| كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير | |
|
|
|
كاتب الموضوع | رسالة |
---|
الشيخ عودة الشيخ عودة
عدد المساهمات : 1748 تاريخ التسجيل : 28/09/2008 العمر : 74
| موضوع: رد: كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير الثلاثاء فبراير 11, 2014 3:27 am | |
| وأمره مسعود فدخل بيت أخيه عبد الغافر بن عمرو، ثم ركب مسعود من ليلته ومعه الحارث وجماعة من قومه فطافوا في الأزد فقالوا: إن ابن زياد فقد وإنا لا نأمن أن تلحظوا به. فأصبحوا في السلاح. وفقد الناس ابن زياد فقالوا: ما هو إلا في الأزد. وقيل: إن الحارث لم يكلم مسعوداً بل أمر عبيد الله فحمل معه مائة ألف وأتى بها أم بسطام امرأة مسعود، وهي بنت عمرو بن الحارث، ومعه عبيد الله، فاستأذن عليها فأذنت له، فقال لها: قد أتيتك بأمر تسودين به نساء العرب وتتعجلين به الغنى. وأخبرها الخبر، وأمرها أن تدخل ابن زياد البيت وتلبسه ثوباً من ثياب مسعود، ففعلت، ولما جاء مسعود أخبرته أخذ برأسها يضربها، فخرج عبيد الله والحارث عليه وقال له: قد أجارتني وهذا ثوبك علي وطعامك في بطني. وشهد الحارث وتلطفوا به حتى رضي، فلم يزل ابن زياد في بيته حتىقتل مسعود فسار إلى الشام. ولما فقد ابن زياد بقي أهل البصرة في غير أمير، فاختلفوا فيمن يؤمرون عليهم ثم تراضوا بقيس بن الهيثم السلمي وبالنعمان بن سفيان الراسبي الحرمي ليختارا من يرضيان لهم، وكا رأي قيس في بني أمية، ورأي النعمان في بني هاشم، فقال النعمان: ما أرى أحداً أحق بهذا الأمر من فلان، لرجل من بني أمية، وقيل: بل ذكر له عبد الله بن الأسود الزهري، وكان هوى قيس فيه، وإنما قال النعمان ذلك خديعةً ومكراً بقيس، فقال قيس: قد قلدتك أمري ورضيت من رضيت، ثم خرجا إلى الناس، فقال قيس: قد رضيت من رضي النعمان. ذكر ولاية عبد الله بن الحارث البصرةلما اتفق قيس والنعمان ورضي قيس بمن يؤمره النعمان أشهد عليه النعمان بذلك وأخذ على قيس وعلى الناس العهود بالرضى، ثم أتى عبد الله بن الأسود وأخذ بيده واشترط عليه حتى ظن الناس أنه بايعه، ثم تركه وأخذ بيد عبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب الملقب بببة واشترط عليه مثل ذلك، ثم حمد الله وأثنى عليه وذكر النبي صلى الله عليه وسلم، وحق أهل بيته وقرابته وقال: أيها الناس ما تنقمون من رجل من بني عم نبيكم وأمه هند بنت أبي سفيان قد كان الأمر فيهم، فهو ابن أختكم، ثم أخذ بيده وقال: رضيت لكم به، فنادوه: قد رضينا، وبايعوه وأقبلوا به إلى دار الإمارة حتى نزلها، وذلك أول جمادى الآخرة سنة أربع وستين. وقال الفرزدق في بيعته: وبايعت أقواماً وفيت بعهدهم ... وببة قد بايعته غير نادم ذكر هرب ابن زياد إلى الشامثم إن الأزد وربيعة جددوا الحلف الذي كان بينهم وبين الجماعة، وأنفق ابن زياد مالاً كثيراً فيهم حتى تم الحلف وكتبوا بذلك بينهم كتابين، فكان أحدهما عند مسعود بن عمرو. فلما سمع الأحنف أن الأزد طلبت إلى ربيعة ذلك، قال: لا يزالون لهم أتباعاً إذا أتوهم. فلما تحالفوا اتفقوا على أن يردوا ابن زياد إلى دار الإمارة، فساروا، ورئيسهم مسعود بن عمرو، وقالوا لابن زياد: سر معنا، فلم يفعل وأرسل معه مواليه على الخيل وقال لهم: لا تتحدثوا بخير ولا بشر إلا أتيتموني به، فجعل مسعود لا يأتي سكة ولا يتجاوز قبيلة إلا أتى بعض أولئك الغلمان ابن زياد بالخبر، وسارت ربيعة، وعليهم مالك بن مسمع، فأخذوا سكة المربد، وجاء مسعود فدخل المسجد فصعد المنبر وعبد الله بن الحارث في دار الإمارة، فقيل له: إن مسعوداً وأهل اليمن وربيعة قد ساروا وسيهيج بين الناس شرٌّ فلو أصلحت بينهم أو ركبت في بني تميم عليهم. فقال: أبعدهم الله، لا والله لا أفسدن نفسي في إصلاحهم! وجعل رجل من أصحاب مسعود يقول: لأنكحن ببه ... جاريةً في قبه تمشط رأس لعبه هذا قول الأزد، وأما قول مضر فيقولون: إن أمه كانت ترقصه وتقول هذا.
وصعد مسعود المنبر وسار مالك بن مسمع نحو دور بني تميم حتى دخل سكة بني العدوية فحرق دورهم لما في نفسه لاستعراض ابن خازم ربيعة بهراة. وجاء بنو تميم إلى الأحنف فقالوا: يا أبا بحر، إن ربيعة والأزد قد تحالفوا وقد ساروا إلى الرحبة فدخلوها. فقال: لستم بأحق بالمسجد منهم. فقالوا: قد دخلوا الدار. فقال: لستم بأحق بالدار منهم. فأتته امرأة بمجمر وقالت له: مالك وللرياسة، إنما أنت امرأة تتجمر! فقال: است المرأة أحق بالمجمر، فما سمع منه كلمة أسوأ منها، ثم أتوه فقالوا: إن امرأة منا قد سلبت خلخالها، وقد قتلوا الصباغ الذي على طريقك وقتلوا المقعد الذي على باب المسجد، وقد دخل مالك بن مسمع سكة بني العدوية فحرق. فقال الأحنف: أقيموا البينة على هذا، ففي دون هذا ما يحل قتالهم. فشهدوا عنده على ذلك. فقال الأحنف: أجاء عباد بن الحصين؟ قالوا: لا، وهو عباد بن الحصين بن يزيد بن عمرو بن أوس من بني عمرو بن تميم، ثم قال: أجاء عباد؟ قالوا: لا. قال: أهاهنا عبس بن طلق بن ربيعة الصريمي من بني سعد بن زيد مناة بن تميم؟ قالوا: نعم، فدعاه فانتزع معجراً في رأسه فعقده في رمح ثم دفعه إليه وقال: سر، فلما ولى قال: اللهم لا تخزها اليوم فإنك لم تخزها فيما مضى، وصاح الناس: هاجت زيرا! وهي أم الأحنف كنوا بها عنه. فسار عبس إلى المسجد، فلما سار عبس جاء عباد فقال: ما صنع الناس؟ فقيل: سار بهم عبس. فقال: لا أسير تحت لواء عبس، وعاد إلى بيته ومعه ستون فارساً. فلما وصل عبس إلى المسجد قاتل الأزد على أبوابه ومسعود على المنبر يحضض الناس، فقاتل غطفان بن أنيف التميمي وهو يقول: يال تميمٍ إنها مذكوره ... إن فات مسعودٌ بها مشهوره فاستمسكوا بجانب المقصوره أي لا يهرب فيفوت. وأتوا مسعوداً وهو على المنبر فاستنزلوه فقتلوه، وذلك أول شوال سنة أربع وستين، وانهزم أصحابه، وهرب أشيم بن شقيق بن ثور فطعنه أحدهم فنجا بها، فقال الفرزدق: لو أن أشيم لم يسبق أسنتنا ... وأخطأ الباب إذ نيراننا تقد إذاً لصاحب مسعوداً وصاحبه ... وقد تهافتت الأعفاج والكبد ولما صعد مسعود المنبر أتي ابن زياد فقيل له ذلك، فتهيأ ليجيء إلى دار الإمارة، فأتوه وقالوا له: إنه قتل مسعود، فركب ولحق بالشام. فأما مالك بن مسمع فأتاه ناس من مضر فحصروه في داره وحرقوا داره. ولما هرب ابن زياد تبعوه فأعجزهم فنهبوا ما وجدوا له، ففي ذلك يقول واقد بن خليفة التميمي: يا رب جبار شديد كلبه ... قد صار فينا تاجه وسلبه منهم عبيد الله يوم نسلبه ... جياده وبزه وننهبه يوم التقى مقنبنا ومقنبه ... لو لم ينج ابن زيادٍ هربه وقد قيل في قتل مسعود ومسير ابن زياد غير ما تقدم، وهو أنه لما استجار ابن زياد بمسعود بن عمرو أجاره، ثم سار ابن زياد إلى الشام وأرسل معه مسعود مائة من الأزد حتى قدموا به إلى الشام، فبينما هو يسير ذات ليلة قال: قد ثقل علي ركوب الإبل فوطئوا لي على ذي حافر؛ فجعلوا له قطيفةً على حمار، فركبه ثم سار وسكت طويلاً. قال مسافر بن شريح اليشكري: فقلت في نفسي: لئن كان نائماً لأنغصن عليه نومه، فدنوت منه فقلت: أنائم أنت؟ قال: لا، كنت أحدث نفسي. قلت: أفلا أحدثك بما كنت تحدث به نفسك؟ قال: هات. قلت: كنت تقول. ليتني كنت لم أقتل حسيناً. قال: وماذا؟ قلت: تقول: ليتني لم أكن قتلت من قتلت. قال: وماذا؟ قلت: تقول: ليتني لم أكن بنيت البيضاء. قال: وماذا؟ قلت: تقول: ليتني لم أكن استعملت الدهاقين. قال: وماذا؟ قلت: تقول: ليتني كنت أسخى مما كنت.
قال: أما قتلي الحسين فإنه أشار إلي يزيد بقتله أو قتلي فاخترت قتله، وأما البيضاء فإني اشتريتها من عبد الله بن عثمان الثقفي وأرسل إلي يزيد بألف ألف فأنفقتها عليها، فإن بقيت فلأهلي وإن هلكت لم آس عليها، وأما استعمال الدهاقين فإن عبد الرحمن بن أبي بكرة أراد أن يروج فوقع في عند معاوية حتى ذكرا قشور الأرز فبلغا بخراج العراق مائة ألف ألف فخيرني معاوية بين العزل والضمان، فكرهت العزل، فكنت إذا استعملت العربي كسر الخراج، فإن أغرمت عشيرته أو طالبته أوغرت صدورهم، وإن تركته تركت مال الله وأنا أعرف مكانه، فوجدت الدهاقين أبصر بالجباية وأوفى بالأمانة وأهون بالمطالبة منكم مع أني قد جعلتكم أمناء عليهم لئلا يظلموا أحداً. وأما قولك في السخاء فما كان لي مال فأجود به عليكم، ولو شئت لأخذت بعض مالكم فخصصت به بعضكم دون بعض فيقولون ما أسخاه. وأما قولك ليتني لم أكن قتلت من قتلت فما عملت بعد كلمة الإخلاص عملاً هو أقرب إلى الله عندي من قتل من قتلت من الخوارج، ولكني سأخبرك بما حدثت به نفسي، قلت: ليتني كنت قاتلت أهل البصرة فإنهم بايعوني طائعين، ولقد حرصت على ذلك ولكن بني زياد قالوا: إن قاتلتهم فظهروا عليك لم يبقوا منا أحداً، وإن تركتهم تغيب الرجل منا عند أخواله وأصهاره فوقعت بهم، فكنت أقول: ليتني أخرجت أهل السجن فضربت أعناقهم، وأما إذ فاتت هاتان فليتني أقدم الشام ولم يبرموا أمراً. قال: فقدم الشام ولم يبرموا أمراً، فكأنما كانوا معه صبياناً، وقيل: بل قدم وقد أبرموا فنقض عليهم ما أبرموا. فلما سار من البصرة استخلف مسعوداً عليها، فقال بنو تميم وقيس: لا نرضى به ولا نولي إلا رجلاً ترضاه جماعتنا. فقال مسعود: قد استخلفني ولا أدع ذلك أبداً. وخرج حتى انتهى إلى القصر ودخله، واجتمعت تميم إلى الأحنف فقالوا له: إن الأزد قد دخلوا المسجد. قال: إنما هو لهم ولكم. قالوا: قد دخلوا القصر وصعد مسعود المنبر، وكانت خوارج قد خرجوا فنزلوا نهر الأساورة حين خرج عبيد الله إلى الشام، فزعم الناس أن الأحنف بعث إليهم أن هذا الرجل الذي قد دخل القصر هو لنا ولكم عدوٌّ فما يمنعكم عنه! فجاءت عصابة منهم حتى دخلوا المسجد ومسعود على المنبر يبايع من أتاه، فرماه علجٌ يقال له مسلم من أهل فارس، دخل البصرة فأسلم ثم دخل في الخوارج، فأصاب قلبه فقتله، فقال الناس: قتله الخوارج، فخرجت الأزد إلى تلك الخوارج فقتلوا منهم وجرحوا فطردوهم عن البصرة. ثم قيل للأزد: إن تميماً قتلوا مسعوداً، فأرسلوا يسألون، فإذا ناس من تميم تقول، فاجتمعت الأد عند ذلك فرأسوا عليهم زياد بن عمرو أخا مسعود بن عمرو ومعهم مالك بن مسمع في ربيعة، وجاءت تميم إلى الأحنف يقولون: قد خرج القوم، وهو يتمكث لا يخف للفتنة، فجاءته امرأة بمجمر فقالت: اجلس على هذا، أي إنما أنت امرأة. فخرج الأحنف في بني تميم ومعهم من بالبصرة من قيس فالتقوا، فقتل بينهم ققتلى كثيرة، فقال لهم بنو تميم: الله الله يا معشر الأزد في دمائنا ودمائكم! بيننا وبينكم القرآن ومن شئتم من أهل الإسلام فإن لكم علينا بينة فاختاروا أفضل رجل فينا فاقتلوه، وإن لم تكن لكم بينة فإنا نحلف بالله ما قتلنا ولا أمرنا ولا نعلم له قائلاً، وإن لم تريدوا ذلك فنحن ندي صاحبكم بمائة ألف درهم. وأتاهم الأحنف واعتذر إليهم مما قيل، وسفر بينهم عمر بن عبيد الله بن معمر وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام، فطلبوا عشر ديات، فأجابهم إلى ذلك واصطلحوا عليه. وأما عبد الله بن الحارث ببة فإنه أقام يصلي بهم حتى قدم عليهم عمر بن عبيد الله بن معمر أميراً من قبل ابن الزبير. وقيل: بل كتب ابن الزبير إلى عمر بعهده على البصرة، فأتاه الكتاب وهو متوجه إلى العمرة، فكتب عمر إلى أخيه عبيد الله يأمره أن يصلي بالناس، فصلى بهم حتى قدم عمر، فبقي عمر أميراً شهراً حتى قدم الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي بعزله ووليها الحارث، وهو القباع. وقيل: اعتزل عبيد الله بن الحارث ببة أهل البصرة بعد قتل مسعود بسبب العصبية وانتشار الخوارج، فكتب أهل البصرة إلى ابن الزبير، فكتب ابن الزبير إلى أنس بن مالك يأمره أن يصلي بالناس، فصلى بهم أربعين يوماً، وكان عبد الله بن الحارث يقول: ما أحب أن أصلح الناس بفساد نفسي، وكان يتدين.
وفي أيامه سار نافع بن الأزرق إلى الأهواز من البصرة. وأما أهل الكوفة فإنه لما ردوا رسول ابن زياد، على ما ذكرناه قبل، عزلوا خليفته عليهم، وهو عمرو بن حريث، واجتمع الناس وقالوا: نؤمر علينا رجلاً إلى أن يجتمع الناس على خليفة، فاجتمعوا على عمر بن سعد، فجاءت نساء همدان يبكين الحسين، ورجالهم متقلدوا السيوف، فأطافوا بالمنبر، فقال محمد بن الأشعث: جاء أمرٌ غير ما كنا فيه. وكانت كندة تقوم بأمر عمر بن سعد لأنهم أخواله، فاجتمعوا على عامر بن مسعود بن أمية بن خلف بن وهب بن حذافة الجمحي، فخطب أهل الكوفة فقال: إن لكل قوم أشربة ولذات فاطلبوها في مظانها، وعليكم بما يحل ويحمد، واكسروا شرابكم بالماء، وتواروا عني بهذه الجدران؛ فقال ابن همام: اشرب شرابك وانعم غير محسود ... واكسره بالماء لا تعص ابن مسعود إن الأمير له في الخمر مأربةٌ ... فاشرب هنيئاً مريئاً غير مرصود من ذا يحرم ماء المزن خالطه ... في قعر خابيةٍ ماء العناقيد إني لأكره تشديد الرواة لنا ... فيها ويعجبني قول ابن مسعود ولما بايعه أهل الكوفة وكتبوا بذلك إلى ابن الزبير أقره عليها، وكان يلقب دحروجة الجعل، وكان قصيراً، فمكث ثلاثة أشهر من مهلك يزيد بن معاوية، ثم قدم عليهم عبد الله بن يزيد الخطمي الأنصاري على الصلاة، وإبراهيم بن محمد بن طلحة على الخراج من عند ابن الزبير، واستعمل محمد بن الأشعث بن قيس على الموصل، فاجتمع لابن الزبير أهل الكوفة والبصرة ومن بالقبلة من العرب وأهل الجزيرة وأهل الشام إلا أهل الأردن في إمارة عمر بن عبيد الله بن معمر. وكان طاعون الجارف بالبصرة فماتت أمه فما وجد لها من يحملها حتى استأجروا لها أربعة أعلاج فحملوها. ذكر خلاف أهل الريفي هذه السنة بعد موت يزيد خالف أهل الري، وكان عليهم الفرخان الرازي، فوجه إليهم عامر بن مسعود، وهو أمير الكوفة، محمد بن عمير بن عطارد بن حاجب بن زرارة بن عدس التميمي، فلقيه أهل الري، فانهزم محمد، فبعث إليهم عامرٌ عتاب بن ورقاء الرياحي التميمي، فاقتتلوا قتالاً شديداً فقتل الفرخان وانهزم المشركون، وكان هذا محمد بن عمير مع علي بصفين على تميم الكوفة، ثم عاش بعد ذلك، فلما ولي الحجاج الكوفة فارقها وسار إلى الشام لكراهته ولاية الحجاج. ذكر بيعة مروان بن الحكمفي هذه السنة بويع مروان بن الحكم بالشام. وكان السبب فيها أن ابن الزبير لما بويع له بالخلافة ولى عبيدة بن الزبير المدينة، وعبد الرحمن بن جحدم الفهري مصر، وأخرج بني أمية ومروان بن الحكم إلى الشام، وعبد الملك بن مروان يومئذٍ ابن ثمان وعشرين سنة، فلما قدم الحصين بن نمير ومن معه إلى الشام أخبر مروان بما كان بينه وبين ابن الزبير، وقال له ولبني أمية: نراكم في اختلاط فأقيموا أميركم قبل أن يدخل عليكم شأمكم فتكون فتنة عمياء صماء. وكان من رأي مروان أن يسير إلى ابن الزبير فيبايعه بالخلافة، فقدم ابن زياد من العراق، وبلغه ما يريد مروان أن يفعل، فقال له: قد استحييت لك من ذلك، أنت كبير قريش وسيدها تمضي إلى أبي خبيب فتبايعه، يعني ابن الزبير، لأنه كان يكنى بابنه خبيب! فقال: ما فات شيء بعد، فقام معه بنو أمية ومواليهم وتجمع إليه أهل اليمن فسار إلى دمشق وهو يقول: ما فات شيء بعد، فقدم دمشق والضحاك بن قيس قد بايعه أهلها على أن يصلي بهم ويقيم لهم أمرهم حتى يجتمع الناس، وهو يدعو إلى ابن الزبير سراً. وكان زفر بن الحارث الكلائي بقنسرين يبايع لابن الزبير، والنعمان بن بشير بحمص يبايع له أيضاً، وكان حسان بن مالك بن بحدل الكلبي بفلسطين عاملاً لمعاوية ولابنه يزيد وهو يريد بني أمية، فسار إلى الأردن واستخلف على فلسطين روح بن زنباع الجذامي، فثار ناتل بن قيس بروح فأخرجه من فلسطين وبايع لابن الزبير.
وكان حسان في الأردن يدعو إلى بني أمية، فقال لأهل الأردن: ما شهادتكم على ابن الزبير وقتلى الحرة؟ قالوا: نشهد أنه منافق وأن قتلى الحرة في النار. قال: فما شهادتكم على يزيد وقتلاكم بالحرة؟ قالوا: نشهد أنه على الحق وأن قتلانا في الجنة. قال: فأنا أشهد لئن كان يزيد وشيعته على حق إنهم اليوم على حق، ولئن كان ابن الزبير وشيعته على باطل إنهم اليوم عليه. فقالوا له: صدقت، نحن نبايعك على أن نقاتل من خالفك وأطاع ابن الزبير على أن تجنبنا هذين الغلامين، يعنون ابني يزيد عبد الله وخالداً، فإنا نكره أن يأتينا الناس بشيخ ونأتيهم بصبي. وكتب حسان إلى الضحاك كتاباً يعظم فيه حق بني أمية وحسن بلائهم عنده ويذم ابن الزبير وأنه خلع خليفتين، وأمره أن يقرأ كتابه على الناس، وكتب كتاباً آخر وسلمه إلى الرسول، واسمه باغضة، وقال له: إن قرأ كتابي على الناس وإلا فاقرأ هذا الكتاب عليهم. وكتب حسان إلى بني أمية يأمرهم أن يحضروا ذلك، فقدم باغضة فدفع كتاب الضحاك إليه وكتاب بني أمية إليهم، فلما كانت الجمعة صعد الضحاك المنبر، فقال له باغضة ليقرأ كتاب حسان على الناس. فقال له الضحاك: اجلس، فقام إليه الثانية والثالثة وهو يقول له: اجلس، فأخرج باغضة الكتاب وقرأه على الناس، فقال الوليد بن عتبة بن أبي سفيان: صدق حسان وكذب ابن الزبير، وشتمه. وقيل: كان الوليد قد مات بعد موت معاوية بن يزيد وقام يزيد بن أبي الغمس الغساني وسفيان بن الأبرد الكلبي فصدقا حساناً وشتما ابن الزبير، وقام عمرو بن يزيد الحكمي فشتم حساناً وأثنى على ابن الزبير، فأمر الضحاك بالوليد ويزيد بن أبي الغمس وسفيان فحبسوا، وجال الناس ووثبت كلب على عمرو بن يزيد الحكمي فضربوه ومزقوا ثيابه، وقام خالد بن يزيد فصعد مرقاتين من المنبر وسكن الناس، ونزل الضحاك فصلى الجمعة ودخل القصر. فجاءت كلب فأخرجوا سفيان، وجاءت غسان فأخرجوا يزيد، وجاء خالد بن يزيد وأخوه عبد الله معهما أخوالهما من كلب فأخرجوا الوليد بن عتبة، وكان أهل الشام يسمون ذلك اليوم يوم جيرون الأول. ثم خرج الضحاك إلى المسجد فجلس فيه وذكر يزيد بن معاوية فسبه، فقام إليه شاب من كلب فضربه بعصا، فقام الناس بعضهم إلى بعض فاقتتلوا، قيس تدعو إلى ابن الزبير ونصرة الضحاك، وكلب تدعو إلى بني أمية ثم إلى خالد بن يزيد لأنه ابن أختهم. ودخل الضحاك دار الإمارة ولم يخرج من الغد إلى صلاة الفجر، وبعث إلى بني أمية فاعتذر إليهم وأنه لا يريد ما يكرهون، وأمرهم أن يكتبوا إلى حسان ويكتب معهم ليسير من الأردن إلى الجابية ويسيرون هم من دمشق فيجتمعون معه بالجابية ويبايعون لرجل من بني أمية، فرضوا وكتبوا إلى حسان، وسار الضحاك وبنو أمية نحو الجابية، فأتاه ثور بن معن السلمي فقال: دعوتنا إلى ابن الزبير فبايعناك على ذلك وأنت تسير إلى هذا الأعرابي من كلب تستخلف ابن أخته خالد بن يزيد! قال الضحاك: فما الرأي؟ قال: الرأي أن تظهر ما كنا نكتم وتدعو إلى ابن الزبير. فرجع الضحاك ومن معه من الناس فنزل بمرج راهط ودمشق بيده، واجتمع بنو أمية وحسان وغيرهم بالجابية، فكان حسان يصلي بهم أربعين يوماً والناس يتشاورون، وكان مالك بن هبيرة السكوني يهوى خالد بن يزيد، والحصين بن نمير يميل إلى مروان، فقال مالك للحصين: هل نبايع هذا الغلام الذي نحن ولدنا أباه وقد عرفت منزلتنا من أبيه فإنه يحملنا على رقاب العرب غداً؟ يعني خالداً. فقال الحصين: لا والله لا تأتينا العرب بشيخ ونأتيها بصبي. فقال مالك: والله لئن استخلفت مروان ليحسدك على سوطك وشراك نعلك وظل شجرة تستظل بها، إن مروان أبو عشيرة وأخو عشيرة فإن بايعتموه كنتم عبيداً لهم، ولكن عليكم بابن أختكم، فقال الحصين: إني رأيت في المنام قنديلاً معلقاً من السماء وأن من يلي الخلافة يتناوله فلم ينله أحد إلا مروان، والله لنستخلفنه.
وقام روح بن زنباع الجذامي فقال: أيها الناس إنكم تذكرون عبد الله بن عمر وصحبته وقدمه في الإسلام، وهو كما تذكرون، ولكنه ضعيف، وليس بصاحب أمة محمد الضعيف، وتذكرون ابن الزبير وهو كما تذكرون أنه ابن حواري رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأنه ابن ذات النطاقين، ولكنه منافق قد خلع خليفتين يزيد وابنه معاوية وسفك الدماء وشق عصا المسلمين، وليس المنافق بصاحب أمة محمد، وأما مروان بن الحكم فوالله ما كان في الإسلام صدعٌ إلا كان ممن يشعبه، وهو الذي قاتل علي بن أبي طالب يوم الجمل، وإنا نرى للناس أن يبايعوا الكبير ويستشيروا الصغير، يعني بالكبير مروان، وبالصغير خالد بن يزيد. فاجتمع رأيهم على البيعة لمروان بن الحكم، ثم خالد بن يزيد، ثم لعمرو بن سعيد بن العاص من بعد خالد، على أن إمرة دمشق لعمرو وإمرة حمص لخالد بن يزيد. فدعا حسان خالداً فقال: يا ابن أختي إن الناس قد أبوك لحداثة سنك وإني والله ما أريد هذا الأمر إلا لك ولأهل بيتك وما أبايع مروان إلا نظراً لكم. فقال خالد: بل عجزت عنا. قال: والله ما عجزت عنكم ولكن الرأي لك ما رأيت. ثم بايعوا مروان لثلاث خلون من ذي القعدة سنة أربع وستين؛ وقال مروان حين بويع له: لما رأيت الأمر أمراً نهبا ... يسرت غسان لهم وكلبا والسكسكيين رجالاً غلبا ... وطيئاً تأباه إلا ضربا والقين تمشي في الحديد نكبا ... ومن تنوخ مشمخراً صعبا لا يأخذون الملك إلا غصبا ... فإن دنت قيسٌ فقل لا قربا خبيب بضم الخاء المعجمة، وفتح الباء الموحدة، وسكون الياء تحتها نقطتان، وآخره باء موحدة. ذكر وقعة مرج راهط وقتل الضحاك والنعمان بن بشير ثم إن مروان لما بايعه الناس سار من الجابية إلى مرج راهط، وبه الضحاك بن قيس ومعه ألف فارس، وكان قد استمد الضحاك النعمان بن بشير وهو على حمص فأمده بشرحبيب بن ذي الكلاع، واستمد أيضاً زفر بن الحارث وهو على قنسرين فأمده بأهل قنسرين، وأمده ناتل بأهل فلسطين، فاجتمعوا عنده، واجتمع على مروان كلب وغسان والسكاسك والسكون، وجعل على ميمنته عمرو بن سعيد وعلى ميسرته عبيد الله بن زياد، وكان يزيد بن أبي الغمس الغساني مختفياً بدمشق لم يشهد الجابية، فغلب على دمشق وأخرج عامل الضحاك بن قيس وغلب على الخزائن وبيت المال وبايع لمروان وأمده بالأموال والرجال والسلاح، فكان أول فتح على بني أمية. وتحارب مروان والضحاك بمرج راهط عشرين ليلة واقتتلوا قتالاً شديداً، فقتل الضحاك، قتله دحية بن عبد الله، وقتل معه ثمانون رجلاً من أشراف أهل الشام، وقتل أهل الشام مقتلة عظيمة، وقتلت قيس مقتلة لم يقتل مثلها في موطن قط، وكان فيمن قتل هانىء بن قبيصة النميري سيد قومه، كان مع الضحاك، قتله وازع بن ذؤالة الكلبي، فلما سقط جريحاً قال: تعست ابن ذات النوف أجهز على فتىً ... يرى الموت خيراً من فرارٍ وألزما ولا تتركني بالحشاشة إنني ... صبورٌ إذا ما النكس مثلك أحجما فعاد إليه وازع فقتله. وكانت الوقعة في المحرم سنة خمس وستين، وقيل: بل كانت في آخر سنة أربع وستين. ولما رأى مروان رأس الضحاك ساءه ذلك وقال: الآن حين كبرت سني ودق عظمي وصرت في مثل ظمء الحمار، أقبلت بالكتائب أضرب بعضها ببعض! ولما انهزم الناس من المرج لحقوا بأجنادهم، فانتهى أهل حمص إليها وعليها النعمان بن بشير، فلما بلغه الخبر خرج هرباً ليلاً ومعه امرأته نائلة بنت عمارة الكلبية وثقله وأولاده، فتحير ليلته كلا، وأصبح أهل حمص فطلبوه، وكان الذي طلبه عمرو بن الجلي الكلاعي، فقتله ورد أهله والرأس معه، وجاءت كلب من أهل حمص فأخذوا نائلة وولدها معها. ولما بلغت الهزيمة زفر بن الحارث الكلابي بقنسرين هرب منها فلحق بقرقيسيا وعليها عياض الحرشي، وكان يزيد ولاه إياها، فطلب منه أن يدخل الحمام ويحلف له بالطلاق والعتاق على أنه حينما يخرج من الحمام لا يقيم بها، فأذن له، فدخلها فغلب عليها وتحصن بها ولم يدخل حمامها، فاجتمعت إليه قيس. وهرب ناتل بن قيس الجذامي عن فلسطين فلحق بابن الزبير بمكة، واستعمل مروان بعده على فلسطين روم بن زنباع واستوثق الشام لمروان واستعمل عماله عليها.
وقيل: إن عبيد الله بن زياد إنما جاء إلى بني أمية وهم بتدمر ومروان يريد أن يسير إلى ابن الزبير ليبايعه ويأخذ منه الأمان لبني أمية، فردع عن ذلك وأمره أن يسير بأهل تدمر إلى الضحاك فيقاتله، ووافقه عمرو بن سعيد وأشار على مروان بأن يتزو أم خالد بن يزيد ليسقط من أعين الناس، فتزوجها، وهي فاختة ابنة أبي هاشم بن عتبة، ثم جمع بني أمية فبايعوه وبايعه أهل تدمر، وسار إلى الضحاك في جمع عظيم، فخرج الضحاك إليه فتقاتلا فانهزم الضحاك ومن معه وقتل الضحاك. وسار زفر بن الحارث إلى قرقيسيا واجتمعت عليه قيس، وصحبه في هزيمته إلى قرقيسيا شابان من بني سليم، فجاءت خيل مروان تطلبهم، فقال الشابان لزفر: انج بنفسك فإنا نحن نقتل، فمضى زفر وتركهما فقتلا؛ وقال زفر في ذلك: أريني سلاحي لا أبا لك إنني ... أرى الحرب لا تزداد إلا تماديا أتاني عن مروان بالغيب أنه ... مقيدٌ دمي أو قاطعٌ من لسانيا ففي العيش منجاةٌ وفي الأرض مهربٌ ... إذا نحن رفعنا لهن المبانيا فلا تحبسوني إن تغيبت غافلاً ... ولا تفرحوا إن جئتكم بلقائيا فقد ينبت المرعى على دمن الثرى ... له ورقٌ من تحته الشر باديا ونمضي ولا يبقى على الأرض دمنةٌ ... وتبقى حزازات النفوس كما هيا لعمري لقد أبقت وقيعة راهطٍ ... لحسان صدعاً بيناً متنائيا فلم تر مني نبوةٌ قبل هذه ... فراري وتركي صاحبي ورائيا عشية أدعو في القران فلا أرى ... من الناس إلا من علي ولا ليا أيذهب يومٌ واحدٌ إن أسأته ... بصالح أيامي وحسن بلائيا؟ فلا صلح حتى تنحط الخيل بالقنا ... وتثأر من نسوان كلبٍ نسائيا ألا ليت شعري هل تصيبن غارتي ... تنوخاً وحيي طيءٍ من شفائيا فأجابه جواس بن القعطل: لعمري لقد أبقت وقيعة راهطٍ ... على زفرٍ مراً من الداء باقيا مقيماً ثوى بين الضلوع محله ... وبين الحشا أعيا الطبيب المداويا تبكي على قتلى سليمٍ وعامرٍ ... وذبيان معذور وتبكي البواكيا دعا بالسلاح ثم أحجم إذ رأى ... سيوف جنابٍ والطوال المذاكيا عليها كأسد الغاب فتيان نجدةٍ ... إذا شرعوا نحو الطوال العواليا وقال عمرو بن الجلي الكلبي: بكى زفر القيسي من هلك قومه ... بعبرة عينٍ ما يجف سجومها يبكي على قتلى أصيبت براهطٍ ... تجاوبه هام القفار وبومها أبحنا حمىً للحي قيسٍ براهطٍ ... وولت شلالاً واستبيح حريمها يبكيهم حران تجري دموعه ... ترجي نزاراً أن تؤوب حلومها فمت كمداً أو عش ذليلاً مهضماً ... بحسرة نفسٍ لا تنام همومها في أبيات. يزيد بن أبي الغمس بالسين المهملة، وقيل بالشين المعجمة، وكان قد ارتد عن الإسلام ودخل الروم مع جبلة بن الأيهم ثم عاود الإسلام وشهد صفين مع معاوية وعاش إلى أيام عبد الملك بن مروان. وناتل بالنون، والتاء المعجمة من فوق باثنتين. ذكر فتح مروان مصرفلما قتل الضحاك وأصحابه واستقر الشام لمروان سار إلى مصر فقدمها وعليها عبد الرحمن بن جحدم القرشي يدعو إلى ابن الزبير، فخرج إلى مروان فيمن معه، وبعث مروان عمرو بن سعيد من ورائه حتى دخل مصر، فقيل لابن جحدم ذلك، فرجع وبايع الناس مروان ورجع إلى دمشق. فلما دنا منها بلغه أن ابن الزبير قد بعث إليه أخاه مصعباً في جيش، فأرسل إليه مروان عمرو بن سعيد قبل أن يدخل الشام، فقاتله، فانهزم مصعب وأصحابه، وكان مصعب شجاعاً. ثم عاد مروان إلى دمشق واستقر بها. وقد كان الحصين بن نمير ومالك بن هبيرة قد اشترطا على مروان شروطاً لهما ولخالد بن يزيد، فلما توطن ملكه قال ذات يوم ومالك عنده: إن قوماً يدعون شروطاً، منهم عطارة مكحلة - يعني مالكاً - وكان يتطيب ويتكحل، فقال مالك: هذا ولما تردي تهامة ويبلغ الحزام الطبيين. فقال مروان: مهلاً يا أبا سليمان، إنما داعبناك! فقال: هو ذاك.
ذكر بيعة أهل خراسان سلم بن زياد وأمر عبد الله بن خازم ولما بلغ سلم بن زياد، وهو بخراسان، موت يزيد كتم ذلك؛ فقال ابن عرادة: يا أيها الملك المغلق بابه ... حدثت أمورٌ شأنهن عظيم قتلى بحرة والذين بكابلٍ ... ويزيد أغلق بابه المكتوم أبني أمية إن آخر ملككم ... جسدٌ بحوارين ثم مقيم طرقت منيته وعند وساده ... كوبٌ وزقٌّ راعفٌ مرثوم ومزنةٌ تبكي على نشوانه ... بالصبح تقعد مرةً وتقوم فلما أظهر شعره أظهر سلم موت يزيد بن معاوية وابنه معاوية بن يزيد ودعا الناس إلى البيعة على الرضى حتى يستقيم أمر الناس على خليفة، فبايعوه ثم نكثوا به بعد شهرين، وكان محسناً إليهم محبوباً فيهم، فلما خلع عنهم استخلف عليهم المهلب بن أبي صفرة، ولما كان بسرخس لقيه سليمان بن مرثد، أحد بني قيس بن ثعلبة بن ربيعة، فقال له: ضاقت عليك نزار حتى خلفت على خراسان رجلاً من اليمن؟ يعني المهلب، وكان أزدياً والأزد من اليمن، فولاه مرو الروذ والفارياب والطالقان والجوزجان، وولى أوس بن ثعلبة بن زفر، وهو صاحب قصر أوس بالبصرة، هراة، فلما وصل إلى نيسابور لقيه عبد الله بن خازم فقال: من وليت خراسان؟ فأخبره، فقال: أما وجدت في المصر من تستعمله حتى فرقت خراسان بين بكر بن وائل واليمن؟ اكتب لي عهداً على خراسان. فكتب له وأعطاه مائة ألف درهم. وسار ابن خازم إلى مرو، وبلغ خبره المهلب فأقبل واستخلف رجلاً من بني جشم بن سعد بن زيد مناة بن تميم، فلما وصلها ابن خازم منعه الجشمي وجرت بينهما مناوشة، فأصابت الجشمي رمية بحجر في جبهته، وتحاجزوا، ودخلها ابن خازم، ومات الجشمي بعد ذلك بيومين. ثم سار ابن خازم إلى سليمان بن مرثد بمرو الروذ فقاتله أياماً فقتل سليمان، ثم سار إلى عمرو بن مرثد وهو بالطالقان فاقتتلوا طويلاً فقتل عمرو بن مرثد وانهزم أصحابه فلحقوا بهراة بأوس بن ثعلبة، ورجع ابن خازم إلى مرو وهرب من كان بمرو الروذ من بكر بن وائل إلى هراة وانضم إليها من كان بكور خراسان من بكر وكثر جمعهم وقالوا لأوس بن ثعلبة: نبايعك على أن تسير إلى ابن خازم وتخرج مضر من خراسان، فأبى عليهم، فقال له بنو صهيب، وهم موالي بني جحدم: لا نرضى أن نكون نحن ومضر في بلد واحد وقد قتلوا سليمان وعمراً ابني مرثد، فإما أن تبايعنا على هذا وإلا بايعنا غيرك. فأجابهم، فبايعوه، فسار إليهم ابن خازم فنزل على وادٍ بينه وبين هراة، فأشار البكريون بالخروج من هراة وعمل خندق، فقال أوسٍ: بل نلزم المدينة فإنها حصينة ونطاول ابن خازم نحو سنة، وقال له هلال الضبي: إنما تقاتل إخوتك وبني أبيك، فإن نلت منهم الذي تريد فما في العيش خير، فلو أعطيتهم شيئاً يرضون به وأصلحت هذا الأمر. قال: والله لو خرجنا لهم من خراسان ما رضوا. قال هلال: والله لا أقاتل معك أنا ولا رجل أو تطيعني حتى تعتذر إليهم. قال: فأنت رسولي إليهم فأرضهم. فأتى هلالٌ أوس بنن ثعلبة فناشده الله والقرابة في نزار وأن يحفظ ولاءها. فقال: هل لقيت بني صهيب؟ قال: لا. قال: فالقهم. قال: فخرج فلقي جماعة من رؤساء أصحابه فأخبرهم ما أتى له. فقالوا له: هل لقيت بني صهيب؟ فقال: لقد عظم أمر بني صهيب عندكم، فأتاهم فكلمهم، فقالوا: لولا أنك رسول لقتلناك. قال: فهل يرضيكم شيء؟ قالوا: واحدة من اثنتين: إما أن تخرجوا من خراسان، وإما أن تقيموا وتخرجوا لنا عن كل سلاح وكراع وذهب وفضة.
فرجع إلى ابن خازم، فقال: ما عندك؟ فأخبره. فقال: إن ربيعة لم تزل غضاباً على ربها منذ بعث نبيه من مضر. وأقام ابن خازم يقاتلهم، فقال يوماً لأصحابه: قد طال مقامنا، وناداهم: يا معشر ربيعة أرضيتم من خراسان بخندقكم! فأحفظهم ذلك، فتنادوا للقتال، فنهاهم أوس بن ثعلبة عن الخروج بجماعتهم وأن يقاتلوا كما كانوا يقاتلون، فعصوه. فقال ابن خازم لأصحابه: اجعلوه يومكم فيكون الملك لمن غلب، وإذا لقيتم الخيل فاطعنوها في مناخرها. فاقتتلوا ساعة وانهزمت بكر بن وائل حتى انتهوا إلى خندقهم وتفرقوا يميناً وشمالاً وسقط الناس في الخندق وقتلوا قتلاً ذريعاً وهرب أوس بن ثعلبة إلى سجستان فمات بها أو قريباً منها، وقتل من بكر يومئذٍ ثمانية آلاف، وغلب ابن خازم على هراة واستعمل عليها ابنه محمداً وضم إليه شماس بن دثار العطاردي، وجعل بكير بن وساج الثقفي على شرطته، ورجع ابن خازم إلى مرو. وأغارت الترك على قصر اسغاد، وابن خازم على هراة، وكان فيه ناس من الأزد، فحصروهم، فأرسلوا إلى ابن خازم، فوجه إليهم زهير بن حيان في بني تميم وقال له: إياك ومناوأة الترك، إذا رأيتموهم فاحملوا عليهم. فوافاهم في يوم بارد، فلما التقوا حمل عليهم فانهزمت الترك واتبعوهم حتى مضى عامة الليل، فرجع زهير وقد يبست يده على رمحه من البرد، فجعلوا يخنون الشحم فيضعه على يده ودهنوه وأوقدوا له ناراً فانتفخت يده، ثم رجع إلى هراة؛ فقال في ذلك ثابت قطنة: فدت نفسي فوارس من تميمٍ ... على ما كان من ضنك المقام بقصر الباهلي وقد أراني ... أحامي حين قل به المحامي بسيفي بعد كسر الرمح فيهم ... أذودهم بذي شطبٍ حسام أكر عليهم اليحموم كراً ... ككر الشرب آنية المدام فلولا الله ليس له شريكٌ ... وضربي قونس الملك الهمام إذاً فاضت نساء بني دثارٍ ... أمام الترك بادية الخدام ذكر أمر التوابينقيل: لما قتل الحسين ورجع ابن زياد من معسكره بالنخيلة ودخل الكوفة تلاقت الشيعة بالتلاوم والتندم، ورأت أن قد أخطأت خطأً كبيراً بدعائهم الحسين وتركهم نصرته وإجابته حتى قتل إلى جانبهم، ورأوا أنه لا يغسل عارهم والإثم عليهم إلا قتل من قتله أو القتل فيهم، فاجتمعوا بالكوفة إلى خمسة نفر من رؤساء الشيعة: إلى سليمان بن صرد الخزاعي، وكانت له صحبة، وإلى المسيب بن نجبة الفزاري، وكان من أصحاب علي، وإلى عبد الله بن سعد بن نفيل الأزدي، وإلى عبد الله بن والٍ التيمي، تيم بكر بن وائل، وإلى رفاعة بن شداد البجلي، وكانوا من خيار أصحاب علي، فاجتمعوا في منزل سليمان بن صرد الخزاعي، فبدأهم المسيب بن نجبة فقال بعد حمد الله: أما بعد فإنا ابتلينا بطول العمر والتعرض لأنواع الفتن، فنرغب إلى ربنا أن لا يجعلنا ممن يقول له غداً: (أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر) فاطر: 37، فإن أمير المؤمنين علياً قال: العمر الذي أعذر الله فيه إلى ابن آدم ستون سنة، وليس فينا رجل إلا وقد بلغه، وقد كنا مغرمين بتزكية أنفسنا فوجدنا الله كاذبين في كل موطن من مواطن ابن بنت نبيه صلى الله عليه وسلم، وقد بلغنا قبل ذلك كتبه ورسله وأعذر إلينا فسألنا نصره عوداً وبدءاً وعلانيةً فبخلنا عنه بأنفسنا حتى قتل إلى جانبنا لا نحن نصرناه بأيدينا ولا جادلنا عنه بألسنتنا ولا قويناه بأموالنا ولا طلبنا له النصرة إلى عشائرنا، فما عذرنا عند ربنا وعند لقاء نبينا وقد قتل فينا ولد حبيبه وذريته ونسله؟ لا والله لا عذر دون أن تقتلوا قاتله والموالين عليه، أو تقتلوا في طلب ذلك، فعسى ربنا أن يرضى عنا عند ذلك، ولا أنا بعد لقائه لعقوبته بآمن. أيها القوم ولوا عليكم رجلاً منكم فإنه لابد لكم من أمير تفزعون إليه وراية تحفون بها.
وقام رفاعة بن شداد وقال: أما بعد فإن الله قد هداك لأصوب القول وبدأت بأرشد الأمور بدعائك إلى جهاد الفاسقين وإلى التوبة من الذنب العظيم، فمسموع منك مستجاب إلى قولك، وقلت: ولوا أمركم رجلاً تفزعون إليه وتحفون برايته، وقد رأينا مثل الذي رأيت، فإن تكن أنت ذلك الرجل تكن عندنا مرضياً، وفينا منتصحاً، وفي جماعتنا محبوباً، وإن رأيت ورأى أصحابنا ذلك ولينا هذا الأمر شيخ الشيعة وصاحب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وذا السابقة والقدم سليمان بن صرد الخزاعي، المحمود في بأسه ودينه، الموثوق بحزمه. وتكلم عبد الله بن سعد بنحو ذكل وأثنيا على المسيب وسليمان. فقال المسيب: قد أصبتم فولوا أمركم سليمان بن صرد. فتكلم سليمان فقال بعد حمد الله: أما بعد فإني لخائف ألا يكون آخرنا إلى هذا الدهر الذي نكدت فيه المعيشة وعظمت فيه الرزية وشمل فيه الجور أولي الفضل من هذه الشيعة لما هو خير، إنا كنا نمد أعناقنا إلى قدوم آل بيت نبينا، صلى الله عليه وسلم، نمنيهم النصر ونحثهم على القدوم، فلما قدموا ونينا وعجزنا وأدهنا وتربصنا حتى قتل فينا ولد نبينا وسلالته وعصارته وبضعة من لحمه ودمه إذ جعل يستصرخ ويسأل النصف فلا يعطى، اتخذه الفاسقون غرضاً للنبل ودريئة للرماح حتى أقصدوه، وعدوا عليه فسلبوه. ألا انهضوا، فقد سخط عليكم ربكم ولا ترجعوا إلى الحلائل والأبناء حتى يرضى الله، والله ما أظنه راضياً دون أن تناجزوا من قتله، ألا لا تهابوا الموت فما هابه أحدٌ قط إلا ذل، وكونوا كبني إسرائيل إذ قال لهم نبيهم: (إنكم ظلمتم أنفسكم) (فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم) البقرة: 54، ففعلوا وجثوا على الركب ومدوا الأعناق حين علموا أنهم لا ينجيهم من عظيم الذنب إلا القتل، فكيف بكم لو دعيتم إلى ما دعوا! أحدوا السيوف وركبوا الأسنة (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوةٍ ومن رباط الخيل) الأنفال: 60، حتى تدعوا وتستنفروا. فقال خالد بن سعد بن نفيل: أما أنا فوالله لو أعلم أنه ينجيني من ذنبي ويرضي ربي عني قتلي نفسي لقتلتها، وأنا أشهد كل من حضر أن كل ما أصبحت أملكه سوى سلاحي الذي أقاتل به عدوي صدقة على المسلمين أقويهم به على قتال الفاسقين. قال أبو المعتمر بن حنش بن ربيعة الكناني مثل ذلك. فقال سليمان: حسبكم، من أراد من هذا شيئاً فليأت به عبد الله بن والٍ التيمي، فإذا اجتمع عنده كل ما تريدون إخراجه جهزنا به ذوي الخلة والمسكنة من أشياعكم. وكتب سليمان بن صرد إلى سعد بن حذيفة بن اليمان يعلمه بما عزموا عليه ويدعوه إلى مساعدتهم ومن معه من الشيعة بالمدائن، فقرأ سعد بن حذيفة الكتاب على من بالمدائن من الشيعة، فأجابوا إلى ذلك، فكتبوا إلى سليمان بن صرد يعلمونه أنهم على الحركة إليه والمساعدة له. وكتب سليمان أيضاً كتاباً إلى المثنى بن مخربة العبدي بالبصرة مثل ما كتب إلى سعد بن حذيفة، فأجابه المثنى: إننا معشر الشيعة حمدنا الله على ما عزمتم عليه ونحن موافوك إن شاء الله للأجل الذي ضربت. وكتب في أسفل الكتاب: تبصر كأني قد أتيتك معلماً ... على أتلع الهادي أجش هزيم طويل القرا نهد الشواة مقلصٍ ... ملحٍ على فأس اللجام أزوم بكل فتىً لا يملأ الروع قلبه ... محشٍ لنار الحرب غير سؤوم أخي ثقةٍ ينوي الإله بسعيه ... ضروبٍ بنصل السيف غير أثيم فكان أول ما ابتدأوا به أمرهم بعد قتل الحسين سنة إحدى وستين، فما زالوا بجمع آلة الحرب ودعاء الناس في السر إلى الطلب بدم الحسين، فكان يجيبهم النفر، ولم يزالوا على ذلك إلى أن هلك يزيد بن معاوية سنة أربع وستين، فلما مات يزيد جاء إلى سليمان أصحابه فقالوا: قد هلك هذا الطاغية والأمر ضعيف، فإن شئت وثبنا على عمرو بن حريث، وكان خليفة ابن زياد على الكوفة، ثم أظهرنا الطلب بدم الحسين وتتبعنا قتلته ودعونا الناس إلى أهل هذا البيت المستأثر عليهم المدفوعين عن حقهم.
فقال سليمان بن صرد: لا تعجلوا، إني قد نظرت فيما ذكرتم فرأيت أن قتلة الحسين هم أشراف الكوفة وفرسان العرب وهم المطالبون بدمه، ومتى علموا ما تريدون كانوا أشد الناس عليكم، ونظرت فيمن تبعني منكم فعلمت أنهم لو خرجوا لم يدركوا ثأرهم ولم يشفوا نفوسهم وكانوا جزراً لعدوهم، ولكن بثوا دعاتكم وادعوا إلى أمركم. ففعلوا واستجاب لهم ناس كثير بعد هلاك يزيد. ثم إن أهل الكوفة أخرجوا عمرو بن حريث وبايعوا لابن الزبير، وسليمان وأصحابه يدعون الناس. فلما مضت ستة أشهر بعد هلال يزيد قدم المختار بن أبي عبيد الكوفة في النصف من رمضان، وقدم عبد الله بن يزيد الأنصاري أميراً على الكوفة من قبل ابن الزبير لثمان بقين من رمضان، وقدم إبراهيم بن محمد بن طلحة معه على خراج الكوفة. فأخذ المختار يدعو الناس إلى قتال قتلة الحسين ويقول: جئتكم من عند المهدي محمد بن الحنفية وزيراً أميناً. فرجع إليه طائفةٌ من الشيعة، وكان يقول: إنما يريد سليمان أن يخرج فيقتل نفسه ومن معه وليس له بصرٌ بالحرب. وبلغ الخبر عبد الله بن يزيد بالخروج عليه بالكوفة في هذه الأيام، وقيل له ليحبسه، وخوف عاقبة أمره إن تركه. فقال عبد الله: إن هم قاتلونا قاتلناهم، وإن تركونا لم نطلبهم. إن هؤلاء القوم يطلبون بدم الحسين بن علي، فرحم الله هؤلاء القوم، إنهم آمنون، فليخرجوا ظاهرين وليسيروا إلى من قاتل الحسين، فقد أقبل إليهم، يعني ابن زياد، وأنا لهم ظهير، هذا ابن زياد قاتل الحسين وقاتل أخياركم وأمثالكم قد توجه إليكم، وقد فارقوه على ليلة من جسر منبج فالقتال والاستعداد إليه أولى من أن تجعلوا بأسكم بينكم فيقتل بعضكم بعضاً فيلقاكم عدوكم وقد ضعفتم، وتلك أمنيته، وقد قدم عليكم أعدى خلق الله لكم، من ولي عليكم هو وأبوه سبع سنين لا يقلعان عن قتل أهل العفاف والدين، هو الذي من قبله أتيتم، والذي قتل من تنادون بدمه قد جاءكم فاستقبلوه بحدكم وشوكتكم واجعلوها به ولا تجعلوها بأنفسكم، إني لكم ناصحٌ. وكان مروان قد سير ابن زياد إلى الجزيرة، ثم إذا فرغ منها سار إلى العراق. فلما فرغ عبد الله بن يزيد من قوله قال إبراهيم بن محمد بن طلحة: أيها الناس لا يغرنكم من السيف والغشم مقالة هذا المداهن، والله لئن خرج علينا خارج لنقتله، ولئن استيقنا أن قوماً يريدون الخروج علينا لنأخذن الوالد بولده والمولود بوالده والحميم بالحميم والعريف بما في عرافته حتى يدينوا للحق ويذللوا للطاعة. فوثب إليه المسيب بن نجبة فقطع عليه منطقة ثم قال: يا ابن الناكثين! أنت تهددنا بسيفك وغشمك! أنت والله أذل من ذلك! إنا لا نلومك على بغضنا وقد قتلنا أباك وجدك، وأما أنت أيها الأمير فقد قلت قولاً سديداً. فقال إبرهيم: والله لتقتلن وقد أدهن هذا، يعني عبد الله بن يزيد. فقال له عبد الله بن وال: ما اعتراضك فيما بيننا وبين أميرنا؟ ما أنت علينا بأمير إنما أنت أمير هذه الجزية، فأقبل على خراجك، ولئن أفسدت أمر هذه الأمة فقد أفسده والداك وكانت عليهما دائرة السوء! فشتمهم جماعة ممن مع إبراهيم فشاتموه، فنزل الأمير من على المنبر، وتهدده إبراهيم بأنه يكتب إلى ابن الزبير يشكوه، فجاءه عبد الله في منزله واعتذر إليه، فقبل عذره. ثم إن أصحاب سليمان خرجوا ينشرون السلاح ظاهرين ويتجهزون. ذكر فراق الخوارج عبد الله بن الزبير وما كان بينهموفي هذه السنة فارق الخوارج الذين كانوا قدموا مكة عبد الله بن الزبير، وكانوا قد قاتلوا معه أهل الشام. وكان سبب قدومهم عليه أنهم لما اشتد عليهم ابن زياد بعد قتل أبي بلال اجتمعوا فتذاكروا ذلك، فقال لهم نافع بن الأزرق: إن الله قد أنزل عليكم الكتاب، وفرض عليكم الجهاد، واحتج عليكم بالبيان، وقد جرد أهل الظلم فيكم السيوف فاخرجوا بنا إلى هذا الذي قد ثار بمكة فإن كان على رأينا جاهدنا معه، وإن يكن على غير رأينا جاهدنا معه، وإن يكن على غير رأينا دافعناه عن البيت. وكان عسكر الشام قد سار نحو ابن الزبير. فسار الخوارج حتى قدموا على ابن الزبير، فسر بمقدمهم وأخبرهم أنه على مثل رأيهم من غير تفتيش. فقاتلوا معه أهل الشام حتى مات يزيد بن معاوية وانصرف أهل الشام.
ثم إنهم اجتمعوا وقالوا: إن الذي صنعتم أمس لغير رأي، تقاتلون مع رجل لا تدرون لعله ليس على مثل رأيكم، وقد كان أمس يقاتلكم هو وأبوه وينادي: يا ثارات عثمان! فأتوه واسألوه عن عثمان فإن برىء منه كان وليكم، وإن أبى كان عدوكم. فأتوه فسألوه، فنظر فإذا أصحابه حوله قليل، فقال: إنكم أتيتموني حين أردت القيام، ولكن روحوا إلي العشية حتى أعلمكم. فانصرفوا، وبعث إلى أصحابه فجمعهم حوله بالسلاح، وجاءت الخوارج وأصحابه حوله وعلى رأسه وبأيديهم العمد، فقال ابن الأزرق لأصحابه: إن الرجل قد أزمع خلافكم، فتقدم إليه نافع بن الأزرق وعبيدة بن هلال، فقال عبيدة بعد حمد الله: أما بعد فإن الله بعث محمداً يدعو إلى عبادته وإخلاص الدين له، فدعا إلى ذلك فأجابه المسلمون، فعمل فيهم بكتاب الله حتى قبضه الله واستخلف الناس أبا بكر واستخلف أبو بكر عمر، فكلاهما عمل بكتاب الله وسنة نبيه، ثم إن الناس استخلفوا عثمان، فحمى الأحماء وآثر القربى واستعمل الفتى ورفع الدرة ووضع السوط ومزق الكتاب وضرب منكر الجور وآوى طريد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وضرب السابقين بالفضل وحرمهم، وأخذ فيء الله الذي أفاء عليهم فقسمه في فساق قريش ومجان العرب، فسارت إليه طائفة فقتلوه، فنحن لهم أولياء ومن ابن عفان وأوليائه برآء، فما تقول أنت يا ابن الزبير؟ فقال: قد فهمت الذي ذكرت به النبي، صلى الله عليه وسلم، فهو فوق ما ذكرت وفوق ما وصفت، وفهمت ما ذكرت به أبا بكر وعمر، وقد وفقت وأصبت، وفهمت الذي ذكرت به عثمان، وإني لا أعلم مكان أحد من خلق الله اليوم أعلم بابن عفان وأمره مني، كنت معه حيث نقم القوم عليه واستعتبوه فلم يدع شيئاً إلا أعتبهم، ثم رجعوا إليه بكتاب له يزعمون أنه كتبه يأمر فيه بقتلهم، فقال لهم: ما كتبته فإن شئتم فهاتوا بينتكم فإن لم تكن حلفت لكم، فوالله ما جاؤوه ببينة ولا استحلفوه ووثبوا عليه فقتلوه، وقد سمعت ما عتبته به، فليس كذلك بل هو لكل خير أهل، وأنا أشهدكم ومن حضرني أني ولي لابن عفان وعدو أعدائه فبرىء الله منكم. وتفرق القوم فاقبل نافع بن الأزرق الحنظلي وعبد الله بن الصفار السعدي وعبد الله بن إباض وحنظلة بن بيهس وبنو الماحوز: عبد الله وعبيد الله والزبير من بني سليط بن يربوع، وكلهم من تميم، حتى أتوا البصرة، وانطلق أبو طالوت، من بني بكر بن وائل، وأبو فديك عبد الله بن ثور بن قيس بن ثعلبة، وعطية بن الأسود اليشكري إلى اليمامة، فوثبوا بها مع أبي طالوت، ثم أجمعوا بعد ذلك على نجدة بن عامر الحنفي وتركوا أبا طالوت. فأما نافع وأصحابه فإنهم قدموا البصرة وهم على رأي أبي بلال، واجتمعوا وتذاكروا فضيلة الجهاد، فخرج نافع على ثلاثمائة، وذلك عند وثوب الناس بابن زياد وكسر الخوارج باب السجن، وخرجوا واشتغل الناس عنهم بحرب الأزد وربيعة وتميم، فلما خرج نافع تبعوه، واصطلح أهل البصرة على عبد الله بن الحارث، فتجرد الناس للخوارج وأخافوهم، فلحق نافع بالأهواز في شوال سنة أربع وستين، وخرج من بقي منهم بالبصرة إلى ابن الأزرق إلا من لم يرد الخروج يومه ذلك، منهم: عبد الله بن الصفار، وعبد الله بن إباض، ورجال معهما على رأيهما، ونظر نافع فرأى أن | |
|
| |
الشيخ عودة الشيخ عودة
عدد المساهمات : 1748 تاريخ التسجيل : 28/09/2008 العمر : 74
| موضوع: رد: كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير الثلاثاء فبراير 11, 2014 3:28 am | |
| ذكر مسير التوابين وقتلهم لما أراد سليمان بن صرد الخزاعي الشخوص سنة خمس وستين بعث إلى رؤوس أصحابه فأتوه، فلما أهل ربيع الآخر خرج في وجوه أصحابه، وكانوا تواعدوا للخروج تلك الليلة، فلما أتى النخيلة دار في الناس فلم يعجبه عددهم، فأرسل حكيم بن منقذ الكندي والوليد بن عصير الكناني، فناديا في الكوفة: يا لثارات الحسين! فكانا أول خلق الله دعوا: يا لثارات الحسين. فأصبح من الغد وقد أتاه نحو مما في عسكره، ثم نظر في ديوانه فوجدهم ستة عشر ألفاً ممن بايعه، فقال: سبحان الله! ما وافانا من ستة عشر ألفاً إلا أربعة آلاف. فقيل له: إن المختار يثبط الناس عنك، إنه قد تبعه ألفان. فقال: قد بقي عشرة آلاف، أما هؤلاء بمؤمنين؟ أما يذكرون الله والعهود والمواثيق؟ فأقام بالنخيلة ثلاثاً يبعث إلى من تخلف عنه، فخرج إليه نحو من ألف رجل. فقام إليه المسيب بن نجبة فقال: رحمك الله! إنه لا ينفعك الكاره ولا يقاتل معك إلا من أخرجته النية، فلا تنتظر أحداً وجد في أمرك. قال: نعم ما رأيت. ثم قام سليمان في أصحابه فقال: أيها الناس من كان خرج يريد بخروجه وجه الله والآخرة فذلك منا ونحن منه فرحمة الله عليه حياً وميتاً، ومن كان إنما يريد الدنيا فوالله ما نأتي فيئاً نأخذه وغنيمة نغنمها ما خلا رضوان الله، وما معنا من ذهب ولا فضة ولا متاع، وما هو إلا سيوفنا على عواتقنا، وزادٌ قدر البلغة، فمن كان ينوي غير هذا فلا يصحبنا. فتنادى أصحاب من كل جانب: إنا لا نطلب الدنيا وليس لها خرجنا إنما خرجنا نطلب التوبة والطلب بدم ابن بنت رسول الله نبينا صلى الله عليه وسلم. فلما عزم سليمان على المسير قال له عبد الله بن سعد بن نفيل: إني قد رأيت رأياً إن يكن صواباً فالله الموفق، وإن يكن ليس صواباً فمن قبلي؛ إنا خرجنا نطلب بدم الحسين، وقتلته كلهم بالكوفة، منهم عمر بن سعد ورؤوس الأرباع والقبائل، فأين نذهب ها هنا وندع الأوتار؟ فقال أصحابه كلهم: هذا هو الرأي. فقال سليمان: لكن أنا لا أرى ذلك، إن الذي قتله وعبأ الجنود إليه وقال لا أمان له عندي دون أن يستسلم فأمضي فيه حكمي، هذا الفاسق ابن الفاسق عبيد الله بن زياد، فسيروا إليه على بركة الله فإن يظهركم الله عليه رجونا أن يكون من بعده أهون علينا منه، ورجونا أن يدين لكم أهل مصركم في عافية فينظرون إلى كل من شرك في دم الحسين فيقتلونه ولا يفشوا، وإن تستشهدوا فإنما قاتلتم المحلين، وما عند الله خير للأبرار، إني لا أحب أن تجعلوا جدكم بغير المحلين، ولو قاتلتم أهل مصركم ما عدم رجل أن يرى رجلاً قد قتل أخاه وأباه وحميمه ورجلاً يريد قتله، فاستخيروا الله وسيروا.
وبلغ عبد الله بن يزيد وإبراهيم بن محمد بن طلحة خروج ابن صرد، فأتياه في أشراف أهل الكوفة ولم يصحبهم من شرك في دم الحسين خوفاً منه، وكان عمر بن سعد تلك الأيام يبيت في قصر الإمارة خوفاً منهم. فلما أتياه قال عبد الله بن يزيد: إن المسلم أخو المسلم لا يخونه ولا يغشه، وأنتم إخواننا وأهل بلدنا وأحب أهل مصر خلقه الله إلينا، فلا تفجعونا بأنفسكم ولا تنقصوا عددنا بخروجكم من جماعتنا، أقيموا معنا حتى نتهيأ، فإذا سار عدونا إلينا خرجنا إليه بجماعتنا فقاتلناه. وجعل لسليمان وأصحابه خراج جوخي إن أقاموا. وقال إبراهيم بن محمد مثله؛ فقال سليمان لهما: قد محضتما النصيحة واجتهدتما في المشورة، فنحن بالله وله، ونسأل الله العزيمة على الرشد ولا نرانا إلا سائرين. فقال عبد الله: فأقيموا حتى نعبي معكم جريداً كثيفاً فتلقوا عدوكم بجمع كثيف. وكان قد بلغهم إقبال عبيد بن زياد من الشام في جنود. فلم يقم سليمان، فسار عشية الجمعة لخمس مضين من ربيع الآخر سنة خمس وستين، فوصل دار الأهواز وقد تخلف عنه ناس كثير، فقال: ما أحب أن تتخلفوا ولو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالاً، إن الله كره انبعاثكم فثبطهم واختصكم بفضل ذلك. ثم ساروا فانتهوا إلى قبر الحسين، فلما وصلوا صاحوا صيحةً واحدة، فما رئي أكثر باكياً من ذلك اليوم، فترحموا عليه وتابوا عنده من خذلانه وترك القتال معه وأقاموا عنده يوماً وليلة يبكون ويتضرعون ويترحمون عليه وعلى أصحابه، وكان من قولهم عند ضريحه: اللهم ارحم حسيناً الشهيد ابن الشهيد، المهدي ابن المهدي، الصديق ابن الصديق، اللهم إنا نشهدك أنا على دينهم وسبيلهم وأعداء قاتليهم وأولياء محبيهم، اللهم إنا خذلنا ابن بنت نبينا، صلى الله عليه وسلم، فاغفر لنا ما مضى منا وتب علينا وارحم حسيناً وأصحابه الشهداء الصديقين، وإنا نشهدك أنا على دينهم وعلى ما قتلوا عليه، وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين! وزادهم النظر إليه حنقاً. ثم ساروا بعد أن كان الرجل يعود إلى ضريحه كالمودع له، فازدحم الناس عليه أكثر من ازدحامهم على الحجر الأسود، ثم أخذوا على الأنبار، وكتب إليهم عبد الله بن يزيد كتاباً، منه: يا قومنا لا تطيعوا عدوكم، أنتم في أهل بلادكم خيار كلكم، ومتى يصبكم عدوكم يعلموا أنكم أعلام مصركم فيطمعهم ذلك فيمن وراءكم، يا قومنا (إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم ولن تفلحوا إذاً ابداً) الكهف: 20، يا قوم إن أيدينا وأيدكم واحدة وعدونا وعدوكم واحد ومتى تجتمع كلمتنا على عدونا نظهر على عدونا ومتى تختلف تهن شوكتنا على من خالفنا، يا قومنا لا تستغشوا نصحي ولا تخالفوا أمري وأقبلوا حين يقرأ كتابي عليكم. والسلام. فقال سليمان وأصحابه: قد أتانا هذا ونحن في مصرنا، فحين وطأنا أنفسنا على الجهاد ودنونا من أرض عدونا، ما هذا برأي. فكتب إليه سليمان يشكره ويثني عليه ويقول: إن القوم قد استبشروا ببيعهم أنفسهم من ربهم، وإنهم قد تابوا من عظيم ذنبهم وتوجهوا إلى الله وتوكلوا عليه ورضوا بما قضى الله عليهم. فلما جاء الكتاب إلى عبد الله قال: استمات القوم، أول خبر يأتيكم عنهم قتلهم، والله ليقتلن كراماً مسلمين. ثم ساروا حتى انتهوا إلى قرقيسيا على تعبية، وبها زفر بن الحارث الكلابي قد تحصن بها منهم ولم يخرج إليهم، فأرسل إليه المسيب بن نجبة يطلب إليه أن يخرج إليه سوقاً، فأتى المسيب إلى باب قرقيسيا فعرفهم نفسه وطلب الإذن على زفر، فأتى هذيل بن زفر أباه فقال: هذا رجل حسن الهيئة اسمه المسيب بن نجبة يستأذن عليك. فقال أبوه: أما تدري يا بني من هذا؟ هذا فارس مضر الحمراء كلها، إذا عد من أشرافها عشرة كان أحدهم هو، وهو بعد رجل ناسك له دين، إيذن له. فأذن له، فلما دخل عليه أجلسه إلى جانبه وسأله، فعرفه المسيب حاله وما عزموا عليه، فقال زفر: إنا لم نغلق أبواب المدينة إلا لنعلم إيانا تريدون أم غيرنا، وما بنا عجز عن الناس وما نحب قتالكم، وقد بلغنا عنكم صلاح وسيرة جميلة. ثم أمر ابنه فأخرج لهم سوقاً، وأمر للمسيب بألف درهم وفرس، فرد المال وأخذ الفرس وقال: لعلي أحتاج إليه إن عرج فرسي. وبعث زفر إليهم بخبز كثير وعلف ودقيق حتى استغنى الناس عن السوق، إلا إن كان الرجل يشتري سوطاً أو ثوباً.
ثم ارتحلوا من الغد، وخرج إليهم زفر يشيعهم وقال لسليمان: إنه قد سار خمسة أمراء من الرقة هم الحصين بن نمير وشرحبيل بن ذي الكلاع وأدهم بن محرز وجبلة بن عبد الله الخثعمي وعبيد الله بن زياد في عدد كثير مثل الشوك والشجر، فإن شئتم دخلتم مدينتنا وكانت أيدينا واحدة، فإذا جاءنا هذا العدو قاتلناهم جميعاً. فقال سليمان: قد طلب أهل مصرنا ذلك منا فأبينا عليهم. قال زفر: فبادروهم إلى عين الوردة وهي رأس عين فاجعلوا المدينة في ظهوركم ويكون الرستاق والماء والمادة في أيديكم وما بيننا وبينكم فأنتم آمنون منه، فاطووا المنازل، فوالله ما رأيت جماعةً قط أكرم منكم، فإني أرجو أن تسبقوهم، وإن قاتلتموهم فلا تقاتلوهم في فضاء ترامونهم وتطاعنونهم فإنهم أكثر منكم، ولا آمن أن يحيطوا بكم، فلا تقفوا لهم فيصرعوكم، ولا تصفوا لهم، فإني لا أرى معكم رجالة ومعهم الرجالة والفرسان بعضهم يحمي بعضاً، ولكن القوهم في الكتائب والمقانب ثم بثوها فيما بين ميمنتهم وميسرتهم واجعلوا مع كل كتيبة أخرى إلى جانبها، فإن حمل على إحدى الكتيبتين رحلت الأخرى فنفست عنها، ومتى شاءت كتيبة ارتفعت، ومتى شاءت كتيبة انحطت، ولو كنتم صفاً واحداً فزحفت إليكم الرجالة فدفعتم عن الصف انتقض فكانت الهزيمة. ثم ودعهم ودعا لهم ودعوا له وأثنوا عليه. ثم ساروا مجدين فانتهوا إلى عين الوردة فنزلوا غربيها وأقاموا خمساً فاستراحوا وأراحوا. وأقبل أهل الشام في عساكرهم حتى كانوا من عين الوردة على مسيرة يوم وليلة، فقام سليمان في أصحابه وذكر الآخرة ورغب فيها ثم قال: أما بعد فقد أتاكم عدوكم الذي دأبتم إليه في السير آناء الليل والنهار، فإذا لقيتموهم فاصدقوهم القتال واصبروا إن الله مع الصابرين، ولا يولينهم امرءٌ دبره إلا متحرفاً لقتال أو متحيزاً إلى فئة، ولا تقتلوا مدبراً، ولا تجهزوا على جريح، ولا تقتلوا أسيراً من أهل دعوتكم إلا أن يقاتلكم بعد أن تأسروه، فإن هذه كانت سيرة علي في أهل هذه الدعوة. ثم قال: إن أنا قتلت فأمير الناس مسيب بن نجبة، فإن قتل فالأمير عبد الله بن سعد بن نفيل، فإنقتل فالأمير عبد الله بن وال، فإن قتل فالأمير رفاعة بن شداد، رحم الله امرأً صدق ما عاهد الله عليه. ثم بعث المسيب في أربعمائة فارس ثم قال: سر حتى تلقى أول عساكرهم فشن عليهم الغارة، فإن رأيت ما تحبه وإلا رجعت، وإياك أن تترك واحداً من أصحابك أو يستقبل آخر ذلك، حتى لا تجد منه بداً. فسار يومه وليلته ثم نزل السحر. فلما أصبحوا أرسل أصحابه في الجهات ليأتوه بمن يلقون، فأتوه بأعرابي، فسأله عن أدنى العساكر منه، فقال: أدنى عسكر من عساكرهم منك عسكر شرحبيل بن ذي الكلاع، وهو منك على رأس ميل، وقد اختلف هو والحصين، ادعى الحصين أنه على الجماعة وأبى شرحبيل ذلك، وهما ينتظران أمر ابن زياد. فسار المسيب ومن معه مسرعين فأشرفوا عليهم وهم غارون، فحملوا في جانب عسكرهم، فانهزم العسكر وأصاب المسيب منهم رجالاً، فأكثروا فيهم الجراح وأخذوا الدواب، وخلى الشاميون عسكرهم وانهزموا، فغنم منه أصحاب المسيب ما أرادوا ثم انصرفوا إلى سليمان موفورين. وبلغ الخبر ابن زياد فسرح الحصين بن نمير مسرعاً حتى نزل في اثني عشرة ألفاً، فخرج أصحاب سليمان إليه لأربع بقين من جمادى الأولى، وعلى ميمنتهم عبد الله بن سعد، وعلى ميسرتهم المسيب بن نجبة، وسليمان في القلب، وجعل الحصين على ميمنته جبلة بن عبد الله، وعلى ميسرته ربيعة بن المخارق الغنوي، فلما دنا بعضهم من بعض دعاهم أهل الشام إلى الجماعة على عبد الملك بن مروان، ودعاهم أصحاب سليمان إلى خلع عبد الملك وتسليم عبيد الله بن زياد إليهم وأنهم يخرجون من بالعراق من أصحاب ابن الزبير ثم يرد الأمر إلى أهل بيت النبي، صلى الله عليه وسلم، فأبى كل منهم، فحملت ميمنة سليمان على ميسرة الحصين، والميسرة أيضاً على الميمنة، وحمل سليمان في القلب على جماعتهم، فانهزم أهل الشام إلى عسكرهم، وما زال الظفر لأصحاب سليمان إلى أن حجز بينهم الليل.
فلما كان الغد صبح الحصين جيش مع ابن ذي الكلاع ثمانية آلاف، أمدهم بهم عبيد الله بن زياد، وخرج أصحاب سليمان فقاتلوهم قتالاً لم يكن أشد منه جميع النهار لم يحجز بينهم إلا الصلاة، فلما أمسوا تحاجزوا وقد كثرت الجراح في الفريقين، وطاف القصاص على أصحاب سليمان يحرضونهم. فلما أصبح أهل الشام أتاهم أدهم بن محرز الباهلي في نحو من عشرة آلاف من ابن زياد، فاقتتلوا يوم الجمعة قتالاً شديداً إلى ارتفاع الضحى، ثم إن أهل الشام كثروهم وتعطفوا عليهم من كل جانب، ورأى سليمان ما لقي أصحابه، فنزل ونادى: عباد الله من أراد البكور إلى ربه والتوبة من ذنبه فإلي! ثم كسر جفنة سيفه ونزل معه ناس كثير وكسروا جفون سيوفهم ومشوا معه، فقاتلوهم، فقتل من أهل الشام مقتلة عظيمة وجرحوا فيهم فأكثروا الجراح. فلما رأى الحصين صبرهم وبأسهم بعث الرجالة ترميهم بالنبل واكتنفتهم الخيل والرجال، فقتل سليمان، رحمه الله، رماه يزيد بن الحصين بسهم فوقع ثم وثب ثم وقع. فلما قتل سليمان أخذ الراية المسيب بن نجبة وترحم على سليمان ثم تقدم فقاتل بها ساعةً ثم رجع ثم حمل، فعل ذلك مراراً، ثم قتل، رحمه الله، بعد أن قتل رجالاً. فلما قتل أخذ الراية عبد الله بن سعد بن نفيل وترحم عليهما، ثم قرأ: (فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً) الأحزاب: 23. وحف به من كان معه من الأزد. فبينما هم في القتال أتاهم فرسانٌ ثلاثة من سعد بن حذيفة يخبرون بمسيرهم في سبعين ومائة من أهل المدائن ويخبرون أيضاً بمسير أهل البصرة مع المثنى بن مخربة العبدي في ثلاثمائة، فسر الناس فقال عبد الله بن سعد: ذلك لو جاؤونا ونحن أحياء. فلما نظر الرسل إلى مصارع إخوانهم ساءهم ذلك واسترجعوا وقاتلوا معهم، وقتل عبد الله بن سعد بن نفيل، قتله ابن أخي ربيعة بن مخارق، وحمل خالد بن سعد بن نفيل على قاتل أخيه فطعنه بالسيف، واعتنقه الآخر فحمل أصحابه عليه فخلصوه بكثرتهم وقتلوا خالداً، وبقيت الراية ليس عندها أحد، فنادوا عبد الله بن والٍ فإذا هو قد اصطلى الحرب في عصابة معه، فحمل رفاعة بن شداد فكشف أهل الشام عنه، فأتى فأخذ الراية وقاتل ملياً ثم قال لأصحابه: من أراد الحياة التي ليس بعدها موت والراحة التي ليس بعدها نصب، والسرور الذي ليس بعده حزن، فليتقرب إلى الله بقتال هؤلاء المحلين، والرواح إلى الجنة، وذلك عند العصر، فحمل هو وأصحابه فقتلوا رجالاً وكشفوهم. ثم إن أهل الشام تعطفوا عليهم من كل جانب حتى ردوهم إلى المكان الذي كانوا فيه، وكان مكانهم لا يؤتى إلا من وجه واحد، فلما كان المساء تولى قتالهم أدهم بن محرز الباهلي فحمل عليهم في خيله ورجله، فوصل ابن محرز إلى ابن والٍ وهو يتلو: (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً) آل عمران: 169 الآية؛ فغاظ ذلك أدهم بن محرز فحمل عليه فضرب يده فأبانها ثم تنحى عنه وقال: إني أظنك وددت أنك عند أهلك. قال ابن وال: بئس ما ظننت، والله ما أحب أن يدك مكانها إلا أن يكون لي من الأجر مثل ما في يدي ليعظم وزرك ويعظم أجري. فغاظه ذلك أيضاً، فحمل عليه وطعنه فقتله وهو مقبل ما يزول. وكان ابن وال من الفقهاء العباد. فلما قتل أتوا رفاعة بن شداد البجلي وقالوا: لتأخذ الراية. فقال: ارجعوا بنا لعل الله يجمعنا ليوم شرهم. فقال له عبد الله بن عوف بن الأحمر: هلكنا والله، لئن انصرفت ليركبن أكتافنا فلا نبلغ فرسخاً حتى نهلك عن آخرنا، وإن نجا منا ناجٍ أخذته العرب يتقربون به إليهم فقتل صبراً، هذه الشمس قد قاربت الغروب فنقاتلهم على خيلنا، فإذا غسق الليل ركبنا خيولنا أول الليل وسرنا حتى نصبح ونسير على مهل ويحمل الرجل صاحبه وجريحه ونعرف الوجه الذي نأخذه. فقال رفاعة: نعم ما رأيت! وأخذ الراية وقاتلهم قتالاً شديداً، ورام أهل الشام أهلاكهم قبل الليل فلم يصلوا إلى ذلك لشدة قتالهم، وتقدم عبد الله بن عزيز الكناني فقاتل أهل الشام ومعه ولده محمد وهو صغير، فنادى بني كنانة من أهل الشام وسلم ولده إليهم ليوصلوه إلى الكوفة، فعرضوا عليه الأمان، فأبى ثم قاتلهم حتى قتل.
وتقدم كرب بن يزيد الحميري عند المساء في مائة من أصحابه فقاتلهم أشد قتال، فعرض عليه وعلى أصحابه ابن ذي الكلاع الحميري الأمان، قال: قد كنا آمنين في الدنيا وإنما خرجنا نطلب أمان الآخرة. فقاتلوهم حتى قتلوا. وتقدم صخر بن هلال المزني في ثلاثين من مزينة فقاتلوا حتى قتلوا. فلما أمسوا رجع أهل الشام إلى معسكرهم، ونظر رفاعة إلى كل رجل قد عقر به فرسه وجرح فدفعه إلى قومه ثم سار ليلته، وأصبح الحصين ليلتقيهم فلم يرهم، فلم يبعث في آثارهم، وساروا حتى أتوا قرقيسيا، فعرض عليهم زفر الإقامة، فأقاموا ثلاثاً، فأضافهم ثم زودهم وساروا إلى الكوفة. ثم أقبل سعد بن حذيفة بن اليمان في أهل المدائن فبلغ هيت، فأتاه الخبر، فرجع فلقي المثنى بن مخربة العبدي في أهل البصرة بصندوداء فأخبره، فأقاموا حتى أتاهم رفاعة فاستقبلوه، وبكى بعضهم إلى بعض وأقاموا يوماً وليلة ثم تفرقوا، فسار كل طائفة إلى بلدهم. ولما بلغ رفاعة الكوفة كان المختار محبوساً، فأرسل إليه: أما بعد فمرحباً بالعصبة الذين عظم الله لهم الأجر حين انصرفوا ورضي فعله حين قتلوا، أما ورب البيت ما خطا خاطٍ منكم خطوةً ولا ربا ربوة إلا كان ثواب الله له أعظم من الدنيا! إن سليمان قد قضى ما عليه وتوفاه الله وجعل وجهه مع أرواح النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، ولم يكن بصاحبكم الذي به تنصرون، إني أنا الأمير المأمور، والأمين المأمون، وقاتل الجبارين، والمنتقم من أعداء الدين، المقيد من الأوتار، فأعدوا واستعدوا وأبشروا، أدعوكم إلى كتاب الله، وسنة نبيه، والطلب بدم أهل البيت، والدفع عن الضعفاء، وجهال المحلين، والسلام. وكان قتل سليمان ومن معه في شهر ربيع الآخر. ولما سمع عبد الملك بن مروان بقتل سليمان وانهزام أصحابه صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه وقال: أما بعد فإن الله قد أهلك من رؤوس أهل العراق ملقح فتنةٍ ورأس ضلالةٍ سليمان بن صرد، ألا وإن السيوف تركن رأس المسيب خذاريف، وقد قتل الله منهم رأسين عظيمين ضالين مضلين: عبد الله بن سعد الأزدي، وعبد الله بن والٍ البكري، ولم يبق بعدهم من عنده امتناع وفي هذا نظر فإن أباه كان حياً قال أعشى همدان في ذلك، وهي مما يكتم ذلك الزمان: ألم خيالٌ منك يا أم غالب ... فحييت عنا من حبيب مجانب وما زلت في شجوٍ وما زلت مقصداً ... لهم غير أني من فراقك ناصب فما أنس لا أنس انفتالك في الضحى ... إلينا مع البيض الحسان الخراعب تراءت لنا هيفاء مهضومة الحشا ... لطيفة طي الكشح ريا الحقائب مشيكة غزار ودسى بهائها ... كشمس الضحى تنكل بين السحائب فلما تغشاها السحاب وحوله ... بدا حاجبٌ منها وضنت بجانب فتلك الهوى وهي الجوى لي والمنى ... فأحبب بها من خلةٍ لم تصاقب ولا يبعد الله الشباب وذكره ... وحب تصافي المعصرات الكواعب ويزداد ما أحببته من عتابنا ... لعاباً وسقياً للخدين المقارب فإني وإن لم أنسهن لذاكرٌ ... رؤية مخبأة كريم المناصب توسل بالتقوى إلى الله صادقاً ... وتقوى الإله خير تكساب كاسب وخلى عن الدنيا فلم يلتبس بها ... وتاب إلى الله الرفيع المراتب تخلى عن الدنيا وقال اطرحتها ... فلست إليها ما حييت بآيب وما أنا فيما يكره الناس فقده ... ويسعى له الساعون فيها براغب فوجهه نحو الثوية سائراً ... إلى ابن زيادٍ في الجموع الكتائب بقومٍ هم أهل التقية والنهى ... مصاليت أنجادٌ سراة مناجب مضوا تاركي رأي ابن طلحة حسبةً ... ولم يستجيبوا للأمير المخاطب فساروا وهم ما بين ملتمس التقى ... وآخر مما جر بالأمس تائب فلاقوا بعين الوردة الجيش ناضلا ... إليهم فحسوهم ببيضٍ قواضب يمانيةٍ تذري الأكف وتارةً ... بخيلٍ عتاقٍ مقرباتٍ سلاهب
فجاءهم جمعٌ من الشام بعده ... جموعٌ كموج البحر من كل جانب فما برحوا حتى أبيدت سراتهم ... فلم ينج منهم ثم غير عصائب وغودر أهل الصبر صرعى فأصبحوا ... تعاورهم ريح الصبا والجنائب فأضحى الخزاعي الرئيس مجدلاً ... كأن لم يقاتل مرةً ويحارب ورأس بني شمخٍ وفارس قومه ... شنوءة والتيمي هادي الكتائب وعمرو بن بشرٍ والوليد وخالدٌ ... وزيد بن بكرٍ والحليس بن غالب وضارب من همدان كل مشيع ... إذا شد لم ينكل كريم المكاسب ومن كل قومٍ قد أصبت زعيمهم ... وذو حسبٍ في ذروة المجد ثاقب أبوا غير ضربٍ يفلق الهام وقعه ... وطعنٍ بأطراف الأسنة صائب وإن سعيداً يوم يدمر عامراً ... لأشجع من ليثٍ بدربٍ مواثب فيا خير جيشٍ بالعراق وأهله ... سقيتم روايا كل أسحم ساكب فلا يبعدن فرساننا وحماتنا ... إذا البيض أبدت عن خدام الكواعب وما قتلوا حتى أثاروا عصابةً ... محلين نوراً كالشموس الضوارب وقيل: قتل سليمان ومن معه في شهر ربيع الآخر. الخزاعي الذي هو في هذا الشعر هو سليمان بن صرد الخزاعي. ورأس بني شمخ هو المسيب بن نجبة الفزاري. ورأس شنوءة هو عبد الله بن سعد بن نفيل الأزدي أزد شنوءة. والتيمي هو عبد الله ابن والٍ التيمي من تيم اللات بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل. والوليد هو ابن عصير الكناني. وخالد هو خالد بن سعد بن نفيل أخو عبد الله. نجبة بالنون، والجيم، والباء الموحدة المفتوحات. ذكر بيعة عبد الملك وعبد العزيز ابني مروان بولاية العهد في هذه السنة أمر مروان بن الحكم بالبيعة لابنيه عبد الملك وعبد العزيز. وكان السبب في ذلك أن عمرو بن سعيد بن العاص لما هزم مصعب بن الزبير حين وجهه أخوه عبد الله إلى فلسطين رجع إلى مروان وهو بدمشق قد غلب على الشام ومصر، فبلغ مروان أن عمراً يقول: إن الأمر لي بعد مروان، فدعا مروان حسان بن مالك بن بحدل فأخبره أنه يريد أن يبايع لابنيه عبد الملك وعبد العزيز وأخبره بما بلغه عن عمرو، فقال: أنا أكفيك عمراً، فلما اجتمع الناس عند مروان عشياً قام حسان فقال: إنه قد بلغنا أن رجالاً يتمنون أماني، قوموا فبايعوالعبد الملك وعبد العزيز من بعده، فبايعوا عن آخرهم. ذكر بعث ابن زياد وحبيشفي هذه السنة سير مروان بن الحكم بعثين: أحدهما مع عبيد الله بن زياد إلى الجزيرة ومحاربة زفر بن الحارث بقرقيسيا واستعمله على كل ما يفتحه، فإذا فرغ من الجزيرة توجه لقصد العراق وأخذه من ابن الزبير، فلما كان بالجزيرة بلغه موت مروان وأتاه كتاب عبد الملك بن مروان يستعمله على ما استعمله عليه أبوه ويحثه على المسير إلى العراق. والبعث الآخر إلى المدينة مع حبيش بن دلجة القيني، فسار بهم حتى انتهى إلى المدينة وعليها جابر بن الأسود بن عوف ابن أخي عبد الرحمن بن عوف من قبل ابن الزبير، فهرب منه جابر. ثم إن الحارث بن أبي ربيعة، وهو أخو عمرو بن أبي ربيعة، وجه جيشاً من البصرة، وكان والياً عليها، لابن الزبير وجعل عليهم الحنيف بن السجف التيمي لحرب حبيش، فلما سمع بهم حبيش سار إليهم من المدينة، وأرسل عبد الله بن الزبير العباس بن سهل بن سعد الساعدي إلى المدينة أميراً وأمره أن يسير في طلب حبيش حتى يوافي الجند من أهل البصرة الذين عليهم الحنيف، فأقبل عباس في آثارهم حتى لحقهم بالربذة، فقاتلهم حبيش، فرماه يزيد بن سنان بسهم فقتله، وكان معه يومئذٍ يوسف بن الحكم وابنه الحجاج، وهما على جمل واحد، وانهزم أصحابه، فتحرز منهم خمسمائة بالمدينة، فقال العباس بن سهل: انزلوا على حكمي، فنزلوا، فقتلهم، ورجع فل حبيش إلى الشام، ولما دخل يزيد بن سنان المدينة كان عليه ثياب بيض فاسودت مما مسحه الناس ومما صبوا عليه من الطيب. ذكر موت مروان بن الحكم وولاية ابنه عبد الملك في شهر رمضان من هذه السنة مات مروان بن الحكم.
