فجمعا الرجال، وتجهز للحركة، فظهر ذلك، وقصد بعض أصحابهم طرف ولاية الموصل بالنهب والفساد. وكان بدر الدين قد سير ولده الأكبر في جمع صالح من العسكر إلى الملك الأشرف بحلب، نجدة له بسبب اجتماع الفرنج بمصر، وهو يريد أن يدخل بلاد الفرنج التي بساحل الشام ينهبها، ويخربها، ليعود بعض من بدمياط إلى بلادهم، فيخف الأمر على الملك الكامل، صاحب مصر؛ فلما رأى بدر الدين تحرك مظفر الدين وعماد الدين، وأن بعض عسكره بالشام، أرسل إلى عسكر الملك الأشرف الذي بنصيبين يستدعيهم ليعتضد بهم، وكان المقدم عليهم مملوك الأشرف، اسمه أيبك، فساروا إلى الموصل رابع رجب سنة ست عشرة. فلما رآهم بدر الدين استقلهم لأنهم كانوا أقل من العسكر الذي له بالشام، أو مثلهم، فألح أيبك على عبور دجلة وقصد بلاد إربل، فمنعه بدر الدين من ذلك، وأمره بالاستراحة، فنزل بظاهر الموصل أياماً، وأصر على عبور دجلة، فعبرها بدر الدين موافقة له، ونزلوا على فرسخ من الموصل، شرقي دجلة، فلما سمع مظفر الدين ذلك جمع عسكره وسار إليهم ومعه زنكي، فعبر الزاب وسبق خبره، فسمع به بدر الدين فعبأ أصحابه، وجعل أيبك في الجالشية، ومعه شجعان أصحابه، وأكثر معه منهم، بحيث إنه لم يبق معه إلا اليسير، وجعل في ميسرته أميراً كبيراً، وطلب الانتقال عنها إلى الميمنة، فنقله. فلما كان وقت العشاء الآخرة أعاد ذلك الأمير الطلب بالانتقال من الميمنة إلى الميسرة، والخصم بالقرب منهم، فمنعه بدر الدين، وقال: متى انتقلت أنت ومن معك في هذا الليل، ربما ظنه الناس هزيمة فلا يقف أحد؛ فأقام بمكانه، وهو في جمع كبير من العسكر، فلما انتصف الليل سار أيبك، فأمره بدر الدين بالمقام إلى الصبح لقرب العدو منهم، فلم يقبل لجهله بالحرب، فاضطر الناس لاتباعه، فتقطعوا في الليل والظلمة، والتقوا هم والخصم في العشرين من رجب على ثلاثة فراسخ من الموصل، فأما عز الدين فإنه تيامن والتحق بالميمنة، وحمل في اطلابه هو والميمنة على ميسرة مظفر الدين، فهزمها وبها زنكي. وكان الأمير الذي انتقل إلى الميمنة قد أبعد عنها، فلم يقاتل ، فلما رأى أيبك قد هزم الميسرة تبعها والتحق به وانهزمت ميسرة بدر الدين فبقي هو في النفر الذين معه، وتقدم إليه مظفر الدين فيمن معه في القلب لم يتفرقوا، فلم يمكنه الوقوف، فعاد إلى الموصل، وعبر دجلة إلى القلعة، ونزل منها إلى البلد؛ فلما رآه الناس فرحوا به، وساروا معه، وقصد باب الجسر، والعدو بإزائه، بينهما دجلة، فنزل مظفر الدين فيمن سلم معه من عسكره وراء تل حصن نينوى، فأقام ثلاثة أيام.
فلما رأى اجتماع العسكر البدري بالموصل، وأنهم لم يفقد منهم إلا اليسير، وبلغه الخبر أن بدر الدين يريد العبور إليه ليلاً بالفارس والراجل، على الجسور وفي السفن، ويكبسه، رحل ليلاً من غير أن يضرب كوساً أو بوقاً، وعادوا نحو إربل، فلما عبروا الزاب نزلوا، ثم جاءت الرسل وسعوا في الصلح، فاصطلحوا على أن كل من بيده شيء هو له، وتقررت العهود والأيمان على ذلك. ذكر ملك عماد الدين قلعة كواشى وملك بدر الدين تل يعفر وملك الملك الأشرف سنجار كواشى هذه من أحصن قلا الموصل وأعلاها وأمنعها، وكان الجند الذين بها، لما رأوا ما فعل أهل العمادية وغيرها من التسليم إلى زنكي، وأنهم قد تحكموا في القلاع، لا يقدر أحد على الحكم عليهم، أحبوا أن يكونا كذلك، فأخرجوا نواب بدر الدين عنهم، وامتنعوا بها، وكانت رهائنهم بالموصل، وهم يظهرون طاعة بدر الدين، ويبطنون المخالفة، فترددت الرسل في عودهم إلى الطاعة، فلم يفعلوا، وراسلوا زنكي في المجيء إليهم، فسار إليهم وتسلم القلعة، وأقام عندهم، فرسول مظفر الدين يذكر بالأيمان القريبة العهد، ويطلب منه إعادة كواشى، فلم تقع الإجابة إلى ذلك، فأرسل حينئذ بدر الدين إلى الملك الأشرف، وهو بحلب، يستنجده، فسار وعبر الفرات إلى حران، واختلفت عليه الأمور من عدة جهات منعته من سرعة السير. وسبب هذا الاختلاف أن مظفر الدين كان يراسل الملوك أصحاب الأطراف ليستميلهم، ويحسن لهم الخروج على الأشرف، ويخوفهم منه، إن خلا وجهه، فأجابه إلى ذلك عز الدين كيكاوس بن كيخسرو بن قلج أرسلان، صاحب بلاد الروم، وصاحب آمد، وحصن كيفا، وصاحب ماردين، واتفقوا كلهم على طاعة كيكاوس، وخطبوا له في بلادهم، ونحن نذكر ما كان بينه وبين الأشراف عند منبج لما قصد بلاد حلب، فهو موغر