وكان سبب موته أن معاوية بن يزيد لما حضرته الوفاة لم يستخلف أحداً، وكان حسان بن بحدل يريد أن يجعل الأمر من بعده في أخيه خالد بن يزيد، وكان صغيراً، وحسان خال أبيه يزيد، فبايع حسان مروان بن الحكم وهو يريد أن يجعل الأمر بعده لخالد، فلما بايعه هو وأهل الشام قيل لمروان تزوج أم خالد، وهي بنت أبي هاشم بن عتبة، حتى يصغر شأنه فلا يطلب الخلافة، فتزوجها، فدخل خالد يوماً على مروان وعنده جماعة وهو يمشي بين صفين، فقال مروان: والله إنك لأحمق! تعال يا ابن الرطبة الاست! يقصر به ليسقطه من أعين أهل الشام. فرجع خالد إلى أمه فأخبرها، فقالت له: لا يعلمن ذلك منك إلا أنا، أنا أكفيكه. فدخل عليها مروان فقال لها: هل قال لك خالد في شيئاً؟ قالت: لا، إنه أشد لك تعظيماً من أن يقول فيك شيئاً. فصدقها ومكث أياماً، ثم إن مروان نام عندها يوماً، فغطته بوسادة حتى قتلته، فمات بدمشق وهو ابن ثلاث وستين سنة، وقيل: إحدى وستين. وأراد عبد الملك قتل أم خالد، فقيل له: يظهر عند الخلق أن امرأة قتلت أباك، فتركها. ولما توفي مروان قام بأمر الشام بعده ابنه عبد الملك، وكان بمصر ابنه عبد العزيز بطاعة أخيه عبد الملك. وكان عبد الملك ولد لسبعة أشهر، فكان الناس يذمونه لذلك، قيل: إنه اجتمع عنده قوم من الأشراف، فقال لعبيد الله بن زياد بن ظبيان البكري: بلغني أنك لا تشبه أباك، فقال: بلى والله إني لأشبه به من الماء بالماء والغرب بالغراب، ولكن إن شئت أخبرتك بمن لم تنضجه الأرحام، ولم يولد بالتمام، ولم يشبه الأخوال والأعمام. قال: من ذلك؟ قال: سويد بن منجوف، فلما خرج عبيد الله وسويد قال له سويد: ما سرني بمقالتك له حمر النعم. فقال عبيد الله: وما سرني والله باحتمالك إياي وسكوتك سودها. ذكر صفته ونسبه وأخبارههو مروان بن الحكم بن أبي لحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس، وأمه آمنة بنت علقمة بن صفوان بن أمية من كنانة، وكان مولده سنة اثنتين من الهجرة، وكان أبوه قد أسلم عام الفتح، ونفاه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إلى الطائف لأنه يتجسس عليه، ورآه النبي، صلى الله عليه وسلم، يوماً يمشي ويتخلج في مشيه كأنه يحكيه، فقال له: كن كذلك، فما زال كذلك حتى مات. ولما توفي رسول الله، صلى الله عليه وسلم، كلم عثمان أبا بكر في رده، لأنه عمه، فلم يفعل، فلما توفي أبو بكر وولي عمر كلمه أيضاً في رده فلم يفعل، فلما ولي عثمان رده وقال: إن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وعدني أن يرده إلى المدينة، فكان ذلك مما أنكر الناس عليه. وتوفي في خلافة عثمان فصلى عليه، وقد رويت أخبار كثيرة في لعنه ولعن من في صلبه، رواها الحافظ، في أسانيدها كلام. وكان مروان قصيراً أحمر أوقص، يكنى أبا الحكم، وأبا عبد الملك، وأعتق في يوم واحد مائة رقبة، وولي المدينة لمعاوية مرات، فكان إذا ولي يبالغ في سب علي، وإذا عزل وولي سعيد بن العاص كف عنه، فسئل عنه محمد بن علي الباقر وعن سعيد، فقال: كان مروان خيراً لنا في السر، وسعيد خيراً لنا في العلانية. وقد أخرج حديث مروان في الصحيح، وكان الحسن والحسين يصليان خلفه ولا يعيدان الصلاة. وهو أول من قدم الخطبة في صلاة العيد وقبل الصلاة. ولما مات بويع لولده عبد الملك بن مروان في اليوم الذي مات فيه، وكان يقول له ولولده بنو الزرقاء، يقول ذلك من يريد ذمهم وعيبهم، وهي الزرقاء بنت موهب جدة مروان بن الحكم لأبيه، وكانت من ذوات الرايات التي يستدل بها على بيوت البغاء، فلهذا كانوا يذمون بها، ولعل هذا كان منها قبل أن يتزوجها أبو العاص بن أمية والد الحكم، فإنه كان من أشراف قريش، لا يكون هذا من امرأة وهي عنده، والله أعلم. حبيش بن دلجة بضم الحاء المههملة، وفتح الباء الموحدة المفتوحة، ثم الياء المثناة من تحت، وآخره شين معجمة، ودلجة بفتح الدال واللام. ذكر مقتل نافع بن الأزرقفي هذه السنة اشتد شوكة نافع بن الأزرق، وهو الذي ينتسب إليه الأزارقة من الخوارج.
وكان سبب قوته اشتغال أهل البصرة واختلافهم بسبب مسعود بن عمرو وقتله، وكثرت جموعه وأقبل نحو الجسر، فبعث إليه عبد الله بن الحارث مسلم بن عبيس بن كريز بن ربيعة، فخرج إليه فرفعه عن أرض البصرة حتى بلغ دولاب من أرض الأهواز، فاقتتلوا هناك، وجعل مسلم بن عبيس على ميمنته الحجاج بن باب الحميري، وعلى ميسرته حارثة بن بدر الغداني، وجعل ابن الأزرق على ميمنته عبيدة بن هلال اليشكري، وعلى ميسرته الزبير بن الماحوز التميمي، واشتد قتالهم، فقتل مسلم أمير أهل البصرة، وقتل نافع بن الأزرق أمير الخوارج في جمادى الآخرة، فأمر أهل البصرة عليهم الحجاج بن باب الحميري، وأمرت الخوارج عبد الله بن الماحوز التميمي، واقتتلوا، فقتل عبد الله والحجاج فأمر أهل البصر عليهم ربيعة بن الأجرم التميمي، وأمرت الخوارج عبيد الله بن الماحوز التميمي، ثم عادوا فاقتتلوا حتى أمسوا وقد كره بعضهم بعضاً وملوا القتال. فإنهم كذلك متواقفون متاجزون إذ جاءت الخوارج سريةٌ مستريحةٌ لم تشهد القتال، فحملت على الناس من ناحية عبد القيس، فانهزم الناس وقتل أمير أهل البصرة ربيعة بعد أن قتل أيضاً دغفل بن حنظلة الشيباني النسابة، وأخذ الراية حارثة بن يزيد، فقاتل ساعةً، وقد ذهب الناس عنه، فقاتل وحمى الناس ومعه جماعةٌ من أهل البصرة، ثم أقبل حتى نزل بالأهواز، وبلغ ذلك أهل البصرة فأفزعهم، وبعث عبد الله بن الزبير الحارث بن أبي ربيعة وعزل عبد الله بن الحارث، فأقبلت الخوارج نحو البصرة. ذكر محاربة المهلب الخوارجلما قربت الخوارج من البصرة أتى أهلها الأحنف بن قيس وسألوه أن يتولى حربهم، فأشار بالمهلب بن أبي صفرة لما يعلم فيه من الشجاعة والرأي والمعرفة بالحرب، وكان قد قدم من عند ابن الزبير وقد ولاه خراسان، فقال الأحنف: ما لهذا الأمر غير المهلب. فخرج إليه أشراف أهل البصرة فكلموه، فأبى، فكلمه الحارث بن أبي ربيعة، فاعتذر بعهده على خراسان، فوضع الحارث وأهل البصرة كتاباً إليه عن ابن الزبير يأمره بقتال الخوارج وأتوه بالكتاب، فلما قرأه قال: والله لا أسير إليهم إلا أن تجعلوا لي ما غلبت عليه وتقطعوني من بيت المال ما أقوي به من معي. فأجابوه إلى ذلك وكتبوا له به كتاباً، وأرسلوا إلى ابن الزبير فأمضاه، فاختار المهلب من أهل البصرة ممن يعرف نجدته وشجاعته اثني عشر ألفاً، منهم: محمد بن واسع وعبد الله بن رياح الأنصاري ومعاوية بن قرة المزني وأبو عمران الجوبي، وخرج المهلب إلى الخوارج وهم عند الجسر الأصغر، فحاربهم وهو في وجوه الناس وأشرافهم، فدفعهم عن الجسر، ولم يكن بقي إلا أن يدخلوا، فارتفعوا إلى الجسر الأكبر، فسار إليهم في الخيل والرجال. فلما رأوه قد قاربهم ارتفعوا فوق ذلك. ولما بلغ حارثة بن بدر تأمير المهلب على قتال الأزارقة قال لمن معه من الناس: كرنبوا ودولبوا ... حيث شئتم فاذهبوا فأقبل بمن معه نحو البصرة فرد الحارث بن أبي ربيعة إلى المهلب، وركب حارثة في سفينة في نهر دجيل يريد البصرة، فأتاه رجل من تميم وعليه سلاحه والخوارج وراءه، فصاح التميمي بحارثة يستغيث به ليحمله معه، فقرب السفينة إلى شاطىء النهر، وهو جرف، فوثب التميمي إليها فغاصت بجميع من فيها فغرقوا. وأما المهلب فإنه سار حتى نزل بالخوارج وهم بنهر تيرى وتنحوا عنه إلى الأهواز، وسير المهلب إلى عسكرهم الجواسيس تأتيه بأخبارهم، فلما أتاه خبرهم سار نحوهم واستخلف أخاه المعارك بن أبي صفرة على نهر تيرى، فلما وصل الأهواز قاتلت الخوارج مقدمته، وعليهم ابنه المغيرة بن المهلب بن أبي صفرة، فجال أصحابه ثم عادوا. فلما رأى الخوارج صبرهم ساروا عن سوق الأهواز إلى مناذر، فسار يريدهم، فلما قاربهم سير الخوارج جمعاً عليهم واقد مولى أبي صفرة إلى نهر تيرى وبها المعارك فقتلوه وصلبوه، وبلغ الخبر إلى المهلب فسير ابنه المغيرة إلى نهر تيرى، فأنزل عمه المعارك ودفنه وسكن الناس واستخلف بها جماعةً وعاد إلى أبيه وقد نزل سولاف.
وكان المهلب شديد الاحتياط والحذر لا ينزل إلا في خندق وهو على تعبية ويتولى الحرس بنفسه، فلما نازل الخوارج بسولاف ركبوا ووقفوا له واقتتلوا قتالاً شديداً صبر فيه الفريقان، ثم حملت الخوارج حملةً صادقةً على المهلب وأصحابه فانهزموا وقتل منهم، وثبت المهلب وأبلى ابنه المغيرة يومئذٍ بلاءً حسناً ظهر فيه أثره، ونادى المهلب أصحابه فعادوا إليه معهم جمع كثير نحو أربعة آلاف فارس، فلما كان الغد أراد القتال بمن معه فنهاه بعض أصحابه لضعفهم وكثرة الجراح فيهم، فترك القتال وسار وقطع دجيل ونزل بالعاقول لا يؤتى إلا من جهة واحدة، وفي يوم سولاف يقول ابن قيس الرقيات: الا طرقت من آل مية طارقه ... على أنها معشوقة الدل عاشقه تميس وأرض السوس بيني وبينها ... وسولاف رستاقٌ حمته الأزارقه إذا نحن شتى صادفتنا عصابةٌ ... حروريةٌ أضحت من الدين مارقه أجازت إلينا العسكرين كليهما ... فباتت لنا دون اللحاف معانقه وقال فيه بعض الخوارج: وكائن تركنا يوم سولاف منهم ... اسارى وقتلى في الجحيم مصيرها وأكثر الشعراء فيه. فلما وصل المهلب إلى العاقول نزل فيه وأقام ثلاثة أيام، ثم ارتحل وسار نحو الخوارج، وهم بسلى وسلبرى، فنزل قريباً منهم، وكان كثيراً ما يفعل أشياء يحدث بها الناس لينشطوا إلى القتال فلا يرون لها أثراً، حتى قال الشاعر: أنت الفتى كل الفتى ... لو كنت تصدق ما تقول وسماه بعضهم الكذاب، وبعض الناس يظن أنه كذاب في كل حال، وليس كذلك إنما كان يفعل ذلك مكايدة للعدو. فلما نزل المهلب قريباً من الخوارج وخندق عليهم وضع المسالح وأذكى العيون والحرس والناس على راياتهم ومواقفهم وأبواب الخندق محفوظة، فكان الخوارج إذا أرادوا بياته وغرته وجدوا أمراً محكماً فرجعوا، فلم يقاتلهم إنسان كان أشد عليهم منه. ثم إن الخوارج أرسلوا عبيدة بن هلال والزبير بن الماحوز في عسكر ليلاً إلى عسكر المهلب ليبيتوه، فصاحوا بالناس عن يمينهم ويسارهم فوجدوهم على تعبية قد حذروا فلم ينالوا منهم شيئاً، وأصبح المهلب فخرج إليهم في تعبية، وجعل الأزد وتميماً ميمنةً، وبكر بن وائل وعبد القيس ميسرةً، وأهل العالية في القلب، وخرجت الخوارج وعلى ميمنتهم عبيدة بن هلال اليشكري، وعلى ميسرتهم الزبير بن الماحوز، وكانوا أحسن عدة وأكرم خيلاً من أهل البصرة لأنهم مخروا الأرض وجردوها ما بين كرمان إلى الأهواز. فالتقى الناس واقتتلوا أشد قتال، وصبر الفريقان عامة النهار، ثم إن الخوارج شدت على الناس شدةً منكرةً، فأجفلوا وانهزموا لا يلوي أحد على أحدٍ، حتى بلغت الهزيمة البصرة، وخاف أهلها السباء. وأسرع المهلب حتى سبق المنهزمين إلى مكان مرتفع، ثم نادى: إلي عباد الله! فاجتمع إليه ثلاثة آلاف أكثرهم من قومه من الأزد، فلما رآهم رضي عدتهم فخطبم وحثهم على القتال ووعدهم النصر وأمرهم أن يأخذ كل رجل منهم عشرة أحجار، وقال: سيروا بنا نحو عسكرهم فإنهم الآن آمنون وقد خرجت خيلهم في طلب إخوانكم، فوالله إني لأرجو أن لا يرجع إليهم خيلهم حتى تستبيحوا عسكرهم وتقتلوا أميرهم. فأجابوه، فأقبل بهم راجعاً، فما شعرت الخوارج إلا والمهلب يقاتلهم في جانب عسكرهم، فلقيهم عبد الله بن الماحوز والخوارج، فرماهم أصحاب المهلب بالأحجار حتى أثخنوهم ثم طعنوهم بالرماح وضربوهم بالسيوف، فاقتتلوا ساعة، فقتل عبد الله بن الماحوز وكثيرٌ من أصحابه، وغنم المهلب عسكرهم، وأقبل من كان في طلب أهل البصرة راجعاً، وقد وضع المهلب لهم خيلاً ورجالاً تختطفهم وتقتلهم، وانكفأوا راجعين مذلولين مغلوبين، فارتفعوا إلى كرمان وجانب أصبهان. قال بعض الخوارج لما رأى قتال أصحاب المهلب بالحجارة: أتانا بأحجارٍ ليقتلنا بها ... وهل تقتل الأقران ويحك بالحجر ولما فرغ المهلب منهم أقام مكانه حتى قدم مصعب بن الزبير على البصرة أميراً، وعزل الحارث بن أبي ربيعة؛ وفي هذا اليوم يقول الصلتان العبدي: بسلى وسلبرى مصارع فتيةٍ ... كرامٍ وقتلى لم توسد خدودها فلما قتل عبد الله بن الماحوز استخلف الخوارج الزبير بن الماحوز.
وكتب المهلب إلى الحارث بن أبي ربيعة يعرفه ظفره، فأرسل الحارث الكتاب إلى ابن الزبير بمكة ليقرأه على الناس هناك، وكتب الحارث إلى المهلب: أما بعد فقد بلغني كتابك تذكر فيه نصر الله وظفر المسلمين، فهنيئاً لك يا أخا الأزد شرف الدنيا وعزها وثواب الآخرة وفضلها. فلما قرأ المهلب كتابه ضحك وقال: أما يعرفني إلا بأخي الأزد! ما هو إلا أعرابي جافٍ. وقيل: إن عثمان بن عبيد الله بن معمر قاتل الخوارج ونافع بن الأزرق قبل مسلم فقتل عثمان وانهزم أصحابه بعد أن قتل من الخوارج خلقٌ كثير، فسير إليهم من البصرة بعده حارثة بن بدر الغداني، فلما رآهم عرف أنه لا طاقة له بهم فقال لأصحابه: كرنبوا ودولبوا ... كيف شئتم فاذهبوا يعني ما شاء؛ ثم سار بعده مسلم بن عبيس. وقيل: إن المهلب لما دفع الخوارج من البصرة إلى ناحية الأهواز أقام بقية سنته يجبي كور دجلة، ورزق أصحابه، وأتاه المدد من البصرة حتى بلغ أصحابه ثلاثين ألفاً. فعلى هذا تكون هزيمة الخوارج سنة ست وستين. ذكر نجدة بن عامر الحنفيهو نجدة بن عامر بن عبد الله بن ساد بن المفرج الحنفي، وكان مع نافع ابن الأزرق، ففارقه لإحداثه في مذهبه ما تقدم ذكره، وسار إلى اليمامة، ودعا أبا طالوت إلى نفسه، فمضى إلى الحضارم فنهبها، وكانت لبني حنيفة، فأخذها منهم معاوية بن أبي سفيان فجعل فيها من الرقيق ما عدتهم وعدة أبنائهم ونسائهم أربعة آلاف، فغنم ذلك وقسمه بين أصحابه، وذلك سنة خمس وستين، فكثر جمعه. ثم إن عيراً خرجت من البحرين، وقيل من البصرة، تحمل مالاً وغيره يراد بها ابن الزبير، فاعترضها نجدة فأخذها وساقها حتى أتى بها أبا طالوت بالحضارم فقسمها بين أصحابه، وقال: اقتسموا هذا المال وردوا هؤلاء العبيد واجعلوهم يعملون الأرض لكم فإن ذلك أنفع. فاقتسموا المال وقالوا: نجدة خير لنا من أبي طالوت؛ فخلعوا أبا طالوت وبايعوا نجدة وبايعه أبو طالوت، وذلك في سنة ست وستين، ونجدة يومئذٍ ابن ثلاثين سنة. ثم سار في جمع إلى بني كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة، فلقيهم بذي المجاز فهزمهم وقتلهم قتلاً ذريعاً، وصبر كلاب وعطيف ابنا قرة بن هبيرة القشيريان وقاتلا حتى قتلا، وانهزم قيس بن الرقاد الجعدي فلحقه أخوه لأبيه معاوية فسأله أن يحمله ردفاً فلم يفعل. ورجع نجدة إلى اليماامة فكثر أصحابه فصاروا ثلاثة آلاف، ثم سار نجدة إلى البحرين سنة سبع وستين، فقالت الأزد: نجدة أحب إلينا من ولاتنا لأنه ينكر الجور وولاتنا يجوزونه، فعزموا على مسالمته، واجتمعت عبد القيس ومن بالبحرين غير الأزد على محاربته، فقال بعض الأزد: نجدة أقرب إليكم منه إلينا لأنكم كلكم من ربيعة فلا تحاربوه! وقال بعضهم: لا ندع نجدة وهو حروريٌّ ما رق تجري علينا أحكامه. فالتقوا بالقطيف فانهزمت عبد القيس وقتل منهم جمعٌ كثير وسبى نجدة من قدر عليه من أهل القطيف؛ فقال الشاعر: نصحت لعبد القيس يوم قطيفها ... وما نفع نصحٍ، قيل، لا يتقبل وأقام نجدة بالقطيف ووجه ابنه المطرح في جمع إلى المنهزمين من عبد القيس، فقاتلوه بالثوير، فقتل المطرح بن نجدة وجماعة من أصحابه. وأرسل نجدة سريةً إلى الخط فظفر بأهله، وأقام نجدة بالبحرين. فلما قدم مصعب بن الزبير إلى البصرة سنة تسع وستين بعث إليه عبد الله بن عمير الليثي الأعور في أربعة عشر ألفاً فجعل يقول: اثبت نجدة فإنا لا نفر، فقدم ونجدة بالقطيف، فأتى نجدة إلى ابن عمير، وهو غافل، فقاتلهم طويلاً وافترقوا، وأصبح ابن عمير فهاله ما رأى في عسكره وأصاب جواري فيهن أم ولد لابن عمير، فعرض عليها أن يرسلها إلى مولاها فقالت: لا حاجة بي إلى من فرعني وتركني. وبعث نجدة أيضاً بعد هزيمة ابن عمير جيشاً إلى عمان واستعمل عليهم عطية بن الأسود الحنفي، وقد غلب عليها عباد بن عبد الله، وهو شيخ كبير، وابناه سعيد وسليمان يعشران السفن ويجيبان البلاد، فلما أتاهم عطية قاتلوه فقتل عباد واستولى عطية على البلاد فأقام بها أشهراً ثم خرج منها واستخلف رجلاً يكنى أبا القاسم، فقتله سعيد وسليمان ابنا عباد وأهل عمان.
ثم خالف عطية نجدة، على ما نذركه إن شاء الله، فعاد إلى عمان فلم يقدر عليها فركب في البحر وأتى كرمان وضرب بها دراهم سماها العطوية وأقام بكرمان. فأرسل إليه المهلب جيشاً، فهرب إلى سجستان ثم إلى السند، فلقيه خيل المهلب بقندابيل فقتله، وقيل: قتله الخوارج. ثم بعث نجدة إلى البوادي بعد هزيمة ابن عمير أيضاً من يأخذ من أهلها الصدقة، فقاتل أصحابه بني تميم بكاظمة، وأعان أهل طويلع بني تميم، فقتلوا من الخوارج رجلاً، فأرسل نجدة إلى أهل طويلع من أغار عليهم وقتل منهم نيفاً وثلاثين رجلاً وسبى. ثم إنه دعاهم بعد ذلك فأجابوه، فأخذ منهم الصدقة، ثم سار نجدة إلى صنعاء في خف من الجيش، فبايعه أهلها وظنوا أن وراءه جيشاً كثيراً، فلما لم يروا مدداً يأتيه ندموا على بيعته، وبلغه ذلك فقال: إن شئتم أقلتكم بيعتكم وجعلتكم في حل منها وقاتلتكم. فقالوا: لا نستقيل بيعتنا. فبعث إلى مخالفيها فأخذ منهم الصدقة، وبعث نجدة أبا فديك إلى حضرموت فجبى صدقات أهلها. وحج نجدة سنة ثمان وستين، وقيل سنة تسع وستين، وهو في ثمانمائة وستين رجلاً، وقيل في ألفي رجل وستمائة رجل، وصالح ابن الزبير على أن يصلي كل واحد بأصحابه ويقف بهم ويكف بعضهم عن بعض. فلما صدر نجدة عن الحج سار إلى المدينة، فتأهب أهلها لقتاله، وتقلد عبد الله بن عمر سيفاً، فلما كان نجدة بنخل أخبر بلبس ابن عمر السلاح، فرجع إلى الطائف وأصاب بنتاً لعبد الله بن عمرو بن عثمان كانت عند ظئر لها فضمها إليه، فقال بعض أصحابه: إن نجدة ليتعصب لهذه الجارية فامتحنوه، فسأله بعضهم بيعها منه، فقال: قد أعتقت نصيبي منها فهي حرة. قال: فزوجني إياها. قال: هي بالغ وهي أملك بنفسها فأنا استأمرها؛ فقام من مجلسه ثم عاد، قال: قد استأمرتها وكرهت الزواج. فقيل: إن عبد الملك أو عبد الله بن الزبير كتب إليه: والله لئن أحدثت فيها حدثاً لأطأن بلادك وطأة لا يبقى معها بكري. وكتب نجدة إلى ابن عمر يسأله عن أشياء، فقال: سلوا ابن عباس، فسألوه، ومساءلة ابن عباس مشهورة. ولما سار نجدة من الطائف أتاه عاصم بن عروة بن مسعود الثقفي فبايعه عن قومه، ولم يدخل نجدة الطائف، فلما قدم الحجاج الطائف لمحاربة ابن الزبير قال لعاصم: يا ذا الوجهين بايعت نجدة! قال: إي والله وذو عشرة أوجه، أعطيت نجدة الرضى ودفعته عن قومي وبلدي. واستعمل الحاروق، وهو حراق، على الطائف وتبالة والسراة، واستعمل سعد الطلائع على ما يلي نجران، ورجع نجدة إلى البحرين فقطع الميرة عن أهل الحرمين منها ومن اليمامة، فكتب إليه ابن عباس: إن ثمامة بن أثال لما أسلم قطع الميرة عن أهل مكة وهم مشركون فكتب إليه رسول الله، صلى الله عليه وسلم: إن أهل مكة أهل الله فلا تمنعهم الميرة، فجعلها لهم، وإنك قطعت الميرة عنا ونحن مسلمون. فجعلها نجدة لهم. ولم يزل عمال نجدة على النواحي حتى اختلف عليه أصحابه فطمع فيهم الناس؛ فأما الحاروق فطلبوه بالطائف فهرب، فلما كان من العقبة في طريقه لحقه قوم يطلبونه فرموه بالحجارة حتى قتلوه. ذكر الاختلاف على نجدة وقتله وولاية أبي فديكثم إن أصحاب نجدة اختلفوا عليه لأسباب نقموها منه، فمنها: أنا أبا سنان حي بن وائل أشار على نجدة بقتل من أجابه تقية، فشتمه نجدة، فهم بالفتك به، فقال له نجدة: كلف الله أحداً علم الغيب؟ قال: لا. قال: فإنما علينا أن نحكم بالظاهر. فرجع أبو سنان إلى نجدة. ومنها: أن عطية بن الأسود خالف على نجدة، وسببه أن نجدة سير سريةً بحراً وسريةً براً، فأعطى سرية البحر أكثر من سرية البر، فنازعه عطية حتى أغضبه، فشتمه نجدة، فغضب عليه وألب الناس عليه. وكلم نجدة في رجل يشرب الخمر في عسكره فقال: هو رجل شديد النكاية على العدو وقد استنصر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بالمشركين. وكتب عبد الملك إلى نجدة يدعوه إلى طاعته ويوليه اليمامة ويهدر له ما أصاب من الأموال والدماء، فطعن عليه عطية وقال: ما كاتبه عبد الملك حتى علم منه دهاناً في الدين، وفارقه إلى عمان.
ومنها أن قوماً فارقوا نجدة واستنابوه فحلف أن لا يعود، ثم ندموا على استنابته وتفرقوا ونقموا عليه أشياء أخر فخالف عليه عامة من معه فانحازوا عنه وولوا أمرهم أبا فديك عبد الله بن ثور، أحد بني قيس بن ثعلبة، واستخفى نجدة، فأرسل أبو فديك في طلبه جماعةً من أصحابه وقال: إن ظفرتم به فجيئوني به. وقيل لأبي فديك: إن لم تقتل نجدة تفرق الناس عنك، فألح في طلبه. وكان نجدة مستخفياً في قرية من قرى حجر، وكان للقوم الذين اختفى عندهم جاريةٌ يخالف إليها راعٍ لهم، فأخذت الجارية من طيب كان مع نجدة، فسألها الراعي عن أمر الطيب، فأخبرته، فأخبر الراعي أصحاب أبي فديك بنجدة، فطلبوه، فنذر بهم، فأتى أخواله من بني تميم فاستخفى عندهم. ثم أراد المسير إلى عبد الملك فأتى بيته ليعهد إلى زوجته، فعلم به الفديكية وقصدوه، فسبق إليه رجل منهم فأعلمه، فخرج وبيده السيف، فنزل الفديكي عن فرسه وقال: إن فرسي هذا لا يدرك فاركبه فلعلك تنجو عليه. فقال: ما أحب البقاء ولقد تعرضت للشهادة في مواطن ما هذا بأحسنها، وغشيه أصحاب أبي فديك فقتلوه، وكان شجاعاً كريماً، وهو يقول: وإن جر مولانا علينا جريرةً ... صبرنا لها إن الكرام الدعائم ولما قتل نجدة سخط قتله قوماً من أصحاب أبي فديك ففارقوه، وثار به مسلم بن جبير فضربه اثنتي عشرة ضربة بسكين، فقتل مسلم وحمل أبو فديك إلى منزله فبرأ. ذكر استعمال مصعب على المدينةفي هذه السنة عزل عبد الله بن الزبير أخاه عبيدة بن الزبير عن المدينة واستعمل أخاه مصعباً. وسبب ذلك أن عبيدة خطب الناس فقال لهم: قد ترون ما صنع الله بقوم في ناقة قيمتها خمسة دراهم، فسمي مقوم الناقة، فبلغ ذلك أخاه عبد الله فعزله واستعمل مصعباً. ذكر بناء ابن الزبير الكعبةلما احترقت الكعبة حين غزا أهل الشام عبد الله بن الزبير أيام يزيد تركها ابن الزبير يشنع بذلك على أهل الشام، فلما مات يزيد واستقر الأمر لابن الزبير شرع في بنائها، فأمر بهدمها حتى ألحقت بالأرض، وكانت قد مالت حيطانها من حجارة المنجنيق، وجعل الحجر الأسود عنده، وكان الناس يطوفون من وراء الأساس، وضرب عليها السور وأدخل فيها الحجر، واحتج بأن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال لعائشة: لولا حدثان عهد قومك بالكفر لرددت الكعبة على أساس إبراهيم وأزيد فيها الحجر. فحفر ابن الزبير فوجد أساساً أمثال الجمال فحركوا منها صخرة فبرقت بارقة فقال: أقروها على أساسها وبنائها، وجعل لها بابين يدخل | |
|
| |
الشيخ عودة الشيخ عودة
عدد المساهمات : 1748 تاريخ التسجيل : 28/09/2008 العمر : 74
| موضوع: رد: كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير الثلاثاء فبراير 11, 2014 3:30 am | |
| فلما خرج نزل بداره، فقال لمن يثق به: قاتلهم الله ما أحمقهم حين يرون أني أفي لهم! أما حلفي بالله فإنني إذا حلفت على يمين فرأيت خيراً منها كفرت عن يميني، وخروجي عليهم خير من كفي عنهم، وأما هدي البدن وعتق المماليك فهو أهون علي من بصقة، فوددت أن تم لي أمري ولا أملك بعده مملوكاً أبداً. ثم اختلفت إليه الشيعة واتفقوا على الرضى به، ولم يزل أصحابه يكثرون وأمره يقوى حتى عزل ابن الزبير عبد الله بن يزيد الخطمي وإبراهيم بن محمد بن طلحة واستعمل عبد الله بن مطيع على عملهما بالكوفة، فلقيه بحير بن رستان الحميري عند مسيره إلى الكوفة فقال له: لا تسر الليلة فإن القمر بالناطح فلا تسر، فقال له: وهل نطلب إلا النطح! فلقي نطحاً كما يريد، فكان البلاء موكلاً بمنطقه، وكان شجاعاً. وسار إبراهيم إلى المدينة وكسر الخراج وقال: كانت فتنة، فسكت عنه ابن الزبير. وكان قدوم ابن مطيع في رمضان لخمس بقين منه، وجعل على شرطته إياس بن أبي مضارب العجلي، وأمره بحسن السيرة والشدة على المريب، ولما قدم صعد المنبر فخطبهم وقال: أما بعد فإن أمير المؤمنين بعثني على مصركمك وثغوركم، وأمرني بجابية فيئكم وأن لا أحمل فضل فيئكم عنكم إلا برضى منكم، وأن أتبع وصية عمر بن الخطاب التي أوصى بها عند وفاته، وسيرة عثمان بن عفان، فاتقوا الله واستقيموا ولا تختلفوا وخذوا على أيدي سفهائكم، فإن لم تفعلوا فلوموا أنفسكم ولا تلوموني، فوالله لأوقعن بالسقيم العاصي، ولأقيمن درء الأصعر المرتاب. فقام إليه السائب بن مالك الأشعري فقال: أما حمل فيئنا برضانا فإنا نشهد أنا لا نرضى أن يحمل عنا فضله وأن لا يقسم إلا فينا، وأن لا يسار فينا إلا بسيرة علي بن أبي طالب التي سار بها في بلادنا هذه حتى هلك، ولا حاجة لنا في سيرة عثمان في فيئنا ولا في أنفسنا، ولا في سيرة عمر بن الخطاب فينا، وإن كانت أهون السيرتين علينا، وقد كان يفعل بالناس خيراً. فقال يزيد بن أنس: صدق السائب وبر. فقال ابن مطيع: نسير فيكم بكل سيرة أحببتموها. ثم نزل. وجاء إياس بن مضارب إلى ابن مطيع فقال له: إن السائب بن مالك من رؤوس أصحاب المختار، فابعث إلى المختار فليأتك، فإذا جاء فاحبسه حتى يستقيم أمر الناس، فإن أمره قد استجمع له وكأنه قد وثب بالمصر. فبعث ابن مطيع إلى المختار زائدة بن قدامة وحسين بن عبد الله البرسمي من همدان، فقالا: أجب الأمير، فعزم على الذهاب، فقرأ زائدة: (وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك) الأنفال: 30 الآية؛ فألقى المختار ثيابه وقال: ألقوا علي قطيفةً فقد وعكت، إني لأجد برداً شديداً، ارجعا إلى الأمير فأعلماه حالي. فعادا إلى ابن مطيع فأعلماه، فتركه. ووجه المختار إلى أصحابه فجمعهم حوله في الدور وأراد أن يثب في الكوفة في المحرم، فجاء رجلٌ من أصحاب شبام، وشبام حي من همدان، وكان شريفاً اسمه عبد الرحمن بن شريح، فلقي سعيد بن منقذ الثوري وسعر بن أبي سعر الحنفي والأسود بن جراد الكندي وقدامة بن مالك الجشمي فقال لهم: إن المختار يريد أن يخرج بنا ولا ندري أرسله ابن الحنفية أم لا، فانهضوا بنا إلى ابن الحنفية نخبره بما قدم علينا به المختار، فإن رخص لنا في اتباعه تبعناه وإن نهانا عنه اجتنبناه، فوالله ما ينبغي أن يكون شيء من الدنيا آثر عندنا من سلامة ديننا. قالوا له: أصبت. فخرجوا إلى ابن الحنفية، فلما قدموا عليه سألهم عن حال الناس فأخبروه عن حالهم وما هم عليه وأعلموه حال المختار وما دعاهم إليه واستأذنوه في اتباعه. فلما فرغوا من كلامهم قال لهم بعد أن حمد الله وأثنى عليه وذكر فضيلة أهل البيت والمصيبة بقتل الحسين، ثم قال لهم: وأما ما ذكرتم ممن دعاكم إلى الطلب بدمائنا فوالله لوددت أن الله انتصر لنا من عدونا بمن شاء من خلقه، ولو كره لقال لا تفعلوا.
فعادوا وناس من الشيعة ينتظرونهم ممن أعلموه بحالهم، وكان ذلك قد شق على المختار وخاف أن يعودوا بأمر يخذل الشيعة عنه، فلما قدموا الكوفة دخلوا على المختار قبل دخولهم إلى بيوتهم، فقال لهم: ما وراءكم فقد فتنتم وارتبتم! فقالوا له: إنا قد أمرنا بنصرك. فقال: الله أكبر، اجمعوا إلي الشيعة، فجمع من كان قريباً منهم، فقال لهم: إن نفراً قد أحبوا أن يعلموا مصداق ما جئت به فرحلوا إلى الإمام المهدي، فسألوه عما قدمت به عليكم، فنبأهم أني وزيره وظهيره ورسوله وأمركم باتباعي وطاعتي فيما دعوتكم إليه من قتال المحلين والطلب بدماء أهل بيت نبيكم المصطفين. فقام عبد الرحمن بن شريح وأخبرهم بحالهم ومسيرهم وأن ابن الحنفية أمرهم بمظاهرته ومؤازرته، وقال لهم: ليبلغ الشاهد الغائب واستعدوا وتأهبوا. وقام جماعة من أصحابه فقالوا نحواً من كلامه. فاستجمعت له الشيعة، وكان من جملتهم الشعبي وأبوه شراحيل، فلما تهيأ أمره للخروج قال له بعض أصحابه: إن أشراف أهل الكوفة مجمعون على قتالكم مع ابن مطيع، فإن أجابنا إلى أمرنا إبراهيم بن الأشتر رجونا القوة على عدونا، فإنه فتىً رئيس، وابن رجل شريف، له عشيرة ذات عز وعدد. فقال لهم المختار: فالقوه وادعوه. فخرجوا إليه ومعهم الشعبي فأعلموه حالهم وسألوه مساعدتهم عليه وذكروا له ما كان أبوه عليه من ولاء علي وأهل بيته. فقال لهم: إني قد أجبتكم إلى الطلب بدم الحسين وأهل بيته على أن تولوني الأمر. فقالوا له: أنت لذلك أهل ولكن ليس إلى ذلك سبيل، هذا المختار قد جاءنا من قبل المهدي وهو المأمور بالقتال وقد أمرنا بطاعته. فسكت إبراهيم ولم يجبهم، فانصرفوا عنه فأخبروا المختار، فمكث ثلاثاً ثم سار في بضعة عشر من أصحابه والشعبي وأبوه فيهم إلى إبراهيم فدخلوا عليه، فألقى لهم الوسائد، فجلسوا عليها وجلس المختار معه على فراشه، فقال له المختار: هذا كتاب من المهدي محمد بن علي أمير المؤمنين وهو خير أهل الأرض اليوم وابن خير أهلها قبل اليوم بعد أنبياء الله ورسله، وهو يسألك أن تنصرنا وتؤازرنا. قال الشعبي: وكان الكتاب معي، فلما قضى كلامه قال لي: ادفع الكتاب إليه، فدفعه إليه الشعبي، فقرأه فإذا فيه: من محمد المهدي إلى إبراهيم بن مالك الأشتر، سلام عليك فإني أحمد الله إليك الذي لا إله إلا هو، أما بعد فإني قد بعثت إليكم وزيري وأميني الذي ارتضيته لنفسي وأمرته بقتال عدوي والطلب بدماء أهل بيتي فانهض معهم بنفسك وعشيرتك ومن أطاعك فإنك إن تنصرني وأجبت دعوتي كانت لك بذلك عندي فضيلة، ولك أعنة الخيل وكل جيشٍ غازٍ وكل مصر ومنبر وثغر ظهرت عليه فيما بين الكوفة وأقصى بلاد الشام. فلما فرغ من قراءة الكتاب قال: قد كتب إلي ابن الحنفية قبل اليوم وكتبت فلم يكتب إلي إلا باسمه واسم أبيه. قال المختار: إن ذلك زمان وهذا زمان. قال: فمن يعلم أن هذا كتابه إلي؟ فشهد جماعة ممن معه، منهم: زيد بن أنس وأحمر بن شميط وعبد الله بن كامل وجماعتهم إلا الشعبي. فلما شهدوا تأخر إبراهيم عن صدر الفراش وأجلس المختار عليه وبايعه ثم خرجوا من عنده، وقال إبراهيم للشعبي: قد رأيتك لم تشهد مع القوم أنت ولا أبوك، أفترى هؤلاء شهدوا على حق؟ فقال له: هؤلاء سادة القراء ومشيخة المصر وفرسان العرب ولا يقول مثلهم إلا حقاً. فكتب أسماءهم وتركها عنده، ودعا إبراهيم عشيرته ومن أطاعه وأقبل يختلف إلى المختار كل عشية عند المساء يدبرون أمورهم، واجتمع رأيهم على أن يخرجوا ليلة الخميس لأربع عشرة من ربيع الأول سنة ست وستين. فلما كان تلك الليلة عند المغرب صلى إبراهيم بأصحابه ثم خرج يريد المختار وعليه وعلى أصحابه السلاح، وقد أتى إياس بن مضارب عبد الله بن مطيع فقال له: إن المختار خارج عليك بإحدى هاتين الليلتين وقد بعثت ابني إلى الكناسة فلو بعثت في كل جبانة عظيم بالكوفة رجلاً من أصحابك في جماعة من أهل الطاعة لهاب المختار وأصحاب الخروج عليك.
فبعث ابن مطيع عبد الرحمن بن سعيد بن قيس الهمداني إلى جبانة السبيع، وقال: اكفني قومك ولا تحدثن بها حدثاً. وبعث كعب بن أبي كعب الخثعمي إلى جبانة بشر. وبعث زحر بن قيس الجعفي إلى جبانة كندة. وبعث عبد الرحمن بن مخنف إلى جبانة الصائدين. وبعث شمر بن ذي الجوشن إلى جبانة سالم. وبعث يزيد بن رويم إلى جبانة المراد، وأوصى كلاً منهم أن لا يؤتى من قبله. وبعث شبث بن ربعي إلى السبخة وقال: إذا سمعت صوت القوم فوجه نحوهم. وكان خروجهم إلى الجبابين يوم الاثنين، وخرج إبراهيم بن الأشتر يريد المختار ليلة الثلاثاء وقد بلغه أن الجبابين قد ملئت رجالاً، وأن إياس بن مضارب في الشرط قد أحاط بالسوق والقصر، فأخذ معه من أصحابه نحو مائة دارع وقد لبسوا عليها الأقبية، فقال له أصحابه: تجنب الطريق. فقال: والله لأمرن وسط السوق بجنب القصر ولأرعبن عدونا ولأرينهم هوانهم علينا. فسار على باب الفيل ثم على دار عمرو بن حريث، فلقيهم إياس بن مضارب في الشرط مظهرين السلاح. فقال: من أنتم؟ فقال إبراهيم: أنا إبراهيم بن الأشتر. فقال إياس: ما هذا الجمع الذي معك وما تريد؟ لست بتاركك حتى آتي بك الأمير. فقال إبراهيم: خل سبيلاً. قال: لا أفعل، وكان مع إياس بن مضارب رجل من همدان يقال له أبو قطن، وكان يكرمه، وكان صديقاً لابن الأشتر، فقال له ابن الأشتر: ادن مني يا أبا قطن، فدنا منه، وهو يظن أن إبراهيم يطلب منه أن يشفع فيه إلى إياس، فلما دنا منه أخذ رمحاً كان معه وطعن به إياساً في ثغرة نحره فصرعه وأمر رجلاً من قومه فأخذ رأسه، وتفرق أصحاب إياس ورجعوا إلى ابن مطيع. فبعث مكانه ابنه راشد بن إياس على الشرط، وبعث مكان راشد إلى الكناسة سويد بن عبد الرحمن المنقري أبا القعقاع بن سويد. وأقبل إبراهيم بن الأشتر إلى المختار وقال له: إنا اتعدنا للخروج القابلة، وقد جاء أمر لابد من الخروج الليلة، وأخبره الخبر، ففرح المختار بقتل إياس وقال: هذا أول الفتح إن شاء الله تعالى! ثم قال لسعيد بن منقذ: قم فأشعل النيرا في الهوادي والقصب وارفعها وسر أنت يا عبد الله بن شداد فناد: يا منصور أمت، وقم أنت يا سفيان بن ليلى وأنت يا قدامة بن مالك فناديا: يا لثارات الحسين! ثم لبس سلاحه. فقال له إبراهيم: إن هؤلاء الذين في الجبابين يمنعون أصحابنا من إتياننا، فلو سرت إلى قومي بمن معي ودعوت من أجابني وسرت بهم في نواحي الكوفة ودعوت بشعارنا لخرج إلينا من أراد الخروج ومن أتاك حبسته عندك إلى من معك، فإن عوجلت كان عندك من يمنعك إلى أن آتيك. فقال له: افعل وعجل وإياك أن تسير إلى أميرهم تقاتله ولا تقاتل أحداً وأنت تستطيع أن لا تقاتله إلا أن يبدأك أحد بقتال. فخرج إبراهيم وأصحابه حتى أتى قومه، واجتمع إليه جل من كان أجابه، وسار بهم في سكك المدينة ليلاً طويلاً وهو يتجنب المواضع التي فيها الأمراء الذين وضعهم ابن مطيع، فلما انتهى إلى مسجد السكون أتاه جماعة من خيل زحر بن قيس الجعفي ليس عليهم أمير، فحمل عليهم إبراهيم فكشفهم حتى أدخلهم جبانة كندة وهو يقول: اللهم إنك تعلم أنا غضبنا لأهل بيت نبيك وثرنا لهم فانصرنا على هؤلاء. ثم رجع إبراهيم عنهم بعد أن هزمهم، ثم سار إبراهيم حتى أتى جبانة أثير، فتنادوا بشعارهم، فوقف فيها، فأتاه سويد بن عبد الرحمن المنقري ورجا أن يصيبهم فيحظى بها عند ابن مطيع، فلم يشعر به إبراهيم إلا وهو معه، فقال إبراهيم لأصحابه: يا شرطة الله انزلوا فإنكم أولى بالنصر من هؤلاء الفساق الذين خاضوا في دماء أهل بيت نبيكم. فنزلوا، ثم حمل عليهم إبراهيم حتى أخرجهم إلى الصحراء فانهزموا، فركب بعضهم بعضاً وهم يتلاومون، وتبعهم حت أدخلهم الكناسة، فقال لإبراهيم أصحابه: اتبعهم واغتنم ما دخلهم من الرعب. فقال: لا ولكن نأتي صاحبنا يؤمن الله بنا وحشته ويعلم ماكان من نصرنا له فيزداد هو وأصحابه قوةً مع أني لا آمن أن يكون قد أتي.
ثم سار إبراهيم حتى أتى باب المختار، فسمع الأصوات عاليةً والقوم يقتتلون، وقد جاء شبث بن ربعي من قبل السبخة، فعبأ له المختار يزيد بن أنس. وجاء حجار بن أبجر العجلي فجعل المختار في وجهه أحمر بن شميط. فبينما الناس يقتتلون إذ جاء إبراهيم من قبل القصر فبلغ حجاراً وأصحابه أن إبراهيم قد أتاهم من ورائهم، فتفرقوا في الأزقة قبل أن يأتيهم، وجاء قيس بن طهفة النهدي في قريب من مائة، وهو من أصحاب المختار، فحمل على شبث بن ربعي وهو يقاتل يزيد بن أنس، فخلى لهم الطريق حتى اجتمعوا وأقبل شبث إلى ابن مطيع وقال له: اجمع الأمراء الذين بالجبابين وجميع الناس ثم أنفذ إلى هؤلاء القوم فقاتلهم فإن أمرهم قد قوي وقد خرج المختار وظهر واجتمع له أمره. فلما بلغ قوله المختار خرج في جماعة من أصحابه حتى نزل في ظهر دير هند في السبخة، وخرج أبو عثمان النهدي فنادى في شاكر وهم مجتمعون في دورهم يخافون أن يظهروا لقرب كعب الخثعمي منهم، وكان قد أخذ عليهم أفواه السكك. فلما أتاهم أبو عثمان في جماعة من أصحابه نادى: يا لثارات الحسين! يا منصو أمت أمت! يا أيها الحي المهتدون إن أمين آل محمد ووزيرهم قد خرج فنزل دير هند وبعثني إليكم داعياً ومبشراً، فاخرجوا رحمكم الله! فخرجوا يتداعون: يا لثارات الحسين! وقاتلوا كعباً حتى خلى لهم الطريق، فأقبلوا إلى المختار فنزلوا معه، وخرج عبد الله بن قتادة في نحو من مائتين فنزل مع المختار، وكان قد تعرض لهم كعب، فلما عرفهم أنهم من قومه خلى عنهم. وخرجت شبام، وهم حي من همدان، من آخر ليلتهم، فبلغ خبرهم عبد الرحمن بن سعيد الهمداني، فأرسل إليهم: إن كنتم تريدون المختار فلا تمروا على جبانة السبيع. فلحقوا بالمختار، فتوافى إلى المختار ثلاثة آلاف وثمانمائة من اثني عشر ألفاً كانوا بايعوه، فاجتمعوا له قبل الفجر، فأصبح وقد فرغ من تعبيته وصلى بأصحابه بغلس. وأرسل ابن مطيع إلى الجبابين فأمر من بها أن يأتوا المسجد، وأمر راشد بن إياس فنادى في الناس: برئت الذمة من رجل لم يأت المسجد الليلة. فاجتمعوا فبعث ابن مطيع شبث بن ربعي في نحو ثلاثة آلاف إلى المختار، وبعث راشد بن إياس في أربعة آلاف من الشرط. فسار شبث إلى المختار، فبلغه خبره وقد فرغ من صلاة الصبح، فأرسل من أتاه بخبرهم، وأتى إلى المختار ذلك الوقت سعر بن أبي سعر الحنفي، وهو من أصحابه، لم يقدر على إتيانه إلا تلك الساعة، فرأى راشد بن إياس في طريقه فأخبره المختار خبره أيضاً، فبعث إبراهيم بن الأشتر إلى راشد في سبع مائة، وقيل في ستمائة فارس وستمائة راجل، وبعث نعيم بن هبيرة، أخا مصقلة بن هبيرة، في ثلاثمائة فارس وستمائة راجل وأمره بقتال شبث ابن ربعي ومن معه، وأمرهما بتعجيل القتال وأن لا يستهدفا لعدوهما فإنه أكثر منهما، فتوجه إبراهيم إلى راشد، وقدم المختار يزيد بن أنس في موضع مسجد شبث بن ربعي في تسعمائة أمامه، فتوجه نعيم إلى شبث فقاتله قتالاً شديداً، فجعل نعيم سعر بن أبي سعر على الخيل ومشى هو في الرجالة فقاتلهم حتى أشرقت الشمس وانبسطت، فانهزم أصحاب شبث حتى دخلوا البيوت، فناداهم شبث وحرضهم، فرجع إليه منهم جماعة، فحملوا على أصحاب نعيم وقد تفرقوا، فهزمهم، وصبر نعيم فقتل، وأسر سعر بن أبي سعر وجماعة من أصحابه، فأطلق العرب وقتل الموالي، وجاء شبث حتى أحاط بالمختار، وكان قد وهن لقتل نعيم. وبعث ابن مطيع يزيد بن الحارث بن رويم في ألفين، فوقفوا في أفواه السكك، وولى المختار يزيد بن أنس خيله وخرج هو في الرجالة، فحملت عليه خيل شبث فلم يبرحوا مكانهم، فقال لهم يزيد بن أس: يا معشر الشيعة إنكم كنتم تقتلون وتقطع أيديكم وأرجلكم وتسمل أعينكم وترفعون على جذوع النخل في حب أهل بيت نبيكم، وأنتم مقيمون في بيوتكم وطاعة عدوكم، فما ظنكم بهؤلاء القوم إذا ظهروا عليكم اليوم؟ والله لا يدعون منكم عيناً تطرف، وليقتلنكم صبراً، ولترون منهم في أولادكم وأزواجكم وأموالكم ما الموت خير منه، والله لا ينجيكم منهم إلا الصدق والصبر والطعن الصائب والضرب الدراك، فتهيأوا للحملة. فتيسروا ينتظرون أمره وجثوا على ركبهم.
وأما إبراهيم بن الأشتر فإنه لقي راشداً فإذا معه أربعة آلاف، فقال إبراهيم لأصحابه: لا يهولنكم كثرة هؤلاء، فوالله لرب رجل خير من عشرة، والله مع الصابرين. وقدم خزيمة بن نصر إليهم في الخيل، ونزل هو يمشي في الرجالة، وأخذ إبراهيم يقول لصاحب رايته: تقدم برايتك، امض بهؤلاء وبها. واقتتل الناس قتالاً شديداً، وحمل خزيمة بن نصر العبسي على راشد فقتله، ثم نادى: قتلت راشداً ورب الكعبة! وانهزم أصحاب راشد، وأقبل إبراهيم وخزيمة ومن معهما بعد قتل راشد نحو المختار، وأرسل البشير إلى المختار بقتل راشد، فكبر هو وأصحابه وقويت نفوسهم، ودخل أصحاب بن مطيع الفشل. وأرسل ابن مطيع حسان بن فائد بن بكر العبسي في جيش كثيف نحو ألفين، فاعترض إبراهيم ليرده عمن بالسبخة من أصحاب ابن مطيع، فقدم إليهم إبراهيم، فانهزموا من غير قتال، وتأخر حسان يحمي أصحابه، فحمل عليه خزيمة، فعرفه فقال: يا حسان لولا القرابة لقتلتك، فانج بنفسك. فعثر به فرسه فوقع، فابتدره الناس، فقاتل ساعةً، فقال له خزيمة: أنت آمن فلا تقتل نفسك، وكف عنه الناس وقال لإبراهيم: هذا ابن عمي وقد آمنته، فقال: أحسنت! وأمر بفرسه فأحضر فأركبه وقال: الحق بأهلك. وأقبل إبراهيم نحو المختار وشبث بن ربعي محيط به، فلقيه يزيد بن الحارث بن رويم وهو على أفواه السكك التي تلي السبخة، فأقبل إلى إبراهيم ليصده عن شبث وأصحابه، فبعث إبراهيم إليه طائفةً من أصحابه مع خزيمة بن نصر وسار نحو المختار وشبث فيمن بقي معه، فلما دنا منهم إبراهيم حمل على شبث، وحمل يزيد بن أنس، فانهزم شبث ومن معه إلى أبيات الكوفة، وحمل خزيمة بن نصر على يزيد بن الحارث بن رويم فهزمه، وازدحموا على أفواه السكك وفوق البيوت وأقبل المختار. فلما انتهى إلى أفواه السكك رمته الرماة بالنبل فصدوه عن الدخول إلى الكوفة من ذلك الوجه. ورجع الناس من السبخة منهزمين إلى ابن مطيع، وجاءه قتل راشد بن إياس فسقط في يده، فقال له عمرو بن الحجاج الزبيدي: أيها الرجل لا تلق بيدك واخرج إلى الناس واندبهم إلى عدوك، فإن الناس كثير وكلهم معك إلا هذه الطائفة التي خرجت والله يخزيها، وأنا أول منتدب، فانتدب معي طائفةً ومع غيري طائفة. فخرج ابن مطيع فقام في الناس ووبخهم على هزيمتهم وأمرهم بالخروج إلى المختار وأصحابه. ولما رأى المختار أنه قد منعه يزيد بن الحارث من دخول الكوفة عدل إلى بيوت مزينة وأحمس وبارق، وبيوتهم منفردة، فسقوا أصحابه الماء ولم يشرب هو، فإنه كان صائماً، فقال أحمر بن شميط لابن كامل: أتراه صائماً؟ قال: نعم. قال: لو أفطر كان أقوى له. قال: إنه معصوم، وهو أعلم بما يصنع. فقال أحمر: صدقت، أستغفر الله. فقال المختار: نعم المكان للقتال هذا. فقال إبراهيم: إن القوم قد هزمهم الله وأدخل الرعب في قلوبهم، سر بنا، فوالله ما دون القصر مانع. فترك المختار هناك كل شيخ ضعيف ذي علة ونقله واستخلف عليهم أبا عثمان النهدي، وقدم إبراهيم أمامه؛ وبعث ابن مطيع عمرو بن الحجاج في ألفين، فخرج عليهم؛ فأرسل المختار إلى إبراهيم أن اطوه ولا تقم عليه؛ فطواه وأقام؛ وأمر المختار يزيد بن أنس أن يواقف عمرو بن الحجاج، فمضى إليه، وسار المختار في أثر إبراهيم، ثم وقف في موضع مصلى خالد بن عبد الله، ومضى إبراهيم ليدخل الكوفة من نحو الكناسة، فخرج إليه شمر بن ذي الجوشن في ألفين، فسرح إليه المختار سعيد بن منقذ الهمداني فواقعه، وأرسل إلى إبراهيم يأمره بالمسير، فسار حتى انتهى إلى سكة شبث، فإذا نوفل بن مساحق في ألفين، وقيل خمسة آلاف، وهو الصحيح، وقد أمر ابن مطيع منادياً فنادى في الناس أن الحقوا بابن مساحق. وخرج ابن مطيع فوقف بالكناسة واستخلف شبث بن ربعي على القصر، فدنا ابن الأشتر من ابن مطيع فأمر أصحابه بالنزول وقال لهم: لا يهولنكم أن يقال جاء شبث وآل عتيبة بن النهاس وآل الأشعث وآل يزيد بن الحارث وآل فلان، فسمى بيوتات أهل الكوفة، ثم قال: إن هؤلاء لو وجدوا حر السيوف لانهزموا عن ابن مطيع انهزام المعزى من الذئب. ففعلوا ذلك.
وأخذ ابن الأشتر أسفل قبائه فأدخله في منطقته، وكان القباء على الدرع، فلم يلبثوا حين حمل عليهم أن انهزموا يركب بعضهم بعضاً على أفواه السكك وازدحموا، وانتهى ابن الأشتر إلى ابن مساحق، فأخذ بعنان دابته ورفع السيف عليه، فقال له: يا ابن الأشتر أنشدك الله هل بيني وبينك من إحنة أو تطلبني بثأر؟ فخلى سبيله، وقال: اذكرها. فكان يذكرها له. ودخلوا الكناسة في آثارهم حتى دخلوا السوق والمسجد وحصروا ابن مطيع ومعه الأشراف من الناس غير عمرو بن حريث، فإنه أتى داره ثم خرج إلى البر، وجاء المختار حتى نزل جانب السوق. وولى إبراهيم حصار القصر ومعه يزيد بن أنس وأحمر بن شميط، فحصروهم ثلاثاً، فاشتد الحصار عليهم، فقال شبثٌ لابن مطيع: انظر لنفسك ولمن معك فوالله ما عندهم غناء عنك ولا عن أنفسهم. فقال: أشيروا علي. فقال شبث: الرأي أن تأخذ لنفسك ولنا أماناً وتخرج ولا تهلك نفسك ومن معك. فقال ابن مطيع: إني لأكره أن آخذ منه أماناً والأمور لأمير المؤمنين مستقيمة بالحجاز والبصرة. قال: فتخرج ولا يشعر بك أحد فتنزل بالكوفة عند من تثق إليه حتى تلحق بصاحبك. وأشار بذلك عبد الرحمن بن سعيد وأسماء بن خارجة وعبد الرحمن بن مخنف وأشراف الكوفة، فأقام حتى أمسى وقال لهم: قد علمت أن الذين صنعوا هذا بكم إنهم أراذلكم وأخساؤكم وأن أشرافكم وأهل الفضل منكم سامعون مطيعون، وأنا مبلغٌ ذلك صاحبي ومعلمه طاعتكم وجهادكم حتى كان الله الغالب على أمره. فأثنوا عليه خيراً. وخرج عنهم وأتى دار أبي موسى، فجاء ابن الأشتر ونزل القصر، ففتح أصحابه الباب وقالوا: يا ابن الأشتر آمنون نحن؟ قال: أنتم آمنون. فخرجوا فبايعوا المختار، ودخل المختار القصر فبات فيه، وأصبح أشراف الناس في المسجد وعلى باب القصر، وخرج المختار فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه فقال: الحمد لله الذي وعد وليه النصر، وعدوه الخسر، وجعله فيه إلى آخر الدهر، وعداً مفعولاً وقضاء مقضياً، وقد خاب من افترى، أيها الناس إنا رفعت لنا رايةٌ ومدت لنا غاية، فقيل لنا في الراية: أن ارفعوها وفي الغاية: أن اجروا إليها ولا تعدوها، فسمعنا دعوة الداعي ومقالة الواعي، فكم من ناعٍ وناعية لقتلى في الواعية وبعداً لمن طغى وأدبر وعصى وكذب وتولى، ألا فادخلوا أيها الناس وبايعوا بيعة هدى، فلا والذي جعل السماء سقفاً مكفوفاً والأرض فجاجاً سبلاً ما بايعتم بعد بيعة علي بن أبي طالب وآل علي أهدى منها! ثم نزل ودخل عليه أشراف الكوفة فبايعوه على كتاب الله وسنة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، والطلب بدماء أهل البيت وجهاد المحلين والدفع عن الضعفاء وقتال من قاتلنا وسلم من سالمنا. وكان ممن بايعه المنذر بن حسان وابنه حسان، فلما خرجا من عنده استقبله سعيد بن منقذ الثوري في جماعة من الشيعة، فلما رأوهما قالوا: هذان والله من رؤوس الجبارين، فقتلوا المنذر وابنه حسان، فنهاهم سعيد حتى يأخذوا أمر المختار، فلم ينتهوا، فلما سمع المختار ذلك كرهه، وأقبل المختار يمني الناس ويستجر مودة الأشراف ويحسن السيرة. وقيل له: إن ابن مطيع في دار أبي موسى، فسكت، فلما أمسى بعث له بمائة ألف درهم وقال: تجهز بهذه فقد علمت مكانك وأنك لم يمنعك من الخروج إلا عدم النفقة. وكان بينهما صداقة. ووجد المختار في بيت المال تسعة آلاف ألف، فأعطى أصحابه الذين قاتل بهم حين حصر ابن مطيع في القصر، وهم ثلاثة وخمسمائة، لكل رجل منهم خمسمائة درهم، وأعطى ستة آلاف من أصحابه أتوه بعدما أحاط بالقصر وأقاموا معه تلك الليلة وتلك الأيام الثلاثة مائتين مائتين، واستقبل الناس بخير، وجعل الأشراف جلساءه، وجعل على شرطته عبد الله بن كامل الشاكري، وعلى حرسه كيسان أبا عمرة. فقام أبو عمرة على رأسه ذات يوم وهو مقبل على الأشراف بحديثه ووجهه، فقال لأبي عمرة بعض أصحابه من الموالي: أما ترى أبا إسحاق قد أقبل على العرب ما ينظر إلينا؟ فسأله المختار عما قالوا له، فأخبره، فقال: قل لهم لا يشق عليهم ذلك فأنتم مني وأنا منكم، وسكت طويلاً ثم قرأ: (إنا من المجرمين منتقمون) السجدة: 22. فلما سمعوها قال بعضهم لبعض: أبشروا، كأنكم والله قد قتلتم، يعني الرؤساء.
وكان أول راية عقدها المختار لعبد الله بن الحارث أخي الأشتر على أرمينية، وبعث محمد بن عمير بن عطارد علىأذربيجان، وبعث عبد الرحمن بن سعيد بن قيس على الموصل، وبعث إسحاق بن مسعود على المدائن وأرض جوخى، وبعث قدامة بن أبي عيسى بن زمعة النصري حليف ثقيف على بهقباذ الأعلى، وبعث محمد بن كعب بن قرظة على بهقباذ الأوسط، وبعث سعد بن حذيفة بن اليمان على حلوان وأمره بقتال الأكراد وإقامة الطرق. وكان ابن الزبير قد استعمل على الموصل محمد بن الأشعث بن قيس، فلما ولي المختار وبعث عبد الرحمن بن سعيد إلى الموصل أميراً سار محمد عنها إلى تكريت ينظر ما يكون من الناس، ثم سار إلى المختار فبايعه. فلما فرغ المختار مما يريد صار يجلس للناس ويقضي بينهم، ثم قال: إن لي فيما أحاول لشغلاً عن القضاء؛ ثم أقام شريحاً يقضي بين الناس، ثم خافهم شريح فتمارض، وكانوا يقولون: إنه عثماني، وإنه شهد على حجر بن عدي، وإنه لم يبلغ هانىء بن عروة ما أرسله به، وإن علياً عزله عن القضاء. فلما بلغ شريحاً ذلك منهم تمارض، فجعل المختار مكانه عبد الله بن عتبة بن مسعود، ثم إن عبد الله مرض فجعل مكانه عبد الله بن مالك الطائي. ذكر قتل المختار قتله الحسين رضي الله عنه وفي هذه السنة وثب المختار بمن بالكوفة من قتلة الحسين. وكان سبب ذلك أن مروان بن الحكم لما استوسق له الشام بعث جيشين: أحدهما إلى الحجاز عليه حبيش بن دلجة القيني، وقد ذكرنا أمره وقتله، والجيش الآخر إلى العراق مع عبد الله بن زياد، وقد ذكرنا ما كان من أمره وأمر التوابين، وكان قد جعل لابن زياد ما غلب عليه وأمره أن ينهب الكوفة ثلاثاً، فاحتبس بالجزيرة وبها قيس عيلان مع زفر بن الحارث على طاعة ابن الزبير فلم يزل عبيد الله بن زياد مشتغلاً بهم عن العراق نحو سنة. فتوفي مروان وولي بعده ابنه عبد الملك بن مروان، فأقر ابن زياد على ما كان أبوه ولاه وأمره بالجد في أمره. فلما لم يمكنه في زفر ومن معه من قيس شيء أقبل إلى الموصل، فكتب عبد الرحمن بن سعيد عامل المختار يخبره بدخول ابن زياد أرض الموصل وأنه قد تنحى له عن الموصل إلى تكريت. فدعا المختار يزيد بن أنس الأسدي وأمره أن يسير إلى الموصل فينزل بأداني أرضها حتى يمده بالجنود، فقال له يزيد: خلني أنتخب ثلاثة آلاف فارس، وخلني مما توجهني إليه، فإن احتجت كتبت إليك أستمدك. فأجابه المختار، فانتخب ثلاثة آلاف، وسار عن الكوفة، وسار معه المختار والناس يشيعونه، فلما ودعه قال له: إذا لقيت عدوك فلا تناظرهم، وإذا مكنتك الفرصة فلا تؤخرها، وليكن خبرك كل يوم عندي، وإن احتجت إلى مددٍ فاكتب إلي مع أني ممدك وإن لم تستمد لأنه أشد لعضدك وأرعب لعدوك. ودعا له الناس بالسلامة، ودعوا له، فقال لهم: اسألوا الله لي بالشهادة فوالله لئن فاتني النصر لا تفوتني الشهادة. فكتب المختار إلى عبد الرحمن بن سعيد أن خل بين يزيد وبين البلاد. فسار يزيد إلى المدائن، ثم سار إلى أرض جوخى والرذانات إلى أرض الموصل فنزل بباتلى، وبلغ خبره ابن زياد، فقال: لأبعثن إلى كل ألف ألفين، فأرسل ربيعة بن مخارق الغنوي في ثلاثة آلاف، وعبد الله بن جملة الخثعمي في ثلاثة آلاف، فسار ربيعة قبل عبد الله بيوم فنزل بيزيد بن أنس بباتلي، فخرج يزيد بن أنس وهو مريض شديد المرض راكب على حمار يمسكه الرجال، فوقف على أصحابه وعبأهم وحثهم على القتال وقال: إن هلكت فأميركم ورقاء بن العازب الأسدي، فإن هلك فأميركم عبد الله بن ضمرة العذري، فإن هلك فأميركم سعر بن أبي سعر الحنفي، وجعل على ميممنته عبد الله، وعلى ميسرته سعراً، وعلى الخيل ورقاء، ونزل هو، فوضع بين الرجال على سرير، وقال: قاتلوا عن أميركم إن شئتم أو فروا عنه، وهو يأمر الناس بما يفعلون، ثم يغمى عليه ثم يفيق.
واقتتل الناس عند فلق الصبح يوم عرفة واشتد قتالهم إلى ارتفاع الضحى، فانهزم أهل الشام وأخذ عسكرهم وانتهى أصحاب يزيد إلى ربيعة بن مخارق وقد انهزم عنه أصحابه وهو نازل ينادي: يا أولياء الحق أنا ابن مخارق، إنما تقاتلون العبيد الأباق ومن ترك الإسلام وخرج منه! فاجتمع إليه جماعة فقاتلوا معه، فاشتد القتال، ثم انهزم أهل الشام وقتل ربيعة بن مخارق، قتله عبد الله ابن ورقاء الأسدي وعبد الله بن ضمرة العذري، فلم يسر المنهزمون غير ساعة حتى لقيهم عبد الله بن جملة في ثلاثة آلاف فرد معه المنهزمين. ونزل يزيد بباتلى فباتوا ليلتهم يتحارسون، فلما أصبحوا يوم الأضحى خرجوا إلى القتال فاقتتلوا قتالاً شديداً، ثم نزلوا فصلوا الظهر، ثم عادوا إلى القتال فانهزم أهل الشام وترك ابن جملة في جماعة فقاتل قتالاً شديداً، فحمل عليه عبد الله بن قراد الخثعمي فقتله، وحوى أهل الكوفة عسكرهم وقتلوا فيهم قتلاً ذريعاً وأسروا منهم ثلاثمائة أسير، وأمر يزيد بن أنس بقتلهم، وهو بآخر رمق، فقتلوا، ثم مات آخر النهار، فدفنه أصحابه وسقط في أيديهم. وكان قد استخلف ورقاء بن عازب الأسدي، فصلى عليه ثم قال لأصحابه: ماذا ترون؟ إنه قد بلغني أن ابن زياد قد أقبل إليكم في ثمانين ألفاً، وإنما أنا رجل منكم فأشيروا علي فإني لا أرى لا بأهل الشام طاقة على هذه الحال وقد هلك يزيد وتفرق عنا بعض من معنا، فلو انصرفنا اليوم من تلقاء أنفسنا لقالوا: إنما رجعنا عنهم لموت أميرنا ولم يزالوا لنا هائبين، وإن لقيناهم اليوم كنا مخاطرين، فإن هزمونا اليوم لم تنفعنا هزيمتنا إياهم بالأمس. فقالوا: نعم ما رأيت. فانصرفوا. فبلغ ذلك المختار وأهل الكوفة، فأرجف الناس بالمختار وقالوا: إن يزيد قت، ولم يصدقوا أنه مات. فدعا المختار إبراهيم بن الأشتر وأمره على سبعة آلاف وقال له: سر فإذا لقيت جيش يزيد بن أنس فأنت الأمير عليهم فارددهم معك حتى تلقى ابن زياد وأصحابه فتناجزهم. فخرج إبراهيم فعسكر بحمام أعين وسار، فلما سار اجتمع أشراف الكوفة عند شبث بن ربعي وقالوا: والله إن المختار تأمر علينا بغير رضى منا، ولقد أدنى موالينا فحملهم على الدواب وأعطاهم فيئنا. وكان شبث شيخهم، وكان جاهلياً إسلامياً، فقال لهم شبث: دعوني حتى ألقاه. فذهب إليه فلم يدع شيئاً أنكروه إلا ذكره له، فأخذ لا يذكر خصلة إلا قال له المختار: أنا أرضيهم في هذه الخصلة وآتي لهم كل ما أحبوا، وذكر له الموالي ومشاركتهم في الفيء، فقال له: إن أنا تركت مواليكم وجعلت فيئكم لكم تقاتلون معي بني أمية وابن الزبير وتعطوني على الوفاء عهد الله وميثاقه وما أطمئن إليه من الأيمان؟ فقال شبث: حتى أخرج إلى أصحابي فأذكر لهم ذلك. فخرج إليهم فلم يرجع إليه وأجمع رأيهم على قتاله. فاجتمع شبث بن ربعي ومحمد بن الأشعث وعبد الرحمن بن سعيد بن قيس وشمر حتى دخلوا على كعب بن أبي كعب الخثعمي فكلموه في ذلك، فأجابهم إليه، فخرجوا من عنده حتى دخلوا على عبد الرحمن بن مخنف الأزدي فدعوه إلى ذلك، فقال لهم: إن أطعتموني لم تخرجوا. فقالوا له: لم؟ فقال: لأني أخاف أن تتفرقوا وتختلفوا ومع الرجل شجعانكم وفرسانكم مثل فلان وفلان، ثم معه عبيدكم ومواليكم وكلمة هؤلاء واحدة، ومواليكم أشد حنقاً عليكم من عدوكم، فهم مقاتلوكم بشجاعة العرب وعداوة العجم، وإن انتظرتموه قليلاً كفيتموه بقدوم أهل الشام أو مجيء أهل البصرة فتكفونه بغيركم ولم تجعلوا بأسكم بينكم. فقالوا: ننشدك الله أن تخالفنا وتفسد علينا رأينا وما أجمعنا عليه! فقال: إنما أنا رجل منكم، فإذا شئتم فاخرجوا.
فوثبوا بالمختار بعد مسير إبراهيم بن الأشتر وخرجوا بالجبابين كل رئيس بجبانة. فلما بلغ المختار خروجهم أرسل قاصداً مجداً إلى إبراهيم بن الأشتر، فلحقه وهو بساباط يأمره بالرجوع والسرعة، وبعث المختار إليهم في ذلك: أخبروني ماذا تريدون فإني صانع كل ما أحببتم. قالوا: نريد أن تعتز لنا فإنك زعمت أن ابن الحنفية بعثك ولم يبعثك. قال: فأرسلوا إليه وفداً من قبلكم وأرسل أنا إليه وفداً، ثم انظروا في ذلك حتى يظهر لكم. وهو يريد أن يرثيهم بهذه المقالة حتى يقدم عليه إبراهيم بن الأشتر، وأمر أصحابه فكفوا أيديهم، وقد أخذ عليهم أهل الكوفة بأفواه السكك فلا يصل إليهم شيء إلا القليل. وخرج عبد الله بن سبيع في الميدان فقاتله بنو شاكر قتالاً شديداً، فجاءه عقبة بن طارق الجشمي فقاتل معه ساعة حتى ردهم عنه، ثم أقبل فنزل عقبة مع شمر ومعه قيس عيلان في جبانة سلول، ونزل عبد الله بن سبيع مع أهل اليمن في جبانة السبيع. ولما سار رسول المختار وصل إلى ابن الأشتر عشية يومه، فرجع ابن الأشتر بقية عشيته تلك الليلة، ثم نزل حتى أمسى وأراحوا دوابهم قليلاً ثم سار ليلته كلها ومن الغد فوصل العصر وبات ليلته في المسجد ومعه من أصحابه أهل القوة. ولما اجتمع أهل اليمن بجبانة السبيع حضرت الصلاة، فكره كل رأس من أهل اليمن أن يتقدمه صاحبه، فقال لهم عبد الرحمن بن مخنف: هذا أول الاختلاف، قدموا الرضى فيكم سيد القراء رفاعة بن شداد البجلي، ففعلوا، فلم يزل يصلي بهم حتى كانت الوقعة. ثم إن المختار عبأ أصحابه في السوق وليس فيه بنيان، فأمر ابن الأشتر فسار إلى مضر وعليهم شبث بن ربعي ومحمد بن عمير بن عطارد وهم بالكناسة، وخشي أن يرسله إلى أهل اليمن فلا يبالغ في قتال قومه. وسار المختار نحو أهل اليمن بجبانة السبيع ووقف عند دار عمرو بن سعيد وسرح بين يديه أحمر بن شميط البجلي وعبد الله بن كامل الشاكري وأمر كلاً منهما بلزوم طريقٍ ذكره له يخرج إلى جبانة السبيع وأسر إليهما أن شباماً قد أرسلوا إليه يخبرونه أنهم يأتون القوم من ورائهم، فمضيا كما أمرهما. فبلغ أهل اليمن مسيرهما فافترقوا إليهما واقتتلوا أشد قتال رآه الناس، ثم انهزم أصحاب أحمر بن شميط وأصحاب ابن كامل ووصلوا إلى المختار، فقال: ما وراءكم؟ قالوا: هزمنا وقد نزل أحمر بن شميط ومعه ناس من أصحابه. وقال أصحاب ابن كامل: ما ندري ما فعل ابن كامل. فأقبل بهم المختار نحو القوم حتى بلغ دار أبي عبد الله الجدلي، فوقف ثم أرسل عبد الله بن قراد الخثعمي في أربعمائة إلى ابن كامل وقال له: إن كان قد هلك فأنت مكانه وقاتل القوم، وإن كان حياً فاترك عنده ثلاثمائة من أصحابك وامض في مائة حتى تأتي جبانة السبيع فتأتي أهلها من ناحية حمام قطن. فمضى فوجد ابن كامل يقاتلهم في جماعة من أصحابه قد صبروا معه، فترك عنده ثلاثمائة رجل وسار في مائة حتى أتى مسجد عبد القيس، وقال لأصحابه: إني أحب أن يظهر المختار وأكره أن تهلك أشراف عشيرتي اليوم، ووالله لأن أموت أحب إلي من أن يهلكوا على يدي، ولكن قفوا فقد سمعت أن شباماً يأتونهم من ورائهم فلعلهم يفعلون ذلك ونعافى نحن منه. فأجابه إلى ذلك فبات عند مسجد عبد القيس. وبعث المختار مالك بن عمرو النهدي، وكان شجاعاً، وعبد الله بن شريك النهدي في أربعمائة إلى أحمر بن شميط، فانتهوا إليه وقد علاه القوم وكثروه، فاشتد قتالهم عند ذلك. وأما ابن الأشتر فإنه مضى إلى مضر فلقي شبث بن ربعي ومن معه، فقال لهم إبراهيم: ويحكم انصرفوا فما أحب أن يصاب من مضر على يدي. فأبوا وقاتلوه، فهزمهم وجرح حسان بن فائد العبسي فحمل إلى أهله فمات، فكان مع شبث، وجاءت البشارة إلى المختار بهزيمة مضر، فأرسل إلى أحمر بن شميط وابن كامل يبشرهما، فاشتد أمرهما.
فاجتمع شبام، وقد رأسوا عليهم أبا القلوص، ليأتوا أهل اليمن من ورائهم، فقال بعضهم لبعض: لو جعلتم جدكم على مضر وربيعة لكان أصوب، وأبوا القلوص ساكتٌ، فقالوا: ما تقول؟ فقال: قال الله تعالى: (قاتلوا الذين يلونكم من الكفار) التوبة: 123، فساروا معه نحو أهل اليمن، فلما خرجوا إلى جبانة السبيع لقيهم على فم السكة الأعسر الشاكري فقتلوه ونادوا في الجباة، وقد دخلوها: يا لثارات الحسين! فسمعها يزيد بن عمير بن ذي مران الهمداني فقال: يا لثارات عثمان! فقال لهم رفاعة بن شداد: ما لنا ولعثمان! لا أقاتل مع قوم يبغون دم عثمان. فقال له ناس من قومه: جئت بنا وأطعناك حتى إذا رأينا قومنا تأخذهم السيوف قلت انصرفوا ودعوهم! فعطف عليهم وهو يقول، شعر: أنا ابن شدادٍ على دين علي ... لست لعثمان بن أروى بولي لأصلين اليوم فيمن يصطلي ... بحر نار الحرب غير مؤتل فقاتل حتى قتل. وكان رفاعة مع المختار، فلما رأى كذبه أراد قتله غيلةً، قال: فمنعني قول النبي، صلى الله عليه وسلم: (من ائتمنه رجل على دمه فقتله فأنا منه بريءٌ). فلما كان هذا اليوم قاتل مع أهل الكوفة، فلما سمع يزيد بن عمير يقول: يا لثارات عثمان، عاد عنهم فقاتل مع المختار حتى قتل؛ وقتل يزيد بن عمير بن ذي مران والنعمان بن صهبان الجرمي، وكان ناسكاً، وقتل الفرات بن زحر بن قيس، وجرح أبوه زحر، وقتل عبد الله بن سعيد بن قيس، وقتل عمر بن مخنف، وقاتل عبد الرحمن بن مخنف حتى جرح وحملته الرجال على أيديهم وما يشعر، وقاتل حوله رجالٌ من الأزد، وانهزم أهل اليمن هزيمةً قبيحةً، وأخذ من دور الوادعيين خمسمائة أسير فأتى بهم المختار مكتفين، فأمر المختار بإحضارهم وعرضهم عليه، وقال: انظروا من شهد منهم قتل الحسين فأعلموني. فقتل كل من شهد قتل الحسين، فقتل منهم مائتين وثمانية وأربعين قتيلاً، وأخذ أصحابه يقتلون كل من كان يؤذيهم. فلما سمع المختار بذلك أمر بإطلاق كل من بقي من الأسارى وأخذ عليهم المواثيق أن لا يجامعوا عليه عدواً ولا يبغوه وأصحابه غائلة، ونادى منادي المختار: من أغلق بابه فهو آمن إلا من شرك في دماء آل محمد، صلى الله عليه وسلم. وكان عمرو بن الحجاج الزبيدي ممن شهد قتل الحسين فركب راحلته وأخذ طريق واقصة فلم ير له خبر حتى الساعة، وقيل: أدركه أصحاب المختار وقد سقط من شدة العطش فذبحوه وأخذوا رأسه. ولما قتل فرات بن زحر بن قيس أرسلت عائشة بنت خليفة بن عبد الله الجعفية، وكانت امرأة الحسين، إلى المختار تسأله أن يأذن لها في دفنه، ففعل، فدفنته.
وبعث المختار غلاماً له يدعى زربي في طلب شمر بن ذي الجوشن ومعه أصحابه، فلما دنوا منه قال شمر لأصحابه: تباعدوا عني لعلي يطمع في، فتباعدوا عنه، فطمع زربي عن أصحابه ثم حمل عليه شمر فقتله، وسار شمر حتى نزل مساء ساتيدما، ثم سار حتى نزل منه قرية يقال لها الكلتانية على شاطىء نهر إلى جانب تل، ثم أرسل إلى أهل تلك القرية فأخذ منها علجاً فضربه وقال: امض بكتابي هذا إلى مصعب بن الزبير. فمضى العلج حتى دخل قرية فيها أبو عمرة صاحب المختار، وكان قد أرسله المختار إلى تلك القرية ليكون مسلحة بينه وبين أهل البصرة، فلقي ذلك العلج علجاً آخر من تلك القرية فشكا إليه ما لقي من شمر، فبينا هو يكلمه إذ مر به رجل من أصحاب أبي عمرة اسمه عبد الرحمن بن أبي الكنود فرأى الكتاب وعنوانه: لمصعب بن الزبير من شمر، فقالوا للعلج: أين هو؟ فأخبرهم، فإذا ليس بينه وبينهم إلا ثلاثة فراسخ، قال: فأقبلوا يسيرون إليه. وكان قد قال لشمر أصحابه: لو ارتحلت بنا من هذه القرية فإنا نتخوف بها. فقال: أوكل هذا فزعاً من الكذاب! والله لا أتحول منها ثلاثة أيام، ملأ الله قلوبهم رعباً. فإنهم لنيام إذ سمع وقع الحوافر، فقالوا في أنفسهم: هذا صوت الدبا، ثم اشتد، فذهب أصحابه ليقوموا فإذا بالخيل قد أشرفت من التل، فكبروا وأحاطوا بالأبيات، فولى أصحابه هاربين وتركوا خيولهم، وقام شمر وقد اتزر ببرد، وكان أبرص، فظهر بياض برصه من فوق البرد وهو يطاعنهم بالرمح وقد عجلوه عن لبس ثيابه وسلاحه، وكان أصحابه قد فارقوه، فلما أبعدوا عنه سمعوا التكبير وقائلاً يقول: قتل الخبيث، قتله ابن أبي الكنود، وهو الذي رأى الكتاب مع العلج، وألقيت جثته للكلاب، قال: وسمعته بعد أن قاتلنا بالرمح ثم ألقاه وأخذ السيف فقاتلنا به وهو يرتجز، شعر: نبهتم ليث عرين باسلا ... جهماً محياه يدق الكاهلا لم ير يوماً عن عدوٍ ناكلا ... إلا كذا مقاتلاً أو قاتلا ينزحهم ضرباً ويروي العاملا وأقبل المختار إلى القصر من جبانة السبيع ومعه سراقة بن مرداس البارقي أسيراً فناداه، شعر: امنن علي اليوم يا خير معد ... وخير من حل بنجر والجند وخير من لبى وحيا وسجد فأرسله المختار إلى السجن ثم أحضره من الغد، فأقبل إليه وهو يقول، شعر: ألا أبلغ أبا إسحاق أنا ... نزونا نزوةً كانت علينا خرجنا لا نرى الضعفاء شيئاً ... وكان خروجنا بطراً وحينا لقينا منهم ضرباً طلحفاً ... وطعناً صائباً حتى انثينا كنصر محمدٍ في يوم بدرٍ ... ويوم الشعب إذ لاقى حنينا فأسجح إذ ملكت فلو ملكنا ... لجرنا في الحكومة واعتدينا تقبل توبةً مني فإني ... سأشكر إن جعلت النقد دينا قال: فلما انتهى إلى المختار قال: أصلح الله الأمير، أحلف بالله الذي لا إله إلا هو لقد رأيت الملائكة تقاتل معك على الخيول البلق بين السماء والأرض. فقال له المختار: اصعد المنبر فأعلم الناس. فصعد فأخبرهم بذلك ثم نزل، فخلا به المختار فقال له: إني قد علمت أنك لم تر شيئاً وإنما أردت ما قد عرفت أن لا أقتلك، فاذهب عني حيث شئت لا تفسد علي أصحابي؛ فخرج إلى البصرة فنزل عند مصعب وقال، شعر: ألا أبلغ أبا إسحاق أني ... رأيت البلق دهماً مصمتات كفرت بوحيكم وجعلت نذراً ... علي قتالكم حتى الممات أرى عيني ما لم تبصراه ... كلانا عالمٌ بالترهات وقتل يومئذٍ عبد الرحمن بن سعيد بن قيس الهمداني، وادعى قتله سعر بن أبي سعر، وأبو الزبير الشبامي، وشبام من همدان، ورجل آخر، فقال ابن عبد الرحمن لأبي الزبير الشبامي: أتقتل أبي عبد الرحمن سيد قومك؟ فقرأ: (لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله) الآية المجادلة: 22. وانجلت الوقعة عن سبعمائة وثمانين قتيلاً من قومه، وكان أكثر القتل ذلك اليوم في أهل اليمن. وكانت الوقعة لست ليال بقين من ذي الحجة سنة ست وستين.
وخرج أشراف الناس فلحقوا بالبصرة، وتجرد المختار لقتلة الحسين، وقال: ما من ديننا أن نترك قتلة الحسين أحياء، بئس ناصر آل محمد، صلى الله عليه وسلم، أنا إذاً في الدنيا، أنا إذاً الكذاب كما سموني، وإني أستعين بالله عليهم فسموهم لي، ثم اتبعوهم حتى تقتلوهم، فإني لا يسوغ لي الطعام والشراب حتى أطهر الأرض مهم. فدل على عبد الله بن أسيد الجهني ومالك بن بشير البدي وحمل بن مالك المحاربي، فبعث إليهم المختار فأحضرهم من القادسية، فلما رآهم قال: يا أعداء الله ورسوله! أين الحسن بن علي؟ أدوا إلي الحسين، قتلتم من أمرتم بالصلاة عليهم. فقالوا: رحمك الله! بعثا كارهين فامنن علينا واستبقنا. فقال لهم: هلا مننتم على الحسين ابن بنت نبيكم فاستبقيتموه وسقيتموه؟ وكان البدي صاحب برنسه فأمر بقطع يديه ورجليه وترك يضطرب حتى مات، وقتل الآخرين وأمر بزياد بن مالك الضبعي وبعمران بن خالد القشيري وبعبد الرحمن بن أبي خشارة البجلي وبعبد الله بن قيس الخولاني فأحضروا عنده، فلما رآهم قال: يا قتلة الصالحين وقتلة سيد شباب أهل الجنة، قد أقاد الله منكم اليوم، لقد جاءكم الورس في يوم نحس. وكانوا نهبوا من الورس الذي كان مع الحسين. ثم أمر بهم فقتلوا. وأحضر عنده: عبد الله وعبد الرحمن ابنا صلخت وعبد الله بن وهب بن عمرو الهمداني، وهو ابن عم أعشى همدان، فأمر بقتلهم، فقتلوا، وأحضر عنده: عثمان بن خالد بن أسيد الدهماني الجهني وأبو أسماء بشر بن شميط القانصي، وكانا قد اشتركا في قتل عبد الرحمن بن عقيل وفي سلبه، فضرب أعناقهما وأحرقا بالنار. ثم أرسل إلى خولي بن يزيد الأصبحي، وهو صاحب رأس الحسين، فاختفى في مخرجه، فدخل أصحاب المختار يفتشون عليه، فخرجت امرأته، واسمها العيوف بنت مالك، وكات تعاديه منذ جاء برأس الحسين، فقالت لهم: ما تريدون؟ فقالوا لها: أين زوجك؟ قالت: لا أدري، وأشارت بيدها إلى المخرج، فدخلوا فوجدوه وعلى رأسه قوصرة، فأخرجوه وقتلوه إلى جانب أهله وأحرقوه بالنار. ذكر مقتل عمر بن سعد وغيره ممن شهد قتل الحسين ثم إن المختار قال يوماً لأصحابه: لأقتلن غداً رجلاً عظيم القدمين غائر العينين مترف الحاجبين يسر قتله المؤمنين والملائكة المقربين. وكان عنده الهيثم بن الأسود النخعي، فعلم أنه يعني عمر بن سعد، فرجع إلى منزله وأرسل إلى عمر مع ابنه العريان يعرفه ذلك، فلما قاله له قال: جزى الله أباك خيراً، كيف يقتلني بعد العهود والمواثيق؟ وكان عبد الله بن جعدة بن هبيرة أكرم الناس على المختار لقرابته بعلي، وكلمه عمر بن سعد ليأخذ له أماناً من المختار، ففعل وكتب له المختار أماناً وشرط فيه أن لا يحدث، وعنى بالحدث دخول الخلاء، ثم إن عمر بن سعد خرج من بيته بعد عود العريان عنه فأتى حمامه فأخبر مولى له بما كان منه وبأمانه. فقال له مولاه: وأي حدث أعظم مما صنعت؟ تركت أهلك ورحلك وأتيت إلى هاهنا، ارجع ولا تجعل عليك سبيلاً. فرجع وأتى المختار فأخبره بانطلاقه، فقال: كلا، إن في عنقه سلسلة سترده. وأصبح المختار فبعث إليه أبا عمرة فأتاه وقال: أجب الأمير. فقام عمر فعثر في جبة له، فضربه أبو عمرة بسيفه فقتله وأخذ رأسه فأحضره عند المختار. فقال المختار لابنه حفص بن عمر وهو جالسٌ عنده: أتعرف من هذا. قال: نعم ولا خير في العيش بعده! فأمر به فقتل، وقال المختار: هذا بحسين وهذا بعلي بن الحسين ولا سواء، والله لو قتلت به ثلاثة أرباع قريش ما وفوا أنملة من أنامله. وكان السبب في تهيج المختار على قتله أن يزيد بن شراحيل الأنصاري أتى محمد | |
|
| |
الشيخ عودة الشيخ عودة
عدد المساهمات : 1748 تاريخ التسجيل : 28/09/2008 العمر : 74
| موضوع: رد: كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير الثلاثاء فبراير 11, 2014 3:32 am | |
| ذكر الفتنة بخراسانفي هذه السنة كان حصار عبد الله بن خازم من كان بخراسان من بني تميم بسبب قتلهم ابنه محمداً، وقد تقدم ذكره، فلما تفرقت بنو تميم بخراسان، على ما تقدم، أتى قصر فرتنا عدة من فرسانهم ما بين السبعين إلى الثمانين فولوا أمرهم عثمان بن بشر بن المحتفز المازني ومعه شعبة بن ظهير النهشلي وورد بن الفلق العنبري وزهير بن ذؤيب العدوي وجيهان بن مشجعة الضبي والحجاج بن ناشب العدوي ورقية بن الحر في فرسان من تميم وشجعانهم، فحاصرهم ابن خازم، فكانوا يخرجون إليه فيقاتلونه ثم يرجعون إلى القصر. فخرج ابن خازم يوماً في ستة آلاف، وخرج إليه أهل القصر، فقال لهم عثمان بن بشر: ارجعوا فلن تطيقوه، فحلف زهير بن ذؤئب بالطلاق أنه لا يرجع حتى يتعرض صفوفهم. فاستبطن نهراً قد يبس، فلم يشعر به أصحاب عبد الله حتى حمل عليهم فحط أولهم على آخرهم واستدار وكر راجعاً، واتعبوه يصيحون به، ولم يجسر أحد أن ينزل إليه حتى رجع إلى موضعه، فحمل عليهم فافرجوا له حتى رجع. فقال ابن خازم لأصحابه: إذا طاعنتم زهيراً فاجعلوا في رماحكم كلاليب ثم علقوها في سلاحه. فخرج إليهم يوماً فطاعنهم فأعلقوا فيه أربعة أرماح بالكلاليب، فالتفت إليهم ليحمل عليهم فاضطربت أيديهم وخلوا رماحهم فعاد يجر اربعة أرماح حتى دخل القصر. فأرسل ابن خازم إلى زهير يضمن له مائة ألف وميسان طعمة ليناصحه، فلم يجبه. فلما طال الحصار عليهم أرسلوا إلى ابن خازم ليمكنهم من الخروج ليتفرقوا، فقال: لا إلا على حكمي، فأجابوا إلى ذلك. فقال زهير: ثكلتكم أمهاتكم! والله ليقتلنكم عن آخركم، وإن طبتم بالموت نفساً فموتوا كراماً، اخرجوا بنا جميعاً فإما أن تموتوا كرماً وإما أن ينجو بعضكم ويهلك بعضكم، وايم الله لئن شددتم عليهم شدةً صادقةً ليفرجن لكم، فإن شئتم كنت أمامكم، وإن شئتم كنت خلفكم. فأبوا عليه. فقال: ساريكم. ثم خرج هو ورقبة ابن الحر وغلام تركي وابن ظهير فحملوا على القوم حملةً منكرةً، فأفرجوا لهم، فمضوا، فأما زهير فرجع ونجا أصحابه. فلما رجع زهير إلى من بالقصر قال: قد رأيتم، أطيعوني: قالوا: إنا نضعف عن هذا ونطمع في الحياة. فقال: لا أكون أعجزكم عند الموت. فنزلوا على حكم ابن خازم، فأرسل إليهم فقيدهم وحملوا إليه رجلاً رجلاً، فأراد أن يمن عليهم فأبى عليه ابنه موسى وقال له: إن عفوت عنهم قتلت نفسي، فقتلهم إلا ثلاثة: أحدهم الحجاج بن ناشب، فشفع فيه بعض من معه، فأطلقه، والآخر جيهان بن مشجعة الضبي الذي ألقى نفسه على محمد بن عبد الله، كما تقدم، والآخر رجل من بني سعد من تميم، وهو الذي رد الناس عن ابن خازم يوم لحقوه، وقال: انصرفوا عن فارس مضر.
وقال: ولما أرادوا حمل زهير بن ذؤيب وهو مقيد أبى واعتمد على رمحه فوثب الخندق، ثم أقبل إلى ابن خازم يحجل في قيوده، فجلس بين يديه، فقال له ابن خازم: كيف شكرك إن أطلقتك وأطعمتك ميسان؟ قال: لو لم تصنع بي إلا حقن دمي لشكرتك. فلم يمكنه ابنه موسى من إطلاقه، فقال له أبوه: ويحك نقتل مثل زهير! من لقتال عدو المسلمين؟ من لحمى نساء العرب؟ فقال: والله لو شركت في دم أخي لقتلتك! فأمر بقتله. فقال زهير: إن لي حاجة، لا تقتلني ويخلط دمي بدماء هؤلاء اللئام، فقد نهيتهم عما صنعوا وأمرتهم أن يموتوا كراماً ويخرجوا عليكم مصلتين، وايم الله لو فعلوا لأذعروا بنيك هذا وشغلوه بنفسه عن طلب ثأر أخيه، فأبوا، ولو فعلوا ما قتل منهم رجل حتى يقتل رجالاً. فأمر به ابن خازم فقتل ناحيةً. فلما بلغ الحريش قتلهم قال: أعاذل إني لم ألم في قتالهم ... وقد عض سيفي كبشهم ثم صمما أعاذل ما وليت حتى تبددت ... رجالٌ وحتى لم أجد متقدما أعاذل أفناني السلاح، ومن يطل ... مقارعة الأبطال يرجع مكلما أعيني إن أنزفتما الدمع فاسكبا ... دماً لازماً لي دون أن تسكبا دما أبعد زهيرٍ وابن بشرٍ تتابعا ... ووردٍ أرجي في خراسان مغنما أعاذ كم من يوم حربٍ شهدته ... أكر إذا ما فارس السوء أحجما يعني زهير بن ذؤيب، وابن بشر هو عثمان، وورد بن الفلق. ذكر مسير ابن الأشتر إلى قتال ابن زيادوفي هذه السنة لثمان بقين من ذي الحجة يوم السبت سار إبراهيم بن الأشتر لقتال عبيد الله بن زياد، وكان مسيره بعد فراغ المختار من وقعة السبيع بيومين، وأخرج المختار معه فرسان أصحابه ووجوههم وأهل البصائر منهم ممن له تجربة، وخرج معه المختار يشيعه، فلما بلغ دير أما ورب المرسلات عرفا ... لنقتلن بعد صفٍ صفا وبعد ألف قاسطين ألف ثم ودعه المختار وقال له: خذ عني ثلاثاً: خف الله، عز وجل، في سر امرك وعلانيتك، وعجل السير، وإذا لقيت عدوك فناجزهم ساعة تلقاهم. ورجع المختار وسار إبراهيم فانتهى إلى أصحاب الكرسي، وهم عكوف عليه قد رفعوا أيديهم إلى السماء يدعون الله، فقال إبراهيم: اللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، هذه سنة بني إسرائيل، والذي نفسي بيده، إذ عكفوا على عجلهم، ثم رجعوا وسار إلى قصده. ذكر حال الكرسي الذي كان المختار يستنصر بهقال الطفيل بن جعدة بن هبيرة: أضقنا إضاقةً شديدة فخرجت يوماً فإذا جار لي زيات عنده كرسيٌّ ركبه الوسخ، فقلت في نفسي: لو قلت للمختار في هذا شيئاً فأخذته من الزيات وغسلته فخرج عود نضار قد شرب الدهن وهو يبص، قال فقلت للمختار: إني كنت أكتمك شيئاً وقد بدا لي أن أذكره لك، إن أبي جعدة كان يجلس على كرسي عندنا ويروي أن فيه أثراً من علي. قال: سبحان الله أخرته إلى هذا الوقت! ابعث به، فأحضرته عنده وقد غشي، فأمر لي باثني عشر ألفاً ثم دعا: الصلاة جامعة، فاجتمع الناس، فقال المختار: إنه لم يكن في الأمم الخالية أمر إلا وهو كائن في هذه الأمة مثله، وإنه كان في بني إسرائيل التابوت، وإن هذا فينا مثل التابوت. فكشفوا عنه، وقامت السبئية فكبروا. ثم لم يلبثوا أن أرسل المختار الجند لقتال ابن زياد، وخرج بالكرسي على بغل وقد غشي، فقتل أهل الشام مقتلة عظيمة، فزادهم ذلك فتنة، فارتفعوا حتى تعاطوا الكفر، فندمت على ما صنعت وتكلم الناس في ذلك تعيبه. وقيل: إن المختار قال لآل جعدة بن هبيرة، وكانت أم جعدة أم هانىء أخت علي بن أبي طالب لأبويه: إيتوني بكرسي علي. فقالوا: والله ما هو عندنا. فقال: لتكونن حمقى، اذهبوا فأتوني به. قال: فظنوا أنهم لا يأتونه بكرسي غلا قال هذا هو وقبله منهم. فأتوه بكرسي، وقبضه منهم، وخرجت شبام وشاكر ورؤوس أصحاب المختار وقد جعلوا عليه الحرير، وكان أول من سدنه موسى بن أبي موسى الأشعري، كان يلم بالمختار لأن أمه أم كلثوم بنت الفضل بن العباس، فعتب الناس على موسى، فتركه وسدنه حوشب البرسمي حتى هلك المختار؛ وقال أعشى همدان في ذلك، شعر: شهدت عليكم أنكم سبئيةٌ ... وإني بكم يا شرطة الشرك عارف
فأقسم ماكرسيكم بسكينةٍ ... وإن كان قد لفت عليه اللفائف وأن ليس كالتابوت فينا وإن سعت ... شبامٌ حواليه ونهدٌ وخارف وإني امرؤٌ أحببت آل محمدٍ ... وتابعت وحياً ضمنته المصاحف وبايعت عبد الله لما تتابعت ... عليه قريشٌ شمطها والغطارف وقال المتوكل الليثي: أبلغ أبا إسحاق إن جئته ... أني بكرسيكم كافر تروا شبام حول أغواده ... وتحمل الوحي له شاكر محمرةً أعينهم حوله ... كأنهن الحمص الحادر ذكر عدة حوادثوحج بالناس في هذه السنة عبد الله بن الزبير. وكان على المدينة مصعب بن الزبير عاملاً لأخيه عبد الله، وعلى البصرة عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي لابن الزبير أيضاً، كان بالكوفة المختار متغلباً عليها، وبخراسان عبد الله بن خازم. وفي هذه السنة توفي اسماء بن حارثة الأسلمي، وله صحبة، وهو من أصحاب الصفة، وقيل: بل مات بالبصرة في إمارة ابن زياد. وتوفي جابر بن سمرة وهو ابن أخت سعد بن أبي وقاص، وقيل: مات في إمارة بشر بن هارون. وتوفي أسماء بن خارجة بن حصن بن حذيفة بن بدر الفزاري سيد قومه. حارثة بالحاء المهملة، والثاء المثلثة. المجلد الثالث ثم دخلت سنة سبع وستين ذكر مقتل ابن زياد ولما سار إبراهيم بن الأشتر من الكوفة أسرع السير ليلقوا بن زياد قبل أن يدخل أرض العراق، وكان ابن زياد قد سار في عسكر عظيم من الشام، فبلغ الموصل وملكها، كما ذكرناه أولاً، فسار إبراهيم وخلف أرض العراق وأوغل في أرض الموصل وجعل على مقدمته الطفيل بن لقيط النخعي، وكان شجاعاً. فلما دنا ابن زياد عبأ أصحابه ولم يسر إلا على تعبية واجتماع، إلا أنه يبعث الطفيل على الطلائع حتى يبلغ نهر الخازر من بلد الموصل فنزل بقرية بارشيا. وأقبل ابن زياد إليه حتى نزل قريباً منهم على شاطئ الخازر وأرسل عمير بن الحباب السلمي، وهو من أصحاب ابن زياد، إلى ابن الأشتر أن القني، وكانت قيس كلها مضطغنة على ابن مروان وقعة مرج راهط، وجند عبد الملك يومئذٍ كلب. فاجتمع عمير وابن الأشتر، فأخبره عمير أنه على ميسرة ابن زياد وواعده أن ينهزم بالناس، فقال له ابن الأستر: ما رأيك؟ أخندق علي وأتوقف يومين أو ثلاثة؟ فقال عمير: لا تفعل، وهل يريدون إلا هذا؟ فإن المطاولة خير لهم، هم كثير أضعافكم وليس يطيق القليل الكثير في المطاولة، ولكن ناجز القوم فإنهم قد ملئوا منكم رعباً، وإن هم شاموا أصحابك وقاتلوهم يوماً بعد يوم ومرة بعد مرة أنسوا بهم واجترأوا عليهم. وقال إبراهيم: الآن علمت أنك لي مناصح وبهذا أوصاني صاحبي. قال عمير: أطعه فإن الشيخ قد ضرسته الحرب وقاس منها ما لم يقاسه أحد، وإذا أصبحت فناهضهم. وعاد عمير إلى أصحابه وأذكى ابن الأشتر ضرسه ولم يدخل عينه غمض حتى إذا كان السحر الأول عبأ أصحابه وكتائبه وأمر أمراءه، فجعل سفيان بن يزيد الأزدي على ميمنته، وعلي بن مالك الجشمي على ميسرته، وهو أخو أبي الأحوص، وجعل عبد الرحمن بن عبد الله، وهو أخوا إبراهيم بن الأشتر لأمه، على الخيل، وكانت خيله قليلة، وجعل الطفيل بن لقيط على الرجالة، وكانت رايته مع مزاحم بن مالك. فلما انفجر الفجر صلى الصبح بغلس ثم خرج فصف أصحابه وألحق كل أمير بمكانه، ونزل إبراهيم يمشي ويحرض الناس ويمنيهم الظفر، وسار بهم رويداً، فأشرف على تل عظيم مشرف على القوم، وإذا أولئك القوم لم يتحرك منهم أحد، فأرسل عبد الله بن زهير السلولي ليأتيه بخبر القوم، فعاد إليه وقال له: قد خرج القوم على دهش وفشل، لقيني رجل منهم وليس له الكلام إلا: يا شيعة أبي تراب! يا شيعة المختار الكذاب! قال: فقلت له: الذي بيننا أجل من الشتم. وركب إبراهيم وسار على الرايات يحثهم ويذكر لهم فعل ابن زياد بالحسين وأصحابه وأهل بيته من السبي والقتل ومنع الماء، وحرضهم على قتله.
وتقدم القوم إليه، وقد جعل ابن زياد على ميمنته الحصين بن نمير السكوني، وعلى ميسرته عمير بن الحباب السلمي، وعلى الخيل شر حيل بن ذي الكلاع الحميري. فلما تدانى الصفان حمل الحصين بن نمير في ميمنة أهل الشام على ميسرة إبراهيم، فثبت له علي بن مالك الجشمي فقتل، في رجال من أهل البأس وانهزمت الميسرة، فأخذ الراية عبد الله بن ورقاء بن جنادة السلولي ابن أخي حبشي بن جنادة صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستقبل المنهزمين، فقال: إلي يا شرطة الله. فأقبل إليه أكثرهم. فقال: هذا أميركم يقاتل ابن زياد، ارجعوا بينا إليه. فرجعوا، وإذا إبراهيم كاشف رأسه ينادي: إلي شرطة الله، أنا ابن الأشتر ، إن خير فراركم كراركم، ليس مسيئاً من أعتب. فرجع إليه أصحابه، وحملت ميمنة إبراهيم على ميسرة ابن زياد وهم يرجون أن ينهزم عمير بن الحباب، كما زعم، فقاتلهم عمير قتالاً شديداً وأنف من الفرار. فلما رأى ذلك إبراهيم قال لأصحابه: اقصدوا هذا السواد الأعظم، فو الله لو هزمناه لانجفل من ترون يمنةً ويسرةً انجفال طير ذعرتها. فمشى أصحابه إليهم فتطاعنوا ثم صاروا إلى السيوف والعمد فاضطربوا بها ملياً، وكان صوت الضرب بالحديد كصوت القصارين، وكان إبراهيم يقول لصاحب رايته: انغمس برايتك فيهم. فيقول: ليس لي متقدم. فيقول: بلى، فإذا تقدم شد إبراهيم بسيفه فلا يضرب به رجلاً إلا صرعه، وكره إبراهيم الرجالة من بين يديه كأنهم الحملان، وحمل أصحابه حملة رجل واحد. واشتد القتال فانهزم أصحاب ابن زياد وقتل من الفريقين قتلى كثيرة. وقيل: إن عمير بن الحباب أول من انهزم، وإنما كان قتاله أولاً تعذيراً. فلما انهزموا قال إبراهيم: إني قد قتلت رجلا تحت راية منفردة على شاطئ نهر الخازر فالتمسوه فإني شممت منه رائحة المسك، شرقت يداه وغربت رجلاه. فالتمسوه فغذا هو ابن زياد قتيلاً بضربة إبراهيم فقد قدته بنصفين وسقط، كما ذكر إبراهيم، فاخذ رأسه وأحرقت جثته. وحمل شريك بن جدير التغلبي على الحصين بن نمير السكوني وهو يظنه عبيد الله بن زياد، فاعتنق كل واحد منهما صاحبه، فنادى التغلبي: اقتلوني وابن الزاني فقتلوا الحصين وقيل: إن الذي قتل ابن زياد شريك بن جدير، وكان هذا شريك شهد صفين مع علي وأصيبت عينه، فلما انقضت أيام علي لحق شريك ببيت المقدس فأقام به، فلما قتل الحسين عاهد الله تعالى إن ظهر من يطلب بدمه ليقتلن ابن زياد أو ليموتن دونه. فلما ظهر المختار للطلب بثأر الحسين أقبل إليه وسار مع إبراهيم بن الأشتر، فلما التقوا حمل على خيل الشام يهتكها صفاً صفاً مع أصحابه من ربيعة حتى وصلوا إلى ابن زياد وثار الرهج فلا يسمع إلا وقع الحديد، فانفرجت عن الناس وهما قتيلان شريك وابن زياد. والأول أصح. وشريك هو القائل: كل عيشٍ قد أراه باطلا ... غير ركز الرمح في ظل الفرس قال: وقتل شر حبيل بن ذي الكلاع الحميري، وادعى قتله سفيان بن يزيد الأزدي وورقاء بن عازب الأسدي وعبيد الله بن زهير السلمي، وكان عيينة بن أسماء مع ابن زياد، فلما انهزم أصحابه حمل أخته هند بنت أسماء، وكانت زوجة عبيد الله بن زياد، فذهب بها وهو يرتجز: إن تصرمي حبالنا فربما ... أرديت في الهيجا الكمي المعلما ولما انهزم أصحاب ابن زياد تبعهم أصحاب إبراهيم، فكان من غرق أكثر ممن قتل، وأصابوا عسكرهم وفيه من كل شيء. وأرسل إبراهيم البشارة إلى المختار وهو بالمدائن، وأنفذ إبراهيم عماله إلى اللاد، فبعث أخاه عبد الرحمن بن عبيد الله إلى نصيبين وغلب على سنجار ودارا وما والاهما من أرض الجزيرة، فولى زفر بن الحارث قرقيسيا، وحاتم بن النعمان الاهلي حران والرهاء وسميساط وناحيتها، وولى عمير بن الحباب السلمي كفرتوثا وطور عبدين. وأقام إبراهيم بالموصل، وأنفذ رأس عبيد الله بن زياد إلى المختار ومعه رؤوس قواده، فألقيت في القصر، فجاءت حية دقيقة فتخللت الرؤوس حتى دخلت في فم عبيد الله بن زياد ثم خرجت من منخره ودخلت في منخره وخرجت من فيه، فعلت هذا مراراً؛ أخرج هذا الترمذي في جامعه. وقال المغيرة: أول من ضرب الزيوف في الإسلام عبيد الله بن زياد، وقال بعض حجاب ابن زياد: دخلت مهع القصر حين قتل الحسين فاضطرم في وجهه ناراً فقال بكمه هكذا على وجهه وقال: لا تحدثن بهذا أحداً.
وقال المغيرة: قالت مرجانة لابنها عبيد الله بعد قتل الحسين: يا خبيث قتلت ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا ترى الجنة أبداً! وقال ابن مفرغ حين قتل ابن زياد: إن المنايا إذا ما زرن طاغيةً ... هتكن أستار حجابٍ وأبواب أقول بعداً وسحقاً عند مصرعه ... لابن الخبيثة وابن الكودن الكابي لا أنت زوحمت عن ملكٍ فتمنعه ... ولا متت إلى قومٍ بأسباب لا من نزارٍ ولا من جذم ذي يمنٍ ... جلمود ذا ألقيت من بين ألهاب لا تقبل الأرض موتاهم إذا قبروا ... وكيف تقبل رجساً بين أثواب؟ وقال سراقة البارقي يمدح إبراهيم بن الأشتر: أتاكم غلام من عرانين مذحجٍ ... جري على الأعداء غير نكول فيا ابن زيادٍ بؤبأعظم مالكٍ ... وذق حد ماضي الشفرتين صقيل جزا الله خيراً شرطة الله إنهم ... شفوا من عبيد الله أمس غليلي وقال عمير بن الحباب السلمي يذم جيش ابن زياد: وما كان جيش يجمع الخمر والزنا ... محلاً إذا لا قى العدو لينصرا ذكر ولاية مصعب بن الزبير البصرةوفي هذه السنة عزل عبد الله بن الزبير الحارث بن أبي ربيعة، وهو القباع، عن البصرة واستعمل عليها أخاه مصعباً. فقدمها مصعب ملثماً ودخل المسجد وصعد المنبر، فقال الناس: أمير أمير! وجاء الحارث بن أبي ربيع، وهو الأمير،فسفر مصعب لثامه فعرفوه، وأمر مصعب الحارث بالصعود إليه فأجلسه تحته بدرجة ثم قام مصعب فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: بسم الله الرحمن الرحيم " طسم تلك آيات الكتاب المبين نتلو عليك من نبإ موسى وفرعون بالحق لقوم يؤمنون " إلى قوله: " من المفسدين " القصص:1 - 4؛ فأشار بيده نحو الشام و " نريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين " القصص:5؛ وأشار نحو الحجاز " ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون " القصص:6؛وأشار نحو الكوفة، وقال: يا أهل البصرة بلغني أنكم تلقبون أمراءكم وقد لقبت نفسي بالجزار. ذكر مسير مصعب إلى المختار وقتل المختار ولما هرب أشراف الكوفة من وقعة السبيع أتى جماعة منهم إلى مصعب فأتاه شبث بن ربعي على بغلة قد قطع ذنبها وطرف أنها وشق قباءه وهو ينادي: يا غوثاه! فرفع خبره إلى مصعب، فقال: هذا شبث بن ربعي، فأدخل عليه، فأتاه أشراف الكوفة فدخلوا عليه وأخبروه بما اجتمعوا عليه وسألوه النصر لهم والمسير إلى المختار معهم. وقدم عليه محمد بن الأشعث أيضاً واستحثه على المسير، فأدناه مصعب وأكرمه لشرفه، وقال لأهل الكوفة حين أكثروا عليه: لا أسير حتى يأتيني المهلب بن أبي صفرة. وكتب إليه، وهو عامله على فارس، يستدعيه ليشهد معهم قتال المختار، فأبطأ المهلب واعتل بشيء من الخراج لكراهية الخروج، فأمر مصعب محمد بن الأشعث أن يأتي المهلب يستحثه، فأتاه محمد ومعه كتاب مصعب، فلما قرأه قال له: أما وجد مصعب بريداً غيرك؟ فقال: ما أنا ببريد لأحد، غير أن نساءنا وأبناءنا وحرمنا غلبنا عليهم عبيدنا. فأقبل المهلب معه بجموع كثيرة وأموال عظيمة فقدم البصرة، وأمر مصعب بالعسكر عند الجسر الأكبر، وأرسل عبد الرحمن بن مخنف إلى الكوفة فأمره أن يخرج إليه من قدر عليه وأن يثبط الناس عن المختار ويدعوهم إلى بيعة ابن الزبير سراً، ففعل، ودخل بيته مستتراً، ثم سار مصعب فقدم أمامه عباد بن الحصين الحطمي التميمي، وبعث عمر بن عبيد الله بن معمر على ميمنته، والمهلب على ميسرته، وجعل مالك بن مسمع على بكر، ومالك بن المنذر على عبد القيس، والأحنف بن قيس على تميم، وزياد بن عمر العتكي على الأزد، وقيس بن الهيثم على أهل العالية. وبلغ الخبر المختار فقام في أصحابه فأعلمهم ذلك وندبهم إلى الخروج مع أحمر بن شميط، فخرج وعسكر بحمام أعين، ودعا المختار رؤوس الأرباع الذين كانوا مع ابن الأشتر فبعث مع أحمر بن شميط، فسار وعلى مقدمته ابن كامل الشاكري، فوصلوا إلى المذار، وأتى مصعب فعسكر قريباً منه، وعبأ كل واحد منهما جنده ثم تزاحفا، فجعل ابن شميط ابن كامل على ميمنته، وعلى الميسرة عبد الله بن وهيب الجشمي، وجعل أبا عمرة مولى عرينة على الموالي.
فجاء عبد الله بن وهيب الجشمي إلى ابن شميط فقال له: إن الموالي والعبيد أولو خور عند المصدوقة، وإن معهم رجالاً كثيراً على الخيل وأنت تمشي فمرهم فليمشوا معك فإني أتخوف أن يطيروا عليها ويسلموك. وكان هذا غشاً منه للموالي لما كانوا لقوا منهم بالكوفة، فأحب أن كانت عليهم الهزيمة وأن لا ينجو منهم أحد. فلم يتهمه ابن شميط، ففعل ما أشار به، فنزل الموالي معه. وجاء مصعب وقد جعل عباد بن الحصين على الخيل، فدنا عباد من أحمر وأصحابه وقال: إنما ندعوكم إلى كتاب الله وسنة رسوله، وإلى بيعة أمير المؤمنين عبد الله بن الزبير؛ وقال الآخرون: إنا ندعوكم إلى كتاب الله وسنة رسوله وإلى بيعة المختار وإلى أن نجعل هذا الأمر شورى في آل الرسول. فرجع عباد فأخبر مصعباً، فقال له: ارجع فاحمل عليهم. فرجع وحمل على ابن شميط وأصحابه، فلم ينزل منهم أحد، ثم انصرف إلى موقفه، وحمل المهلب على ابن كامل، فجال بعضهم في بعض، فنزل ابن كامل فانصرف عنه المهلب، ثم قال المهلب لأصحابه: كروا عليهم كرةً صادقةً، فحملوا عليهم حملةً منكرة، فولوا، وصبر ابن كامل في رجال من همدان ساعة ثم انهزم، وحمل عمر بن عبيد الله على عبد الله بن أنس، فصبر ساعةً ثم انصرف، وحمل الناس جميعاً على ابن شميط، فقاتل حتى قتل، وتنادوا: يا معشر بجيلة وخثعم الصبر! فناداهم المهلب: الفرار اليوم أنجى لكم، علام تقتلون أنفسكم مع هذه العبيد؟ ثم قال: والله ما أرى كثرة القتل اليوم إلا في قومي. ومالت الخيل على رجالة ابن شميط فانهزمت، وبعث مصعب عباداً على الخيل، فقال: أيما أسير أخذته فاضرب عنقه. وسرح محمد بن الأشعث في خيل عظيمة من أهل الكوفة فقال: دونكم ثأركم. فكانوا أشد على المنهزيمن من أهل البصرة لا يدركون منهزماً إلا قتلوه، ولا يأخذون أسيراً فيعفون عنه، فلم ينج من ذلك الجيش إلا طائفة أصحاب الخيل، وأما الرجالة فأبيدوا إلا قليلاً. قال معاوية بن قرة المزني: انتهيت إلى رجل فأدخلت السنان في عينه فأخذت أخضخض عينه به. فقيل له: أفعلت هذا؟ فقال: نعم، إنهم كانوا عندنا أحل دماء من الترك والديلم. وكان معاوية هذا قاضي البصرة. فلما فرغ مصعب منهم أقبل حتى قطع من تلقاء واسط، ولم تكن بنيت بعد، فأخذ في كسكر، ثم حمل الرجال وأثقالهم والضعفاء في السفن فأخذوا في نهر خرشاد ثم خرجوا إلى نهر قوسان ثم خرجوا إلى الفرات. وأتى المختار خبر الهزيمة ومن قتل بها من فرسان أصحابه، فقال: ما من الموت بد، وما من ميتة أموتها أحب إلي من أن أموت ميتة ابن شميط. فعلموا أنه إن لم يبلغ مايريد يقاتل حتى يقتل. ولما بلغه أن مصعباً قد أقبل إليه في البر والبحر سار حتى وصل السيلحين ونظر إلى مجتمع الأنهار: نهر الخريرة ونهر السيلحين ونهر القادسية ونهر رسف، فسكر الفرات فذهب ماؤها في هذه الأنهار وبقيت سفن أهل البصرة في الطين، فلما رأوا ذلك خرجوا من السفن إلى ذلك السكر فأصلحوه وقصدوا الكوفة، وسار المختار إليهم فنزل حروراء وحال بينهم وبين الكوفة، وكان قد حصن القصر والمسجد وأدخل إليه عدة الحصار. وأقبل مصعب وقد جعل على ميمنته المهلب، وعلى ميسرته عمر بن عبيد الله، وعلى الخيل عباد بن الحصين؛ وجعل المختار على ميمنته سليم بن يزيد الكندي، وعلى ميسرته سعيد بن منقذ الهمداني، وعل الخيل عمرو بن عبد الله النهدي، وعلى الرجال مالك بن عبد الله النهدي. وأقبل محمد بن الأشعث فيمن هرب من أهل الكوفة فنزل بين مصعب والمختار. فلما رأى ذلك المختار بعث إلى كل جيش من أهل البصرة رجلاً من أصحابه، وتدانى الناس، فحمل سعيد بن منقذ على بكر وعبد القيس وهم في ميمنة مصعب فاقتتلوا قتالاً شديداً، فأرسل مصعب إلى المهلب ليحمل على من بإزائه، فقال: ما كنت لأجزر الأزد خشية أهل الكوفة حتى أرى فرصتي. وبعث المختار إلى عبد الله بن جعدة بن هبيرة المخزومي، فحمل على من بإزائه، وهم أهل العالية، فكشفهم، فانتهوا إلى مصعب، فجثا مصعب على ركبتيه وبرك الناس عنده فقاتلوا ساعةً وتحاجزوا.
ثم إن المهلب حمل في أصحابه على من بإزائه فحطموا أصحاب المختار حطمة منكرة فكشفوهم. وقال عبد الله بن عمرو النهدي، وكان ممن شهد صفين: اللهم إني على ماكنت عليه بصفين، اللهم أبرأ إليك من فعل هؤلاء، لأصحابه حين انهزموا، وأبرأ إليك من أنفس هؤلاء، يعني أصحاب مصعب، ثم جالد بسيفه حتى قتل. وانقصف أصحاب المختار كأنهم أجمة قصب فيها نار، وحمل مالك بن عمرو النهدي، وهو على الرجالة، ومعه نحو خمسين رجلاً، وذلك عند المساء، على أصحاب ابن الأشعث حملةً منكرةً، فقتل ابن الأشعث وقتل عامة أصحابه. وقاتل المختار على فم سكة شبث عامة ليلته وقاتل معه رجال من أهل البأس وقاتلت معه همدان أشد قتال وتفرق الناس عن المختار، فقال له من معه: أيها الأمير اذهب إلى القصر، فجاء حتى دخله، فقال له بعض أصحابه: ألم تكن وعدتنا الظفر وأنا سنهزمهم؟ فقال: أما قرأت في كتاب الله تعالى " يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب " الرعد:39. فقيل: إن المختار أول من قال بالبداء. فلما أصبح مصعب أقبل يسير فيمن معه نحو السبخة، فمر بالمهلب، فقال له المهلب: يا له فتحاً ما أهنأه لو لم يقتل محمد بن الأشعث. قال: صدقت. ثم قال مصعب للمهلب: إن عبيد الله بن علي بن أبي طالب قد قتل، فاسترجع المهلب، فقال مصعب: قد كنت أحب أن يشهد هذا الفتح، أتدري من قتله؟ إنما قتله من يزعم أنه شيعة لأبيه. ثم نزل السبخة فقطع عنهم الماء والمادة وقاتلهم المختار وأصحابه قتالاً ضعيفاً، واجترأ الناس عليهم فكانوا إذا خرجوا رماهم الناس من فوق البيوت وصبوا عليهم الماء القذر، وكان أكثر معاشهم من النساء، تأتي المرأة متخفية ومعها القليل من الطعام والشراب إلى أهلها. ففطن مصعب بالنساء فمنعهن، فاشتد على المختار وأصحابه العطش، وكانوا يشربون ماء البئر يعملون فيه العسل فكان ذلك ما يروي بعضهم. ثم إن مصعباً أمر أصحابه فاقتربوا من القصر واشتد الحصار عيهم، فقال: لهم المختار: ويحكم إن الحصار لا يزيدكم إلا ضعفاً فانزلوا بنا فنقاتل حتى نقتل كراماً إن نحن قتلنا، فو الله ما أنا بآيس إن صدقتموهم أن ينصركم الله. فضعفوا ولم يفعلوا. فقال لهم: أما أنا فوالله لا أعطي بيدي ولا أحكمهم في نفسي، وإذا خرجت فقتلت لم تزدادوا إلا ضعفاً وذلا، فغن نزلتم على حكمهم وثبت أعداؤكم فقتلوكم وبعضكم ينظر إلى بعض فتقولون: يا ليتنا أطعنا المختار، ولو أنكم خرجتم معي كنتم إن أخطأتم الظفر متم كراماً. فلما رأى عبد الله بن جعدة بن هبيرة ما عزم عليه المختار تدلى من القصر فلحق بناس من إخوانه فاختفى عندهم سراً. ثم إن المختار تطيب وتحنط وخرج من القصر في تسعة عشر رجلاً، منهم السائب بن مالك الأشعري، وكانت تحته عمرة بنت أي موسى الأشعري، فولدت له غلاماً اسمه محمد، فلما أخذ القصر وجد صبياً فتركوه. فلما خرج المختار قال للسائب: ماذا ترى؟ قال: ما ترى أنت. قال: ويحك يا أحمق إنما أنا رجل من العرب رأيت ابن الزبير قد وثب بالحجاز، ورأيت نجدة وثب باليمامة، ومروان بالشام، وكنت فيها كأحدهم، إلا أني قد طلبت بثأر أهل البيت إذ نامت عنه العرب، فقاتل على حسبك إن لم يكن لك نية. فقال: إنا الله وإنا إليه راجعون، ما كنت أصنع أن أقاتل على حسبي. ثم تقدم المختار فقاتل حتى قتل، قتله رجلان من بني حنيفة أخوان، أحدهما طرفه، والآخر طراف، ابنا عبد الله بن دجاجة.
فلما كان الغد من قتله دعاهم بحير بن عبد الله المسكي ومن معه بالقصر إلى ما دعاهم المختار فأبوا عليه وأمكنوا أصحاب مصعب من أنفسهم ونزلوا على حكمه، فأخرجهم مكتفين، فأراد إطلاق العرب وقتل الموالي، فأبى أصحابه عليه، فعرضوا عليه فأمر بقتلهم، وعرض عليه بحير المسكي، فقال لمصعب: الحمد الله الذي ابتلانا بالأسر وابتلاك بأن تعفو عنا، هما منزلتان: إحداهما رضاء الله، والأخرى سخطه، من عفا عفا الله عنه وزاد عزاً، ومن عاقب لم يأمن القصاص، يا ابن الزبير نحن أهل قبلتكم وعلى ملتكم ولسنا تركاً ولا ديلماً، فإن خالفنا إخواننا من أهل مصرنا فإما أن نكون أصبنا وأخطأوا، وغما أن نكون أخطأنا وأصابوا، فاقتتلنا بيننا كما اقتتل أهل الشام بينهم ثم اجتمعوا، وكما اقتتل أهل البصرة واصطلحوا واجتمعوا، وقد ملكتم فأسجحوا، وقد قدرتم فاعفوا. فما زال بهذا القول حتى رق لهم الناس ومصعب وأراد أن يخلي سبيلهم. فقام عبد الرحمن بن محمد بن محمد بن الأشعث فقال: أتخلي سبيلهم؟ اخترنا أو اخترهم. وقام محمد بن عبد الرحمن بن سعيد الهمداني فقال مثله، وقام أشراف الكوفة فقالوا مثلهما، فأمر بقتلهم، فقالوا له: يا ابن الزبير لا تقتلنا واجعلنا على مقدمتك إلى أهل الشام غداً، فما بكم عنا عنىً، فإن قتلنا لم نقتل حتى نضعفهم لكم، وإن ظفرنا بهم كان ذلك لكم. فأبى عليهم. فقال بحير المسكي: لا تخلط دمي بدامائهم إذ عصوني. فقتلهم. وقال مسافر بن سعيد بن نمران الناعطي: ماتقول يا ابن الزبير لربك غداً وقد قتلت أمةً من المسلمين حكموك في أنفسهم صبراً؟ اقتلوا منا بعدة من قتلنا منكم، ففينا رجال لم يشهدوا موطناً من حربنا يوماً واحداً، كانوا في السواد وجباية الخراج وحفظ الطرق. فلم يسمع منه وأمر بقتله. ولما أراد قتلهم استشار مصعب الأحنف بن قيس، فقال: أرى أن تعفو، فإن العفو أقرب للتقوى. فقال أشراف أهل الكوفة: اقتلهم، وضجوا، فقتلهم. فلما قتلوا قال الأحنف: ما أدركتم بقتلهم ثأراً، فليته لا يكون في الآخرة وبالاً. وبعثت عائشة بنت طلحة امرأة مصعب إليه في أطلاقهم، فوجدهم الرسول قد قتلوا. وأم مصعب بكف المختار بن أبي عبيدة فقطعت وسمرت بمسمار إلى جانب المسجد، فبقيت حتى قدم الحجاج فنظر إليها وسأل عنها عقيل: هذه كف المختار، فأمر بنزعها. وبعث مصعب عماله على الجبال والسواد وكتب إلى إبراهيم بن الأشتر يدعوه إلى طاعته ويقول له: إن أطعتني فلك الشام وأعنة الخيل وما غلبت عليه من أرض المغرب ما دام لآل الزبير سلطان، أعطاه عهد الله على ذلك. وكتب عبد الملك بن مروان إلى ابن الأشتر يدعوه إلى طاعته ويقول: إن أنت أجبتني فلك العراق. فاستشار إبراهيم أصحابه فاختلفوا، فقال إبراهيم: لو لم أكن أصبت ابن زياد وأشراف الشام لأجبت عبد الملك مع أني لا أختار على أهل مصري وعشيرتي غيرهم. فكتب إلى مصعب بالدخول معه. فكتب إليه مصعب أن أقبل، فأقبل إليه بالطاعة، فلما بلغ مصعباً إقباله إليه بعث المهلب عل عمله بالموصل والجزيرة وأرمينية وأذربيجان. ثم إن مصعباً دعا أم ثابت بنت سمرة بن جندب امرأة المختار وعمرة بنت النعمان بن بشير الأنصارية امرأته الأخرى فأحضرهما وسألهما عن المختار. فقالت أم ثابت: نقول فيه بقولك أنت، فأطلقها، وقالت عمرة: رحمة الله، كان عبداً لله صالحاً، فحبسها، وكتب إلى أخيه عبد الله بن الزبير: إنها تزعم أنه نبي، فأمره بقتلها، فقتلت ليلاً بين الكوفة والحيرة، قتلها بعض الشرط ضربها ثلاث ضربات بالسيف وهي تقول: يا أبتاه! يا عثرتاه! فرفع رجل يده فلطم القاتل وقال: يا ابن الزانية عذبتها! ثم تشحطت فماتت، فتعلق الشرطي بالرجل وحمله إلى مصعب، فقال: خلوه فقد رأى أمراً فظيعاً. فقال عمر بن أبي ربيعة المخزومي في ذلك: إن من أعجب العجائب عندي ... قتل بيضاء حرةٍ عطبول قتلت هكذا على غير جرمٍ ... إن لله درها من قتيل كتب القتل والقتال علينا ... وعلى المحصنات جر الذبول وقال سعيد بن عبد الرحمن بن حسان بن ثابت الأنصاري في ذلك أيضاً: أتى راكب بالأمر ذي النبإ العجب ... بقتل ابنه النعمان ذي الدين والحسب بقتل فتاةٍ ذات دلٍ ستيرةٍ ... مهذبة الأخلاق والخيم والنسب
مطهرةٍ من نسل قومٍ أكارمٍ ... من المؤثرين الخير في سالف الحقب خليل النبي المصطفى ونصيره ... وصاحبه في الحرب والضرب والكرب أتاني بأن الملحدين توافقوا ... على قتلها، لا جنبوا القتل ولسلب فلا هنأت آل الزبير معيشة ... وذاقوا لباس الذل والخوف والحرب كأنهم إذ أبرزوها وقطعت ... بأسيافهم فازوا بمملكة العرب ألم تعجب الأقوام من قتل حرةٍ ... من المحصنات الدين محمودة الأدب من الغافلات المؤمنات بريئةٍ ... من الذم والبهتان والشك والكذب علينا ديات القتل والبأس واجب ... وهن العفاف في الحجال وفي الحجب على دين أجدادٍ لها وأبوةٍ ... كرام مضت لم تخز أهلاً ولم ترب من الخفرات لا خروج بذية ... ولا دمة تنعى على جارها الجنب ولا الجار ذي القربي ولم تدر ما الخنا ... ولم تزدلف يوماً بسوءٍ ولم تجب عجبت لها إذ كتفت وهي حية ... ألا إن هذا الخطب من أعجب العجب وقيل: إن المختار إنما أظهر الخلاف لابن الزبير عند قدوم مصعب البصرة، وإن مصعباً لما سار إليه فبلغه مسيره أرسل إليه أحمر بن شميط وأمره أن يواقعه بالمذار، وقال: إن الفتح بالمذار لأنه بلغه أن رجلاً من ثقيف يفتح عليه بالمذار فتح عظيم، فظن أنه هو، وإنما كان ذلك للحجاج في قتال عبد الرحمن بن الأشعث. وأمر مصعب عباداً الحطمي بالمسير إلى جمع المختار، فتقدم وتقدم معه عبيد الله بن علي بن أبي طالب، وبقي مصعب على نهر البصريين، وخرج المختار في عشرين ألفاً، وزحف مصعب ومن معه فوافوه مع الليل، فقال المختار لأصحابه: لا يبرحن أحد منكم حتى يسمع منادياً ينادي: يا محمد، فإذا سمعتوه فاحملوا. فلما طلع القمر أمر منادياً فنادى: يا محمد، فحملوا على أصحاب مصعب فهزموهم وأدخلوهم عسكرهم، فلم يزالوا يقاتلونهم حتى أصبحوا وأصبح المختار وليس عنده أحد وأصحابه قد أوغلوا في أصحاب مصعب، فانصرف المختار منهزماً حتى دخل قصر الكوفة، وجاء أصحابه حين أصبحوا فوقفوا ملياً فلم يروا المختار فقالوا: قد قتل، فهرب منهم من أطاق الهرب فاختفوا بدور الكوفة، وتوجه منهم نحو القصر ثمانية آلاف فوجدوا المختار في القصر، فدخلوا عليه، وكانوا قد قتلوا تلك الليلة من أصحاب مصعب خلقاً كثيراً، منهم محمد بن الأشعث. وأقبل مصعب فأحاط بالقصر وحاصرهم أربعة أشهر يخرج المختار كل يوم فيقاتلهم في سوق الكوفة. ولما قتل لمختار بعث من في القصر يطلب الأمان، فأبى مصعب، فنزلوا على حكمه، فقتل من العرب سبعمائة أو نحو ذلك وسائرهم من العجم، وكان عدة القتلى ستة آلاف رجل. قيل: إن مصعباً لقي ابن عمر فسلم عليه وقال له: أنا ابن أخيك مصعب. فقال له ابن عمر: أنت القاتل سبعة آلاف من أهل القبلة في غداة واحدة غير ما بدا لك. فقال مصعب: إنهم كانوا كفرة فجرة. فقال: والله لو قتلت عدتهم غنماً من تراث أبيك لكان ذلك سرفاً. وقال ابن الزيبر لعبد الله بن عباس: ألم يلغك قتل الكذاب؟ قال: ومن الكذاب؟ قال: ابن أبي عبيد. قال: قد بلغني قتل المختار. قال: كأنك نكرت تسميته كذاباً ومتوجع له. قال: ذاك رجل قتل قتلتنا وطلب ثأرنا وشفى غليل صدورنا وليس جزاؤه منا الشتم والشماتة. وقال عروة بن الزبير لابن عباس: قد قتل الكذاب المختار وهذا رأسه. فقال ابن عباس: قد بقيت لكم عقبة كؤود فإن صعد تموها فأنتم أنتم وإلا فلا، يعني عبد الملك بن مروان. وكانت هدايا المختار تأتي ابن عمر وابن الحنفية فيقبلانها، وقيل: رد ابن عمر هديته. ذكر عزل مصعب بن الزبير وولاية حمزة بن عبد الله بن الزبير
وفي هذه السنة عزل عبد الله بن الزير أخاه مصعباً عن العراق بعد أن قتل المختار وولى مكانه ابنه حمزة بن عبد الله، وكان حمزة جواداً مخلطاً يجود أحياناً حتى لا يدع شيئاً يملكه ويمنع أحياناً ما لا يمنع مثله، وظهر منه بالبصرة خفة وضعف، فيقال إنه ركب يوماً فرأى فيض البصرة فقال: إن هذا الغدير إن رفقوا به ليكفينهم ضيعتهم، فلما كان بعد ذلك رآه جازراً فقال: قد قتلت لو رافقوا به لكفاهم. وظهر منه غير ذلك فكتب الأحنف إلى أبيه وسأله أن يعزله عنهم ويعيد مصعباً، فعزله، فاحتمل مالاً كثيراً من مال البصرة، فعرض له مالك بن مسمع فقال له: لا ندعك تخرج بعطايانا. فضمن له عبيد الله بن عبد الله العطاء فكف عنه، وشخص حمزة بالمال وأتى المدينة فأودعه رجالاً، فجحدوه إلا رجلاً واحداً فوفى له، وبلغ ذلك أباه فقال: أبعده الله! أردت أن أباهي به بني مروان فنكص. وقيل: إن مصعباً أقام بالكوفة سنة بعد قتل المختار معزولاً عن البصرة، عزله أخوه عبد الله واستعمل عليها ابنه حمزة، ثم إن مصعباً وفد على أخيه عبد الله فرده على البصرة، وقيل: بل انصرف مصعب إلى البصرة بعد قتل المختار واستعمل على الكوفة الحارث بن أبي ربيعة، فكانتا في عمله، فعزله أخوه عن البصرة واستعمل ابنه حمزة، ثم عزل حمزة بكتاب الأحنف وأهل البصرة ورد مصعباً. ذكر عدة حوادثحج بالناس في هذه السنة عبد الله بن الزبير، وكان عامله على الكوفة والبصرة من تقدم ذكره، وكان على قضاء الكوفة عبد الله بن عتبة بن مسعود، وعلى قضاء البصرة هشام بن هبيرة وبالشام عبد الملك بن مروان، وبخراسان عبد الله بن خازم. وفي هذه السنة مات الأحنف بن قيس بالكوفة مع مصعب، وقيل: مات سنة إحدى وسبعين بالكوفة لما سار مصعب إلى قتل عبد الملك بن مروان. وقتل هبيرة بن مريم مولى الحسين بن علي بالخازر، وهو من أصحاب المختار وثقات المحدثين. وفيها توفي جنادة بن أبي أمية وأدرك الجاهلية، وليست له صحبة. وقتل مصعب عبد الرحمن وعبد الرب ابني حجر بن عدي وعمران بن حذيفة بن اليمان، قتلهم صبراً بعد قتل المختار وبعد قتل أصحابه. ثم دخلت سنة ثمان وستين ذكر عزل حمزة وولاية مصعب البصرة وفي هذه السنة رد عبد الله بن الزبير أخاه مصعباً إلى العراق. وسببه: أن الأحنف رأى من حمزة بن عبد الله اختلاطاً وحمقاً، فكتب إلى أبيه، فعزله ورد مصعباً واستعمل على الكوفة الحارث بن أبي ربيعة. وقيل: كان سبب عزله حمزة أنه قصر بالأشراف وبسط يده ففزعوا إلى مالك بن مسمع فضرب خيمته على الجسر ثم أرسل إلى حمزة: الحق بأبيك؛ وأخرجه عن البصرة، فقال العديل العجلي: إذا ما خشينا من أميرٍ ظلامةً ... دعونا أبا سفيان يوماً فعسكرا ذكر حروب الخوارج بفارس والعراقفي هذه السنة استعمل مصعب عمر بن عبيد الله بن معمر على فارس وولاه حرب الأزارقة، وكان المهلب على حربهم أيام مصعب الولى وأيام حمزة بن عبد الله بن الزبير. فلما عاد مصعب أراد أن يولي المهلب بلاد الموصل والجزيرة وأرمينية ليكون بينه وبين عبد الملك بن مروان، فكتب إليه، وهو بفارس، في القدوم عليه، فقدم واستخلف على عملة ابنه المغيرة ووصاه بالاحتياط ، وقدم البصرة، فعزله مصعب عن حرب الخوارج وبلاد فارس واستعمل عليهما عمر بن عبيد الله بن معمر. فلما سمع الخوارج به قال قطري بن الفجاءة: قد جاءكم شجاع وهو شجاع وبطل، جاء يقاتل لدينه وملكه بطبيعة لم أر مثلها لأحد، ما حضر حرباً إلا كان أول فارس يقتل قرنه. وكان الخوارج قد استعملوا عليهم بعد قتل عبيد الله بن الماحوز الزبير بن الماحوز، على ما ذكرناه سنة خمس وستين، فجاءت الخوارج إلى إصطخر، فقدم إليهم عمر ابنه عبيد الله في خيل، فاقتلوا فقتل عبيد الله بن عمر، وأراد الزبير بن الماحوز قتال عمر فقال له قطري: إن عمر مأثور فلا نقاتله، فأبى فقاتله، فقتل من فرسان الخوارج تسعون رجلاً، وطعن عمر صالح بن مخارق فشتر عينه، وضرب قطرياً على جبينه ففلقه، وانهزمت الخوارج وساروا إلى سابور، فعاد عمر ولقيهم بها ومعه مجاعة بن سعر، فقتل مجاعة بعمود كان معه أربعة عشر رجلاً من الخوارج، وكاد عمر بهلك في هذه الوقعة، فدافع عنه مجاعة، فوهب له عمر تسعمائة ألف درهم، فقيل في ذلك:
قد ذدت عادية الكتيبة عن فتىً ... قد كاد يترك لحمه أقطاعا وظهر عليهم فساروا وقطعوا قنطرةً بينهما ليمتنع من طلبهم وقصدوا نحو أصبهان، فأقاموا عندها حتى قووا واستعدوا، ثم أقبلوا حتى مروا بفارس وبها عمر، فقطعوها في غير الموضع الذي هم به، أخذوا على سابور ثم على أرجان حتى أتوا الأهواز. فقال مصعب: العجب لعمر! قطع هذا العدو الذي هو بصدد محاربته أرض فارس فلم يقاتلهم، ولو قاتلهم وفر كان أعذر له. وكتب إليه: يا ابن معمر ما أنصفتني، تجبي الفيء وتحيد عن العدو، فاكفني أمرهم. فسار عمر من فارس في أثرهم مجداً يرجو أن يلحقهم قبل أن يدخلوا العراق، وخرج مصعب فعسكر عند الجسر الأكبر وعسكر الناس معه، وبلغ الخوارج وهم بالأهواز إقبال عمر إليهم وأن مصعباً قد خرج من البصرة إليهم، فقال لهم الزبير بن الماحوز: من سوء الرأي وقوعكم بين هاتين الشوكتين، انهضوا بنا إلى عدونا نلقهم من وجه واحد. فسار بهم فقطع بهم أرض جوخي والنهروانات فأتى المدائن وبها كردم بن مرشد القرادي، فشنوا الغارة على أهل المدائن يقتلون الرجال والنساء والوالدان ويشقون أجواف الحبالى. فهرب كردم، وأقبلوا إلى ساباط ووضعوا السيف في الناس يقتلون، وأرسلوا جماعة إلى الكرخ فلقوا أبا بكر بن مخنف فقاتلهم قتالاً شديداً، فقتل أبو بكر وانهزم أصحابه، وأفسد الخوارج في الأرض. فأتى أهل الكوفة أميرهم، وهو الحارث بن أبي ربيعة ولقبه القباع، فصاحوا به وقالوا: اخرج فإن العدو قد أظل علينا ليست له بقية. فخرج حتى نزل النخلية فأقام أياماً، فوثب إليه إبراهيم بن الأشتر فحثه على المسير، فسار حتى نزل دير عبد الرحمن فأقام به حتى دخل إليه شبث بن ربعي فأمره بالمسير، فلما رأى الناس بط ء مسيره رجزوا به فقالوا: سار بنا القباع سيراً نكرا ... يسير يوماً ويقيم شهرا فسار من ذلك المكان، فكان كلما نزل منزلاً أقام به حتى يصيح به الناس، فبلغ الفرات في بضعة عشر يوماً، فأتاها وقد انتهى إليها الخوارج، فقطعوا الجسر بينهم وبينه وأخذوا رجلاً اسمه سماك بن يزيد ومعه بنت له فأخذوها ليقتلوها، فقالت لهم: يا أهل الإسلام! إن أبي مصاب فلا تقتلوه، وأما أنا فجارية والله ما أتيت فاحشةً قط ولا آذيت جارةً لي ولا تطلعت ولا تشرفت قط . فلما أرادوا قتلها سقطت ميتة فقطعوها بأسيافهم، وبقي سماك معهم حتى أشرفوا على الصراة، فاستقبل أهل الكوفة فناداهم: اعبروا إليهم إليهم فإنهم قليل خبيث فضربوا عنقه وصلبوه. فقال إبراهيم بن الأشتر للحارث: اندب معي الناس حتى أعبر إلى هؤلاء الكلاب فأجيئك برؤوسهم. فقال شبث وأسماء بن خارجة ويزيد بن الحارث ومحمد بن عمير وغيرهم: أصلح الله الأمير، دعهم فليذهبوا؛ وكأنهم حسدوا إبراهيم. فلما رأى الخوارج كثرة الناس قطعو الجسر، واغتنم ذلك الحارث فتحبس ثم جلس للناس فقال: أما بعد فإن أول القتال الرمية بالنبل وإشراع الرماح والطعن ثم الطعن شزراً ثم السلة آخر ذلك كله. فقال له رجل: قد أحسن الأمير الصفة ولكن متى نصنع هذا وهذا البحر بيننا وبينهم؟ فمر بهذا الجسر فليعقد ثم عبرنا إليهم، فإن الله سيريك ما تحب. فعقد الجسر وعبر الناس، فطارد الخوارج حتى أتو المدائن، وطاردت بعض خليهم عند الجسر طراداً ضعيفاً فرجعوا، فأتبعهم الحارث عبد الرحمن بن مخنف في ستة آلاف ليخرجهم من أرض الكوفة، وقال له: إذا وقعوا في أرض البصرة فاتركهم. فسار عبد الرحمن يتبعهم حتى وقعوا في أرض أصبهان، فرجع عنهم ولم يقاتلهم، وقصدوا الري وعليها يزيد بن الحارث بن رويم الشيباني، فقاتلهم فأعان أهل الري الخوارج، فقتل يزيد وهرب ابنه حوشب، ودعاه أوه ليدفع عنه فلم يرجع، فقال بعضهم: فلو كان حراً حوشب ذا حفيظةٍ ... رأى ما رأى في الموت عيسى بن مصعب يعني أن عيسى بن مصعب لم يفر عن أبيه بل قاتل عنه ومعه حتى قتل. وقال بشر بن مروان يوماً وعنده حوشب هذا وعكرمة بن ربعي: من يدلني على فرس جواد؟ فقال عكرمة: فرس حوشب فإنه نجا عليه يوم الري. وقال بشر أيضاً يوماً: من يدلني على بغلة قوية الظهر؟ فقال حوشب: بغلة واصل بن مسافر، كان عكرمة يتهم بامرأة واصل، فتبسم بشر وقال: لقد انتصفت.
ولما فرغ الخوارج من الري انحطوا إلى أصبهان فحاصروها وبها عتاب بن ورقاء، فصبر لهم، وكان يقاتلهم على باب المدينة ويرمون من السور بالنبال والحجارة. وكان مع عتاب رجل من حضرموت يقال له أبو هريرة شريح، فكان يحمل عليهم ويقول: كيف ترون يا كلاب النار ... شد أبي هريرة الهرار يهركم بالليل والنهار ... يا ابن أبي الماحوز والأشرار كيف ترى حربي على المضمار فلما طال ذلك على الخوارج كمن له رجل منهم ذات يوم فضربه بالسيف على حبل عاتقه فصرعه، فاحتمله أصحابه وداووه حتى برأ وخرج إليهم على عادته. ثم إن الخوارج أقامت عليهم أشهراً حتى نفدت أطعمتهم واشتد عليهم الحصار أصابهم الجهد الشديد، فقال لهم عتاب: أيها الناس قد نزل بكم من الجهد ما ترون وما بقي إلا أن يموت أحكم على فراشه فيدفنه أخوه إن استطاع، ثم يموت هو فلا يجد من يدفنه ولا يصلي عليه، والله ما انتم بالقلي وإنكم الفرسان الصلحاء، فاخرجوا بنا إلى هؤلاء وبكم قوة وحياة قبل أن تضعفوا على الحركة من الجهد، فو الله إني لأرجو إن صدقتموهم أن تظفروا بهم. فأجابوه إلى ذلك. ذكر قتل ابن الماحوز وإمارة قطري بن الفجاءةلما أمر عتاب أصحابه بقتال الخوارج وأجابوه إلى ذلك جمع الناس وأمر لهم بطعام كثير، ثم خرج حين أصبح فأتى الخوارج وهم آمنون، فحملوا عليهم فقاتلوهم حتى أخرجوهم من عسكرهم وانتهوا إلى الزبير بن الماحوز فنزل في عصابة من أصحابه فقاتل حتى قتل، وانحازت الأزارقة إلى قطري ابن الفجاءة المازني،وكنيته أبو نعامة، فبايعوه، وأصحاب عتاب وأصحابه من عسكره ما شاؤوا، وجاء قطري فنزل في عسكر الزبير، ثم سار عن أصبهان وتركها وأتى ناحية كرمان وأقام بها حتى اجتمعت إليه جموع كثيرة وجبى المال وقوي. ثم أقبل إلى أصبهان ثم أتى إلى أرض الأهواز فأقام بها والحارث بن أبي ربيعة عامل مصعب على البصرة، فكتب إلى مصعب يخبره بالخوارج وأنهم ليس لهم إلا المهلب. فبعث إلى المهلب وهو على الموصل والجزيرة فأمره بقتال الخوارج، وبعث إلى الموصل إبراهيم بن الأشتر، وجاء المهلب إلى البصرة وانتخب الناس وسار بهم نحو الخوارج، ثم أقبلوا إليه حتى التقوا بسولاف فاقتتلوا بها ثمانية أشهر أشد قتال رآه الناس. ذكر حصار الريوفيها أمر مصعب عتاب بن زرقاء الرياحي، عامله على أصبهان، بالمسير إلى الري وقتال أهلها لمساعدتهم الخوارج على يزيد بن الحارث بن رويم وامتناعهم من مدينتهم، فسار إليهم عتاب فنازلهم وقاتلهم وعليهم الفرخان، وألح عليهم عتاب بالقتال ففتحها عنوة وغنم ما فيها وافتتح سائر قلاع نواحيها. وفيها كان بالشام قحط شديد حتى إنهم لم يقدروا من شدته على الغزو. وفيها عسكر عبد الملك بن مروان ببطنان، وهو قريب قنسرين، وشتى بها ثم رجع إلى دمشق. ذكر خبر عبيد الله بن الحر ومقتلهفي هذه السنة قتل عبيد الله بن الحر الجعفي، وكان من خيار قومه صلاحاً وفضلاً واجتهاداً، فلما قتل عثمان ووقعت الحرب بين علي ومعاوية قصد معاوية فكان معه لمحبته عثمان وشه | |
|
| |
الشيخ عودة الشيخ عودة
عدد المساهمات : 1748 تاريخ التسجيل : 28/09/2008 العمر : 74
| موضوع: رد: كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير الثلاثاء فبراير 11, 2014 3:33 am | |
| فألقى السيف وجلس، وصلى عبد الملك صلاة خفيفة ودخل وغلقت الأبواب. ورأى الناس عبد الملك حين خرج وليس معه عمرو، فذكروا ذلك ليحيى بن سعيد، فأقبل في الناس ومعه ألف عبد لعمرو وناس من أصحابه كثير، فجعلوا يصيحون بباب عبد الملك: أسمعنا صوتك يا أبا أمية! فأقبل مع يحيى حميد بن حريث وزهير بن الأبرد فكسروا باب المقصورة وضربوا الناس بالسيوف، وضرب الوليد بن عبد الملك على رأسه، واحتمله إبراهيم بن عربي صاحب الديوان فأدخله بيت القراطيس. ودخل عبد الملك حين صلى فرأى عمراً بالحياة، فقال لعبد العزيز: ما منعك أن تقتله؟ فقال: إنه ناشدني الله والرحم فرققت له. فقال له: اخزى الله أمك البوالة على عقبيها، فإنك لم تشبه غيرها! ثم أخذ عبد الملك الحربة فطعن بها عمراً فلم تجز، ثم ثنى فلم تجز، فضرب بيده على عضده فرأى الدرع فقال: ودرع أيضاً؟ إن كنت لمعداً! فأخذ الصمصامة وأمر بعمرو فصرع، وجلس على صدره فذبحه وهو يقول: يا عمرو إن لا تدع شتمي ومنقصتي ... أضربك حيث تقول الهامة اسقوني وانتفض عبد الملك رعدة، فحمل عن صدره فوضع على سريره، وقال: ما رأيت مثل هذا قط قتله صاحب دنيا ولا طالب آخرة. ودخل يحيى ومن معه على بني مروان يخرجهم ومن كان من مواليهم، فقاتلوا يحيى وأصحابه، وجاء عبد الرحمن بن أم الحكم الثقفي فدفع إليه الرأس، فألقاه إلى الناس، وقام عبد العزيز بن مروان وأخذ المال في البدر فجعل يلقيها إلى الناس، فلما رأى الناس الرأس والأموال انتهبوا الأموال وفرقوا، ثم أمر عبد الملك بتلك الأموال فجبيت حتى عادت إلى بيت المال. وقيل: إن عبد الملك إنما أمر بقتل عمرو حين خرج إلى الصلاة غلامه ابن الزعيرية فقتله وألقى رأسه إلى الناس، ورمى بصخرة في رأسه، وأخرج عبد الملك سريره إلى المسجد وخرج وجلس عليه، وفقد الوليد ابنه فقال: والله لئن كانوا قتلوه لقد أدركوا ثأرهم. فأتاه إبراهيم بن عربي الكناني، فقال: الوليد عندي وقد جرح وليس عليه بأس. وأتي عبد الملك بيحيى بن سعيد، وأمر به أن يقتل، فقام إليه عبد العزيز بن مروان فقال: جعلت فداك يا أمير المؤمنين! أتراك قاتلاً بني أمية في يوم واحد! فأمر بيحيى فحبس. وأراد قتل عنبسة بن سعيد، فشفع فيه عبد العزيز أيضاً، وأراد قتل عامر بن الأسود الكلبي، فشفع فيه عبد العزيز، وأمر ببني عمرو بن سعيد فحبسوا، ثم أخرجهم مع عمهم يحيى فألحقهم بمصعب بن الزبير. ثم بعث عبد الملك إلى امرأة عمرو الكلبية: ابعثي إلي كتاب الصلح الذي كتبته لعمرو فقالت لرسوله: ارجع فأعلمه أن ذلك الصلح معه في أكفانه ليخاصمك عند ربه. وكان عبد الملك وعمرو يلتقيان في النسب في أمية، هذا عبد الملك بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية، وذاك عمرو بن سعيد بن العاص بن أمية، وكانت أم عمرو أم البنين بنت الحكم عمة عبد الملك.
فلما قتل عبد الملك مصعباً واجتمع الناس عليه دخل أولاد عمرو على عبد الملك، وهم أربعة: أمية وسعيد وإسماعيل ومحمد، فلما نظر إليهم قال لهم: إنكم أهل بيت لم تزالوا ترون لكم على جميع قومكم فضلاً لم يجعله الله لكم، وإن الذي كان بيني وبين أبيكم لم يكن حديثاً ولكن كان قديماً في أنفس أوليائكم على أوليائنا في الجاهلية. فأقطع بأمية، وكان أكبرهم، فلم يقدر أن يتكلم، فقام سعيد بن عمرو وكان الوسط، فقال: يا أمير المؤمنين ماتنعى علينا أمراً كان في الجاهلية وقد جاء الله بالإسلام فهدم ذلك ووعد جنةً وحذر ناراً، وأما الذي كان بينك وبين عمرو فإنه كان ابن عمك وأنت أعلم بما صنعت، وقد وصل عمرو إلى الله وكفى بالله حسباً، ولعمري لئن أخذتنا بما كان بينك وبينه لطن الأرض خير لنا من ظهرها. فرق لهم عبد الملك وقال: إن أباكم خيرني بين أن يقتلني أو أقتله فاخترت قتله على قتلي، وأما انتم فما أرغبني فيكم وأوصلني لقرابتكم! وأحسن جائزتهم ووصلهم وقربهم. وقيل: إن خالد بن يزيد قال لعبد الملك ذات يوم: عجبت كيف أصبت غرة عمرو. فقال عبد الملك: أدنيته مني ليسكن روعه ... وأصول صولة حازمٍ متمكن غضباً ومحميةً لديني إنه ... ليس المسيء سبيله كالمحسن وقيل: إنما خلع عمرو وقتله حين سار عبد الملك نحو العراق لقتال مصعب، فقال له عمرو: إنك تخرج إلى العراق وقد كان أبوك جعل لي هذا الأمر بعده وعلى ذلك قاتلت معه، فاجعل هذا الأمر لي بعدك، فلم يجبه عبد الملك إلى ذلك، فرجع إلى دمشق، وكان من قتله ما تقدم. وقيل: بل كان عبد الملك قد استخلف عمراً على دمشق فخالفه وتحصن بها، والله أعلم. ولما سمع عبد الله بن الزبير بقتل عمرو قال: إن ابن الزرقاء قتل لطيم الشيطان: " وكذلك نولي بعض الظالمين بعضاً بما كانوا يكسبون " الأنعام:129، وبلغ ذلك ابن الحنفية فقال: " فمن نكث فإنما ينكث على نفسه " الفتح:10، يرفع له يوم القيامة لواء على قدر غدرته. ذكر عصيان الجراجمة بالشاملما امتنع عمرو بن سعيد على عبد الملك خرج أيضاً قائدً من قواد الضواحي في جبل اللكام واتبعه خلق كثير من الجراجمة والأنباط وأباق عبيد المسلمين وغيرهم، ثم سار إلى لبنان، فلما فرغ عبد الملك من عمر أرسل إلى هذا الخارج عليه فبذل له كل جمعة ألف دينار، فركن إلى ذلك ولم يفسد في البلاد، ثم وضع عليه عبد الملك سحيم بن المهاجر، فتلطف حتى وصل إليه متنكراً فأظهر له ممالأته وذم عبد المكل وشتمه ووعده أن يدله على عوراته وما هو خير له من الصلح. فوثق به. ثم أن سحيماً عطف عليه وعلى أصحابه بوهم غارون غافلون بجيش مع موالي عبد الملك وبني أمية وجند من ثقات جنده وشجعانهم كان أعدهم بمكان خفي قريب وأمر فنودي: من أتانا من العبيد، يعني الذين كانوا معه، فقتل الخارج ومن أعانه من الروم، وقتل نفر من الجراجمة والأنباط، ونادى المنادي بالأمان فيمن لقي منهم، فتفرقوا في قراهم وسد الخلل وعاد إلى عبد الملك ووفي للعبيد ذكر عدة حوادثفي هذه السنة قتل زهير بن قيس أمير إريقية، وقد ذكرنا ذلك سنة اثنتين وستين، وفيها حكم رجل من الخوارج بمنى وسل سيفه، وكانوا جماعة، فأمسك الله أيديهم فقتل ذلك الرجل عند الجمرة. وحج بالناس في هذه السنة عبد الله بن الزبير، وكان على البصرة والكوفة له أخوه مصعب، وعلى قضاء الكوفة شريح، وعلى قضاء البصرة هشام بن هبيرة، وعلى خراسان عبد الله بن خازم. وفيها توفي أبو الدؤلي زله خمس وثمانون سنة. ثم دخلت سنة سبعينفي هذه السنة اجتمعت الروم واستجاشوا على من بالشام، فصالح عبد الملك ملكهم على أن يؤدي إليه كل جمعة ألف دينار خوفاً منه على المسلمين. وفيها شخص مصعب إلى مكة، في قول بعضهم، ومعه أموال كثيرة ودواب كثيرة قسمها في قومه وغيرهم ونهض ونحر بدناً كثيرة. وحج بالناس هذه السنة عبد الله بن الزبير، وكان عماله فيها من تقدم ذكرهم. ذكر يوم الجفرة
وفي هذه السنة سار عبد الملك بن مروان يريد مصعباً، فقال له خالد بن عبد الله بن خالد بن أسيد: إن وجهتني إلى البصرة وأتبعتني خيلاً يسيرة رجوت أن أغلب لك علها. فوجهه عبد الملك، فقدمها مستخفياً في خاصته حتى نزل على عمرو بن أصمع، وقيل: نزل على علي بن أصمع الباهلي، فأرسل عمرو إلى عباد بن الحصين، وهو على شرطة ابن معمر، وكان مصعب قد استخلفه على البصرة، ورجا ابن أصمع أن يبايعه عباد بن الحصين وقال له: إني قد أجرت خالداً وأحببت أن تعلم ذلك لتكون ظهراً لي. فوافاه الرسول حين نزل عن فرسه، فقال عباد: قل له والله لا أضع لبد فرسي حتى آتيك في الخيل. فقال ابن أصمع لخاد: إن عباداً يأتينا الساعة ولا أقدر أن أمنعك عنه فعليك بالمالك بن مسمع. فخرج خالد يركض وقد أخرج رجليه من الركابين حتى أتى مالكاً فقال: أجرني، فأجاره، وأرسل إلى بكر بن وائل والأزد فكل أول راية أتته راية بني يشكر، وأقبل عباد في الخيل، فتوافقوا ولم يكن بينهم قتال. فلما كان الغد عدوا إلى جفرة نافع بن الحارث ومع خالد رجال من تميم، منهم: صعصعة بن معاوية وعدب العزيز بن بشر ومرة بن محكان وغيرهم، وكان أصحاب خالد: جفرية ينتسبون إلى الجفرة، وأصحاب ابن معمر زبيرية، وكان من أصحاب خالد: عبيد الله بن أبي بكرة وحمران بن أبان والمغيرة بن المهلب، ومن الزبيرية: قيس بن الهيثم السلمي. ووجه مصعب زحر بن قيس الجعفي مدداّ لا بن مهمر في ألف، ووجه عبد الملك عبيد الله بن زياد بن ظبيان مدداً لخالد. فأرسل عبيد الله إلى البصرة من يأتيه بالخير، فعاد إليه فأخبره بتفرق القوم، فرجع إلى عبد الملك. فاقتلوا أربعة وعشرين يوماً وأصيبت عين مالك بن مسمع وضجر من الحرب ومشت بينهم السفراء فاصطلحوا على أن يخرج خالد من البصرة، فأخرجه مالك. ثم لحق مالك بثأج، وكان عبد الملك قدر جع إلى دمشق، فلم يكن لمعصب همة إلا البصرة وطمع أن يدرك بها خالداً فوجده قد خرج، وسخط مصعب على ابن معمر وأحضر أصحاب خالد فشتمهم وسبهم، فقال لعبيد الله بن أبي بكرة: يا ابن مسروح إنما أنت أبن كلبة تعاورها الكلاب فجاءت بأحمر وأصفر وأسود من كل كلب بما يشبهه، وإنما كان أبوك عبداً نزل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، من حصن الطائف ثم ادعيتم أن أبا سفيان زنى بأمكم، ووالله لئن بقيت لأ لحقنكم بنسبكم. ثم دعا حمران فقال له: إما أنت ابن يهويدة علج نبطي سبيت من عين التمر. وقال للحكم بن المنذر بن الجارود ولعبد الله بن فضالة الزهراني ولعلي بن أصمع ولعبد العزيز بن بشر وغيرهم نحو هذا من التوبيخ والتقريع، وضربهم مائةً مائة، وحلق رؤوسهم ولحاهم، وهدم دورهم وصدرهم في الشمس ثلاثاً، وحملهم على طلاق نسائهم، وجمر أولادهم في البعوث، وطاف بهم في أقطار البصرة وأحلفهم أن لا ينكحوا الحرائر، وهم دار مالك بن مسمع وأخذ ما فيها، فكان مما أخذ جارية ولدت له عمرو بن مصعب. وأقام مصعب بالبصرة، ثم شخص إلى الكوفة فلم يزل بها حتى خرج إلى حرب عبد الملك بن مروان. والمغيرة بضم الميم، وبالغين، والراء. خالد بن أسيد بفتح الهمزة، وكسر السين. والجفرة بضم الجيم، وسكون الراء. وفي هذه السنة مات عاصم بن عمر بن الخطاب، وهو حد عمر بن عبد العزيز لأمه وولد قبل موت النبي صلى الله عليه وسلم ، بسنتين. ذكر مقتل عمير بن الحباب بن جعدة السلميفي هذه السنة قتل عمير بن الحباب بن جعدة السلمي، ونحن نذكر سبب الحرب بين قيس وتغلب حتى آل الأمر إلى قتل عمير. وكان سبب ذلك أنه لما اقضى أمر مرج راهط وسار زفر الحارث الكلائي إلى قرقيسيا، على ما ذكرناه، وبايع عمير مروان بن الحكم وفي نفسه ما فيها بسبب قتل قيس لمارج، فلما سير مروان بن الحكم عبيد الله بن زياد إلى الجزيرة والعراق كان عمير معه فلقوا سليمان بن صرد بعين الوردة، وسار عبيد الله إلى قرقيسيا لقتال زفر، فثبطه عمير وأشار بالخازر، فمال عمير معه، فانهزم جيش عبيد الله وقتل هو، فأتى عمير قرقيسيا وصار مع زفر، فجعلا يطلبان كلباً واليمانية بم قتلوا من قيس، وكان معهما قوم من تغلب يقاتلون معهما ويدلونهما.
وشغل عبد الملك عنهما بمصعب، وتغلب عمير على نصيبين. ثم إنه مل المقام بقرقيسيا فاستأمن إلى عبد الملك فأمنه، ثم غدر به فحبسه عند مولاه الريان، فسقاه عمير ومن معه من الحرس خمراً حتى أسكرهم وتسلق في سلم من حبال وخرج من الحبس وعاد إلى الجزيرة ونزل على نهر البليخ بين حران والرقة، فاجتمعت إليه قيس فكان يغير بهم على كلب واليمانية، وكان من معه يستأوون جواري تغلب وسخرون مشايخهم من النصارى، فهاج ذلك بينهم شراً لم يبلغ الحرب، وذلك قبل مسير عبد الملك إلى مصعب وزفر. ثم إن عميراً أغار على كلب، ثم رجع فنزل على الخابور، وكانت منازل تغلب بين الخابور والفرات ودجلة. وكانت بحيث نزل عمير امرأة من تميم ناكح في تغلب يقال لها أم دويل، فأخذ غلام من بيني الحريش أصحاب عمير عدداً من غنمها، فشكت إلى عمير، فلم يمنع عنها، فأخذوا الباقي، فمانعهم قوم من تغلب، فقتل رجل منهم يقال له مجاشع التغلبي، وجاء دويل فشكت أمه إليه، وكان فارساً من فرسان تغلب، فسار في قومه وجعل يذكرهم ما تصنع بهم قيس ويشكو إليهم ما أخذ من غنم أمه، فاجتمع منهم جماعة وأمروا عليهم شعيث بن مليك التغلبي وأغاروا على بني الحريش ومعهم قوم من نمير، فقتل فيهم التغلبيون واستاقوا ذوداً لامرأة منهم يقال لها أم الهيثم، فمانعهم القيسيون فلم يقدروا على منعهم، فقال الأخطل: فإن نسألون بالحريش فإننا ... منينا بنوكٍ منهم وفجور غداة تحامتنا الحريش كأنها ... كلاب بدت أنيابها لهرير وجاؤوا بجمع ناصري أم هيثم ... فما رجعوا من ذودها ببعير يوم مساكينولما استحكم الشر بين قيس وتغلب، وعلى قيس عمير، وعلى تغلب شعيث، غزا عمير بني تغلب وجماعتهم بماكسين من الخابور فاقتتلوا قتالاً شديداً، وهي أول وقعة لهم، فقتل من بني تغلب خمسمائة، وقتل شعيث، وكانت رجله قطعت، فقاتل حتى قتل وهو يقول: قد علمت قيس ونحن نعلم ... أن الفتى يقتل وهو أجذم يوم الثرثار الأولوالثرثار نهر أصل منبعه شرقي مدينة سنجار وبالقرب من قرية يقال لها سرق وفرغ في دجلة بين الكحيل ورأس الأويل من عمل الفرج. لما قتل بماكسين من ذكرنا استمدت تغلب وحشدت واجتمعت إليها النمر بن قاسط وأتاها المشجر بن الحارث الشيباني، وكان من ساداتهم بالجزيرة، وأتاها عبيد الله بن زياد بن ظبيان منجداً لهم على قيس، فلذلك حقد عليه مصعب بن الزبير حتى قتل أخاه النابئ، بن زياد، واستنجد عمير تميماً واسداً فلم ينجده منهم أحد. فالتقول على الثرثار، وقد جعلت تغلب عليها بعد شعيث زياد بن هوبر، ويقال: يزيد بن هوير التغلبي، فاقتتلوا قتالاً شديداً، فانهزمت قيس وقتلت تغلب ومن معها منهم مقتلهً عظيمةً وبقروا بطون ثلاثين امرأة من بني سليم، وقالت ليلى بنت الحارس التغلبيه، وقيل هي للأخطل: لما رأونا والصليب طالعا ... ومارس جيش وسماً ناقعا والخيل لا تحمل إلا دارعا ... والبيض في أيماننا قواطعا خلوا لنا الثرثار والزارعا ... وحنةً طيساً وكرماً يانعا يوم الثرثار الثانيثم إن قيساً تجمعت واستمدت واستعدت وعليها عمير بن الحباب، وأتاهم زفر بن الحارث من قرقيسيا، وكان رئيس بني تغلب، والنمر ومن معهما ابن هرير فالتقوا بالثرثار واقتتلوا أشد قتال اقتتله الناس، وانهزمت بنو عامر، وكانت على مجنبة قيس، وصبرت سليم وأعصرت حتى انهزمت تغلب ومن معها وقتل ابنا عبد يشوع وغيرهما من أشراف تغلب، فقال عمير بن الحباب: فداً لفوارس الثرثار نفسي ... وما جمعت من أهل ومال وولت عامر عنا فأجلت ... وحولي من ربيعة كالجبال أكاوحهم بدهمٍ من سليمٍ ... وأعصر كالمصاعيب النهال وقال زفر بن الحارث: ألا من مبلع عني عميراً ... رسالة ناصحٍ وعليه زاري أنترك حي ذي يمنٍ وكلباً ... ونجعل جدنا بك في نزار كمعتمدٍ على إحدى يديه ... فخانته بوهنٍ وانكسار يوم الفدينوأغار عمير بن الحباب على الفدين، وهي قرية على الخابور، وقتل من بها من بني تغلب، فهزمهم، فقال نفيع بن صفار المحاربي:
لو تسأل الأرض الفضاء عليكم ... شهد الفدين بهلككم والصور والصور: قرية من الفدين. يوم السكيروهو على الخابور يسمى سكير العباس. ثم اجتمعوا والتقوا بالسكير، وعلى قيس عمير بن الحباب، وعلى تغلب والنمر يزيد بن هوبر، فاقتتلوا قتالاً شديداً، فانهزمت تغلب والنمر وهرب عمير بن جندل، وهو من فرسان تغلب، فقال عمير بن الحباب: وأفلتنا يوم السكير ابن جندلٍ ... على سابحٍ عوج اللبان مثابر ونحن كررنا الخيل قدماً شواذباً ... دقاق الهوادي داميات الدوائر وقال ابن صفار: صبحناكم بهن على سكيرٍ ... ولا قيتم هناك الأقورينا يوم المعاركوالمعارك بين الحضر والعتيق من أرض الموصل، اجتمعت تغلب بهذا المكان فالتقوا هم وقيس فاقتتلوا به فاشتد قتالهم، فانهزمت تغلب، وقال ابن صفار: ولقد تركنا بالمعارك منكم ... والحضر والثرثار أجساداً جثا فيقال: إن يوم المعارك والحضر واحد، هزموهم إلى الحضر وقتلوا منهم بشراً كثيراً. وقال بعضهم: هما يومان كانا لقيس، والله أعلم. والتقوا أيضاً بلبى فوق تكريت من أرض الموصل، فتناصفوا، فقيس تقول: كان الفضل لنا، وتغلب تقول: كان الفضل لنا. يوم الشرعبيةثم التقوا بالشرعبية، وعلى قيس عمير بن الحباب، وعلى تغلب وألفافها ابن هرير، فكان بينهم قتال شديد، قتل يومئذٍ عمار بن المهزم السلمي، وكان لتغلب على قيس؛ قال الأخطل: ولقد بكى الجحاف لما أوقعت ... بالشرعبية إذ رأى الأهوالا يعني أوقعت الخيل. والشرعبية: من بلاد تغلب. والشرعبية أيضاً: ببلاد منبج؛ فبعضهم يقول: إن هذه الوقعة كانت ببلاد منبج، وذلك خطأ. يوم البليخواجتمعت تغلب وسارت إلى البليخ، وهناك عمير في قيس؛ والبليخ نهر بين حران والرقة؛ فالتقوا وانهزمت تغلب وكثر القتل فيها وبقرت بطون النساء كما فعلوا يوم الثرثار، فقال ابن صفار: زرق الرماح ووقع كل مهندٍ ... زلزلن قلبك بالبليخ فزالا يوم الحشاك ومقتل عمير بن الحباب السلمي وابن هوبر التغلبي لما رأت تغلب إلحاح عمير بن الحباب عليها جمعت حاضرتها وباديتها وساروا إلى الحشاك، وهو تل قريب من الشرعبية، وإلى جنبه براق، ودلف إليه عمير في قيس ومعه زفر بن الحارث الكلائي وابنه الهذيل بن زفر، وعلى تغلب ابن هوبر، واقتتلوا عند تل الحشاك أشد قتال وأبرحه حتى جن عليهم الليل ثم تفرقوا واقتتلوا من الغد إلى الليل ثم تحاجزوا. وأصبحت تغلب في اليوم الثالث فتعاقدوا أن لا يفروا، فلما رأى عمير حدهم وان نساءهم معهم قال لقيس: يا قوم أرى لكم أن تنصرفوا عن هؤلاء فإنهم مستقتلون، فإذا اطمأنوا وصاروا إلى سرحهم وجهنا إلى كل قوم منهم من يغير عليهم. فقال له عبد العزيز بن حاتم بن النعمان الباهلي: قتلت فرسان قيس أمس وأول أمس ثم ملئ سحرك وجبنت! ويقال: إن عيينة بن أسماء بن خارجة الفزاري قال له ذلك، وكان أتاه منجداً، فغضب عمير وقال: كأني بك وقد حمس الوغى أول فار! فنزل عمير وجعل يقاتل راجلاً وهو يقول: أنا عمير وأبو المغلس ... قد أحبس القوم بضنك فاحبس وانهزم زفر يومئذ، وهو اليوم الثالث، فلحق بقرقيسيا، وذلك أنه بلغه أن عبد الملك بن مروان قد عزم على الحركة غليه بقرقيسيا، فبادر للتأهب، وقيل: إنه ادعى ذلك حين فر اعتذاراً، وانهزمت قيس وركبت تغلب ومن معها أكتافهم وهم يقولون: أن تعلمون أن تغلب تغلب؟ وشد على عمير جميل بن قيس من بن زهير فتله، وقيل: بل تغاوى على عمير غلامان من بني تغلب فرمياه بالحجارة وقد أعيا فأثخناه، وكر عليه ابن هوبر فقتله. وأصابت ابن هوبر يومئذٍ جراحة، فلما انقضت الحرب أوصي بني تغلب بأن يولوا أمرهم مراد بن علقمة الزهيري. وقيل: خرج ابن هوبر في اليوم الثاني من أيامهم هذه الثلاثة وأوصى أن يولوا ظامرهم مراداً، ومات من ليلته، وكان مراد رئيسهم في اليوم الثالث، فعباهم على راياتهم وأمر كل بني أب أن يجعلوا نساءهم خلفهم، فلما أبصرهم عمير قال ما تقدم ذكره؛ قال الشاعر: أرقت بأثناء الفرات وشفني ... نوائح أبكاها قتيل ابن هوبر
ولم تظلمي أن نحت أم مغلسٍ ... قتيل النصارى في نوائح حسر وقال بعض الشعراء ينكر قتل ابن هوبر عميراً: وإن عميراً يوم لاقته تغلب ... قتيل جميل لا قتيل ابن هوبر وكثر القتل يومئذٍ في ني سليم وغني خاصة، وقتل من قيس أيضاً يومئذٍ بشر كثير، وبعثت بنو تغلب رأس عمير بن الحباب إلى عبد الملك بن مروان بدمشق، فأعطى الوفد وكساهم. فلما صالح عبد الملك زفر بن الحارث واجتمع الناس عليه قال الأخطل: بني أمية قد تناضلت دونكم ... أبناء قومٍ هم آووا وهم نصروا وقيس عيلان حتى أقبلوا رقصاً ... فبايعوا لك قسراً بعدما قهروا ضجوا من الحرب إذ عضت غواربهم ... وقيس عيلان من أخلاقها الضجر في أبيات كثيرة. فلما قتل عمير بن الحباب وقف رجل على أسماء بن خارجة الفزاري بالكوفة فقال: قتلت بنو تغلب عمير بن الحباب. فقال: لا بأس، إنما قتل الرجل في ديار القوم مقيلاً غير مدبر؛ ثم قال: يدي رهن على سليمٍ بغارةٍ ... تشيب لها أصداغ بكر بن وائل وتترك أولاد الفدوكس عالةً ... يتامى أيامى نهزة للقبائل يوم الكحيلوهو من أرض الموصل في جانب دجلة الغربي. وسببه أنه لما قتل عمير بن الحباب السلمي أتى تميم بن عمير زفر بن الحارث فسأله أن يطلب له بثأره، فامتنع، فقال الهذيل بن زفر لأبيه: والله لئن ظفرت بهم تغلب إن ذلك لعار عليك، ولئن ظفروا بتغلب وقد خذلتهم إن ذلك لأشد. فاستخلف زفر على قرقيسيا أخاه أوس ين الحارث وعزم على أن يغير على بني تغلب وغزوهم، فوجه خيلاً إلى بني فدوكس بطن من تغلب فقتل رجالهم واستبيحت أموالهم ونساؤهم حتى لم يبق غير إمرأة واحدة استجارت فأجارها يزيد من حمران. ووجه زفر بن الحارث ابنه الهذيل في جيش إلى بني كعب بن زهير، فقتل فيهم قتلاً ذريعاً، وبعث زفر أيضاً مسلم بن ربيعة العقيلي إلى قوم تغلب مجتمعين فأكثر فيهم القتل. ثم قصد زفر لبني تغلب وقد اجتمعوا بالعقيق من أرض الموصل، فلما أحست به ارتحلت تريد عبور دجلة، فلما صارت بالكحيل لحقهم زفر في القيسية، فاقتتلوا قتالاً شديداً، وترجل أصدار زفر أجمعون وفي زفر على بغل له فقتلوهم ليلتهم وبقروا بطون نساء منهم وغرق في دجلة أكثر ممن قتل بالسيف، فأتى فلهم لبى، فوجه زفر ابنه الهذيل فأوقع بهم إلا من عبر فنجا، وأسر زفر منهم مائتين فتقلهم صبراً، فقال زفر: ألا ياعين بكي بانكساب ... وبكي عاصماً وابن الحباب فإن تك تغلب قتلت عميراً ... ورهطاً من غني في الحراب فقد أفنى بني جسم بن بكر ... ونمرهم فوارس من كلاب قتلنا منهم مائتين صبراً ... وما عدلوا عمير بن الحباب وقال ابن صفار المحاربي: أم ترح حبربنا تركت حبيباً ... محالفها المذلة والصغار وقد كانوا أولي عزٍ فأضحوا ... وليس لهم من الذل انتصار وأسر القطامي التغلبي في يوم من أيامهم وأخذ ماله، فقام زفر بأمره حتى رد عليه ماله ووصله، فقال فيه: إني وإن كان قومي ليس بينهم ... وبين قومك إلا ضربة الهادي مثن عليك بما أوليت من حسنٍ ... وقد تعرض لي من مقتلٍ بادي حبيح الذي في الشعر هو بضم الحاء المهملة، وفتح الباء الموحدة، وهو في نسب بني تغلب. يوم البشرلما استقر الأمر لعبد الملك واجتمع المسلمون عليه قدم عليه الأخطل الشاعر التغلبي وعنده الجحاف بن حكيم السلمي، فقال له عبد الملك: أتعرف هذا يا أخطل؟ قال: نعم، هذا الذي أقول فيه: ألا سائل الجحاف هل هو ثائر ... بقتلى أصيبت من سليمٍ وعامر وأنشد القصيدة حتى فرغ منها، وكان الجحاف بأكل رطباً، فجعل النوى يتساقط من يده غيظاً، وأجابه وقال: بلى سوف نبكيهم بكل مهندٍ ... وننعى عميراً بالرماح الشواجر
ثم قال: يا ابن النصرانية ما كنت أظن أن تجترئ علي بمثل هذا! فأرعد الأخطل من خوفه ثم قام إلى عبد الملك وأمسك ذيله وقال: هذا مقام العائذ بك. فقال: أنا لك مجير. ثم قام الجحاف ومشى وهو يجر ثوبه ولا يعقل به، فتلطف لبعض كتاب الديوان حتى اختلق له عهداً على صدقات تغلب وبكر بالجزيرة، وقال لأصحابه: إن أمير المؤمنين قد ولأني هذه الصدقات، فمن أراد اللحاق بي فليفعل. ثم سار حتى أتى رصافة هشامٍ فأعلم أصحابه ما كان من الأخطل إليه وأنه افتعل كتاباً، وأنه ليس بوالٍ، فمن كان احب أن يغسل عني العار وعن نفسي فليصحبني فإني قد أقسمت أن لا أغسل رأسي حتى أوقع في بني تغلب. فرجعوا عنه غير ثلاثمائة قالوا له: نموت بموتك ونحيا بحياتك. فسار ليلته حتى صبح الرحوب، وهو ماء لبني جشم بن بكر من تغلب، فصادف عليه جماعةً منهم، فقتل فيهم مقتلةً عظيمةً وأسر الأخطل وعليه عباءة وسخة، فظنه الذي أسره عبداً، فسأله من هو، فقال: عبد . فأطلقه، فرمى بنفسه في جب، فخاف أن يراه من يعرفه فيقتله. فلما انصرف الجحاف خرج من الجب، وأسرف الجحاف في القتل وبقر البطون عن الأجنة وفعل أمراً عظيماً، فلما عاد عنهم قدم الأخطل على عبد الملك فأنشده قوله: لقد أوقع الجحاف بالبشر وقعةً ... إلى الله منها المشتكى والمعول فهرب الجحاف، فطلبه عبد الملك، فلحق ببلاد الروم، وقال بعد وقعة البشر يخاطب الأخطل: أبا مالكٍ هل لمتني أو حضضتني ... على القتل أم هل لامني كل لائم ألم أفنكم قتلاً وأجدع أنفكم ... بفتيان قيسٍ والسيوف الصوارم بكل فتى ينعى عميراً بسيفه ... إذا اعتصمت أيمانهم بالقوائم فإن تطردوني تطردوني وقد جرى ... بي الور يوماً في دماء الأراقم نكحت بسيفي في زهيرٍ ومالكٍ ... نكاح اغتصابٍ لا نكاح دراهم في أبيات ولم يزل الجحاف يتردد في بلاد الروم من طرابزندة إلى قاليقلا، وبعث إلى بطانة عبد الملك من قيس حتى أخذوا له الأمان فآمنه عبد الملك، فقدم عليه، فألزمه ديات من قتل وأخذ منه الكفلاء وسعى فيها، فأتى الحجاج من الشام فطلب منه، فقال له: متى عهدتني خائناً؟ فقال له: ولكنك سد قومك ولك عمالة واسعة. فقال: لقد ألهمت الصدق، فأعطاه مائة ألف درهم وجمع الديات فأوصلها. ثم تنسك بعد وصلح ومضى حاجاً فتعلق بأستار الكعبة وجعل ينادي: اللهم اغفر لي وما أظن تفعل. فسمعه محمد بن الحنفية فقال: يا شيخ قنوطك شر من ذنبك. وقيل: إن سبب عوده كان أن الجحاف أكرمه ملك الروم وقربه وعرض عليه النصرانية ويعطيه ما شاء، فقال: ما أتيتك رغبةً عن الإسلام. ولقي الروم تلك السنة عساكر المسلمين صائفةً، فانهزم المسلمون، وأخبروا عبد الملك أنهم هزمهم الجحاف، فأرسل إليه عبد الملك يؤمنه، فسار وقصد البشر وبه حي من بشر وقد لبس أكفانه وقال: قد جئت إليكم أعطي القود من نفسي. وأرد شبابهم قتله فنهاهم شيوخهم، فعفوا عنه وحج، فسمعه عبد الله بن عمر وهو يطوف ويقول: اللهم اغفر لي وما أظنك تفعل. فقال ابن عمر: لو كنت الجحاف مازدت على هذا. قال: فأنا الجحاف. ثم دخلت سنة إحدى وسبعين ذكر مقتل مصعب وملك عبد الملك العراق في هذه السنة قتل مصعب بن الزبير في جمادى الآخرة، واستولى عبد الملك بن مروان على العراق. وسبب ذلك أن عبد الملك بن مروان لما قتل عمرو بن سعيد بن العاص، كما تقدم ذكره، وضع السيف فقتل من خالفه، فصفا له الشام. فلما لم يبق له مخالف فيه أجمع المسير إلى مصعب بن الزبير بالعراق، فاستشار أصحابه في ذلك، فأشار يحيى بن الحكم بن أبي العاص عمه بأن يقنع بالشام ويترك ابن الزبير والعراق، وكان يقول عبد الملك: من أراد صواب الرأي فليخالف يحيى. وقال بعضهم: إن العام جدب وقد غزوت سنتين فلم تظفر فأقم عامك هذا.