الصدر عليه. فاتفق أن كيكاوس مات في ذلك الوقت، وكفي الأشرف وبدر الدين شره، ولا جد إلا ما أقعص عنك الرجال، وكان مظفر الدين قد راسل جماعة من الأمراء الذين مع الأشرف، واستمالهم، فأجابوه، منهم: أحمد بن علي بن المشطوب، الذي ذكرنا أنه فعل على دمياط ما فعل، وهو أكبر أمير معه، ووافقه غيره، منهم: عز الدين محمد بن بدر الحميدي وغيرهما، وفارقوا الأشرف، ونزلوا بدنيسر، تحت ماردين، ليجتمعوا مع صاحب آمد، ويمنعوا الأشراف من العبور إلى الموصل لمساعدة بدر الدين. فلما اجتمعوا هناك عاد صاحب آمد إلى موافقة الأشرف، وفارقهم، واستقر الصلح بينهما، وسلم إليه الأشرف مدينة حاني، وجبل جور، وضمن له أخذ دارا وتسليمها إليه، فلما فارقهم صاحب آمد انحل أمرهم، فاضطر بعض أولئك الأمراء إلى العود إلى طاعة الأشرف، وبقي ابن المشطوب وحده، فسار إلى نصيبين ليسير إلى إربل، فخرج إليه شحنة نصيبين فيمن عنده من الجند، فاقتتلوا، فانهزم ابن المشطوب، وتفرق من معه من الجمع، ومضى منهزماً، فاجتاز بطرف بلد سنجار، فسير إليه صاحبها فروخ شاه بن زنكي ابن مودود بن زنكي عسكراً فهزموه وأخذوه أسيراً وحملوه إلى سنجار، وكان صاحبها موافقاً للأشرف وبدر الدين. فلما صار عند ابن المشطوب حسن عنده مخالفة الأشرف، فأجابه إلى ذلك وأطلقه، فاجتمع معه من يريد الفساد، فقصدوا البقعا من أعمال الموصل، ونهبوا فيها عدة قرى، وعادوا إلى سنجار، ثم ساروا وهو معهم إلى تل يعفر، وهي لصاحب سنجار، ليقصدوا بلد الموصل وينهبوا في تلك الناحية، فلما سمع بدر الدين بذلك سير إليه عسكراً، فقاتلوهم، فمضى منهزماً، وصعد إلى تل يعفر، واحتمى بها منعم، ونازلوه وحصروه فيها، فسار بدر الدين من الموصل إليه يوم الثلاثاء لتسع بقين من ربيع الأول سنة سبع عشرة وستمائة، وجد في حصره، وزحف إليها مرة بعد أخرى، فملكها سابع عشر ربيع الآخر من هذه السنة، وأخذ ابن المشطوب معه إلى الموصل فسجنه بها، ثم أخذه منه الأشرف فسجنه بحران إلى أن توفي في ربيع الآخر سنة تسع عشرة وستمائة، ولقاه الله عقوبة ما صنع بالمسلمين بدمياط.
وأما الملك الأشرف، فإنه لما أطاعه صاحب الحصن وآمد، وتفرق الأمراء عنه كما ذكرناه، رحل من حران إلى دنيسر، فنزل علها، واستولى على بلد ماردين، وشحن عليه، وأقطعه، ومنع الميرة عن ماردين، وحضر معه صاحب آمد وترددت الرسل بينه وبين صاحب ماردين في الصلح، فاصطلحوا على أن يأخذ الأشرف رأس عين، وكان هو قد أقطعها لصاحب ماردين، ويأخذ منه أيضاً ثلاثين ألف دينار، ويأخذ منه صاحب آمد الموزر، من بلد شبختان. فلما تم الصلح سار الأشرف من دنيسر إلى نصيبين يريد الموصل، فبينما هو في الطريق لقيه رسل صاحب سنجار يبذل تسليمها إليه، ويطلب العوض عنها مدينة الرقة. وكان السبب في ذلك أخذ تل يعفر منه، فانخلع قلبه، وانضاف إلى ذلك أن ثقاته ونصحاءه خانوه، وزادوه رعباً وخوفاً، لأنه تهددهم، فتغدوا به قبل أن يتعشى بهم، ولأنه قطع رحمه، وقتل أخاه الذي ملك سنجار بعد أبيه؛ وقتله كما نذكره إن شاء الله، وملكها، فلقاه الله سوء فعله، ولم يمتنعه بها، فلما تيقن رحيل الأشرف تحير في أمره، فأرسل في التسليم إليه، فأجابه الأشرف إلى العوض، وسلم إليه الرقة، وتسلم سنجار مستهل جمادى الأولى سنة سبع عشرة وستمائة، وفارقها صاحبها وإخوته بأهليهم وأموالهم، وكان هذا آخر ملوك البيت الأتابكي بسنجار، فسبحا الحي الدائم الذي ليس لملكه آخر. وكان مدة ملكهم لها أربعاً وتسعين سنة، وهذا دأب الدنيا بأبنائها، فتعساً لها من دار ما أغدرها بأهلها! ذكر وصول الأشرف إلى الموصل والصلح مع مظفر الدين لما ملك الملك الأشرف سنجار سار يري الموصل ليجتاز منها، فقدم بين يديه عساكره، فكان يصل كل يوم منهم جمع كثير، ثم وصل هو في آخرهم يوم الثلاثاء تاسع عش جمادى الأولى من السنة المذكورة، وكان يوم وصوله مشهوداً، وأتاه رسل الخليفة ومظفر الدين في الصلح، وبذل تسليم القلاع المأخوذة جميعها إلى بدر الدين، ما عدا قلعة العمادية فإنها تبقى بيد زنكي، وإن المصلحة قبول هذا لتزول الفتن، ويقع الاشتغال بجهاد الفرنج. وطال الحديث في ذلك نحو شهرين، ثم رحل الأشرف يريد مظفر الدين صاحب إربل، فوصل إلى قرية السلامية، بالقرب من نهر الزاب، وكان مظفر الدين نازلاً عليها من جانب إربل، فأعاد الرسل، وان العسكر قد طال