فقال عبد الملك: الشام بلد قليل المال ولا آمن نفاده، وقد كتب كثير من أشراف العراق يدعونني إليهم. وقال بعضهم: الرأي أن تقيم وتبعث بعض أهلك ونمده بالجنود. فقال عبد الملك: إنه لا يقوم بهذا الأمر إلا قرشي له رأي، ولعلي أبعث من له شجاعة ولا رأي له، وإني يصير بالحرب شجاع بالسيف إن احتجت إليه، ومصعب شجاع من بيت شجاعة ولكنه لا علم له بالحرب يحب الخفض ومعه من يخالفه ومعي من ينصح لي. فلما عزم على المسير ودع زوجته عاتكة بنت يزيد بن معاوية، فبكت وبكى جواريها لبكائها، فقال: قاتل الله كثير عزة! لكأنه يشاهدنا حين يقول: إذا ما أراد الغزو لم يثن همه ... حصان عليها عقد درٍ يزينها نهته فلما لم تر النهي عاقه ... بكت وبكى مما عناها قطينها وسار عبد الملك إلى العراق، فلما بلغ مصعباً مسيره وهو بالبصرة أرسل إلى المهلب، وهو يقاتل الخوارج، يستشيره، وقيل: بل أحضره عنده، فقال لمصعب: اعلم أن أهل العراق قد كاتبوا عبد الملك وكاتبهم فلا تبعدني عنك. فقال له مصعب: إن أهل البصرة قد أبوا أن يسيروا حتى أجعلك على قتال الخوارج، وهم قد بلغوا سوق الأهواز، وأنا أكره وأنا أكره إذ سار عبد الملك إلي أن لا أسير إليه، فاكفني هذا الثغر. فعاد إليهم وسار مصعب إليا الكوفة ومعه الأحنف، فتوفي بالكوفة، وأحضر مصعب إبراهيم بن الأشتر، وكان على الموصل والجزيرة، فلما حضر عنده جعله على مقدمته وسار حتى نزل باجميرى، وهي قريب من أوانا، وهي من مسكن، فعسكر هناك. وسار عبد الملك وعلى مقدمته أخوه محمد بن مروان وخالد بن عبد الله بن خالد بن أسيد فنزلوا بقرقيسيا وحصروا زفر بن الحارث الكلائي، ثم صالحهم، على ما نذكره إن شاء الله تعالى. وسير زفر ابنه الهذيل مع عبد الملك، وكان معه، ثم لحق بمصعب بن الزبير. فلما اصطلحا سار عبد الملك ومن معه فنزلوا بمسكن قريباً من عسكر مصعب، بين العسكرين ثلاثة فراسخ، ويقال: فرسخان، وكتب عبد الملك إلى أهل العراق من كاتبه ومن لم يكاتبه، وبذل لجميعهم أصبهان طعمةً، وقيل: إن كل من كاتبه طلب منه إمرة أصبهان، فقال: أي شيء هذه أصبهان حتى كلهم يطلبها! فكل منهم أخفى كتابه، إلا إبراهيم بن الأشتر فإنه أحضر كتابه عند مصعب مختوماً، فقرأه مصعب فإذا هو يدعوه إلى نفسه ويجعل له ولاية العراق، فقال له مصعب: أتدري ما فيه؟ قال: لا . قال: يعرض عليك كذا وكذا، وإن هذا لما يرغب فيه. فقال إبراهيم: ما كنت لأتقلد الغدر والخيانة، ووالله ما عند عبد الملك من أحد من الناس بأيأس منه مني، ولقد كتب إلى أصحابك كلهم مثل الذي كتب إلي فأطعني واشرب أعناقهم. قال: إذاً لا يناصحني عشائرهم. قال: فأوقرهم حديداً وابعث بهم إلى أبيض كسرى واحبسهم هناك ووكل بهم من إن غلبت وتفرقت عشائرهم عنك ضرب رقابهم، وإن ظهرت مننت على عشائرهم بإطلاقهم. فقال: إني لفي شغل عن ذلك، فرحم الله أبا بحر، يعني الأحنف بن قيس، إن كان ليحذرني غدر أهل العراق ويقول هم كالمومسة تريد كل يوم بعلاً، وهم يريدون كل يوم أميراً. فلما رأى قيس بن الهيثم ما عزم أهل العراق عليه من الغدر لمصعب قال لهم: ويحكم! لا تدخلوا أهل الشام عليكم! فو الله لئن يطعموا بعيشكم ليضيقن عليكم منازلكم، والله لقد رأيت سيد أهل الشام على باب الخليفة يفرح إن أرسله في حاجة، ولقد رأيتنا في الصوائف وإن زاد أحدنا على عدة أجمال وإن الرجل من وجوههم ليغزو على فرسه وزاده خلفه. فلم يسمعوا منه، فلما تدانى العسكران أرسل عبد الملك إلى مصعب رجلاً من كلب وقال له: أقرئ ابن أختك السلام؛ وكانت أم مصعب كلبية؛ وقل له يدع دعاءه إلى أخيه وأدع دعائي إلى نفسي ويجعل الأمر شورى. فقال له مصعب: قل له السيف بيننا.
فقدم عبد الملك أخاه محمداً وقدم مصعب إبراهيم بن الأشتر، فالتقيا فتناوش الفريقان فقتل صاحب لواء محمد، وجعل مصعب يمد إبراهيم، فأزال محمداً عن موقفه، فوجه عبد الملك عبد الله بن يزيد إلى أخيه محمد، فاشتد القتال، فقتل مسلم بن عمرو الباهلي والد قتيبة، وهو من أصحاب مصعب، وأمد مصعب إبراهيم بعتاب بن ورقاء، فساء ذلك إبراهيم وقال: قد قلت له لا تمدني بعتاب وضربائه، وإنا لله وإنا إليه راجعون! فانهزم عتاب بالناس، وكان قد كاتب عبد الملك وبايعه، فلما انهزم صبر ابن الأشتر فقتل، قتله عبيد ابن ميسرة مولى بني عذرة وحمل رأسه إلى عبد الملك. وتقدم أهل الشام فقاتلهم مصعب وقال لقطن بن عبد الله الحارثي: قدم خليلك أبا عثمان. فقال: أكره أن تقتل مذحج في غير شيء. فقال لحجار ابن أبجر: يا أبا أسيد قدم خيلك. قال: إلى هؤلاء الأنتان! قال: ما تتأخر إليه أنتن! فقال لمحمد بن عبد الرحمن بن سعيد مثل ذلك، فقال: ما فعل أحد هذا فأفعله. فقال له: أخبرني عن الحسين بن علي كيف صنع بامتناعه عن النزول على حكم ابن زياد وعزمه على الحرب، فاخبره، فقال: إت الألى بالطف من آل هاشمٍ ... تأسوا فسنوا للكرام التأسيسا قال عروة: فعلمت أنه لا يبرح حتى يقتل. ثم دنا محمد بن مروان من مصعب وناداه: أنا ابن عمك محمد بن مروان فاقبل أمان أمير المؤمنين. فقال: أمير المؤمنين بمكة، يعني أخاه عبد الله بن الزبير. قال: فإن القوم خاذلوك. فأبى ما عرض عليه. فنادى محمد عيسى بن مصعب بن الزبير له، فقال له مصعب: انظر ما يريد منك. فدنا منه، فقال له: إني لك ولأبيك ناصح ولكما الأمان. فرجع إلى أبيه فأخبره، فقال: إني أظن القوم يفون لك، فإن أحببت أن تأتيهم فافعل. فقال: لا تتحدث نساء قريش أني خذلتك ورغبت بنفسي عنك. قال: فاذهب أنت ومن معك إلى عمك بمكة فأخبره بما صنع أهل العراق ودعني فإني مقتول. فقال: لا أخبر عنك قريشاً أبداً، ولكن يا أبه الحق بالبصرة فإنهم على الطاعة أو الحق بأمير المؤمنين. فقال مصعب: لا تتحدث قريش أني فررت. وقال لابنه عيسى: تقدم إذن أحتسبك، فتقدم ومعه ناس فقتل وقتلوا؛ وجاء رجل من أهل الشام ليحتز رأس عيسى، فحمل عليه مصعب فقتله وشد على الناس فانفرجوا له، وعاد ثم حمل ثانية فانفرجوا له، وبذل له عبد الملك الأمان وقال: إنه يعز علي أن تقتل فاقبل أماني ولك حكمك في المال والعمل. فأبى وجعل يضارب. فقال عبد الملك: هذا والله كما قال القائل. ومدجج كره الكماة نزاله ... لا ممعناً هرباً ولا مستسلما ودخل مصعب رادقة فتحنط ورمى السرادق وخرج فقاتل، فأتاه عبيد الله بن زياد بن ظبيام فدعاه إلى المبارزة، فقال له: يا كلب اعزب! مثلي يبارز مثلك! وحمل عليه مصعب فضربه على البيضة فهشمها وجرحه، فرجع وعصب رأسه، وترك الناس مصعباً وخذلوه حتى بقى في سبعة أنفس، وأثخن مصعب بالرمي وكثرت الجارحات فيه، فعاد إلى عبيد الله بن زياد بن ظبيان، فضربه مصعب فلم يصنع شيئاً لضعفه بكثرة الجراحات، وضربه ابن ظبيان فقتله. وقيل: بل نظر إليه زائدة بن قدامة الثقفي فحمل عليه فطعنه وقال: يا لثارات المختار! فصرعه، وأخذ عبيد الله بن زياد رأسه وحمله إلى عبد الملك فألقاه بين يديه وأنشد: نعاطي الملوك الحق ما قسطوا لنا ... وليس علينا قتلهم بمحرم فلما رأى عبد الملك الرأس سجد. قال ابن ظبيان: قد هممت أن أقتل عبد الملك وهو ساجد فأكون قد قتلت ملكي العرب وأرحت الناس منهما. وقال عبد الملك: لقد هممت أن لأقتل ابن ظبيان فأكون قد قتلت أفتك الناس بأشجع الناس. وأمر عبد الملك لابن ظبيان بألف دينار، فقال: لم أقتله على طاعتك وإنما قتلته على قتل أخي النابئ بن زياد؛ ولم يأخذ منها شيئاً وكان قتل مصعب بدير الجاثليق عند نهر دجيل، فأمر عبد الملك به وبابنه عيسى فدفنا وقال: كانت الحرمة بيننا قديمة ولكن اللك عقيم.
وكان سبب قتل النابئ أنه قطع الطريق هو ورجل من بني نمير، فأحضرا عند مطرف بن سيدان الباهلي صاحب شرطة مصعب فقتل النابئ وضرب النميري وأطلقه، فجمع عبيد الله جمعاً وقصد مطرفاً بعد أن عزله مصعب عن شرطته وولاه الأهواز، وسار عبيد الله إلى المطرف فقتله، فبعث مصعب مكرم بن مطرف في طلب عبيد الله، فسار حتى بلغ عسكر مكرم، فنسب إليه، ولم يلق عبيد الله، كان قد لحق بعبيد الملك. وقيل في قتله غير ذلك. فلما أتي عبد الملك برأس مصعب نظر إليه وقال: متى تغذو قرشية مثلك! وكانا يتحدثان إلى حبى وهما بالمدينة، فقيل لها: قتل مصعب. فقالت: نعس قاتله! فقيل: قتله عبد الملك بن مروان. فقالت: و بأبي القاتل والمقتول! ثم دعا عبد الملك بن مروان بن مروان جند العراق إلى بيعته فبايعوه، وسار حتى دخل الكوفة فأقام بالنخيلة أربعين يوماً، وخطب الناس بالكوفة فوعد المحسن وتوعد المسيء، فقال: إن الجامعة التي وضعت في عنق عمرو بن سعيد عندي، ووالله أضعها في عنق رجل فأنزعها إلا صعداً لا أفكها عنه فكاً، فلا يبقين امرؤ إلا على نفسه ولا يولغن دمه، والسلام. ودعا الناس إلى البيعة فبايعوه، فحضرت قضاعة، فقال لهم: كيف سلمتم وأنتم قليل مع مضر؟ فقال عبد الله بن يعلى النهدي: نحن أعز منهم وأمنع بك وبمن معك منا. ثم جاءت مذحج فقال: ما أرى لأحد مع هؤلاء بالكوفة شيئاً. ثم جاءت جعفى فقال: إيتوني بابن أختكم، يعني يحيى بن سعيد، وكانت أمه مذحجية، فقالوا: هو آمن؟ فقال: وتشترطون أيضاً! فقال رجل منهم: إنا ما نشترط جهلاً بحقك ولكنا نتسحب عليك تسحب الولد على الوالد. فقال: نعم أنتم الحي! إن كنتم لفرساناً في الجاهلية والإسلام. ليحضر فهو آمن. فأتوه به فبايعه. ثم أتته عدوان فقدموا بين أيديهم رجلاً جميلاً وسيماً، فقال عبد الملك: عذير الحي من عدوا ... ن كانوا حية الأرض بغى بعضهم بعضاً ... فلم يرعوا على بعض ومنهم كانت السادا ... ت والموفون بالقرض ثم أقبل على ذلك الرجل الجميل فقال: إيه! فقال: لا أدري. فقال معبد بن خالد الجدلي، وكان خلفه: ومنهم حكم يقضي ... فلا ينقض ما يقضي ومنهم من يجيز الحج ... بالسنة والفرض وهم مذ ولدوا شبوا ... بسر النسب المحض فأقبل عبد الملك على ذلك الجميل فقال: من هو؟ فقال: لا أدري. فقال معبد من ورائه: هو ذو الإصبع، فأقبل على الجميل فقال: لم تسمى ذا الإصبع؟ فقال: لا أدري. فقال معبد: لأن حية نهشت إصبعه فقطعتها. فأقبل على الجميل فقال: ما كان اسمه؟ قال: لا أدري. فقال معبد: حرثان بن الحارث. فقال للجميل: من أيكم هو؟ قال: لا أدري. فقال معبد: من بني ناج. ثم قال للجميل: كم عطاؤك؟ قال: سبعمائة. قال لمعبد: كم عطاؤك؟ قال: ثلاثمائة. فقال لكتابه: اجعل معبداً في سبعمائة وانقص من عطاء هذا أربعمائة، ففعل. ثم جاءت كندة فنظر إلى عبد الله بن إسحاق بن الأشعث فأوصى به أخاه بشر بن مروان. وأقبل داود بن قحذم في جمع كثير من بكر بن وائل عليهم الأقبية الداودية، وبه سميت، فجلس مع عبد الملك على سريره، فأقبل عليه عبد الملك ثم نهض ونهضوا معه، فقال عبد الملك: هؤلاء الفساق لولا أن صاحبهم جاءني ما أعطاني أحد منهم طاعة. ثم ولى قطن بن عبد الله الحارثي الكوفة، ثم عزله فاستعمل أخاه بشر بن مروان، ثم استعمل محمد بن عمير الهمداني على همذان، ويزيد بن رويم على الري، ولم يف لأحد شرط له أصبهان، وقال: علي بهؤلاء الفساق الذين أنغلوا الشام وأفسدوا العراق. فقيل: قد أجارهم رؤساء عشائرهم. فقال: وهل يجير علي أحد؟ وكان عبد الله بن يزيد بن أسد والد خالد القسري قد لجأ إلى علي بن عبد الله بن عباس، ولجأ إليه أيضاً يحيى بن معيوف الهمداني، ولجأ الهذيل بن زفر بن الحارث، وكان مع عبد الملك، على ما نذكره، وعمرو بن يزيد الحكمي إلى خالد بن يزيد، فآمنهم عبد الملك فظهروا. فصنع عمرو بن حريث لعبد الملك طعاماً كثيراً وأمر به إلى الخورنق وأذن إذناً عاماً، فدخل الناس وأخذوا مجالسهم، فدخل عمرو بن حريث، فأجلسه معه على سريره، ثم جاءت الموائد فأكلوا، فقال عبد الملك: ما ألذ عيشنا لودام، ولكنا كما قال الأول:
وكل جديدٍ يا أميم إلى بلىً ... وكل امرئٍ يصير يوماً إلى كان فلما فرغوا من الطعام طاف عبد الملك في القصر وعمرو بن حريث معه وهو يسأله: لمن هذا البيت؟ ومن بنى هذا البيت؟ وعمرو يخبره، فقال عبد الملك: اعمل على مهلٍ فإنك ميت ... واكدح لنفسك أيها الإنسان فكان ما قد كان لم يك إذ مضى ... وكأن ما هو كائن قد كان ولما بلغ عبد الله بن خازم مسير مصعب لقتال عبد الملك قال: أمعه عمر بن عبيد الله بن معمر؟ قيل: لا، استعمله على فارس. قال: أمعه المهلب؟ قيل: لا، استعمله على الخوارج. قال: أمعه عباد بن الحصين؟ قيل: استخلفه على البصرة. قال: وأنا بخراسان. خذيني فجريني جعار وأبشري ... بلحم امرئٍ لم يشهد اليوم ناصره ولما قتل مصعب بعث عبد الملك رأسه إلى الكوفة، أو حمله معه إليها، ثم بعث به إلى أخيه عبد العزيز بن مروان بمصر، فلما رآه وقد قطع السيف أنفه قال: رحمك الله! أما والله لقد كنت من أحسنهم خلقاً وأشدهم بأساً وأسخاهم نفساً. ثم سيره إلى الشام فنصب بدمشق، وأرادوا أن يطوفوا به في نواحي الشام، فأخذته عاتكة بنت يزيد بن معاوية زوجة عبد الملك بن مروان، وهي أم يزيد بن عبد الملك، فغسلته ودفنته وقالت: أما رضييتم بما صنعتم حتى تطرفوا به في المدن؟ هذا بغي. وكان عمر مصعب حين قتل ستاً وثلاثين سنة. قال يوماً عبد الملك لجلسائه: من أشد الناس؟ قالوا: أمير المؤمنين. قال: اسلكوا غير هذا الطريق. قالوا: عمير بن الحباب. قال: قبح الله عميراً! لص، ثوب ينازع عليه أعز عنده من نفسه ودينه. قالوا: فشبيب. قال: إن للحرورية لطريقاً. قالوا: فمن؟ قال: مصعب كان عنده عقيلتا قريش سكينة بنت الحسين وعائشة بنت طلحة، ثم هو أكثر الناس مالاً، جعلت له الأمان وولاية العراق وعلم أني سأفي له للمودة التي كانت بيننا فحمى أنفاً وأبى وقاتل حتى قتل. فقال رجل: كان مصعب يشرب النبيذ. قال: كان ذلك قبل أن يطلب المروءة، فأما مذ طلبها ذو علم أن الماء ينقص مروءته ما ذاقه. قال الأقشر الأسدي: حمى أنفه أن يقبل الضيم مصعب ... فمات كريماً لم تذم خلائقه ولو شاء أعطى الضيم من رام هضمه ... فعاش ملوماً في الرجال طرائقه ولكن مضى والبرق يبرق خاله ... يشاوره مراً ومراً يعانقه فولى كريماً لم تنله مذمة ... ولم يك رغداً تطيبه نمارقه وقال عرفجة بن شريك: ما لابن مروان أعمى الله ناظره ... ولا أصاب رغيباتٍ ولا نفلا يرجو الفلاح ابن مروان وقد قتلت ... خيل ابن مروان حراً ماداً بطلا يا ابن الحواري كم من نعمةٍ لكم ... لورام غيركم أمثالها شغلا حملتم فحملتم كل معضلةٍ ... إن الكريم إذا حملته حملا وقال عبد الله بن الزبير الأسدي في إبراهيم بن الأشتر، هذا الزبير بفتح الزاي وكسر الباء: سأبكي وإن لم تبك فتيان مذحجٍ ... فتاها إذا الليل التمام تأوبا فتى لم يكن في مرة الحرب جاهلاً ... ولا بمطيعٍ في الوغى من تهيبا أبان أنوف الحي قحطان قتله ... وأنف نزارٍ قد أبان فأوعبا فمن يك أمسى خائناً لأميره ... فما خان إبراهيم في الموت مصعبا
وحين قتل مصعب كان المهلب يحارب الأزارقة بسولاف، بلد بفارس على شاطئ البحر، ثمانية أشهر، فبلغ قتله الأزارقة قبل المهلب، فصاحوا بأصحاب المهلب: ما قولكم في مصعب؟ قالوا: أمير هدى، وهو ولينا في الدنيا والآخرة، ونحن أولياؤه. قالوا: فما قولكم في عبد الملك؟ قالوا: ذاك ابن اللعين، نحن نبرأ إلى الله منه وهو أحل دماً منكم. قالوا: فإن عبد الملك قتل مصعباً وستجعلون غداً عبد الملك إمامكم. فلما كان الغد سمع المهلب وأصحابه قتل مصعب فبايع المهلب الناس لعبد الملك بن مروان، فصاح بهم الخوارج: يا أعداء الله! ما تقولون في مصعب؟ قالوا: يا أعداء الله لا نخبركم. وكرهوا أن يكذبوا أنفسهم. قالوا: وما قولكم في عبد الملك؟ قالوا: خليفتنا. ولم يجدوا بداً إذ بايعوه أن يقولوا ذلك. قالوا: يا أعداء الله! أنتم بالأمس تبرأون منه في الدنيا والآخرة وهو اليوم إمامكم وقد قتل أميركم الذي كنتم تولونه! فأيهما المهتدي وأيهما المبطل؟ قالوا: يا أعداء الله رضينا بذلك إذ كان يتولى أمرنا ونرتضي بهذا. قالوا: لا والله ولكنكم إخوان الشياطين وعبيد الدنيا. وأما عبد الله بن الزبير فلما انتهى إليه قتل أخيه مصعب قام في الناس فخطبهم فقال: الحمد الله الذي له الخلق والأمر، يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء ويعز من يشاء ويذل من يشاء، ألا وإنه لم يذلل الله من كان الحق معه وإن كان فرداً، ولم يعزز من كان وليه الشيطان وإن كان الناس معه طراً، ألا وإنه قد أتانا من العراق خبر أحزننا وأفرحنا، أتانا قتل مصعب، رحمه الله، وأما الذي أفرحنا فعلمنا أن قتله شهادة، وأما الذي أحزننا فإن لفراق الحميم لوعة يجدها حممه عن المصيبة يرعوي بعدها ذوو الرأي الجميل إلى الصبر وكريم العزاء، وما مصعب إلا عبد من عبيد الله وعون من أعواني، ألا وإن أهل العراق أهل الغدر والنفاق أسلموه وباعوه بأقل الثمن، فإن يقتل فمه! والله ما نوت على مضاجعنا كما يموت بنو أبي العاص! والله ما قتل رجل منهم في زحف في الجاهلية ولا في الإسلام، ولا نموت إلا قعصاً بالرماح وتحت ظلال السيوف، ألا إنما الدنيا عارية من الملك العلي الذي لا يزول سلطانه ولا يبيد ملكه، فإن تقبل لا آخذها أخذ البطر، وإن تدبر لم أبك عليها بكاء الضرع المهين، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. حجار بن أبجر بفتح الحاء المهملة، وتشديد الجيم، وكنيته أبو أسيد بضم الهمزة، وفتح السين. وحبى بضم الحاء المهملة، وبالباء الموحدة المشددة الممالة، وآخره ياء مثناة من تحتها، وعبد الله بن خازم بالخاء المعجمة والزاي. ذكر ولاية خالد بن عبد الله البصرةوفي هذه السنة تنازع ولاية البصرة حمران بن أبان وعبيد الله بن أبي بكرة، فقال ابن أبي بكرة: أنا أعظم منك، كنت أنفق على أصحاب خالد يوم الجفرة. فقيل لحمران: إنك لا تقوى على ابن أبي بكرة فاستعن بعبد الله بن الأهيم. فاستعان به، فغلب على البصرة وعبد الله على شرطها، وكان لحمران منزلة عند بني أمية، وكان هذه المنازعة بعد قتل مصعب. فلما استولى عبد الملك على العراق بعد قتله استعمل على البصرة خالد بن عبد الله بن خالد بن أسيد، فوجه خالد عبيد الله بن أبي بكرة إليها خليفةً له، فلما قدم على حمران قال: أقد جئت لا جئت! فكان عبيد الله عليها حتى قدم خالد، ولما فرغ عبد الملك من أمر العراق عاد إلى الشام. ذكر أمر عبد الملك وزفر بن الحارثقد ذكرنا في وقعة مرج راهط مسير زفر إلى قرقيسيا واجتماع قيس عليه والسبب في استلائه عليها وما كان منه بعد ذلك، وكان على بيعة ابن الزبير وفي طاعته. فلما مات مروان بن الحكم وولي ابنه عبد الملك كتب إلى أبان بن عقبة بن أبي معيط وهو على حمص يأمره أن يسير إلى زفر، فسار إليه وعلى مقدمته عبد الله بن زميت الطائي، فواقع عبد الله زفر قبل وصول أبان وكثر في أصحابه بن زفر، وأدركت طيء ثقل زفر ونساءه، فاستوهب محمد بن حصين بن نمير النساء وألحقهن بزفر بقرقيسيا، فقال زفر: علقن بحبلٍ من حصينٍ لوا أنه ... تغيب حالت دونهن المصائر أبوكم أبونا في القديم وإنني ... لغابركم في آخر الدهر شاكر وكان يقال لزفر إنه من كندة. | |
|
| |
الشيخ عودة الشيخ عودة
عدد المساهمات : 1748 تاريخ التسجيل : 28/09/2008 العمر : 74
| موضوع: رد: كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير الثلاثاء فبراير 11, 2014 3:35 am | |
| ثم إن عبد الملك لما أراد المسير إلى مصعب سار إلى قرقيسيا فحصر زفر فيها ونصب عليها المجانيق، فأمر زفر أن ينادي في عسكر عبد الملك: لم نصبتم علينا المجانيق؟ قال: لنثلم ثلمةً نقاتلكم عليها. فقال زفر: قولوا لهم فإنا لا نقاتلكم من وراء الحيطان ولكنا نخرج إليكم. وثلمت المنجنيق من المدينة برجاً مما يلي حريث بن بحدل، فقال زفر: لقد تركتني منجنيق ابن بحدلٍ ... أحيد هن العصفور حين يطير وكان خالد بن يزيد بن معاوية مجداً في قتلاهم، فقال رجل من أصحاب زفر من بني كلاب: لأقولن لخالد كلاماً لا يعود إلى ما يصنع. فلما كان الغد خرج خالد للمحاربة، فقال له الكلابي: ماذا ابتغاء خالدٍ وهمه ... إذ سلب الملك ونيكت أمه فاستحيا وعاد ولم يرجع يقاتلهم. وقالت كلب لعبد الملك: إنا إذا لقينا زفر انهزمت القيسية الذين معك فلا تخلطهم معنا. ففعل، فكتبت القيسية على نبلها: إنه ليس يقاتلكم غداً مضري، ورموا النبل إلى قرقيسيا، فلما أصبح زفر دعا ابنه الهذيل، وبه كان يكنى، وقيل: كان يكنى أبا الكوثر، فقال: اخرج إليهم فشد عليهم شدةً لا ترجع حتى تضرب فسطاط عبد الملك، والله لئن رجعت دون أن تطأ أطناب فسطاطه لأقتلنك. فجمع الهذيل خيله وحمل عليهم، فصبروا قليلاً ثم انكشفوا، وتبعهم الهذيل بخيله حتى وطئوا أطناب الفسطاط وقطعوا بعضها، ثم رجعوا، فقبل زفر رأس الهذيل وقال: لا يزال عبد الملك يحبك بعدها أبداً. فقال الهذيل: والله لو شئت أن أدخل الفسطاط لفعلت. فقال زفر: ألا لا أبالي من أتاه حمامه ... إذ ما المنايا عن هذيلٍ تجلت تراه أمام الخيل أول فارسٍ ... ويضرب في أعجازها إن تولت ولما ثم برج قرقيسيا قال لعبد الملك بعض أهله: لو قاتلتهم بقضاعة لملكتهم. ففعل وقاتلهم، فلما كان عند المساء انكشفت قضاعة وكثر القتل فيهم، وأقبل روح بن زنباع الجذامي إلى برج منها فسأل أهله وقال: نشدتكم الله كم قتلنا منكم؟ قالوا: والله لم يقتل منا أحد ولم يجرح إلا رجل واحد ولا بأس عليه، ثم قالوا: نشدناك الله كم قتل منكم؟ قال: عدة فرسان وجرحتم ما لايحصى، فلعن الله ابن بحدل! ورجع روح إلى عبد الملك وقال: إن ابن بحدل يمينك الباطل، فأعرض عن هذا الرجل. وكان رجل من كلب يقال له الذيال يخرج فيسب زفر فيكثر، فقال زفر للهذيل ابنه أو لبعض أصحابه: أما تكفيني هذا؟ قال: أنا أجيئك به. فدخل عسكر عبد الملك ليلاً فجعل ينادي: من يعرف بغلاً من صفته كذا وكذا؟ حتى انتهى إلى خباء الرجل وقد عرفه. فقال الرجل: رد الله عليك ضالتك. فقال: يا عبد الله إني قد عييت فلو أذنت لي فاسترحت قليلاً. قال: ادخل، فدخل والرجل وحده في خبائه، فرمى بنفسه ونام صاحب الخباء، فقام إليه فأيقظه وقال: والله لئن تكلمت لأقتلنك. قال: قتلت أو سلمت فماذا ينفعك قتلي؟ قال: لئن سكت وجئت معي إلى زفر فلك عهد الله وميثاقه أن أردك إلى عسكرك بعد أن يصلك زفر والرجل معه، فاعلمه أنه قد آمنه، فوهب له زفر دنانير وحمله على رحالة النساء وألبسه ثيابهن وبعث معه رجلاً حتى دنوا من عسكر عبد الملك، فنادوا: هذه جارية قد بعث بها زفر إلى عبد الملك. وانصرفوا، فلما نظر إليه أهل العسكر عرفوه وأخبروا عبد الملك الخبر، فضحك وقال: لا يبعد الله رجلاً نصر، والله إن قتلهم لذل وإن تركهم لحسرة. وكف الرجل فلم يعد يسب زفر، وقيل: أنه هرب من العسكر. ثم إن عبد الملك أمر أخاه محمداً أن يعرض على زفر وابنه الهذيل الأمان على أنفسهما ومن معهما وما لهم وأن يعطيا ما أحبا. ففعل محمد ذلك، فأجاب الذيل وكلم أباه وقال له: لو صالحت هذا الرجل فقد أطاعه الناس وهو خير لك من ابن الزبير. فأجاب على أن له الخيار في بيعته سنةً وأن ينزل حيث شاء ولا يعين عبد الملك على قتال ابن الزبير. فبينا الرسل تختلف بينهما إذ جاءه رجل من كلب فقال: قد هدم من المدينة أربعة أبراج. فقال عبد الملك : لا أصالحهم. وزحف إليهم فهزموا أصحابه حتى أدخلوهم عسكرهم. فقال: أعطوهم ما أرادوا. فقال زفر: لو كان قبل هذا لكان أحسن. واستقر الصلح على أمان الجميع، ووضع الدماء والموال، وان لا يبايع عبد لملك حتى يموت ابن الزبير للبيعة له في عنقه، وأن يعطى مالاً يقسمه في أصحابه.
وخاف زفر أن يغدر به عبد الملك كما غدر بعمرو بن سعيد، فلم ينزل إليه، فأرسل إليه بقضيب النبي صلى الله عليه وسلم ، أماناً له، فنزل إيه، فلما دخل عليه أجلسه معه على سريره، فقال ابن عضاة الأشعري: أنا كنت أحق بهذا المجلس منه. فقال زفر: كذبت هناك، إني عاديت فضررت وواليت فنفعت. ولما رأى عبد الملك قلة من مع زفر قال: لو علمت أنه في هذه القلة لحاصرته أبداً حتى ينزل على حكمي. فبلغ قوله زفر فقال: إن شئت رجعنا ورجعت. فقال: بل نفي لك يا أبا الهذيل. وقال له عبد الملك يوماً: بلغني أنك من كندة. فقال: وما خير من لايبغي حسداً ولا يدعي رغبة! وتزوج مسلمة بن عبد الملك الرباب بنت زفر، فكان يؤذن لأخويها الهذيل والكوثر في أول الناس. وأمر زفر ابنه الهذيل أن يسير مع عبد الملك إلى قتال مصعب وقال له: أنت لا عهد عليك. فسار معه، فلما قارب مصعباً هرب إليه وقاتل مع ابن الأشتر، فلما قتل ابن الأشتر اختفى الهذيل بالكوفة حتى استؤمن له من عبد الملك فآمنه، كما تقدم. ذكر عدة حوادثوفي هذه السنة افتتح عبد الملك قيسارية، في قول الواقدي. وفيها نزع ابن الزبير جابر بن الأسود بن عوف عن المدينة واستعمل عليها طلحة بن عبيد الله ابن عوف، وهو آخر والٍ كان له على المدينة، حتى أتاه طارق بن عمرو مولى عثمان، فهرب طلحة وأقام طارق بها حتى سار إلى مكة لقتال ابن الزبير. وفي إمارة مصعب مات البراء بن عازب بالكوفة. ويويد بن مفرغ الحميري الشاعر بها أيضاً. وعبد الله بن أبي حدود الأسلمي، شهد الحديبية وخيبر. وفي أيامه مات شتير بن شكل القيسي الكوفي، وهو من أصحاب علي وابن مسعود. شتير بضم الشين المعجمة، وفتح التاء فوقها نقطتان، وبعدها ياء تحتها نقطتان. وشكل بفتح الشين المعجمة، والكاف وآخره لام. ثم دخلت سنة اثنتين وسبعين ذكر أمر الخوارج لما استقر عبد الملك بالكوفة بعد قتل مصعب استعمل خالد بن عبد الله على البصرة، فلما قدمها خالد كان المهلب يحارب الأزارقة، فجعله على خاج الأهواز ومعونتها، وسير أخاه عبد العزيز بن عبد الله إلى قتل الخوارج، وسير معه مقاتل بن مسمع، فخرجا يطلبان الأزراقة، فأتت الخوارج من ناحية كرمان إلى دار ابجرد، فأرسل قطري بن الفجاء المازني مع صالح بن مخارق تسعمائة فارس، فاقبل يسير بهم حتى استقبل عبد العزيز وهو يسير مهلاً على غير تعبية، فانهزم بالناس، ونزل مقاتل بن مسمع فقاتل حتى قتل، وانهزم عبد العزيز، وأخذت امرأته ابنة المنذر بن الجارود فأقيمت فيمن يزيد، فبلغت قيمتها مائة ألف، فجاء رجل من قومها من رؤوس الخوارج فقال: تنحوا هكذا، ما أرى هذه المشركة إلا قد فتنتكم! وضرب عنقها، ولحق بالبصرة، فرآه آل المنذر فقالوا: والله ما ندري أنحمدك أم نذمك! فكان يقول: ما فعلته إلا غيره وحمية. وانتهى عبد العزيز إلى رامهرمز، وأتى المهلب خبره، فأرسل إليه شيخاً من الأزد وقال له: إن كان منهزماً فعزه. فأتاه الرجل فرآه نازلاً في نحو ثلاثين فارساً كئيباً حزيناً، فأبلغه الرسالة، وعاد إلى المهلب بالخبر، فأرسل المهلب إلى أخيه خالد بن عبد الله يخبره بهزيمته. فقال للرسول: كذبت. فقال: والله ما كذبت، فإن كنت كاذباً فاضرب عنقي، وإن كنت صادقاً فأعطني جبتك ومطرفك. فقال: قد رضيت من الخطر العظيم بالخطر اليسير. وحبسه وأحسن إليه حتى صح خبر الهزيمة. قال ابن قيس الرقيات في هزيمة عبد العزيز وفراره عن امرأته: عبد العزيز فضحت جيشك كلهم ... وتركتهم صرعى بكل سبيل من بين ذي عطشٍ يجود بنفسه ... وملحبٍ بين الرجال قتيل هلا صبرت مع الشهيد مقاتلاً ... إذ رحت منكث القوى بأصيل وتركت جيشك لا أمير عليهم ... فارجع بعارٍ في الحياة طويل ونسيت عرسك إذ تقاد سبيةً ... تبكي العيون برنةٍ وعويل
فكتب خالد إلى عبد الملك يخبره بذلك، فكتب إليه عبد الملك: قد عرفت ذلك وسألت رسولك عن المهلب فأخبرني أنه عامل على الهواز، فقيح الله رأيك حين تبعث أخاك أعرابياً من أهل مكة على القتال وتدع المهلب يجبي الخراج، وهو الميمون النقيبة، المقاسي للحرب، ابنها وابن أبنائها، أرسل إلى المهلب يستقبلهم، وقد بعثت إلى بشر بالكوفة ليمك بجيش، فسر معهم لا ولا تعمل في عدوك برأي حتى يحضره المهلب، والسلام. وكتب عبد الملك إلى بشر أخيه بالكوفة يأمره بإنفاذ خمسة آلاف مع رجل يرضاه لقتال الخوارج، فإذا قضوا غزوتهم ساروا إلى الري فقاتلوا عدوهم وكانوا مسلحةً فبعث بشر خمسة آلاف، وعليهم عبد الرحمن بن محمد الأشعث، فكتب له عهداً على الري عند الفراغ من قتاله. وخرج خالد بأهل البصرة حتى قدم الأهواز، وقدمها عبد الرحمن بن محمد فيأهل الكوفة، وجاءت الأزارقة حتى دنوا من الأهواز، فقال المهلب لخالد: إني أرى هاهنا سفناً كثيرة فضمها إليك فإنهم سيحرقونها، فلم يمض إلا ساعة حتى أرسلوا إليها فأحرقوها. وجعل خالد المهلب على ميمنته، وعلى ميسرته داود بن قحذم من بني قيس بن ثعلبة، ومر المهلب على عبد الرحمن بن محمد ولم يخندق عليه، فقال: ما يمنعك من الخندق؟ فقال: هم أهون علي من ضرطة الجمل. قال: لا يهنوا عليك فإنهم سباع العرب. ولم يبرح المهلب حتى خندق عبد الرحمن عليه، فأقاموا نحواً من عشرين ليلة، ثم زحف خالد إليهم بالناس، فرأوا أمراً هالهم من كثرة الناس، فكثرت عليهم الخيل وزحفت إليهم، فانصرفوا كأنهم على حامية وهم مولون لا يرون طاقةً بقتل جماعة الناس. فأرسل خالد داود بن قحذم في آثارهم، وانصرف خالد إلى البصرة، وسار عبد الرحمن إلى الري، وأقام المهلب بالأهواز، وكتب خالد إلى عبد الملك بذلك. فلما وصل كتابه إلى عبد الملك كتب إلى أخيه بشر يأمره أن يبعث أربعة آلاف فارس من أهل الكوفة مع رجل بصير بالحرب إلى فارس في طلب الأزارقة، ويأمر صاحبه بموافقة داود بن قحذم إن اجتمعا. فبعث بشر عتاب بن ورقاء في أربعة آلاف فارس من أهل الكوفة، فساروا حتى لحقوا داود فاجتمعوا ثم ابتعوا الخوارج حتى علكت خيول عامتهم وأصابهم الجوع والجهد، ورجع عامة الجيشين مشاة إلى الأهواز. وفي هذه السنة كان خروج أبي فديك الخارجي، وهو من بني قيس بن ثعلبة، فغلب على البحرين وقتل نجدة بن عامر الحنفي، فاجتمع على خالد بن عبد الله نزول قطري الأهواز وأمر أبي فديك، فبعث أخاه أمية بن عبد الله في جند كثيف إلى أبي فديك، فهزمه أبو فديك وأخذ جاريةً له فاتخذها لنفسه، فكتب خالد إلى عبد الملك بذلك. ذكر قتل عبد الله بن خازمولما قتل مصعب كان ابن خازم يقاتل بحير بن ورقاء الصريمي التميمي بنيسابور، فكتب عبد الملك إلى ابن خازم يدعوه إلى البيعة له ويطعمه خراسان سبع سنين، وأرسل الكتاب مع سوادة بن أشتم النميري، وقيل: مع مكمل الغنوي. فقال ابن خازم: لولا أن أضرب بين بني سليم وبني عامر لقتلتك، ولكن كل كتابك فأكله. وقيل: بل كان الكتاب مع سوادة بن عبيد الله النميري، وقيل: مع مكمل الغنوي فقال له ابن خازم: إنما بعثك أبو الذبان لأنك من غني وقد علم أني لا أقتل رجلاً من قيس، ولكن كل كتابه. وكتب عبد الملك إلى بكير بن وشاح، وكان خليفة ابن خازم على مرو، بعهده على خراسان، ووعده ومناه، فخلع بكير عبد الله بن الزبير ودعا إلى عبد الملك، فأجابه أهل مرو، وبلغ ابن خازم فخاف أن يأتيه بكير فيجتمع عليه أهل مرو وأهل نيسابور، فترك بحيراً وأقبل إلى مرو ويزيد ابنه بترمذ، فاتبعه بحير فلحقه بقرية على ثمانية فراسخ من مرو، فقاتله ابن خازم، فقتل ابن خازم؛ وكان الذي قتله وكيع بن عمرو القريعي، أعثر وكيع وبحير بن ورقاء وعمار بن عبد العزيز فطعنوه فصرعوه، وقعد وكيع على صدره فقتله. فقال بعض الولاة لوكيع: كيف قتلته؟ قال: غلبته بفضل القنا، فلما صرع قعدت على صدره، فلم يقدر أن يقوم، وقلت: يا لثارات دويلة! وهو أخو كيع لأمه، قتل في بعض تلك الحروب. قال وكيع: فتنخم في وجهي وقال: لعنك الله! أتقتل كبش مضر بأخيك وهو لا يساوي كفاً من نوى؟ أو قال: من تراب. قال: فما رأيت أكثر ريقاً منه على تلك الحال عند الموت.
وبعث بحير ساعة قتل ابن خازم إلى عبد الملك يخبره بقتله، ولم يبعث بالرأس، وبعث بحير بكير بن وشاح في أهل مرو فوافاهم حين قتل ابن خازم فأراد أخذ الرأس وإنفاذه إلى عبد الملك، فمنعه بحير، فضربه بكير بعمود وحبسه وسير الرأس إلى عبد الملك وكتب إليه يخبره أنه هو الذي قتله. فلما قدم الرأس دعا عبد الملك برسول بحير وقال: ما هذا؟ قال: لا أدري، وما فارقت القوم حتى قتل ابن خازم. وقيل: إن ابن خازم إنما قتل بعد قتل عبد الله بن الزبير، وإن عبد الملك أنفذ إليه رأس ابن الزبير ودعاه إلى نفسه، فغسل الرأس وكفنه وبعثه إلى أهله بالمدينة وأطعم الرسول الكتاب، وقال: لولا أنك رسول لقتلتك. وقيل: بل قطع يديه ورجليه وقتله وحلف أن لا يطيع عبد الملك أبداً. " بحير بفتح الباء الموحدة، وكسر الحاء المهملة " . ذكر عدة حوادثكان العامل على المدينة طارقاً لعبد الملك، وعلى الكوفة بشر بن مروان، وعلى قضائها عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، وعلى البصرة خالد بن عبد الله، وعلى قضائها هشام بن هبيرة، وعلى خراسان، في قول بعضهم: بكير بن وشاح، وفي قول بعضهم: عبد الله بن خازم وفي هذه السنة مات عبيدة السلماني، وهو من أصحاب علي. عبيدة بفتح العين، وكسر الباء الموحدة. ثم دخلت سنة ثلاث وسبعين ذكر قتل عبد الله بن الزبير لما بويع عبد الملك بالشام بعث إلى المدينة عروة بن أنيف في ستة آلاف من أهل الشام وأمره أن لا يدخل المدينة وأن يعسكر بالعرصة، وكان عامل عبد الله بن الزبير على المدينة الحارث بن حاطب بن الحارث بن معمر الجمحي، فهرب الحارث، وكان ابن أنيف يدخل ويصلي بالناس الجمعة ثم يعود إلى معسكره، فأقام شهراً ولم يبعث إليهم ابن الزبير أحداً. وكتب إليه عبد الملك بالعود إليه، فعاد هو ومن معه، وكان يصلي بالناس بعده عبد الرحمن بن سعد القرظي، ثم عاد الحارث إلى المدينة، وبعث ابن الزبير سليمان بن خالد الرزقي الأنصاري، وكان رجلاً صالحاً عاملاً على خيبر وفدك، فنزل في عمله، فبعث عبد الملك عبد الواحد بن الحارث بن الحكم، وقيل: اسمه عبد الملك، وهو أصح، في أربعة آلاف، فسار حتى نزل وادي القرى وسير سريةً عليها أبو القمقام في خمسمائة إلى سليمان، فوجدوه قد هرب، فطلبوه فأدركوه فقتلوه ومن معه. فاغتم عبد الملك بن مروان لقتله وقال: قتلوا رجلاً مسلماً صالحاً بغير ذنب. وعزل ابن الزبير الحارث واستعمل مكانه جابر بن الأسود بن عوف الزهري، فوجه جابر أبا بكر بن أبي قيس في ستمائة فارس وأربعين فارساً إلى خيبر، فوجدوا أبا القمقام ومن معه مقيمين بفدك يعسفون الناس فقاتلوهم، فانهزم أصحاب أبي القمقام وأسر منهم ثلاثون رجلاً فقتلوا صبراً. وقيل: بل قتل الخمسمائة أو أكثرهم. ووجه عبد الملك طارق بن عمرو مولى عثمان وأمره أن ينزل بين أيلة ووادي القرى ويمنع عمال ابن الزبير من الإنتشار ويسد خللاً إن ظهر له. فوجه طارق إلى أبي بكر خيلاً، فاقتتلوا فأصيب أبو بكر في المعركة وأصيب من أصحابه أكثر من مائتي رجل. وكان ابن الزبير قد كتب إلى القباع أيام كان عامله على البصرة يأمره أن يرسل إليه ألفي فارس ليعينوا عامله على المدينة، فوجه إليه ألفي رجل، فلما قتل أبو بكر أمر ابن الزبير جابر بن الأسود أن يسير جيش البصرة إلى قتال طارق، فسار البصريون عن المدينة، وبلغ طارقاً الخبر فسار نحوه، فالتقيا، فقتل مقدم البصريين وقتل أصحابه قتلاً ذريعاً، وطلب طارق مدبرهم وأجهز على جريحهم ولم يستبق أسيرهم. ورجع طارق إلى وادي القرى، وكان عامل ابن الزبير بالمدينة جابر بن الأسود، وعزل ابن الزبير جابراً واستعمل طلحة بن عبيد الله بن عوف، الذي يعرف بطلحة الندى، سنة سبعين فلم يزل على المدينة حتى أخرجه طارق.
فلما قتل عبد الملك مصعباً وأتى الكوفة وجه منها الحجاج بن يوسف الثقفي في ألفين، وقيل: في ثلاثة آلاف، من أهل الشام لقتال عبد الله بن الزبير. وكان السبب في تسييره دون غيره أنه قال لعبد الملك: قد رأيت في المنام أني أخذت عبد الله بن الزبير فسلخته، فابعثني إليه وولني قتاله. فبعثه وكتب معه أماناً لابن الزبير ومن معه إن أطاعوا، فسار في جمادى الأولي سنة اثنتين وسبعين، ولم يعرض للمدينة، ونزل الطائف، وكان يبعث الخيل إلى عرفة ويبعث ابن الزبير أيضاً فيقتلون بعرفة فتنهزم خيل ابن الزبير في كل ذلك وتعود خيل الحجاج بالظفر. ثم كتب الحجاج إلى عبد الملك يستأذنه في دخول الحرم وحصر ابن الزبير ويخبره بضعفه وتفرق أصحابه ويستمده، فكتب عبد الملك إلى طارق يأمره باللحاق بالحجاج، فقدم المدينة في ذي القعدة سنة اثنتين وسبعين، وأخرج عامل ابن الزبير عنها وجعل عليها رجلاً من أهل الشام اسمه ثعلبة، فكان ثعلبة يخرج المخ وهو على منبر النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم يأكل عليه التمر لغيظ أهل المدينة، وكان مع ذلك شديداً على أهل الزبير، وقدم طارق على الحجاج بمكة في سلخ ذي الحجة في خمسة آلاف. وأما الحجاج فإنه قدم مكة في ذي القعدة وقد أحرم بحجة، فنزل بئر ميمون، وحج بالناس تلك السنة الحجاج، إلا أنه لم يطف بالكعبة ولا سعى بين الصفا والمروة، منعه ابن الزبير من ذلك، فكان يلبس السلاح ولا يقرب النساء ولا الطيب إلى أن قتل ابن الزبير، ولم يحج ابن الزبير ولا أصحابه لأنهم لم يفوا بعرفة ولم يرموا الجمار، ونحر ابن الزبير بدنة بمكة. ولما حصر الحجاج ابن الزبير نصب المنجنيق على أبي قبيس ورمى به الكعبة، وكان عبد الملك ينكر ذلك أيام يزيد بن معاوية ثم أمر به، فكان الناس يقولون: خذل في دينه. وحج ابن عمر تلك السنة فأرسل إلى الحجاج: أن اتق الله واكفف هذه الحجارة عن الناس فإنك في شهر حرام وبلد حرام وقد قدمت وفود الله من أقطار الأرض ليؤدوا فريضة الله ويزدادوا خيراً، وإن المنجنيق قد منعهم عن الطواف، فاكفف عن الرمي حتى يقضوا ما يجب عليهم بمكة. فبطل الرمي حتى عاد الناس من عرفات وطافوا وسعوا، ولم يمنع ابن الزبير الحاج من الطواف والسعي، فلما فرغوا من طواف الزيارة نادى منادي الحجاج: انصرفوا إلى بلادكم فإنا نعود بالحجارة على ابن الزبير الملحد. وأول ما رمي بالمنجنيق إلى الكعبة رعدت السماء وبرقت وعلا صوت الرعد على الحجارة، فأعظم ذلك أهل الشام وأمسكوا أيديهم، فأخذ الحجاج حجر المنجنيق بيده فوضعه في ورمى به معهم، فلما أصبحوا جاءت الصواعق فقتلت من أصحابه اثني عشر رجلاً، فانكسر أهل الشام، فقال الحجاج: يا أهل الشام لا تنكروا هذا، فإني ابن تهامة وهذه صواعقها وهذا الفتح قد حضر فأبشروا. فلما كان الغد جاءت الصاعقة فأصابت من أصحاب ابن الزبير عدة، فقال الحجاج: ألا ترون أنهم يصابون وأنتم على الطاعة وهم على خلافها؟ وكان الحجر يقع بين يدي ابن الزبير وهو يصلي فلا ينصرف، وكان أهل الشام يقولون: يا ابن الزبير طالما عصيكا ... وطالما عنيتنا إليكا لتجزين بالذي أتيكا يعنون: عصيت وأتيت. وقدم عليه قوم من الأعراب فقالوا: قدمنا للقتال معك، فنظر فإذا مع كل امرئ منهم سيف كأنه شفرة وقد خرج من غمده، فقال: يا معشر الأعراب لا قربكم الله! فوالله إن سلاحكم لرث، وإن حديثكم لغث؛ وإنكم لقتال في الجدب، أعداء في لخصب. فتفرقوا ولم يزل القتال بينهم دائماً، فغلت الأسعار عند ابن الزبير وأصاب الناس مجاعة شديدة حتى ذبح فرسه وقسم لحمها في أصحابه، وبيعت الدجاجة بعشرة دراهم، والمد الذرة بعشرين درهماً، وإن بيوت ابن الزبير لمملوءة قمحاً وشعيراً وذرة وتمراً، وكان أهل الشام ينتظرون فناء ما عنده، وكان يحفظ ذلك ولا ينفق منه إلا ما يمسك الرمق، ويقول: أنفس أصحابي قوية ما لم يفن. فلما كان قبيل مقتله تفرق الناس عنه وخرجوا إلى الحجاج بالأمان، خرج من عنده نحو عشرة آلاف، وكان ممن فارقه ابناه حمزة وخبيب، وأخذا لأنفسهما أماناً، فقال عبد الله لابنه الزبير: خذ لنفسك أماناً كما فعل أخواك، فو الله إني لأحب بقاءكم. فقال ما كنت لأرغب بنفسي عنك. فصبر معه فقتل.
ولما تفرق أصحابه عنه خطب الحجاج الناس وقال: قد ترون قلة من مع ابن الزبير وماهم عليه من الجهد والضيق. ففرحوا واستبشروا فتقدموا فملأوا ما بين الحجون إلى الأبواء. فدخل على أمه فقال: يا أماه قد خذلني الناس حتى ولدي وأهلي ولم يبق معي إلا اليسير ومن ليس عنده أكثر من صبر ساعة، والقوم يعطونني ما أردت من الدنيا، فما رأيك؟ فقالت: أنت أعلم بنفسك، إن كنت تعلم أنك على حق وإليه تدعو فامض له فقد قتل عليه أصحابك ولا تمكن من رقبتك يتلعب بها غلمان بني أمية، وإن كنت إنما أردت الدنيا فبئس العبد أنت أهلكت نفسك ومن قتل معك، وإن قلت كنت على حق فلما وهن أصحابي ضعفت فهذا ليس فعل الأحرار ولا أهل الدين، كم خلودك في الدنيا! القتل أحسن! فقال: يا أماه أخاف إن قتلني أهل الشام أن يمثلوا بي ويصلبوني. قالت: يا بني إن الشاة لا تتألم بالسلخ إذا ذبحت، فامض على بصيرتك واستعن بالله. فقبل رأسها وقال: هذا رأيي والذي قمت به داعياً إلى يومي هذا ما ركنت إلى الدنيا ولا أحببت الحياة فيها، وما دعاني إلى الخروج إلا الغضب لله وأن تستحل حرماته، ولكني أحببت أن أعلم رأيك، فقد زدتني بصيرة، فانظري يا أماه فإني مقتول في يومي هذا فلا يشتد حزنك وسلمي الأمر إلى الله، فإن ابنك لم يتعمد إتيان منكر ولا عملاً بفاحشة، ولم يجر في حكم الله، ولم يغدر في أمان، ولم يتعمد ظلم مسلم أو معاهد، ولم يبلغني ظلم عن عمالي فرضيت به بل أنكرته، ولم يكن شيء آثر عندي من رضا ربي، اللهم لا أقول هذا تزكية لنفسي ولكني أقوله تعزية لأمي حتى تسلو عني! فقالت أمه: غني لأرجو أن يكون عزائي فيك جميلاً، إن تقدمتني احتسبتك، وإن ظفرت سررت بظفرك، أخرج حتى أنظر إلى ما يصير أمرك. فقال: جزاك الله خيراً، فلا تدعي الدعاء لي. قالت: لا أدعه لك أبداً، فمن قتل على باطل فقد قتت على حق. ثم قالت: اللهم ارحم طول ذاك القيام في الليل الطويل وذلك النحيب والظمأ في هواجر مكة والمدينة وبره بأبيه وبي! اللهم قد سلمته لأمرك فيه ورضيت بما قضيت فأثبني فيه ثواب الصابرين الشاكرين! فتناول يديها لقبلهما فقالت: هذا وداع فلا تبعد. فقال لها: جئت مودعاً لأني أرى هذا آخر أيامي من الدنيا. قالت: امض على بصيرتك وادن مني حتى أودعك. فدنا منها فعانقها وقبلها، فوقعت يدها على الدرع فقالت: ما هذا صنيع من يريد ما تريد. فقال: مالبسته إلا لأشد منك. قالت: فإنه لا يشد مني، فنزعها ثم درج كمية وشد أسفل قميصه وجبة خز تحت أثناء السراويل وادخل أسفلها تحت المنطقة وأمه تقول له: البس ثيابك مشمرة. فخرج وهو يقول: إني إذا أعرف يومي أصبر ... وإنما يعرف يومه الحر إذ بعضهم يعرف ثم ينكر فسمعته فقالت: تصبر إن شاء الله، أبواك أبو بكر والزبير، وأمك صفية بنت عبد المطلب. فحمل على أهل الشام حملةً منكرةً فقتل منهم ثم انكشف هو وأصحابه، وقال له بعض أصحابه: لو لحقت بموضع كذا. قال: بئس الشيخ أنا إذاً في الإسلام لئن أوقعت قوماً فقتلوا ثم فررت عن مثل مصارعهم. ودنا أهل الشام حتى امتلأت منهم الأبواب، وكانوا يصيحون به: يا ابن ذات النطاقين، فيقول: وتلك شكاة ظاهر عنك عارها وجعل أهل الشام على أبواب المسجد رجلاً من أهل كل بلد، لكان لأهل حمص الباب الذي يواجه باب الكعبة، ولأهل دمشق باب بني تميم، وكان الحجاج وطارق من ناحية الأبطح إلى المروة، فمرة يحمل ابن الزبير في هذه الناحية ومرة في هذه الناحية ومرة في هذه الناحية، فكأنه أسد في أجمة ما يقدم عليه الرجال يعدو في أثر القوم حتى يخرجهم، ثم يصيح: أبا صفوان! ويل أمه فتحاً لو كان له رجال أو كان قرني واحداً كفيته! فيقول أبو صفوان عبد الله بن صفوان بن أمية بن خلف: إي والله وألف.
فلما رأى الحجاج أن الناس لا يقدمون على ابن الزبير غضب وترجل وأقبل يسوق الناس ويصمد بهم صمد صاحب علم ابن الزبير وهو بين يديه. فتقدم ابن الزبير على صاحب علمه وضاربهم وانكشفوا، وعرج وصلى ركعتين عند المقام، فحملوا على صاحب علمه فقتلوه عند باب بني شيبة وصار العلم بأيدي أصحاب الحجاج. فلما فرغ من صلاته تقدم فقاتل بغير علم فضرب رجلاً من أهل الشام وقال: خذها وأنا ابن الحواري! وضرب آخر، وكان حبشياً، فقطع يده وقال: اصبر أبا حمدة، اصبر ابن حام. وقاتل معه عبد الله بن مطيع وهو يقول: أنا الذي فررت يوم الحره ... والحر لا يفر إلا مره واليوم أجزي فرةً بكره وقاتل حتى قتل، وقيل: إنه أصابته جراح فمات منها بعد أيام. وقال ابن الزبير لأصحابه وأهله يوم قتل بعد صلاة الصبح: اكشفوا وجوهكم حتى أنظر إليكم، وعليهم لمغافر. ففعلوا. فقال: يا آل الزبير لو طبتم بي نفساً عن أنفسكم كنا أهل بيت من العرب اصطلحنا في الله، فلا يرعكم وقع السيوف، فإن ألم الدواء للجراح أشد من ألم وقعها، صونوا سيوفكم كما تصونون وجوهكم، غضوا أبصاركم من البارقة وليشغل كل امرئٍ قرنه ولا تسألوا عني، فمن كان سائلاً عني فإني في الرعيل الأول، احملوا على بركة الله. ثم حمل عليهم حتى بلغ بهم الحجون، فرمي بآجرة، رماه رجل من السكون، فأصابته في وجهه فأرعش لها ودمي وجهه، فلما وجد الدم على وجهه قال: فلسنا على الأعقاب تدمى كلومنا ... ولكن على أقدامنا تقطر الدما وقاتلهم قتالاً شديداً، فتعاوروا عليه فقتلوه يوم الثلاثاء من جمادى الآخرة وله ثلاث وسبعون سنة، وتولى قتله رجل من مراد، وحمل رأسه إلى الحجاج فسجد ووفد السكوني والمرادي إلى عبد الملك بالخبر، فأعطى كل واحد منهما خمسمائة دينار. وسار الحجاج طارق وطارق حتى وقفا عليه، فقال طارق: ما ولدت النساء أذكر من هذا. فقال الحجاج: أتمدح مخالف أمير المؤمنين؟ قال: نعم هو أعذر لنا، ولولا هذا لما كان لنا عذر، غنا محاصروه منذ سبعة أشهر وهو في غير جند ولا حصن ولا منعة فينتصف منا بل يفضل علينا. فبلغ كلامهما عبد الملك فصوب طارقاً. ولما قتل ابن الزبير كبر أهل الشام فرحاً بقتله، فقال ابن عمر: انظروا إلى هؤلاء ولقد كبر المسلمون فرحاً بولادته وهؤلاء يكبرون فرحا بقتله. وبعث الحجاج برأسه ورأس عبد الله بن صفوان ورأس عمارة بن عمرو بن حزم إلى المدينة ثم ذهب بها إلى عبد الملك بن مروان وأخذ جثته فصلبها على الثنية اليمنى بالحجون. فأرسلت إليه فكتب إليه يلومه ويقول: ألا خليت بينه وبين أمه! فأذن لها الحجاج فدفنته بالحجون، فمر به عبد الله بن عمر فقال: السلام عليك يا أبا خبيب! أما والله لقد كنت أنهاك عن هذا ولقد كنت صواماً قواماً وصولاً للرحم، أما والله إن قوماً أنت شرهم لنعم القوم. وكان ابن الزبير قبل قتله بقي أياماً يستعمل الصبر والمسك لئلا ينتن، فلما صلب ظهرت منه رائحة المسك، فقيل: إن الحجاج صلب معه كلباً ميتاً فغلب على ريح المسك، وقيل: بل صلب معه سنوراً. ولما قتل عبد الله ركب أخوه عروة ناقةً لم ير مثلها فسار إلى عبد الملك فقدم الشام قبل وصول رسل الحجاج بقتل عبد الله، فأتى باب عبد الملك فاستأذن عليه فأذن له، فلما دخل سلم عليه بالخلافة، فرد عليه عبد الملك ورحب به وعانقه وأجلسه على السرير، فقال عروة: متت بأرحامٍ إليك قريبةٍ ... ولا قرب للأرحام ما لم تقرب ثم تحدثا حتى جرى ذكر عبد الله، فقال عروة: إنه كان، فقال عبد الملك: وما فعل؟ قال: قتل، فخر ساجداً، فقال عروة: إن الحجاج صلبه فهب جثته لأمه. قال: نعم، وكتب إلى الحجاج يعظم صلبه. وكان الحجاج لما فقد عروة كتب إلى عبد الملك يقول له: عن عروة كان مع أخيه، فلما قتل عبد الله أخذ مالاً من مال الله فهرب. فكتب إليه عبد الملك: إنه لم يهرب ولكنه أتاني مبايعاً وقد آمنته وحللته مما كان، وهو قادم عليك فإياك وعروة. وعاد عروة إلى مكة وكانت غبيته عنها ثلاثين يوماً. فأنزل الحجاج جثة عبد الله عن الخشبة بعث به إلى أمه، فغسلته، فلما أصابه الماء تقطع، فغسلته عضواً عضواً فاستمسك، وصلى عليه عروة، فدفنته.
وقيل: إن عروة لما كان غائباً عند عبد الملك كتب إليه الحجاج وعاوده في إنفاذ عروة إليه، فهم عبد الملك بإنفاذه، فقال عروة: ليس الذليل من قتلتموه ولكن الذليل من ملكتمخوه، وليس بملوم من صبر فمات، ولكن الملوم من فر من الموت. فسمع مثل هذا الكلام فقال عبد الملك: يا أباعبد الله لن تسمع منا شيئاً تكرهه. وإن عبد الله لم يصل عليه أحد، منع الحجاج من الصلاة عليه، وقال: غنما أمر أمير المؤمنين بدفنه، وقيل: صلى عليه غير عروة، والذي ذكره مسلم في صحيحه: إن عبد الله بن الزير ألقي في مقابر اليهود، وعاشت أمه بعده قليلاً وماتت، وكانت قد أضرت، وهي أم عروة أيضاً . فلما فرغ الحجاج من أمر ابن الزبير دخل مكة فبايعه أهلها لعبد الملك ابن مروان، وأمر بكنس المسجد الحرام من الحجارة والدم، وسار إلى المدينة، وكان عبد الملك قد استعمله على مكة والمدينة، فلما قدم المدينة أقام بها شهراً أو شهرين فأساء إلى أهلها واستخف بهم وقال: أنتم قتلة أمير المؤمنين عثمان، وختم أيدي جماعة من الصحابة بالرصاص استخفافاً بهم كما يفعل بأهل الذمة، منهم جابر بن عبد الله وأنس بن مالك وسهل بن سعد، ثم عاد إلى مكة، فقال حين خرج منها: الحمد الله الذي أخرجني من أم نتن، أهلها أخبث بلد وأغشه لأمير المؤمنين وأحسدهم له على نعمة الله، والله لو ما كنت تأتيني كتب أمير المؤمنين فيهم لجعلتها مثل جوف الحمار أعواداً يهودون بها ورمة قد بليت، يغلون منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقبر رسول الله صلى الله عليه وسلم . فبلغ جابر بن عبد الله قوله فقال: إن وراءه ما يسوءه، قد قال فرعون ما قال ثم أخذه الله بعد أن أنظره. وقيل: إن ولاية الحجاج المدينة وما فعله بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كان سنة أربع وسبعين في صفر. خبيب بن عبد الله بن الزير بضم الخاء المعجمة، وببائين موحدتين بينهما ياء مثناه من تحت، وكان عبد الله يكنى به ويأبي بكر أيضاً. ذكر عمر ابن الزبير وسيرتهكان له من العمر حين قتل اثنتان وسبعون سنة، وكانت خلافته تسع سنين، لنه بويع له سنة أربع وستين، وكانت له جمة مفروقة طويلة. قال يحيى بن وثاب: كان ابن الزير إذا سجد وقعت العصافير على ظهره تظنه حائطاً لسكونه وطول سجوده. وقال غيره: قسم عبد الله الدهر ثلاث حالات: فليلة قائم حتى الصباح، وليلة راكع حتى الصباح، وليلة ساجد حتى الصباح. وقيل: أول ما علم من همة ابن الزير أنه كان ذات يوم يلعب مع الصبيان وهو صبي فمر به رجل فصاح عليهم ففروا، ومشى ابن الزبير القهقري وقال: يا صبيان اجعلوني أميركم وشدوا بنا عليه، ففعلوا. ومر به عمر بن الخطاب وهو يلعب ففر الصبيان ووقف هو، فقال له عمر: ما لك لم تفر معهم؟ فقال: لم أجرم فأخافك، ولم تكن الطريق ضيقة فأوسع لك. وقال قطن بن عبد الله: كان ابن الزبير يواصل من الجمعة إلى الجمعة. قال خالد بن أبي عمران: كان ابن الزبير يفطر في الشهر ثلاثة أيام، ومكث أربعين سنة لم ينزع ثيابه عن ظهره. وقال مجاهد: لم يكن باب من أبواب العبادة يعجز عنه الناس إلا تكلفه ابن الزبير، ولقد جاء سيل طبق البيت فجعل ابن الزير يطوف سباحةً. قال هشام بن عروة: كان أول ما أفصح به عمي عبد الله بن الزبير وهو صغير السيف، فكان لا يضعه من يده، فكان الزبير يقول: والله ليكونن لك منه يوم وأيام. قال ابن سيرين: قال ابن الزبير: ما شيء كان يحدثنا به كعب إلا وقد جاء على ما قال إلا قوله: فتى ثقيف يقتلني وهذا رأسه بين يدي، يعني المختار، قال ابن سيرين: ولا يشعر ابن الزيبر أن الحجاج قد خبئ له. وقال عبد العزيز بن أبي جميلة الأنصاري: إن ابن عمر مر بابن الزير وهو مصلوب بعد قتله فقال: رحمك الله أبا خبيب! إنك كنت لصواماً قواماً، ولقد أفلحت قريش إن كنت شرها.
وكان الحجاج قد صلبه ثم ألقاه في مقابر اليهود وأرسل إلى أمه يستحضرها، فلم تحضر، فأرسل إليها: لتأتيني أو لأبعثن إليك من يسحبك بقرونك، فلم تأته، فقام إليها. فلما حضر قال لها: كيف رأيتني صنعت بعبد الله؟ قالت: رأيتك أفسدت على ابني دنياه وأفسد عليك آخرتك، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حدثنا أن: في ثقيف كذاباً ومبيراً، فأما الكذاب فقد رأيناه، تعني المختار، وأما المبير فأنت هو. وهذا حديث صحيح أخرجه مسلم في صحيحه. وقال أبن الزبير لعبد الله بن جعفر: أتذكر يوم لقينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أنا وأنت فأخذ ابني فاطمة؟ فقال: نعم فحملنا وتركك، ولو علم أنه يقول له هذا ما سأله. ذكر ولاية محمد بن مروان الجزيرة وأرمينية وفي هذه السنة استعمل عبد الملك أخاه محمداً على الجزيرة وأرمينية فغزا منها وأثخن في العدو، وكانت بحيرة الطريخ التي بأرمينية مباحة لم يعرض لها أحد بل يأخذ منها من شاء، فمنع من صيدها وجعل عليها من يأخذه ويبيعه ويأخذ ثمنه، ثم صارت بعده لابنه مروان، ثم أخذت منه لما انتقلت الدولة عنهم، وهي إلى الآن على هذه الحال من لحجر، ومن سن سنة سيئة كان عليها وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة من غير أن ينقص من أوزارهم شيء. وهذا الطريخ من عجائب الدنيا لأن سمكه صغير له كل سنة موسم يخرج من هذه البحيرة في نهر يصب إليها كثيراً يؤخذ بالأيدي والآلات المصنوعة له، فإذا انقض موسمه لا يوجد منه شيء. ذكر قتل أبي فديك الخارجيقد ذكرنا سنة اثنتين وسبعين قتل نجدة بن عامر الخارجي وطاعة أصحابه أبا فديك، وثبت قدم أبي فديك إلى الآن، فأمر عبد الملك بن مروان عمر بن عبيد الله بن معمر أن يندب الناس من أهل الكوفة والبصرة ويسير إلى قتاله، فندبهم وانتدب معه عشرة آلاف، فأخرج لهم أرزاقهم، ثم سار بهم، وجعل أهل الكوفة على الميمنة وعليهم محمد بن موسى بن طلحة بن عبيد الله، وأهل البصرة على الميسرة وعليهم عمر بن موسى بن عبيد الله بن معمر، وهو ابن أخي عمر، وجعل خيله في القلب، وساروا حتى انتهوا إلى البحرين فالتقوا واصطفوا للقتال، فحمل أبو فديك وأصحابه حملة رجل واحد فكشفوا ميسرة عمر حتى أبعدوا إلا المغيرة بن الملهب ومجاعة بن عبد الرحمن وفرسان الناس، فإنهم مالوا إلى صف أهل الكوفة بالميمنة، وجرح عمر بن موسى. فلما رأى أهل الميسرة أهل الميمنة لم ينهزموا رجعوا وقاتلوا وما عليهم أمير لأن أميرهم عمر بن موسى جريحاً، فحملوه معهم، واشتد قتالهم حتى دخلوا عسكر الخوارج، وحمل أهل الكوفة من الميسرة حتى استباحوا عسكرهم وقتلوا أبا فديك وحصروا أصحابه بالمشقر فنزلوا على الحكم، فقتل منهم نحو ستة آلاف وأسر ثمانمائة، ووجدوا جارية عبد الله بن أمية حبلى من أبي فديك، وعادوا إلى البصرة. ذكر عدة حوادثفي هذه السنة عزل عبد الملك خالد بن عبد الله عن البصرة وولاها أخاه بشراً، في قول بعضهم، فاجتمع له المصران الكوفة والبصرة، فسار بشر إلى البصرة واستخلف على الكوفة عمرو بن حريث. وفيها غزا محمد بن مروان الروم صائفة فهزمهم. وفيها كانت وقعة عثمان بن الوليد بالروم من ناحية أرمينية في أربعة آلاف والروم في ستين ألفا، فهزمهم وأكثر القتل فيهم. وحج بالناس هذه السنة الحجاج، وكان على مكة واليمن واليمامة. وكلن على الكوفة والبصرة في قول بعضهم بشر بن مروان، وقيل: كان على الكوفة بشر، وعلى البصرة خالد بن عبد الله، وعلى قضاء الكوفة شريح بن عبد الحارث، وعلى قضاء البصرة هشام بن هبيرة، وعلى خراسان بكير بن وشاح. وفي هذه السنة مات عبد الله بن عمر بمكة ودفن بذي طوى، وقيل بفخ، وكان سبب موته أن الحجاج أمر بعض أصحابه فضرب ظهر قدمه بزج رمح مسموم فمات منها، وعاد الحجاج في مرضه، فقال: من فعل بك هذا؟ قال: أنت لأنك أمرت بحمل السلاح في بلد لا يحل حمله فيه. وكان موته بعد ابن الزبير بثلاثة أشهر، وقيل غير ذلك، وكلن عمره سبعاً وثمانين سنة. وفيها مات سلمة بن الأكوع. وأبو سعيد الخدري، ورافع بن خديج. ومالك بن مسمع أبو غسان البكري، وقيل: مات سنة أربع وستين، وولد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم
وتوفي سلم بن زياد بن أبيه قبل بشر بن مروان. وأسماء بنت أبي بكر بعد ابنها توطأ أمه، فطلقها. وفيها مات عوف بن مالك الأشجعي، وكان أول مشاهده خيبر. ومعاوية بن حديج قبل ابن عمر بيسير. وفيها مات معبد بن خالد الجهني وهو ابن ثمانين سنة، وله صحبة. وفيها قتل عبد الرحمن بن عثمان بن عبيد الله مع ابن الزبير، وهو ابن أخي طلحة بن عبيد الله، وله صحبة. رافع بن خديج بفتح الخاء المعجمة، وكسر الدال المهملة. ومعاوية بن حديج بضم الحاء، وفتح الدال المهملتين، وآخره جيم. ثم دخلت سنة أربع وسبعينوفي هذه السنة عزل عبد الملك طارقا عن المدينة واستعمل عليها الحجاج، فأقام بها شهراً وفعل بالصحابة ما تقدم ذكره، وخرج عنها معتمراً. وفيها هدم الحجاج بناء الكعبة الذي كان ابن الزبير بناه وأعادها إلى البناء الأول وأخرج الحجر منها، وكان عبد الملك يقول: كذب ابن الزبير على عائشة في أن الحجر من اليت، فلما قيل له: قال غير ابن الزبير إنها روت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال: وددت إني تركته وما يحمل. وفيها استقضى عبد الملك أبا إدريس الخولاني. ذكر ولاية المهلب حرب الأزارقةلما استعمل عبد الملك بشرا على البصرة سار إليها، فأتاه كتاب عبد الملك بأمره أن يبعث المهلب إلى حرب الأزراقة في أهل البصرة ووجوههم، وكان ينتخب منهم من أراد أن يتركه وراءه في الحرب، وأمره أن يبعث من أهل الكوفة رجلاً شريفاً بالبأس والنجدة والتجربة في جيش كثيف إلى المهلب، وأمرهم أن يتبعوا الخوارج أين كانوا حتى يهلكوهم. فأرسل المهلب جديع بن سعيد بن قبيصة، وأمره أن ينتخب الناس من الديوان، وشق على بشر أن إمرة المهلب جاءت من عبد الملك فأوغرت صدره عليه حتى كأنه أذنب إليه، فدعا عبد الرحمن بن مخنف فقال له: قد عرفت منزلتك عندي، وقد رأيت أن أوليك هذا الجيش الذي أسيره من الكوفة للذي عرفته منك، فكن عند أحسن ظني بك وانظر إلى هذا الكذا كذا، يقع في المهلب، فاستبد عليه بالأمر ولا تقبلن له مشورة ولا رأياً وتنقصه. قال عبد الرحمن: فترك أن يوصيني بالجيش وقتال العدو والنظر لأهل الإسلام وأقبل يغريني بابن عمي كأني من السفهاء، ما رأيت شخصاً مثلي طمع منه في مثل هذا، قال: فلما رأى أني لست بنشيط إلى جوابه قال لي: مالك؟ قلت: أصلحك الله، وهل يسعني إلا إنفاذ أمرك فيما أحببت وكرهت! وسار المهلب حتى نزل رامهرمز فلقي بها الخوارج فخندق عليه، وأقبل عبد الرحمن في أهل الكوفة ومعه بشر بن جرير ومحمد بن عبد الرحمن بن سعيد بن قيس وإسحاق بن محمد بن الأشعث وزحر بن قيس، فسار حتى نزل على ميل من المهلب حيث يتراءى العسكران برامهرمز، فلم يلبث العسكر إلا عشراً حتى أتاهم نعي بشر بن مروان، توفي بالبصرة، فتفرق ناس كثير من أهل البصرة وأهل الكوفة، واستخلف بشر على البصرة خالد بن عبد الله بن خالد، وكان خليفته على الكوفة عمرو بن حريث. وكان الذين انصرفوا من أهل الكوفة زحر بن قيس وإسحاق بن الأشعث ومحمد بن عبد الرحمن بن سعيد فأتوا الهواز، فاجتمع بها ناس كثير، فبلغ ذلك خالد بن عبد الله، فكتب إليهم يأمرهم بالرجوع إلى المهلب ويهددهم إن لم يفعلوا بالضرب والقتل، ويحذرهم عقوبة عبد الملك، فلما قرأ الرسول من الكتاب عليهم سطراً أو سطرين قال زحر: أوجز، فلما فرغ من قراءته لم يلتفت الناس إليه، وأقبل زحر ومن معه حتى نزلوا إلى جانب الكوفة وأرسلا إلى عمرو بن حريث. وكان الذين انصرفوا من أهل الكوفة زحر بن قيس وإسحاق بن محمد بن الأشعث ومحمد بن عبد الرحمن بن سعيد فأتوا الأهواز، فاجتمع بها ناس كثير، فبلغ ذلك خالد بن عبد الله، فكتب إليهم يأمرهم بالرجوع إلى المهلب ويهددهم إن لم يفعلوا بالضرب والقتل، ويحذرهم عقوبة عبد الملك، فلما قرأ الرسول من الكتاب عليهم سطراً أو سطرين قال زحر: أوجز، فلما فرغ من قراءته لم يلتفت الناس إليه، وأقبل زحر ومن معه حتى نزلوا إلى جانب الكوفة وأرسلا إلى عمرو بن حريث: إن النفر لما بلغهم وفاة الأمير تفرقوا فأقبلنا إلى مصر وأحببنا أن لا ندخل إلا بإذن الأمير. فكتب إليهم ينكر عليهم عودهم ويأمرهم بالرجوع إلى المهلب، ولم يأذن لهم في دخول الكوفة، فانتظروا الليل ثم دخلوا إلى بيوتهم فأقاموا حتى قدم الحجاج أميراً.
ذكرعزل بكير عن خراسان وولاية أمية بن عبد الله بن خالد في هذه السنة عزل عبد الملك بكير بن وشاح عن خراسان وولاها أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد، وكانت ولاية بكير سنتين. وكان سبب عزله أن تميماً اختلفت بها فصارت مقاعس والبطون يتعصبون لبحير، ويطلبون بكيراً، وصارت أوف والأنبياء يتعصبون لبكير، وكل هذه بطون من بني تميم، فخاف أهل خراسان أن تعود الحرب وتفسد البلاد ويقهرهم المشركون، فكتبوا إلى عبد الملك بذلك وأنها لا تصلح إلا على رجل من قريش لا يحسدونه ولايتعصبون عليه، فاستشار عبد الملك فيمن يوليه، فقال أمية: يا أمير المؤمنين تداركهم برجل منك. قال: لولا انهزامك عن أبي فديك كنت لها. قال: يا أمير المؤمنين، والله ما انهزمت حتى خذلني الناس ولم أجد مقاتلاً، فرأيت أن انحيازي إلى فئة أفضل من تعريضي عصبةً بقيت من المسلمين للهلكة، وقد كتب إليك خالد بن عبد الله بعذري، وقد علم الناس ذلك. فولاه خراسان. وكان عبد الملك يحبه، فقال الناس: ما رأينا أحداً عوض من هزيمة ما عوض أمية. فلما سمع بكير بمسيرة أرسل إلى بحير، وهو في حبسه، وقد تقدم ذكر ذلك في مقتل ابن خازم، يطلب منه الصلح، فامتنع بحير وقال: ظن بكير أن خراسان تبقى له في الجماعة. ومشت السفراء بينهم، فأبى ذلك بحير، فدخل عليه ضرار بن حصين الضبي فقال: أراك أحمق! يرسل إليك ابن عمك يعتذر إليك وأنت أسيره والسيف بيده ولو قتلك ما حبقت فلا تقبل منه! اقبل الصلح واخرج وأنت على رأس أمرك. فقبل منه وصالح بكيراً، فأرسل إليه بكير بأربعين ألفاً وأخذ عليه ألا يقاتله، وخرج بحير فأقام يسأل عن مسير أمية، فلما بلغه أنه قد قارب نيسابور سار إليه ولقيه بها فأخبره عن خراسان وما يحسن به طاعة أهلها ورفع على بكير أموالاً أخذها وحذره غدره وسار معه حتى قدم مرو، وكان أمية كريماً، ولا يعرض لبكير ولا لعماله، وعرض عليه شرطته فأبى، فولاها بحير بن ورقاء، فلام بكيراً رجال من قومه، فقال: كنت بالأمس أميراً تحمل الحراب بين يدي فأصير اليوم أحمل الحربة! ثم خير أمية بكيراً أن يوليه ما شاء من خراسان، فاختار طخارستان، قال: فتجهز لها، فأنفق مالاً كثيراً. فقال بحير لأمية: عن أتى طخارستان خلعك، وحذره فلم يوله. أسيد بفتح الهمزة، وكسر السين. وبحير بفتح الباء الموحدة، وكسر الحاء. ذكر ولاية عبد الله بن أمية سجستانلما وصل أمية بن عبد الله إلى كرمان استعمل ابنه عبد الله على سجستان، فلما قدمها غزا رتبيل الذي ملك بعد المقتول الأول، وكان رتبيل هائباً للمسلمين، فلما وصل عبد الله إلى بست أرسل رتبيل يطلب الصلح وبذل ألف ألفٍ، وبعث إليه بهدايا ورقيق، فأبى عبد الله قبول ذلك وقال: إن ملأ لي هذا الرواق ذهباً وإلا فلا صلح. وكان غراً، فخلى له رتبيل البلاد حتى أوغل فيها وأخذ عليه الشعاب والمضايق، وطلب أن يخلي عنه وعن المسلمين ولا يأخذ منه شيئاً، فأبى رتبيل وقال: بل يأخذ ثلاثمائة ألف درهم صلحاً ويكتب لنا به كتاباً ولا يغزو بلادنا ما كنت أميراً ولا يحرق ولا يخرب. ففعل، وبلغ ذلك عبد الملك فعزله. ذكر ولاية حسان بن النعمان إفريقيةقد ذكرنا ولاية زهير بن قيس سنة اثنتين وستين، وكان قتله سنة تسع وستين، فلما علم عبد الملك قتله عظم عليه وعلى المسلمين وأهمه ذلك، وشغله عن إفريقية ما كان بينه وبين ابن الزبير، فلما قتل ابن الزبير واجتمع المسلمون عليه جهز جيشاً كثيراً واستعمل عليهم وعلى إفريقية حسان بن النعمان الغساني وسيرهم إليها في هذه السنة، فلم يدخل إفريقية قط جيش مثله. فلما ورد القيروان تجهز منها وسار إلى قرطاجنة، وكان صاحبها أعظم ملوك إفريقية، ولم يكن المسلمون قط حاربوها، فلما وصل إليها رأى بها من الروم والبربر مالا يحصى كثرةً، فقتلهم وحصرهم وقتل منهم كثيراً، فلما رأوا ذلك اجتمع رأيهم على الهرب، فركبوا في مراكبهم وسار بعضهم إلى صقلية وبعضهم إلى الأندلس، ودخلها حسان بالسيف فسبى ونهب وقتلهم قتلاً ذريعاً وأرسل الجيوش فيما حولها، فأسرعوا إليه خوفاً، فأمرهم فهدموا من قرطاجنة ما قدروا عليه.
ثم لاغه أن الروم والبربر قد اجمعوا له في صطفورة وبنزرت، وهما مدينتان، فسار إليهم وقاتلهم ولقي منهم شدةً وقوة، فصبر لهم المسلمون، فانهزمت الروم وكثر اقتل فيهم واستولوا على بلادهم، ولم يترك حسان موضعاً من بلادهم إلا وطئة، وخافه أهل إفريقية خوفاً شديداً، ولجأ المنهزمون من الروم إلى مدينة باجة فتحصنوا بها، وتحصن البربر بمدينة بونة، فعاد حسان إلى القيروان لأن الجراح قد كثرت في أصحابه، فأقام بها حتى صحوا. ذكر تخريب إفريقيةلما صلح الناس قال حسان: دلوني على أعظم من بقي من ملوك إفريقية، فدلوه على امرأة تملك البربر تعرف بالكاهنة، وكانت تخبرهم بأشياء من الغيب، ولهذا سميت الكاهنة، وكانت بربرية، وهي بجبل أوراس، وقد اجتمع حولها البربر بعد قتل كسيلة، فسأل أهل إفريقية عنها فعظموا محلها وقالوا له: إن قتلتها لم تختلف البربر بعدها عليك. فسار إليها، فلما قاربها هدمت حصن باغاية ظناً منها أنه يريد الحصرن، فلم يعرج حسان على ذلك وسار إليها، فالتقوا على نهر نيني | |
|
| |
الشيخ عودة الشيخ عودة
عدد المساهمات : 1748 تاريخ التسجيل : 28/09/2008 العمر : 74
| موضوع: رد: كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير الثلاثاء فبراير 11, 2014 3:36 am | |
| وقيل: إنه لما قتل الكاهنة عاد من فوره إلى عبد الملك واستخلف على إفريقية رجلاً اسمه أبو صالح، غليه ينسب فحص صالح. ذكر عدة حوادثحج بالناس هذه السنة الحجاج بن يوسف، وكان على قضاء المدينة عبد الله بن قيس بن مخرمة، وعلى قضاء الكوفة شريح، وعلى قضاء البصرة هشام بن هبيرة. وقيل: إن عبد الملك اعتمر هذه السنة، ولا يصح. وفيها غزا محمد بن مروان الروم صائفة فبلغ أندولية. وفيها مات جابر بن سمرة السوائي في إمارة بشر بن مروان بالكوفة، وفي إمارته أيضاً مات أبو جحيفة بالكوفة. وفيها مات عمرو بن ميمون الأودي، وقيل: سنة خمس وسبعين، وكان قد أدرك الجاهلية، وهو من المعمرين. وفيها مات عبد الله بن عتبة بن مسعود، وكان من عمال عمر، وقيل: مات سنة ثلاث وسبعين. وفيها مات عبد الرحمن بن عثمان التيمي، وله صحبة. وفيها مات محمد بن حاطب بن الحارث الجمحي، وكان مولده بأرض الحبشة، وأتي به النبي صلى الله عليه وسلم ،. وفيها مات أبو سعيد بن معلى الأنصاري. وفيها مات أوس بن ضمعج الكوفي. ضمعج بالضاد المعجمة والجيم. ثم دخلت سنة خمس وسبعينفي هذه السنة غزا محمد بن مروان الصائفة حين خرجت الروم من قبل مرعش. ذكر ولاية الحجاج بن يوسف العراقفي هذه السنة ولى عبد الملك الحجاج بن يوسف العاق دون خراسان وسجستان، فأرسل إليه عبد الملك بعهده على العراق وهو بالمدينة وأمره بالمسير إلى العراق، فسار في اثني عشر راكباً على النجائب حتى دخل الكوفة حين انتشر النهار فجأة، وقد كان بشر بعث المهلب إلى الخوارج، فبدأ الحجاج بالمسجد فصعد المنبر وهو متلثم بعمامة خز حمراء فقال: علي بالناس وهو ساكت قد أطال السكوت، فتناول محمد بن عمير حصباء وأراد أن يحصبه بها وقال: قاتله الله ما أغباه وأذمة! والله إني لأحسب خبره كروائه. فلما تكلم الحجاج جعلت الحصباء تنتثر من يده وهو لا يعقل به، قال: ثم كشف الحجاج عن وجهه وقال: أنا ابن جلا وطلاع الثنايا ... متى أضع العمامة تعرفوني أما واله إني لأحمل الشر محمله وآخذه بفعله واجزيه بمثله، وغني لأرى رؤوساً قد أينعت وقد حان قطافها، إني لأنظر إلى الدماء بين العمائم واللحى قد شمرت عن ساقها تشميراً وأنشد: هذا أوان الحرب فاشتدي زيم ... قد لفها الليل بسواقٍ حطم ليس براعي إبلٍ ولا غنم ... ولا بجزارٍ على لحم وضم ثم قال: قد لفها الليل بعصلبي ... أروع خراجٍ من الدوي مهاجرٍ ليس بأعرابي ليس أوان بكرة الخلاط ... جاءت به والقلص الأعلاط تهوي هوي سائقٍ الغطاط إني والله يا أهل العراق ما أغمز كتغماز التين، ولا يقعقع لي بالشنان، ولقد فررت عن ذكاء، وجريت إلى الغاية القصوى. ثم قرأ: " ضرب الله مثلاً قرية كانت آمنة مطمئنةً بأتيها رزقها رغداً من كل مكانٍ فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون " النحل:112؛ وأنتم أولئك وأشباه أولئك، عن أمير المؤمنين عبد الملك نثر كنانته فعجم عيدانها فوجدني أمرها عوداً وأصلبها مكسراً فوجهني إليكم ورمى بي في نحوركم، فإنكم أهل بغي وخلاف وشقاق ونفاق، فإنكم طالما أوضعتم في الشر وسننتم سنن الغي فاستوثقوا واستقيموا، فوالله لأذيقنكم الهوان ولأمرينكم به حتى تدروا، ولألحونكم لحو العود، ولأعصبنكم عصب السلمة حتى تذلوا، ولأضربنكم ضرب غرائب الإبل حتى تذروا العصيان وتنقادوا، ولأقرعنكم قرع المروة حتى تلينوا، إني والله ما أعد إلا وفيت، ولا أخلق إلا فريت، فإياي وهذه الجماعات فلا يركبن رجل إلا وحده، أقسم بالله لتقبلن على الإنصاف، ولتدعن الإرجاف، وقيلاً وقالاً وما تقول وما يقول وأخبرني فلان، أو لأدعن لكل رجل منكم شغلاً في جسده! فيم أنتم وذاك؟ والله لتستقيمن على الحق أو لأضربنكم بالسيف ضرباً يدع النساء أيامى، والولدان يتامى، حتى تذروا السمهى، وتقلعوا عن ها وها، ألا إنه لو ساغ لأهل المعصية معصيتهم ما جبي فيء، ولا قوتل عدو، ولعطلت الثغور، ولولا أنهم يغزون كرهاً ما غزوا طوعاً! وقد بلغني رفضكم المهلب وإقبالكم على مصركم عاصين مخالفين، وإني أقسم بالله لا أجد أحداً من عسكره بعد ثلاثة إلا ضربت عنقه وأنهيت داره!