بيكاره، والناس قد ضجروا، وناصر الدين صاحب آمد يميل إلى مظفر الدين، فأشار بالإجابة إلى ما بذل، وأعانه عليه غيره، فوقعت الإجابة إليه، واصطلحوا على ذلك، وجعل لتسليمها أجل، وحمل زنكي إلى الملك الأشرف يكون عنده رهينة إلى حين تسليم القلاع. وسملت قلعة العقر، وقلعة شوش أيضاً، وهما لزنكي، إلى نواب الأشرف، رهناً على تسليم ما استقر من القلاع، فإذا سلمت أطلب زنكي، وأعيد عليه قلعة العقر، وقلعة شوس، وحفوا على هذا، وسلم الأشرف زنكي القلعتين وعاد إلى سنجار، وكان رحيله عن الموصل ثاني شهر رمضان من سنة سبع عشرة وستمائة، فأرسلوا إلى القلاع لتسلم إلى نواب بدر الدين، فلم يسلم إليه غير قلعة جل صورا، من أعمال الهكارية، وأما باقي القلاع فإن جندها أظهروا الامتناع من ذلك، ومضى الأجل ولم يسلم غير جل صورا. ولزم عماد الدين زنكي لشهاب الدين غازي ابن الملك العادل، وخدمه، وتقرب إليه، فاستعطف له أخاه الملك الأشرف، فمال إليه وأطلقه، وأزال نوابه من قلعة العقر وقلعة شوش، وسلمهما إليه. وبلغ بدر الدين عن الملك الأشرف ميل إلى قلعة تل يعفر، وإنها كانت لسنجار من قديم الزمان وحديثه وطال الحديث في ذلك، فسلمها إليه بدر الدين. ذكر عود قلاع الهكارية والزوزان إلى بدر الدينلما ملك زنكي قلاع الهكارية والزوزان لم يفعل مع أهلها ما ظنوه من الإحسان والإنعام، بل فعل ضده، وضيق عليهم، وكان يبلغهم أفعال بدر الدين مع جنده ورعاياه، وإحسانه إليهم، وبذله الأموال لهم، وكانوا يريدون العود إليه، ويمنعهم الخوف منه لما أسلفوه من ذلك، فلما كان الآن أعلنوا بما فعل معهم، فأرسلوا إلى بدر الدين في المحرم سنة ثماني عشرة وستمائة في التسليم إليه، وطلبوا منه اليمين، والعفو عنهم، وذكروا شيئاً من إقطاع يكون لهم، فأجابهم إلى ذلك، وأرسل إلى الملك الأشرف يستأذنه في ذلك، فلم يأذن له.
وعاد زنكي من عند الأشرف، فجمع جموعاً، وحصر قلعة العمادية، فلم يبلغ منهم غرضاً، وأعادوا مراسلة بدر الدين في التسليم إليه، فكتب إلى الملك الأشرف في المعنى، وبذل هل قلعة جديدة نصيبين، وولاية بني النهرين ليأذن له في أخذها، فأذن له، فأرسل إليها كلها النواب وتسلموها، وأحسن إلى أهلها، ورحل زنكي عنها، ووفى له بدر الدين بما بذله لهم. فلما سمع جند باقي القلاع بما فعلوا وما وصلهم من الإحسان والزيادة، رغبوا كلهم في التسليم إليه، فسير إليهم النواب، واتفقت كلمة أهلها على طاعته والانقياد إليه؛ والعجب أن العساكر اجتمعت من الشام، والجزيرة، وديار بكر، وخلاط، وغيرها، في استعادة هذه القلاع، فلم يقدروا على ذلك، فلما تفرقوا حضر أهلها وسألوا أن تؤخذ منهم، فعادت صفواً عفواً بغير منة، ولقد أحسن من قال: لا سهل إلا ما جعلت سهلاً ... وإن تشأ تجعل بحزن وحلا فتبارك الله الفعال لما يريد، لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، وهو على كل شيء قدير. ذكر قصد كيكاوس ولاية حلب وطاعة صاحبها للأشرف وانهزام كيكاوس في هذه السنة سار عز الدين كيكاوس بن كيخسرو ملك الروم إلى ولاية حلب، قصداً للتغلب عليها، ومعه الأفضل بن صلاح الدين يوسف. وسبب ذلك أنه كان بحلب رجلان فيما شر كثير وسعاية بالناس، فكانا ينقلان إلى صاحبها الملك الظاهر بن صلاح الدين عن رعيته، فأوغرا صدره، فلقي الناس منهما شدة؛ فلما توفي الظاهر وولي الأمر شهاب الدين طغرل أبعدهما وغيرهما ممن يفعل مثل فعلهما، وسد هذا الباب على فاعله، ولم يطرق إليه أحداً من أهله؛ فلما رأى الرجلان كساد سوقهما لزما بيوتهما، وثار بهما الناس، وآذوهما، وتهددوهما لما كانا أسلفاه من الشر، فخافا، ففارقا حلب، وقصدا كيكاوس فأطمعاه فيها، وقررا في نفسه أنه متى قصدها لا تثبت بين يديه، وأنه يملكها، ويهون عليه ملك ما بعدها. فلما عزم على ذلك أشار عليه ذوو الرأي من أصحابه، وقالوا له: لا يتم لك هذا إلا بأن يكون معك أحد من بيت أيوب ليسهل على أهل البلاد وجندها الانقياد إليه؛ وهذا الأفضل بن صلاح الدين هو في طاعتك، والمصلحة أنك تستصحبه معك، وتقرر بينكما قاعدة فيما تفتحانه من البلاد، فمتى كان معك أطاعك الناس وسهل عليك ما تريد. فأحضر الأفضل من سميساط إليه، وأكرمه وحمل إليه شيئاً كثيراً من الخيل والخيام والسلاح وغير ذلك، واستقرت القواعد بينهما أن يكون ما يفتحه نم حلب وأعمالها للأفضل، وهو في طاعة كيكاوس، والخطبة له في ذلك أجمع، ثم يقصدون ديار الجزيرة، فما يفتحونه مما بيد الملك الأشرف مثل: حران والرها من البلاد الجزرية، تكون لكيكاوس. وجرت الأيمان على ذلك، وجمعوا العساكر وساروا، فملكوا قلعة رغبان، فتسلمها الأفضل، فمال الناس حينئذ إليهما. ثم سارا إلى قلعة تل باشر، وفيها صاحبها ولد بدر الدين دلدرم الياروقي، فحصروه، وضيقوا عليه، وملكوها منه، فأخذها كيكاوس لنفسه، ولم يسلمها إلى الأفضل، فاستشعر الأفضل من ذلك، وقال: هذا أول الغدر؛ وخاف أنه إن ملك حلب يفعل به هكذا، فلا يحصل إلا أن يكون قد قلع بيته لغيره،، ففترت نيته، وأعرض عما كان يفعله؛ وكذلك أيضاً أهل البلاد، فكانوا يظنون أن الأفضل يملكها، فيسهل عليهم الأمر، فلما رأوا ضد ذلك وقفوا. وأما شهاب الدين أتابك ولد الظاهر، صاحب حلب، فإنه ملازمه قلعة حلب لا ينزل منها، ولا يفارقها البتة، وهذه كانت عادته مذ مات الظاهر، خوفاً من ثائر يثور به، فلما حدث هذا الأمر خاف أن يحصروه، وربما سلم أهل البلد والجند المدينة إلى الأفضل لميلهم إليه، فأرسل إلى الملك الأشرف ابن الملك العادل، صاحب الديار الجزرية وخلاط وغيرها، يستدعيه إليه لتكون طاعتهم له، ويخطبون له، ويجعل السكة باسمه، ويأخذ من أعمال حلب ما اختار، ولأن ولد الظاهر هو ابن أخته، فأجاب إلى ذلك، وسار إليهم في عساكره التي عنده، وأرسل إلى الباقين يطلبهم إليه، وسره ذلك للمصلحة العامة لجميعهم، وأحضر إليه العرب من طيء وغيرهم، ونزل بظاهر حلب.
ولما أخذ كيكاوس تل باشر كان الأفضل يشير بمعاجلة حلب قبل اجتماع العساكر بها، وقبل أن يحتاطوا ويتجهزوا، فعاد عن ذلك، وصار يقول: الرأي أننا نقصد منبج وغيرها لئلا يبقى لهم وراء ظهورنا شيء، قصداً للتمادي ومرور الزمان في لا شيء؛ فتوجهوا من تل باشر إلى جهة منبج، وتقدم الأشرف نحوهم، وسارت العرب في مقدمته؛ وكان طائفة من عسكر كيكاوس، نحو ألف فارس، قد سبقت مقدمته له، فالتقوا هم والعرب ومن معهم من العسكر الأشرفي، فاقتتلوا، فانهزم عسكر كيكاوس، وعادوا إليه منهزمين، وأكثر العرب الأسر منهم والنهب لجودة خيلهم ودبر خيل الروم. فلما وصل إليه أصحابه منهزمين لم يثبت، بل ولى على أعقابه يطوي المراحل إلى بلاده خائفاً يترقب. فلما وصل إلى أطرافها أقام. وإنما فعل هذا لأنه صبي غر لا معرفة له بالحرب، وإلا، فالعساكر ما برحت تقع مقدماتها بعضها على بعض، فسار حينئذ الأشرف، فملك رعبان، وحصر تل باشر، وبها جمع من عسكر كيكاوس، فقاتلوه حتى غلبوا، فأخذت القلعة منهم، وأطلقهم الأشرف، فلما وصولا إلى كيكاوس جعلهم في دار وأحرقها عليهم، فهلكوا، فعظم ذلك على الناس كافة، واستقبحوه، واستضعفوه، لا جرم لم يمهله الله تعالى لعدم الرحمة في قلبه، ومات عقيب هذه الحادثة. وسلم الأشرف تل باشر وغيرها من بلد حلب إلى شهاب الدين أتابك، صاحب حلب، وكان عازماً على اتباع كيكاوس، ودخول بلاده، فأتاه الخبر بوفاة أبيه الملك العادل، فاقتضت المصلحة العود إلى حلب، لأن الفرنج بديار مصر، ومثل ذلك السلطان العظيم إذا توفي ربما جرى خلل في البلاد لا تعرف العاقبة فيه، فعاد إليها، وكفي كل منهما أذى صاحبه. ذكر وفاة الملك العادل وملك أولاده بعدهتوفي الملك العادل أبو بكر بن أيوب سابع جمادى الآخرة من سنة خمس عشرة وستمائة؛ وقد ذكرنا ابتداء دولتهم عند ملك عمه أسد الدين شيركوه ديار مصر سنة أربع وستين وخمسمائة؛ ولما ملك أخوه صلاح الدين يوسف بن أيوب ديار مصر، بعد عمه، وسار إلى الشام استخلفه بمصر ثقة به، واعتماداً عليه، وعلماً بما هو عليه من توفر العقل وحسن السيرة. فلما توفي أخوه صلاح الدين ملك دمشق وديار مصر، كما ذكرناه، وبقي مالكاً للبلاد إلى الآن، فلما ظهر الفرنج، كما ذكرناه سنة أربع عشرة وستمائة، قصد هو مرج الصفر، فلما سار الفرنج إلى ديار مصر انتقل هو إلى عالقين، فأقام به، ومرض، وتوفي، وحمل إلى دمشق، فدفن بالتربة التي له بها. وكان عاقلاً، ذا رأي سديد، ومكر شديد، وخديعة، صبوراً حليماً، ذا أناة، يسمع ما يكره، ويغضي عليه حتى كأنه لم يسمعه، كثير الحرج وقت الحاجة لا يقف في شيء وإذا لم تكن حاجة فلا. وكان عمره خمساً وسبعين سنة وشهوراً لأن مولده كان في المحرم من سنة أربعين وخمسمائة، وملك دمشق في شعبان سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة من الأفضل ابن أخيه، وملك مصر في ربيع الآخر من سنة ست وتسعين منه أيضاً. ومن أعجب ما رأيت من منافاة الطوالع أنه لم يملك الأفضل مملكة قط إلا وأخذها منه عمه العادل، فأول ذلك أن صلاح الدين أقطع ابنه الأفضل حران، والها، وميافارقين، سنة ست وثمانين، بعد وفاة تقي الدين، فسار إليها، فلما وصل إلى حلب أرسل أبوه الملك العادل بعده، فرده من حلب، وأخذ هذه البلاد منه. ثم ملك الأفضل بعد وفاة أبيه مدينة دمشق فأخذها منه؛ ثم ملك مصر بعد وفاة أخيه الملك العزيز فأخذها أيضاً منه، ثم ملك صرخد فأخذها منه. وأعجب من هذا أنني رأيت بالبيت المقدس سارية من الرخام ملقاة في بيعة صهيون، ليس مثلها، فقال القس الذي بالبيعة: هذه كان قد أخذها الملك الأفضل لينقلها إلى دمشق، ثم إن العادل أخذها بعد ذلك من الأفضل؛ طلبها منه فأخذها. وهذا غاية، وهو من أعجب ما يحكى.
وكان العادل قد قسم البلاد في حياته بني أولاده، فجعل بمصل ملك الكامل محمداً، وبدمشق، والقدس، وطبرية، والأردن والكرك وغيرها من الحصون المجاورة لها، ابنه المعظم عيسى؛ وجعل بعض ديار الجزيرة وميافارقين وخلاط وأعمالها لابنه الملك الأشرف موسى، وأعطى الرها لولده شهاب الدين غازي، وأعطى قلعة جعبر لولده الحافظ أرسلان شاه؛ فلما توفي ثبت كل منهم في المملكة التي أعطاه أبوه، واتفقوا اتفاقاً حسناً لم يجر بنيهم من الاختلاف ما جرت العادة أن يجري بين أولاد الملوك بعد آبائهم، بل كانوا كالنفس الواحدة، كل منهم يثق بالآخر بحيث يحضر عنده منفرداً من عسكره ولا يخافه، فلا جرم زاد ملكهم، ورأوا من نفاذ الأمر والحكم ما لم يره أبوهم. ولعمري إنهم نعم الملوك، فيهم الحلم، والجهاد، والذب عن الإسلام، وفي نوبة دمياط كفاية؛ وأما الملك الأشرف فليس للمال عنده محل، بل يمطره مطراً كثيراً لعفته عن أموال الرعية، دائم الإحسان، لا يسمع سعاية ساع. ذكر عدة حوادثفي هذه السنة، في ذي القعدة، رحل الملك الكامل بن العادل عن أرض دمياط، لأنه بلغه أن جماعة من الأمراء قد اجتمعوا على تمليك أخيه الفائز عوضه، فخافهم، ففارق منزلته، فانتقل الفرنج إليها، وحصروا حينئذ دمياط براً وبحراً، وتمكنوا من ذلك، وقد تقدم مستقضى سنة أربع عشرة وستمائة. وفيها، في المحرم، توفي شرف الدين محمد بن علوان بن مهاجر، الفقيه الشافعين وكان مدرساً في عدة مدارس بالموصل، وكان صالحاً كثير الخير والدين، سليم القلب، رحمه الله. وفيها توفي عز الدين نجاح الدين الشرابي خاص الخليفة، وأقرب الناس إليه، وكان الحاكم في دولته، كثير العدل والإحسان والمعروف والعصبية للناس؛ وأما عقله وتدبيره فإليه كانت النهاية وبه يضرب المثل. وفيها توفي علي بن نصر بن هرون أبو الحسن الحلي، النحوي، الملقب بالحجة، قرأ على ابن الخشاب وغيره. ثم دخلت سنة ست عشرة وستمائة ذكر وفاة كيكاوس وملك كيقباذ أخيه في هذه السنة توفي الملك الغالب عز الدين كيكاوس بن كيخسرو بن قلج أرسلان، صاحب قونية، وأقصرا وملطية وما بينهما من بلد الروم، وكان قد جمع عساكره، وحشد، وسار إلى ملطية على قصد بلاد الملك الأشرف لقاعدة استقرت بينه وبين ناصر الدين، صاحب آمد، ومظفر الدين، صاحب إربل، وكانوا قد خطبوا له، وضربوا اسمه على السكة في بلادهم، واتفقوا على الملك الأشرف وبدر الدين بالموصل. فسار كيكاوس إلى ملطية ليمنع الملك الأشرف بها عن المسير إلى الموصل نجدة لصاحبها بدر الدين، لعل مظفر الدين يبلغ من الموصل غرضاً، وكان قد علق به السل، فلما اشتد مرضه عاد عنها، فتوفي وملك بعده أخوه كيقباذ، وكان محبوساً، قد حبسه أخوه كيكاوس لما أخذ البلاد منه، وأشار عليه بعض أصحابه بقتله، فلم يفعل، فلما توفي لم يخلف ولداً يصلح للملك لصغرهم، فأخرج الجند كيقباذ وملكوه. ومن (بغي عليه لنصرنه الله). وقيل بل أرسل كيكاوس لما اشتد مرضه، فأحضره عنده من السجن، ووصى له بالملك وحلف الناس له؛ فلما ملك خالفه عمه صاحب أرزن الروم، وخاف أيضاً من الروم المجاورين لبلاده، فأرسل إلى الملك الأشرف وصالحه، وتعاهدا على المصافاة والتعاضد، وتصاهرا، وكفي الأشرف شر تلك الجهة، وتفرغ باله لإصلاح ما بين يديه، ولقد صدق القائل: (لا جد إلا ما أقعص عنك الرجال). وكأنه بقوله أراد: (وجدك طعان بغير سنان). وهذا ثمرة حسن النية، فإنه حسن النية لرعيته وأصحابه، كاف عن أذى يتطرق إليهم منه، غير قاصد إلى البلاد المجاورة لبلاده بأذى وملك مع ضعف أصحابها وقوته، لا جرم تأتيه البلاد صفواً عفواً. ؟؟ ذكر موت صاحب سنجار وملك ابنه ثم قتل ابنه وملك أخيه وفي هذه السنة، ثامن صفر، توفي قطب الدين محمد بن زنكي بن مودود ابن زنكي، صاحب سنجار، وكان كريماً، حسن السيرة في رعيته، حسن المعاملة مع التجار، كثير الإحسان إليهم، وأما أصحابه فكانوا معه في أرغد عيش يعمهم بإحسانه، ولا يخافون أذاه، وكان عاجزاً عن حفظ بلده، مسلماً الأمور إلى نوابه.