ثم أمر بكتاب عبد الملك فقرئ على أهل الكوفة، فلما قال القارئ: أما بعد، سلام عليكم فإني أحمد الله إليكم، قال له: اقطع، ثم قال: يا عبيد العصا يسلم عليكم أمير المؤمنين فل يرد راد منكم السلام! أما والله لأؤدبنكم غير هذا الأدب! ثم قال للقارئ: اقرأ، فلما قرأ سلام عليكم قالوا بأجمعهم: سلام الله على أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته. ثم دخل منزله لم يزد على ذلك، ثم دعا العرفاء وقال: ألحقوا الناس بالمهلب وائتوني بالبراءات بموافاتهم ولا تغلقن أبواب الجسر ليلاً ولا نهاراً حتى تنقضي هذه المدة. تفسير هذه الخطبةقوله: أنا ابن جلا، فابن جلا هو الصبح لأنه يجلو الظلمة. وقوله: فاشتدي زيم، هو اسم للحرب، والحطم الذي يحطم كل ما مر به، والوضم ما وقي به اللحم عن الأرض، والعصلبي الشديد، والأعلاط من الإبل التي لا أرسان عليها. وقوله: فعجم عيدانها، أي عضها واختبرها. وقوله: لأعصبنكم عصب السلمة، فالعصب القطع، والسلم شجر من العضاه. وقوله: لا اخلق إلا فريت، فالخلق لتقدير، ويقال: فريت الأديم إذا أصلحته. والسمهى: الباطل، وأصله ما تسميه العامة مخاط الشيطان. والعطاط، بضم لعين، وقيل بفتحها: ضرب من الطير. فلما كان اليوم الثالث سمع تكبيراً في السوق فخرج حتى جلس على المنبر فقال: يا أهل العراق وأهل الشقاق والنفاق ومساوئ الأخلاق! إني سمعت تكبيراً ليس بالتكبير الذي يراد به وجه الله ولكنه التكبير الذي يراد به الترهيب، وقد عرفت أنها عجاجة تحتها قصف، يا بني اللكيعة وعبيد العصا وأبناء الأيامى ألا يربع رجل منكم على ظلعة، ويحسن حقن دمه، ويعرف موضع قدمه! فأقسم بالله لأوشك أن أوقع بكم وقعة تكون نكالاً لما قبلها وأدباً لما بعدها. فقام عمير بن ضابئ الحنظلي التيمي فقال: أصلح الله الأمير، أنا في هذا البعث وأنا شيخ كبير عليل وابني هذا أشب مني. فقال الحجاج: هذا خير لنا من أبيه، ثم قال: ومن أنت؟ قال: أنا عمير بن ضابئ. قال: أسمعت كلامنا بالأمس؟ قال: نعم. قال: ألست الذي غزا عثمان بن عفان؟ قال: بلى. قال: يا عدو الله أفلا إلى عثمان بعثت بدلاً؟ وما حملك على ذلك؟ قال: إنه حبس أبي وكان شيخاً كبيراً. قال: أولست القائل: هممت ولم أفعل وكدت وليتني ... تركت على عثمان تبكي حلائله إني لأحسب أن في قتلك صلاح المصرين. وأمر به فضربت رقبته وأنهب ماله. وقيل: إن عنبسة بن سعيد بن العاص قال للحجاج: أتعرف هذا؟ قال: لا. قال: هذا أحد قتلة عثمان. فال الحجاج: أي عدو الله! أفلا إلى أمير المؤمنين بعثت بديلاً؟ ثم أمر به فضربت عنقه، وأمر منادياً فنادى: ألا إن عمير بن ضابئ أتى بعد ثلاثة وكان سمع النداء فأمرنا بقتله، ألا إن ذمة الله بريئة ممن لم يأت الليلة من جند المهلب. فخرج الناس فازدحموا على الجسر، وخرج العرفاء إلى المهلب، وهو برامهر مز، فأخذوا كتبه بالموافاة. فقال المهلب: قدم العراق اليوم رجل ذكر، اليوم قوتل العدو. فلما قتل الحجاج عميراً لقي إبراهيم بن عامر الأسدي عبد الله بن الزبير فسأله عن الخبر، فقال: أقول لإبراهيم لما لقيته ... أرى الأمر أضحى منصباً متشعبا تجهز وأسرع فالحق الجيش لا أرى ... سوى الجيش إلا في المهالك مذهبا تخير فإما أن تزور ابن ضابئٍ ... عميراً وإما أن تزور المهلبا هما خطتا خسفٍ نجاؤك منهما ... ركوبك حولياً من الثلج أشهبا فحال ولو كانت خراسان دونه ... رآها مكان السوق أو هي أقربا فكائن ترى من مكره الغزو مسمراً ... تحمم حنو السرج حتى تحنبا تحمم أي لزمه حتى صار كالحميم. وتحنب: اعوج. والزبير ههنا بفتح الزاي وكسر الباء. قيل: وكان قدوم الحجاج في شهر رمضان، فوجه الحكم بن أيوب الثقفي على البصرة أميراً وأمره أن يشتد على خالد بن عبد الله، فبلغ خالداً الخبر فخرج عن البصرة فنزل الجلحاء وشيعه أهل البصرة فقسم فيهم ألف ألفٍ.
فكان الحجاج أول من عاقب بالقتل على التخلف عن الوجه الذي يكتب إليه. قال الشعبي: كان الرجل إذا أخل بوجهه الذي يكتب إليه زمن عمر وعثمان وعلي نزعت عمامته ويقام للناس ويشهر أمره، فلما ولي مصعب قال: ما هذا بشيء، وأضاف إليه حلق الرؤوس واللحى، فلما ولي بشر بن مروان زاد فيه فصار يرفع الرجل عن الأرض ويسمر في يديه مسماران في حائط، فربما مات وربما خرق المسمار كفه فسلم، فقال شاعر: لولا مخافة بشرٍ أو عقوبته ... وان ينوط في كفي مسمار إذاً لعطلت ثغري ثم زرتكم ... إن المحب لمن يهواه زوار فلما كان الحجاج قال: هذا لعب، أضرب عنق من يخل مكانه من الثغر. ذكر ولاية سعيد بن أسلم السند وقتلهفي هذه السنة استعمل عبد الملك على السند سعيد بن أسلم بن زرعة، فخرج عليه معاوية ومحمد ابنا الحارث العلاقيان فقتلاه وغلبا على البلاد، فأرسل الحجاج مجاعة بن سعر التميمي إلى السند فغلب على ذلك الثغر وغزا وفتح أماكن من قندابيل، ومات مجاعة بعد سنة بمكران فقيل فيه: ما من مشاهدك التي شاهدتها ... إلا يزيدك ذكرها مجاعا ذكر وثوب أهل البصرة بالحجاجفي هذه السنة خرج الحجاج من الكوفة إلى البصرة واستخلف على الكوفة عروة بن المغيرة بن شعبة، فلما قدم البصرة خطبهم بمثل خطبته بالكوفة وتوعد من رآه منهم بعد ثلاثة ولم يلحق بالمهلب، فأتاه شريك بن عمرو اليشكري، وكان به فتق، وكان أعور يضع على عينه قطعةً، فلقب ذا الكرسفة، فقال: أصلح الله الأمير، إن بي فتقاً وقد رآه بشر بن مروان فعذرني، وهذا عطائي مردود في بيت المال فأمر به فضربت عنقه، فلم يبق بالبصرة أحد من عسكر المهلب إلا لحق به. فقال المهلب: لقد أتى العراق رجل ذكر. وتتابع الناس مزدحمين إليه حتى كثر جمعه. ثم سار الحجاج إلى رستقباذ، وبينها وبين المهلب ثمانية عشر فرسخاً، وإنما أراد أن يشد ظهر المهلب وأصحابه بمكانه، فقام برستقباذ خطيباً حين نزلها فقال: يا أهل المصرين! هذا المكان والله مكانكم شهراً بعد شهر وسنةً بعد سنة حتى يهلك الله عدوكم هؤلاء الخوارج المطلين عليكم. ثم إنه خطب يوماً فقال: إن الزيادة التي زادكم إياها ابن الزبير إنما هي زيادة مخسرة باطلة من ملحد فاسق منافق ولسنا نجيزها! وكان مصعب قد زاد الناس في العطاء مائة مائة. فقال عبد الله بن الجارود: إنها ليست بزيادة ابن الزبير إنما هي زيادة أمير المؤمنين عبد الملك قد أنفذها وأجازها على يد أخيه بشر. فقال له الحجاج: ما أنت والكلام لتحسنن حمل رأسك أو لأسلبنك إياه فقال: ولم؟ إني لك لناصح وإن هذا القول من ورائي. فنزل الحجاج ومكث أشهراً لا يذكر الزيادة ثم أعاد القول فيها، فرد عليه ابن الجارود مثل رده الأول. فقام مصقلة بن كرب العبدي أبو رقبة ابن مصقلة المحدث عنه فقال: إنه ليس للرعة أن ترد على راعيها، وقد سمعنا ما قال الأمير، فسمعاً وطاعةً فيما أحببنا وكرهنا. فقال له عبد الله بن الجارود: يا ابن الجرمقانية! ما أنت وهذا! ومتى كان مثلك يتكلم وينطق في مثل هذا؟ وأتى الوجوه عبد الله بن الجارود فصوبوا رأيه وقوله، وقال الهذيل بن عمران البرجمي وعبد الله بن حكيم بن زياد المجاشعي وغيرهما: نحن معك وأعوانك، إن هذا الرجل غير كافٍ حتى ينقصنا هذه الزيادة، فهلم نبايعك على إخراجه من العراق ثم نكتب إلى عبد الملك نسأله أن يولي علينا غيره، فإن أبى خلعناه، فإنه هائب لنا ما دامت الخوارج. فبايعه الناس سراً وأعطوه المواثيق على الوفاء وأخذ بعضهم على بعضهم العهود.
وبلغ الحجاج ما هم فيه فأحرز بيت المال واحتاط فيه. فلما تم لهم أمرهم أظهروه، وذلك في ربيع الآخر سنة ست وسبعين، وأخرج عبد الله بن الجارود عبد القيس على راياتهم، وخرج الماس معه حتى بقي الحجاج وليس معه إلا خاصته وأهل بيته، فخرجوا قبل الظهر، وقطع ابن الجارود ومن معه الجسر، وكانت خزائن الحجاج والسلاح من ورائه. فأرسل الحجاج أعين، صاحب حمام أعين بالكوفة، إلى ابن الجارود يستدعيه إليه، فقال ابن الجارود: ومن الأمير! لا ولا كرامة لابن أبي رغال! ولكن ليخرج عنا مذموناً مدحوراً وإلا قاتلناه! فقال أعين: فإنه يقول لك أتطيب نفساً بقتلك وقتل أهل بيتك وعشيرتك؟ والذي نفسي بيده لئن لم يأتني لأدعن قومك عامة وأهلك خاصة حديثاً للغابرين. وكان الحجاج قد حمل أعين هذه الرسالة. فقال ابن الجارود: لولا أنك رسول لقتلتك يا ابن الخبيثة! وأمر فوجئ في عنفه وأخرج. واجتمع الناس لابن الجارود، فأقبل بهم زحفاً نحو الحجاج، وكان رأيهم أن يخرجوه عنهم ولا يقاتلوه، فلما صاروا إليه نهبوه في فسطاطه وأخذوا ما قدروا عليه من متاعه ودوابه، وجاء أهل اليمن فأخذوا امرأته ابنة النعمان بن بشير، وجاءت مضر فأخذوا امرأته الأخرى أم سلمة بنت عبد الرحمن بن عمرو أخي سهيل بن عمرو. فخافه السفهاء، ثم إن القوم انصرفوا عن الحجاج وتركوه، فأتاه قوم من أهل البصرة فصاروا معه خائفين من محاربة الخليفة. فجعل الغضبان بن القبعثري الشيباني يقول لابن الجارود: تعش بالجدي قبل أن يتغدى بك، أما ترى من قد أتاه منكم؟ ولئن أصبح ليكثرن ناصره ولتضعفن منتكم! فقال: قد قرب المساء ولكنا نعاجله بالغداة. وكان مع الحجاج عثمان بن قطن وزياد بن عمرو العتكي، وكان زياد على شرطة البصرة، فقال لهما: ما تريان؟ فقال زياد: أن آخذ لك من القوم أماناً وتخرج حتى تلحق بأمير المؤمنين فقد ارفض أكثر الناس عنك ولا أرى لك أن تقاتل بمن معك. فقال عثمان بن قطن الحارثي: لكني لا أرى ذلك، إن أمير المؤمنين قد شركك في أمرك وخلطك بنفسك واستنصحك وسلطك فسرت إلى ابن الزبير، وهو أعظم الناس خطراً، فقتلته، فولاك الله شرف ذلك وسناه، وولاك أمير المؤمنين الحجاز، ثم رفعت فولاك العراقين، فحيث جريت إلى المدى وأصبت الغرض الأقصى تخرج على قعود إلى الشام، والله لئن فعلت لا نلت من عبد الملك مثل الذي أنت فيه من سلطان أبداً وليتضعن شأنك، ولكني أرى أن نمشي بسيوفنا معك فنقاتل حتى نلقى ظفراً أو نموت كراماً. فقال له الحجاج: الرأي ما رأيت. وحفظ هذا لعثمان وحقدها على زياد بن عمرو. وجاء عامل بن مسمع إلى الحجاج فقال: إني قد أخذت لك أماناً من الناس، فجعل الحجاج يرفع صوته ليسمع الناس ويقول: والله لا أؤمنهم أبداً حتى يأتوا بالهذيل وعبد الله بن حكيم. وأرسل إلى عبيد بن كعب النميري يقول: هلم إلي فامنعني. فقال: قل له إن أتيتني منعتك. فقال: لا ولا كرامة! وبعث إلى محمد بن عمير بن عطارد كذلك، فأجابه مثل الجواب الأول، فقال: لا ناقتي في هذا ولا جملي. وأرسل إلى عبد الله بن حكيم المجاشعي فأجابه كذلك أيضاً. ومر عبد بن الحصين الحبطي بابن الجارود وابن الهذيل وعبد الله بن حكيم وهم يتناجون، فقال: أشركونا في نجواكم. فقالوا: هيهات أن يدخل في نجوانا أحد من بني الحبط! فغضب وصار إلى الحجاج في مائة رجل، فقال له الحجاج: ما أبالي من تخلف بعدك. وسعى قتيبة بن مسلم في قومه في يحيى أعصر؟ وقال: لا والله لا ندع قيساً يقتل ولا ينهب ماله، يعني الحجاج، وأقبل إلى الحجاج. وكان الحجاج قد يئس من الحياة، فلما جاءه هؤلاء اطمأن، ثم جاءه سبرة بن علي الكلابي وسعيد بن أسلم بن زرعة الكلابي فسلم، فأدناه منه، وأتاه جعفر بن عبد الرحمن بن مخنف الأزدي، وأرسل إليه مسمع بن مالك بن مسمع: إن شئت أتيتك وإن شئت أقمت وثبطت الناس عنك. فقال: أقم وثبط الناس عني. فلما اجتمع إلى الحجاج جمع يمنع بمثلهم خرج فعبأ أصحابه ولتلاحق الناس به، فلما أصبح إذا حوله نحو ستة آلاف، وقيل غير ذلك. فقال ابن الجارود لعبيد الله بن زياد بن ظبيان: ما الرأي؟ قال: تركت الرأي أمس حين قال لك الغضبان تعش بالجدي قبل أن يتغذى بك، وقد ذهب الرأي وبقي الصبر.
فدعا ابن الجارود بدرع فلبسها مقلوبة فتطير. وحرض الحجاج أصحابه وقال: لا يهولنكم ماترون من كثرتهم. وتزاحف القوم وعلى ميمنة الحجاج قتيبة بن مسلم، ويقال عباد بن الحصين، وعلى ميسرته سعيد بن أسلم؛ فحمل ابن الجارود في أصحابه حتى جاز أصحاب الحجاج، فعطف الحجاج عليه، ثم اقتتلوا ساعةً وكاد ابن الجارود يظفر فأتاه سهم غرب فأصابه فوقع ميتاً. ونادى منادي الحجاج بأمان الناس إلا الهذيل وعبد الله بن حكيم، وأمر أن لا يتبع المنهزمون، وقال: الاتباع من سوء الغلبة. فانهزم عبيد الله بن زياد بن ظبيان، وأتى سعيد بن عياذ بن الجلندي الأزدي بعمان، فقيل لسعيد: غنه رجل فاتك فاحذره، فلما جاء البطيخ بعث إليه بنصف بطيخة مسمومة وقال: هذا أول شيء جاء من البطيخ وقد أكلت نصف بطيخة وبعثت بنصفها، فأكلها عبيد الله فأحسن بالشر فقال: أردت أن أقتله فقتلني. وحمل رأس ابن الجارود وثمانية عشر رأساً من وجوه أصحابه إلى المهلب فنصبت ليراها الخوارج وييأسوا من الاختلاف. وحبس الحجاج عبيد بن كعب ومحمد بن عمير حيث قالا للحجاج: تأتينا لنمنعك. وحبس الغضبان بن القبعثري وقال له: أنت القائل تعش بالجدي قبل أن يتغدى بك؟ فقال: ما نفعت من قيلتي له ولا ضررت من قيلتي فيك. فكتب عبد الملك إلى الحجاج بإطلاقه. وقتل مع ابن الجارود عبد الله بن أنس بن مالك الأنصاري، فقال الحجاج: ألا أرى أنساً يعين علي! فلما دخل البصرة أخذ ماله، فحين دخل عليه أنس قال: لا مرحباً ولا أهلاً بك يا ابن الخبيثة! شيخ ضلالة جوال في الفتن مرة مع أبي تراب ومرة مع ابن الزبير ومرة مع ابن الجارود أما والله لأجردنك جرد القضيب، ولأعصبنك عصب السلمة، ولأقلعنك قلع الصمغة! فقال أنس: من يعني الأمير؟ قال: إياك أعني، أصم الله صداك! فرجع أنس فكتب إلى عبد الملك كتباً يشكو فيه الحجاج وما صنع به. فكتب عبد الملك إلى الحجاج: أما بعد يا ابن أم الحجاج فإنك عبد طمت بك الأمور فعلوت فيها حتى عدوت طورك وجاوزت قدرك، يا ابن المستفرمة بعجم الزبيب لأغمرنك غمزة كبعض غمزات الليوث الثعالب، ولأخبطنك خبطةً تود لها أنك رجعت في مخرجك من بطن أمك، أما تذكر حال آبائك في الطائف حيث كانوا ينقلون الحجارة على ظهورهم ويحتفرون الآبار بأيديهم في أوديتهم ومياههم؟ أنسيت حال آبائك في اللؤم والدناءة في المروة والخلق؟ وقد بلغ أمير المؤمنين الذي كان منك إلى أنس بن مالك جرأة وإقداماً، وأظنك أردت أن تسبر ما عند أمير المؤمنين في أمره فتعلم إنكاره ذلك وإغضاءه عنك، فإن سوغك ما كان منك مضيت عليه قدماً، فعليك لعنة الله من عند أخفش العينين أصك الرجلين ممسوح الجاعرتين! ولولا أن أمير المؤمنين يظن أن الكاتب أكثر في الكتابة عن الشيخ إلى أمير المؤمنين فيك لأرسل من يسحبك ظهراً لبطن حتى يأتي بك أنساً فيحكم فيك، فأكرم أنساً وأهل بيته واعرف له حقه وخدمته رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا تقصرن في شيء من حوائجه ولا يبلغن أمير المؤمنين عنك خلاف ما تقدم فيه إليك من أمر أنس وبره وإكرامه فيبعث إليك من يضرب ظهرك ويهتك سترك ويشمت بك عدوك، والقه في منزله متنصلاً إليه، وليكتب إلى أمير المؤمنين برضاه عنك إن شاء الله، والسلام. وبعث بالكتاب مع إسماعيل بن عبد الله مولى بني مخزوم، فأتى إسماعيل أنساً بكتاب أمير المؤمنين إليه فقرأه، وأتى الحجاج بالكتاب إليه فجعل يقرأه ووجهه يتغير وجبينه يرشح عرقاً ويقول: يغفر الله لأمير المؤمنين. ثم اجتمع بأنس فرحب به الحجاج واعتذر إليه وقال: أردت أن يعلم أهل العراق إذ كان من ابنك ما كان وإذ بلغت منك ما بلغت أني إليهم بالعقوبة أسع.
فقال أنس: ما شكوت حتى بلغ مني الجهد وحتى زعمت أنا الأشرار وقد سمانا الله الأنصار، وزعمت أنا أهل النفاق ونحن الذين تبوأوا الدار والإيمان، وسيحكم الله بيننا وبينك فهو أقدر على التغيير، لا يشبه الحق عنده الباطل ولا الصدق الكذب، وزعمت أنك اتخذتني ذريعةً وسلماً إلى مساءة أهل العراق باستحلال ما حرم الله عليك مني، ولم يكن لي عليك قوة فوكلتك إلى الله ثم إلى أمير المؤمنين فحفظ من حقي ما لم تحفظ، فوالله لو أن النصارى على كفرهم رأوا رجلاً خدم عيسى بن مريم يوماً واحداً لعرفوا من حقه ما لم تعرف أنت من حقي، وقد خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عشر سنين. وبعد فإن رأينا خيراً حمدنا الله عليه وأثنينا، وإن رأينا غي ذلك صبرنا، والله المستعان. ورد عليه الحجاج ما كان أخذ منه. ذكر شير زنجي والزنج معهاجتمع الزنج بفرات البصرة في آخر أيام مصعب بن الزبير، ولم يكونوا بالكثير، فأفسدوا وتناولوا الثمار، وولي خالد بن عبيد الله بن خالد البصرة وقد كثروا، فشكا الناس إليه ما نالهم منهم، فجمع لهم جيشاً، فلما بلغهم ذلك تفرقوا وأخذ بعضهم فقتلهم وصلبهم. فلما كان من أمر ابن الجارود ما ذكرنا خرج الزنج أيضاً فاجتمع منهم خلق كثير بالفرات وجعلوا عليهم رجلاً اسمه رباح، ويلقب شير زنجي، يعني أسد الزنج، فأفسدوا، فلما فرغ الحجاج من ابن الجارود أمر زياد بن عمرو، وهو على شرطة البصرة، أن يرسل إليهم جيشاً يقاتلهم، ففعل وسير إليهم جيشاً عليه ابنه حفص بن زياد فقاتلهم فقتلوه وهزموا أصحابه، ثم أرسل إليهم جيشاً آخر فهزم الزنج وقتلهم واستقامت البصرة. ذكر إجلاء الخوارج عن رامهر مز وقتل ابن مخنفلما أتى كتاب الحجاج إلى المهلب وابن مخنف يأمرهما بمناهضة الخوارج، زحفوا إليهم وقاتلوهم شيئاً من قتال، فانهزمت الخوارج كأنهم على حامية، ولم يكن منه قتال، وسار الخوارج حتى نزلوا كازرون، وسار المهلب وابن مخنف حتى نزلوا بهم، وخندق المهلب على نفسه وقال لابن مخنف: إن رأيت أن تخندق عليك فافعل. فقال أصحابه: نحن خندقنا سيوفنا. فأتى الخوارج المهلب ليبيتوه فوجدوه قد تحرز، فمالوا نحو ابن مخنف فوجدوه لم يخندق فقاتلوه فانهزم عنه أصحابه، فنزل فقاتل في أناس من أصحابه فقتل وقتلوا حوله كلهم، فقال شاعرهم: لمن العسكر المكلل بالصر ... عى فهم بين ميتٍ وقتيل فتراهم تسفي الرياح عليهم ... حاصب الرمل بعد جر الذيول هذا قول أهل البصرة. فأما أهل الكوفة فإنهم ذكروا أنه لما وصل كتاب الحجاج بمناهضة الخوارج ناهضهم المهلب وعبد الرحمن فاقتتلوا قتالاً شديداً ومالت الخوارج إلى المهلب فاضطروه إلى عسكره، فأرسل إلى عبد الرحمن يستمده، فأمده عبد الرحمن بالخيل والرجال، وكان ذلك بعد الظهر لعشر بقين من رمضان. فلما كان بعد العصر ورأت الخوارج ما يجيء من عسكر عبد الرحمن من الرجال، ظنوا أنه قد خف أصحابه، فجعلوا بإزاء المهلب من يشغله وانصرفوا بجندهم إلى عبد الرحمن، فلما رآهم قد قصدوه نزل ونزل معه القراء، منهم: أبو الأحوص، صاحب ابن مسعود، وخزيمة بن نصر أبو نصر بن خزيمة العبسي، الذي قتل مع زيد بن علي وصلب معه بالكوفة، ونزل معه من قومه أحد وسبعون رجلاً، وحملت عليهم الخوارج فقاتلهم قتالاً شديداً وانكشف الناس عنه وبقي في عصابة من أهل الصبر ثبتوا معه، وكان ابنه جعفر بن عبد الرحمن فيمن بعثه إلى المهلب، فنادى في الناس ليتبعوه إلى أبيه، فلم يتبعه إلا ناس قليل، فجاء حتى دنا من أبيه، فحالت الخوارج بينهما، فقاتل حتى جرح. وقاتل عبد الرحمن ومن معه على تل مشرف حتى ذهب نحو من ثلثي الليل، ثم قتل في تلك العصابة، فلما أصبحوا جاء المهلب فدفنه فصلى عليه وكتب بذلك إلى الحجاج، فكتب الحجاج إلى عبد الملك بذلك، فترحم عليه وذم أهل الكوفة.
وبعث الحجاج إلى عسكر عبد الرحمن عتاب بن ورقاء وأمره أن يسمع للمهلب، فساءه ذلك ولم يجد بداً من طاعته، فجاء إلى العسكر وقاتل الخوارج وأمره إلى المهلب وهو يقضي أموره ولا يكاد يستشير المهلب. فوضع عليه المهلب رجالاً اصطنعهم وأغراهم به، منهم بسطام بن مصقلة بن هبيرة. وجرى بين عتاب والمهلب ذات يوم كلام أغلظ كل منهما لصاحبه، ورفع المهلب القضيب على عتاب، فوثب إليه ابنه المغيرة بن المهلب فقبض القضيب وقال: أصلح الله الأمير! شيخ من أشياخ العرب وشريف من أشرافهم، إن سمعت منه بعض ما تكره فاحتمله له فإنه لذلك أهل. ففعل، فافترقا، فأرسل عتاب إلى الحجاج يشكو المهلب ويسأله أن يأمره بالعود إليه، فوافق ذلك حاجةً من الحجاج إليه فيما لقي أشراف الكفة من شبيب، فاستقدمه وأمره أن يترك ذلك الجيش مع المهلب، فجعل المهلب عليهم ابنه حبيباً. وقال سراقة بن مرداس البارقي يرثي عبد الرمن بن مخنف: ثوى سيد الأزدين أزد شنوءةٍ ... وأزاد عمان رهن رمسٍ بكازر وضارب حتى مات أكرم ميتةٍ ... بأبيض صافٍ كالعقيقة باتر وصرع حول التل تحت لوائه ... كرام المساعي من كرام المعاشر قضى نحبه يوم اللقاء ابن مخنفٍ ... وأدبر عنه كل ألوث داثر أمد ولم يمدد فراح مشمراً ... إلى الله لم يذهب بأثواب غادر وأقام المهلب بسابور يقاتلهم نحواً من سنة. ذكر عدة حوادثفي هذه السنة تحرك صالح بن مسرح أحد بني امرئ القيس بن زيد مناة من تميم، وكان يرى رأي الصفرية، وهو أول من خرج فيهم، وحج هذه السنة ومعه شبيب بن يزيد وسويد والبطين وأشباههم؛ وحج في هذه السنة عبد الملك بن مروان، فهم شبيب أن يفتك به فبلغه ذلك من خبرهم، فكتب إلى الحجاج بن يوسف بعد انصرافه يأمره بطلبهم، وكان شيخاً صالحاً يأتي الكوفة فيقيم بها الشهر ونحوه فيلقى أصحابه ويعد ما يحتاج إليه، فلما طلبه الحجاج نبت به الكوفة فتركها. وفيها غزا محمد بن مروان الصائفة عند خروج الروم إلى الغنيق من ناحية مرعش. وحج بالناس عبد الملك فخطب الناس بالمدينة فقال بعد حمد الله والثناء عليه: أما بعد فإني لست بالخليفة المستضعف، يعني عثمان، ولا بالخليفة المداهن، يعني معاوية، ولا بالخليفة المأفون، يعني يزيد، ألا وإني لا أدواي هذه الأمة إلا بالسيف حتى تستقيم لي قناتكم، وإنكم تحفظوننا أعمال المهاجرين الأولين ولا تعلمون مثل أعمالهم، وإنكم تأمروننا بتقوى الله وتنسون ذلك من أنفسكم، والله لا يأمرني أحد بتقوى الله بعد مقامي هذا إلا ضربت عنقه. ثم نزل. وفي هذه السنة مات العرباض بن سارية السلمي، وهو من أهل الصفة، وقيل: بل مات بالشام في فتنة ابن الزبير. وفيها توفي الأسود بن يزيد النخعي، وهو ابن أخي علقمة بن قيس. ثم دخلت سنة ست وسبعين ذكر خروج صالح بن مسرح كان صالح بن مسرح التميمي رجلاً ناسكاً مصفر الوجه عبادة، وكان بداراً وأرض الموصل والجزيرة، وله أصحاب يقرأ بهم القرآن والفقه ويقص عليهم، فدعاهم إلى الخروج وإنكار الظلم وجهاد المخالفين لهم، فأجابوه، وحثهم عليهم، فراسل أصحابه بذلك وقلاقوا به، فبينا هم في ذلك إذ قدم عليه كتاب شبيب يقول له: غنك كنت تريد الخروج فإن كان ذلك من شأنك اليوم فأنت شيخ المسلمين ولن نعدل بك أحداً، وإن أردت تأخير ذلك اليوم أعلمني فإن الآجال غادية ورائحة ولا آمن أن تختر مني المنية ولم أجاهد الظالمين. فكتب إليه صالح: إنه لم يمنعني من الخروج إلا انتظارك، فأقبل إلينا فإنك ممن لا يستغنى عن رأيه ولا تقضى دونه الأمور. فلما قرأ شبيب كتابه دعا نفراً من أصحابه، منهم: أخوه مصاد بن يزيد بن نعيم الشيباني والمحلل بن وائل اليشكري وغيرهما، وخرج بهم حتى قدم على صالح بدارا، فلما لقيه قال: اخرج بنا رحمك الله، فوالله ما تزداد السنة إلا دروساً ولا يزداد المجرمون إلا طغياناً.
فبث صالح رسله وواعد أصحابه الخروج إلى ذلك هلال صفر سنة ست وسبعين فاجتمعوا عنده تلك الليلة، فسأله بعضهم عن القتال قبل الدعاء أم بعده؟ فقال: بل ندعوهم فإنه أقطع لحجتهم. فقال له: كيف ترى فيمن قاتلنا فظفرنا به، ما تقول في دمائهم وأموالهم؟ فقال لهم: إن قتلنا وغنمنا فلنا وإن عفونا فموسع علينا. ثم وعظ أصحابه وأمرهم بأمره وقال لهم: عن أكثركم رجالة وهذه دواب لمحمد بن مروان فابدأوا بها فاحملوا عليها رجالكم وتقورابها على عدوكم. فخرجوا تلك الليلة فأخذوا الدواب فاحتملوا عليها وأقاموا بأرض دارا ثلاث عشرة ليلة. وتحصن منهم أهلها وأهل نصيبين وسنجار، وكان خروجه وهو في مائة وعشرين، وقيل وعشرة. وبلغ محمداً مخرجهم، وهو أمير الجزيرة، فأرسل عدي الكندي إليهم في ألف فارس. فسار من حران فنزل دوغان، وكانوا أول جيش سار إلى صالح، وسار عدي وكأنه يساق إلى الموت. وأرسل إلى صالح: إن كنت ترى رأينا خرجنا عنك، وإلا فنرى رأينا. فأرسل إليه عدي: إني لا أرى رأيك ولكني أكره قتالك وقتال غيك. فقال صالح لأصحابه: اركبوا، فركبوا، وحبس الرسول عنده ومضى بأصحابه فأتى عدياً وهو يصلي الضحى، فلم يشعروا إلا والخيل طالعة عليهم، فلما رأوها تنادوا، وجعل صالح شبيباً في ميمنته، وسويد بن سليم في ميسرته، ووقف في القلب، فأتاهم وهم على غير تعبية وبعضهم يجول في بعض، فحمل عليهم شبيب وسويد فانهزموا، وأتي عدي بن عدي بدابته فركبها وانهزم، وجاء صالح ونزل في معسكره وأخذوا ما فيه. ودخل أصحاب عدي على محمد بن مروان، فغضب على عدي ثم دعا خالد بن جزء السلمي فبعثه في ألف وخمسمائة، ودعا الحارث بن جعونة العامري فبعثه في ألف وخمسمائة، وقال: اخرجا إلى هذه المارقة وأغذا السير فأيكما سبق فهو الأمير على صاحبه. فخرجا متساندين يسألان عن صالح، فقيل لهما: إنه نحو آمد، فقصداه، فوجه صالح شبيباً في شطر من أصحابه إلى الحارث بن جعونة، وتوجه هو نحو خالد، فاقتتلوا من وقت العصر أشد قتال، فلم تثبت خيل محمد لخيل صالح، فلما رأى أميراهم ذلك ترجلا وترجل معهما أكثر أصحابهما، فلم يقدر أصحاب صالح حينئذٍ عليهم، وكانوا إذا حملوا استقبلتهم الرجالة بالرماح ورماهم الرماة بالنبل وطاردهم خيالتهم، فقاتلوهم إلى المساء، فكثرت الجراح في الفريقين، وقتل من أصحاب صالح نحو ثلاثين رجلاً، ومن أصحاب محمد أكثر من سبعين. فلما أمسوا تراجعوا، فاستشار صالح أصحابه، فقال شبيب: إن القوم قد اعتصموا بخندقهم فلا أرى أن نقيم عليهم. فقال صالح: وأنا أرى ذلك. فخرجوا من ليلتهم سائرين فقطعوا أرض الجزيرة وأرض الموصل وانتهوا إلى الدسكرة، وخرج صالح بن مسرح حتى أتى قرية يقال لها مدبج على تخوم ما بين الموصل وجوخى، وصالح في تسعين رجلاً، فلقيهم الحارث لثلاث عشرة بقين من جمادى، فاقتتلوا فانهزم سويد بن سليم في ميسرة صالح، وثبت صالح، فقتل وقاتل شبيب حتى صرع عن فرسه، فحمل عليهم راجلاً، فانكشفوا عنه، فجاء إلى موقف صالح فأصابه قتيلاً، فنادى: إلي يا معشر المسلمين، فلاذوا به. فقال لأصحابه: ليجعل كل واحد منكم ظهره إلى ظهر صاحبه وليطاعن عدوه حتى يدخل هذا الحصين ونرى رأينا، ففعلوا ذلك ودخلوا الحصين جميعهم، وهم سبعون رجلاً، وأحاط بهم الحارث وأحرق عليهم الباب، وقال: إنهم لا يقدرون على الخروج منه. مسرح بضم الميم، وفتح السين المهملة، وتشديد الراء وكسرها، وبالحاء المهملة. وجعونة بفتح الجيم، وسكون العين المهملة، وفتح الواو، وآخره نون. ذكر بيعة شبيب الخارجي ومحاربة الحارث بن عميرة فلما أحرق الحارث الباب على شبيب ومن معه وقال: إنهم لا يقدرون على الخروج منه ونصبحهم غداً فنقتلهم، وانصرف إلى عسكره، قال شبيب لأصحابه: ما تنظرون؟ فوالله لئن صبحكم هؤلاء غدوة إنه لهلاككم فقالوا: مرنا بأمرك. فقال: بايعوني أو من شئتم من أصحابكم واخرجوا بنا حتى نشد عليهم في عسكرهم فإنهم آمنون. فبايعوا شبيباً، وهو شبيب بن يزيد بن نعيم الشيباني، وأتوا باللبود فبلوها وجعلوها على جمر الباب وخرجوا، فلم يشعر الحارث إلا وشبيب وأصحابه يضاربونهم بالسيوف في جوف العسكر، فصرع الحارث، فاحتمله أصحابه وانهزموا نحو المدائن، وحوى شبيب عسكرهم، وكان ذلك الجيش أول جيش هزمه شبيب.
ذكر الحرب بين أصحاب شبيب وغيره ثم إن شبيباً لقي سلامة بن سنان التيمي، تيم شيبان، بأرض الموصل، فدعاه إلى الخروج معه، فشرط عليه سلامة أن ينتخب ثلاثين فارساً ينطلق بهم نحو عنزة فيشفي نفسه منهم، فإنهم كانوا قتلوا أخاه فضالة، وذلك أن فضالة كان خرج في ثمانية عشر رجلاً حتى نزل ماء يقال له الشجرة عليه أثلة عظيمة وعليه عنزة نازلون، فلما رأوه قالوا نقتل هؤلاء ونغدو على أميرنا فيعطينا شيئاً، فقال أخواله من بني نصر: لا نساعدكم على قتل ابن أخينا، فنهضت عنزة فقتلوهم وأتوا برؤوسهم عبد الملك بن مروان، فلذلك أنزلهم بانقيا وفرض لهم، ولم يكن لهم قبل ذلك فرائض إلا قليلة، فقال سلامة أخو فضالة يذكر قتل أخيه وخذلان أخواله إياه: وما خلت أخوال الفتى يسلمونه ... لوقع السلاح قبل ما فعلت نصر وكان خروج فضالة قبل خروج صالح. فأجابه شبيب، فخرج حتى انتهى إلى عنزة، فجعل يقتل محلة بعد محلة حتى انتهى إلى فريق منهم فيهم خالته قد أكبت على ابن لها، وهو غلام حين احتلم، فأخرجت ثديها وقالت: أنشدك برحم هذا يا سلامة! فقال: والله ما رأيت فضالة مذ أناخ بأصل الشجرة، يعني أخاه، لتقومن عنه أو لأجمعنكم بالرمح! فقامت عنه فقتله. ذكر مسير شبيب إلى بني شيبان وإيقاعه بهم ثن أقبل شبيب في خيله نحو راذان، فهرب منه طائفة من بني شيبان ومعهم ناس من غيرهم قليل حتى نزلوا ديراً خرباً إلى جنب حولايا، وهم نحو ثلاثة آلاف، وشبيب في نحو سبعين رجلاً أو يزيدون قليلاً، فنزل بهم فتحصنوا منه ثم إن شبيباً سرى في اثني عشر رجلاً إلى أمة، وكانت في سفح جبل ساتيدما، فقال: لآتين بها تكون في عسكري لا تفارقني حتى تموت أو أموت. فسار بهم ساعةً، وإذا هو بجماعة من بني شيبان في أموالهم مقيمين لا يرون أن شبيباً يمر بهم ولا يشعر بهم، فحمل عليهم فقتل ثلاثين شيخاً فيهم حوثرة بن أسد، ومضى شبيب إلى أمه فحملها، وأشرف رجل من الدير على أصحاب شبيب، وكان قد استخلف شبيب عليهم أخاه مصاد بن يزيد، وهم قد حصروا من في الدير، فقال: يا قوم بيننا وبينكم القرآن، قال الله تعالى " وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه " التوبة:6، فكفوا عنا حتى نخرج إليكم على أمان وتعرضوا علينا رأيكم، فإن قبلناه حرمت عليكم دماؤنا وأموالنا، وإن نحن لم نقبله رددتمونا إلى مأمننا ثم رأيتكم رأيكم. فأجابوهم، فخرجوا إليهم، فعرض عليهم أصحاب شبيب قولهم فقبلوه كله ثم خالطوه ونزلوا إليهم، وجاء شبيب فأخبر بذلك، فقال: أصبتم ووفقتم. ذكر الوقعة بين شبيب وسفيان الخثعميثم إن شبيباً ارتحل فخرج معه طائفة وأقامت طائفة، وسار في أرض الموصل نحو أذربيجان، وكتب الحجاج إلى سفيان بن أبي العالية الخثعي يأمره بالقفول، وكان معه ألف فارس، يريد أن يدخل بها طبرستان. فلما أتاه كتاب الحجاج صالح صاحب طبرستان ورجع، فأمره الحجاج بنزول الدسكرة حتى يأتيه جيش الحارث بن عميرة الهمداني، وهو الذي قتل صالحاً، وحتى تأتيه خيل المناظر ثم يسير إلى شبيب. فأقام بالدسكرة ونودي في جيش الحارث: الحرب بالكوفة والمدائن، فخرجوا حتى أتوا سفيان وأتته خيل المناظر عليهم سورة بن الحر التميمي، فكتب إليه سورة بالتوقف حتى يلحقه، فعجل سفيان في طلب شبيب فلحقه بخانقين، وارتفع شبيب عنهم حتى كأنه يكره قتالهم، وأكمن أخاه مصاداً في هزم من الأرض في خمسين رجلاً فارساً، ومضى في سفح الجبل، فقالوا: هرب عدو الله، فاتبعوه، فقال لهم عدي بن عميرة الشيباني: لا تعجلوا حتى نبصر الأرض لئلا يكون قد كمن فيها كميناً. فلم يلتفتوا، فاتبعوه، فلما جازوا الكمين رجع عليهم شبيب وخرج أخوه في الكمين فانهزم الناس بغير قتال وثبت سفيان في نحو من مائتي رجل، فقاتلهم قتالاً شديداً، وحمل سويد بن سليم على سفيان فطاعنه، ثم تضاربا بالسيوف واعتنق كل واحد منهما صاحبه، فوقعا إلى الأرض. ثم تحاجزوا وحمل عليهم شبيب فانكشفوا، وأتى سفيان غلام له فنزل عن دابته وأركبه وقاتل دونه، فقتل الغلام ونجا سفيان حتى انتهى إلى بابل مهروذ، وكتب إلى الحجاج بالخبر ويعرفه وصول الجند إلا سورة بن الحر فإنه لم يشهد معي القتال، فلما قرأ الحجاج الكتاب أثنى عليه. ذكر الوقعة بين شبيب وسورة بن الحر
فلما وصل كتاب سفيان إلى الحجاج كتب إلى سورة بن الحر يلومه ويتهدده ويأمره أن ينتخب من المدائن خمسمائة فارس ويسير بهم وبمن معه إلى شبيب. ففعل ذلك سورة وسار نحو شبيب، وشبيب يجول في جوخى، وسورة في طلبه، حتى انتهى إلى المدائن، فتحصنوا منه، وأخذ منها دواب وقتل من ظهر له، فأتى فقيل له: هذا سورة قد أقبل، فخرج حتى أتى النهروان، فصلوا وترحموا على أصحابهم الذين قتلهم علي وتبرأوا من علي وأصحابه. وأخبرت سورة عيونه بمنزل شبيب، فدعا أصحابه فقال: إن شبيباً لا يزيد على مائة رجل، وقد رأيت أن أنتخبكم فأسير في ثلاثمائة رجل من شجعانكم فآتيه وهو آمن بياتكم، فإني أرجو من الله أن يصرعهم. فأجابوه إلى ذلك، فانتخب ثلاثمائة وسار بهم نحو النهروان، وبات شبيب وقد أذكى الحرس، فلما دنا أصحاب سورة علموا بهم فاستووا على خيولهم وتعبوا تعبيتهم للحرب، فلما انتهى إليهم سورة رآهم قد حذروا، فحمل عليهم، فثبتوا له وضاربوهم، وصاح شبيب بأصحابه فحملوا عليهم حتى تركوا العرصة، وشبيب يقول: من ينك العير ينك نياكا ... جندلتان اصطكتا اصطكاكا فرجع سورة إلى عسكره وقد هزم الفرسان وأهل القوة، فتحمل بهم وأقبل نحو المدائن واتبعه شبيب يرجو أن يدركه فيصيب عسكره. فوصل إليهم وقد دخل الناس المدائن، وخرج ابن أبي العصيفر أمير المدائن في أهل المدائن فرموا أصحاب شبيب بالنبل والحجارة، فارتفع شبيب عن المدائن فمر على كلواذى فأصاب بها دواب كثرةً للحجاج، فأخذها ومضى إلى تكريت وأرجف الناس بالمدائن بوصول شبيب إليهم، فهرب من بها من الجند نحو الكوفة، وكان شبيب بتكريت، ولام الحجاج سورة وحبسه ثم أطلقه. ذكر الحرب بين شبيب والجزل بن سعيد وقتل سعيد بن مجالد فلما قدم الفل الكوفة سير الحجاج الجزل بن سعيد بن شر حبيل الكندي، وأسمه عثمان، نحو شبيب، وأوصاه بالاحتياط وترك العجلة، فقال له: لا تبعث معي من الجند المهزوم أحداً فإنهم قد دخلهم الرعب ولا ينتفع بهم المسلمون. قال: قد أحسنت. فأخرج معه أربعة آلاف، فساروا معه، فقدم الجزل بين يديه عياض بن أبي لبنة الكندي، فساروا في طلب شبيب، وجعل شبيب يريه الهيبة له فيخرج من رستاق إلى رستاق ولا يقيم إرادة أن يفرق الجزل أصحابه فيلقاه وهو على غير تعبية. فجعل الجزل لا يسير إلا على تعبية ولا ينزل إلا خندق على نفسه. فلما طال ذلك على شبيب دعة أصحابه وكانوا مائة وستين رجلاً، ففرقهم أربع فرق، على كل أربعين رجل من أصحابه، فجعل أخاه مصاداً في أربعين، وسويد بن سليم في أربعين، والمحلل بن وائل في أربعين، وبقي هو في أربعين، وأتته عيونه فأخبروه أن الجزل بدير يزدجرد، فأمر شبيب أصحابه فعلقوا على دوابهم، ثم سار بهم وأمر كل رأس من أصحابه أن يأتي الجزل من جهة ذكرها له، وقال: إني أريد أن أبيته، فحمل عليهم مصاد في أربعين رجلاً، فقاتلوه ساعةً ثم اندفعوا بين يديه، وقد أدركهم شبيب، فقال: اركبوا أكتافهم لتدخلوا عليهم عسكرهم إن استطعتم. واتبعوهم ملحين فانتهوا إلى عسكرهم، فمنعهم أصحابه من دخول خندقهم، وكان للجزل مسالح أخرى، فرجعت فمنعتهم من دخول الخندق، وقال: انضحوا عنكم بالنبل. وجعل شبيب يحمل على المسالح حتى اضطرهم إلى الخندق، ورشقهم أهل العسكر بالنبل. فلما رأى شبيب أنه لا يصل إليه قال لأصحابه: سيروا ودعوهم. فمضى على الطريق ثم نزل هو وأصحابه فاستراحوا، ثم أقبل بهم راجعاً إلى الجزل أيضاً على التعبية الأولى وقال: أطيفوا بعسكرهم. فأقبلوا وقد أدخل أهل العسكر مسالحهم إليهم وقد أمنوا، فما شعروا إلا بوقع حوافر الخيل، فانتهوا إليهم قبل الصبح وأحاطوا بعسكرهم من جهاته الأربع فقاتلوهم. ثم إن شبيباً أرسل إلى أخيه مصاد، وهو يقاتلهم من نحو الكوفة، أن أقبل إلينا وخل لهم الطريق، ففعل، وقاتلوهم من الوجوه الثلاثة حتى أصبحوا، فسار شبيب وتركهم ولم يظفر بهم فنزل على ميل ونصف ثم صلى الغداة ثم سار إلى جرجرايا. وأقبل الجزل في طلبهم على تعبية ولا ينزل إلا في خندق. وسار شبيب في أرض جوخى وغيرها يكسر الخراج، فطال ذلك على الحجاج، فكتب إلى الجزل ينكر عليه إبطاءه ويأمره بمناهضتهم، فجد في طلبهم، وبعث الحجاج سعيد بن مجالد على جيش الجزل وأمره بالجد في قتال شبيب وترك المطاولة.
فوصل سعيد إلى الجزل، وهو بالنهروان قد خندق عليه، وقام في العسكر ووبخهم وعجزهم، ثم خرج وأخرج معه الناس وضم إليه خيول أهل العسكر ليسير بهم جريدةً إلى شبيبٍ ويترك الباقين مكانهم، فقال له الجزل: ما تريد أن تصنع؟ قال: أقدم على شبيب في هذه الخيل. فقال له الجزل: أقم أنت في جماعة الناس فارسهم وراجلهم وأبرز لهم، فوالله ليقدمن عليك، ولا تفرق أصحابك. فقال: قف أنت في الصف. فقال الجزل: يا سعيد ليس لي في ما صنعت رأي، أنا بريء منه. ووقف الجزل فصف أهل الكوفة وقد أخرجهم من الخندق. وتقدم سعيد بن مجالد ومعه الناس، وقد أخذ شبيب إلى قطيطيا فدخلها، وأمر دهاقاً أن يصلح لهم غداء، ففعل وأغلق الباب، يفرغ من الغداء حتى أتاه سعيد في ذلك العسكر، فأقبل الدهقان فأعلم شبيباً بهم، فقال: لا بأس، قرب الغداء، فقربه، فأكل وتوضأ وصلى ركعتين وركب بغلاً له وخرج عليه، وسعيد على باب المدينة، فحمل عليهم فقال: لا حكم إلا للحكم الحكيم، أنا أبو مدله، اثبتوا إن شئتم. وجعل سعيد يقول: هؤلاء إنما هم أكلة رأس، وجعل يجمع خليه ويرسلها في أثر شبيب، فلما رأى شبيب تفرقهم جمع أصحابه وقال: استعرضوهم فوالله لأقتلن أميرهم أو ليقتلني. وحمل عليهم مستعرضاً، فهزمهم، وثبت سعيد ونادى أصحابه، فحمل عليه شبيب فضربه بالسيف فقتله، وانهزم ذلك الجيش وقتلوا حتى انتهوا إلى الجزل، فناداهم: أيها الناس إلي إلي وقاتل قتالاً شديداً حتى حمل من بين القتلى جريحا، وقدم المنهزمون الكوفة، وكتب الجزل إلى الحجاج بالخبر ويخبره بقتل سعيد وأقام بالمدائن، وكتب إليه الحجاج يثني عليه ويشكره، وأرسل إليه حيان بن أبهر ليداوي جراحه وألفي درهم لينفقها، وبعث إليه عبد الله بن أبي عصيفر بألف درهم، فكان يعوده ويتعاهده بالهدية. وسار سبيب نحو المدائن، فعلم أنه لا سبيل له إلى أهلها مع المدينة، فأقبل حتى انتهى إلى الكرخ فعبر دجلة إليها، فأرسل إلى السوق بغداد فآمنهم، وكان يوم سوقهم، وبلغه أنهم يخافونه، واسترى أصحابه دواب وأشياء يريدونها. ذكر مسير شبيب إلى الكوفةثم سار إلى الكوفة فنزل عند حمام عمير بن سعد، فلما بلغ الحجاج مكانه بعث سويد بن عبد الرحمن السعدي في ألفي رجل إليه، وقال له: الق شبيباً فإن استطرد لك فلا تتبعه. فخرج وعسكر بالسبخة، فبلغه أن شبيباً قد أقبل فسار نحوه، فكأنما يساقون إلى الموت، فأمر الحجاج عثمان بن قطن فعسكر بالناس في السبخة، وسار سويد إلى زرارة فهو يعبئ أصحابه إذ قيل قد أتاك شبيب، فنزل ونزل معه جل أصحابه، فأخبر أن شبيباً قد تركك وعبر الفرات وهو يريد الكوفة من وجه آخر، فنادى في أصحابه فركبوا في آثارهم، وبلغ من بالسبخة مع عثمان إقبال شبيب إليهم، فصاح بعضهم ببعض وهموا أن يدخلوا الكوفة حتى قيل لهم: إن سويداً في آثارهم قد لحقهم وهو يقاتلهم، وحمل شبيب على سويد ومن معه حملةً منكرة، فلم يقدر منهم على شيء، وأخذ على بيوت الكوفة نحو الحيرة، وذلك عند المساء، وتبعه سويد إلى الحيرة، فرآه قد ترك الحيرة وذهب، فتركه سويد وأقام حتى أصبح، وأرسل إلى الحجاج يعلمه بمسير شبيب. ذكر محاربة شبيب أهل الباديةوكتب الحجاج إلى سويد يأمره باتباعه، فاتبعه، ومضى شبيب حتى أغار أسفل الفرات على من وجد من قومه وارتفع في البر وراء خفان فأصاب رجالاً من بني الورثة، فقتل منهم ثلاثة عشر رجلاً، منهم حنظلة بن مالك، ومضى شبيب حتى أتى بني أبيه على اللصف، وعلى ذلك الماء الفزر بن الأسود، وهو أحد بني الصلت، وكان ينهى شبيباً عن رأيه، وكان شبيب يقول: لئن ملكت وانهزم منه الرجال ورجع وقد أخاف أهل البادية فأخذ على القطقطانة ثم على قصر بني مقاتل ثم على الحصاصة ثم على الأنبار، ومضى حتى دخل دقوقاء، ثم ارتفع إلى أداني أذربيجان. فلما أبعد سار الحجاج إلى البصرة واستخلف على الكوفة عروة بن المغيرة بن شعبة. فما شعر الناس إلا وقد أتاهم كتاب دهقان بابل مهروذ إلى عروة يذكر له أن بعض جباة الخراج أخبره أن شبيباً قد نزل خانيجار، وهو على قصد الكوفة، فأرسل عروة الكتاب إلى الحجاج بالبصرة فأقبل مجداً نحو الكوفة يسابق شبيباً إليها. ذكر دخول شبيب الكوفة
وأقبل شبيب إلى قرية اسمها حربى، فقال: حرب يصلى بها عدوكم، ثم سار فنزل عقر قوف، فقال له سويد بن سليم: يا أمير المؤمنين لو تحولت من هذه القرية المشؤومة الاسم. قال: وقد تطيرت أيضاً! والله لا أسير إلى عدوي إلا منها، وإنما شؤمها على عدونا والعقر لهم، إن شاء الله. ثم سار منها يبادر الحجاج إلى الكوفة، وكانت كتب عروة ترد عليه، أعني الحجاج، يحثه على العجل إليهم، فطوى الحجاج المنازل، فنزلها الحجاج صلاة العصر، ونزل شبيب بالسبخة صلاة المغرب، فأكلوا شيئاً ثم ركبوا خيولهم فدخلوا الكوفة وبلغوا السوق، وضرب شبيب باب القصر بعموده فأثر فيه أثراً عظيماً، ثم وقف عند المصطبة وقال: عبد دعي من ثمودٍ أصله ... لابل يقال أبو أبيهم يقدم يعني الحجاج؛ فإن بعض الناس يقول: إن شقيقاً بقايا ثمود، وبعضهم يقول: هم من نسل يقدم الإيادي. ثم اقتحموا المسجد الأعظم، وكان لا يزال فيه قوم يصلون، فقتلوا عقيل بن مصعب الوادعي وعدي بن عمرو الثقفي وأبا ليث بن أبي سليم ومروا بدار حوشب، وهو على الشرط، فقالوا: إن الأمير يطلبه، فأراد الركوب ثم أنكرهم فلم يخرج إليهم، فقتلوا غلامه، ثم أتى الجحاف بن نبيط الشيباني فقال له: انزل لنقضيك ثمن البكرة التي اشتريت منك بالبادية. فقال الجحاف: أما ذكرت أمانتك إلا | |
|
| |
الشيخ عودة الشيخ عودة
عدد المساهمات : 1748 تاريخ التسجيل : 28/09/2008 العمر : 74
| موضوع: رد: كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير الثلاثاء فبراير 11, 2014 3:38 am | |
| وبات عثمان ليلته كلها يحرض أصحابه، فلما أصبح يوم الأربعاء خرج بالناس كلهم، فاستقبلهم ريح شديدة وغبرة شديدة، فصاح الناس وقالوا له: ننشدك الله أن تخرج بنا والريح علينا. فأقام بهم ذلك اليوم، ثم خرج بهم يوم الخميس وقد عبأ الناس، فجعل في الميمنة خالد بن نهيك بن قيس، وعلى الميسرة عقيل بن شداد السلولي، ونزل هو في الرجالة، وعبر شبيب النهر إليهم، وهو يومئذٍ في مائة وأحد وثمانين رجلاً، فوقف هو في الميمنة وجعل أخاه مصاداً في القلب، وجعل سويد بن سليم في الميسرة، وزحف بعضهم إلى بعض. وقال شبيب لأصحابه: إني حامل على ميسرتهم مما يلي النهر فإذا هزمتها فليحمل صاحب ميسرتي على ميمنتهم ولا يبرح صاحب القلب حتى يأتيه أمري. وحمل على ميسرة عثمان فانهزموا، ونزل عقيل بن شداد فقاتل حتى قتل، وقتل أيضاً مالك بن عبد الله الهمداني عم عياش بن عبد الله المنتوف، ودخل شبيب عسكرهم، وحمل سويد على ميمنة عثمان فهزمها وعليها خالد بن نهيك، فقاتله قتالاً شديداً، وحمل شبيب من ورائه فقتله. وتقدم عثمان بن قطن وقد نزل معه العرفاء وأشراف الناس والفرسان نحو القلب، وفيه مصاد أخو شبيب في نحو من ستين رجلاً، فلما دنا منهم عثمان شد عليهم فيمن معه فضاربوهم حتى فرقوا بينهم، وحمل شبيب بالخيل من ورائهم، فما شعر عثمان ومن معه إلا والرماح في أكتافهم تكبهم لوجوههم، وعطف عليهم سويد بن سليم أيضاً في خيله، ورجع مصاد وأصحابه فاضطربوا ساعةً، وقاتل عثمان بن قطن أحسن قتال، ثم إنهم أحاطوا به وضربه مصاد أخو شبيب ضربة بالسيف استدار لها وقال: " وكان أمر الله مفعولاً " الأحزاب:37، ثم إن الناس قتلوه ووقع عبد الرحمن، فاتاه ابن أبي سبرة الجعفي، وهو على بغله، فعرفه فأركبه معه ونادى في الناس: الحقوا بدير أبي مريم؛ ثم انطلقا ذاهبين. ورأى واصل السكوني فرس عبد الرحمن التي أعطاه الجزل تجول في العسكر، فأخذها بعض أصحاب شبيب، فظن أنه قتل فطلبه في القتلى فلم يجده، فسأل عنه فأعطي خبره، فاتبعه واصل على برذونه ومعه غلامه على بغل، فلما دنا منهما نزل عبد الرحمن وابن أبي سبرة ليقاتلا، فلما رآهما واصل عرفهما وقال: إنكما تركتما النزول في موضعه فلا تنزلا الآن! وحسر عمامته عن وجهه فعرفاه، وقال لابن الأشعث: قد أتيتك بهذا البرذون لتركبه، فركبه وسار حتى نزل دير البقار. وأمر شبيب أصحابه فرفعوا السيف عن الناس ودعاهم إلى البيعة فبايعوه وقتل من كندة يومئذٍ مائة وعشرون، وقتل معظم العرفاء. وبات عبد الرحمن بدير البقار، فأتاه فارسان فصعدا إليه، فخلا أحدهما بعبد الرحمن طويلاً ثم نزل فتبين أن ذلك الرجل كان شبيباً، وقد كان بينه وبين عبد الرحمن مكاتبة، وسار عبد الرحمن حتى أتى دير أبي مريم، فاجتمع الناس إليه وقالوا له: إن سمع شبيب بمكانك أتاك فكنت له غنيمة. فخرج إلى الكوفة واختفى من الحجاج حتى أخذ له الأمان منه. ذكر ضرب الدراهم والدنانير الإسلاميةوفي هذه السنة ضرب عبد الملك بن مروان الدنانير والدراهم، وهو أول من أحدث ضربها في الإسلام، فانتفع الناس بذلك. وكان سبب ضربها أنه كتب في صدور الكتب إلى الروم: " قل هو الله أحد " الإخلاص: 1، وذكر النبي صلى الله عليه وسلم ، مع التاريخ، فكتب إليه ملك الروم: إنكم قد أحدثتم كذا وكذا فاتركوه وإلا أتاكم في دنانيرنا من ذكرنا نبيكم ما تكرهون. فعظم ذلك عليه. فأحضر خالد بن يزيد بن معاوية فاستشاره فيه، فقال: حرم دنانيرهم واضرب للناس سكةً فيها ذكر الله تعالى. فضرب الدنانير والدراهم. ثم إن الحجاج ضرب الدراهم ونقش فيها: " قل هو الله أحد " ، فكره الناس ذلك لمكان القرآن لأن الجنب والحائض يمسها، ونهى أن يضرب أحد غيره، فضرب سمير اليهودي، فأخذه ليقتله، فقال له: عيار درهمي أجود من دراهمك فلم تقتلني؟ فلم يتركه، فوضع للناس سنج الأوزان ليتركه فلم يفعل، وكان الناس لا يعرفون الوزن إنا يزنون بعضها ببعض، فلما وضع لهم سيمر السنج كف بعضهم عن غبن بعض.
وأول من شدد في أمر الوزن وخلس الفضة أبلغ من تخليص من قبله عمر بن هبيرة أيام يزيد بن عبد الملك، وجود الدراهم، وخلص العيار واشتد فيه. ثم كان خالد بن عبد الله القسري أيام هشام بن عبد الملك فاشتد أكثر من ابن هبيرة. ثم ولي يوسف بن عمر فأفرط في الشدة، فامتحن يوماً العيار فوجد درهماً ينقص حبة فضرب كل صانع ألف سوط. وكانوا مائة صانع، فضرب في حبة مائة ألف سوط. وكانت الهبيرية والخالدية واليوسفية أجود نقود بني أمية، ولم يكن المنصور يقبل في الخراج غيرها، فسميت الدراهم الأولى مكروهة. وقيل: إن المكروهة الدراهم التي ضربها الحجاج ونقش عليها: " قل هو الله أحد " ، فكرهها العلماء لأجل مس الجنب والحائض. وكانت دراهم الأعجام مختلفة كباراً وصارا، وكانوا يضربون مثقالاً، وهو وزن عشرين قيرطاً، ومنها وزن اثني عشر قيراطاً، ومنها وزن عشرة قراريط، وهي أصناف المثاقيل، فلما ضرب الدراهم في الإسلام أخذوا عشرين قيراطاً واثني عشر قيراطاً وعشرة قراريط فوجدوا ذلك اثنين وأربعين قيراطاً فضربوا على الثلث من ذلك، وهو أربعة عشر قيراطاً، فوزن الدرهم العربي أربعة عشر قيراطاً، فصار وزن كل عشرة دراهم سبعة مثاقيل. وقيل: إن مصعب بن الزبير ضرب دراهم قليلة أيام أخيه عبد الله بن الزبير، ثم كسرت بعد ذلك أيام عبد الملك. والأول أصح في أن عبد الملك أول من ضرب الدراهم والدنانير. ذكر عدة حوادثفي هذه السنة وفد يحيى بن الحكم على عبد الملك. وفيها ولى عبد الملك المدينة أبان بن عثمان. وفيها ولد مروان بن محمد بن مروان. وأقام الحج للناس هذه السنة أبان بن عثمان، وهو أمير المدينة. وكان على العراق الحجاج، وعلى خراسان أمية بن عبد الله بن خالد، وعلى قضاء الكوفة شريح، وعلى قضاء البصرة زرارة بن أوفى. وفيها غزا محمد بن مروان الروم من ناحية ملطية. وفيها مات حبة بن جوين العرني صاحب علي. حبة بالحاء المهملة، وبالباء الموحدة، وهو منسوب إلى عرنة، بالعين المهملة المضمومة، والراء المهملة، والنون. ثم دخلت سنة سبع وسبعين ذكر محاربة شبيب عتاب بن ورقاء وزهرة بن حوية وقتلهما وفي هذه السنة قتل شبيب عتاب بن ورقاء الرياحي وزهرة بن حوية. وسبب ذلك أن شبيباً لما هزم الجيش الذي كان وجهه الحجاج مع عبد الرحمن بن محم بن الأشعث، وقتل عثمان بن قطن، كان ذلك في حر شديد، وأتى شبيب ماه بهراذان فصيف بها ثلاثة أشهر، وأتاه ناس كثير ممن يطلب الدنيا وممن كان الحجاج يطلبهم بمال أو تبعات. فلما ذهب الحر خرج شبيب في نحو ثمانمائة رجل فأقبل نحو المدائن، وعليها مطرف بن المغيرة بن شعبة، فجاء حتى نزل قناطر حذيفة بن اليمان، فكتب عظيم بابل مهروذ إلى الحجاج بذلك، فلما قرأ الكتاب قام في الناس فقال: أيها الناس لتقاتلن عن بلادكم وعن فيئكم أو لأبعثن إلى قوم هم أطوع وأصبر على اللأواء والقيظ منكم فيقاتلون عدوكم ويأكلون فيئكم. فقام إليه الناس من كل جانب ومكان فقالوا: نحن نقاتلهم ونعتب الأمير، فلتند بن الأمير إليهم. وقام إليه زهرة بن حوية، وهو شيخ كبير لا يستتم قائماً حتى يؤخذ بيده، فقال له: أصلح الله الأمير أنك إنما تبعث إليهم الناس منقطعين، فاستنفر الناس إليهم كافة وابعث إليهم رجلاً شجاعاً مجرباً ممن يرى الفرار هضماً وعاراً، والصبر مجداً وكرماً. فقال الحجاج: فأنت ذلك الرجل فاخرج. فقال زهرة: أصلح الله الأمير، إنما يصلح الرجل يحمل الدرع والرمح ويهز السيف ويثبت على متن الفرس، وأنا لا أطيق من هذا شيئاً، وقد ضعف بصري وضعفت، ولكن أخرجني مع الأمير في الناس فأكون معه وأشير عليه برأيي. فقال الحجاج: جزاك الله خيراً عن الإسلام وأهله في أول أمرك وآخره، فقد نصحت. ثم قال: أيها الناس سيروا بأجمعكم كافة. فانصرف الناس يتجهزون ولا يدرون من أميرهم. وكتب الحجاج إلى عبد الملك يخبره أن شبيباً قد شارف المدائن وأنه يريد الكوفة وقد عجز أهل الكوفة عن قتاله في مواطن كثيرة، يقتل أمراءهم ويهزم جنودهم؛ ويطلب إليه أن يبعث إليه جنداً من الشام يقاتلون الخوارج ويأكلون البلاد.
فلما أتى الكتاب بعث إليه عبد الملك سفيان بن الأبرد الكلبي في أربعة آلاف، وحبيب بن عبد الرحمن الحكمي في ألفين. فبعث الحجاج إلى عتاب بن ورقاء الرياحي، وهو مع المهلب، يستدعيه، وكان عتاب قد كتب إلى الحجاج يشكو من المهلب ويسأله أن يضمه إليه لأن عتاباً طلب من المهلب أن يرزق أهل الكوفة الذين معه من مال فارس، فأبى عليه وجرت بينهما منافرة فكادت تؤدي إلى الحرب، فدخل المغيرة بن المهلب بينهما فأصلح الأمر وألزم أباه برزق أهل الكوفة، فأجابه إلى ذلك، وكتب يشكو منه. فلما ورد كتابه سر الحجاج بذلك واستدعاه، ثم جمع الحجاج أهل الكوفة واستشارهم فيمن يوليه أمر الجيش، فقالوا: رأيك أفضل. فقال: قد بعثت إلى عتاب وهو قادم عليكم الليلة أو القابلة. فقال زهرة: أيها الأمير رميتهم بحجرهم، والله لا نرجع إليك حتى نظفر أو نقتل. وقال له قبيصة بن والق: إن الناس قد تحدثوا أن جيشاً قد وصل إليك من الشام، وأن أهل الكوفة قد هزموا وهان عليهم الفرار، فقلوبهم كأنها ليست فيهم، فإن رأيت أن تبعث إلى أهل الشام ليأخذوا حذرهم ولا يبيتوا إلا وهم محتاطون فإنك تحارب حولاً قلباً ظعاناً رحالاً، وقد جهزت إليهم أهل الكوفة ولست واثقاً بهم كل الثقة، وإن شبيباً بينا هو في أرض إذا هو في أخرى، ولا آمن أن يأتي أهل الشام وهم آمنون، فإن يهلكوا نهلك ويهلك العراق. قال له: لله أبوك ما أحسن ما أشرت به! وأرسل إلى أهل الشام يحذرهم ويأمرهم أن يأتوا على عين التمر، ففعلوا. وقدم عتاب بن ورقاء تلك الليلة، فبعثه الحجاج على ذلك الجيش، فعسكر بحمام أعين، وأقبل شبيب حتى انتهى إلى كلواذى فقطع فيها دجلة، ثم سار حتى نزل مدينة بهرسير الدنيا، فصار بينه وبين مطرف جسر دجلة وقطع مطرف الجسر وبعث إلى شبيب أن ابعث إلي رجالاً من وجوه أصحابك أدراسهم القرآن وأنظر فيما يدعون إليه، فبعث إليه قعنب بن سويد والمحلل وغيرهما، وأخذ منه رهائن إلى أن يعودوا، فأقاموا عنده أربعة أيام ثم لم يتفقوا على شيء. فلما لم يتبعه مطرف تهيأ للمسير إلى عتاب وقال لأصحابه: إني كنت عازماً أن آتي أهل الشام جريدةً وألقاهم على غرة قبل أن يتصلوا بأمير مثل الحجاج ومصر مثل الكوفة، فثبطني عنهم مطرف، وقد جاءتني عيوني فأخبروني أن أوائلهم قد دخلوا عين التمر فهم الآن قد شارفوا الكوفة، وقد أخبروني أن عتاباً ومن معه بالبصرة، فما أقرب ما بيننا وبينه، فتيسروا للمسير إلى عتاب. وخاف مطرف بن المغيرة أن يبلغ خبره مع شبيب إلى الحجاج، فخرج نحو الجبال. فأرسل شبيب أخاه مصاداً إلى المدائن وعقد الجسر، وأقبل عتاب إليه حتى نزل بسوق حكمة، وقد خرج معه من المقاتلة أربعون ألفاً، ومن الشباب والأتباع عشرة آلاف، فكانوا خمسين ألفاً، وكان الحجاج قد قال لهم حين ساروا: إن للسائر المجتهد الكرامة والأثرة، وللهارب الهوان والجفوة، والذي لا إله غيره لئن فعلتم في هذه المواطن كفعلكم في المواطن الأخر لأولينكم كنفاً خشناً، ولأعركنكم بكلكل ثقيل. فلما بلغ عتاب سوق حكمة أتاه شبيب، وكان أصحابه بالمدائن ألف رجل، فحثهم على القتال، وسار بهم، فتخلف عنه بعضهم، ثم صلى الظهر بساباط وصلى العصر وسار حتى أشرف على عتاب وعسكره، فلما رآهم نزل فصلى المغرب، وكان عتاب قد عبأ أصحابه، فجعل في الميمنة محمد بن عبد الرحمن بن سعيد بن قيس، وقال: يا ابن أخي إنك شريف صابر. فقال: والله لأصبرن ما ثبت معي إنسان. وقال لقبيصة بن والق الثعلبي: اكفني الميسرة. فقال: أنا شيخ كبير لا أستطيع القيام إلا أن أقام؛ فجعل عليها نعيم بن عليم، وبعث حنظلة بن الحارث اليربوعي، وهو ابن همه وشيخ أهل بيته، على الرجالة، وصفهم ثلاثة صفوف: صف فيهم أصحاب السيوف، وصف فيهم أصحاب الرماح، وصف فيهم الرماة، ثم سار في الناس يحرضهم على القتال ويقص عليهم، ثم قال: أين القصاص؟ فلم يجبه أحد. ثم قال: أين من يروي شعر عنترة؟ فلم يجبه أحد. فقال: إنا لله، كأني بكم قد فررتم عن عتاب بن ورقاء وتركتموه تسفي في استه الريح!
ثم أقبل حتى جلس في القلب ومعه زهرة بن حوية جالس وعبد الرحمن بن محمد بن الأشعث وأبو بكر بن محمد بن أبي جهم العدوي. وأقبل شبيب وهو فس ستمائة وقد تخلف عنه من أصحابه أربعمائة، فقال: لقد تخلف عنا من لا أحب أن يرى فينا، فجعل سويد بن سليم في مائتين في الميسرة، وجعل المحلل بن وائل في مائتين في القلب، ومضى هو في مائتين إلى الميمنة بين المغرب والعشاء الآخرة حين أضاء القمر، فناداهم: لمن هذه الرايات؟ فقالوا: رايات لربيعة. قال: طالما نصرت الحق وطالما نصرت الباطل، والله لأجاهدنكم محتبساً، أنا شبيب، لا حكم إلا الله، للحكم، اثبتوا إن شئتم! ثم حمل عليهم ففضهم، فثبت أصحاب رايات قبيصة بن والق وعبيد بن الحليس ونعيم بن عليم فقتلوا، وانهزمت الميسرة مكلها، ونادى الناس من بني ثعلبة: قتل قبيصة وقال شبيب: قتلتموه، ومثله كما قال الله تعالى: " واتل عليهم نبا الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها " الأعراف:175. ثم وقف عليه وقال: ويحك لو ثبت على إسلامك الأول سعدت! وقال لأصحابه: إن هذا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأسلم، ثم جاء يقاتلكم مع الفسقة. ثم إن شبيباً حمل من المسيرة على عتاب، وحمل سويد بن سليم على الميمنة، وعليهما محمد بن الرحمن، فقاتلهم في رجال من تميم وهمدان، فما زالوا كذلك حتى قيل لهم قتل عتاب، فانفضوا. ولم يزل عتاب جالساً على طنفسة في القلب ومعه زهرة بن حوية إذ غشيهم شبيب، فقال عتاب: يا زهرة هذا يوم كثر فيه العدد وقل فيه الغناء، والهفي على خمسمائة فارس من تميم من جميع الناس، ألا صابر لعدوه؟ ألا مواس بنفسه؟ فانفضوا عنه وتركوه، فقال زهرة: أحسنت يا عتاب، فعلت فعلاً لا يفعله مثلك. أبشر، فإني أرجو أن يكون الله، جل ثناؤه، قد أهدى إلينا الشهادة عند فناء أعمارنا. فلما دنا منه شبيب وثب في عصابة قليلة صبرت معه وقد ذهب الناس، فقيل له: إن عبد الرحمن بن الأشعث قد هرب وتبعه ناس كثير. فقال: ما رأيت ذلك الفتى يبالي ما صنع. ثم قاتلهم ساعة، فرآه رجل من أصحاب شبيب يقال له عامر بن عمر التغلبي فحمل عليه فطعنه، ووطئت الخيل زهرة بن حوية، فأخذ يذب بسيفه لا يستطيع أن يقوم، فجاءه الفضل بن عامر الشيباني فقتله، فانتهى إليه شبيب فرآه صريعاً فعرفه فقال: هذا زهرة بن حوية، أما والله لئن كنت قتلت على ضلالة لرب يوم من أيام المسلمين قد حسن فيه بلاؤك وعظم فيه غناؤك! ولرب خيل للمشركين هزمتها وقرية من قراهم جم أهلها قد افتتحتها! ثم كان في علم الله أنك تقتل ناصراً للظالمين. وتوجع له. فقال له رجل من أصحابه: إنك لتتوجع لرجل كافر. فقال إنك لست أعرف بضلالتهم مني، ولكني أعرف من قديم أمرهم ما لا تعرف، ما لو ثبتوا عليه لكانوا إخواننا. فاستمسك شبيب من أهل العسكر والناس، فقال: ارفعوا السيف، ودعاهم إلى البيعة، فبايعه الناس وهربوا من تحت ليلتهم، وحوى ما في العسكر، وبعث إلى أخيه فأتاه من المدائن. وأقام شبيب بعد الوقعة ببيت قرة يومين، ثم سار نحو الكوفة فنزل بسورا وقتل عاملها. وكان سفيان بن الأبرد وعسكر الشام قد دخلوا الكوفة فشدوا ظهر الحجاج واستغنى به وبعسكره عن أهل الكوفة، فقام عن المنبر فقال: يا أهل الكوفة لا أعز الله من أراد بكم العز، ولا نصر من أراد بكم النصر، اخرجوا عنا فلا تشهدوا معنا قتال عدونا، انزلوا بالحيرة مع اليهود والنصارى ولا يقاتل معنا إلا من لم يشهد قتال عتاب. ذكر قدوم شبيب الكوفة وانهزامه عنهاثم سار شبيب من سورا فنزل حمام أعين، فدعا الحجاج الحارث بن معاوية الثقفي فوجهه في ناس من الشرط لم يشهدوا يوم عتاب وغيرهم، فخرج في نحو ألف فنزل زرارة، فبلغ ذلك شبيباً فعجل إلى الحارث بن معاوية، فلما انتهى إليه حمل عليه فقتله وانهزم أصحابه، وجاء المنهزمون فدخلوا الكوفة، وجاء شبيب فعسكر بناحية الكوفة وأقام ثلاثاً، فلم يكن في اليوم الأول غير قتل الحارث. فلما كان اليوم الثاني أخرج الحجاج مواليه فأخذوا بأفواه السكك، وجاء شبيب فنزل السبخة وابتنى بها مسجداً، فلنا كلن اليوم الثالث أخرج الحجاج أبا الورد مولاه عليه تجفاف ومعه غلمان له وقالوا: هذا الحجاج، فحمل عليه شبيب فقتله، وقال: إن كان هذا الحجاج فقد أرحتكم منه.
ثم أخرج الحجاج غلامه طهمان في مثل تلك العدة والحالة، فقتله شبيب وقال: إن كان هذا الحجاج فقد أرحتكم منه. ثم أن الحجاج خرج ارتفاع النهار من القصر فطلب بغلاً يركبه إلى السبخة فأتي ببغل، فركبه ومعه أهل الشام، فخرج، فلما رآى الحجاج شبيباً وأصحابه نزل، وكان شبيب في ستمائة فارس، فأقبل نحو الحجاج، وجعل الحجاج، وجعل الحجاج سبرة بن عبد الرحمن بن مخنف على أفواه السكك في جماعة الناس، ودعا الحجاج بكرسي فقعد عليه ثم نادى: يا أهل الشام أنتم أهل السمع والطاعة والصبر واليقين فلا يغلبن باطل هؤلاء الأرجاس حقكم، غضوا الأبصار واجثوا على الركب واستقبلوهم بأطراف الأسنة. ففعلوا وأشرعوا الرماح، وكأنهم حرة سوداء، وأقبل شبيب في ثلاثة كراديس، كتيبة معه وكتيبة مع سويد بن سليم وكتيبة مع المحلل بن وائل، وقال لسويد: احمل عليهم في خيلك، فحمل عليهم، فثبتوا له ووثبوا في وجهه بأطراف الرماح فطعنوه حتى انصرف هو وأصحابه. وصاح الحجاج: هكذا فافعلوا، وأمر كرسيه فقدم، وأمر شبيب المحلل فحمل عليهم ففعلوا به كذلك، فناداهم الحجاج: هكذا فافعلوا، وأمر بكرسيه فقدم. ثم إن شبيباً حمل عليهم في كتيبته فثبتوا له وصنعوا به كذلك، فقاتلهم طويلاً، ثم إن أهل الشام طاعنوه حتى ألحقوه بأصحابه. فلما رأى صبرهم نادى: يا سويد احمل عليهم بأصحابك على أهل السكة لعلك تزيل أهلها وتأتي الحجاج من ورائه ونحمل نحن عليه من أمامه. فحمل سويد فرمي من فوق البيوت وأفواه السكك فرجع. وكان الحجاج قد جعل عروة بن المغيرة بن شعبة في ثلاثمائة رجل من أهل الشام ردءاً له لئلا يؤتوا من خلفهم، فجمع شبيب أصحابه ليحمل بهم، فقال الحجاج: اصبروا لهذه الشدة الواحدة ثم هو الفتح، فجثوا على الركب. وحمل عليهم شبيب بجميع أصحابه، فوثبوا في وجهه، وما زالوا يطاعنونه ويضاربونه قدما ويدفعونه وأصحابه حتى أجازوهم مكانهم، وأمر شبيب أصحابه بالنزول، فنزل نصفهم، وجاء الحجاج حتى انتهى إلى مسجد شبيب ثم قال: يا أهل الشام هذا أول الفتح، وصعد المسجد ومعه جماعة معهم النبل ليرموهم إن دنوا منه، فاقتتلوا عامة النهار أشد قتال رآه الناس حتى أقر كل واحد من الفريقين لصاحبه. ثم إن خالد بن عتاب قال للحجاج: ائذن لي في قتالهم فإني موتور، فأذن له، فخرج ومعه جماعة من أهل الكوفة وقصد عسكرهم من ورائهم فقتل مصاداً أخا شبيب وقتل إمرأته غزالة وحرق في عسكره. وأتى الخبر الحجاج وشبيباً، فكبر الحجاج وأصحابه، وأما شبيب فركب هو وأصحابه، وقال الحجاج لأهل الشام: احملوا عليهم فإنهم قد أتاهم ما أرعبهم. فشدوا عليهم فهزموهم، وتخلف شبيب في حامية الناس. فبعث الحجاج إلى خيله: أن دعوه، فتركوه ورجعوا، ودخل الحجاج إلى الكوفة فصعد المنبر ثم قال: والله ما قوتل شبيب قبلها، ولى والله هارباً وترك امرأته يكسر في استها القصب. ثم دعا حبيب بن عبد الرحمن الحكمي فبعثه في ثلاثة آلاف فارس من أهل الشام في أثر شبيب، وقال له: احذر بياته وحيث لقيته فانزل له، فإن الله تعالى قد فل حده وقصم نابه. فخرج في أثره حتى نزل الأنبار، وكان الحجاج قد نادى عند انهزامهم: من جاءنا منكم فهو آمن. فتفرق عن شبيب ناس كثير من أصحابه. فلما نزل حبيب الأنبار أتاهم شبيب، فلما دنا منهم نزل فصلى المغرب، وكان حبيب قد جعل أصحابه أرباعاً، وقال لكل ربع منهم: ليمنع كل ربع منكم جانبه، فإن قاتل هذا الربع فلا يعنهم الربع الآخر، فإن الخوارج قريب منكم، فوطنوا أنفسكم على أنكم مبيتون ومقاتلون. فأتاهم شبيب وهم على تعبية، فحمل على ربع فقاتلهم طويلاً، فما زالت قدم إنسان عن موضعها، ثم تركهم وأقبل إلى ربع آخر فكانوا كذلك، ثم أتى ربعاً آخر فكانوا كذلك، ثم الربع الرابع فما برح يقاتلهم حتى ذهب ثلاثة أرباع الليل، ثم نازلهم راجلا فسقطت منهم الأيدي وكثرت القتلى وفقئت الأعين وقتل من أصحاب شبيب نحو ثلاثين رجلاً، ومن أهل الشام نحو مائة، واستولى التعب والإعياء على الطائفتين حتى إن الرجل ليضرب بسيفه فلا يصنع شيئاً، وحتى إن الرجل ليقاتل جالساً فما يستطيع أن يقوم من التعب. فلما يئس شبيب منهم تركهم وانصرف عنهم. ثم قطع دجلة وأخذ في أرض جوخى، ثم قطع دجلة مرة أخرى عند واسط ثم أخذ نحو الأهواز ثم إلى فارس ثم إلى كرمان ليستريح وهو ومن معه.
وقيل في هزيمته غير ذلك، وهو أن الحجاج كان قد بعث إلى شبيب أميراً فقتله، ثم أميراً فقتله، أحدهما أعين صاحب حمام أعين، ثم جاء شبيب حتى دخل الكوفة ومعه زوجته غزالة، وكانت نذرت أن تصلي في جامع الكوفة ركعتين تقرأ فيهما البقرة وآل عمران، واتخذ في عسكره اخصاصاً، فجمع الحجاج ليلاً بعد أن لقي من شبيب الناس ما لقوا فاستشارهم في أمر شبيب، فأطرقوا، وفصل قتيبة من الصف فقال: أتأذن لي في الكلام؟ قال: نعم. قال: لأنك تبعث الرجل الشريف وتبعث معه رعاعاً فينهزمون ويستحيي أن ينهزم فيقتل. فقال: فما الرأي؟ قال: الرأي أن تخرج إليه فتحاكمه. قال: فانظر لي معسكراً. فخرج الناس يلعنون عنبسة بن سعيد لأنه هو الذي كلم الحجاج فيه حتى جعله من صحابته، وصلى الحجاج من الغد الصبح واجتمع الناس وأقبل قتيبة وقد رأى معسكراً حسناً، فدخل إلى الحجاج ثم خرج ومعه لواء منشور، وخرج الحجاج يتبعه حتى خرج إلى السبخة وبها شبيب، وذلك يوم الأربعاء، فتواقفوا، وقيل للحجاج: لا تعرفه مكانك، فأخفى مكانه، وشبه له أبا الورد مولاه، فنظر إليه شبيب فحمل عليه فضربه بعمود فقتله، وحمل شبيب على خالد بن عتاب ومن معه وهو على ميسرة الحجاج فبلغ بهم الرحبة، وحمل على مطر بن ناجية وهو على ميمنة الحجاج فكشفه، فنزل عند ذلك الحجاج ونزل أصحابه وجلس على عباءة ومعه عنبسة بن سعيد، فإنهم على ذلك إذ تناول مصقلة بن مهلهل الضبي لجام شبيب وقال: ما تقول في صالح. فقال له مصقلة: برئ الله منك، وفارقه إلا أربعين فارساً. فقال الحجاج: قد اختلفوا، وأرسل إلى خالد بن عتاب فأتى بهم في عسكرهم فقاتلهم فقتلت غزالة، ومر برأسها إلى الحجاج مع فارس، فعرفه شبيب فأمر رجلاً فحمل على الفارس فقتله وجاء بالرأس، فأمر به فغسل ثم دفنه. ومضى القوم على حاميتهم ورجع خالد فأخبر الحجاج بانصرافهم، فأمره باتباعهم، فاتبعهم يحمل عليهم، فرجع إليه ثمانية نفر فقاتلوه حتى بلغوا به الرحبة، وأتي شبيب بخوط بن عمير السدوسي فقال: يا خوط لا حكم إلا الله. فقال: إن خوطاً من أصحابكم ولكنه كان يخاف، فأطلقه؛ وأتي بعمير بن القعقاع فقال: يا عمير لا حكم إلا الله. فقال: في سبيل الله شبابي، فردد عليه شبيب: لا حكم إلا الله، فلم يفقه ما يريد، فقتله. وقتل مصاد أخو شبيب، وجعل شبيب ينتظر الثمانية الذين اتبعوا خالداً، فأبطأوا ولم يقدم أصحاب الحجاج على شبيب هيبةً له، وأتى إلى شبيب أصحابه الثمانية فساروا واتبعهم خالد وقد دخلوا إلى دير بناحية المدائن فحصرهم فيه، فخرجوا عليه فهزموه نحو فرسخين فألقوا أنفسهم في دجلة منهزمين وألقى خالد بن عتاب. فقال: معرق له في الشجاعة، ولو عرفته لأقحمت خلفه ولو دخل النار. ثم سار إلى كرمان، على ما تقدم ذكره، وكتب الحجاج إلى عبد الملحك يستمده ويعرفه عجز أهل الكوفة عن قتال شبيب، فسير سفيان بن الأبرد في جيش إليه. ذكر مهلك شبيبوفي هذه السنة هلك شبيب. وكان سبب ذلك أن الحجاج أنفق في أصحاب سفيان بن الأبرد مالاً عظيماً بعد أن عاد شبيب عن محاربتهم وقصد كرمان بشهرين، وأمر سفيان وأصحابه بقصد شبيب، فسار نحوه، وكتب الحجاج إلى الحكم بن أيوب زوج ابنته، وهو عامله على البصرة، يأمره أن يرسل أربعة آلاف فارس من أهل البصرة إلى سفيان، فسيرهم مع زياد بن عمرو العتكي، فلم يصل إلى سفيان حتى التقى سفيان مع شبيب، وكان شبيب قد أقام بكرمان، فاستراح هو وأصحابه ثم أقبل راجعاً فالتقى مع سفيان بجسر دجيل الأهواز، فعبر شبيب الجسر إلى سفيان، فوجد سفيان قد نزل في الرجال، وجعل مهاصر بن سيف على الخيل. واقبل شبيب في ثلاثة كراديس فاقتتلوا أشد قتال، ورجع شبيب إلى المكان الذي كان فيه، ثم حمل عليهم هو وأصحابه أكثر من ثلاثين حملة، ولا يزول أهل الشام، وقال لهم سفيان: لا تتفرقوا وليزحف إليهم الرجال زحفاً. فما زالوا بضاربونهم ويطاعنونهم حنى اضطروهم إلى الجسر. فلما انتهى شبيب إلى الجسر نزل ونزل معه نحو مائة فقاتلوهم حتى المساء وأوقعوا بأهل الشام من الضرب والطعن ما لم يروا مثله.