| |
|
 | |
الشيخ عودة الشيخ عودة

عدد المساهمات : 1748 تاريخ التسجيل : 28/09/2008 العمر : 73
 | موضوع: رد: كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير الخميس فبراير 27, 2014 7:04 am | |
| ولما توفي ملك بعده ابنه عماد الدين شاهنشاه، وركب الناس معه، وبقي مالكاً لسنجار عدة شهور، وسار إلى تل أعفر وهي له، فدخل عليه أخوه عمر بن محمد بن زنكي، ومعه جماعة، فقتلوه، وملك أخوه عمر بعده فبقي كذلك إلى أن سلم سنجار إلى الملك الأشرف، على ما نذكره إن شاء الله تعالى، ولم يمتع بملكه الذي قطع رحمه، وأراق الدم الحرام لأجله. ولما سلم سنجار أخذ عوضها الرقة، ثم أخذت منه عن قريب، وتوفي بعد أخذها منه بقليل، وعدم روحه وشبابه. وهذه عاقبة قطيعة الرحم، فإن صلتها تزيد في العمر وقطيعتها تهدم العمر. ذكر إجلاء بني معروف عن البطائح وقتلهمفي هذه السنة، في ذي القعدة، أمر الخليفة الناصر لدين الله الشريف معداً، متولي بلاد واسط، أن يسير إلى قتال بني معروف، فتجهز، وجمع معه من الرجالة من تكريت، وهيت، والحديثة، والأنبار، والحلة، والكوفة، وواسط، والبصرة، وغيرها، خلقاً كثيراً، وسار إليهم، ومقدمهم حينئذ معلى بن معروف، وهم قوم من ربيعة. وكانت بيوتهم غبي الفرات، تحت سوراء، وما يتصل بذلك من البطائح، وكثر فسادهم وأذاهم لما يقاربهم من القرى، وقطعوا الطريق، وأفسدوا في النواحي المقاربة لبطيحة العراق، فشكا أهل تلك البلاد إلى الديوان منهم، فأمر معداً أن يسير إليهم في الجموع، فسار إليهم، فاستعد بنو معروف لقتاله، فاقتتلوا بموضع يعرف بالمقبر، وهو تل كبير بالبطيحة بقرب العراق، وكثر القتل بينهم، ثم انهزم بنو معروف، وكثر القتل فيهم، والأسر، والغرق، وأخذت أموالهم، حملت رؤوس كثيرة من القتلى إلى بغداد في ذي الحجة من السنة. ذكر عدة حوادثفي هذه السنة، في المحرم، انهزم عماد الدين زنكي من عسكر بدر الدين. وفيها، في العشرين من رجب، انهزم بدر الدين من مظفر الدين، صاحب إربل، وعاد مظفر الدين إلى بلده، وقد تقدم ذلك مستوفى في سنة خمس عشرة وستمائة. وفيها، ثامن صفر، توفي قطب الدين محمد بن زنكي بن مودود ابن زنكي، صاحب سنجار، وملك بعده ابنه شاهنشاه. وفيها، في التاسع والعشرين من شعبان، ملك الفرنج مدينة دمياط، وقد ذكر سنة أربع عشرة مشروحاً. وفيها توفي افتخار الدين عبد المطلب بن الفضل الهاشمي العباسي، الفقيه الحنفي، رئيس الحنيفية بحلب، روى الحديث عن عمر البسطامي نزيل بلخ، وعن أبي سعد السمعاني وغيرهما. وفيها توفي أبو البقاء عبد الله بن الحسين بن عبد الله العكبري، الضرير، النحوي وغيره، وفيها توفي أبو الحسن علي بن أبي محمد القاسم بن علي بن الحسن بن عبد الله الدمشقي، الحافظ ابن الحافظ، المعروف بابن عساكر، وكان قد قصد خراسان وسمع بها الحديث فأكثر، وعاد إلى بغداد، فوقع على القفل حرامية، فجرح، وبقي ببغداد، وتوفي في جمادى الأولى، رحمه الله. ثم دخلت سنة سبع عشرة وستمائة ذكر خروج التتر إلى بلاد الشام لقد بقيت عدة سنين معرضاً عن ذكر هذه الحادثة استعظاماً لها، كارهاً لذكرها، فأنا أقدم إليه رجلاً وأؤخر أخرى، فمن الذي يسهل عله أن يكتب نعي الإسلام والمسلمين، ومن الذي يهون عليه ذكر ذلك؟ فيا ليت أمي لم تلدني، ويا ليتني مت قبل حدوثها وكنت نسياً منسياً، إلا أني حثني جماعة من الأصدقاء على تسطيرها وأنا متوقف، ثم رأيت أن ترك ذلك لا يجدي نفعاً، فنقول: عمت الخلائق، وخصت المسلمين، فلو قال قائل: إن العالم مذ خلق الله سبحانه وتعالى آدم، وإلى الآن، لم يبتلوا بمثلها؛ لكان صادقاً، فإن التواريخ لم تتضمن ما يقاربها ولا ما يدانيها. ومن أعظم ما يذكرون من الحوادث ما فعله بخت نصر ببني إسرائيل ن القتل، وتخريب البيت المقدس، وما البيت المقدس بالنسبة إلى ما خرب هؤلاء الملاعين من البلاد، التي كل مدينة منها أضعاف البيت المقدس، وما بنو إسرائيل بالنسبة إلى من قتلوا، فإن أهل مدينة واحدة ممن قتلوا أكثر من بني إسرائيل، ولعل الخلق لا يرون مثل هذه الحادثة إلى أن ينقرض العالم، وتفنى الدنيا، إلا يأجوج ومأجوج. وأما الدجال فإنه يبقي على من اتبعه، ويهلك من خالفه، وهؤلاء لم يبقوا على أحد، بل قتلوا النساء والرجال والأطفال، شقوا بطون الحوامل، وقتلوا الأجنة، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
لهذه الحادثة التي استطار شررها، وعم ضررها، وسارت في البلاد كالسحاب استدبرته الريح، فإن قوماً خرجوا من أطراف الصين، فقصدوا بلا تركستان مثل كاشغر وبلاساغون، ثم منها إلى بلاد ما وراء النهر، مثل سمرقند وبخارى وغيرهما، فيملكونها، ويفعلون بأهلها ما نذكره، ثم تعبر طائفة منهم إلى خراسان، فيفرغون منها ملكاً، وتخريباً، وقتلاً، ونهباً، ثم يتجاوزونها إلى الري، وهمذان، وبلد الجبل وما فيه من البلاد إلى حد العراق، ثم يقصدون بلاد أذريبجان وأرانية، ويخربونها، ويقتلون أكثر أهلها، ولم ينج إلا الشريد النادر في أقل من سنة، هذا ما لم يسمع مثله. ثم لما فرغوا من أذربيجان وأرانية ساروا إلى دربند شروان فملكوا مدنه، ولم يسلم غير القلعة التي بها ملكهم، وعبروا عندها إلى بلد اللان، واللكز، ومن في ذلك الصقع من الأمم المختلفة، فأوسعوهم قتلاً، ونهباً، وتخريباً؛ ثم قصدوا بلاد قفجاق، وهم من أكثر الترك عدداً، فقتلوا كل من وقف لهم، فهرب الباقون إلى الغياض ورؤس الجبال، وفارقوا بلادهم، واستولى هؤلاء التتر عليها، فعلوا هذا في أسرع زمان، ولم يلبثوا إلا بمقدار مسيرهم لا غير. ومضى طائفة أخرى غير هذه الطائفة إلى غزنة وأعمالها، وما يجاورها من بلاد الهند وسجستان وكرمان، ففعلوا فيه مثل فعل هؤلاء وأشد. هذا ما لم يطرق الأسماع مثله، فإن الإسكندر الذي اتفق المؤرخون على أنه ملك الدنيا لم يملكها في هذه السرعة، إنما ملكها في نحو عشر سنين، ولم يقتل أحداً، إنما رضي من الناس بالطاعة؛ وهؤلاء قد ملكوا أكثر المعمور من الأرض وأحسنه، وأكثره عمارة وأهلاً، وأعدل أهل الأرض أخلاقاً وسيرة، في نحو سنة، ولم يبق أحد في البلاد التي لم يطرقوها إلا وهو خائف يتوقعها، ويترقب وصولهم إليه. ثم إنهم لا يحتاجون إلى ميرة ومدد يأتيهم، فإنهم معهم الأغنام، والبقر، والخيل، وغير ذلك من الدواب، يأكلون لحومها لا غير؛ وأما دوابهم التي يركبونها فإنها تحفر الأرض بحوافرها، وتأكل عروق النبات لا تعرف الشعير، فهم إذا نزلوا منزلاً لا يحتاجون إلى شيء من خارج. وأما ديانتهم، فإنهم يسجدون للشمس عند طلوعها، ولا يحرمون شيئاً، فإنهم يأكلون جميع الدواب، حتى الكلاب، والخنازير، وغيرها، ولا يعرفون نكاحاً بل المرأة يأتيها غير واحد من الرجال، فإذا جاء الولد لا يعرف أباه. ولقد بلي الإسلام والمسلمون في هذه المدة بمصائب لم يبتل بها أحد من الأمم، منها هؤلاء التتر، قبحهم الله، أقبلوا من المشرق، ففعلوا الأفعال التي يستعظمها كل من سمع بها، وستراها مشروحة متصلة، إن شاء الله تعالى. ومنها خروج الفرنج، لعنهم الله، من المغرب إلى الشام، وقصدهم ديار مصر، وملكهم ثغر دمياط منها، وأشرفت ديار مصر والشام وغيرها على أن يملكوها لولا لطف الله تعالى ونصره عليهم، وقد ذكرناه سنة أربع عشرة وستمائة. ومنها الذي سلم من هاتين الطائفتين فالسيف بينهم مسلول، والفتنة قائمة على ساق، وقد ذكرناه أيضاً، فإنا لله وإنا إليه راجعون، نسأل الله أن ييسر للإسلام والمسلمين نصراً من عنده، فإن الناصر، والمعين، والذاب عن الإسلام معدوم، (وإذا أراد الله بقوم سوءاً فلا مرد له وما لهم من دونه من والٍ)، فإن هؤلاء التتر إنما استقام لهم هذا الأمر لعدم المانع. وسبب عدمه أن خوارزم شاه محمداً كان قد استولى على البلاد، وقتل ملوكها، وأفناهم، وبقي هو وحده سلطان البلاد جميعها، فلما انهزم منهم لم يبق في البلاد من يمنعهم، ولا من يحميها (ليقضي الله أمراً كان مفعولاً)، وهذا حين نذكر ابتداء خروجهم إلى البلاد. ذكر خروج التتر إلى تركستان وما وراء النهر وما فعلوه في هذه السنة ظهر التتر إلى بلاد الإسلام، وهم نوع كثير من الترك، ومساكنهم جبال طمغاج من نحو الصين، وبينها وبين بلاد الإسلام ما يزيد على ستة أشهر.