فلما رأى سفيان عجزه عنهم وخاف أن ينصروا عليه أمر الرماة أن يرموهم، وذلك عند المساء، وكانوا ناحية، فتقدموا ورموا شبيباً ساعة، فحمل هو وأصحابه على الرماة فقتلوا منهم أكثر من ثلاثين رجلاً، ثم أعطف على سفيان ومن معه فقاتلهم حتى اختلط الظلام، ثم انصرف، فقال سفيان لأصحابه: لا تتبعوهم. فلما انتهى شبيب إلى الجسر قال لأصحابه: اعبروا وإذا أصبحنا باكرناهم إن شاء الله. فعبروا أمامه وتخلف في آخرهم، وجاء ليعبر وهو على حصان، وكانت بين يديه فرس أنثى، فنزا فرسه عليها وهو على الجسر فاضطربت الحجر تحته ونزل حافر فرس شبيب على حرف السفينة فسقط في الماء، فلما سقط قال: " ذاك تقدير العزيز العليم " الانعام:96،وغرق. وقيل في قتله غير ذلك، وهو أنه كان مع جماعة من عشيرته ولم تكن لهم تلك البصيرة النافذة، وكان قد قتل من عشائرهم رجالاً، فكان قد أوجع قلوبهم، وكان منهم رجل اسمه مقاتل من بني تيم بن شيبان، فلما قتل شبيب من بني تيم أغار هو على بني مرة بن همام رهط شبيب فقتل منهم، فقال له شبيب: ما حملك على قتلهمبغير أميري؟ فال: له: قتلت كفار قومي فقتلت كفار قومك، ومن ديننا قتل من كان على غير رأينا، وما أصبت من رهطي أكثر مما أصبت من رهطك، وما يحل لك يا أمير المؤمنين أن تجد على قتل الكافرين. قال: لا أجد. وكان معه أيضاً رجال كثير قد قتل من عشائرهم، فلما تخلف في آخر الناس قال بعضهم لبعض: هل لكم أن تقطع به الجسر فندرك ثأرنا؟ فقطعوا الجسر، فمالت به السفن، فنفر به الفرس فوقع في الماء فغرق. والأول أصح وأشهر. وكان أهل الشام يريدون الانصراف، فاتاهم صاحب الجسر فقال لسفيان: إن رجلاً منهم وقع في الماء، فنادوا بينهم: غرق أمير المؤمنين! ثم إنهم انصرفوا راجعين وتركوا عسكرهم ليس فيه أحد، فكبر سفيان وكبر أصحابه، وأقبل حتى انتهى إلى الجسر، وبعث إلى العسكر وإذا ليس فيه أحد وإذا هو أكثر العساكر خيراً، ثم استخرجوا شبيباً فشقوا جوفه وأخرجوا قلبه، وكان صلباً كأنه صخرة، فكان يضرب به الصخرة فيشبب عنها قامة الإنسان. قيل: وكان شبيب ينعى إلى أمه، فيقال: قتل، فلا تقبل ذلك، فلما قيل لها غرق صدقت ذلك وقالت: إني رأيت حين ولدته أنه خرج مني شهاب نار فعلمت أنه لا يطفئه إلا الماء. وكانت أمه جارية رومية قد استراها أبوه فأولدها شبيباً منه سنة خمس وعشرين يوم النحر، وقالت: إني رأيت فيما يرى النائم أنه خرج من قلبي شهاب نار فذهب ساطعاً في السماء وبلغ الآفاق كلها، فبينما هو كذلك إذ وقع في ماء كثير فخبا، وقد ولدته في يومكم هذا الذي تهريقون فيه الدماء، وقد أولت ذلك أن ولدي يكون صاحب دماء، وأن أمره سيعلو فيعظم سريعاً. وكان أبوه يختلف به إلى اللصف أرض قومه، وهو من بني شيبان. ذكر خروج مطرف بن المغيرة بن شعبةقيل: إن بني المغيرة بن شعبة كانوا صلحاء أشرافاً بأنفسهم مع شرف أبيهم ومنزلتهم من قومهم، فلما قدم الحجاج ورآهم علم أنهم رجال قومهم، فاستعمل عروة على الكوفة، ومطرفاً على المدائن، وحمزة على همدان، وكانوا في أعمالهم أحسن الناس سيرةً، وأشدهم على المريب، وكان مطرف على المدائن عند خروج شبيب وقربه منها، كما سبق، فكتب إلى الحجاج يستمده، فأمده بسبرة بن عبد الرحمن بن مخنف وغيره، وأقبل شبيب حتى نزل بهرسير، وكان مطرف بالمدينة العتيقة، وهي التي فيها إيوان كسرى، فقطع مطرف الجسر وبعث إلى شبيب يطلبه إليه أن يرسل بعض أصحابه لينظر فيما يدعون، فبعث إليه عدةً منهم، فسألهم مطرف عما يدعون إليه، فقالوا: ندعو إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وإن الذي نقمنا من قومنا الاستئثار بالفيء وتعطيل الحدود والتسلط بالجبرية.
فقال لهم مطرف: ما دعوتم إلا إلى حق، وما نقمتم إلا جوراً ظاهراً، أنا لكم متابع فبايعوني على ما أدعوكم إليه ليجتمع أمري وأمركم. فقالوا: اذكره فإن يكن حقاً نجبك إليه. قال: أدعوكم إلى أن نقاتل هؤلاء الظلمة على إحداثهم وندعوهم إلى كتاب الله وسنة نبيه وأن يكون هذا الأمر شورى بين المسلمين يؤمرون من يرتضون على مثل هذه الحال التي تركهم عليها عمر بن الخطاب، فإن العرب إذا علمت أن ما يراد بالشورى الرضى من قريش رضوا وكثر تبعكم وأعوانكم. فقالوا: هذا مالا نجيبك إليه، وقاموا من عنده وترددوا بينهم أربعة أيام، فلم تجتمع كلمتهم، فساروا من عنده. وأحضر مطرف نصحاءه وثقاته فذكر لهم ظلم الحجاج وعبد الملك وأنه ما زال يؤثر مخالفتهم ومناهضتهم وأنه يرى ذلك ديناً لو وجد عليه أعواناً، ذكر لهم ما جرى بينه وبين أصحاب شبيب وأنهم لو تابعوه على رأيه لخلع عبد الملك والحجاج، واستشارهم فيما يفعل. فقالوا له: أخف هذا الكلام ولا تظهره لأحد. فقال له يزيد بن أبي زياد، مولى أبيه المغيرة بن شعبة: والله لا يخفى على الحجاج مما كان بينك وبينهم كلمة واحدة وليزادن على كل كلمة عشر أمثالها، ولو كنت في السحاب لالتمسك الحجاج حتى يهلكك، فالنجاء النجاء فوافقه أصحابه على ذلك، فسار عن المدائن نحو الجبال، فلقيه قبيصة بن عبد الرحمن الخثعمي بدير يزدجرد فأحسن إليه وأعطاه نفقةً وكسوةً، فصحبه ثم عاد عنه، ثم ذكر مطرف لأصحابه بالدسكرة ما عزم عليه ودعاهم إليه، وكان رأيه خلع عبد الملك والحجاج والدعاء إلى كتاب الله وسنة نبيه وأن يكون الأمر شورى بين المسلمين يرتضون لأنفسهم من أحبوه. فبايعه البعض على ذلك ورجع عنه البعض. وكان ممن رجع عنه سبرة بن عبد الرحمن بن مخنف، فجاء إلى الحجاج وقاتل شبيباً مع أهل الشام. وسار مطرف نحو حلوان، وكان بها سويد بن عبد الرحمن السعدي من قبل الحجاج، فأراد هو والأكراد منعه ليعذر عند الحجاج، فجازه مطرف بمواطأة منه وأوقع مطرف بالأكراد فقتل منهم وسار، فلما دنا من همذان وبها أخوه حمزة بن المغيرة تركها ذات اليسار وقصد ماه دينار وأرسل إلى أخيه حمزة يستمده بالمال والسلاح، فأرسل إليه سراً ما طلب . وسار مطرف حتى بلغ قم وقاشان وأصبهان وبعث عماله على تلك النواحي، وأتاه الناس، وكان ممن أتاه: سويد بن سرحان الثقفي، وبكير بن هارون النخعي، من الري في نحو مائة رجل. وكتب البراء بن قبيصة، وهو عامل الحجاج على أصبهان، غليه يعرفه حال مطرف ويستمده، فأمدة بالرجال بعد الرجال على دواب البريد، وكتب الحجاج إلى عدي من الري فاجتمع هو والبراء بن قبيصة، وكان عدي هو المير، فاجتمعوا في نحو ستة آلاف مقاتل، وكان حمزة بت المغيرة قد أرسل إلى الحجاج يعتذر، فأظهر قبول عذره وأراد عزله وخاف أن يمتنع عليه، فكتب إلى قيس بن سعد العجلي، وهو على شرطة حمزة بهمذان، بعهده على همذان ويأمره أن يقبض على حمزة بن المغيرة. وكان بهمذان من عجل وربيعة جمع كثير، فسار قيس بن سعد إلى حمزة في جماعة من عشيرته فأقراه العهد بولاية همذان وكتاب الحجاج بالقبض عليه، وقال: سمعاً وطاعة. فقبض قيس على حمزة وجعله في السجن، وتولى قيس همذان، وتفرغ قلب الحجاج من هذه الناحية لقتال مطرف، وكان يخاف مكان حمزة بهمذان لئلا يمد أخاه بالمال والسلاح ولعله ينجده بالرجال. فلما قبض عليه سكن قلبه وتفرغ باله، ولما اجتمع عدي بن زياد الإيادي والبراء بن قبصة سارا نحو مطرف فخندقا عليه، فلما دنوا منه اصطفوا للحرب واقتتلوا قتالاً شديداً، فانهزم أصحاب مطرف وقتل مطرف وجماعة كثيرة من أصحابه، قتله عمير بن هبيرة الفزاري، وحمل رأسه فتقدم بذلك عند بني أمية، وقاتل ابن هبيرة ذلك اليوم وأبلى بلاء حسناً وقتل يزيد بن أبي مولى المغيرة، وكان صاحب راية مطرف، وقتل من أصحابه عبد الرحمن بن عبد الله بن عفيف الأزدي، وكان ناسكاً صالحاً. وبعث عدي بن زياد إلى الحجاج أهل البلاء، فأكرمهم وأحسن إليهم، وآمن عدي بكير بن هارون وسويد بن سرحان وغيرهما، وطلب منه الأمان للحجاج بن حارثة حتى عزل عدي، ثم ظهر في إمارة خالد بن عتاب بن ورقاء.
وكان الحجاج يقول: إن مطرفاً ليس بولد للمغيرة بن شعبة إنما هو ولد مصقلة بن سبرة الشيباني، وكان مصقلة والمغيرة يدعيانه، فألحق بالمغيرة وجلد مصقلة الحد، فلما أظهر رأي الخوارج قال الحجاج ذلك لأن كثيراً من ربيعة كانوا من خوارج ولم يكن منهم أحد من قيس عيلان ذكر الإختلاف بين الأزارقةقد ذكرنا مسير المهلب إلى الأزارقة ومحاربتهم إلى أن فارقه عتاب بن ورقاء الرياحي ورجع إلى الحجاج، وأقام المهلب بعد مسير عاب عنه يقاتل الخوارج، فقاتلهم على سابور نحو سنة قتالاً شديداً. ثم إنه زاحفهم يوم البستان فقاتلهم أشد قتال، وكانت كرمان بيد الخوارج، وفارس بيد الهلب. فضاق على الخوارج مكانهم لا يأتيهم من فارس مادة، فخرجوا حتى أتوا كرمان، وتبعهم المهلب بالعساكر حتى نزل بجيرفت، وهي مدينة كرمان، فقاتلهم قتالاً شديداً. فلما صارت فارس كلها في يد المهلب أرسل الحجاج العمال عليها، فكتب إليه عبد الملك يأمره أن يترك بيد المهلب فسا ودار ابجرد وكورة إصطخر تكون له معونة على الحرب، فتركا له، وبعث الحجاج إلى المهلب البراء بن قبيصة ليحثه على قتال الجوارج ويأمره بالجد وأنه لا عذر له عنده فخرج المهلب بالعساكر فقاتل الخوارج من صلاة الغداة إلى الظهر، ثم انصرفوا والبراء على مكان عال يراهم، فجاء إلى المهلب فقال: ما رأيت كتيبة ولا فرساناً أصبر ولا أشد من الفرسان الذين يقاتلونك. ثم إن المهلب رجع العصر فقاتلهم كقتالهم أول مرة لا يصد كتيبة عن كتيبة، وخرجت كتيبة من كتائب الخوارج لكتيبة من أصحاب المهلب، فاشتد بينهم القتال إلى أن حجز بينهم الليل، فقالت إحداهما للأخرى: من أنتم؟ فقال هؤلاء: نحن من بتي تميم. وقال هؤلاء: نحن من بني تميم. وانصرفوا عند المساء. فقال المهلب للبراء بن قبيصة: كيف رأيت قوما ما يعينك عليهم إلا الله جل ثناؤه؟ فأحسن المهلب إلى البراء وأمر له بعشرة آلاف درهم. وانصرف البراء إلى الحجاج وعرفه عذر المهلب. ثم إن المهلب قاتلهم ثمانية عشر شهراً لا يقدر منهم على شيء. ثم إن عاملا لقطري على ناحية كرمان يدعى المقعطر الضبي قتل رجلاً منهم، فوثبت الخوارج إلى قطري وطلبوا منه أن يقيدهم من المقعطر، فلم بفعل وقال: إنه تأول فأخطأ التأويل، ما رأى أن تقتلوه وهو من ذوي السابقة فيكم، فوقع بينهم الإختلاف. وقيل: كان سبب اختلافهم أن رجلاً كان في عسكرهم يعمل النصول المسمومة فيرمي بها أصحاب المهلب، فشكا أصحابه منها، فقال: أكفيكموه، فوجه رجلاً من أصحابه ومعه كتاب وأمره أن يلقيه في عسكر قطري ولا يراه أحد، ففعل ذلك، ووقع الكتاب إلى قطري، فرأى فيه؛ أما بعد فإن نصالك قد وصلت وقد أنفذت إليك ألف درهم. فأحضر الصانع فسأله فجحد، فقتله قطري، فأنكر عليه عبد ربه الكبير قتله واختلفوا. ثم وضع المهلب رجلاً نصرانياً وأمره أن يقصد قطرياً ويسجد له، ففعل ذلك، فقال له الخوارج: إن هذا قد اتخذك إلهاً. ووثب بعضهم إلى النصراني فقتله، فزاد اختلافهم وفارق بعضهم قطرياً، ثم ولوا عبد ربه الكبير وخلعوا قطرياً وبقي مع قطري منهم نحو من ربعهم أو خمسهم، واقتتلوا فيما بينهم نحوا من شهر. وكتب المهلب إلى الحجاج بذلك. فكتب إليه الحجاج يأمره أن يقاتلهم على حال اختلافهم قبل أن يجتمعوا، فكتب إليه المهلب: إني لست أرى أن أقاتلهم ما دام يقتل بعضهم بعضاً، فإن تموا على ذلك فهو الذي نريد وفيه هلاكهم، وإن اجتمعوا لم يجتمعوا إلا وقد رقق بعضهم بعضاً فأناهضهم حينئذٍ وهم أهون ما كانوا وأضعفه شوكةً إن شاء الله تعالى، والسلام. فسكت عنه الحجاج، وتركهم المهلب يقتتلون شهراً لا يحركهم، ثم إن قطرياً خرج بمن اتبعه نحو طبرستان، وبايع الباقون عبد ربه الكبير. ذكر مقتل عبد ربه الكبيرلما سار قطري إلى طبرستان وأقام عبد ربه الكبير بكرمان نهض إليهم المهلب فقاتلوه قتالاً شديداً وحصرهم بجيرفت وكرر قتالهم وهو لا ينال منهم حاجته. ثم إن الخوارج طال عليهم الحصار فخرجوا من جيرفت بأموالهم وحرمهم فقاتلهم المهلب قتالاً شديداً حتى عقرت الخيل وتكسر السلاح وقتل الفرسان فتركهم، فساروا، ودخل المهلب جيرفت، ثم سار يتبعهم إلى أن لحقهم على أربعة فراسخ من جيرفت فقاتلهم من بكرة إلى نصف النهار وكف عنهم، وأقام عليهم.
ثم إن عبد ربه جمع أصحابه وقال: يا معشر المهاجرين! إن قطرياً ومن معه هربوا طلب البقاء ولا سبيل إليه، فالقوا عدوكم وهبوا أنفسكم لله. ثم عاد للقتال، فاقتتلوا قتالاً شديداً أنساهم ما قبله، فبايع جماعة من أصحاب المهلب على الموت، ثم ترجلت الخوارج وعقروا دوابهم واشتد القتال وعظم الخطب حتى قال المهلب: ما مربي مثل هذا - ثم إن لله تعالى أنزل نصره على المهلب وأصحابه وهزم الخوارج وكثر القتلى فيهم، وكان فيمن قتل: عبد ربه الكبير، وكان عدد القتلى أربعة آلاف قتيل، ولم ينج منهم إلا قليل، وأخذ عسكرهم وما فيه وسبوا لأنهم كانوا يسبون نساء المسلمين. وقال الطفيل بن عامر بن واثلة يذكر قتل عبد ربه الكبير وأصحابه: لقد مس منا عبد رب وجنده ... عقاب فأمسى سبيهم في المقاسم سما لهم بالجيش حتى أزاحهم ... بكرمان عن مثوىً من الأرض ناعم وما قطري الكفر إلا نعامة ... طريد يدوي ليله غير نائم إذا فر منا هارباً كان وجهه ... طريقاً سوى قصد الهدى والمعالم فليس بمنجيه الفرار وإن جرت ... به الفلك في لجٍ من البحر دائم وهي أكثر من هذا تركناها لشهرتها. وأحسن الحجاج إلى أهل البلاء وزادهم، وسير المهلب إلى الحجاج مبشراً، فلما دخل عليه أخبره عن الجيش وعن الخوارج وذكر حروبهم وأخبره عن بني المهلب فقال: المغيرة فارسهم وسيدهم، وكفى بيزيد فارساً شجاعاً، وجوادهم وسخيهم قبيصة، ولا يستحيي الشجاع أن يفر من مدركه، وعبد الملك سم ناقع، وحبيب موت ذعاف، ومحمد ليث غاب، وكفاك بالمفضل نجدة قال: فكيف خلفت الناس؟ قال: خلفتهم بخير، قد أدركوا ما أملوا، وأمنوا ما خافوا، قال: كيف كان بنو المهلب فيهم؟ قال: كانوا حماة السرح نهاراً، فإن أليلوا ففرسان البيات، قال: فأيهم كان أنجد؟ قال: كانوا كالحلقة المفرغة لا يعرف طرفها. فاستحسن قوله وكتب إلى المهلب يشكره ويأمره أن يولي كرمان من يثق به ويجعل فيها من يحميها ويقدم إليه. فاستعمل على كرمان يزيد ابنه، وسار إلى الحجاج، فلما قدم عليه أكرمه وأجلسه إلى جانبه وقال: يا أهل العراق أنتم عبيد المهلب. ثم قال له: أنت كما قال لقيط بن يعمر الإيادي في صفة أمراء الجيوش: وقلدوا أمركم لله دركم ... رحب الذراع بأمر الحرب مضطلعا لا مترفاً إن رخاء العيش ساعده ... ولا إذا عض مكروه به خشعا مسهد النوم تعنيه ثغوركم ... يروم منها إلى الأعداء مطلعا ما انفك يحلب هذا الدهر أشطره ... يكون متبعاً طوراً ومتسعا وليس يشغله مال يثمره ... عنكم ولا ولد يبغي له الرفعا حتى استمرت على شزرٍ مريرته ... مستحكم السن لا قحماً ولا ضرعا وهي قصيدة طويلة هذا هو الأجود منها. ذكر قتل قطري بن الفجاءة وعبيدة بن هلال قيل: وفي هذه السنة كانت هلكة قطري وعبيدة بن هلال ومن معهما من الأزارقة. وكان السبب في ذلك أن أمرهم لما تشتت بالاختلاف الذي ذكرنا، وسار قطري نحو طبرستان، وبلغ خبره الحجاج، سير إليه سفيان بن الأبرد في جيش عظيم. وسار سفيان واجتمع معه إسحاق بن محمد بن الأشعث في جيش لأهل الكوفة بطبرستان، فأقبلوا في طلب قطري فلحقوه في شعب طبرستان فقاتلوه، فتفرق عنه أصحابه ووقع عن دابته فتدهدى إلى أسفل الشعب، وأتاه علج من أهل البلد، فقال له قطري: اسقني الماء. فقال العلج: أعطني شيئاً. فقال: ما معي إلا سلاحي وأنا أعطيكه إذا أتيتني بالماء. فانطلق العلج حتى أشرف على قطري، ثم حدر عليه حجراً من فوقه فأصاب وركه فأوهنه، فصاح بالناس، فاقبلوا نحوه، ولم يعرفه العلج، غير أنه يظن أنه من أشرافهم لكمال سلاحه وحسن هيئته، فجاء إليه نفر من أهل لكوفة فقتلوه، منهم: سورة بن الحر التميمي، وجعفر بن عبد الرحمن بن مخنف، والصباح بن محمد بن الأشعث، وباذان مولاهم، وعمر بن أبي الصلت، وكل هؤلاء ادعى قتله.
فجاء إليهم أبو الجهم بن كنانة فقال لهم: ادفعوا رأسه إلي حتى تصطلحوا، فدفعوه إليه، فأقبل به إلى إسحاق بن محمد وهو على الكوفة فأرسله معه إلى سفيان، فسير سفيان الرأس مع أبي الجهم إلى الحجاج، فسيره الحجاج إلى عبد الملك، فجعل عطاءه في ألفين. ثم إن سفيان سار إليهم فأحاط بهم، ثم أمر مناديه فنادى: من قتل صاحبه وجاء إلينا فهو آمن؛ فقال عبيدة بن هلال في ذلك: لعمري لقد قام الأصم بخبةٍ ... لذي الشك منها في الصدور غليل لعمري لئن أعطيت سفيان بيعتي ... وفارقت ديني أنني لجهول إلى الله أشكو ما ترى بجيادنا ... تساوك هزلى مخهن قليل تعاورها القذاف من كل جانبٍ ... بقومس حتى صعبهن ذلول فإن يك أفناها الحصار فربما ... تشحط فيما بينهن قتيل وقد كن مما إن يقدن على الوجى ... لهن بأبواب القباب صهيل وحصرهم سفيان حتى أكلوا دوابهم، ثم خرجوا إليه فقاتلوه فقتلهم وبعث برؤوسهم إلى الحجاج. ثم دخل سفيان دنباوند وطبرستان فكان هناك حتى عزله الحجاج قبل الجماجم. وقال بعض العملاء: وانقرضت الأزارقة بعد مقتل قطري وعبيدة، إنما كانوا دفعة متصلة أهل عسكر واحد، وأول رؤسائهم نافع بن الأزرق، وآخرهم قطري وعبيدة، واتصل أمرهم بضعاً وعشرين سنة، إلا أني أشك في صبيح المازني التميمي مولى سوار بن الأشعر الخارج أيام هشام، قيل: هو من الأزارقة أو الصفرية، إلا أنه لم تطل أيامه بل قتل عقيب خروجه. ذكر قتل بكير بن وشاحفي هذه السنة قتل أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد بن أبي العيص بن أمية بكير بن وشاح. وكان سبب ذلك أن أمية بن عبد الله، وهو عامل عبد الملك بن مروان على خراسان، أمر بكيراً بالتجهيز لغزو ما وراء النهر، وقد كان قبل ذلك ولاه طخارستان، فتجهز له، فوشى به بحير بن ورقاء إلى أمية، فمنعه عنها، فلما أمره بغزو ما وراء النهر تجهز وأنفق نفقةً كثيرة وادان فيها، فقال بحير لأمية: إن صار بينك وبينه النهر خلع الخليفة. فأرسل إليه أمية: أن أقم لعلي أغزو فتكون معي. فغضب بكير وقال: كأنه يضارني. وكان عقاب ذو القوة الغداني استدان ليخرج مع بكير، فأخذه غرماؤه فحبس حتى أدى عنه بكير. ثم إن أمية تجهز للغزو إلى بخارى ثم يعود منها إلى موسى بن عبد الله بن خازم بترمذ، وتجهيز الناس معه وفيهم بكير، وساروا، فلما بلغوا النهر وأرادوا قطعه قال أمية لبكير: إني قد استخلفت ابني على خراسان وأخاف أنه لا يضبطها لأنه غلام حدث، فارجع إلى مرو فاكفنيها فإني قد وليتكها، فقم بأمر ابني. فانتخب بكير فرساناً كان عرفهم ووثق بهم ورجع، ومضى أمية إلى بخارى للغزاة. فقال عقاب ذو اللقوة لبكير: إنا طلبنا أميراً من قريش فجائنا أمير يلعب بنا ويحولنا من سجن إلى سجن، وإني أرى آت تحرق هذه السفن ونمضي إلى مرو ونخلع أمية ونقيم بمرو ونأكلها إلى يوم ما. ووافقه الأحنف بن عبد الله العنبري على هذا. قال بكير: أخاف أن يهلك هؤلاء الفرسان الذين معي. قال: إن هلك هؤلاء فأنا آتيك من أهل مرو بما شئت. قال: يهلك المسلمون. قال: إنما يكفيك أن ينادي منادٍ: من أسلم رفعنا عنه الخراج، فيأتيك خمسون ألفاً أسمع من هؤلاء وأطوع. قال: فيهلك أمية ومن معه. قال: ولم يهلكون ولهم عدد وعدة ونجدة وسلاح ظاهر ليقاتلوا عن أنفسهم حتى يبلغوا الصين! فحرق بكير السفن ورجع إلى مرو، فأخذ ابن أمية فحبسه وخلع أمية. وبلغ أمية الخبر فصالح أهل بخارى على فدية قليلة ورجع وأمر باتخاذ السفن وعبر وذكر للناس إحسانه إلى بكير مرة بعد أخرى وأنه كافأه بالعصيان، وسار إلى مرو، وأتاه موسى بن عبد الله بن خازم، وأرسل أمية شماس بن دثار في ثمانمائة، فسار إليه بكير وبيته فهزمه وأمر أصحابه أن لا يقتلوا منهم أحداً، فكانوا يأخذون سلاحهم ويطلقونهم، وقدم أمية فتلقاه شماس، فقدم أمية ثابت بن قطبة، فلقيه بكير فأسر ثابتاً وفرق جمعه ثم أطلقه ليدٍ كانت لثابت عنده.
وأقبل أمية وقاتله بكير فانكشف يوماً أصحابه، فحماهم بكير، ثم التقوا يوماً آخر فاقتتلوا قتالاً شديداً، ثم التقوا يوماً آخر فضرب بكير ثابت بن قطبة على رأسه، فحمل حريث بن قطبة أخو ثابت على بكير، فانحاز بكير وانكشف أصحابه، واتبع حريث بكيراً حتى بلغ القنطرة، وناداه: إلى أين يا بكير؟ فرجع، فضربه حريث على رأسه فقطع المغفر وعض السيف رأسه فصرع، واحتمله أصحابه فأدخلوه المدينة، وكانوا يقاتلونهم. فكان أصحاب بكير يغدون في الثياب المصبغة من أحمر وأصفر فيجلسون يتحدثون وينادي مناديهم: من رمى بسهم رمينا إليه برأس رجل من ولده وأهله، فلا يرميهم أحد. وخاف بكير إن طال الحصار أن يخذله الناس، فطلب الصلح وأحب ذلك أيضاً أصحاب أمية، فاصطلحوا على أن يقضي أمية عنه أربعما | |
|
| |
الشيخ عودة الشيخ عودة
عدد المساهمات : 1748 تاريخ التسجيل : 28/09/2008 العمر : 74
| موضوع: رد: كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير الثلاثاء فبراير 11, 2014 3:40 am | |
| ثم دخلت سنة إحدى وثمانين في هذه السنة سير عبد الملك بن مروان ابنه عبيد الله ففتح قاليقلا ذكر مقتل بحير بن ورقاءوفي هذه السنة قتل بحير بن ورقاء الصريمي. وكان سبب قتله أنه لما قتل بكير بن وشاح، وكلاهما تميميان، بأمر أمية بن عبد الله بن خالد إياه بذلك، كما تقدم ذكره، قال عثمان بن رجاء بن جابر أحد بني عوف بن سعد من الأنباء يحرض بعض آل بكير من الأنباء، والأنباء عدة بطون من تميم سموا بذلك: لعمري لقد أغضبت عيناً على القذى ... وبت بطيناً من رحيقٍ مروق وخليت ثأراً طل واخترت نومةً ... ومن يشرب الصهباء بالوتر يسبق فلو كنت من عوف بن سعدٍ ذؤابةً ... تركت بحيراً في دمٍ مترقرق فقل لبحير نم ولا تخشى ثائراً ... ببكر فعوف أهل شاءٍ حبلق دع الضأن يوماً قد سبقتم بوتركم ... وصرتم حديثاً بين غربٍ ومشرق وهبوا فلو أمسى بكير كعهده ... لغاداهم زحفاً بجأواء فيلق وقال أيضاً: فلو كان بكر بارزاً في أداته ... وذي العرش لم يقدم عليه بحير ففي الدهر إن أبقاني الدهر مطلب ... وفي الله طلاب بذاك جدير فبلغ بجحيراً أن رهط بكير من الأبناء يتوعدونه فقال: توعدني الأبناء جهلاً كأنما ... يرون مقفراً من بني كعب رفعت له كفي بعضبٍ مهندٍ ... حسام كلون الثلج ذي رونق عضب فتعاقد سبعة عشر رجلاً من بني عوف الطلب بدم بكير، فخرج فتىً منهم يقال له شمردل من البادية حتى قدم خراسان فرأى بحيراً واقفاً فحمل عليه، فطعنه فصرعه وظن أنه قد قتله، فقال الناس: خارجي، وراكضهم، فعثر به فرسه فسقط عنه فقتل. وخرج صعصعة بن حرب العوفي من البادية، وقد باع غنيمات له، ومضى إلى سجستان فجاور قرابة لبحير مدة وادعى إلى بني حنيفة من اليمامة وأطال مجالستهم حتى أنسوا به، ثم قال لهم: إن لي بخراسان ميراثاً فاكتبوا لي إلى بحير كتاباً ليعينني على حقي. فكتبوا له، وسار فقدم على بحير وهو مع المهلب في غزوته، فلقي قوماً من بني عوف، فأخبرهم أمره، ولقي بحيراً فأخبره أنه من بني حنيفة من أصحاب ابن أبي بكرة وأن له مالاً بسجستان وميراثاً بمرو، وقدم ليبيعه ويعود إلى اليمامة. فأنزله بحير وأمر له بنفقة ووعده، فقال صعصعة: أقيم عندك حتى يرجع الناس؛ فأقام شهراً يحضر معه باب المهلب، وكان بحير قد حذر، فلما أتاه صعصعة بكتاب أصحابه وذكر أنه من حنيفة آمنه. فجاء يوماً صعصة وبحير عند المهلب عليه قميص ورداء، فقعد خلفه ودنا منه كأنه يكلمه فوجأه بخنجر معه في خاصرته فغيبه في جوفه، ونادى: يا لثارات بكير! فاخذ وأتي به المهلب، فقال له: بؤساً لك! ما أدركت بثأرك وقتلت نفسك، وما على بحير بأس. فقال: لقد طعنته طعنةً لو قسمت بين الناس لماتوا، ولقد وجدت ريح بطنه في يدي. فحبسه، فدخل عليه قوم من الأبناء فقبلوا رأسه. ومات بحير من الغد، فقال صعصعة لما مات بحير: اصنعوا الآن ما شئتم، أليس قد حلت نذور أبناء بني عوف وأدركت بثأري؟ والله لقد أمكنني منه خالياً غير مرة فكرهت أن أقتله سراً. فقال المهلب: ما رأيت رجلاً أسخى نفساً بالموت من هذا. وأمر بقتله فقتل. وقيل: إن المهلب بعثه إلى بحير قبل أن يموت، فقتله، ومات بحير بعده. وعظم موته على المهلب وغضبت عوف والأبناء وقالوا: علام قتل صاحبنا وإنما أخذ بثأره؟ فنازعهم مقاعس والبطون، وكلهم بطون من تميم، حتى خاف الناس أن يعظم الأمر، فقال أهل الحجى: احملوا دم صعصعة واجعلوا دم بحير ببكير، فودوا صعصعة؛ فقال رجل من الأبناء يمدح صعصعة: لله در فتىً تجاوز همه ... دون العراق مفاوزاً وبحورا ما زال يدئب نفسه وركابه ... حتى تناول في الحروب بحيرا ذكر دخول الديلم قزوين وما كان منهم
كانت قزوين ثغر المسلمين من ناحية ديلم، فكانت العساكر لا تبرح مرابطة بها يتحارسون ليلاً ونهاراً، فلما كان هذه السنة كان في جماعة من رابط بها محمد بن أبي سبرة الجعفي، وكان فارساً شجاعاً عظيم الغناء في حروبه، فلما قدم قزوين رأى الناس يتحارسون فلا ينامون الليل، فقال لهم: أتخافون أن يدخل عليكم العدو مدينتكم؟ قالوا: نعم. قال: لقد أنصفوكم إن فعلوا، افتحوا الأبواب ولا بأس عليكم، ففتحوها. وبلغ ذلك الديلم فساروا إليهم وبيتوهم وهجموا إلى البلد، وتصايح الناس، فقال ابن أبي سبرة: أغلقوا أبواب المدينة علينا وعليهم فقد أنصفونا وقاتلوهم. فاغلقوا الأبواب وقاتلوهم، وأبلى ابن أبي سبرة بلاءً عظيماً، وظفر بهم المسلمون، فلم يفلت من الديلم أحد، واشتهر اسمه بذلك، ولم يعد الديلم بعدها يقدمون على مفارقة أرضهم. فصار محمد فارس ذلك الثغر المشار إليه، وكان يدمن شرب الخمر، وبقي كذلك إلى أيام عمر بن عبد العزيز، فأمر بتسييره إلى زرارة، وهي دار الفساق بالكوفة، فسير إليها، فأغارت الديلم ونالت من المسلمين، وظهر الخلل بعده، فكتبوا إلى عبد الحميد بن عبد الرحمن أمير الكوفة يسألونه أن يرد عليهم ابن أبي سبرة، فكتب بذلك إلى عمر، فأذن له في عوده إلى الثغر، فعاد إليه وحماه. ولمحمد أخ يقال له خثيمة بن عبد الرحمن، وهو اسم أبي سبرة، وكان من الفقهاء. ذكر خلاف عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث على الحجاجوفي هذه السنة خالف عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث ومن معه من جند العراق على الحجاج وأقبلوا إليه لحربه، وقيل: كان ذلك سنة اثنتين وثمانين. وكان سبب ذلك أن الحجاج لما بعث عبد الرحمن بن محمد على الجيش إلى بلاد رتبيل فدخلها وأخذ منها الغنائم والحصون كتب إلى الحجاج يعرفه ذلك وأن رأيه أن يتركوا التوغل في بلاد رتبيل حتى يعرفوا طريقها ويجبوا خراجها على ما سبق ذكره. فلما أتى كتابه إلى الحجاج كتب جوابه: إن كتابك كتاب امرئ يحب الهدنة ويستريح إلى الموادعة، قد صانع عدواً قليلاً ذليلاً، قد أصابوا من المسلمين جنداً كان بلاؤهم حسناً وغناؤهم عظيماً، وغنك حيث تكف عن ذلك العدو بجندي وحدي لسخي النفس بمن أطيب من المسلمين، فامض لما أمرتك به من الوغول في أرضهم والهدم لحصونهم وقتل مقاتلتهم وسبي ذراريم، ثم أردفه كتاباً آخر بنحو ذلك، وفيه: أما بعد فمر من قبلك من المسلمين فليحرثوا وليقيموا بها فإنها دارهم حتى يفتحها الله عليهم. ثم كتب إليه ثالثاً بذلك، ويقول له: إن مضيت لما أمرتك وإلا فأخوك إسحاق بن محمد أمير الناس. فدعا عبد الرحمن الناس وقال لهم: أيها الناس إني لكم ناصح، ولصلاحكم محب ولكم في كل ما يحيط بكم نفعكم ناظر، وقد كان رأيي فيما بيني وبين عدوي بما رضيه ذوو أحلامكم وأولو التجربة منكم، وكتبت بذلك إلى أميركم الحجاج فأتاني كتابه يعجزني ويضعفني ويأمرني بتعجل الوغول بكم في أرض العدو، وهي البلاد التي هلك فيها إخوانكم بالأمس، وإنما أنا رجل منكم أمضي إذا مضيتم وآبى إذا أبيتم. فثار إليه الناس وقالوا: بل نأبى على عدو الله ولا نسمع له ولا نطيع. فكان أول من تكلم أبو لطفيل عامر بن واثلة الكناني، وله صحبة، فقال بعد حمد الله: أما بعد فإن الحجاج يرى بكم ما رأى القائل الأول: احمل عبدك على الفرس فإن هلك هلك، وغن نجا فلك. إن الحجاج ما يبالي أن يخاطر بكم فيقحمكم بلايا كثيرة ويغشي اللهوب واللصوب، فإن ظفرتم وغنمتم أكل البلاد وحاز المال وكان ذلك زيادة في سلطانه، وإن ظفر عدوكم كنتم أنتم الأعداء البغضاء الذين لا يبالي عنتهم ولا يبقي عليهم. اخلعوا عدو الله الحجاج وبايعوا الأمير عبد الرحمن، فإني أشهدكم أني أول خالع. فنادى الناس من كل جانب: فعلنا فعلنا، قد خلعنا عدو الله. وقام عبد المؤمن بن شبث بن ربعي فقال: عباد الله! إنكم إن أطعتم الحجاج جعل هذه البلاد بلادكم ما بقيتم وجمركم تجمير فرعون الجنود، فإنه بلغني أنه أول من جمر البعوث، ولن تعاينوا الأحبة أو يموت أكثركم فيما أرى، فبايعوا أميركم وانصرفوا إلى عدوكم الحجاج فانفوه عن بلادكم. فوثب الناس إلى عبد الرحمن فبايعوه على خلع الحجاج ونفيه من أرض العراق وعلى النصرة له، ولم يذكر عبد الملك.
وجعل عبد الرحمن على بست عياض بن هميان الشيباني، وعلى زرنج عبد الله بن عامر التميمي، وصالح رتبيل على أن ابن الأشعث إن ظهر فلا خراج عليه أبداً ما بقي، وإن هزم فأراد منعه. ثم رجع إلى العراق، فسار بين يديه أعشى همدان وهو يقول: شطت نوى من داره بالإيوان ... إيوان كسرى ذي القرى والريحان من عاشقٍ أمسى بزابلستان ... إن ثقيفاً منهم الكذابان كذابها الماضي وكذاب ثان ... أمكن ربي من ثقيف همدان يوماً إلى الليل يسلي ما كان ... إنا سمونا للكفور الفتان حين طغى في الكفر بعد الإيمان ... بالسيد الغطريف عبد الرحمن سار بجمع كالدبا من قحطان ... ومن معدٍ قد أتى من عدنان بجحفلٍ جمٍ شديد الأركان ... فقل لحجاجٍ ولي الشيطان يثبت بجمع مذحجٍ وهمدان ... فإنهم ساقوه كأس الذيفان وملحقوه بقرى ابن مروان وجعل عبد الرحمن على مقدمته عطية بن عمرو العنبري، وجعل على كرمان حريثة بن عمرو التميمي، فلما بلغ فارس اجتمع الناس بعضهم إلى بعض وقالوا: إذا خلعنا الحجاج عامل عبد الملك فقد خلعنا عبد الملك. فاجتمعوا إلى عبد الرحمن، فكان أول الناس خلع عبد الملك تيجان بن أبحر من تميم الله بن ثعلبة، قام فال: أيها الناس إني خلعت أبا ذبان كخلعي قميصي. فخلعه الناس إلا قليلاً منهم، وبايعوا بعد الرحمن، وكانت بيعته: نبايع على كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، وعلى جهاد أهل الضلالة وخلعها وجهاد المحلين. فلما بلغ الحجاج خلعه كتب إلى عبد الملك بخبر عبد الرحمن وسأله أن يعجل بعثة الجنود إليه. وسار الحجاج حتى نزل البصرة. ولما بلغ المهلب خبر عبد الرحمن كتب إلى الحجاج من خراسان: أما بعد فإن أهل العراق قد أقبلوا إليك وهم مثل السيل ليس يردهم شيء حتى ينتهي إلى قراره، وإن لأهل العراق شدة في أول مخرجهم وصبابة إلى أبنائهم ونسائهم، فاتركهم حتى يسقطوا إلى أهاليهم ويشموا أولادهم ثم واقعهم عندها، فإن الله ناصرك عليهم. فلما قرأ كتابه سبه وقال: ما إلي نظر وإنما النظر لابن عمه، يعني عبد الرحمن. ولما وصل كتاب الحجاج إلى عبد الملك هاله ودعا خالد بن يزيد فأقرأه الكتاب، فقال: يا أمير المؤمنين إن كان الحدث من سجستان فلا تخفه، فإن كان من خراسان فإني أتخوفه. فجهز عبد الملك الجند إلى الحجاج، فكانوا يصلون إلى الحجاج على البريد من مائة ومن خمسين وأقل وأكثر، وكتب الحجاج تتصل بعبد الملك كل يوم بخبر عبد الرحمن. فسار الحجاج من البصرة ليلتقي عبد الرحمن، فنزل تستر وقدم بين يديه مقدمة إلى دجيل، فلقوا عنده خيلاً لعبد الرحمن، فانهزم أصحاب الحجاج بعد قتال شديد، وكان ذلك يوم الأضحى سنة إحدى وثمانين، وقتل منهم جمع كثير. فلما أتى خبر الهزيمة إلى الحجاج رجع إلى البصرة وتبعه أصحاب عبد الرحمن فقتلوا منهم وأصابوا بعض أثقالهم، وأقبل الحجاج حتى نزل الزاوية وجمع عنده الطعام وترك البصرة لأهل العراق، ولما رجع نظر في كتاب المهلب فقال: لله دره أي صاحب حرب هو! وفرق في الناس مائة وخمسين ألف ألد فرهم. فأقبل عبد الرحمن حتى دخل البصرة، فبايعه جميع أهلها قراؤها وكهولها مستبصرين في قتلا الحجاج ومن معه من أهل الشام. وكان السبب في سرعة إجابتهم إلى بيعته أن عمال الحجاج كتبوا إليه: إن الخراج قد أنكر، وإن أهل الذمة قد أسلموا ولحقوا بالأمصار. فكتب إلى البصرة وغيرها: إن من كان له أصل من قرية فليخرج إليها، فاخرج الناس لتؤخذ منهم الجزية، فجعلوا يبكون وينادون: يا محمداه ولا يدرون أين يذهبون، وجعل قراء البصرة يبكون لما يرون، فلما قدم ابن الأشعث عقيب ذلك بايعوه على حرب الحجاج وخلع عبد الملك. وخندق الحجاج على نفسه وخندق عبد الرحمن على البصرة؛ وكان دخول عبد الرحمن البصرة في آخر ذي الحجة. ذكر عدة حوادثوحج بالناس هذه السنة سليمان بن عبد الملك، وكان ممن حج أم الدرداء الصغرى. وفيها ولد ابن أبي ذئب.
وكان العامل على المدينة أبان بن عثمان، وعلى العراق والمشرق كله الحجاج، وعلى خراسان المهلب، وعلى قضاء الكوفة أبو بردة، وعلى قضاء البصرة عبد الرحمن بن أذينة. وكانت سجستان وكرمان وفارس والبصرة بيد عبد الرحمن. ثم دخلت سنة اثنتين وثمانين ذكر الحرب بين الحجاج وابن الأشعث قيل: في المحرم من هذه السنة اقتتل عسكر الحجاج وعسكر عبد الرحمن بن الأشعث قتالاً شديداً، قتزاحفوا في المحرم عدة دفعات، فلما كان ذات يوم في آخر المحرم اشتد قتالهم فانهزم أصحاب الحجاج حتى انتهوا إليه وقاتلوا على خنادقهم، ثم إنهم تزاحفوا آخر يوم من المحرم، فجال أصحاب الحجاج وتقوض صفهم، فجثا الحجاج على ركبتيه وقال: لله در مصعب ما كان أكرمه حين نزل به ما نزل وعزم على أنه لا يفر. فحمل سفيان بن الأبرد الكلبي على الميمنة التي لعبد الرحمن فهزمها وانهزم أهل العراق وأقبلوا نحو الكوفة مع عبد الرحمن وقتل منهم خلق كثير، منهم عقبة بن عبد الغافر الأزدي وجماعة من القراء قتلوا ربضة واحدة معه. ولما بلغ عبد الرحمن الكوفة تبعه أهل القوة وأصحاب الخيل من أهل البصرة، واجتمع من بقي في البصرة مع عبد الرحمن بن عباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب فبايعوه، فقاتل بهم الحجاج خمس ليالٍ أشد قتال رآه الناس، ثم انصرف فلحق بابن الأشعث وبعه طائفة من أهل البصرة، وقتل منهم طفيل بن عامر بن واثلة، فقال أبوه يرثيه، وهو من الصحابة: خلى طفيل علي الهم فانشعبا ... وهد ذلك ركني هدةً عجبا مهما نسيت فلا أنساه إذ حدقت ... به الأسنة مقتولاً ومنسلبا وأخطأتني المنايا لا تكالعني ... حتى كبرت ولن يتركن لي نسبا وكنت بعد طفيلٍ كالذي نضبت ... عنه السيول وغاض الماء فانقبضا وهي أبيات عدة. وهذه الوقعة تسمى يوم الزاوية. فأقام الحجاج أول صفر واستعمل على البصرة الحكم بن أيوب الثقفي. وسار عبد الرحمن إلى الكوفة، وقد كان الحجاج استعمل عليها عند مسيره إلى البصرة عبد الرحمن بن عبد الرحمن بن عبد الله بن عامر الحضرمي حليف بني أمية، فقصده مطر بن ناجية اليربوعي، فتحصن من ابن الحضرمي في القصر، ووثب أهل الكوفة مع مطر، فاخرج ابن الحضرمي ومن معه من أهل الشام، وكانوا أربعة آلاف، واستولى مطر على القصر، واجتمع الناس وفرق فيهم مائتي درهم مائتي درهم. فلما وصل ابن الأشعث إلى الكوفة كان مطر بالقصر، فخرج أهل الكوفة يستقبلونه، ودخل الكوفة وقد سبق إليه همدان، فكانوا حوله، فأتى القصر، فمنعه مطر بن ناجية ومعه جماعة من بني تميم، فاصعد عبد الرحمن الناس في السلاليم إلى القصر، فأخذوه، فأتي عبد الرحمن بمطر بن ناجية فحبسه ثم أطلقه وصار معه. فلما استقر عبد الرحمن بالكوفة اجتمع إليه الناس وقصده أهل البصرة، منهم عبد الرحمن بن لعباس بن ربيعة الهاشمي بعد قتاله الحجاج بالبصرة. وقتل الحجاج يوم الزاوية بعد الهزيمة أحد عشر ألفاً خدعهم بالأمان وأمر منادياً فنادى: لا أمان لفلان بن فلان، فسمى رجالاً، فقال العامة: قد آمن الناس، فحضروا عنده فأمر بهم فقتلوا. ذكر وقعة دير الجماجموكانت وقعة دير الجماجم في شعبان من هذه السنة، وقيل: كانت سنة ثلاث وثمانين. وكان سببها أن الحجاج سار من البصرة إلى الكوفة لقتال عبد الرحمن بن محمد فنزل دير قوة، وخرج عبد الرحمن من الكوفة فنزل دير الجماجم. فقال الحجاج: إن عبد الرحمن نزل دير الجماجم ونزلت دير القرة، أما تزجر الطير؟ واجتمع إلى عبد الرحمن أهل الكوفة وأهل البصرة والقراء وأهل الثغور والمسالح بدير الجماجم فاجتمعوا على حرب الحجاج لبغضه، وكانوا مائة ألف ممن يأخذ العطاء ومعهم مثلهم، وجاءت الحجاج أيضاً أمداد من الشام قبل نزوله بدير قرة، وخندق كل منهما على نفسه، فكان الناس يقتلون كل يوم ولا يزال أحدهما يدني خندقه من الآخر.
ثم إن عبد الملك وأهل الشام قالوا: إن كان ير1ضى أهل العراق بنزع الحجاج عنهم نزعناه فإن عزله أيسر من حربهم ونحقن بذلك الدماء. فبعث عبد الملك ابنه عبد الله وأخاه محمد بن مروان، وكان محمد بأرض الموصل، إلى الحجاج في جند كثيف وأمرهما أن يعرضا على أهل العراق عزل الحجاج وأن يجريا عليهم أعطياتهم كما يجرى على أهل الشام، وأن ينزل عبد الرحمن بن محمد أي بلد شاء من بلد العراق، فإذا نزله كان والياً عليه ما دام حياً وعبد الملك خليفةً، فغن أجاب أهل العراق إلى ذلك عزلا الحجاج عنها وصار محمد بن مروان أمير العراق، وإن أبى أهل العراق قبول ذلك فالحجاج أمي الجماعة ووالي القتال ومحمد بن مروان وعبد الله بن عبد الملك في طاعته. فلم يأت الحجاج أمر قط كان أشد عليه ولا أوجع لقلبه من ذلك، فخاف أن يقبل أهل العراق عزله فيعزل عنهم، فكتب إلى عبد الملك: والله لو أعطيت أهل العراق نزعي لم يلبثوا إلا قليلاً حتى يخالفوك ويسيروا إليك ولا يزيدهم ذلك إلا جرأة عليك، أم تر ويبلغك وثوب أهل العراق مع الأشتر على ابن عفان وسؤالهم نزع سعيد بن العاص، فلما نزعه لم تتم لهم السنة حتى ساروا إلى عثمان فقتلوه، وإن الحديد بالحديد يفلح. فأبى عبد الملك إلا عرض عزله على أهل العراق. فلما اجتمع عبد الله ومحمد مع الحجاج خرج عبد الله بن عبد الملك وقال: يا أهل العراق أنا ابن أمير المؤمنين، وهو يعطيكم كذا وكذا. وخرج محمد بن مروان وقال: أنا رسول أمير المؤمنين، وهو يعرض عليكم كذا وكذا، فذكر هذه الخصال. فقالوا: نرجع العشية، فرجعوا واجتمع أهل العراق عند ابن الأشعث، فقال لهم: قد أعطيتم أمراً، انتهازكم اليوم إياه فرصة، وإنكم اليوم على النصف، فإن كان اعتدوا عليكم بيوم الزاوية فأنتم تعتدون عليهم بيوم تستر، فاقبلوا ما عرضوا عليكم وأنتم أعزاء أقوياء لقوم هم لكم هائبون وأنتم منتقصون، فوالله لا زلتم عليهم جرآء وعندهم أعزاء أبداً ما بقيتم إن أنتم قبلتم. فوثب الناس من كل جانب فقالوا: إن الله قد أهلكهم فأصبحوا في الضنك والمجاعة والقلة والذلة، ونحن ذوو العدد الكثير والسعر الرخيص والمادة القريبة، لا والله لا نقبل! وأعادوا خلعه ثانية. وكان أول من قام بخلعه بدير الجماجمع عبد الله بن ذؤاب السلمي وعمير بن تيجان وكان اجتماعهم على خلعه بالجماجم أجمع من خلعهم إياه بفارس. فقال عبد الله بن عبد الملك ومحمد بن مروان للحجاج: شأنك بعسكرك وجندك واعمل برأيك فإنا قد أمرنا أن نسمع لك ونطيع. فقال: قد قلت: إنه لا يراد بهذا الأمر غيركم، فكانا يسلمان عليه بالإمرة ويسلم عليهما بالإمرة. فلما اجتمع أهل العراق بالجماجم على خلع عبد الملك قال عبد الرحمن: ألا إن بني مروان يعيرون بالزرقاء، والله ما لهم نسب أصح منه إلا أن بني أبي العاص أعلاج من أهل صفورية، فإن يكن هذا الأمر من قريش فمني تقويت بيضة قريش، وإن يك في العرب فأنا ابن الأشعث، ومد بها صوته يسمع الناس وبرزوا للقتال. فجعل الحجاج على ميمنته عبد الرحمن بن سليم الكلبي، وعلى ميسرته عمارة بن تميم اللخمي، وعلى خيله سفيان بن الأبرد الملبي، وعلى رجاله عبد الله بن خبيب الحكمي؛ وجعل عبد الرحمن بن محمد على ميمنته الحجاج بن حارثة الخثعمي، وعلى ميسرته الأبرد بن قرة التميمي، وعلى خيله عبد الرحمن بن العباس بن ربيعة الهاشمي، وعلى رجاله محمد بن سعد بن أبي وقاص، وعلى مجنبته عبد الله بن رزام الحارثي، وجعل على القراء جبلة بن زحر بن قيس الجعفي، وفيهم سعيد بن جبير وعامر الشعبي وأبو البختري الطائي وعبد الرحمن بن أبي ليلى.
ثم أخذوا يتزاحفون كل يوم ويقتتلون وأهل العراق تأتيهم موادهم من الكوفة وسادها وهم في خصب، وأهل الشام في ضنك شديد قد غلت عليهم الأسعار وفقد عندهم اللحم كأنهم في حصار، وهم على ذلك يغادون القتال ويراوحون. فلما كان اليوم الذي قتل فيه جبلة بن زحر بن قيس، وكانت كتيبته تدعى القراء تحمل عليهم فلا يبرحون، وكانوا قد عرفوا بذلك، وكان فيهم كميل بن زياد، وكان رجلاً ركيناً. فخرجوا ذات يوم كما كانوا يخرجون، وعبأ الحجاج صفوفه وعبأ عبد الرحمن أصحابه، وعبأ الحجاج لكتيبة القراء ثلاث كتائب وبعث عليها الجراح بن عبد الله الحكمي، فأقبلوا نحوهم فحملوا على القراء ثلاث حملات كل كتيبة تحمل حملة فلم يبرحوا وصبروا. ذكر وفاة المغيرة بن المهلبوفي هذه السنة مات المغيرة بن المهلب بخراسان، وكان قد استخلفه أبوه المهلب على عمله بخراسان، فمات في رجب سنة اثنتين وثمانين، فأتى الخبر يزيد بن المهلب وأهل العسكر فلم يخبروا المهلب، فأمر يزيد النساء فصرخن، فقال المهلب: ما هذا؟ فقيل: مات المغيرة. فاسترجع وجزع حتى ظهر جزعه، فلامه بعض خاصته، ثم دعا يزيد ووجهه إلى مرو ووصاه بما يعمل وإن دموعه لتحدر على لحيته. فكان المهلب مقيماً بكش بما وراء النهر يحارب أهلها، فسار يزيد في تين فارساً، ويقال سبعين، فلقيهم خمسمائة من الترك في مفازة بست، فقالوا: ما أنتم؟ قالوا: تجار قالوا: فأعطونا شيئاً. فأبى يزيد، فأعطاهم مجاعة بن عبد الرحمن العتكي ثوباً وكرابيس وقوساً، فانصرفوا ثم غدروا وعادوا إليهم فقاتلوهم فاشتد القتال بينهم، ومع يزيد رجل من الخوارج كان قد أخذه، فقال: استبقني، فاستبقاه. فحمل الخارجي عليهم حتى خالطهم وصار من ورائهم وقتل رجلاً ثم كر حتى خالطهم وقتل رجلاً ورجع إلى يزيد، وقتل يزيد عظيماً من عظمائهم، ورمي يزيد في ساقه، فاشتدت شوكتهم، وصبر يزيد حتى جاوزهم، فقالوا: قد غدرنا ولا ننصرف حتى نموت أو تموتوا أو تعطونا شيئاً، فلم يعطهم يزيد شيئاً. فقال مجاعة: أذكر الله، قد هلك المغيرة، فأنشدك الله أن تهلك فتجتمع على المهلب المصيبة. فقال: إن المغيرة لم يعد أجله ولست أعدو أجلي. فرمى إليهم مجاعة بعمامة صفراء فأخذوها وانصرفوا. ذكر صلح المهلب أهل كشوفي هذه السنة صالح المهلب أهل كش. وكان سبب ذلك أنه اتهم قوماً من مضر فحبسهم وصالح وقفل وخلف حريث بن قطبة مولى خزاعة وقال: إذا استوفيت الفدية فرد عليهم الرهن. وسار المهلب فلما صار ببلخ كتب إلى حريث: إني لست آمن إن رددت عليهم الرهن أن يغيروا عليك، فإذا قبضت الفدية فلا تخل الرهن حتى تقدم أرض بلخ. فقال حريث لملك كش: إن المهلب كتب إلي كذا وكذا، فغن عجلت الفدية سلمت إليك الرهن وسرت وأخبرته أن كتابه ورد وقد استوفيتها منكم ورددت عليكم الرهن. فعجل ملك كش الفدية وأخذ الرهن، ورجع حريث، فعرض لهم الترك فقالوا له: افد نفسك ومن معك، فقد لقينا يزيد بن المهلب ففدى نفسه. فقال حريث: ولدتني إذاً أم يزيد. وقاتلهم فقتلهم وأسر منهم، أسرى، ففدوهم فأطلقهم ورد عليهم الفداء. وبلغ المهلب قوله فقال: يأنف العبد أن تلده أم يزيد، فغضب، فلما قدم عليه بلخ قال: أين الرهن؟ قال: خليتهم قبل وصول كتابك وقد كفيت ما خفت. قال: كذبت ولكنك تقربت إليهم. وأمر بتجريده، فجزع من ذلك حتى ظن المهلب أن به مرضاً، فجرده وضربه ثلاثين سوطاً. فقال حريث: وددت أنه ضربني ثلاثمائة ولم يجردني أنفة وحياء؛ وحلف ليقتلن المهلب. فركب يوماً مع المهلب فأمر غلامين له أن يضربا المهلب، فلم يفعلا وقالا: نخاف عليك أن تقتل. وترك حريث إتيان المهلب، فأرسل إليه أخاه ثابت بن قطبة ليأتيه به وقال له: إنك كبعض ولدي أدبه كبعضهم، فأتى ثابت أخاه وسأله أن يركب إلى المهلب، فلم يفعل، وحلف ليقتله، فقال ثابت: إن كان هذا رأيك فاخرج بنا إلى موسى بن عبد الله بن خازم. وخاف ثابت أن يقتل حريث المهلب فيقتلون جميعاً، فخرجا في ثلاثة من أصحابهما المنقطعين إليهما. ذكر وفاة المهلب بن أبي صفرة وولاية ابنه يزيد خراسان
لما صالح المهلب أهل كش رجع يريد مرو، فلما كان بمرو الروذ أخذته الشوصة، وقيل الشوكة، فمات منها، وأوصى إلى ابنه حبيب فصلى عليه، وقال لهم: قد استخلف عليكم يزيد فلا تخالفوه. فقال له ابنه المفضل: لو لم تقدمه لقدمناه. واحضر ولده فوصاهم، وأحضر سهاماً فحزمت، فقال: أتكسرونها مجتمعة؟ قالوا: لا قال: أفتكسرونها متفرقة؟ قالوا: نعم. قال: فهكذا الجماعة. ثم قال: أوصيكم بتقوى الله وصلة الرحم فإنها تنسئ في الأجل وتثري المال وتكثر العدد، وأنهاكم عن القطيعة فإنها تعقب النار والقلة والذلة، وعليكم بالطاعة والجماعة، وليكن فعالكم أفضل من مقالكم، واتقوا الجواب وزلة اللسان، فإن الرجل تزل قدمه فينتعش منها ويزل لسانه فيهلك، اعرفوا لمن يغشاكم حقه، فكفى بغدو الرجل ورواحه إليكم تذكرة له، وآثروا الجود على البخل، وأحيوا العرف، واصنعوا المعروف، فإن الرجل من العرب تعده العدة فيموت دونك فكيف بالصنيعة عنده عليكم في الحرب بالتؤدة والمكيدة، فإنها أنفع من الشجاعة، وإذا كان اللقاء نزل القضاء فإن أخذ الرجل بالحزم فظفر قيل أتى الأمر من وجهه فظفر فحمد، وإن لم يظفر قيل ما فرط ولا ضيع ولكن القضاء غالب، وعليكم بقراءة القرآن وتعليم السنن وأدب الصالحين، وإياكم وكثرة الكلام في مجالسكم. ثم مات، رحمه الله، فقال نهار بن توسعة التميمي يرثيه: ألا ذهب المعروف والعز والغنى ... ومات الندى والجود بعد المهلب أقام بمرو الروذ رهن ضريحه ... وقد غاب عنه كل شرقٍ ومغرب إذا قيل أي الناس أولى بنعمةٍ ... على الناس قلنا هو ولم نتهيب فلما توفي كتب ابنه إلى الحجاج يعلمه بوفاته، فاقر يزيد على خراسان. ذكر عدة حوادثوفي هذه السنة عزل عبد الملك أبان بن عثمان عن المدينة في جمادى الآخرة واستعمل عليها هشام بن إسماعيل المخزومي، فعزل هشام نوفل بن مساحق عن قضاء المدينة، وولى على القضاء عمرو بن خالد الزرقي، وفيها غزا محمد بن مروان أرمينية فهزمهم، ثم سألوه الصلح فصالحهم وولى عليهم أبا شيخ بن عبد الله، فغدروا به فتقلوه، وقيل: بل قتلوه سنة ثلاث وثمانين. وفيها قتل عبد الله بن شداد بن الهاد الليثي بدجيل. وفيها مات أو الجوزار أوس بن عبد الله الربعي، وعطاء بن عبد الله السليمي العابد. السليمي بفتح السين المهملة، وكسر اللام. وفيها مات زاذان، وأبو وائل، وعمر بن عبيد الله بن معمر التيمي، وعمره ستون سنة. وفيها مات أبو أمامة الباهلي، وقيل: سنة إحدى وتسعين. ثم دخلت سنة ثلاث وثمانين ذكر بقية الوقعة بدير الجماجم فلما حملت كتائب الحجاج الثلاث على القراء من أصحاب عبد الرحمن وعليهم جبلة بن زحر نادى جبلة: يا عبد الرحمن بن أبي ليلى! يا معشر القراء! إن الفرار ليس بأحد بأقبح منه منكم، غني سمعت علي بن أبي طالب، رفع الله درجته في الصالحين وآتاه ثواب الصاديقين والشهداء، يقول يوم لقينا أهل الشام: أيها المؤمنون إنه من رأى عدواناً يعمل به ومنكراً يدعة إليه فأنكره بقلبه فقد سلم وبرئ، ومن أنكره بلسانه فقد أجسر وهو أفضل من صاحبه، ومن أنكره بالسيف لتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الظالمين السفلى، فذلك الذي أصاب سبيل الهدى ونور في قلبه باليقين، فقاتلوا هؤلاء المحلين المحدثين المبتدعين الذين جهلوا الحق فلا يعرفونه، وعملوا بالعدوان فليس ينكرونه. وقال أبو البختري: أيها الناس قاتلوهم على دينكم ودنياكم. فقال الشعبي: أيها الناس قاتلوهم ولا يأخذكم حرج من قتالهم، والله ما أعلم على بسيط الأرض أعمل بظلم ولا أجور في حكم منهم. وقال سعيد بن جبير نحو ذلك، وقال جبلة: احملوا عليهم حملةً صادقةً، ولا تردوا وجوهكم عنهم حتى توقعوا صفهم. فحملوا عليهم حملةً صادقةً، فضربوا الكتائب حتى أزالوها وفرقوها، وتقدموا حتى واقعوا صفهم فأزالوه عن مكانه، ثم رجعوا فوجدوا جبلة بن زحر قتيلاً لا يدرون كيف قتل.
وكان سبب قتله أن أصحابه لما حملوا على أهل الشام ففرقوهم وقف لأصحابه ليرجعوا إليه فافترقت فرقة من أهل الشام فوقفت ناحية، فلما رأوا أصحاب جبلة قد تقدموا قال بعضهم لبعض: هذا جبلة، احملوا عليه ما دام أصحابه مشاغيل بالقتال. فحملوا عليه فلم يول لكنه حمل عليهم فقتلوه، وكان الذي قتله الوليد بن تحيت الكلبي، وجيء برأسه إلى الحجاج فبشر أصحابه بذلك. فلما رجع أصحاب جبلة ورأوه قتيلاً سقط في أيديهم وتنازعوه بينهم، فقال لهم أبو البختري: لا يظهرن عليكم قتل جلة إنما كان كرجل منكم أتته منيته فلم يكن ليتقدم ولا ليتأخر. وظهر الفشل في القراء، وناداهم أهل الشام: يا أعداء الله قد هلكتم وقد قتل طاغيتكم! وقدم عليهم بسطام من مصقلة بن هبيرة السيباني، ففرحوا به وقالوا: تقدم مقام جبلة. وكان قدومه من الري، فلما أتى عبد الرحمن جعله على ربيعة، وكان شجاعاً، فقاتل يوماً فدخل عسكر الحجاج فأخذ أصحابه ثلاثين امرأة فأطلقهن. فقال الحجاج: منعوا نساءهم، لو لم يردوهن لسبيت نساءهم إذا ظهرت عليهم. وخرج عبد الرحمن بن عوف الرؤاسي أبو حميد فدعا إلى المابرزة، فخرج إليه رجل من أهل الشام، فتضاربا، فقال كل واحد منهما: أنا الغلام الكلابي فقال كل واحد منهما لصاحبه: من أنت؟ وإذا هما ابنا عم، فتحاجزا. وخرج عبد الله بن رازم الحارثي فطلب المبارزة، فخرج إليه رجل من عسكر الحجاج فقتله، ثم فعل ذلك ثلاثة أيام. فلما كان اليوم الرابع خرج، فقالوا: جاء لا جاء الله به! فطلب المبارزة، فقال الحجاج للجراح: أخرج إليه. فخرج إليه. فقال له عبد الله، وكان له صديقاً: ويحك يا جراح ما أخرجك؟ قال: ابتليت بك. قال: فهل لك في خير؟ قال الجراح: ما هو؟ قال عبد الله: أنهزم لك وترجع إلى الحجاج وقد أحسنت عنده وحمدك، وأما أنا فأحتمل مقالة الناس في انهزامي حباً لسلامتك فإني لا أحب قتل مثلك من قومي. قال: افعل. فحمل الجراح على عبد الله فاستطرد له عبد الله، وحمل عليه الجراح بجد يريد قتله، فصاح بعيد الله غلامه، وكان ناحية معه ماء ليشربه، وقال له: يا سيدي إن الرجل يريد قتلك! فعطف عبد الله على الجراح فضربه بعمود على رأسه فصرعه، وقال له: يا جراح بئس ما جزيتني! أردت بك العافية وأردت تقلي! انطلق فقد تركتك للقرابة والعشيرة. وكان سعيد بن جبير وأبو البختري الطائي يحملان على أهل الشام بعد قتل جبلة بن زحر حتى يخالطاهم، وكانت مدة الحرب مائة يوم وثلاثة أيام لأنه كان نزولهم بالجماجم لثلاث مضين من ربيع الأول، وكانت الهزيمة لأربع عشرة مضين من جمادى الآخرة. فلما كان يوم الهزيمة اقتتلوا أشد قتال، واستظهر أصحاب عبد الرحمن على أصحاب الحجاج واستعلوا عليهم وهم آمنون أن يهزموا. فبينا هم كذلك إذ حمل سفيان بن الأبرد، وهو في ميمنة الحجاج، على الأبرد بن قرة التميمي، وهو على ميسرة عبد الرحمن، فانهزم الأبرد بن قرة من غي قتال يذكر، فظن الناس أنه قد كان صولح على أن ينهزم بالناس، فلما انهزم تقوضت الصفوف من نحوه وركب الناس بعضهم بعضاً، وصعد عبد الرحمن المنبر ينادي الناس: إلي عباد الله. فاجتمع إليه جماعة، فثبت حتى دنا منه أهل الشام فقاتل من معه ودخل أهل الشام العسكر، فأواه عبد الله بن يزيد بن المفضل الأزدي فقال له: انزل فإني أخاف عليك أن تؤسر ولعلك إن انصرفت أن تجمع لهم جمعاً يهلكهم الله به. فنزل هو ومن معه لا يلوون على شيء، ثم رجع الحجاج إلى الكوفة، وعاد محمد بن مروان إلى الموصل، وعبد الله بن عبد الملك إلى الشام، وأخذ الحجاج يبايع الناس، وكان لا يبايع أحداً إلا قال له: اشهد أنك كفرت، فإن قال: نعم، بايعه، وإلا قتله، فأتاه رجل من خثعم كان معتزلاً للناس جميعاً فسأله عن حاله فأخبره باعتزاله، فقال له: أنت متربص، أتشهد أنك كافر؟ قال: بئس الرجل! أنا أعبد الله ثمانين سنة ثم أشهد على نفسي بالكفر! قال: إذاً أقتلك. قال: وإن قتلتني فوالله ما بقي من عمري إلا ظمء حمار. فقتله ولمي بق أحد من أهل الشام والعراق إلا رحمه.
ثم دعا بكميل بن زياد فقال له: أنت المقتص من أمير المؤمنين عثمان؟ قد كنت أحب من أن أجد عليك سبيلاً. قال: على أينا أنت أشد غضباً، عليه حين أقاد من نفسه أم علي حين عفوت عنه؟ قم قال: أيها الرجل من ثقيف لا تصرف علي أنيابك ولا تكشر على كالذئب، والله ما بقي من عمري إلا ظمء الحمار، اقض ما أنت قاضٍ فإن الموعد الله وبعد القتل الحساب. قال الحجاج: فإن الحجة عليك. قال: ذلك إذا كان القضاء إليك. فأمر به فقتل، وكان خصيصاً بأمير المؤمنين. وأتي بآخر من بعده، فقال له الحجاج: أرى رجلاً ما أظنه يشهد على نفسه بالكفر. فقال له الرجال: أتخادعني عن نفسي؟ أنا أكفر أهل الأرض وأكفر من فرعون. فضحك منه وخلي سبيله. وأقام بالكوفة شهراً، وأنزل أهل الشام بيوت أهل الكوفة، أنزلهم الحجاج فيها مع أهلها، وهو أول من انزل الجند في بيوت غيرهم، وهو إلى الآن لا سيما في بلاد العجم، ومن سن سنة سيئة كان عليها وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة. ذكر الوقعة بمسكنولما انهزم عبد الرحمن أتى البصرة واجتمع إليه من المنهزمين جمع كثير، وكان فيهم عبيد الله بن عبد الرحمن بن سمرة بن حبيب بن عبد شمس القرشي، وكان بالمدائن محمد بن سعد بن أبي وقاص، فسار إليه الحجاج، فلحق ابن سعد بعيد الرحمن، وسار عبد الرحمن نحو الحجاج ومعه جمع كثير فيهم بسطام بن مصقلة بن هبيرة الشيباني، وقد بايعه خلق كثير على الموت، فاجتمعوا بمسكن، وخندق عبد الرحمن على أصحابه وجعل القتال من وجه واحد. وقدم عليه خالد بن جرير بن عبد الله من خراسان في ناس من بعث الكوفة، فاقتتلوا خمسة عشر يوماً من شعبان أشد قتال، فقتل زياد بن غيثم القيني، وكان على مسالح الحجاج، فهده ذلك وهد أصحابه. وبات الحجاج يحرض أصحابه، ولما أصبحوا باكروا القتال فاقتتلوا أشد قتال كان بينهم، فانكشفت خيل سفيان بن الأبرد، فأمر الحجاج عبد الملك بن المهلب فحمل على أصحاب عبد الرحمن، وحمل أصحاب الحجاج من كل جانب، فانهزم عبد الرحمن وأصحابه وقتل عبد الرحمن بن أبي ليلى الفقيه وأبو البختري الطائي، ومشى بسطام بن مصقلة بن هبيرة في أربعة آلاف فارس من شجعان أهل الكوفة والبصرة فكسروا جفون سيوفهم وحث أصحابه على القتال، فحملوا على أهل الشام فكشفوهم مراراً، فدعا الحجاج الرماة فرموهم وأحاط بهم الناس فقتلوا إلا قليلاً، ومضى ابن الأشعث نحو سجستان. وقد قيل في هزيمة عبد الرحمن بمسكن غير هذا، والذي قيل: إنه اجتمع هو والحجاج بمسكن، وكان عسكر ابن الأشعث والحجاج بين دجلة والسيب والكرخ، فاقتتلوا شهراً ودونه، فأتى شيخ فدل الحجاج على طريق من وراء الكرخ في أجمة وضحضاح من الماء، فأرسل معه أربعة آلاف وقال لقائدهم: إن صدق فأعطه ألف درهم، فإن كذب فاقتله. فسار بهم، ثم إن الحجاج قاتل أصحاب عبد الرحمن، فانهزم الحجاج فعبر السيب، ورجع ابن الأشعث إلى عسكره آمناً ونهب عسكر الحجاج فأمنوا وألقوا السلاح، فلم يشعروا نصف الليل إلا والسيف يأخذهم من تلك السرية، فغرق من أصحاب عبد الرحمن أكثر ممن قتل، ورجع الحجاج في عسكره على الصوت فقتلوا من وجدوا، فكان عدة من قتل أربعة آلاف، منهم: عبد الله بن شداد بن الهاد، وبسطام بن مصقلة، وعمرو بن ضبيعة الرقاشي، وبشر بن المنذر بن الجارود وغيرهم. ذكر مسير عبد الرحمن إلى رتبيل وما جرى له ولأصحابه ولما انهزم عبد الرحمن من مسكين سار إلى سجستان فأتبعه الحجاج ابنه محمداً وعمارة بن تميم اللخمي وعمارة على الجيش، فأدركه عمارة بالسوس فقاتله ساعةً، فانهزم عبد الرحمن ومن معه وساروا حتى أتوا سابور، واجتمع إليه الأكراد، فقاتلهم عمارة قتالاً شديداً على العقبة، فجرح عمارة وكثير من أصحابه، وانهزم عمارة وترك لهم العقبة. وسار عبد الرحمن حتى أتى كرمان وعمارة يتبع أثرهم، فدخل بعض أهل الشام قصراً في مفازة كرمان فإذا فيه كتاب قد كتبه بعض أهل الكوفة من شعر ابن حلزة اليشكري، وهي طويلة: أيا لهفاً ويا حزناً جميعاً ... ويا حر الفؤاد لما لقينا تركنا الدين والدنيا جميعاً ... وأسلمنا الحلائل والبنينا فما كنا بناسٍ أهل دينٍ ... فنصبر في البلاء إذا ابتلينا
فما كنا بناسٍ أهل دنيا ... فمنمنعها ولو لم نرج دينا نتركنا دورنا لطغام عكٍ ... وأنباط القرى والأشعرينا فلما وصل عبد الرحمن إلى كرمان أتاه عامله، وقد هيأ له نزلاً فنزل، ثم رحل إلى سجستان فأتى رزنج وفيها عامله فأغلق بابها ومنع عبد الرحمن من دخولها، فأقام عليها أياماً ليفتحها فلم يصل إليها، فسار إلى بست، وكان قد استعمل عليها عياض بن هميان بن هشام الدوسي الشيباني، فاستقبله وأنزله، فلما غفل أصحابه قبض عليه عياض وأوثقه وأراد أن يأمن به عند الحجاج. وقد كان رتبيل ملك الترك سمع بمقدم عبد الرحمن، فسار إليه ليستقبله، فلما قبضه عياض نزل رتبيل على بست وبعث إلى عياض يقول: والله لئن آذيته بما يقذي عينه أو ضررته ببعض الضرر أو أخذت منه ولو حبلاً من شعر لا أبرح حتى أستذلك وأقتلك وجميع من معك، وأسبي ذراريكم، وأغنم أموالكم. فاستأمنه عياض، فأطلق عبد الرحمن، فأراد قتل عياض فمنعه رتبيل. ثم سار عبد الرحمن مع رتبيل إلى بلاده، فأنزله وأكرمه وعظمه. وكان ناس كثير من المنهزمين من أصحاب عبد الرحمن من الرؤوس والقادة الذين لم يقبلوا أمان الحجاج ونصبوا له العداوة في كل موطن قد تبعوا عبد الرحمن فبلغوا سجستان في نحو ستين ألفاً ونزلوا على زرنج يحاصرون من بها، وكتبوا إلى عبد الرحمن يستدعونه ويخبرونه أنهم على قصد خراسان ليقووا بمن بها من عشائرهم، فأتاهم، وكان يصلي بهم عبد الرحمن بن العباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، وإلى أن قدم عبد الرحمن. فلما أتت كتبهم عبد الرحمن سار إليهم، ففتحوا زرنج، وسار نحوهم عمارة بن تميم في أهل الشام، فقال لعبد الرحمن أصحابه: اخرج بنا عن سجستان إلى خراسان. فقال: إن بها يويد بن المهلب وهو رجل شجاع ولا يترك لكم سلطانه ولو دخلناها لقاتلنا وتبعنا أهل الشام فيجتمع علينا أهل خراسان وأهل الشام. قالوا: لو دخلنا خراسان لكان من يتبعنا أكثر ممن يقاتلنا. فشار معهم حتى بلغوا هراة، فهرب من أصحابه عبيد الله بن عبد الرحمن ابن سمرة القرشي في ألفين، فقال لهم عبد الرحمن: إني كنت في مأمن وملجإٍ فجاءتني كتبكم أن أقبل فإن أمرنا واحد فلعلنا نقاتل عدونا، فأتيتكم فرأيتم أن أمضي إلى خراسان وزعمتم إنكم تجتمعون إلي وأنكم لا تتفرقون، وهذا عبيد الله قد صنع ما رأيتم فاصنعوا ما بدا لكم، أما أنا فمنصرف إلى صاحبي الذي أتيت من عنده. فتفرق منهم طائفة وبقي معه طائفة وبقي أعظم العسكر مع عبد الرحمن بن العباس فبايعوه، ومضى عبد الرحمن بن الأشعث إلى رتبيل، وسار عبد الرحمن بن العباس إلى هراة، فلقوا بها الرقاد الأزدي فقتلوه، فسار إليهم يزيد بن المهلب. وقيل: إن عبد الرحمن بن الأشعث لما انهزم من مسكن أتى عبيد الله بن عبد الرحمن بن سمرة هراة، وأتى عبد الرحمن بن العابس سجستان، فاجتمع فل ابن الأشعث فسار إلى خراسان في عشرين أفاً فنزل هراة، ولقوا الرقاد فقتلوه، فأرسل إليه يزيد بن المهلب: قد كان لك في البلاد متسع ومن هو أهون مني شوكة، فارتحل إلى بلد ليس لي فيه سلطان فإني أكره قتالك، وأن أردت مالاً أرسلت إليك. فأعاد الجواب: إنا ما نزلنا لمحاربة ولا لمقام ولكنا أردنا أن نريح ثم نرحل عنك وليست بنا إلى المال حاجة. وأقبل عبد الرحمن بن العباس على الجبابة، وبلغ ذلك يزيد فقال: من أراد أن يريح ثم يرتحل لم يجب الخراج. فسار يزيد نحوه وأعاد مراسلته: إنك قد أرحت وسمنت وجبيت الخراج فلك ما جبيت وزيادة فاخرج عني فإني أكره قتالك. فأبى إلا القتال، وكاتب جند يزيد يستميلهم ويدعوهم إلى نفسه، فعلم يزيد فقال: جل المر عن العتاب؛ ثم تقدم إليه فقاتله، فلم يكن بينهم كثير قتال حتى تفرق أصحاب عبد الرحمن عنه وصبر وصبرت معه طائفة ثم انهزموا، وأمر يزيد أصحابه بالكف عن أتباعهم، وأخذوا ما كان في عسكرهم وأسوا منهم أسرى، وكان منهم: محمد بن سعد بن أبي وقاص، وعمر بن موسى بن عبيد الله بن معمر، وعباس بن الأسود بن عوف الزهري، والهلقام بن نعيم بن القعقاع بن معبد بن زرارة، وفيروز حصين، وأبو الفلج مولى عبيد الله بن معمر، وسوار بن مروان، وعبد الرحمن بن طلحة بن عبد الله بن خلف الخزاعي، وعبد الله بن فضالة الزهراني الأزدي.
ولحق عبد الرحمن بن العباس بالسند، واتى ابن سمرة مرو، وانصرف يزيد إلى مرو وبعث الأسرى إلى الحجاج مع سبرة ونجدة، فلما أراد تسييرهم قال له أخوه حبيب: بأي وجه تنظر إلى اليمانية وقد بعثت عبد الرحمن بن طلحة؟ فال يزيد: غنه الحجاج ولا يتعرض له. قال: وطن نفسك على العزل ولا ترسل به فإن له عندنا يداً. قال: وما هي؟ قال: ألزم المهلب في مسجد الجماعة بمائة ألف فأداها طلحة عنه. فأطلقه يزيد، ولم يرسل يزيد أيضاً عبد الله بن فضالة لأنه من الأزد، وأرسل الباقين. فلما قدموا على الحجاج قال لحاجبه: إذا دعوتك بسيدهم فأتني بفيروز، وكان بواسط القصب قبل أن تبنى مدينة واسط. فقال لحاجبه: ائتني بسيدهم. فقال لفيروز: قم. فقام، فأحضره عنده. فقال له الحجاج: أبا عثمان ما أخرجك مع هؤلاء؟ فوالله ما لحمك من لحومهم ولا دمك من دمائهم! قال: فتنة عمت الناس. قال: اكتب إلي أموالك. قال: اكتب يا غلام ألف ألف وألفي ألف، فذكر مالاً كثيراً. فقال الحجاج: أين هذه الأموال؟ قال: عندي. قال: فأدها. قال: وأنا آمن على دمي؟ قال: والله لتؤدينها ثم لأقتلنك. قال: والله لا يجمع بين دمي ومالي. فأمر به فنحي. ثم أحضر محمد بن سعد بن أبي وقاص فقال له: يا ظل الشيطان! أعظم الناس تيهاً وكبراً تأبى بيعة يزيد بن معاوية وتتشبه بالحسين وبابن عمر ثم ضربت مؤذناً؟ وجعل يضرب رأسه بعود في يده حتى أدماه، ثم أمر به فقتل. ثم دعا بعمر بن موسى فقال: يا عبد المرأة! يقوم بالعمود على رأسك ابن الحائك، يعني ابن الأشعث، وتشرب معه في الحمام! فقال: أصلح الله الأمير، كانت فتنة شملت البر والفاجر فدخلنا فيها، فقد أمكنك الله منا فإن عفوت فبجمالك وبفضلك، وغن عاقبت ظلمت مذنبين. فقال الحجاج: أما أنها شملت البر فكذبت، ولكنها شملت الفاجر وعوفي منها الأبرار، وأما اعترافك فعسى أن ينفعك؛ ورجال له الناس السلامة، ثم أمر به فقتل. ثم دعا بالهلقام بن نعيم فقال: أحببت أن ابن الأشعث طلب ما طلب، ما الذي أملت أنت معه؟ قال: أملت أن يملك فيوليني العراق كما ولاك عبد الملك إياه. فأمر به فقتل. ثم دعا عبد الله بن عامر، فلما أتاه قال له الحجاج: لا رأت عينك الجنة إن أفلت! فقال: جزى الله ابن المهلب بما صنع. قال: وما صنع؟ قال: لأنه كاس في إطلاق أسرته ... وقاد نحوك في أغلالها مضرا وقى بقومك ورد الموت أسرته ... وكان قومك أدنى عنده خطرا فأطرق الحجاج ووقرت في قله وقال: وما أنت وذاك؟ فأمر به فقتل. ولم تزل كلمته في نفس الحجاج حتى عزل يزيد عن خراسان وحبسه. ثم أمر بفيروز فعذب، وكان يشد عليه القصب الفارسي المشقوق يجر عليه حتى يجرح به ثم ينضح عليه الخل، فلما أحس بالموت قال لصاحب العذاب: إن الناس لا يشكون أن قد قتلت ولي ودائع وأموال عند الناس لا تؤدي إليكم أبداً، فأظهرني للناس ليعلموا أني حي فيؤدوا المال. فأعلم الحجاج، فقال: أظهره. فأخرج إلى باب المدينة، فصاح في الناس: من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا فيروز حصين، إن لي عند أقوام مالاً فمن كان لي عنده شيء فهو له وهو منه في حل فلا يؤد أحد منهم درهماً، ليبلغ الشاهد الغائب. فأمر به الحجاج فقتل. وأمر بقتل عمر بن أبي قرة الكندي، وكان شريفاً، وأمر بإحضار أعشى همدان، فقال: إيه عدو الله! أنشدني قولك بين الأشبح وبين قيس. قال: بل أنشدك ما قلت لك. قال: بل أنشدني هذه. فأنشده: أبى الله إلا أن يتمم نوره ... ويطفئ نار الفاسقين فتخمدا ويظهر أهل الحق في كل موطنٍ ... ويعدل وقع السيف من كان أصيدا وينزل ذلاً بالعاق وأهله ... كما نقضوا العهد الوثيق المؤكدا وما أحدثوا من بدعةٍ وعظيمةٍ ... من القول لم تصعد إلى الله مصعدا وما نكثوا من بيعةٍ بعد بيعةٍ ... إذا ضمنوها اليوم خاسوا بها غدا وجبناً حشاه ربهم في قلوبهم ... فما يقربون الناس إلا تهددا فلا صدق في قولٍ ولا صبر عندهم ... ولكن فخراً فيهم وتزيدا فكيف رأيت الله فرق جمعهم ... ومزقهم عرض البلاد وشردا
فقتلاهم قتلى ضلالٍ وفتنةٍ ... وجيشهم أمسى ذليلاً مطردا ولما زحفنا لابن يوسف غدوةً ... وأبرق منه العارضان وأرعدا قطعنا إليه الخندقين وإنما ... قطعنا وأفضينا إلى الموت مرصدا فكافحنا الحجاج دون صفوفنا ... كفاحاً ولم يضرب لذلك موعدا بصفٍ كأن الموت في حجزاتهم ... إذا ما تجلى بيضه وتوقدا دلفنا إليه في صفوفٍ كأنها ... جبال شرورى أو نعافٍ فشهمدا فما لبث الحجاج أن سل سيفه ... علينا فولى جمعنا وتبددا وما زاحف الحجاج أن سل سفه ... علينا فولى جمعنا وتبددا وما زاحف الحجاج إلا رأيته ... معاناً ملقى للفتوح معودا وإن ابن عباسٍ لفي مرجحنةٍ ... أشبهها قطعاً من الليل أسودا فما شرعوا رمحاً ولا جردوا ظبىً ... ألا إنما لاقى الجبان مجردا وكرت علينا خيل سفيان كرةً ... بفرسانها والشمري مقصدا وسفيان يهديها كأن لواءها ... من الطعن سند بات بالصبغ مجسدا كهول ومرد من قضاعة حوله ... مساعير أبطال إذا النكس عردا إذا قال شدوا شدةً حملوا معاً ... فأنهل خرصان الرماح وأوردا جنود أمير المؤمنين وخيله ... وسلطانه أمسى عزيزاً مؤيدا ليهن أمير المؤمنين ظهوره ... على أمةٍ كانوا سعاه وحسدا تروا يشتكون البغي من أمرئهم ... وكانوا هم أبغى البغاة وأعندا وجدنا بني مروان خير أئمةٍ ... وأفضل هذا الناس حلماً وسوددا وخير قريشٍ أرومةً ... وأكرمهم إلا النبي محمدا إذا ما تدبرنا عواقب أمره ... وجدنا أمير المؤمنين مسددا سيغلب قوماً حاربوا الله جهرةً ... وإن كايدوه كان أقوى وأكيدا كذاك يضل الله من كان قبله ... مريضاً ومن والى النفاق وحشدا وقد تركوا الأهلين والمال خلفهم ... وبيضاً عليهن الجلابيب خردا يناديهم مستعبراتٍ إليهم ... ويذرين دمعاً في الخدود وإثمدا أنكثاً وعصياناً وغدراً وذلةً ... أهان الإله من أهان وأبعدا لقد شأم المصرين فرخ محمدٍ ... بحقٍ وما لاقى من الطير أسعدا كما شأم الله النجير وأ | |
|
| |
الشيخ عودة الشيخ عودة
عدد المساهمات : 1748 تاريخ التسجيل : 28/09/2008 العمر : 74
| موضوع: رد: كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير الثلاثاء فبراير 11, 2014 3:41 am | |
| ذكر قتل ابن القرية وفيها قتل الحجاج أيوب بن القرية، وكان مع ابن الأشعث بدير الجماجم، فلما هزم ابن الأشعث التحق أيوب بحوشب بن يزيد عامل الحجاج على الكوفة، فاستحضره الحجاج، فقال له: أقلني عشرتي واسقني ريقي فإنه ليس جواد إلا له كبوة، ولا شجاع إلا له هبوة، ولا صارم إلا له نبوة، فقال الحجاج: كلا والله لأزيرنك جهنم. قال: فأرحني فإني أجد حرها! فأمر به فضربت عنقه. فلما رآه قتيلاً قال: لو تركناه حتى نسمع من كلامه. ذكر فتح قلعة نيزك بباذغيسفي هذه السنة فتح يزيد بن المهلب قلعة نيزك، وكان يزيد قد وضع على نيزك العيون، فلما بلغه خروج نيزك عنها سار إليها فحاصرها فملكها وما فيها من الأموال والذخائر، وكانت من أحصن القلاع زامنعها، وكان نيزك إذا رآها سجد لها تعظيماً لها؛ وقال كعب بم معدان الأشقري يذكرها: وباذغيس التي من حل ذروتها ... عز الملوك فإن شا جار أو ظلما منيعة لم يكدها قبله ملك ... إلا إذا واجهت جيشاً له وجما تخال نيرانها من بعد منظرها ... بعض النجوم إذا ما ليلها عتما وهي أبيات عدة؛ وقال أيضاً يذكر يزيد وفتحها: نفى نيزكاً عن باذغيس ونيزك ... بمنزلةٍ أعيا الملوك اغتصابها محلقةٍ دون السماء كأنها ... غمامة صيفٍ زال عنها سحابها ولا تبلغ الأروى شماريخها العلى ... ولا الطير إلا نسرها وعقابها وما خوفت بالذئب ولدان أهلها ... ولا نبحت إلا النجوم كلابها في أبيات غيرها. فلما فتحها كتب إلى الحجاج بالفتح - وكان يكتب له يحيى بن يعمر العدواني حليف هذيل - إنا لحقنا العدو فمنحنا الله أكتافهم فقتلنا طائفةً وأسرنا طائفةً ولحقت طائفة برؤوس الجبال وعراعر الأودية، فأهضام الغيطان وأثناء الأنهار. فقال الحجاج: من يكتب ليزيد؟ فقيل: يحيى بن يعمر، فكتب إليه بحمله على البريد. فقدم إليه أفصح الناس. فقال: أين ولدت؟ قال: بالأهواز. قال: فهذه الفصاحة من أين؟ قال: حفظت من كلام أبي، وكان فصيحاً. قال: أخبرني هل يلحن عنبسة بن سعيد؟ قال: نعم كثيراً. قال: ففلان؟ قال: نعم. قال: فأخبرني هل ألحن؟ قال: نعم تلحن لحناً خفياً، تزيد حرفاً وتنقص حرفاً وتجعل أن في موضع إن، وإن في موضع أن. قال: قد أجلتك ثلاثاً فإن وجدتك بأرض العراق قتلتك فرجع إلى خراسان. ذكر عدة حوادثفي هذه السنة غزا عبد الله بن عبد الملك الروم ففتح المصيصة وبنى حصنها ووضع بها ثلاثمائة مقاتل من ذوي البأس، ولم يكن المسلمون سكنوها قبل ذلك، وبنى مسجدها.
وحج بالناس هذه السنة هشام بن إسماعيل. وكان العمال من تقدم ذكرهم. وفيها غزا محمد بن مروان أرمينية. وفيها مات عبد الله بن الحارث بن نوفل الملقب ببة بعمان، وكان يسكن البصرة، وكان مولده على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم . ثم دخلت سنة خمس وثمانين ذكر هلاك عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث لما انصرف عبد الرحمن إلى رتبيل من هراة قال له علقمة بن عمرو الأودي: ما أريد أن أدخل معك لأني أتخوف عليك وعلى من معك، والله لكأني بالحجاج وقد كتب إلى رتبيل يرغبه ويرهبة، فإذا هو قد بعث بك سلماً أو قتلكم، ولكن معي خمسمائة قد تبايعنا على أن ندخل مدينة نتحصن بها حتى نعطى الأمان أو نموت كراماً، ولم يدخل إلى بلاد رتبيل معه، وخرج هؤلاء الخمسمائة وجعلوا عليهم مودودا البصري، وقدم عليهم عمارة بن تميم اللخمي فحاصرهم، فامتنعوا حتى آمنهم، فخرجوا إليه، فوفى لهم. وتتابعت كتب الحجاج إلى رتبيل في عبد الرحمن: أن أبعث به إلي وإلا والذي لا إله غيره لأوطئن أرضك ألف ألف مقاتل. وكان مع عبد الرحمن رجل من تميم يقال له عبيد بن سبيع التميمي، وكان رسوله إلى رتبيل، فخص برتبيل وخف عليه، فقال القاسم بن محمد بن الأشعث لأخيه عبد الرحمن: إني لا آمن غدر هذا التميمي فاقتله. فخافه عبيد ووشى به إلى رتبيل وخوفه الحجاج ودعاه إلى الغدر بابن الأشعث وقال له: أنا آخذ لك من الحجاج عهداً ليكفن عن أرضك سبع سنين على أن تدفع إليه عبد الرحمن. فأجابه إلى ذلك، فخرج عبيد إلى عمارة سراً فذكر له ما استقر مع رتبيل وما بذل له، وكتب عمارة إلى الحجاج بذلك، وأجابه إليه أيضاً، وبعث رتبيل برأس عبد الرحمن إلى الحجاج. وقيل: إن عبد الرحمن كان قد أصابه السل فمات فأرسل رتبيل إليه فقطع رأسه قبل أن يدفن وأرسله إلى الحجاج. وقد قيل: إن رتبيل لما صالح عمارة بن تميم اللخمي على ابن الأشعث كتب عمارة إلى الحجاج بذلك فأطلق له خراج بلاده عشر سنين، فأرسل رتبيل إلى عبد الرحمن وثلاثين من أهل بيته فحضروا فيدهم وأرسلهم إلى عمارة، فألقى عبد الرحمن نفسه من سطح قصر، فمات فاحتز رأسه وسيره إلى الحجاج، فسيره الحجاج إلى عبد الملك، وسيره عبد الملك إلى أخيه عبد العزيز؛ فقال بعض الشعراء: هيهات موضع جثةٍ من رأسها ... رأس بمصر وجثة بالرخج وقيل: إن هلاك عبد الرحمن كان سنة أبع وثمانين. ذكر عزل يزيد بن المهلب عن خراسان وولاية أخيه المفضل وفي هذه السنة عزل الحجاج يزيد بن المهلب عن خراسان. وكان سبب عزله إياه أن الحجاج وفد إلى عبد الملك فمر في طريقه براهب فقيل له: إن عنده علماً، فدعا به وسأله ل تجدون في كتبكم ما أنتم فيه ونحن؟ قال: نعم. قال: مسمى أم موصوف؟ فقال: كل ذلك نجده موصوفاً بغير اسم، ومسمى بغير صفة. قال: فما تجدون صفة أمير المؤمنين؟ قال: نجده في زماننا: ملك أفرع، من يقم لسبيله يصرع. قال: ثم من؟ قال: اسم رجل يقال له الوليد، ثم رجل اسمه اسم نبي يفتح به على الناس. قال: أفتعلم من يلي بعدي؟ قال: نعم، رجل يقال له يزيد. قال: أفتعرف صفته؟ قال: يغدر غدرة، لا أعرف غير هذا. فوقع في نفسه أنه يزيد بن المهلب، ثم سار وهو وجل من قول الراهب، ثم عاد وكتب إلى عبد الملك يذم يزيد وآل المهلب ويخبره أنهم زبيرية. فكتب إليه عبد الملك: إني لا أرى طاعتهم لآل الزبير نقصاً بآل المهلب، وفاؤهم لهم يدعوهم إلى الوفاء لي. فكتب إليه الحجاج يخوفه غدره وبما قال الراهب. فكتب عبد الملك إليه: إنك قد أكثرت في يزيد وآل المهلب، فسم لي رجلاً يصلح لخراسان. فسمى قتيبة بن مسلم، فكتب إليه أن وله. وبلغ يزيد أن الحجاج عزله، فقال لأهل بيته: من ترون الحجاج يولي خراسان؟ قالوا: رجلاً من ثقيف. قال: كلا ولكنه يكتب إلى رجل منكم بعهده، فإذا قدمت عليه عزله وولى رجلاً من قيس، وأخلق بقتيبة بن مسلم. فلما أذن عبد الملك في عزل يزيد كره أن يكتب إليه بعزله، فكتب إليه يأمره أن يستخلف أخاه المفضل ويقبل إليه.
واستشار يزيد حضين بن المنذر الرقاشي، فقال له: أقم واعتل واكتب إلى أمير المؤمنين ليقرك فإنه حسن الحال والرأي فيك. قال يزيد: نحن أهل بيت قد بورك لنا في الطاعة، وأنا أكره الخلاف. فأخذ يتجهز، فأبطأ، فكتب الحجاج إلى المفضل: إني قد وليتك خراسان. فجعل المفضل يستحث يزيد، فقال له يزيد: عن الحجاج لا يقرك بعدي وإنما دعاه إلى ما صنع مخافة أن امتنع عليه، وستعلم. وخرج يزيد في ربيع الآخر سنة خمس وثمانين، وأقر الحجاج أخاه المفضل تسعة أشهر ثم عزله. وقد قيل: إن سبب عزله أن الحجاج لما فرغ من عبد الرحمن بن الأشعث لم يكن له هم إلا يزيد بن المهلب وأهل بيته، وقد كان أذل أهل العراق كلهم إلا آل المهلب ومن معهم بخراسان، وتخوفه على العراق، وكان يبعث إليه ليأتيه فيعتل عليه بالعدو والحروب، فكتب الحجاج إلى عبد الملك يشير عليه بعزل يزيد ويخبره بطاعتهم لآل الزبير، فكتب إليه عبد الملك بنحو ما تقدم وساق باقي الخبر كما تقدم؛ وقال حضين ليزيد: أمرتك أمر حازماً فعصيتني ... فأصبحت مسلوب الإمارة نادما فما أنا بالباكي عليك صبابةً ... وما أنا بالداعي لترجع سالما قال: فلما قدم قتيبة خراسان قال لحضين: ما قلت ليزيد؟ قال: قلت: أمرتك أمراً حازماً فعصيتني ... فنفسك رد اللوم إن كنت لائما فإن يبلغ الحجاج أن قد عصيته ... فإنكا تلقى أمره متفاقما قال: فماذا أمرته به فعصاك؟ قال: أمرته أن لا يدع صفراء ولا بيضاء إلا حملها إلى الأمير. قال بعضهم: فوجده قتيبة قارحاً. وقيل: كتب الحجاج إلى يزيد: اغز خوارزم، فكتب: إنها قليلة السلب شديدة الكلب. فكتب إليه الحجاج: استخلف واقدم. فكتب: إني أريد أن أغزو خوارزم. فكتب الحجاج: لا تغزها فإنها كما ذكرت. فغزا ولم يطعه، فصالحه أهلها وأصاب سبياً، وقفل في الشتاء، وأصاب الناس برد، فأخذوا ثياب الأسرى، فمات ذلك السبي. فكتب إليه الحجاج أن اقدم. فسار إليه، فكان لا يمر ببلد إلا فرش أهله الرياحين. حضين بن المنذر بالحاء المهملة المضمومة، والضاد المعجمة المفتوحة، وآخره نون ذكر غزو المفضل باذغيس وآخرونلما ولي المفضل خراسان غزا باذغيس ففتحها وأصاب مغنماً فقسمه، فأصاب كل رجل ثماني مائة. ثم غزا آخرون وشومان فغنم وقسم ما أصاب، ولم يكن للمفضل بيت مال، كان يعطي الناس كلما جاء شيء، وغن غنم شيئاً قسمه بينهم. ذكر مقتل موسى بن عبد الله بن خازمفي هذه السنة قتل موسى بن عبد الله بن خازم بترمذ. وكان سبب مصيره إلى ترمذ أن أباه لما قتل من قتل من بني تميم، وقد تقدم ذكر ذلك، تفرق عنه أكثر من كان معه منهم، فخرج إلى نيسابور، وخاف بني تميم على ثقله بمرو، فقال لابنه موسى: خذ ثقلي واقطع نهر بلخ حتى تلتجئ إلى بعض الملوك أو إلى حصن تقيم فيه. فرحل موسى عن مرو في عشرين ومائتي فارس، واجتمع إليه تتمة أربعمائة، وانضم إليه قوم من بني سليم، فأتى زم، فقاتله أهلها، فظفر بهم فأصاب مالاً وقطع النهر وأتى بخارى فسأل صاحبها أن يلجأ إليه فأبى. فخافه وقال: رجل فاتك وأصحابه مثله فلا آمنه. ووصله وسار، فلم يأت ملكاً يلجأ إليه إلا كره مقامه عنده، فأتى سمر قند فأقام بها وأكرمه ملكها طرخون وأذن له في المقام وأقام ما شاء الله. ولأهل الصغد مائدة يوضع عليها لحم وخل وخبز وإبريق شراب، وذلك كل عام يوماً، يجعلون ذلك لفارس الصغد فلا يقربه غيره، فإن أكل منه أحد بارزه فأيهما قتل صاحبه فالمائدة له. فقال رجل من أصحاب موسى: ما هذه المائدة؟ فأخبر، فجلس فأكل ما عليها، وقيل لصاحب المائدة فجاء مغضباً وقال: يا عربي بارزني! فبارزه فقتله صاحب موسى، فقال ملك الصغد: أنزلتكم وأكرمتكم فقتلتم فارسي، لولا أني آمنتك وأصحابك لقتلتكم، اخرجوا عن بلدي فخرجوا.
فأتى كش فضعف صاحبها عنه فاستنصر طرخون فأتاه، فخرج موسى إليه وقد اجتمع معه سبعمائة فارس، فقاتلهم حتى أمسوا وتحاجزوا وبأصحاب موسى جراح كثيرة، فقال لزرعة بن علقمة: احتل لنا على طرخون. فأتاه فقال: أيها الملك ما حاجتك إلى أن تقتل موسى وتقتل معه، فإنك لا تصل إليه حتى يقتلوا مثل عدتهم منكم، ولو قتلته وإياهم جميعاً ما نلت حظاً، لأن له قدراً في العرب، فلا يأتي أحد خراسان إلا طالبك بدمه. فقال: ليس لي إلى ترك كش في يده سبيل. قال: فكف عنه حتى يرتحل. فكف. وسار موسى فأتى ترمذ وبها حصن يشرف على جانب النهر، فنزل موسى خارج الحصن وسأل ترمذ شاه أن يدخله حصنه، فأبى، فأهدى له موسى ولا طفه حتى حصل بينهما مودة وخرج فتصيد معه. فصنع صاحب ترمذ طعاماً وأحضر موسى ليأكل معه، ولا يحضر إلا في مائة من أصحابه، فاختار موسى مائة من أصحابه، فدخلوا الحصن وأكلوا، فلما فرغوا قال له: اخرج، قال: لا أخرج حتى يكون الحصن بيتي أو قبري. وقاتلهم فقتل منهم عدةً وهرب الباقون، واستولى موسى عليها وأخرج ترمذ شاه منها ولم يعرض له ولا لأصحابه، فأتوا الترك يستنصرونهم على موسى فلم ينصروهم وقالوا: لا نقاتل هؤلاء. وأقام موسى بترمذ، فأتاه جمع من أحاب أبيه فقوزي بهم فكان يخرج فيغير على ما حوله. ثم ولي بكير بن وساج خراسان فلم يعرض له، ثم قدم أمية فسار بنفسه يريد مخالفة بكير فرجع، على ما تقدم ذكره. ثم إن أمية وجه إلى موسى بعد صلح بكير رجلاً من خزاعة في جمع كثير، وعاد أهل ترمذ إلى الترك فاستنصروهم وأعلموهم أنه قد غزاه قوم من العرب وحصروه. فسارت الترك في جمع كثير إلى الخزاعي، فأطاف بموسى الترك والخزاعي، فكان يقاتل الخزاعي أول النهار والترك آخر النهار، فقاتلهم شهرين أو ثلاثة. ثم إنه أراد أن يبت الخزاعي وعسكره، فقال له عمرو بن خالد بن حصين الكلابي: ليكن البيات بالعجم، فإن العرب اشد حذراً وأجرأ على الليل، فإذا فرغنا من العجم تفرغنا للعرب. فأقام حتى ذهب ثلث الليل وخرج موسى في أربعمائة وقال لعمرو بن خالد: اخرج بعدنا فكن أنت ومن معك قريباً، فإذا سمعتم تكبيرنا فكبروا. ثم سار حتى ارتفع فوق عسكر الترك ورجع إليهم وجعل أصحابه أرباعاً وأقبل إليهم، فلما رآهم أصحاب الأرصاد قالوا: من أنتم؟ قالوا: عابرو سبيل . فلما جاوزوا الرصد حملوا على الترك وكبروا، فلم يشعر الترك إلا بوقع السيوف فيهم، فساروا يقتل بعضهم بعضاً وولوا، فأصيب من المسلمين ستة عشر رجلاً وحموا عسكرهم وأصابوا سلاحاً كثيراً ومالاً، وأصبح الخزاعي وأصحابه وقد كسرهم ذلك، فخافوا مثلها، فقال عمرو بن خالد لموسى: إننا لا نظفر إلا بمكيدة ولهم أمداد وهم كثيرون فدعني آته لعلى أصيب فرصة فاضربني وخلاك ذم. فقال له موسى: تتعجل الضرب وتتعرض للقتل. قال: أما التعرض للقتل فأنا كل يوم متعرض له، وأما الضرب فما أيسره في جنب ما أريد. فضربه موسى خمسين سوطاً، فخرج من عسكر موسى وأتى عسكر الخزاعي مستأمناً وقال: أنا رجل من أهل اليمن كنت مع عبد الله بن خازم، فلما قتل أتيت ابنه فكنت معه، وإنه اتهمني وقال: قد تعصبت لعدونا وأنت عين له، فضربني ولم آمن القتل فهربت منه. فأمنه الخزاعي وأقام معه، فدخل يوماً وهو خالٍ ولم ير عنده سلاحاً فقال كأنه ينصح له: أصلح الله الأمير، إن مثلك في مثل هذه الحال لا ينبغي أن يكون بغير سلاح. قال: إن معي سلاحاً. فرفع طرف فراشه فإذا سيف منتضى، فأخذه عمرو فضربه حتى قتله وخرج فركب فرسه وأتى موسى، وتفرق ذلك الجيش، وأتى بعضهم موسى مستأمناً فآمنه، ولم يوجه إليه أمية أحداً. وعزل أمية وقدم المهلب أميراً، فلم يتعرض لموسى وقال لبنيه: إياكم وموسى، فأنكم لا تزالون ولاة خراسان ما دام هذا الثبط بمكانه فإن قتل فأول طالع عليكم أمير على خراسان من قيس. فلما مات المهلب وولي يزيد لم يتعرض أيضاً لموسى.
وكان المهلب قد ضرب حريث بن قطبة الخزاعي، فخرج هو وأخوه ثابت إلى موسى، فلما ولي يزيد بن المهلب أخذ أموالهما وحرمهما وقتل أخاهما لأمهما الحارث بن منقذ. فخرج ثابت إلى طرخون فشكا إليه ما صنع به، وكان ثابت محبوباً إلى الترك بعيد الصوت فيهم، فغضب له طرخون وجمع له نيزك والسبل وأهل بخارى والصغاينان فقدموا مع ثابت إلى موسى، وقد اجتمع إلى موسى فل عبد الرحمن بن العباس من هراة وفل ابن الأشعث من العراق ومن ناحية كابل، فاجتمع معه ثمانية آلاف، فقال له ثابت وحريث: سر حتى تقطع النهر وتخرج يزيد عن خراسان ونوليك. فهم أن يفعل، فقال له أصحابه: إن أخرجت يزيد قدم عامل لعبد الملك، ولكنا نخرج عمال يزيد عما وراء النهر ويكون لنا، فأخرجوا عمال يزيد عما وراء النهر وجبوا الأموال، فقوي أمرهم، وانصرف طرخون ومن معه، واستبد ثابت وحريث بتدبير الأمر، والأمير موسى ليس له غير الأسم. فقيل لموسى: ليس لك من الأمور شيء والأمور إلى ثابت وحريث فاقتلهما وتول الأمر فأبى، فألحوا عليه حتى أفسدوا قلبه عليهما وهم بقتلهما. فإنهم لفي ذلك إذ خرج عليهم الهياطلة والتبت والترك في سبعين ألفاً لا يعدون الحاسر ولا صاحب البيضة الجماء ولا يعدون إلا صاحب بيضة ذات قونس. فخرج ابن خازم وقاتلهم فيمن معه، ووقف ملك الترك على تل في عشرة آلاف في أكمل عدة والقتال أشد ما كان، فقال موسى: إن أزلتم هؤلاء فليس الباقون بشيء. فقصد لهم حريث بن قطبة فقاتلهم وألح عليهم حتى أزالهم على التل، ورمي حريث بنشابة في جبهته فتحاجزوا، فبيتهم موسى، وحمل أخوه خازم بن عبد الله بن خازم حتى وصل إلى سمعة ملكهم، فوجأ رجلاً منهم بقبيعة سيفه فطعن فرسه، فاحتمله الفرس فألقاه في نهر بلخ، فغرق، وقتل من الترك خلق كثير، ونجا من نجا منهم بشر، ومات حريث بعد يومين. ورجع موسى وحمل معه الرؤوس فبنى منها جوسقين. وقال أصحاب موسى: قد كفينا أمر حريث، فاكفنا أمر ثابت. فأبى، وبلغ ثابتاً بعض ما يخوضون فيه، فدس محمد بن عبد الله الخزاعي - عم نصر بن عبد الحميد، عامل أبي مسلم على الري - على موسى، وقال: إياك أن تتكلم بالعربية، وإن سألوك فقل أنا من سبي الباميان. ففعل ذلك واتصل بموسى، وكان يخدمه وينقل إلى ثابت خبرهم، فحذر ثابت، وألح القوم على موسى. فقال لهم ليلة: لقد أكثرتم علي وفيما تريدون هلاككم، فعلى أي وجه تقتلونه ولا أغدر به؟ قال له أخوه نوح: إذا أتاك غداً عدلنا به إلى بعض الدور فضربنا عنقه فيها قبل أن يصل إليك فقال: والله إنه هلاككم، وأنتم أعلم. فخرج الغلام فأتى ثابتاً فأخبره، فخرج من ليلته في عشرين فارساً ومضى. وأصبحوا فلم يروه ولم يروا الغلام، فعلموا أنه كان عيناً له. ونزل ثابت بحوشرا واجتمع إليه خلق كثير من العرب والعجم، فأقبل موسى إليه وقاتله، وتحصن ثابت بالمدينة، وأتاه طرخون معيناً له، فرجع موسى إلى ترمذ، وأقبل ثابت وطرخون ومعهما أهل بخارى ونسف وكش فاجتمعوا في ثمانين ألفاً فحصروا موسى حتى جهد هو وأصحابه، فلما اشتد عليهم قال يزيد بن هذيل: والله لأقتلن ثابتاً أو لأموتن. فخرج إلى ثابت فاستأمنه، فقال له ظهير: أنا أعرف بهذا منك، ما أتاك إلا بغدره فاحذره، فأخذ ابنيه قدامة والضحاك رهناً، فكانا في يد ظهير. وأقام يزيد يلتمس غرة ثابت فلم يقدر على ما يريد حتى مات ابن لزياد القصير الخزاعي، فخرج ثابت إليه ليعزيه وهو بغير سلاح وقد غابت الشمس، فدنا يزيد من ثابت فضربه على رأسه فوصل إلى الدماغ وهر فسلم، وأخذ طرخون قدامة والضحاك ابني يزيد فقتلهما، وعاش ثابت سبعة أيام ومات، وقام بأمر العجم بعد موت ثابت طرخون، وقام ظهير بأمر أصحاب ثابت، فقاما قياماً ضعيفاً، وانتشر أمرهم وأجمع موسى على بياتهم، فأخبر طرخون بذلك فضحك وقال: موسى يعجز أن يدخل متوضأه فكيف يبيتنا؟ لا يحرس الليلة أحد. فخرج موسى في ثمانمائة وجعلها أرباعاً وبينهم، وكان لا يمر بشيء إلا ضربوه من رجل ودابة وغير ذلك، فليس نيزك سلاحه ووقف، وأرسل طرخون إلى موسى أن كف أصحابك فإنا نرحل إذا أصبحنا. فرجع موسى وارتحل طرخون والعجم جميعاً.
فكان أهل خراسان يقولون: ما رأينا مثل موسى ولا سمعنا به، قاتل مع أبيه سنتين ثم خرج يسير في بلاد خراسان فأتى ملكاً فغلب على مدينته وأخرجه منها، وسار الجنود من العرب والترك إليه، وكان يقاتل العرب أول النهار والترك آخر النهار. وأقام موسى في الحصن خمس عشرة سنة وصار ما وراء النهر لموسى لا ينازعه فيه أحد. فلما عزل يزيد بن المهلب وولي المفضل أراد أن يحظى عند الحجاج بقتال موسى بن عبد الله، فسير عثمان بن مسعود إليه في جيش، وكتب إلى مدرك بن المهلب وهو ببلخ يأمره بالمسير معه، فعبر النهر في خمسة عشر ألفاً، فكتب إلى السبل وإلى طرخون فقدموا عليه، فحصروا موسى وضيقوا عليه وعلى أصحابه. فمكث شهرين في ضيق، وقد خندق عثمان عليه وحذر البات، فقال موسى لأصحابه: اخرجوا بنا، حتى منى نصبر! فاجعلوا يومكم معهم إما ظفرتم وإما قتلتم واقصدوا الترك. فخرجوا وخلف النضر بن سليمان بن عبد الله بن خازم في المدينة، وقال له: إن قتلت فلا تدفعن المدينة إلى عثمان وادفعها إلى مدرك بن المهلب. وخرج وجعل ثلث أصحابه بإزاء عثمان، وقال: لا تقاتلوه إلا أن يقاتلكم. وقصد لطرخون وأصحابه فصدقوهم لقتال، فانهزم طرخون وأخذوا عسكرهم، وزحفت الترك والصغد فحالوا بين موسى والحصن، فقاتلهم، فعقروا فرسه فسقط، فقال لمولى له: احملني فقال: الموت كريه ولكن ارتدف فإن نجونا نجونا جميعاً وإن هلكنا هلكنا جميعاً. قال: فارتدف، فلما نظر إليه عثمان حين وثب قال: وثبة موسى ورب الكعبة! وقصد إلى موسى، وعقرت دابة موسى فسقط هو ومولاه، فقتلوه، نادى منادي عثمان: من لقيتموه فخذوه أسيراً ولا تقتلوا أحداً. فقتل ذلك اليوم من الأسرى خلقاً كثيراً من العرب خاصة، فكان يقتل العرب ويضرب المولى ويطلقه، وكان فظاً غليظاً. وكان الذي أجهز على موسى واصل بن طيلسة العنبري. وبقيت المدينة بيد النصر بن سليمان فلم يدفعها إلى عثمان، وسلمها إلى مدرك بن المهلب وآمنه، فسلمها مدرك إلى عثمان. وكتب المفضل إلى الحجاج بقتل موسى. فقال: العجب منه! أكتب إليه بقتل ابن سبرة فيكتب إلي أنه لمآبه ويكتب إلي أنه قد قتل موسى بن عبد الله بن خازم. ولم يسره قتل موسى لأنه من قيس. وقتل موسى سنة خمس وثمانين، وضرب رجل من الجند ساق موسى، فلما ولي قتيبة قال: ما دعاك إلى ما صنعت بفتى العرب بعد موته؟ قال: كان قتل أخي. فأمر به فقتل. ذكر موت عبد العزيز بن مروان والبيعة للوليد بولاية العهد كان عبد الملك بن مروان أراد أن يخلع أخاه عبد العزيز من ولاية العهد ويبايع لابنه الوليد بن عبد الملك، فنهاه عن ذلك قبيصة بن ذوئيب وقال: لا تفعل فإنك تبعث على نفسك صوت عار، ولعل الموت يأتيه فتستريح منه. فكف عنه ونفسه تنازعه إلى خلعه. فدخل عليه روح بن زنباع، وكان أجل الناس عند عبد الملك، فقال: يا أمير المؤمنين لو خلعته ما انتطح فيه عنزان، وأنا أول من يجيبك إلى ذلك. قال: نصبح إن شاء الله. ونام روح عند عبد الملك، فدخل عليهما قبيصة بن ذؤيب وهما نائمان، وكان عبد الملك قد تقدم إلى حجابه أن لا يحجبوا قبيصة عنه، وكان إليه الخاتم والسكة تأتيه الأخبار قبل عبد الملك والكتب. فلما دخل سليم عليه، قال: آجرك الله ما كنا نريد، وكان ذلك مخالفاً لك يا قبيصة. فقال قبيصة: يا أمير المؤمنين إن الرأي كله في الأناة، فقال عبد الملك: وربما كان في العجلة خير كثير، رأيت أمر عمرو بن سعيد، ألم تكن العجلة فيه خيراً من الأناة؟ وكانت وفاة عبد العزيز في جمادى الأولى في مصر، فضم عبد الملك عمله إلى ابنه عبد الله بن عبد الملك وولاه مصر.
وقيل: إن الحجاج كتب إلى عبد الملك يزين له بيعة الوليد وأوفد في ذلك وفداً، فلما أراد عبد الملك خلع عبد العزيز والبيعة للوليد كتب إلى عبد العزيز: إن رأيت أن يصير هذا الأمر لابن أخيك. فأبى، فكتب إليه ليجعل الأمر له ويجعله له أيضاً من بعده. فكتب إليه عبد العزيز: إني أرى في ابني أبي بكر ما ترى في الوليد. فكتب إليه عبد الملك ليحمل خراج مصر، فأجابه عبد العزيز: إني وإياك يا أمير المؤمنين قد بلغنا سناً لم يبلغها أحد من أهل بيتك إلا كان بقاؤه قليلاً، وإنا لا ندري أينا يأتيه الموت أولاً، فإن رأيت أن لا تفسد علي بقية عمري فافعل. فرق له عبد الملك وتركه، وقال للوليد وسلميان: إن يرد الله أن يعطيكما الخلافة لا يقدر أحد من العباد على رد ذلك. فقال عبد الملك حيث رده عبد العزيز: اللهم إنه قطعني فاقطعه. فلما مات عبد العزيز قال أهل الشام: رد على أمير المؤمنين أمره. فلما أتى خبر موته إلى عبد الملك أمر الناس بالبيعة لابنيه الوليد وسلميان، فبايعوا، وكتب بالبيعة لهما إلى البلدان. وكان على المدينة هشام بن إسماعي، فدعا الناس إلى البيعة فأجابوا، إلا سعيد بن المسيب فإنه أبى وقال: لا أبايع وعبد الملك حي، فضربه هشام ضرباً مبرحاً وطاف به وهو في تبان شعر حتى بلغ رأس الثنية التي يقتلون ويصلبون عندها ثم ردوه وحبسوه. فقال سعيد: لو ظننت أنهم لا يصلبونني ما لبست ثياب مسوح ولكنني قلت يصلبونني فيسترني. فبلغ عبد الملك الخبر فقال: قبح الله هشاماً، إنما كان ينبغي أن يدعوه إلى البيعة، فإن أبى أن يبايع فيضرب عنقه أو يكف عنه. وكتب إليه يلومه ويقول له: إن سعيداً ليس عنده شقاق ولا خلاف. وقد كان سعيد امتنع من بيعة ابن الزبير وقال: لا أبايع حتى يجتمع الناس. فضربه جابر بن الأسود عامل ابن الزبير ستين سوطاً، فبلغ ذلك ابن الزبير فكتب إلى جابر يلومه وقال: ما لنا ولسعيد، دعه لا تعرض له. وقيل: إن بيعة الوليد وسليمان كانت سنة أربع وثمانين، والأول أصح، قبل قدوم عبد العزيز على أخيه عبد الملك من مصر، فلما فارقه وصاه عبد الملك فقال: ابسط بشرك وألن كنفك وآثر الرفق في الأمور فهو أبلغ بك، وانظر حاجبك وليكن من خير أهلك، فإنه وجهك ولسانك، ولا يفن أحد ببابك إلا أعلمك مكانه لتعلم أنت الذي تأذن له أو ترده، فإذا خرجت إلى مجلسك فابدأ جلساءك بالكلام يأنسوا بك وتثبت في قلوبهم محبتك، وإذا انتهى إليك مسكل فاستظهر عليه بالمشاورة فإنها تفتح مغاليق الأمور المهمة، واعلم أن لك نصف الرأي ولأخيك نصفه، ولن يهلك امرؤ عن مشورة، وإذا سخطت على أحد فأخر عقوبته فإنك على العقوبة بعد التوقف عنها أقدر منك على ردها بعد إمضائها. والسلام. ذكر عدة حوادثحج بالناس هذه السنة هشام بن إسماعيل المخزومي. وكان العامل على العراق والمشرق الحجاج بن يوسف. وفيها غزا محمد بن مروان أرمينية فصاف فيها وشتى. وفي هذه السنة مات عمرو بن حريث المخزومي. وفيها مات عبد الله بن الحارث بن جزء الزبيدي، وقيل سنة سبع، وقيل سنة ثمان وثمانين، وفيها مات عبد الله بن عامر بن ربيعة حليف بني عدي، وكان له لما توفي النبي صلى الله عليه وسلم ، وأربع سنين. ثم دخلت سنة ست وثمانين ذكر وفاة عبد الملك في هذه السنة توفي عبد الملك بن مروان منتصف شوال، وكان يقول: أخاف الموت في شهر رمضان، فيه ولدت وفيه فطمت وفيه جمعت القرآن، وفيه بايع لي الناس، فمات للنصف من شوال حين أمن الموت في نفسه. وكان عمره ستين سنة، وقيل ثلاثاً وستين سنة، وكانت خلافته من لدن قتل ابن الزبير ثلاث عشرة سنةً وأربعة أشهر إلا سبع ليالٍ، وقيل وثلاثة أشهر وخمسة عشر يوماً. ولما اشتد مرضه قال بعض الأطباء: إن شرب الماء مات. فاشتد عطشه فقال: يا وليد اسقني ماء. قال: لا أعين عليك. فقال لابنته فاطمة: اسقيني ماء. فمنعها الوليد. فقال: لتدعنها أو لأخلعنك. فقال: لم يبق بعد هذا شيء؛ فسقته فمات. ودخل الوليد عليه وابنته فاطمة عند رأسه تبكي فقال: كيف أمير المؤمنين؟ قال: هو أصلح. فلما خرج قال عبد الملك: ومستخبر عنا يريد لنا الردى ... ومستخبرات والدموع سواجم
وأوصى بنيه فقال: أوصيكم بتقوى الله فإنها أزين حلية وأحصن كهف، ليعطف الكبر منكم على الصغير، وليعرف الصغير حق الكبير، وانظروا مسلمة فاصدروا عن رأيه فإنه نابكم الذي عنه تفترون، ومجنكم الذي عنه ترمون، فأكرموا الحجاج فإنه الذي وطأ لكم المنابر ودوخ لكم البلاد وأذل الأعداء، وكونوا بني أم بردة لا تدب بينكم العقارب، وكونوا في الحرب أمراراً فإن القتال لا يقرب ميتة، وكونوا للمعروف مناراً فإن المعروف يبقى أجره وذكره، وضعوا معروفكم عند ذوي الأحساب فإنهم أصون له وأشكر لما يؤتى إليهم منه، وتمغدوا ذنوب أهل الذنوب فإن استقالوا فأقيلوا وإن عادوا فانتقموا. ولما توفي دفن خارج باب الجابية وصلى عليه الوليد، فتمثل هشام: فما كان قيس هلكه هلك واحد ... ولكنه بنيان قومٍ تهدما فقال الوليد: اسكت فإنك تتكلم بلسان شيطان، ألا قلت كما قال أوس بن حجر: إذا مقرمٍ منا ذرا حد نابه ... تخمط منا ناب آخر مقرم وقيل: إن سليمان تمثل بالبيت الأول، وهو الصحيح، لأن هشاماً كان صغيراً له أربع عشرة سنة. وقد رثى الشعراء عبد الملك، كثير عزة وغيره، فمما قيل فيه: سقاك ابن مروانٍ من الغيث مسبل ... أجش شمالي يجود ويهطل فما في حياةٍ بعد موتك رغبة ... لحرٍ وإن كنا الوليد نؤمل ذكر نسبه وأولاده وأزواجهأما نسبه فهو أبو الوليد عبد الملك بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف. وأمه عائشة بنت معاوية بن المغيرة بن أبي العاص بن أمية. وأما أولاده وأزواجه فمنهم: الوليد وسليمان ومروان الأكبر، درج، وعائشة؛ أمهم ولادة بنت العباس بن جزء بن الحارث بن زهير بن خزيمة العبسية؛ ومنهم يزيد ومروان ومعاوية، درج، وأم كلثوم؛ وأمهم عاتكة ابنة يزيد بن معاوية بن معاوية بن أبي سفيان؛ ومنهم هشام، وأمه أم هشام بنت إسماعيل بن هشام بن الوليد بن المغيرة المخزومية، واسمها عائشة؛ ومنهم أبو بكر، وهو بكار، أمه عائشة بنت موسى بن طلحة بن عبيد الله؛ ومنهم الحكم، درج، أمه أم أيوب بنت عمرو بن عثمان بن عفان؛ ومنهم فاطمة بنت عبد الملك، أمها أم المغيرة بنت المغيرة بن خالد بن العاص بن هشام بن المغيرة؛ ومنهم عبد الله ومسلمة والمنذر وعنبسة وحمد وسعيد الخير والحجاج لأمهات أولاد. وكان له من النساء شقراء بنت مسلم بن حليس الطائي وأم أبيها ابنة عبد الله بن جعفر بن أبي طالب. وقيل: كان عنده ابنة لعلي بن أبي طالب، ولا يصح. ذكر بعض أخبارهكان عبد الملك عاقلاً حازماً أديباً لبيباً عالماً. قال أبو الزياد: كان فقهاء المدينة أربعة: سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، وقبيصة بن ذؤيب، وعبد الملك بن مروان. وقال الشعبي: ما ذاكرت أحداً إلا وجدت لي الفضل عليه إلا عبد الملك، فإني ما ذاكرته حديثاً إلا زادني فيه، ولا شعراً إلا زادني فيه وقال جعفر بن عقبة الخطائي: قيل لعبد الملك: أسرع إليك الشيب. فقال: شيبني ارتقاء المنابر وخوف اللحن. وقال عبد الملك: ما أعلم أحداً أقوى على هذا الأمر مني، إن ابن الزبير لطويل الصلاة، كثير الصيام، ولكن لبخله لا يصلح أن يكون سائساً. قال أبو مسهر: قبل لعبد الملك في مرضه: كيف تجدك؟ قال: أجدني كما قال الله تعالى: " ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرةٍ وتركتم ما خولنا كم وراء ظهوركم " الأنعام:94 الآية، وقال المفضل بن فضالة عن أبيه: استأذن قوم على عبد الملك بن مروان وهو شديد المرض فدخلوا عليه وقد أسنده خصي إلى صدره، فقال لهم: إنكم دخلتم علي عند إقبال آخرتي وإدبار دنياي، وإني تذكرت أرجى عمل لي فوجدتها غزوة غزوتها في سبيل الله وأنا خلو من هذه الأشياء، فإياكم وإيا أبوابنا هذه الخبيثة أن تطيفوا بها. وقال سعيد بن عبد العزيز التنوخي: لما نزل بعبد الملك بن مروان الموت أمر بفتح باب قصره، فإذا قصار يقصر ثوباً فقال: يا ليتني كنت قصاراً! يا ليتني كنت قصاراً! مرتين. فقال سعيد بن عبد العزيز: الحمد الله الذي جعلهم يفزعون إلينا ولا نفزع إليهم.
وقال سعيد بن بشير: إن عبد الملك حين ثقل جعل يلوم نفسه ويضرب يده على رأسه وقال: وددت أني كنت أكتسب يوماً بيوم ما يقوتني وأشتغل بطاعة الله، فذكر ذلك لابن خازم، فقال: الحمد لله الذي جعلهم يتمنون عند الموت ما نحن فيه ولا نتمنى عند الموت ما هم فيه. وقال مسعود بن خلف: قال عبد الملك بن مروان في مرضه: والله وددت أني عبد لرجل من تهامة أرعى غنماً في جبالها وأني لم أك شيئاً. وقال عمران بن موسى المؤدب: يروى أن عبد الملك بن مروان لما اشتد مرضه قال: ارفعوني على شرف. ففعل ذلك. فتنسم الروح ثم قال: يا دنيا ما أطيبك! إن طويلك لقصير، وإن كبيرك لحقير، وإن كنا منك لفي غرور! وتمثل بهذين البيتين: إن تناقش يكن نقاشك يار ... ب عذاباً، لا طوق لي بالعذاب أو تجعوز فأنت رب صفوح ... عن مسيء ذنوبه كالتراب ويروى أن هذه الأبيات تمثل بها معاوية، ويحق لعبد الملك أن يحذر هذا الحذر ويخاف، فإن من يكن الحجاج بعض سيئاته يعلم على أي شيء يقدم عليه. قال عبد الملك لسعيد بن المسيب: يا أبا محمد صرت أعمل الخير فلا أسر به، وأصنع الشر فلا أساء به. فقال: الآن تكامل فيك موت القلب. وكان عبد الملك أول من غدر في الإسلام، وقد تقدم فعله بعمرو بن سعيد، وكان أول من نقل الديوان من الفارسية إلى العربية، وأول من نهى عن الكلام في حضرة الخلفاء، وكان الناس قبله يراجعونهم، وأول خليفة بخل، وكان يقال له رشح الحجارة لبخله، وأول من نهى عن المر بالمعروف، فإنه قال في خطبته بعد قتل ابن الزبير: ولا يأمرني أحد بتقوى الله بعد مقامي هذا إلا ضربت عنقه. ذكر خلافة الوليد بن عبد الملكفلما دفن عبد الملك بن مروان انصرف الوليد عن قبره فدخل المسجد وصعد المنبر واجتمع إليه الناس فخطبهم وقال: إنا له وإنا إليه راجعون، والله المستعان على مصيبتنا لموت أمير المؤمنين، والحمد لله على ما أنعم علينا من الخلافة، قوموا فبايعوا. وكان أول من عزى نفسه وهنأها؛ وكان أول من قام لبيعته عبد الله بن همام السولي وهو يقول: الله أعطاك التي لا فوقها ... وقد أراد الملحدون عوقها عنك ويأبى الله إلا سوقها ... إليك حتى قلدوك طوقها فبايعه ثم قام الناس لبيعته. وقد قيل: إن الوليد لما صعد المنبر حمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس لا مقدم لما أخر الله، ولا مؤخر لما قدم، وهذا كان من قضاء الله وسابق علمه، وما كتب على أنبيائه وحملة عرشه الموت، وقد صار إلي منازل الأبرار ولي هذه الأمة بالذي يحق عليه لله في الشدة على المريب، واللين لأهل الحق والفضل، وإقامة ما أقام الله من منار الإسلام، وأعلامه، من حج البيت وغزو الثغور وشن الغارة على أعداء الله، فلم يكن عاجزاً ولا مفرطاً. أيها الناس عليكم بالطاعة ولزوم الجماعة، فإن الشيطان مع الفرد. أيها الناس من أبدى لنا ذات نفسه ضربنا الذي فيه عيناه، ومن سكت مات بدائه. ثم نزل. وكان جباراً عنيداً. ذكر ولاية قتيبة خراسان وما كان منه هذه السنةوفي هذه السنة قدم قتيبة خراسان أميراً عليها للحجاج، فقدمها والمفضل يعرض الجند للغزاة، فخطب قتيبة الناس وحثهم على الجهاد، ثم عرضهم وسار، وجعل بمرو على حربها إياس بن عبد الله بن عمرو، وعلى الخراج عثمان السعيدي. فلما كان بالطالقان أتاه دهاقين بلخ وساروا معه، فقطع النهر، فتلقاه ملك الصغانيان بهدايا ومفاتيح من ذهب ودعاه إلى بلاده، فمضى معه، فسلمها إليه لأن ملك آخرون وسومان كان يسيء جواره. ثم سار قتيبة منها إلى آخرون وسومان، وهما من طخارستان، فصالحه ملكهما على فدية أداها إليه فقلبها قتيبة قم انصرف إلى مرو واستخلف على الجند أخاه صالح بن مسلم، ففتح صالح بعد رجوع قتيبة كاشان وأورشت، وهي من فرغانة، وفتح أخشيكت، وهي مدينة فرغانة القديمة، وكان معه نصر بن سيار فأبلى يومئذٍ بلاءً حسناً.
وقيل: إن قيبة قدم خراسان سنة خمس وثمانين فعرض الجند فغزوا آخرون وشومان ثم رجع إلى مرو. وقيل: إنه أقام السنة ولم يقطع النهر لسبب بلخ فإن بعضها كان منتقصاً عليه فحاربهم؛ وكان ممن سبى امرأة برمك أبي خالد بن برمك لعبد الله: إني قد علقت منك، وحضرت عبد الله بن مسلم الوفاة فأوصى أن يلحق به ما في بطنها وردت إلى برمك. فذكر أن ولد عبد الله بن مسلم جاؤوا أيام المهدي حين قدم الري إلى خالد فادعوه. فقال لهم مسلم بن قتيبة: إنه لا بد لكم إن استلحقتموه ففعل من أن تزوجوه فتركوه. وكان برمك طبيباً. ذكر عدة حوادثوفي هذه السنة غزا مسلمة بن عبد الملك أرض الروم. وفيها حبس الحجاج يزيد بن المهلب وعزل حبيب بن المهلب عن كرمان وبعد الملك عن شرطته. وحج بالناس هشام بن إسماعيل المخزومي. وكان الأمير على العراق والمشرق كله الحجاج بن يوسف. وفي أيام عبد الملك مات أسيد بن ظهير الأنصاري. أسيد بضم الهمزة. وظهير بضم الظاء المعجمة. وفيها مات عمر بن أبي سلمة، وهو ابن أم سلمة. وفي أيامه مات علقمة بن وقاص الليثي، وله صحبة. وفي هذه السنة مات قبيصة بن ذؤيب الخزاعي، وولد أول سنة من الهجرة، وحنكه النبي صلى الله عليه وسلم ، وكان على خاتم عبد الملك بن مروان، وكان فيهاً. وفي أيامه مات سعد بن زيد الأنصاري، وولد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، وفي أيامه مات سلمة ابن أبي أم سلمة ربيب النبي صلى الله عليه وسلم ، وفي هذه السنة مات عبد الله بن أبي أوفى الأسلمي، وقيل سنة سبع وثمانين، شهد الحديبية وخيبر. وفي آخر أيامه مات الوليد بن عبادة بن الصامت الأنصاري، وولد في آخر زمن النبي. وفي هذه السنة توفي لاحق بن حميد أبو مجلز السدوسي. ثم دخلت سنة سبع وثمانين ذكر إمارة عمر بن عبد العزيز بالمدينة وفي هذه السنة عزل الوليد هشام بن إسماعيل عن المدينة لسبع ليال خلون من ربيع الأول، وكانت إمارته عليها أربع سنين غير شهر أو نحوه، وولى عمر بن عبد العزيز المدينة، فقدمها والياً في ربيع الأول، وثقله على ثلاثين بعيراً، فنزل دار مروان، وجعل يدخل عليه الناس فيسلمون، فلما وصل الظهر دعا عشرةً من الفقهاء الذين في المدينة: عروة بن الزبير، وأبا بكر بن سليمان بن أبي خيثمة، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، وأبا بكر بن عبد الرحمن بن الحارث، وسليمان بن يسار، والقاسم بن محمد، وسالم بن عبد الله بن عمرو، وعبد الله بن عبيد الله بن عمر، وعبد الله بن عامر بن ربيعة، وخارجة بن زيد، فدخلوا عليه، فقال لهم: إنما دعوتكم لأمر تؤجرون عليه وتكونون فيه أعواناً على الحق، ولا أريد أن أقطع أمراً إلا برأيكم أو بر أيمن حضر منكم، فإن رأيتم أحداً يتعدى أو بلغكم عن عامل لي ظلام فأحرج الله على من بلغه ذلك إلا بلغني. فخرجوا يجزونه خيراً وافترقوا. وكتب الوليد إلى عمر بن عبد العزيز يأمره أن يقف هشام بن إسماعيل للناس، وكان سيء الرأي فيه، وكان هشام بن إسماعيل يسيء جوار علي بن الحسين، فخافه هشام، فتقدم علي بن الحسين إلى خاصته ألا يعرض له أحد بكلمة، ومر به علي وقد وقف للناس ولم يعرض له، فناداه هشام: " الله أعلم حيث يجعل رسالته " الأنعام:124. ذكر صلح قتيبة ونيزكولما صالح قتيبة ملك شومان كتب إلى نيزك طرخان صاحب باذغيس في إطلاق من عنده من أسراء المسلمين، وكتب إليه يتهدده، فخافه نيزك فأطلق الأسرى وبعث بهم إليه، وكتب إليه قتيبة مع سليم الناصح مولى عبيد الله بن أبي بكرة يدعوه إلى الصلح وإلى أن يؤمنه، وكتب إليه بحلف بالله لئن لم يقدم عليه ليغزونه ثم ليطلبنه حيث كان حتى يظفر به أو يموت دونه. فقدم سليم بالكتاب، فقال له نيزك، وكان يستنصحه: يا سليم ما أظن عند صاحبك خيراً، كتب إلي كتاباً لا يكتب إلى مثلي. فقال له سليم: إنه رجل شديد في سلطانه، سهل إذا سوهل، صعب إذا عوسر، فلا يمنعك منه غلظة كتابه إليك، فأحسن حالك عنده. فقام نيزك مع سليم فصالحه أهل باذعيس على أن لا يدخلها قتيبة. ذكر غزو الروم
قيل: وفي هذه السنة غزا مسلمة بن عبد الملك الروم فقتل منهم عدداً كبيراً بسوسنة من ناحية المصيصة وفتح حصوناً. وقيل: إن الذي غزا في هذه السنة هشام بن عبد الملك ففتح حصن بولق وحصن الأخرم وحصن بولس وقمقم، وقتل من المتعربة نحواً من ألف مقاتل وسبى ذريتهم ونساءهم. ذكر غزو قتيبة بيكندولما صالح قتيبة نيزك أقام إلى وقت الغزو فغزا بي كند سنة سبع وثمانين، وهي أدنى مدائن بخاري إلى النهر، فلما نزل بهم استنصروا السعد واستمدوا من حولهم، فأتوهم في جمع كثير وأخذوا الطرق على قتيبة، فلم ينفذ لقتيبة رسول ولم يصل إليه خبر شهرين، وأبطأ خبره على الحجاج فأشفق على الجند فأمر الناس بالدعاء لهم في المساجد وهم يقتلون كل يوم. وكان لقتيبة عين من العجم يقال له تندر، فأعطاه أهل بخارى مالاً ليرد عنهم قتيبة، فأتاه فقال له سراً من الناس: إن الحجاج قد عزل وقد أتى عامل إلى خراسان فلو رجعت بالناس كان أصلح. فأمر به فقتل خوفاً من أن يظهر الخبر فيهلك الناس، ثم أمر أصحابه بالجد في القتال فقاتلهم قتالاً شديداً، فانهزم الكفار يريدون المدينة وتبعهم المسلمون قتلاً وأسراً كيف شاؤوا، وتحصن من دخل المدينة بها، فوضع قتيبة الفعلة ليهدم سورها، فسألوه الصلح وقتلوا العامل ومن معه، فرجع قتيبة فنقب سورهم فسقط، فسألوه الصلح فلم يقبل ودخلها عنوةً وقتل من كان بها من المقاتلة. وكان فيمن أخذوا في المدينة رجل أعور هو الذي استجاش الترك على المسلمين، فقال لقتية: أنا أفدي نفسي بخمسة آلاف حريرة قيمتها ألف ألف. فاستشار قتيبة الناس فقالوا: هذه زيادة في الغنائم وما عسى أن يبلغ كيد هذا! قال: لا والله لا يروع بك مسلم أبداً! فأمر به فقتل. وأصابوا فيها من الغنائم والسلاح وآنية الذهب والفضة ما لا يحصى، ولا أصابوا بخراسان مثله، فقوي المسلمون، وولي قسم الغنائم عبد الله بن وألان العدوي أحد بني نلكان، وكان قتيبة يسميه الأمين ابن الأمين، فإنه كان أميناً. وكان من حديث أمانة أبيه أن مسلماً الباهلي أبا قتيبة قال لو ألان: إن عندي مالاً أحب أن أستودعكه ولا يعلم به أحد. قال وألان: ابعث به مع رجل تثق به إلى موضع كذا وكذا ومره إذا رأى في ذلك الموضع رجلاً أن يضع المال إلى موضع كذا وكذا فإذا رأيت رجلاً جالساً فخل البغل وانصرف. ففعل المولى ما أمره وأتى المكان، وكان وألان قد سبقه إليه وانتظر، وأبطأ عليه رسول مسلم فظن أنه قد بدا له البغل ورجع، فأخذ التغلبي البغل والمال ورجع إلى منزله، وظن مسلم أن المال قد أخذه وألان فلم يسأله حتى احتاج إليه، فلقيه فقال: مالي! فقال:ما قبضت شيئاً ولا لك عندي مال، فكان مسلم يشكوه إلى الناس، فشكاه يوماً والتغلبي جالس فخلا به التغلبي وسأله عن المال فأخبره، فانطلق به إلى منزله وسلم المال إليه وأخبره الخبر، فكان مسلم يأتي الناس والقبائل فيذكر لهم عذر وألان ويخبرهم الخبر. قال: فلما فرغ قتيبة من فتح بيكند رجع إلى مرو. ذكر عدة حوادثحج بالناس هذه السنة عمر بن عبد العزيز، وهو أمير المدينة. وكان على قضاء المدينة أبو بكر بن عمرو بن حزم. وكان على العراق وخراسان الحجاج، وكان خليفته على البصرة هذه السنة الجراح بن عبد الله الحكمي، وعلى قضائها عبد الله بن أذينة، وكان على قضاء الكوفة أبو بكر بن موسى الأشعري. وفيها مات عبيد الله بن عباس بالمدينة، وقيل باليمن، وكان أصغر من عبد الله بسنة وفيها مات مطرف بن عبد الله بن الشخير في طاعون الجارف بالبصرة. وفيها مات المقدام بن معدي كرب الكندي، له صحبة، وقيل مات سنة إحدى وتسعين. وفيها مات أمية بن عبد الله بن أسيد. أيد بفتح لهمزة. الشخير بكسر الشين والخاء المعجمتين، وتشديد الخاء وبعدها ياء. ثم دخلت سنة ثمان وثمانين | |
|
| |
الشيخ عودة الشيخ عودة
عدد المساهمات : 1748 تاريخ التسجيل : 28/09/2008 العمر : 74
| موضوع: رد: كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير الثلاثاء فبراير 11, 2014 3:43 am | |
| ذكر فتح طوانة من بلد الروم
في هذه السنة غزا مسلمة بن عبد الملك والعباس بن الوليد بن عبد الملك بلد الروم، وكان الوليد قد كتب إلى صاحب أرمينية يأمره أن يكتب إلى ملك الروم يعرفه أن الخزر وغيرهم من ملوك جبال أرمينية قد اجتمعوا على قصد بلاده، ففعل ذلك، وقطع الوليد البعث على أهل الشام إلى أرمينية وأكثر وأعظم جهازه، وساروا نحو الجزيرة قم عطفوا منها إلى بلد الروم فاقتتلوا هم والروم، فانهزم الروم ثم رجعوا فانهزم المسلمون، فبقي العباس في نفر منهم ابن محيريز الجمحي فقال العباس: أين أهل القرآن الذين يريدون الجنة؟ فقال ابن محيريز: نادهم يأتوك. فنادى العباس: يا أهل القرآن! فأقبلوا جميعاً، فهزم الله الروم حتى دخلوا طوانة، وحصرهم المسلمون وفتحوها في جمادى الأولى. قيل: وفيها ولد الوليد بن يزيد بن عبد الملك. ذكر عمارة مسجد النبي صلى الله عليه وسلمقيل: وفي هذه السنة كتب الوليد إلى عمر بن عبد العزيز في ربيع الأول يأمره بإدخال حجر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ، في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأن يشتري ما في نواحيه حتى يكون مائتي ذراع في مائتي ذراع، ويقول له: قدم القبلة إن قدرت، وأنت تقدر لمكان أخوالك، وإنهم لا يخالفونك، فمن أبى منهم فقوموا ملكه قيمة عدل واهدم عليهم وادفع الأثمان إليهم، فإن لك في عمر وعثمان أسوة. فأحضرهم عمر وأقرأهم الكتاب، فأجابوه إلى الثمن، فأعطاهم إياه، وأخذوا في هدم بيون أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبنى المسجد، وقدم عليهم الفعلة من الشام، أرسلهم الوليد، وبعث الوليد إلى ملك الروم يعلمه أنه قد هدم مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ، ليعمره، فبعث إليه ملك الروم مائة ألف مثقال ذهب ومائة عامل وبعث إليه من الفسيفساء بأربعين جملاً، فبعث الوليد بذلك إلى عمر بن عبد العزيز، وحضر عمر ومعه الناس فوضعوا أساسه وابتدأوا بعمارته. قيل: وفي هذه السنة غزا مسلمة بن عبد الملك الروم أيضاً ففتح ثلاثة حصون: أحدها حصن قسطنطين وغزالة وحصن الأخرم، وقتل من المستعربة نحواً من ألف وأخذ الأموال. ذكر غزو نومشكث ورامثنةقيل: وفي هذه السنة غزا قتيبة بن مسلم نومشكث واستخلف على مرو أخاه يسار بن مسلم، فتلقاه أهلها فصالحهم، ثم سار إلى رامثنة فصالحه أهلها وانصرف عنهم. وزحف إليه الترك ومعهم الصغد وأهل فرغانة في مائتي ألف وملكهم كور نعابون ابن أخت ملك الصين، فاعترضوا المسلمين فلحقوا عبد الرحمن بن مسلم أخا قتيبة وهو على الساقة، وبينه وبين قتيبة وأوائل العسكر ميل، فلما قربوا منه أرسل إلى قتيبة بخيره، وأدركه الترك فقاتلوه، ورجع قتيبة فانتهى إلى عبد الرحمن وهو يقاتل الترك، وقد كاد الترك يظهرون، فلما رأى المسلمون قتيبة طابت نفوسهم وقاتلوا إلى الظهر، وأبلى يومئذٍ نيزك، وهو مع قتيبة، فانهزم الترك، ورجع قتيبة فقطع النهر عند ترمذ وأتى مرو. ذكر ما عمل الوليد من المعروفوفي هذه السنة كتب الوليد إلى عمر بن عبد العزيز في تسهيل الثنايا وحفر الآبار وأمره أن يعمل الفوارة بالمدينة فعملها وأجرى ماءها، فلما حج الوليد ورآها أعجبته فأمر لها بقوام يقومون عليها، وأمر أهل المسجد أن يستقوا منها، وكتب إلى البلدان جميعها فإصلاح الطرق، وعمل الآبار، ومنع المجذمين من الخروج على الناس، وأجرى لهم الأرزاق. ذكر عدة حوادثوحج الناس هذه السنة عمر بن عبد العزيز، ووثل جماعةً من قريش، وساق معه بدناً وأحرم من ذي الحيلفة، فلما كان بالتنعيم أخبر أن مكة قليلة الماء وأنهم يخافون على الحاج العطس، فقال عمر: تعالوا ندع الله تعالى، فدعا ودعا معه الناس، فما وصلوا البيت إلا مع المطر وسال الوادي، فخاف أهل مكة من شدته، ومطرت عرفة ومكة وكثر الخصب. وقيل: إنما حج هذه السنة عمر بن الوليد بن عبد الملك. وكان العمال من تقدم ذكرهم. وفيها مات سهل بن سعد الساعدي، وقيل: بل سنة إحدى وتسعين، وله مائة سنة. وعبد الله بن بسر المازني من مازن بن منصور، وكان ممن صلى القبلتين، وهو آخر من مات بالشام من الصحابة. بسر بضم الباء الموحدة، وبالسين المهملة. ثم دخلت سنة تسع وثمانين ذكر غزو الروم
قيل: في هذه السنة غزا مسلمة بن عبد الملك والعباس بن الوليد بن عبد الملك الروم فافتتح مسلمة حصن عمروية، وفتح العباس أذرولية، ولقي من الروم جمعاً فهزمهم. وقيل: إن ملسمة قصد عمورية فلقي بها جمعاً من الروم كثيراً فهزمهم وافتتح هرقلة وقمونية، وغزظا العباس الصائفة من ناحية البذندون. ذكر غزو قتيبة بخارىفي هذه السنة أتى قتيبة كتاب الحجاج يأمره بقصد وردان خذاه، فعبر النهر من زم، فلقي الصغد وأهل كش ونسف في طريق المفازة فقاتلوه، فظفر بهم ومضى إلى بخارى فنزل خرقانة السفلى عن يمين وردان، فلقوه في جمع كثير، فقاتلهم يومين وليلتين فظفر بهم، وغزا وردان خذاه ملك بخارى فلم يظفر بشيء، فرجع إلى مرو وكتب إلى الحجاج بخبره، فكتب إليه الحجاج أن صورها لي، فبعث إليه بصورتها، فكتب إليه الحجاج أن تب إلى الله، جل ثناؤه، مما كان منك وأتها من مكان كذا وكذا، وكتب إليه: أن كس بكش وانسف نسف ورد وردان، وإياك والتحويط، ودعنب من ثنيات الطريق. وقيل: إنما كان فتح بخارى سنة تسعين، على ما نذكره. ذكر ولاية خالد بن عبد الله القسري مكةقيل: وفي هذه السنة ولي خالد بن عبد الله القسري مكة، فخطب أهلها فقال: أيها الناس أيهما أعظم، خليفة الرجل على أهله أو رسوله إليهم؟ والله لو مل تعلموا فضل الخليفة إلا أن إبراهيم خليل الرحمن استسقاه فسقاه ملحاً أجاجاً واستسقاه الخليفة فسقاه عذباً فراتاً، يعني بالملح زمزم، وبالماء الفرات بئراً حفرها الوليد بثينة طوىً في ثنية الحجون وكان ماؤها عذباً وكان ينقل ماءها ويضعه في حوض إلى جنب زمزم ليعرف فضله على زمزم، فغارت البئر وذهب ماؤها فلا يدرى أين هو اليوم. وقيل: وليها سنة إحدى وتسعين، وقيل: سنة أربع وتسعين، وقد ذكرناه هناك. ذكر قتل ذاهر ملك السندفي هذه السنة قتل محمد بن القاسم بن محمد بن الحكم بن أبي عقيل الثقفي، يجتمع هو والحجاج في الحكم، ذاهر بن صعصعة ملك السند وملك بلاده، وكان الحجاج بن يوسف استعمله على ذلك الثغر وسير معه ستة آلاف مقاتل وجهزه بكل ما يحتاج إليه حتى المسال والإبر والخيوط، فسار محمد إلى مكران فأقام بها أياماً ثم أتى قنزبور ففتحها، ثم سار إلى ارمائيل ففتحها، ثم سار إلى الديبل فقدمها يوم جمعة، ووافته سفن كان حمل فيها الرجال والسلاح والأداة فخندق حين نزل الديبل بد عظيم عليه دقل عظيم وعلى الدقل راية حمراء إذا هبت الريح أطافت بالمدينة، وكانت تدور، والبد صنم في بناء عظيم تحت منارة عظيمة مرتفعة، وفي رأس المنارة هذا الدقل، وكل ما يعبد فهو عندهم بد. فحصرها وطال حصارها، فرمى الدقل بحجر العروس فكسره، فتطير الكفار بذلك، ثم إن محمد أتى وناهضهم وقد خرجوا إليه فهزمهم حتى ردهم إلى البلد وأمر بالسلاليم فنصبت وصعد عليها الرجال، وكان أولهم صعوداً رجل من مراد من أهل الكوفة، ففتحت عنوة وقتل فيها ثلاثة أيام وهرب عامل ذاهر عنها وأنزلها محمد أربعة آلاف من المسلمين وبنى جامعها وسار عنها إلى البيرون، وكان أهلها بعثوا إلى الحجاج فصالحوه، فلقوا محمداً بالميرة وأدخلوه مدينتهم، وسار عنها وجعل لا يمر بمدينة إلا فتحها حتى عبر نهراً دون مهران، فأتاه أهل سربيدس فصالحوه، ووظف عليهم الخراج وسار عنهم إلى سهبان ففتحها، ثم سار إلى نهر مهران فنزل في وسطه. وبلغ خبره ذاهر فاستعد لمحاربته وبعث جيشاً إلى سدوستان، فطلب أهلها الأمان والصلح، فآمنهم ووظف عليهم الخراج، ثم عبر محمد مهران مما يلي بلاد راسل الملك على جسر عقده وذاهر مستخف به، فلقيه محمد والمسلمون وهو على فيل وحوله الفيلة، ومعه التكاكرة، فاقتتلوا قتالاً شديداً لم يسمع بمثله، وترجل ذاهر فقتل عند المساء ثم انهزم الكفار وقتلهم الملمون كيف شاؤوا، وقال قاتله: الخيل تشهد يوم ذاهر والقنا ... ومحمد بن القاسم بن محمد أني فرجت الجمع غير معردٍ ... حتى علوت عظيمهم بمهند فتركته تحت العجاج مجندلاً ... متعفر الخدين غير موسد فلما قتل ذاهر غلب محمد على بلاد السند وفتح مدينة راور عنوةً، وكان بها امرأة لذاهر فخافت أن تؤخذ فأحرقت نفسها وجواريها وجميع مالها.
ثم سار إلى برهمناباذ العتيقة، وهي على فرسخين من المنصورة، ولم تكن المنصورة يومئذٍ، كان موضعها غيضة، وكان المنهزمون من الكفار بها، فقاتلوه ففتحها محمد عنوةً وقتل بها بشراً كثيراً وخربت. وسار يريد الرور وبغرور فلقيه أهل ساوندرى فطلبوا الأمان فأعطاهم إياه واشترط عليهم ضيافة المسلمين، ثم أسلم أهلها بعد ذلك. ثم تقدم إلى بسمد وصالح أهلها، ووصل إلى الرور، وهي من مدائن السند على جبل، فحصرهم شهوراً فصالحوه، وسار إلى السكة ففتحها، ثم قطع نهر بياس إلى الملتان فقاتله أهلها وانهزموا، فحصرهم محمد فجاءه إنسان ودله على قطع الماء الذي يدخل المدينة فقطعه، فعطشوا فألقوا بأيديهم ونزلوا على حكمه فقتل المقاتلة وسبى الذرية وسدنة البد، وهم ستة آلاف، وأصابوا ذهباً كثيراً، فجمع في بيت طوله عشرة أذرع وعرضه ثمانية أذرع يلقى إليه من كوة في وسطه، فسميت الملتان فرج بيت الذهب، والفرج الثغر، وكان بد الملتان تهدى إليه من كوة في وسطه، فسميت الملتان فرج بيت الذهب، والفرج الثغر، وكان بد الملتان تهدى إليه الأموال ويحج من البلاد ويحلقون رؤوسهم ولحاهم عنده ويزعمون أن صنمه هو أيوب النبي صلى الله عليه وسلم . وعظمت فتوحه، ونظر الحجاج في النفقة على ذلك الثغر فكانت ستين ألف ألف درهم، ونظر في الذي حمل فكان مائة ألف ألف وعشرين ألف ألف، فقال: ربحنا ستين ألفاً وأدركنا ثأرنا ورأس ذاهر. ثم مات الحجاج، ونذكر أمر محمد عند موت الحجاج إن شاء الله تعالى. ذكر استعمال موسى بن نصير على إفريقيةفي هذه السنة استعمل الوليد بن عبد الملك موسى بن نصير على إفريقية، وكان نصير والده على حرس معاوية، فلما سار معاوية إلى صفين لم يسر معه، فقال له: ما يمنعك من المسير معي إلى قتل علي ويدي عنك معروفة؟ فقال: لا أشركك بكفر من هو أولى بالشكر منك، وهو الله، عز وجل . فسكت عنه معاوية. فوصل موسى إلى إفريقية وبها صالح الذي استخلفه حسان على إفريقية، وكان البربر قد طمعوا في البلاد بعد مسير حسان، فلما وصل موسى عزل صالحاً وبلغه أن بأطراف البلاد قوماً خارجين عن الطاعة، فوجه إليه ابنه عبد الله فقاتلهم فظفر بهم، وسبى منهم ألف رأس وسيره في البحر إلى جزيرة ميورقة، فنهبها وغنم منها مالا يحصى وعاد سالماً، فوجه ابنه هارون إلى طائفة أخرى فظفر بهم وسبى منهم نحو ذلك وتوجه هو بنفسه إلى طائفة أخرى فغنم نحو ذلك، فبلغ الخمس ستين ألف رأس من السبي، ولم يذكر أحد أنه سمع بسبي أعظم من هذا. ثم إن إفريقية قحطت واشتد بها الغلاء، فاستسقى بالناس وخطبهم ولم يذمر الوليد، وقيل له في ذلك، فقال: هذا مقام لا يدعى فيه لأحد ولا يذكر إلا الله، عز وجل، فسقى الناس ورخصت الأسعار، ثم خرج غازياً إلى طنجة يريد من بقي من البربر، وقد هربوا خوفاً منه، فتبعهم وقتلهم قتلاً ذريعاً حتى بلغ السوس الأدنى لا يدافعه أحد، فاستأمن البربر إليه وأطاعوه، واستعمل على طنجة مولاه طارق بن زياد، ويقال: إنه صدفي. وجعل معه جيشاً كثيفاً جلهم من البربر، وجعل معهم من يعلمهم القرآن والفرائض، وعاد إلى إفريقية. فمر بقلعة مجانة فتحصن أهلها منه وترك عليها من يحاصرها مع بشر بن فلان، ففتحها، فسميت قلعة بشر إلى الآن، وحينئذٍ لم يبق له في إفريقية من ينازعه. وقيل: كانت ولاية موسى سنة ثمان وسبعين، استعمله عليها عبد العزيز بن مروان، وهو حينئذٍ على مصر لأخيه عبد الملك. ذكر عدة حوادثفي هذه السنة غزا مسلمة بن عبد الملك الترك من ناحية أذربيجان ففتح حصوناً ومدائن هناك. وحج بالناس عمر بن عبد العزيز، وكان العمال من تقدم ذكرهم. وفي هذه السنة مات عبد الله بن ثعلبة بن صغير العذري حليف بني زهرة، وكان مولده قبل الهجرة بأربع سنين، وقيل: ولد سنة ست من الهجرة. صعير بضم الصاد، وفتح العين المهملتين. وفيها مات ظليم مولى عبد الله بن سعد بن أبي سرح بإفريقية. ظليم بفتح الظاء المعجمة، وكسر اللام. ثم دخلت سنة تسعين ذكر فتح بخارى
قد ذكرنا ورود كتاب الحجاج إلى قتيبة بأمره بالتوبة عن انصرافه عن وردان خذاه ملك بخارى ويعرفه الموضع الذي يأتي بلده منه، فلما ورد الكتاب على قتيبة خرج غازياً إلى بخارى سنة تسعين، فاستجاش وردان خذاه بالصغد والترك من حوله فأتوه، وقد سبق إليها قتيبة فحصرها، فلما جاءتهم أمدادهم خرجوا إلى المسلمين يقاتلونهم، فقالت الأزد: اجعلونا ناحيةً وخلوا بيننا وبين قتلاهم. فقال قتيبة: تقدموا وقاتلوهم قتالاً شديداً، ثم إن الأزد انهزموا حتى دخلوا العسكر وركبهم المشركون فحطموهم حتى أدخلوهم عسكرهم وجازوه حتى ضرب النساء وجوه الخيل وبكين، فكروا راجعين، فانطوت مجنبتا المسلمين على الترك فقاتلوهم حتى ردوهم إلى مواقفهم، فوقف الترك على نشز، فقال قتيبة: من يزيلهم عن هذا الموضع؟ فلم يقدم عليهم أحد من العرب، فأتى بني تميم فقال لهم: يوم كأيامكم، فأخذ وكيع اللواء وقال: يا بني تميم أتسلمونني اليوم؟ قالوا: لا يا أبا مطرف. وكان هريم بن أبي طحمة على خيل تميم، ووكيع رأسهم، فقال وكيع: يا هريم قدم خيلك. ودفع إليه الراية، فتقدم هريم وتقدم وكيع في الرجالة، فانتهى هريم إلى نهر بينهم وبين الترك، فوقف فقال وكيع: تقدم يا هريم، فنظر هريم نظر الجمل الهائج الصائل وقال: أأقحم الخيل هذا النهر؟ فإن انكشفت كان هلاكها يا أحمق. فقال وكيع: يا بن اللخناء ترد أمير! فحذفه بعمود كان معه، فعبر هريم في الخيل، وانتهى وكيع إلى النهر فعمل عليه جسراً من خشب وقال لأصحابه: من وطن نفسه على الموت فليعبر وإلا فليثبت مكانه. فما عبر معه إلا ثمانمائة رجل، فلما عبر بهم ودنا من العدو قال لهريم: غني مطاعنهم فاشغلهم عنا بالخيل، فحمل عليهم حتى خالطهم، وحمل هريم في الخيل فطاعنوهم، ولم يزالوا يقاتلونهم حتى حدروهم من التل، ونادى قتيبة: ما ترون العدو منهزمين؟ فلم يعبر أحد النهر حتى انهزموا، وعبر الناس، ونادى قتيبة: من أتى برأس فله مائة، فأتي برؤوس كثيرة، فجاء يومئذٍ أحد عشر رجلاً من بني قريع كل رجل برأس، فيال له: من أنت؟ فيقول: قريعي. فجاء رجل من الأزد برأس، فيل له: من أنت؟ فقال: قريعي، فعرفه جهم بن زحر، فقال: كذب، والله إنه أزدي. فقال له قتيبة: ما دعاك إلى هذا؟ فقال: رأيت كل من جاء يقول قريعي فظننت أنه ينبغي لكل من جاء برأس يقوله. فضحك قتيبة. وجرح خاقان وابنه، وفتح الله عليهم، وكتب قتيبة بالفتح إلى الحجاج. ذكر صلح قتيبة مع الصغدلما أوقع قتيبة بأهل بخارى هابه الصغد فرجع طرخون ملكهم ومعه فارسان، فدنا من عسكر قتيبة فطلب رجلاً يكلمه، فأرسل إليه قتيبة حيان النبطي، فطلب الصلح على فدية يؤديها إليهم، فأجابه قتيبة إلى ما طلب وصالح، ورجع طرخون إلى بلاده ورجع قتيبة ومعه نيزك. حيان بالحاء المهملة، والياء المشددة تحتها نقطتان، وآخره نون. ذكر غدر نيزك وفتح الطالقانقيل: لما رجع قتيبة من بخارى ومعه نيزك وقد خاف لما يرى من الفتوح فقال لأصحابه: أنامع هذا ولست آمنه فلو استأذنته ورجعت كان الرأي. قالوا: افعل. فاستأذن قتيبة فأذن له وهو بآمل، فرجع يريد طخارستان وأسرع السير حتى أتى النوبهار فنزل يصلي فيه ويتبرك به، وقال لأصحابه: لا أشك أن قتيبة قد ندم على إذنه لي وسيبعث إلى المغيرة بن عبد الله يأمره بحبسي. وندم قتيبة على إذنه له فأرسل إلى المغيرة يأمره بحبس نيزك، وسار نيزك وتبعه المغيرة فوجده قد دخل شعب خلم، فرجع المغيرة، وأظهر نيزك الخلع وكتب إلى أصبهبذ بلخ وإلى باذان ملك مرو الوذ وإلى ملك الكالقان وإلى ملك الفارياب وإلى ملك الجوزجان أن يدعوهم إلى خلع قتيبة، فأجابوه، فواعدهم الربيع أن يجتمعوا ويغزو قتيبة، وكتب إلى كابل شاه يستظهر به وبعث إليه بثقله وماله وسأله أن يأذن له إن اضطر إليه أن يأتيه، فأجابه إلى ذلك. وكان جبغويه ملك طخارستان ضعيفاً، فأخذه نيزك فقيده بقيد من ذهب لئلا يخالف عليه، وكان جبغويه هو الملك، ونيزك عبده، فاستوثق منه وأخرج عامل قتيبة من بلاد جبغويه. وبلغ قتيبة خلعه قبل الشتاء وقد تفرق الجند، فبعث أخاه عبد الرحمن بن مسلم في اثني عشر ألفاً إلى البورقان، وقال: أقم بها ولا تحدث شيئاً، فإذا انقضى الشتاء سر نحو طخارستان، واعلم أني قريب منك.
فسار، فلما كان آخر الشتاء كتب قتيبة إلى نيسابور وغيرها من البلاد ليقدم عليه الجنود، فقدموا قبل أوانهم، فسار نحو الطالقان، وكان ملكها قد خلع وطابق نيزك على الخلع، فاتاه قتيبة فأوقع بأهل الطالقان فقتل من أهلها مقتلةً عظيمةً وصلب منهم سماطين أربعة فراسخ في نظام واحد، ثم انقضت السنة قبل محاربة نيزك، وسنذكر تمام خبره سنة إحدى وتسعين إن شاء الله. ذكر هرب يزيد بن المهلب وإخوته من سجن الحجاج قيل: وفي هذه السنة هرب يزيد بن المهلب وإخوته الذين كانوا معه في سجن الحجاج، وكان الحجاج قد خرج إلى رستقاباذ للبعث لأن الأكراد كانوا قد غلبوا على فارس، وخرج معه يزيد بن المهلب وإخوته عبد الملك والمفضل في عسكره، وجعل عليهم كهيئة الخندق، وجعلهم في فسطاط قريب منه، وجعل عليهم الحرس من أهل الشام، وطلب منهم ستة آلاف ألف، وأخذ يعذبهم، فكان يزيد يصبر صبراً حسناً، وكان ذلك مما يغيظ الحجاج منه. فقيل للحجاج إنه رمي في ساقه بنشابة فثبت نصلها فيه فهو لا يمسها إلا صاح، فأمر أن يعذب في ساقه، فلما فعلوا به ذلك صاح، وأخته هند بنت المهلب عند الحجاج. فلما سمعت صوته صاحت وناحت، فطلقها الحجاج، ثم إنه كف عنهم وأقبل يستأديهم وهم يعملون في التخلص، فبعثوا إلى أخيهم مروان، وكان بالبصرة، أن يضمن لهم خيلاً ويري الناس أنه يريد بيعها لتكون عدة. ففعل ذلك، وكان أخوه حبيب يعذب بالبصرة أيضاً. فصنع يزيد للحرس طعاماً كثيراً وأمر لهم بشراب، فسقوا واشتغلوا به، ولبس يزيد ثياب طباخه وخرج وقد جعل له لحيةً بيضاء، فرآه بعض الحرس فقال: كانت هذه مشية يزيد، فجاء إليه فرأى لحيته بيضاء في الليل، فتركه وعاد، فخرج المفضل ولم يفطن له، فجاؤوا إلى سفن معدة فركبوها، يزيد والمفضل وعبد الملك، وساروا ليلتهم حتى أصبحوا، فلما أصبحوا علم بهم الحرس فرفعوا خبرهم إلى الحجاج، ففزع وظن أنهم يفسدون خراسان لفتنوا بها، فبعث البريد إلى قتيبة بخبرهم ويأمره بالحذر. ولما دنا يزيد من البطائح استقبلته الخيل فخرجوا عليها ومعهم دليل من كلب، فاخذوا طريق الشام على طريق السماوة، وأتى الحجاج بعد يومين فقيل له: إنهم أخذوا طريق الشام، فبعث إلى الوليد بن عبد الملك يعلمه. ثم سار يزيد فقدم فلسطين فنزل على وهيب بن عبد الرحمن الأزدي، وكان كريماً على سليمان بن عبد الملك، فجاء وهيب إلى سليمان فأعلمه بحال يزيد وإخوته وأنهم قد استعاذوا به من الحجاج، قال: فأتني بهم فهم آمنون لا يوصل إليهم أبد وأنا حي. فجاء بهم إليه، وكانوا في مكان آمن. وكتب الحجاج إلى الوليد: إن آل المهلب خانوا أمان الله وهربوا مني ولحقوا بسليمان. وكان الوليد قد حذرهم وظن أنهم يأتون خراسان للفتنة بها، فلما علم أنهم عند أخيه سليمان سكن بعض ما به وطار غضباً للمال الذي ذهب به، فكتب سليمان إلى الوليد: إن يزيد عندي وقد آمنته، وإنما عليه ثلاثة آلاف ألف لأن الحجاج أغرمه ستة آلاف ألف فأدى ثلاثة آلاف ألف، والذي بقي عليه أنا أؤديه. فكتب الوليد: والله لا أؤمنه حتى تبعث به إلي. فكتب : لئن أنا بعثت به إليك لاجئين معه. فكتب الوليد: والله لئن جئتني لا أؤمنه. فقال يزيد: أرسلني إليه فوالله ما أحب أن أوقع بينه وبينك عداوةً ولا أن يتشأم الناس بي لكما، واكتب معي بألطف ما قدرت عليه. فأرسله وأرسل معه ابنه أيوب، وكان الوليد قد أمره أن يبعث به مقيداً. فقال سليمان لابنه: إذا دخلت على أمير المؤمنين فادخل أنت ويزيد في سلسلة. ففعل ذلك. فلما رأى الوليد ابن أخيه في سلسلة قال: لقد بلغنا من سليمان. ودفع أيوب كتاب أبيه إلى عمه وقال له: يا أمير المؤمنين نفسي فداؤك لا تخفر ذمة أبي وأنت أحق من منعها، ولا تقطع ما رجاء من رجا السلامة في جوارنا لمكاننا منك، ولا تذل من رجا العز في الانقطاع إلينا لعز بابك. فقرأ الوليد كتاب سليمان فإذا هو يستعطفه ويشفع إليه ويضمن إيصال المال، فلما قرأ المتاب قال: لقد شققنا على سليمان. وتكلم يزيد واعتذر، فآمنه الوليد، فرجع إلى سليمان، وكتب الوليد إلى الحجاج: إني لم أصل إلى يزيد وأهله مع سليمان، فاكفف عنهم فكف عنهم. وكان أبو عيينة بن المهلب عند الحجاج عليه ألف ألف فتركها وكف عن حبيب بن المهلب.
وأقام يزيد بن المهلب عند سليمان يهدي إليه الهدايا ويصنع له الأطعمة، وكان لا يأتي يزيد هيدة إلا بعث بها إلى سليمان، ولا يأتي سليمان هدية إلا بعث بنصفها إلى يزيد، وكان لا تعجبه جارية إلا بعث بها إلى يزيد. ذكر عدة حوادثفي هذه السنة غزا مسلمة بن عبد الملك أرض الروم ففتح الحصون الخمسة التي بسورية، وغزا عباس بن الوليد حتى بلغ أرزن وبلغ سورية. وفيها استعمل الوليد بن عبد الملك قرة بن شريك على مصر وعزل أخاه عبد الله بن عبد الملك. وفيها أسرت الروم خالد بن كيسان صاحب البحر، فأهداه ملكهم إلى الوليد. وحج بالناس هذه السنة عمر بن عبد العزيز، وكان أميراً على مكة والمدينة والطائف. وكان على العراق والمشرق كله الحجاج بن يوسف، وعامله على البصرة الجراح بن عبد الله الحكمي، وعلى قضائها عبد الرحمن بن أذينة، وعلى خراسان قتيبة بن مسلم، وعلى مصر قرة بن شريك. وفيها مات أنس بن مالك الأنصاري، وقيل: سنة اثنتين وتسعين، وقيل: ثلاث وتسعين، وكان عمره ستاً وتسعين سنة، وقيل: مائة وست سنين، وقيل: وسبع، وقيل وثلاث. وفيها مات أبو العالية الرياحي في شوال. وفيها توفي نصر بن عاصم الليثي النحوي، وأخذ النحو عن أبي الأسود الدؤلي، وقيل: مات سنة تسعين. ثم دخلت سنة إحدى وتسعين ذكر تتمة خبر قتيبة مع نيزك قد ذكرنا مسير قتيبة إلى نيزك وما جرى له بالطالقان وقتل بها، فلما فتح الطالقان استعمل أخاه عمر بن مسلم، وقيل: إن ملكها لم يحارب قتيبة فكف عنه، وكان بها لصوص فتلهم قتيبة وصلبهم، ثم سار قتيبة إلى الفارياب فخرج إليه ملكها مقراً مذعناً، فقبل منه ولم يقتل بها أحداً واستعمل عليها رجلاً من أهله. وبلغ ملك الجوزجان خبرهم فهرب إلى الجبال، وسار قتيبة إلى الجوزجان، فلقيه أهلها سامعين مطيعين، فقبل منهم ولم يقتل بها أحداً، واستعمل عليها عامر بن مالك الحماني. ثم أتى بلخ فلقيه أهلها فلم يقم بها إلا يوماً واحداً وسار يتبع أخاه عبد الرحمن إلى شعب خلم ومضى نيزك إلى بغلان وخلف مقاتلة على فم الشعب ومضايقه ليمنعوه، ووضع مقاتلته في قلعة حصينة من وراء الشعب. فأقام قتيبة أياماً يقاتلهم على مضيق الشعب لا يقدر على دخوله ولا يعرف طريقاً يسلكه إلى نيزك إلا الشعب. فأقام قتيبة أياماً يقاتلهم على مضيق الشعب لا يقدر على دخوله ولا يعرف طريقاً يسلكه إلى نيزك إلا الشعب أو مفازة لا تحتملها العساكر، فبقي متحيراً، فقدم إنسان فاستأمنه على أن يدله على مدخل القلعة التي من وراء الشعب، فآمنه قتيبة وبعث معه رجالاً فانتهى بهم إلى القلعة من وراء شعب خلم، فطرقوهم وهم آمنون فقتلوهم، وهرب من بقي منهم ومن كان في الشعب، فدخل قتيبة الشعب فأتى القلعة ومضى إلى سمنجان فأقام بها أياماً ثم سار إلى نيزك وقدم أخاه عبد الرحمن. فارتحل نيزك من منزله فقطع وادي فرغانة ووجه ثقله وأمواله إلى كابل شاه ومضى حتى نزل الكرز وعبد الرحمن يتبعه، فنزل عبد الرحمن حذاء الكرز، ونزل قتيبة بمنزل بينه وبين عبد الرحمن فرسخان، فتحصن نيزك في الكرز وليس إليه مسلك إلا من وجه واحد وهو صعب لا تطيقه الدواب، فحصره قتيبة شهرين حتى قل ما في يد نيزك من الطعام وأصابهم الجدري وجدر جبغويه. وخاف قتيبة الشتاء فدعا سليماً الناصح فقال: انطلق إلى نيزك واحتل لتأتيني به بغير أمان، فإن احتال وأبى فآمنه، واعلم أني إن عاينتك وليس هو معك صلبتك. قال: فاكتب إلى عبد الرحمن لا يخالفني، فكتب إليه، فقدم عليه، فقال له: ابعث رجالاً ليكونوا على فم الشعب، فإذا خرجت أنا ونيزك فليعطفوا من ورائنا فيحولوا بيننا وبين الشعب. فبعث عبد الرحمن خيلاً، فكانت هناك، وحمل سليم مع أطعمة وأخبصة أوقاراً وأتى نيزك فقال له: إنك أسأت إلى قتيبة وغردت. قال نيزك: فما الرأي؟ قال: أرى أن تأتيه فإنه ليس ببارح، وقد عزم على أن يشتو مكانه هلك أو سلم. قال نيزك: فكيف آتيه على غير أمان؟ قال: ما أظنه يؤمنك لما في نفسه عليك لأنك قد ملأته غيظاً، ولكني أرى أن لا يعلم بك حتى تضع يدك في يده، فإني أرجو أن يستحي ويعفو عنك، قال: إني أرى نفسي تأبى هذا وهو إن رآني قتلني. فقال سليم: ما أتيتك إلا لأشير عليك بهذا، ولو فعلت لرجوت أن تسلم وعود حالك عنده، فإذا أبيت فإني منصرف.
وقدم سليم الطعام الذي معه، ولا عهد لهم بمثله، فانتهبه أصحاب نيزك، فساءه ذلك، فقال له سليم: إني لك من الناصحين، أرى أصحابك قد جهدوا وإن طال بهم لحصار لم آمنهم أن يستأمنوا بك فأت قتيبة. فقال: لا آمنه على نفسي ولا آتيه إلا بأمان، وإن ظني أن يقتلني وإن آمنني، ولكن الأمان أعذر إلي. فقال سليم: قد آمنك، أفتتهمني؟ قال: لا. وقال له أصحابه: اقبل قول سليم فلا يقول إلا حقاً. فخرج معه ومع جبغويه وصول طرخان، خليفة جبغويه، وحبس طرخان صاحب شرطته وشقران ابن أخي نيزك، فلما خرجوا من الشعب عطفت الخيل التي خلفها سليم فحالوا بين الأتراك أصحاب نيزك والخروج، فقال نيزك: هذا أول الغدر. قال سليم: تخلف هؤلاء عنك خير لك. وأقبل سليم ونيزك ومن معه حتى دخلوا إلى قتيبة فحبسهم وكتب إلى الحجاج يستأذنه في قتل نيزك. واستخرج قتيبة ما كان في الكرز من متناع ومن كان فيه، فقدم به على قتيبة. فانتظر بهم كتاب الحجاج، فاتاه كتاب الحجاج بعد أربعين يوماً يأمره بقتل نيزك، فدعا قتيبة الناس واستشارهم في قتله، واخلفوا، فقال ضرار بن حصين: إني سمعتك تقول: أعطيت الله عهداً إن أمكنك منه أن تقتله فإن لم تفعل فلا ينصرك الله عليه أبداً. فدعا نيزك فضرب رقبته بيده وأمر بقتل صول وابن أخي نيزك، وقتل من أصحابه سبعمائة، وقيل: اثني عشر ألفاً، وصلب نيزك وابن أخيه، وبعث برأسه إلى الحجاج، وقال نهار بن توسعة في قتل نيزك: لعمري نعمت غزوة الجند غزوةً ... قضت نحبها من نيزكٍ وتعلت وأخذ الزنير مولى عباس الباهلي حقاً لنيزك فيه جوهر، وكان أكثر من في بلاده مالاً وعقاراً من ذلك الجوهر، وأطلق قتيبة جبغويه ومن عليه وبعث به إلى الوليد، فلم يزل بالشام حتى مات الوليد. كان الناس يقولون: غدر قتيبة بنيزك، فقال بعضهم: فلا تحسبن الغدر حرماً فربما ... ترقت بك الأقدام يوماً فزلت فلما قتل قتيبة نيزك رجع إلى مرو، وأرسل ملك الجوزجان يطلب الأمان، فآمنه على أن يأتيه، فطلب رهناً ويعطي رهائن، فأعطاه قتيبة حبيب بن عبد الله بن حبيب الباهلي، وأعطى ملك الجوزجان رهائن من أهل بيته، وقدم على قتيبة فصالحه، ثم رجع فمات بالطالقان، فقال أهل الجوزجان: إنهم سموه، فقتلوا حبيباً، وقتل قتيبة الرهائن الذين كانوا عنده. ذكر غزو شومان وكش ونسفوفي هذه السنة سار قتيبة إلى شومان فحصرها. وكان سبب ذلك أن ملكها طرد عامل قتيبة من عنده فأرسل إليه قتيبة رسولين، أحدهما من العرب اسمه عياش، والآخر من أهل خراسان، يدعوان ملك شومان أن يؤدي ما كان صالح عليه. فقدما شومان، فخرج أهلها إليهما فرموهما، فانصرف الخراساني وقاتلهم عياش فقتلوه، ووجدوا به ستين جراحة. وبلغ قتله قتيبة فسار إليهم بنفسه، فلما أتاها أرسل صالح بن مسلم أخو قتيبة إلى ملكها، وكان صديقاً له، يأمره بالطاعة ويضمن له رضا قتيبة إن رجع إلى الصلح. فأبى وقال لرسول صالح: أتخوفني من قتيبة وأنا أمنع الملوك حصناً؟ فأتاه قتيبة وقد تحصن ببلده فوضع عليه المجانيق، ورمى الحصن من مال وجوهر ورمى به في بئر بالقلعة لا يدرك قعرها ثم فتح القلعة وخرج إليهم فقاتلهم حتى قتل، وأخذ قتيبة القلعة عنوةً فقتل المقاتلة وسبى الذرية. ثم سار إلى كش ونسف ففتحهما. وامتنعت عليه فارياب فأحرقها، فسميت المحترقة، وسير من كش ونسف أخاه عبد الرحمن إلى الصغد، وملكها طرخون، فقبض عبد الرحمن من طرخون ما كان صالحه عليه قتيبة ودفع إليه رهناً كانوا معه، ورجع إلى قتيبة ببخارى وكان قد سار إليها من كش ونسف، فرجعوا إلى مرو. ولما كان قتيبة ببخارى ملك بخاراخذاه، وكان غلاماً حدثاً، وقتل من يخاف أن يضاده. وقيل: إن قتيبة سار بنفسه إلى الصغد، فلما رجع عنهم قالت الصغد لطرخون: إنك قد رضيت بالذل واستطبت الجزية وأنت شيخ كبير، فلا حاجة لنما فيك، فحبسوه وولوا غوزك، فقتل طرخون نفسه. ذكر عدة حوادث
قيل: في هذه السنة استعمل الوليد خالد بن عبد الله القسري على مكة، فلم يزل والياً عليها حتى مات الوليد، وكان قد تقدم سنة تسع وثمانين ذكره أيضاً، فلما ولي مكة خطبهم وعظم أمر الخلافة وحثهم على الطاعة، فقال: لو أني أعلم أن هذه الوحش التي تأمن في الحرم لو نطقت لم تقر بالطاعة لأخرجتها منه، فعليكم بالطاعة ولزوم الجماعة، فإني والله لا أوتى بأحد يطعن على إمامه إلا صلبته في الحرم، إني لا أرى فيما كتب به الخليفة أو رآه إلا إمضاءه. واشتد عليهم. وحج بالناس هذه السنة الوليد بن عبد الملك، فلما دخل المدينة غدا إلى المسجد ينظر إلى بنائه، وأخرج الناس منه ولم يبق غير سعيد بن المسيب لم يجرؤ أحد من الحرس أن يخرجه، فقيل له: لو قمت. قال: لا أقوم حتى يأتي الوقت الذي كنت أقوم فيه. فقيل: لو سلمت على أمير المؤمنين. قال: والله لا أقوم إليه. قال عمر بن عبد العزيز: فجعلت أعدل بالوليد في ناحية المسجد لئلا يراه، فالتفت الوليد إلى القبلة فقال: من ذلك الشيخ؟ أهو سعيد؟ قال عمر: نعم، ومن حاله كذا وكذا، فلو علم بمكانك لقام فسلم عليك، وهو ضعيف البصر. قال الوليد: قد علمت حاله ونحن نأتيه. فدار في المسجد حتى أتاه فقال: كيف أنت أيها الشيخ؟ فوالله ما تحرك سعيد بل قال: بخير والحمد الله، فكيف أمير المؤمنين وكف حاله؟ فانصرف وهو يقول لعمر: هذا بقية الناس! وقسم بالمدينة دقيقاً كثيراً وآنيةً من ذهب وفضة وأموالاً، وصلى بالمدينة الجمعة فخطب الخطبة الأولى جالساً ثم قام فخطب الخطبة الثانية قائماً. قال إسحاق بن يحيى: فقلت لرجاء بن حيوة وهو معه: أهكذا تصنعون؟ قال: نعم، مكرراً، وهكذا صنع معاوية وهلم جراً. قال فقلت له: هلا تكلمه؟ قال: أخبرني قبيصة بن ذؤيب أنه كلم عبد الملك ولم يترك القعود، وقال: هكذا خطب عثمان. قال فقلت: والله ما خطب إلا قائماً. قال رجاء: روي لهم شيء فاقتدوا به. قال إسحاق: ولم نر منهم أشد تجبراً منه. وكان العمال على البلاد من تقدم ذكرهم غير مكة، فإن خالداً كان عاملها، وقيل: إن عاملها هذه السنة كان عمر بن عبد العزيز بن مروان. وفي هذه السنة غزا عبد العزيز بن الوليد الصائفة، وكان على ذلك الجيش مسلمة بن عبد الملك، وفيها عزل الوليد عمه محمد بن مروان عن الجزيرة وأرمينية واستعمل عليها أخاه مسلمة بن عبد الملك، فغزا مسلمة الترك من ناحية أذربيجان حتى بلغ البال، وفتح مدائن وحصوناً ونصب عليها المجانيق. ثم دخلت سنة اثنتين وتسعينفي هذه السنة غزا مسلمة بن عبد الملك أرض الروم ففتح حصوناً ثلاثة وجلا أهل سوسنة إلى بلاد الروم. ذكر فتح الأندلسوفيها غزا طارق بن زياد مولى موسى بن نصير الأندلس في اثني عشر ألفاً، فلقي ملك الأندلس، واسمه اذرينوق، وكان من أهل أصبهان، وهم ملوك عجم الأندلس، فزحف له طارق بجميع من معه، وزحف الأذرينوق وفتح الأندلس سنة اثنتين وتسعين. هذا جميعه ذكره أبو جعفر في فتح الأندلس، وبمثل ذلك الإقليم العظيم والفتح المبين لا يقتصر فيه على هذا القدر، وأنا أذكر فتحها على وجه أتم من هذا إن شاء الله تعالى من تصانيف أهلها إذ هم أعلم ببلادهم. قالوا: أول من سكنها قوم يعرفون بالأندلش، بشين معجمه، فسمي البلد بهم، ثم عرب بعد ذلك بسين مهملة، والنصارى يسمون الأندلس اشبانية باسم رجل صلب فيها يقال له اشبانس، وقيل: باسم ملك كان بها في الزمان الأول اسمه إشبان بن طيطس، وهذا هو اسمها عند بطلميوس. وقيل: سميت بأندلس بن يافث بن نوح وهو أول من عمرها، قيل: أول من سكن الأندلس بعد الطوفان قوم يعرفون بالأندلس فعمروها وتداولوا ملكها دهراً طويلاً وكانوا مجوساً، ثم حبس الله عنهم المطر وتوالى عليهم القحط فهلك أكثرهم وفر منها من أطاق الفرار، فخلت الأندلس مائة سنة ثم ابتعث الله لعمارتها الأفارقة، فدخل إليها قوم منهم أجلاهم ملك إفريقية تخففاً منهم لقحط توالى على بلاده حتى كاد يفنى أهلها، فحملها في السفن مع أمير من عنده فأرسوا بجزيرة قاس، ورأوا الأندلس قد أخصبت بلادها وجرت أنهارها فسكنوها وعمروها ونصبوا لهم ملوكاً يضبطون أمرهم، وهم على دين من قبلهم، وكانت دار مملكتهم طالقة الخراب من أرض إشبيلية بنوها وسكنوها وأقاموا مدة تزيد على مائة وخمسين سنة، ملك منهم فيها أحد عشر ملكاً.