وكان السب في ظهورهم أن ملكهم، ويسمى بجنكزخان، المعروف بتموجين، كان قد فارق بلاده وسار إلى نواحي تركستان، وسير جماعة من التجار والأتراك، ومعهم شيء كثير من النقرة والقندر وغيرهما، إلى بلاد ما وراء النهر سمرقند وبخارى ليشتروا له ثياباً للكسوة، فوصلوا إلى مدينة من بلاد الترك تسمى أوترا، وهي آخر ولاية خوارزم شاه، وكان له نائب هناك، فلما ورد عليه هذه الطائفة من التتر أرسل إلى خوارزم شاه يعلمه بوصولهم ويذكر له ما معهم من الأموال، فبعث إليه خوارزم شاه يأمره بقتلهم وأخذ ما معهم من الأموال وإنفاذه إليهم، فقتلهم، وسيّر ما معهم، وكان شيئاً كثيراً، فلما وصل إلى خوارزم شاه فرقه على تجار بخارى، وسمرقند، وأخذ ثمنه منهم. وكان بعد أن ملك ما وراء النهر من الخطا قد سد الطرق عن بلاد تركستان وما بعدها من البلاد، وإن طائفة من التتر أيضاً كانوا قد خرجوا قديماً والبلاد للخطا، فلما ملك خوارزم شاه البلاد بما وراء النهر من الخطا، وقتلهم، واستولى هؤلاء التتر على تركستان: كاشغار، وبلاساغون وغيرهما، وصاروا يحاربون عساكر خوارزم شاه، فلذلك منع الميرة عنهم من الكسوات وغيرها. وقيل في سبب خروجهم إلى بلاد الإسلام غير ذلك مما لا يذكر في بطون الدفاتر: فكان ما كان ما لست أذكره ... فظن خيراً ولا ولا تسأل عن الخبر فلما قتل نائب خوارزم شاه أصحاب جنكزخان أرسل جواسيس إلى جنكزخان لينظر ما هو، وكم مقدار ما معه من الترك، وما يريد أن يعمل، فمضى الجواسيس، وسلكوا المفازة والجبال التي على طريقهم، حتى وصوا إليه، فعادوا بعد مدة طويلة وأخبروه بكثرة عددهم، وأنهم يخرجون عن الإحصاء، وأنهم من أصبر خلق الله على القتال لا يعرفون هزيمة، وأنهم يعملون ما يحتاجون إليه من السلاح بأيديهم، فندم خوارزم شاه على قتل أصحابهم وأخذ أموالهم، وحصل عنده فكر زائد، فأحضر الشهاب الخيوفي، وهو فقيه فاضل، كبير المحل عنده، لا يخالف ما يشير به، فحضر عنده، فقال له: قد حدث أمر عظيم لا بد من الفكر فيه وأخذ رأيك في الذي نفعله، وذاك أنه قد تحرك إلينا خصم من ناحية الترك في كثرة لا تحصى. فقال له: في عساكرك كثرة ونكاتب الأطراف، ونجمع العساكر، ويكون النفير عاماً، فإنه يجب على المسلمين كافة مساعدتك بالمال والنفس، ثم نذهب بجميع العساكر إلى جانب سيحون، وهو نهر كبير يفصل بين بلاد الترك وبلاد الإسلام، فنكون هناك، فإذا جاء العدو، وقد سار مسافة بعيدة، لقيناه ونحن مستريحون، وهو وعساكره قد مسهم النصب والتعب. فجمع خوارزم شاه أمراءه ومن عنده من أرباب المشورة، فاستشارهم، فلم يوافقوه على رأيه، بل قالوا: الرأي أن نتركهم يعبرون سيحون إلينا، ويسلكون هذه الجبال والمضايق، فإنهم جاهلون بطرقهم، ونحن عارفون بها، فنقوى حينئذ عليهم، ونهلكهم فلا ينجو منهم أحد. فبينما هم كذلك إذ ورد رسول من هذا اللعين جنكزخان معه جماعة يتهد خوارزم شاه، ويقول: تقتلون أصحابي وتجاري وتأخذون مالي منهم! استعدوا للحرب فإني واصل إليكم بجمع لا قبل لكم به. وكان جنكزخان قد سار إلى تركستان، فملك كا |
|