ثم أرسل الله عليهم عجم رومة، وملكهم إشبان بن طيطس، فغزاهم ومزقهم وقتل فيهم وحاصرهم بطالقة وقد تحصنوا فيها فابتنى عليهم إشبانية، وهي إشبيلية، واتخذها درا مملكته، وكثرت جموعه وعتا وتجبر، وغزا بين المقدس فغنم ما فيه وقتل فيه مائة ألف، ونقل المرمر منه إلى إشبيلية وغيرها، وغنم أيضاً مائدة سليمان بن داود، عليه السلام، وهي التي غنمها طارق من طيطلة لما افتتحها، وغنم أيضاً قليلة الذهب والحجر الذي لقي بماردة. وكان هذا إشبان قد وقف عليه الخضر وهو يحرث الأرض فقال له: يا إشبان سوف تحظى وتملك وتعلو، فإذا ملكت إيلياء فارفق بذرية الأنبياء. فقال: أتسخر مني؟ كيف ينال مثلي الملك؟ فقال: قد جعله فيك من جعل عصاك هذه كما ترى. فنظر إليه فإذا هي قد أورقت، فارتاع وذهب عنه الخضر، وقد وثق إشبان بقوله، فداخل الناس فارتقى حتى ملك ملكاً عظيماً، وكان ملكه عشرين سنة، ودام ملك الإشبانيين بعده إلى أن ملك منهم خمسة وخمسون ملكاً. ثم دخل عليهم من عجم رومة أمة يدعون البشنوليات، وملكهم طويش بن نيطة، وذلك حين بعث الله المسيح فغلبوا عليها واسترلوا على ملكها، وكانت مدينة ماردة دار مملكتهم، وملك منهم سبعة وعشرون ملكاً. ثم دخلت عليهم أمة القوط مع ملك لهم فغلبوا على الأندلس فاقتطعوها من يومئذٍ عن صاحب رومة، وكان ابتداء ظهورهم من ناحية إيطالية شرق الأندلس، فأغارت على بلاد مدونية من تلك الناحية، وذلك في أيام قليوذيوس قيصر، ثالث القياصرة، فخرج إليهم وهزمهم وقتل فيهم ولم يظهروا بعدها إلى أيام قسطنطين الأكبر وأعادوا الغارة، فسير إليهم جيشاً فلم يثبتوا له وانقطع خبرهم إلى ثلث دولة قيصر، فإنهم قدموا على أنفسهم أمير اسمه لذريق، وكان يعبد الأوثان، فسار إلى رومة ليحمل النصارى على السجود لأوثانه، فظهر منه سوء سيرته، فتخاذل أصحابه عنه ومالوا إلى أخيه وحاربوه، فاستعان بصاحب رومة فبعث إليه جيشاً، فهزم أخاه، ودان بدين النصارى، وكانت ولايته ثلاث عشرة سنة، ثم ولي بعده اقريط، وبعده املريق، وبعده وغديش، وكانوا قد عادوا إلى عبادة الأوثان، فجمع من أصحابه مائة ألف وسار إلى رومة، فسير إليه ملك الروم جيشاً فهزموه وقتلوه. ثم بعده اطلوف ست سنين وخرج عن بلد إيطالية وأقام ببلد غاليس مجاوراً أقصى الأندلس، ثم انتقل منها إلى برشلونة. ثم بعده أخوه ثلاث سنين ثم بعده والياً، ثم بوردزاريش ثلاثاً وثلاثين سنة، ثم ابنه طرشمند، ثم بعده أخوه لذريق ثلاث عشرة سنة، ثم بعده أوريق سبع عشرة سنة، ثم بعده الريق بطلوشة ثلاثاً وعشرين سنة، ثم عشليق، ثم امليق سنتين، ثم توذيوش سبع عشرة سنة وخمسة أشهر، ثم بعده ليوبا ثلاث أشهر، ثم بعده اثله خمس سنين، ثم بعده اطلنجة خمس عشرة سنة، ثم بعده ليوبا ثلاث أشهر، ثم بعده اثله خمس سنين، ثم بعده اطلنجة خمس عشرة سنة، ثم بعده طودتقليس سنة وثلاث أشهر، ثم بعده اثله خمس سنين، ثم بعده اطلنجة خمس عشرة سنة، ثم بعده ليوبا ثلاث سنين، ثم بعده أخوه لويلد، وهو أولمن اتخذ طليطلة دار ملك ونزلها ليكون متوسطاً لملكه ليحارب من خرج عن طاعته عن قريب، فلم يزل يحارب من خرج عن طاعته حتى احتوى على جميع الأندلس وبنى مدينة رقوبل وأتقنها وأكثر بساتينها، وهو على القرب من طليطلة، وسماها باسم ولده، وغزا بلاد البشقنس حتى أذلهم، وخطب إلى ملك الفرنج ابنته لولده ارمنجلد فزوجه وأسكنه إشبيلية، فحسنت له عصيان والده، ففعل، فسار إليه أبوه وحصرهما وضيق عليه وطال مقامه إلى أن أخذه عنوة وسجنه إلى أن مات. ثم ملك بعد لويلد ابنه ركرد، وكان حسن السيرة، فجمع الأساقفة وغير سيرة أبيه وسلم البلاد إليهم، وكانوا نحو ثمانين أسقفاً، وكان تقياً عفيفاً قد لبس ثياب الرهبان، وهو الذي بنى الكنيسة المعروفة بالوزقة بإزاء مدينة وادي آش. ثم بعده ابنه ليوبا فسار كسيرة أبيه، فاغتاله رجل من القوط يقال له بتريق فقتله، وملك بعده بتريق رضا أهل الأندلس، وكان مجرماً طاغياً فاسقاً، فثار عليه رجل من خاصته فقتله.
ثم ملك من بعده غندمار سنتين، ثم ملك بعده سيسيفوط، وكانت ولايته تسع سنين، وكان حسن السيرة، ثم بعده ابنه ركريد، وكان صغيراً عمره ثلاثة أشهر، ومات، ثم ملك شنتله، وكان ملكه عند البعث، وكان مشكوراً، ثم بعده سشنند خمس سنين، ثم بعده خنتلة ستة أعوام، ثم بعده خندس أربعة أعوام، ثم بعده بنبان ثمانية أعوام، ثم بعده أروى سبع سنين. وكان في دولته قحط شديد حتى كادت بلاد الأندلس تخرب لشدة الجوع. ثم بعده ابقه خمس عشرة سنة، وكان جائراً مذموماً، ثم ملك بعده ابنه غيطشه، وكانت ولايته سنة سبع وسبعين للهجرة، وكان حسن السيرة لين العريكة وأطلق كل محبوس كان في سجن أبيه وأدى الأموال إلى أربابها. ثم توفي وخلف ولدين فلم يرض بهما أهل الأندلس وتراضوا برجل يقال له رذريق، وكان شجاعاً وليس من بيت الملك، وكانت عادة ملوك الأندلس إنهم يبعثون أولادهم الذكور والإناث إلى مدينة طليطلة يكونون في خدمة الملك لا يخدمه غيرهم يتأدبون بذلك، فإذا بلغوا الحلم أنكح بعضهم بعضاً وتولى تجهيزهم، فلما ولي رذريق أرسل إليه يوليان، وهو صاحب الجزيرة الخضراء وسبتة وغيرهما، ابنةً له، فاستحسنها رذريق وافتضها، فكتبت إلى أبيها، فأغضبه ذلك، فكتب إلى موسى بن نصير عامل الوليد بن عبد الملك على إفريقية بالطاعة واستدعاه إليه، فسار إليه، فأدخله يوليان مدائنه وأخذ عليه العهود له ولأصحابه بما يرض به، ثم وصف له الأندلس ودعاه إليها، وذلك آخر سنة تسعين. فكتب موسى إلى الوليد بما فتح الله عليه وما دعاه إليه يوليان. فكتب إليه الوليد: خضها بالسرايا ولا تغرر بالمسلمين في بحر شديد الأهوال. فكتب إليه موسى: إنه ليس ببحر متسع وإنما هو خليج يبين ما وراءه. فكتب إليه الوليد أن اختبرها بالسرايا وإن كان الأمر على ما حكيت. فبعث رجلاً من مواليه يقال له طريف في أربعمائة رجل ومعهم مائة فرس، فسار في أربع سفائن فخرج في جزيرة بالأندلس فسميت جزيرة طريف لنزوله فيها، ثم أغار على الجزيرة الخضراء فأصاب غنيمةً كثيرة ورجع سالماً في رمضان سنة إحدى وتسعين. فلما رأى الناس ذلك تسرعوا إلى الغزو. ثم إن موسى دعا مولى له كان على مقدمات جيوشه يقال له طارق بن زياد فبعثه في سبعة آلاف من المسلمين أكثرهم البربر والموالي وأقلهم العرب، فساروا في البحر، وقصد إلى جبل منيف وهو متصل بالبر فنزله، فسمي الجبل جبل طارق إلى اليوم، ولما ملك عبد المؤمن البلاد أمر ببناء مدينة على هذا الجبل وسماه جبل الفتح، فلم يثبت له هذا الاسم وجرت الألسنة على الأول. وكان حلول طارق فيه في رجب سنة اثنتين وتسعين من الهجرة. ولما ركب طارق البحر غلبته عينه فرأى النبي ومعه المهاجرون والأنصار قد تقلدوا السيوف ونكبوا القسي، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : يا طارق تقدم لشأنك. وأمره بالرفق بالمسلمين والوفاء بالعهد، فنظر طارق فرأى النبي صلى الله عليه وسلم ، وأصحابه قد دخلوا الأنلدلس أمامه، فاستيقظ من نومه مستبشراً وبشر أصحابه وقويت نفسه ولم يشك في الظفر. فلما تكامل أصحاب طارق بالجبل نزل إلى الصحراء وفتح الجزيرة الخضراء فأصاب بها عجوزاً، فقالت له: إني كان لي زوج وكان عالماً بالحوادث وكان يحدثهم عن أمير يدخل بلدهم فيغلب عليه، ووصف من نعته أنه ضخم الهامة، وان في كتفه اليسرى شامة عليها شعر؛ فكشف طارق ثوبه فإذا الشامة كما ذكرت، فاستبشر طارق أيضاً هو ومن معه. ونزل من الجبل إلى الصحراء وافتتح الجزيرة الخضراء وغيرها وفارق الحصن الذي في الجبل.
ولما بلغ ذريق غزو طارق بلاده عظم ذلك عليه، وكان غائباً في غزاته، فرجع منها طارق قد دخل بلاده فجمع له جمعاً يقال بلغ مائة ألف، فلما بلغ طارقاً الخبر كتب إلى موسى يستمده ويخبره بما فتح وأنه زحف إليه ملك الأندلس بما لا طاقة له به. فبعث إليه بخمسة آلاف، فتكامل المسلمون اثني عسر ألفاً ومعهم يوليان يدلهم على عورة البلاد ويتجسس لهم الأخبار. فأتاهم رذريق في جنده، فالتقوا على نهر لكة من أعمال شذونة لليلتين بقيتا من رمضان سنة اثنتين وتسعين، واتصلت الحرب ثمانية أيام، وكان على ميمنته وميسرته ولدا الملك الذي كان قبله وغيرهما من أبناء الملوك، وافتقوا على الهزيمة بغضاً لرذريق، وقالوا: إن المسلمين إذا امتلأت أيديهم من الغنيمة عادوا إلى بلادهم وبقي الملك لنا. فانهزموا وهزم الله رذريق ومن معه، وغرق رذريق في النهر، وسار طارق إلى مدينة إستجة متبعاً لهم، فلقيه أهلها ومعهم من المنهزمين خلق كثير، فقاتلوه قتالاً شديداً، ثم انهزم أهل الأندلس ولم يلق المسلمون بعدها حرباً مثلها. ونزل طارق على عين بينها وبين مدينة إسجة أربعة أميال فسميت عين طارق إلى الآن. ولما سمعت القوط بهاتين الهزيمتين قذف الله في قلوبهم الرعب، وكانوا يظنون أنه يفعل فعل طريف، فهربوا إلى طليطلة، وكان طريف قد أوهمهم أنه يأكلهم هو ومن معه. فلما دخلوا لطيلطلة وأخلوا مدائن الأندلس قال له يوليان: قد فرغت من الأندلس ففرق جيوشك وسر أنت إلى طيطلة. ففرق جيوشه من مدينة إستجة وبعث جيشاً إلى قرطبة، وجيشاً إلى غرناطة، وجيشاً إلى مالقة، وجيشاً إلى تدمير، وسار إلى قرطبة فإنهم دلهم راعٍ على ثغرة في سورها فدخلوا منها البلد وملكوه. وأما الذين قصدوا تدمير فلقيهم صاحبها، واسمه تدمير وبه سميت، وكان اسمها أرويولة، وكان معه جيش كثيف، فقاتلهم قتالاً شديداً ثم انهزم فقتل من أصحابه خلق كثير، فأمر تدمير النساء فلبسن السلاح ثم صالح المسلمين عليها وفتح سائر الجيوش ما قصدوا إليه من البلاد. وأما طارق فلما رأى طليطلة فازغة ضم إليها اليهود وترك معهم رجالاً من أصحابه وسار هو إلى وادي الحجارة فقطع الجبل من فج فيه فسمي بفج طارق إلى اليوم. وانتهى إلى مدينة خلف الجبل تسمى مدينة المائدة، وفيها وجد مائدة سليمان بن داود، عليه السلام، وهي من زبرجد خضر حافاتها وأرجلها منها مكللة باللؤلؤ والمرجان والياقوت وغير ذلك، وكان لها ثلاثمائة وستون رجلاً. ثم مضى إلى مدينة ماية فغنم منها ورجع إلى طليطلة في سنة ثلاث وتسعين. وقيل: اقتحم أرض جليقية فخرقها حتى انتهى إلى مدينة استرقة وانصرف إلى طليطلة ووافته جيوشه التي وجهها من إستجة بعد فراغهم من فتح تلك المدن التي سيرهم إليها. ودخل موسى بن نصير الأندلس في رمضان سنة ثلاث وتسعين في جمع كثير، وكان قد بلغه ما صنعه طارق فحسده، فلما عبر إلى الأندلس ونزل الجزيرة الخضراء قيل له: تسلك طريق طارق، فأبى، فقال له الأدلاء: نحن ندلك على طريق اشرفن طريقه ومدائن لم تفتح بعد، ووعده يوليان بفتح عظيم، فسر بذلك، وكان قد غمه. فساروا به إلى مدينة ابن السليم فافتتحها عنوة، ثم سار إلى مدينة قرمونة، وهي أحصن مدن الأندلس، فقدم إليها يوليان وخاصته، فأتوهم على الحال المنهزمين معهم السلاح فأدخلوهم مدينتهم، فأرسل موسى إليهم الخيل ففتحوها لهم ليلاً، فدخلها المسلمون وملكوها، ثم سار موسى إلى إشبيلية، وهي من أعظم مدائن الأندلس بنياناً وأعزها آثاراً، فحصرها أشهراً وفتحها وهرب من بها، فأنزلها موسى اليهود وسار إلى مدينة ماردة فحصرها، وقد كان أهلها خرجوا إليه فقاتلوه قتالاً شديداً، فكمن لهم موسى ليلاً في مقاطع الصخر، فلم يرهم الكفار، فلما أصبحوا زحف إليهم فخرجوا إلى المسلمين على عادتهم فخرجوا عليهم من الكمين وأحدقوا بهم وحالوا بينهم وبين البلد وقتلوهم قتلاً ذريعاً ونجا من نجا منهم، فدخل المدينة، وكانت حصينة، فحصرهم بها شهراً، وقاتلهم، وزحف إليهم بدبابة عملها ونقبوا سورها، فخرج أهلها على المسلمين، فقتلوهم عند البرج، فسمي برج الشهداء إلى اليوم، ثم افتتحها آخر رمضان سنة أربع وتسعين يوم الفطر صلحاً على جميع أموال القتلى يوم الكمين وأموال الهاربين إلى جليقية وأموال الكنائس وحيلها للمسلمين.
ثم إن أهل إشبيلية اجتمعوا وقصدوها فقتلوا من بها من المسلمين، فسير موسى إليها ابنه عبد العزيز بجيش فحصرها وملكها عنوةً وقتل | |
|
| |
الشيخ عودة الشيخ عودة
عدد المساهمات : 1748 تاريخ التسجيل : 28/09/2008 العمر : 74
| موضوع: رد: كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير الثلاثاء فبراير 11, 2014 3:44 am | |
| وقال عاصم بن بهدلة: سمعت الحجاج يقول: اتقوا الله ما استطعتم، هذا والله مثنوية، واسمعوا وأطيعوا وأنفقوا خيراً لأنفسكم ليس في مثنوية، والله لو أمرتكم أن تخرجوا من هذا الباب فخرجتم من هذا حلت لي دماؤكم؟، ولا أجد أحداً يقرأ علي قراءة ابن أم عبد، يعني ابن مسعود، إلا ضربت عنقه، ولأحكنها من المصحف ولو بضلع خنزير؛ قد ذكر ذلك عند الأعمش. فقال: وأنا سمعته يقول: فقلت في نفسي لأقرأنها على رغم أنفك.
قال الأوزاعي: قال عمر بن عبد العزيز: لو جاءت كل أمة بخبيثها وجئنا بالحجاج لغلبناهم. قال منصور: سألنا إبراهيم الشجاعي عن الحجاج فقال: ألم يقل الله " ألا لعنة الله على الظالمين " هو:18؟ قال الشافعي: بلغني أن عبد الملك بن مروان قال للحجاج: ما من أحد إلا وهو عارف بعيوب نفسه، فعب نفسك ولا تخبأ منها شيئاً. قال: يا أمير المؤمنين أنا لجوج حقود. فقال له عبد الملك: إذاً بينك وبين إبليس نسب. فقال: إن الشيطان إذا رآني سالمني. قال الحسن: سمعت علياً على المنبر يقول: اللهم ائتمنتهم فخافوني، ونصحتهم فغشوني، اللهم فسلط عليهم غلام ثقيف يحكم في دمائهم وأموالهم بحكم الجاهلية! فوصفه وهو يقول: الزيال، مفجر الأنهار، يأكل خضرتها ويلبس فروتها. قال الحسن: هذه والله صفة الحجاج. قال حبيب بن أبي ثابت: قال علي لرجل: لا تموت حتى تدرك فتى ثقيف. قيل له: يا أمير المؤمنين ما فتى ثقيف؟ قال: ليقالن له يوم القيامة اكفنا زاوية من زوايا جهنم، رجل يملك عشرين أو بضعاً وعشرين سنة لا يدع الله معصية إلا ارتكبها حتى لو لم تبق إلا معصية واحدة وبينه وبينها باب مغلق لكسره حتى يرتكبها، يقتل بمن أطاعه من عصاه. وقيل: أحصي من قتله الحجاج صبراً فكانوا مائة ألف وعشرين ألفاً. وقيل: إن الحجاج مر بخالد بن يزيد بن معاوية وهو يخطر في مشيته، فقال رجل لخالد: من هذا؟ قال خالد: بخ بخ! هذا عمرو بن العاص. فسمعهما الحجاج فرجع وقال: والله ما يسرني أن العاص ولدني، ولكني ابن الأشياخ من ثقيف والعقائل من قريش، وأنا الذي ضربت بسيفي هذا مائة ألف، كلهم يشهد أن أباك كان يشرب الخمر ويضمر الكفر. ثم ولى وهو يقول: بخ بخ عمرو بن العاص! فهو قد اعترف في بعض أيامه بمائة ألف قتيل على ذنب واحد. ذكر ما فعله محمد بن القاسم بعد موت الحجاج وقتلهلما مات الحجاج بن يوسف كان محمد بن القاسم بالملتان، فأتاه خبر وفاته، فرجع إلى الرور والبغرور،وكان قد فتحهما، فأعطى الناس، ووجه إلى البيلمان جيشاً فلم يقاتلوا وأعطوا الطاعة، وسأله أهل سرشت، وهي مغزى أهل البصرة، وأهلها يقطعون في البحر، ثم أتى محمد الكيرج فخرج إليه دوهر فقاتله فانهزم دوهر وهرب، وقيل: بل قتل، ونزل أهل المدينة على حكم محمد فقتل وسبى؛ قال الشاعر: نحن قتلنا ذاهراً ودوهراً ... والخيل تردي منسراً فمنسرا ومات الوليد بن عبد الملك وولي سليمان بن عبد الملك، فولى يويد بن أبي كبشة السكسكي السند، فأخذ محمداً وقيده وحمله إلى العراق، فقال محمد متمثلاً: أضاعوني وأي فتى أضاعوا ... ليوخمٍ كريهةٍ وسداد ثغر فبكى أهل السند على محمد، فلما وصل إلى العراق حبسه صالح بن عبد الرحمن بواسط، فقال: فلئن ثويت باسطٍ وبأرضها ... رهن الحديد مكبلاً مغلولا فلرب قينة فارسٍ قد رعتها ... ولرب قرنٍ قد تركت قتيلاً وقال: ولو كنت أجمعت الفرار لوطئت ... إناث أعدت للوغى وذكور وما دخلت خيل السكاسك أرضنا ... ولا كان من عكٍ علي أمير وما كنت للعبد المزوني تابعاً ... فيا لك دهر بالكرام عثور فعذبه صالح في رجال من آل أبي عقيل حتى قتلهم، وكان الحجاج قتل آدم أخا صالح، وكان يرى رأي الخوارج، وقال حمزة بن بيض الحنفي يرثي محمداً: إن المروءة والسماحة والندى ... لمحمد بن قاسم بن محمد ساس الجيوش لسبع عشرة حجةً ... ياقرب ذلك سؤدداً من مولد وقال آخر: ساس الرجال لسبع عشرة حجةً ولداته إذ ذاك في أشغال ومات يزيد بن أبي كبشة بعد قدومه أرض السند بثمانية عشر يوماً، واستعمل سليمان بن عبد الملك على السند حبيب بن المهلب، فقدمها وقد رجع ملوك السند إلى ممالكهم ورجع جيشبه بن ذاهر إلى برهمناباذ، فنزل حبيب على شاطئ مهران، فأعطاه أهل الور الطاعة، وحارب قوماً فظفر بهم. ثم مات سليمان واستخلف عمر بن عبد العزيز، فكتب إلى الملوك يدعوهم إلى الإسلام والطاعة على أن يملكهم ولهم ما للمسلمين وعليهم. فأسلم جيشبه والملوك وتسموا بأسماء العرب.
وكان عمرو بن مسلم الباهلي عامل على ذلك الثغر، فغزا بعض الهند فظفر. ثم إن الجنيد بن عبد الرحمن ولي السن أيام هشام بن عبد الملك، فأتى الجنيد شط مهران فمنعه جيشبه بن ذاهر العبور أرسل إليه: إني قد أسلمت وولاني الرجل الصالح بلادي ولست آمنك. فأعطاه رهناً وأخذ منه رهناً على خراج بلاده، ثم ترادا وكفر جيشبه وحارب، وقيل: إنه لم يحارب ولكن الجنيد تجنى عليه، فأتى الهند فجمع جموعاً وأعد السفن واستعد للحرب، فسار إليه الجنيد بالسفن، فالتقوا في بطيحة، فأخذ جيشبه أسيراً، وقد جنحت سفينته، فقتله الجنيد وهرب صصه بن ذاهر وهو يريد أن يمضي إلى العراق فيشكو غدر الجنيد، فلم يزل الجنيد يؤنسه حتى وضع يده في يده فقتله. وغزا الجنيد الكيرج، وكانوا قد نقضوا، فاتخذوا كبشاً وصك بها سور المدينة فثلمه ودخلها فقتل وسبى ووجه العمال إلى المرمذ والمندل ودهنج وبرونج. وكان الجنيد يقول: القتل في الجزع أكبر منه في الصبر. ووجه جيشاً إلى أزين فأغاروا عليها وحرقوا ربضها وفتح البيلمان وحصل عنده سوى ما حمل أربعون ألف ألف وحمل مقلها، وولى الجنيد تميم بن زيد القيني فضعف ووهن ومات قريباً من الديبل. وفي أيامه خرج المسلمون عن بلاد الهند ورفضوا مراكزهم، ثم ولي الحكم بن عوام الملبي وقد كفر أهل الهند إلا أهل قصة، فبنى مدينةً سماها المحفوظة وجعلها مأوى للمسلمين، وكان معه عمرو بن محمد بن القاسم، وكان يفوض إليه عظيم الأمور، فأغزاه من المحفوظة، فلما قدم عليه وقد ظفر أمره فبنى مدينة وسماها المنصورة، فهي التي نزلها الأمراء، واستخلص ما كان قد غلب عليه العدو، ورضي الناس بولايته، وكان خالد القسري يقول: واعجبا! وليت فتى العرب، يعني تميماً، فرفض وترك، ووليت أبخل العرب فرضي به. ثم قتل الحكم، وكان العمال يقتلون العدو فكانوا يفتتحون ناحيةً ويأخذون ما تيسر لهم لضعف الدولة الأموية بعد ذلك، إلى أن جاءت الدولة المباركة العباسية، ونحن نذكر إن ساء الله أيام المأمون بقية أخبار السند. ذكر عدة حوادثفي هذه السنة غزا العباس بن الوليد الروم ففتح هرقلة وغيرها. وفيها فتح آخر الهند إلا الكيرج والمندل. وفي هذه السنة افتتح العباس بن الوليد قنسرين. وفيها قتل الوضاحي بأرض الروم ونحو ألف رجل معه. وفيها ولد المنصور عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس. وحج بالناس هذه السنة بشير بن الوليد بن عبد الملك، وكان عمال المصار من تقدم ذكرهم. وفيها مات أبو عثمان النهدي، اسمه عبد الرحمن بن مل، وكان عمره مائة وثلاثين سنة، وقيل في موته غير ذلك. وفيها مات سعد بن أياس أبو عمرو الشيباني، وله مائة وعشرون سنة. وفي إمارة الحجاج مات سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم . وفي هذه السنة مات سالم بن أبي الجعد. وفيها مات جعفر بن عمرو بن أمية الضمري، وهو أخو عبد الله بن مروان من الرضاعة. وفي إمارة الحجاج قتل أبو الأحوص عوف بن مالك بن نضلة الجشمي الكوفي، قتله الخوارج. ثم دخلت سنة ست وتسعين ذكر فتح قتيبة مدينة كاشغر وفي هذه السنة غزا قتيبة كاشغر، فسار وحمل مع الناس عيالاتهم ليضعهم بسمرقند، فلما عبر النهر استعمل رجلاً على معبر النهر ليمنع من يرجع إلا بجواز منه، ومضى إلى فرغانة وأرسل إلى شعب عصامٍ من يسهل الطريق إلى كاشغر وهي أدنى مدائن الصين وبعث جيشاً مع كبير بن فلان إلى كاشغر، فغنم وسبى سبياً، فختم أعناقهم وأوغل حتى بلغ قريب لصين. فكتب إليه ملك الصين: أن أبعث إلي رجلاً شريفاً يخبرني عنكم وعن دينكم. فانتخب قتيبة عشرةً لهم جمال وألسن وبأس وعقل وصلاح، فأمر لهم بعدة حسنة ومتاع حسن من لخز والوشي وغير ذلك وخيول حسنة، وكان منهم هبيرة بن مشمرج الكلابي، فقال لهم: إذا دخلتم عليه فأعلموه أني قد حلفت أني لا أنصرف حتى أطأ بلادهم وأختم ملوكهم وأجب خراجهم. فساروا وعليهم هبيرة، فلما قدموا عليهم دعاهم ملك الصين فلبسوا ثياباً ببياضاً تحتها الغلائل وتطيبوا ولبسوا النعال والأردية، ودخلوا عليه وعنده عظماء قومه فجلسوا، فلم يكلمهم الملك ولا أحد ممن عنده، فنهضوا. فقال الملك لمن حضره: كيف رأيتم هؤلاء؟ فقالوا: رأينا قوماً ما هم إلا نساء، ما بقي منا أحد إلا انتشر ما عنده.
فلما كان الغد دعاهم فلبسوا الوشي والعمائم الخز والمطارف وغدوا عليه، فلما دخلوا قيل لهم: ارجعوا، وقال لأصحابه: كيف رأيتم هذه الهيئة؟ قالوا: هذه أشبه بهيئة الرجال من تلك. فلما كان اليوم الثالث دعاهم، فشدوا سلاحهم ولبسوا البيض والمغافر وأخذوا السيوف والرماح والقسي وركبوا. فنظر إليهم ملك الصين فرأى مثل الجبل، فلما دنوا ركزوا رماحهم وأقبلوا مشمرين، فقيل لهم: ارجعوا: فركبوا خيولهم وأخذوا رماحهم ودفعوا خيلهم كأنهم يتطاردون. فقال الملك لأصحابه: كيف ترونهم؟ قالوا: ما رأينا مثل هؤلاء. فلما أمس بعث إليهم: أن أبعثوا إلي زعيمكم. فبعثوا إليه هبيرة ابن مشمرج، فقال له: قد رأيتم عظيم ملكي وأنه ليس أحد منعكم مني، وأنتم في يدي بمنزلة البيضة في كفي، وإني سائلكم عن أمر فإن لم تصدقوني قتلتكم. قال: سل. قال: لم صنعتم بزيكم الأول اليوم الأول والثاني والثالث ما صنعتم؟ قال أما زينا اليوم الأول فلباسنا في أهلنا، وأما اليوم الثاني والثالث ما صنعتم؟ قال أما زينا اليوم الأول فلباسنا في أهلنا، وأما اليوم الثاني فزينا إذا منا أمراءنا، وأما الثالث فزينا لعدونا. قال: ما أحسن مادبرتم دهركم، فقولوا لصاحبكم ينصرف، فإني قد عرفت قلة أصحابه وإلا بعثت إليكم من يهلككم. قال: كيف يكون قليل الأصحاب من أول خيله في بلادك وآخرها في منابت الزيتون؟ وأما تخويفك إيانا بالقتل فإن لنا آجالاً إذا حضرت فأكرمها القتل ولسنا نكرهه أو نخافه؛ وقد حلف أن لاينصرف حتى يطأ أرضكم ويختم ملوككم ويعطى الجزية. فقال: فإنا نخرجه من يمينه ونبعث تراب أرضنا ونبعث إليه ببعض أبنائنا فيختمهم ونبعث إليه بجزية يرضاها. فبعث إليه بهدية وأربعة غلمان من أبناء ملوكهم، ثم أجازهم فأحسن، فقدموا على قتيبة، فقبل قتيبة الجزية وختم الغلمان وردهم ووطئ التراب. قال سوادة بن عبد الملك السولي: لاعيب في الوفد الذين بعثتهم ... للصين إن سلكوا طريق المنهج كسروا الجفون على الردى ... حاشا الكريم هبيرة بن مشمرج أدى رسالتك التي استرعيته ... فأتاك من حنث اليمين بمخرج فأوفد قتيبة هبيرة إلى الوليد، فمات بقرية من فارس، فرثاه سوادة فقال: لله در هبيرة بن مسمرج ... ماذا تضمن من ندى وجمال وبديهة تعنى بها أبناؤها ... عند احتفال مشاهد الأقوال كان الربيع إذا السنون تتابعت ... والليث عند تكعكع الأبطال فسقى بقرية حيث أمسى قبره ... غر يرحن بمسبلٍ هطال لكت الجياد الصافنات لفقده ... وبكاه كل مثقفٍ عسال وبكته شعث لم يجدن مواسياً ... في العام ذي السنوات والإمحال ووصل الخبر إلى قتيبة في هذه الغزاة بموت الوليد. وكان قتيبة إذا رجع من غزاته كل سنة اشترى اثني عشر فرساً واثني عسر هجيناً، فتحدر إلى وقت الغزو، فإذا تأهب للغزو ضمرها وحمل عليها الطلائع، وكان يجعل الطلائع فرسان الناس وأشرافهم ومعهم من العجم من يستصحه، وإذا بعث طليعة أمر بلوحٍ فنقش ثم شقه بنصفين وجعل شقةً عنده ويعطي نصفه الطليعة ويأمرهم أن يدفنوه في موضع يصفه لهم من شجرة أو مخاضة أو غيرهما، ثم يبعث بعد الطليعة من يستخرجه ليعلم أصدقت الطليعة أولا. وفيها غزا بشر بن الوليد الشاتية ورجع وقد مات الوليد. ذكر موت الوليد بن عبد الملكوفي النصف من جمادى الآخرة من هذه السنة مات الوليد بن عبد الملك في قول جميعهم، وكانت خلافته تسع سنين وسبعة أشهر، وقيل: تسع سنين وثمانية أشهر، وقيل: وأحد عشر شهراً، وكانت وفاته بدير مران، ودفن خارج الباب الصغير، وصلى عليه عمر بن عبد العزيز، وكان عمره اثنتين وأربعين سنة وستة أشهر، وقيل: كان عمره خمساً وأربعين سنة، وقيل: ستاً وأربعين سنة وأشهراً، وقيل: تسعاً وأربعين. وخلف تسعة عشر ابناً، وكان دميماً بتبختر في مشيته، وكان سائل الأنف جداً، فقيل فيه: فقدت الوليد وأنفاً له ... كثل الفصيل بدا أن يبولا ولما دلي في جنازته جمعت ركبتاه إلى عنقه، فقال ابنه: أعاش أبي؟ فقال له عمر بن عبد العزيز، وكان فيمن دفنه: عوجل والله أبوك! واتعظ به عمر.
ذكر بعض سيرة الوليد وكان الوليد عند أهل الشام من افضل خلائفهم، بنى المساجد، مسجد دمشق ومسجد الميدينة، على ساكنها السلام، والمسجد الأقصى، ووضع المنائر، وأعطى المجذمين ومنعهم من سؤال الناس، وأعطى كل مقعد خادماً وكل ضرير قائداً، وفتح في ولايته فتوحاً عظاماً، منها: الأندلس وكاشغر والهند. وكان يمر بالبقال فيقف عليه ويأخذ منه حزمة بقل فيقول: بكم هذه؟ فيقول: بفلس. فيقول: زد فيها. وكان صاحبن بنا واتخاذ المصانع والضياع، وكان الناس يلتقون في زمانه فيسأل بعضهم بعضاً عن البناء، وكان سليمان صاحب طعام ونكاح، فكان الناس يسأل بعضهم بعضاً عن النكاح والطعام، وكان عمر بن عبد العزيز صاحب عبادة، وكان الناس يسأل بعضاً عن الخير ما وردك الليلة وكم تحفظ من القرآن وكم تصوم من الشهر؟ ومرض الوليد مرضة قبل وفاته وأغمي عليه فبقي يومه ذلك كأنه ميت، فبكوا عليه وسارت البرد بموته، فاسترجع الحجاج وشد في يده حبلاً إلى أسطوانة وقال: اللهم لا تسلط علي من لا رحمة له فقد طال ما سألتك أن تجعل منيتي قبله! فإنه كذلك يدعو إذ قدم عليه البريد بإفاقته. ولما أفاق الوليد قال: ما أحد أشد سروراً بعافيتي من الحجاج؛ ثم لم يمت حتى قفل الحجاج عليه. وكان الوليد أراد أن يخلع أخاه سليمان ويبايع لولده عبد العزيز، فأبى سليمان، فكتب إلى عماله ودعا الناس إلى ذلك، فلم يجبه إلا الحجاج وقتيبة وخواص من الناس، فكتب الوليد إلى سليمان يأمره بالقدوم عليه، فأبطأ، فعزم الوليد على المسير إليه ليخلعه وأخرج خيتمة، فمات قبل أن يسير إليه. ولما أراد أن يبني مسجد دمشق كان فيه كنيسة فهدمها وبناها مسجداً، فلما ولي عمر بن عبد العزيز شكوا إليه ذلك فقال لهم عمر: إن ما كان خارج المدينة فتح عنوةً ونحن نرد عليكم كنيستكم ونهدم كنيسة توما فإنها فتحت عنوةً ونبنيها مسجداً. فقالوا: بل ندع لكم هذا ودعوا كنيسة توما. وكان الوليد لحاناً لا يحسن النحو، دخل عليه أعرابي فمت إليه بصهر بينه وبين قرابته، فقال له الوليد: من ختنك؟ بفتح النون، وظن الأعرابي أنه يريد الختان، فقال: بعض الأطباء. فقال له سليمان: إنما يريد أمير المؤمنين من ختنك؟ وضم النون. فقال الأعرابي: نعم فلان، وذكر ختنه. وعاتبه أبوه على ذلك وقال: إنه لا يلي العرب إلا من يحسن كلامهم. فجمع أهل النحو ودخل بيتاً فلم يخرج منه ستة أشهر ثم خرج وهو أجهل منه يوم دخل. فقال عبد الملك: قد أعذر. فقيل: إنه لما ولي الخلافة يختم القرآن في كل ثلاث، وكان يقرأ في رمضان كل يوم ختمة، وخطب يوماً فقال: يا ليتها كانت القاضية، وضم التاء، فقال عمر بن عبد العزيز: عليك وأراحتنا منك. ذكر خلافة سليمان بن عبد الملك وبيعتهوفي هذه السنة بويع سليمان بن عبد الملك في اليوم الذي توفي فيه الوليد وهو بالرملة. وفيها عزل سليمان بن عبد الملك عثمان بن حيان عن المدينة لسبع بقين من رمضان واستعمل عليها أبا بكر بن محمد بن حزم، وكان عثمان قد عزم على أن يجلد أبا بكر ويحلق لحيته من الغد، فلما كان الليل جاء البريد إلى أبي بكر بتأميره وعزل عثمان وحده، وأن يقيده. وفيها عزل سليمان يزيد بن أبي مسلم عن العراق واستعمل يزيد بن المهلب وجعل صالح بن عبد الرحمن على الخراج وأمره بقتل بني عقيل وبسط العذاب عليهم وهم أهل الحجاج، فكان يعذبهم ويلي عذابهم عبد الملك بن المهلب، وكان يزيد بن المهلب قد استعمل أخاه زياداً على حرب عثمان. ذكر مقتل قتيبةقيل: وفي هذه السنة قتل قتيبة بن مسلم الباهلي بخراسان
وكان سبب قتله أن الوليد بن عبد الملك أراد أن ينزع أخاه سليمان من ولاية العهد ويجعل بدله ابنه عبد العزيز، فأجابه إلى ذلك الحجاج وقتيبة على ما تقدم. فلما مات الوليد وولي سليمان خافه قتيبة وخاف أن يولي سليمان يزيد ابن المهلب خراسان، فكتب قتيبة إلى سليمان كتاباً يهنئه بالخلافة ويذكر بلاءه وطاعته لعبد الملك والوليد وأنه له على مثل ذلك إن لم يعزله عن خراسان، وكتب إليه كتاباً آخر يعلمه فيه فتوحه ونكاتيه، وعظم قدره عند ملوك العجم وهيبته في صدورهم، وعظم صولته فيهم، ويذم أهل المهلب ويحلف بالله لئن استعمل يويد على خراسان ليخلعنه. وكتب كتاباً ثالثاُ فيه خلعه، وبعث الكتب مع رجل من باهلة فقال له: ادفع الكتاب الأول إليه فإن كان يزيد حاضراً فقرأه ثم ألقاه إلى يزيد فادفع إليه هذا الثاني، فإن قرأه ودفع إلى يزيد فادفع إليه هذا التالي، فغن قرأ الكتاب الأول ولم يدفعه إلى يزيد فاحبس الكتابين الآخرين فقدم رسول قتيبة فدخل على سليمان وعنده يزيد بن المهلب فدفع إليه الكتاب، فقرأه وألقاه إلى يزيد، فدفع إليه الكتاب الآخر فقرأه وألقاه إلى يزيد، فأعطاه الكتاب الثالث فقرأه فتغير لونه وختمه وأمسكه بيده. وقيل: كان في الكتاب الثالث لئن لم تقرني على ما كنت عليه وتؤمنني لأخلعنك ولأملأنها عليك رجالاً وخيلاً. ثم أمر سليمان برسول قتيبة فأنزل، فاحضره ليلاً فأعطاه دنانير جائزته وأعطاه عهد قتيبة على خراسان، وسير معه رسولاً بذلك، فلما كانا بحلوان بلغهما خلع قتيبة، فرجع رسول سليمان. وكان قتيبة لما هم بخلع سليمان استشار إخوته، فقال له أخوه عبد الرحمن: اقطع بعثاً فوجه فيه كل من تخافه ووجه قوماً إلى مرو وسر حتى تنزل سمرقند، وقل لمن معك: من أحب المقام فله المراسلة، ومن أراد الانصراف فغير مستكره، فلا يقيم عندك إلا مناصح ولا يختلف عليك أحد. وقال له أخوه عبد الله: اخلعه مكانك فلا يختلف عليك رجلان. فخلع سليمان مكانه ودعا الناس إلى خلعه وذكر أثره فيهم وسوء أثر من تقدمه، فلم يجبه أحد، فغضب وقال: لا أعز الله من نصرتم! ثم والله اجتمعتم على عنز ما كسرتم قرنها! يا أهل السافلة، ولا أقول يا أهل العالية، أوباش الصدقة جمعتكم كما تجمع إبل الصدقة من كل أوب! يا معشر بكر بن وائل! يا أهل النفخ والكذب والبخل! بأي يوميكم تفخرون؟ بيوم حربكم أو بيوم سلمكم! يا أصحاب مسيلمة! يا بني ذميم؛ ولا أقول تميم! يا أهل الجور والقصف كنتم تسمون الغدر في الجاهلية كيسان! يا أصحاب سجاح! يا معشر عبد القيس القساة تبدلتم بتأبير النخل أعنة الخيل! يا معشر الأزد تبدلتم بقلوس السفن أعنة الخيل! إن هذا بدعة في الإسلام، الأعراب وما الأعراب لعنة الله عليهم! يا كناسة المصرين جمعتكم من منابت الشيخ والقيصوم تركبون البقر والحمر، فلما جمعتكم قلتم كيت وكيت،! أما والله إني لابن أبيه وأخو أخيه! والله لأعصبنكم عصب السلمة! إن حول الصليان لزمزمة! يا أهل خراسان أتدرون من وليكم؟ يزيد ابن مروان. كأني بأمير جاءكم فغلبكم على فيئكم وظلاكم! ارموا غرضكم القصي! حتى متى يتبطح أهل الشام بأفنيتكم! يا أهل خراسان انسبوني تجدوني عراقي الأم والمولد والرأي والهوى والدين وقد أصبحتم فيما ترون من الأمن والعافية! قد فتح الله لكم البلاد وآمن سبلكم، فالظعينة تخرج من مرو إلى بلخ بغير جواز، فاحمدوا الله على العافية واسألوه الشكر والمزيد.
ثم نزل فدخل بيته، فاتاه أهله وقالوا: ما رأيناك كاليوم قط؛ ولاموه . فقال: لما تكلمت فلم يجبني أحد غضبت فلم أدر ما قلت. وغضبت الناس وكرهوا خلع سليمان فأجمعوا على خلع قتيبة وخلافه، وكان أول من تكلم الأزد، فاتوا حضين بن المنذر بضاض معجمة، فقالوا: إن هذا قد دعا إلى خلع الخليفة وفيه فساد الدين والدنيا وقد شتمنا فما ترى؟ فقال: إن مضر بخراسان كثيرة وتميم أكثرها وهم فرسان خراسان ولا يرضون يصير الأمر في غير مضر، فإن أخرجتموهم منه أعانوا قتيبة. فأجابوه إلى ذلك وقالوا: من ترى من تميم؟ قال: لا أرى غير وكيع. فقال حيان النبطي مولى بني شيبان: إن أحداً لا يتولى هذا غير وكيع فيصلى بحره ويبذل دمه ويتعرض للقتل، فإن قدم أمير أخذه بما جنى، فإنه لا ينظر في عاقبة وله عشيرة تطيعه وهو موتور يطلب قتيبة برياسته التي صرفها عنه وصيرها لضرار ابن حصين الضبي. فمشى الناس بعضهم إلى بعض سراً، وقيل لقتيبة: ليس يفسد أمر الناس إلا حيان، فأراد أن يغتاله، وكان حيان يلاطف خدم الولاة، فدعا قتيبة رجلاً فأمره بقتل حيان، وسمع بعض الخدم فأتى حيان فأخبره، فلما جاء رسوله يدعوه تمارض. وأتى الناس وكيعاً وسألوه أن يلي أمرهم ففعل. وبخراسان يومئذ من أهل البصرة والعالية من المقاتلة تسعة آلاف، ومن بكر سبعة آلاف، ورئيسهم حضين بن المنذر، ومن تميم عشرة آلاف، وعليهم ضرار بن حصين، وعبد القيس أربعة آلاف، وعليهم عبد الله بن علوان، والأزد عشرة آلاف، وعليهم عبد الله بن حوذان، ومن أهل الكوفة سبعة آلاف، وعليهم جهم بن زحر، والموالي سبعة آلاف، عليهم حيان، وهو من الديلم، وقيل من خراسان، وإنما قيل له نبطي للكنته. فأرسل حيان إلى وكيع: إن أنا كففت عنك وأعنتك أتجعل لي الجانب الشرقي من نهر بلخ خراجه ما دمت حياً وما دمت أميراً؟ قال: نعم. فقال حيان للعجم: هؤلاء يقاتلون على غير دين فدعوهم يقتل بعضهم بعضاً. ففعلوا فبايعوا وكيعاً سراً. وقيل لقتيبة: إن الناس يبايعون ويكيعاً. فدس ضرار بن الضبي إلى وكيع فبايعه سراً، فظهر لقتيبة أمره فأرسل يدعوه، فوجده قد طلى رجليه بمغرة وعلق على رأسه حرزاً وعنده رجلان يرقيان رجله، فقال للرسول: قد ترى ما برجلي. فرجع فأخبر قتيبة، فأعاده إليه يقول له: لتأتيني محمولاً. قال: لا أستطيع. فقال قتيبة لصاحب شرطته: انطلق إلى وكيع فأتني به فإن أبى فاضرب عنقه، ووجه معه خيلاً، وقيل: أرسل إليه شعبة بن ظهير التميمي، فقال له وكيع: يا ابن ظهير: البث قليلاً تلحق الكتائب. وليس سلاحه ونادى في الناس، فأتوه، وركب فرسه وخرج، فتلقاه رجل، فقال: ممن أنت؟ قال: من بني أسد. قال: ما أسمك؟ قال: ضرغامة. قال: ابن من؟ قال: ابن ليث، فأعطاه رايته، وقيل كانت مع عقبة بن شهاب المازني. وأتاه الناس أرسالاً من كل وجه، فتقدم بهم وهو يقول: قرم إذا حمل مكروهةً ... شد الشراسيف لها والحزيم واجتمع إلى قتيبة أهل بيته وخواص أصحابه وثقاته، منهم إياس بن بيهس بن عمرو، وهو ابن عم قتيبة، فأمر قتيبة رجلاً فنادى: أين بنو عامر؟ فقال له محقر بن جزء العلائي، وهو قيسي أيضاً، وكان قتيبة قد جفاهم: نادهم حيث وضعتهم. قال قتيبة: ناد: أذكركم الله والرحم. قال محقر: أنت قطعتها. قال: ناد العتبى. قال محقر: لا أقالنا الله إذن؛ فقال قتيبة عند ذلك: يا نفس صبراً على ما كان من ألمٍ ... إذ لم أجد لفضول العيش أقرانا ودعا ببرذون له مدرب ليركبه، فجعل يمنعه حتى أعيا. فلما رأى ذلك عاد إلى سريره فجلس عليه وقال: دعوه، إن هذا أمر يراد. وجاء حيان النبطي في العجم وقتيبة واجد عليه، فقال عبد الله أخو قتيبة لحيان: احمل عليهم. فقال حيان: لم يأن بعد. فقال عبد الله: ناولني قوسي. فقال حيان: ليس هذا بيوم قوس. وقال حيان لابنه: إذا رأيتني قد حولت قلنسوتي ومضيت نحو عسكر وكيع فمل بمن معك من العجم إلي. فلما حول حيان قلنسوته مالت الأعاجم إلى عسكر وكيع وكبروا. فبعث قتيبة أخاه صالحاً إلى الناس. فرماه رجل من بني ضبة، وقيل من بلعم، فأصاب رأسه، فحمل إلى قتيبة ورأسه مائل فوضع في مصلاة، وجلس قتيبة عنده ساعة.
وتهايج الناس وأقبل عبد الرحمن أخو قتيبة نحوهم، فرماه أهل السوق والغوغاء فقتلوه، وأحرق الناس موضعاً كانت فيه إبل لقتيبة ودوابه ودنوا منه. فقاتل عنه رجل من باهلة، فقال له قتيبة: انج بنفسك. فقال: بئس ما جزيتك إذاً وقد أطعمتني الجردق وألبستني النرمق. وجاء الناس حتى بلغوا فسطاطه فقطعوا أطنابه، وجرح قتيبة جراحات كثيرة، فقال جهم ابن زحر بن قيس لسعد: انزل فخذ رأسه، فنزل سعد فشق الفسطاط أهز رأسه وقتل معه من أهل إخوته عبد الرحمن وعبد الله وصالح وحصين وعبد الكريم بنو مسلم، وقتل كثير ابنه، وقيل قتل عبد الكريم فقزوين. وكان عدة من قتل مع قتيبة من أهل بيته أحد عشر رجلاً، ونجا عمر ابن مسلم أخو قتيبة، نجاة أخواله. وكانت أمه الغبراء بنت ضرار بن القعقاع ابن معبد بن زرارة القيسية. فلما قتل قتيبه صعد وكيع المنبر فقال: مثلي ومثل قتيبة كما قال الأول: من ينك العير ينك نياكا أراد قتيبة قتلي وأنا قتال قد جربوني ثم جربوني ... من غلوتين ومن المئتين حتى إذا شبت وشيبوني ... خلوا عناني وتنكبوني أنا أبو مطرف! ثم قال: أنا ابن خندق تنميني قبائلها ... بالصالحات وعمي قيس عيلانا ثم أخذ بلحيته فقال: شيخ إذا حمل مكروهةً ... شد الشراسيف لها والحزيم والله لأقتلن ثم لأقتلن! ولأصلبن ثم لأصلبن!إن مرزبانكم هذا ابن الزانية قد أغلى أسعاركم! والله ليصيرن القفيز بأربعة دراهم أو لأصلبنه! صلوا على نبيكم. ثم نزل، وطلب وكيع رأس قتيبة وخاتمه، فقيل له: إن الأزد أخذته. فخرج وكيع مشهراً وقال: والله الذي لا إله إلا هو لا أبرح حتى أوتى بالرأس أو يذهب رأسي معه. فقال له حضين: اسكن يا أبا مطرف فإنك توتى به. وذهب حضين إلى الأزد، وهو سيدهم، فأمرهم بتسليم ارأس إلى وكيع، فسلموه إليه، فسيره إلى سليمان مع نفر ليس فيهم تميمي، ووفى وكيع لحيان النبطي بما كان ضمن له. فلما أتي سليمان برأس قتيبة ورؤوس أهله كان عنده الهذيل بن زفر ابن الحارث، فقال له: هل ساءك هذا يا هذيل؟ فقال: لو ساءني لساء قوماً كثيراً. فقال سليمان: ما أردت هذا كله. وإنما قال سليمان هذا للهذيل لأنه هو وقتيبة من قيس عيلان؛ ثم أمر بالرؤوس فدفنت، ولما قتل قتيبة قال رجل من أهل خراسان: يا معشر العرب قتلتم قتيبة، والله لو كان منا فمات لجعلناه في تابوت فكنا نستقي به وسنتفتح به إذا غزونا، وما صنع أحد بخراسان قط ما صنع قتيبة إلا أنه غدر، وذلك أن الحجاج كتب إليه: أن اختلهم واقتلهم لله. وقال الأصبهبذ: قتلتم قتيبة ويزيد بن المهلب وهما سيدا العرب. قيل له: أيهما كان أعظم عندكم وأهيب؟ قال: لو كان قتيبة بأقصى جحر في الغرب مكبلاً ويزيد معنا في بلادنا والٍ علينا لكان قتيبة أهيب في صدورنا وأعظم من يزيد. وقال الفرزدق في ذلك: أتاني ورحلي في المدينة وقعة ... لآل تميم أقعدت كل قائم وقال عبد الرحمن بن جمانة الباهلي يرثي قتيبة: كأن أبا حفصٍ قتيبة لم يسر ... بجيشٍ إلى جيش ولم يعل منبرا ولم تخفق الرايات والجيش حوله ... وقوف ولم يشهد له الناس عسكرا دعته المنايا فاستجاب لربه ... وراح إلى الجنات عفاً مطهرا فما رزئ الإسلام بعد محمد ... بمثل أبي حفصٍ فبكيه عبهرا وعبهر أم ولد له. قيل : وقال شيوخ من غسان: كنا بثنية العقاب إذا نحن برجل معه عصاً وجراب، قلنا: من أين أقبلت؟ قال: من خراسان. قلنا: هل كان بها من خبر؟ قال: نعم، قتل بها قتيبة بن مسلم أمس. فعجبنا لقوله، فلما رأى إنكارنا قال: أين يروني الليلة من إفريقية؟ وتركنا ومضى، فاتبعناه على خيولنا فإذا هو يسبق الطرف. ذكر عدة حوادثقيل: وفي هذه السنة مات قرة بن شريك العبسي أمير مصر في صفر، وقيل: مات سنة خمس وتسعين في الشهر الذي مات فيه الحجاج.
وحج بالناس هذه السنة أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، وهو أمير المدينة، وكان على مكة عبد العزيز بن عبد الله بن خالد بن أسيد بفتح الهمزة وكسر السين. وعلى حرب العراق وصلاتها يزيد بن المهلب. وعلى خراجها صالح بن عبد الرحمن. وعلى البصرة سفيان بن عبد الله الكندي من قبل يزيد ابن المهلب. وعلى قضائها عبد الرحمن بن أذينة. وعلى قضاء الكوفة أبو بكر أبن أبي موسى. وعلى حرب خراسان وكيع بن أبي سود. وفيها مات شريح القاضي، وقيل سنة سبع وتسعين، وله مائة وعشرون سنة. وفيها مات بعد الرحمن بن أبي بكرة. وحمود بن لبيد الأنصاري، وله صحبة. وفي ولاية الوليد مات عبد الله بن حيريز، قيل له صحبة. وأبو سعيد المقبري، كان يسكن المقابر فنسب إلها. وفيها توفي إبراهيم بن يزيد النخعي الفقيه. وإبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف وله خمس وسبعون سنة. وفيها توفي عبد الله بن عمر بن عثمان بن عفان في أيام الوليد بن عبد المكل. وفيها توفي محمد بن أسامة بن زيد بن حارثة، وعباس بن سهل بن سعد الساعدي. ثم دخلت سنة سبع وتسعين ذكر مقتل عبد العزيز بن موسى بن نصير وكان سبب قتله أن أباه استعمله على الأندلس، كما ذكرنا، عند عوده إلى الشام، فضبطها وسدد أمورها وحمى ثغورها، وافتتح في إمارته مدائن بقت بعد أبيه، وكان خيراً فاضلاً، وتزوج امرأة رذريق، فحظيت عنده وغلبت عليه فحملته على أن يأخذ أصحابه ورعيته بالسجود له إذا دخلوا عليه كما كان يفعل لزوجها رذريق. فقال لها: إن ذلك ليس في ديننا. فلم تزل به حتى أمر ففتح باب قصير لمجلسه الذي كان يجلس فيه، فكان أحدهم إذا دخل منه طأطأ رأسه فيصبر كالراكع، فرضيت به، فصار كالسجود عندها، فقالت له: الآن لحقت بالملوك وبقي أن أعمل لك تاجاً مما عندي من الذهب واللؤلؤ، فأبى، فلم تزل به حتى فعل. فانكسف ذلك للمسلمين فقيل تنصر، وفطنوا للباب فثاروا عليه فتقلوه في آخر سنة سبع وتسعين. وقيل: إن سليمان ابن عبد الملك بعث إلى الجند في قتله عند سخطه على والده موسى بن نصير، فدخلوا عليه وهو في المحراب فصلى الصبح وقد قرأ الفاتحة وسورة الواقعة فضربوه بالسيوف ضربة واحدة وأخذوا رأسه فسيروه إلى سليمان، فعرضه سليمان على أبيه، فتجلد للمصيبة وقال: هنيئاً له بالشهادة فقد قتلتموه والله صواماً قواماً. وكانوا يعدونها من زلات سليمان. وكان قتله على هذه الرواية سنة ثمان وتسعين في آخرها. ثم إن سليمان ولى الأندلس الحر بن عبد الرحمن الثقفي، فأقام والياً عليها إلى أن استخلف عمر بن عبد العزيز فعزله، هذا آخر ما أردنا ذكره من قتل عبد العزيز على سبيل الأختصار. وفيها عزل سليمان بن عبد الملك عبد الله بن موسى بن نصير عن إفريقية واستعمل عليها محمد بن يزيد القرشي، فلم يزل عليها حتى مات سليمان فعزل، فاستعمل عمر بن عبد العزيز مكانه إسماعيل بن عبد الله سنة مائة، وكان حسن السيرة، فاسلم البربر في أيامه جميعهم. ذكر ولاية يزيد بن الملهلب خراسانوكان السبب في ذلك أن سليمان بن عبد الملك لما ولى يزيد العراق فوض إليه حربها والصلاة بها وخراجها، فنظر يزيد لنفسه وقال: إن العراق قد أخرجها الحجاج وأنا اليوم رجل أهل العراق ومتى قدمتها وأخذت الناس بالخراج وعذبتهم على ذلك صرت مثل الحجاج وأعدت عليهم السجون وما عافاهم الله منه، ومتى لم آت سليمان بمثل ما كان الحجاج أتى به لم يقبل مني. فأتى يزيد سليمان وقال: أدلك على رجل بصير بالخراج توليه إياه؟ قال: نعم. قال: صالح بن عبد الرحمن مولى بني تميم، فولاه الخراج وسيره قبل يزيد، فنزل واسطاً، وأقبل يزيد، فخرج الناس يتلقونه، ولم يخرج صالح حتى قرب يزيد، فخرج صالح في الدراعة بين يديه أربعمائة من أهل الشام فلقي يزيد وسايره، فنزل يزيد، وضيق عليه صالح فلم يمكنه من شيء، واتخذ يزيد ألف خوان يطعم الناس عليها، فأخذها صالح، فقال يزيد: اكتب ثمنها علي. واشترى يزيد ألف خوان يطعم الناس عليها، فأخذها صالح، فقال يزيد: اكتب ثمنها علي. واشترى يزيد متاعاً وكتب صكاً بثمنه إلى صالح، فلم يقبله وقال ليزيد: إن الخراج لا يقوم بما تريد ولا يرضى بهذا أمير المؤمنين وتؤخذ به. فضاحكه يزيد وقال: أجر هذا المال هذه المرة ولا أعود. ففعل صالح.
وكان سليمان لم يجعل خراسان إلى يريد، فضجر يزيد من العراق لتضيق صالح عليه، فدعا عبد الله بن الأهتم فقال له: إني أريدك لأمرٍ قد أهمني فأحب أن تكفينه. قال: أعل. قال: أنا فيما ترى من الضيق وقد ضجرت منه وخراسان شاغرة برجلها فهل من حيلة؟ قال: نعم، سرحني إلى أمير المؤمنين. قال: فاكتم ما أخبرتك. وكتب إلى سليمان يخبره بحال العراق وأثنى على ابن الأهتم وذكر علمه بها، وسير ابن الأهتم على البريد. فأتى سليمان واجتمع به، فقال له سليمان: إن يزيد كتب إلي يذكر علمك بالعراق وخراسان، فكيف علمك بها؟ قال: أنا أعلم الناس بها، بها ولدت وبها نشأت ولي بها وبأهلها خبر وعلم. قال: فأشير علي برجل أوليه خراسان. قال: أمير المؤمنين أعلم بمن يريد، فإن ذكر منهم أحداً أخبرته برأيي فيه. فسمى رجلاً من قريش، فقال: ليس من رجال خراسان. قال: فعبد الملك بن المهلب. قال: لا يصلح فإنه يصبو عن هذا فليس له مكر أبيه ولا شجاعة أخيه. حتى عدد رجالاً، وكان آخر من ذكر وكيع بن أبي سود، فقال: يا أمير المؤمنين وكيع، لقد أدرك بثأري وشفاني من عدوي، ولكن أمير المؤمنين أعظم حقاً والنصيحة له تلزمني، إن وكيعاً لم تجتمع له مائة عنان قط إلا حدث نفسه بغدرة، خامل في الجماعة ثابت في الفتنة، قال: ما هو ممن تستعين به، فمن لها ويحك؟ قال: رجل أعلمه لم يسمه أمير المؤمنين. قال: فمن هو؟ قال: لا أذكره حتى يضمن لي أمير المؤمنين ستر ذلك وأن يجيرني منه إن علم. قال: فمن هو؟ قال: لا أذكره حتى يضمن لي أمي المؤمنين ستر ذلك وأن يجيرني منه إن علم. قال: نعم. قال: يزيد بن المهلب. قال: العراق أحب إليه من خراسان. قال ابن الأهتم: قد علمت ولكن تكرهه فيستخلف على العراق ويسير. قال: أصبت. فكتب عهد يزيد على خراسان وسيره مع ابن الأهتم، فأتى يزيد به فأمره بالجهاز للمسير ساعته، وقدم ابنه مخلداً إلى خراسان من يومه، ثم سار يزيد بعده واستخلف على واسط الجراح بن عبد الله الحكمي، واستعمل على بالبصرة، وكان أوثق إخوته عنده، واستخلف بالكوفة حرملة بن عيمر اللخمي أشهراً ثم عزله، وولى بشير بن حيان النهدي. وكانت فيس تزعم أن قتيبة لم يخلع، فلما سار يزيد إلى خراسان أمره سليمان أن يسأل عن قتيبة فإن أقامت قيس البينة أن قتيبة لم يخلع أن يقيد وكيعاً به، ولما وصل مخلد بن يزيد مرو أخذه فحبسه وعذبه وأخذ أصحابه وعذبهم قبل قدوم أبيه، وكانت ولاية وكيع خراسان تسعة أشهر أو عشرة أشهر. ثم قدم يزيد في هذه السنة خراسان فأدنى أهل الشام وقوماً من أهل خراسان، فقال نهار بن توسعة في ذلك: وما كنا نؤمل من أميرٍ ... كما كنا نؤمل من يزيد فأخطأ ظننا فيه وقدماً ... زهدنا في معاشرة الزهيد إذا لم يعطنا نصفاً أمير ... مشينا نحوه مشي الأسود فمهلاً يا يزيد أنب إلينا ... ودعنا من معاشرة العبيد نجيب ولا ترى إلا صدوداً ... على أنا نسلم من بعيد ونرجع خائبي بلا نوالٍ ... فما بال التجهم والصدود ذكر عدة حوادثفي هذه السنة جهز سليمان بن عبد الملك الجيوش إلى القسطنطينية واستعمل ابنه داود على الصائفة فافتتح حصن المرأة. وفيها غزا مسلمة أرض الوضاحية ففتح الحصن الذي فتحه الوضاح صاحب الوضاحية. وفيها غزا عمر بن هبيرة أرض الروم في البحر فشتى فيها. وفيها حج سليمان بن عبد الملك بالناس وفيها عزل دواد بن طلحة الحضرمي عن مكة، وكان عمله عليها ستة أشهر، وولي عبد العزيز بن عبد الله بن خالد. وكان عمال الأمصار من تقدم ذكرهم. وفيها مات عطاء بن يسار، وقيل سنة ثلاث ومائة. وفيها مات موسى ابن نصير الذي فتح الأندلس، وكان موته بطريق مكة مع سليمان بن عبد الملك. وفيها توفي قيس بن أبي حازم البجلي وقد جاوز مائة سنة، وجاء إلى النبي، صلى الله عليه وسلم ، ليسلم، فرآه قد توفي، وروى عن العشرة، وقيل: لم يرو عن عبد الرحمن بن عوف، وذهب عقله في آخر عمره. حازم بالحاء المهملة والزاي المعجمة. وفيها توفي سالم بن أبي الجعد مولى أشجع، واسم أبي الجعد رافع. ثم دخلت سنة ثمان وتسعين ذكر محاصرة القسطنطينية
في هذه السنة سار سيمان بن عبد الملك إلى دابق وجهز جيشاً مع أخيه مسلمة بن عبد الملك ليسير إلى القسطنطينية، ومات ملك الروم، فأتاه أليون من أذربيجان فأخبره، فضمن له فتح الروم، فوجه مسلمة معه، فسارا إلى القسطنطينية، فلما دنا منها أمر كل فارس أن يحمل معه مدين من طعام على عجز فرسه إلى القسطنطينية، ففعلوا، فلما أتاها أمر بالطعام فألقي أمثال الجبال، وقال للمسلمين: لا تأكلوا منه شيئاً وأغيروا في أرضهم وازرعوا. وعمل بيوتاً من خشب، فشتى فيها وصاف، وزرع الناس، وبقي الطعام في الصحراء والناس يأكلون ما أصابوا من الغارات ومن الزرع، وأقام مسلمة قاهراً للروم معه أعيان الناس خالد بن معدان ومجاهد بن جبر وعبد الله بن أبي زكرياء الخزاعي وغيرهم. فأرسل الروم إلى مسلمة يعطونه عن كل رأس ديناراً، فلم يقبل. فقالت الروم لأليون: إن صرفت عنا المسلمين ملكناك. فاستوثق منهم، فأتى مسلمة فقال له: إن الروم قد علموا أنك لا تصدقهم القتال وأنك تطاولهم ما دام الطعام عندك، فلو أحرقته أعطوا الطاعة بأيديهم. فأمر به فأحرق، فقوي الروم وضاق المسلمون حتى كادوا يهلكون، وبقوا على ذلك حتى مات سليمان. وقيل: إنما خدع أليون مسلمة بأن يسأله أن يدخل الطعام إلى الروم بمقدار ما يعيشون به ليلة واحدة ليصدقوه أن أمره وأمر مسلمة واحد وأنهم في أمان من السبي والخروج من بلادهم، فأذن له، وكان أليون قد أعد السفن والرجال، فنقلوا تلك اليلة الطعام، فلم يتركوا في تلك الحظائر إلا ما لا يذكر، وأصبح أليون محرباً، وقد خدع خديعة لو كانت إمرأة لعيبت بها، ولقي الجند ما لم يلقه جيش آخر، حتى إن كان الرجل ليخاف أن يخرج من العسكر وحده، وأكلوا الدواب والجلود وأصول الشجر والورق وكل شيء غير التراب، وسليمان مقيم بدابق، وتولى الشتاء فلم يقدر أن يمدهم حتى مات. وفي هذه السنة بايع سليمان لإبنه أيوب بولاية العهد، فمات أيوب قبل أبيه. وفي هذه السنة فتحت مدينة الصقالبة، وكانت برجان قد أغارت على مسلمة بن عبد الملك وهو في قلة، فكتب إلى سليمان يستمده، فأمده، فمكرت بهم الصقالبة ثم إنهزموا. وفيها غزا الوليد بن هشام وعمرو بن قيس، فأصيب ناس من أهل أنطاكية، وأصاب الوليد ناساً من ضواحي الروم وأسر منهم بشراً كثيراً. ذكر فتح جرجان وطبرستانفي هذه السنة غزا يزيد بن المهلب جرجان وطبرستان لما قدم خراسان. وسبب غزوهما واهتمامه بهما أنه لما كان عند سليمان بن عبد الملك بالشام كان سليمان كلما فتح قتيبة فتحاً يقول ليزيد: ألا ترى إلى ما يفتح الله على قتيبة؟ فيقول يزيد: ما فعلت جرجان التي قطعت الطريق وأفسدت قومس ونيسابور ويقول: هذه الفتوح ليست بشيء، الشان هي جرجان. فلما ولاه سليمان خراسان لم يكن له همة غير جرجان، فسار إليها ف مائة ألف من أهل الشام والعراق وخراسان سوى الموالي والمتطوعة، ولم تكن جرجان يومئذ مدينة إنما هي جبال ومخازم وأبواب يقوم الرجل على باب منها فلا يقدم عليه أحد. فابتدأ بقهستان فحاصرها، وكان ذلك، فإذا هزموا دخلوا الحصن. فخرجوا ذات يوم وخرج إليهم الناس فاقتتلوا قتالاً شديداً، فحمل محمد بن سبرة على تركي قد صد الناس عنه فاختلفا ضربتين، فثبت سف التركي في بيضة ابن أبي سبرة، وضربه ابن أبي سبرة فقتله ورجع وسفه يقطر دماً وسف التركي في بيضته، فنظر الناس إلى أحسن منظر رأوه. وخرج يزيد بعد ذلك يوماً ينظر مكاناً يدخل مه عليهم، وكان في أربعمائة من وجوه الناس وفرسانهم، فلم يشعروا حتى هجم عليهم الترك في نحو أربعة آلاف فقاتلوهم ساعة، وقاتل يزيد قتالاً شديداً، فسلموا وانصرفوا، وكانوا قد عطشوا، فانتهوا إلى الماء فشربوا، ورجع عنهم العدو. ثم إن يزيد ألح عليهم في القتال وقطع عنهم المواد حتى ضعفوا وعجزوا. فأرسل صول، دهقان قهستان، وإلى يزيد يطلب منه أن يصالحه ويؤمنه على نفسه وأهله وماله ليدفع إليه المدينة بما فيها، فصالحه ووفى له ودخل المينة فأخذ ما كان فيها من الأموال والكنوز والسبي ما لايحصى، وقتل أربعة عشر ألف تركي صبراً، وكتب إلى سليمان بن عبد الملك بذلك.
ثم خرج حتى أتى جرجان، وكان أهل جرجان قد صالحهم سعيد بن العاص، وكانوا يجبون أحياناً مائة ألف وأحياناً مائتي ألف وأحياناً ثلاثمائة ألف، وربما أعطوا ذلك وربما منعوه، ثم امتنعوا وكفروا فلم يعطوا خراجاً، ولم يأت جرجان بعد سعيد أحد ومنعوا ذلك الطريق، فلم يكن يسلك طريق خراسان أحد إلا على فارس وكرمان. وأول من صير الطريق من قومس قتيبة بن مسلم حين ولي خراسان. وبقي أمر جرجان كذلك حتى ولي يزيد وأتاهم فاستقبلوه بالصلح وزادوه وهابوه، فأجابهم إلى ذلك وصالحهم. فلما فتح قهستان وجرجبان طمع في طبرستان أن يفتحها فعزم على أن يسير إليها، فاستعمل عبد الله بن المعمر اليشكري على الساسان وقهستان وخلف معه أربعة آلاف، ثم أقبل إلى أداني جرجان مما يلي طبرستان فاستعمل على ايذوسا راشد بن عمرو وجعله في أربعة آلاف ودخل بلاد طبرستان، فأرسل إليه لأصبهبذ صاحبها يسأله الصلح وأن يخرج من طبرستان، فأبى يزيد ورجا أن يفتحها ووجه أخاه أبا عيينة من وجه وابنه خالد بن يزيد من وجه وأبا الجهم الكلبي من وجه، وقال: إذا اجتمعتم فأبو عيينة على الناس. فسار أبو عيينة على الناس. فسار أبو عيينة وأقام يزيد معسكراً. واستجاش الأصبهبذ أهل جيلان والديلم فأتوه فالتقوا في سفح جبل، فانهزم المشركون في الجبل، فاتبعهم المسلمون حتى انتهوا إلى فم الشعب، فدخله المسلمون وصعد المشركون في الجبل واتبعهم المسلمون يرومون الصعود، فرماهم العدو بالنشاب والحجارة، فانهزم أبو عيينة والمسلمون يركب بعضهم بعضاً يتساقطون في الجبل حتى انتهوا إلى عسكر يزيد، وكف عدوهم من المسلمين وأن يقطعوا عن يزيد المادة والطريق فيما بينه وبين بلاد الإسلام ويعدهم أن يكافئهم على ذلك، فثاروا بالمسلمين فقتلوهم أجمعين وهم غارون في ليلة، وقتل عبد الله بن المعمر وجميع من معه فلم ينج منهم أحد، وكتبوا إلى الأصبهبذ بأخذ المضايق والطرق. وبلغ ذلك يزيد وأصحابه فعظم عليهم وهالهم، وفزع يزيد إلى حيان النبطي وقال له: لا يمنعك ما كان مني إليك من نصيحة المسلمين وقد جاءنا عن جرجان ما جاءنا فاعمل في الصلح. فقال: نعم. فأتى حيان الأصبهبذ فقال: أنا رجل منكم وإن كان الدين فرق بين وبينكم، فأنا لكم ناصح، فأنت أحب إلي من يزيد وقد بعث يستمد وأمداده منه قريبة، وإنما أصابوا منه طرفاً ولست آمن أن يأتيك من لا تقوم له، فأرح نفسك وصالحه، فإن صالحته صير حده. على أهل جرجان بغدرهم وقتلهم أصحابه. فصالحه على سبعمائة ألف، وقيل خمسمائة ألف وأربعمائة وقر زعفران أو قيمته من العين، وأربعمائة رجل، على كل رجل منهم ترس وطيلسان، ومع كل رجل جام من فضة وخرقة حرير وكسوة. ثم رجع حيان إلى يزيد فقال: ابعث من يحمل صلحهم، فقال: من عندهم أو من عندنا؟ قال: من عندهم، وكان يزيد قد طابت نفسه أن يعطيهم ما سألوا ويرجع إلى جرجان، فأرسل يزيد من يقبض ما صالحهم عليه حيان، فانصرف إلى جرجان. وكان يزيد قد أغرم حيان مائتي ألف درهم، وسبب ذلك أن حيان كتب إلى مخلد ابن يزيد، فبدأ بنفسه، فقال له ابنه مقاتل بن حيان: تكتب إلى مخلد وتبدأ بنفسك. قال: نعم، وإن لم يرضى لقي ما لقي قتيبة. فلبعث مخلد الكتاب إلى أبيه يزيد، فأغرمه مائتي أف درهم. وقيل: إن سبب مسير يزيد إلى جرجان أن صولاً التركي كان ينزل قهستان والبحيرة، وهي جزيرة في البحر بينها وبين قهستان خمسة فراسخ، وهما من جرجان مما يلي خوارزم، وكان يغير على فيروز بن قول مرزبان جرجان فيصيب من بلاده. فخافه فيروز فسار إلى يزيد بخراسان وقدم عليه، فسأله عن سبب قدومه، فقال: خفت صولاً فهربت منه، وأخذ صول جرجان. فقال يزيد لفيروز: هل من حيلة لقتاله؟ قال: نعم، شيء واحد إن ظفرت به قتلته وأعطى بيده. قال: ما هو؟ قال: تكتب إلى الأصبهبذ كتاباً تسأله فيه أن يحتال لصول حتى يقيم بجرجبان واجعل له على ذلك جعلاً، فإنه يبعث بكتابك إلى صول يتقرب به إليه فيتحول عن جرجان فينزل البحيرة، وإن تحول عن جرجان وحاصرته ظفرت به.
ففعل يزيد ذلك وضمن للأصبهبذ خمسين ألف دينار إن هو حبس صولاً عن البحيرة ليحاصره بجرجان، فأرسل الأصبهبذ الكتاب إلى صول، فلما أتاه الكتاب رحل إلى البحيرة ليتحصن بها، وبلغ يزيد مسيره فخرج إلى جرجان ومعه فيروز، واستعمل على خراسان ابنه مخلداً، وعلى سمرقند وكش ونسف وبخارى ابنه معاوية، وعلى طخارستان حاتم بن قبيصة بن المهلب، وأقبل حتى أتى جرجان فدخلها ولم يمنعه منها أحد، وسار منها إلى البحيرة فحصر صولاً بها، فكان يخرج إليه صول فيقاتله ثم يرجع، فمكثوا بذلك ستة أشهر، فأصابهم مرض وموت، فأرسل صول يطلب الصلح على نفسه وماله وثلاثمائة من أهله وخاصته وسلم إليه البحيرة، فأجابه يزيد، فخرج بماله وثلاثمائة ممن أحب. وقتل يزيد من الأتراك أربعة عشر ألفاً صبراً وأطلق الباقين. وطلب الجند أرزاقهم فقال لإدريس بن حنظلة العمي: أحصى لنا ما في البحيرة حتى نعطي الجند. فدخلها إدريس فلم يقدر على إحصاء ما فيها، فقال ليزيد: لا أستطيع ذلك وهو في ظروف، فتحصى الجواليق ويعلم ما فيها ويعطى الجند فمن أخذ شيئاً عرفنا ما أخذ من الحنطة والشعير والأرز والسمسم والعسل، ففعلوا ذلك وأخذوا شيئاً كثيراً، وكان شهر بن حوشب على خزائن يزيد بن المهلب، فرفعوا عليه أنه أخذ خريطة، فسأله يزيد عنها، فأتاه بها فأعطاها شهراً؛ فقال بعضهم: لقد باع شهر دينه بخريطة ... فمن يأمن القراء بعدك يا شهر وقال مرة الحنفي: يا ابن المهلب ما أردت | |
|
| |
الشيخ عودة الشيخ عودة
عدد المساهمات : 1748 تاريخ التسجيل : 28/09/2008 العمر : 74
| موضوع: رد: كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير الثلاثاء فبراير 11, 2014 3:46 am | |
| ورقاء هو ورقاء بن زهير بن جذيمة العبسي، ضرب خالد بن جعفر ابن كلاب وخالد قد أكب على أبيه زهير وضربه بالسيف فصرعه، فأقبل ورقاء فضرب خالداً ضربات فلم يصنع شيئاً، فقال ورقاء بن زهير رأيت زهيراً تحت كلكل خالدٍ ... فأقبلت أسعى كالعجول أبادر فشلت يميني يوم أضرب خالداً ... ويمنعه مبني الحديد المظاهر ذكر خلافة عمر بن عبد العزيزفي هذه السنة استخلف عمر بن عبد العزيز. وسبب ذلك أن سليمان بن عبد الملك لما كان بدابق مرض، على ما وصفنا، فلما ثقل عهد في كتاب كتبه لبعض بنيه، وهو غلام لم يبلغ، فقال له رجاء بن حيوة: ما تصنع يا أمير المؤمنين؟ إنه مما يحفظ الخليفة في قبره أن يستخلف على الناس الرجل الصالح. فقال سليمان: أنا أستخير الله وأنظر. ولم أعزم؛ فمكث سليمان يوماً أو يومين ثم خرقه ودعا رجاء فقال: ما ترى في ولدي دواد؟ قال الرجاء: رأيك. قال: فكيف ترى في عمر بن العزيز؟ قال رجاء: فقلت: أعلمه والله خيراً فاضلاً سليماً. قال سليمان: هو على ذلك ولئن وليته ولم أول أحداً سواه لتكونن فتنة ولا يتركونه أبداً يلي عليهم إلا أن يجعل أحدهم بعده، وكان عبد الملك قد عهد إلى الوليد وسليمان أن يجعلا أخاهما يزيد ولي عهد، فأمر سليمان أن يجعل يزيد بن عبد الملك بعد عمر، وكان يزيد غائباً في الموسم. قال رجاء: قلت رأيك. فتكب: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من عبد الله سليمان أمير المؤمنين لعمر بن عبد العزيز، إني قد وليتك الخلافة بعدي ومن بعدك يزيد بن عبد الملك، فاسمعوا له وأطيعوا واتقوا الله ولا تختلفوا فيطمع فيكم. وختم الكتاب. وأرسل إلى كعب بن جابر العبسي صاحب شرطته فقال: ادع أهل بيتي. فجمعهم كعب. ثم قال سليمان لرجاء بعد اجتماعهم: اذهب بكتابي إليهم و أخبرهم بكتابي ومرهم فيبايعوا من وليت فيه. ففعل رجاء، فقالوا: ندخل ونسلم على أمير المؤمنين؟ قال: نعم. فدخلوا، فقال لهم سليمان: في هذا الكتاب، وهو يشير إلى الكتاب الذي في يد رجاء بن حيوة، عهدي فاسمعوا وأطيعوا لمن سيمت فيه. فبايعوه رجلاً رجلاً وتفرقوا. وقال رجاء: فأتاني عمر بن عبد العزيز فقال: أخشى أن يكون هذا أسند إلي شيئاً من هذا الأمر، فأنشدك الله وحرمتي ومودتي إلا أعلمتني إن كان ذلك حتى أستعفيه الآن قبل أن تأتي حال لا أقدر فيها على ذلك. قال رجاء: ما أنا بمخيبرك حرفاً قال: فذهب عمر عني غضبان. قال رجاء: ولقيني هشام بن عبد الملك فقال: إن لي بك حرمةً وموده قديمة وعندي شكر فأعلمني بهذا الأمر، فإن كان إلى غيري تكلمت والله علي أن لا أذكر شيئاً من ذلك أبداً. قال رجاء: فأبيت أن أخبره حرفاً، فانصرف هشام وهو يضرب بإحدى يديه على الأخرى وهو يقول: فإلى من إذاً نحيت عني؟ أتخرج من بني عبد الملك؟ قال رجاء: ودخلت على سليمان فإذا هو يموت، فجعلت إذا أخذته سكرة من سكرات الموت حرفته إلى القبلة فيقول حين يفيق: لم يأن بعد. ففعلت ذلك مرتين أو ثلاثاً، فلما كانت الثالثة قال: من الآن يا رجاء إن كنت تريد شيئاً، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، فحرفته، فمات، فلما غمضته وسجيته وأغلقت الباب أرسلت إلي زوجته فقالت: كيف أصبح؟ فقلت: هو نائم قد تغطى. ونظر إليه الرسول متغطياً فرجع فأخبرها، فظنت أنه نائم، قال: فأجلست على الباب من أثق به وأوصيته أن لا يبرح ولا يترك أحداً يدخل على الخليفة. قال: فخرجت فأرسلت إلى كعب بن جابر فجمع أهل بيت سليمان، فاجتمعوا في مسجد دابق، فقلت: بايعوا. فقالوا قد بايعنا مرة. قلت: وأخرى، هذا عهد أمير المؤمنين. فبايعوا الثانية، فلما بايعوا بعد موته رأيت أني قد أحكمت الأمر فقلت: قوموا إلى صاحبكم فقد مات. قالوا: إنا لله وإنا إليه راجعون! وقرأت الكتاب، فلما انتهيت إلى ذكر عمر بن عبد العزيز قال هشام: لا نبايعه والله أبداً. قلت: أضرب واله عنقك، قم فبايع، فقام يجر رجليه. قال رجاء: فأخذت بضبعي عمر بن عبد العزيز فأجلسته على المنبر وهو يسترجع لما وقع فيه، وهشام يسترجع لما أخطأه. فبايعوه.
وغسل سليمان وكفن وصلى عليه عمر بن عبد العزيز ودفن. فلما دفن أتي عمر بمراكب الخلافة ولكل دابة سائس، فقال: ماهذا؟ فقيل: مراكب الخلافة. قال: دابتي أوفق لي، وركب دابته وصرفت تلك الدواب، ثم أقبل سائراً، فقيل له: أمنزل الخلافة؟ فقال: فيه عيال أبي أيوب، يعني سليمان، وفي فسطاطي كفاية حتى يتحولوا. فأقام في منزله حتى فرغوه. قال رجاء: فأعجبني ما صنع في الدواب ومنزل سليمان، ثم دعا كاتباً فأملى عليه كتاباً واحداً وأمره أن ينسخه ويسيره إلى كل بلد. وبلغ عبد العزيز بن الوليد، وكان غائباً، عن موت سليمان، ولم يعلم ببيعة عمر، فعقد لواء ودعا إلى نفسه، فبلغه بيعة عمر بعهد سليمان وأقبل حتى دخل عليه، فقال له عمر: بلغني أنك بايعت من قبلك وأردت دخول دمشق! فقال: قد كان ذاك وذلك أنه بلغني أن سليمان لم يكن عهد لأحد فخفت على الأموال أن تنهب. فقال عمر: لو بايعت وقمت بالأمر لم أنازعك فيه ولقعدت في بيتي. فقال عبد العزيز: ما أحب أنه ولي هذا الأمر غيرك، وبايعه، وكان يرجى لسليمان بتوليته عمر بن عبد العزيز وترك ولده. فلما استقرت البيعة لعمر بن عبد العزيز قال لأمرأته فاطمة بنت عبد الملك: أن أردت صحبتي فردي ما معك من مال وحلى وجوهر إلى بيت مال المسلمين فإنه لهم، فإني لا أجتمع أنا وأنت وهو في بيت واحد. فرددته جميعه. فلما توفي عمر وولي أخوها يزيد رده عليها وقال: أنا أعلم أن عمر ظلمك. قالت: كلا والله. وامتنعت من أخذه وقالت: ما كنت أطيعه حياً وأعصيه ميتاً. فأخذه يزيد وفرقه على أهله. ذكر ترك سب أمير المؤمنين علي عليه السلامكان بنو أمية يسبون أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، عليه السلام، إلى أن ولي عمر بن عبد العزيز الخلافة، فترك ذلك وكتب إلى العمال في الآفاق بتركه. وكان سبب محبته علياً أنه قال: كنت بالمدينة أتعلم العلم وكنت ألزم عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، فبلغه عني شيء من ذلك، فأتيته يوماً وهو يصلي، فأطال الصلاة، فقدت أنتظر فراغه، فلما فرغ من صلاته التفت إلي فقال لي:متى عملمت أن الله غضب على أهل بدر وبيعة الرضوان بعد أن رضي عنهم؟ قلت: لم أسمع ذلك. قال: فما الذي بلغني عنك في علي؟ فقلت: معذرة إلى الله وإليك! وتركت ما كنت عليه، وكان أبي إذا خطب فنال من علي، رضي الله عنه، تلجلج فقلت: يا أله إنك تمضي في خطبتك فإذا أتيت على ذكر علي عرفت منك تقصيراً؟ قال: أوفطنت لذلك؟ قلت: نعم. فقال: يا بني إن الذين حولنا لو يعلمون من علي ما نعلم تفروا عنا إلى أولاده. فلما ولي الخلافة لم يكن عنده من الرغبة في الدينا ما يرتكب هذا الأمر العظيم لأجلها، فترك ذلك وكتب بتركه وقرأ عوضه: " إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى " النحل:90 الآية؛ فحل هذا الفعل عند الناس محلا حسناً وأكثروا مدحه بسببه؛ فمن ذلك قوله كثير عزة: وليت فلم تشتم علياً ولن تخف ... برياً ولم تتبع مقالة مجرم تكلمت بالحق المبين وإنما ... تبين آيات الهدى بالتكلم وصدقت معروف الذي قلت بالذي ... فعلت فأضحى راضياً كل مسلم ألا إنما يكفي الفتى بعد زيغه ... من الأود البادي ثقاف المقوم فقال عمر حين أنشده هذا الشعر: أفلحنا إذاً. ذكر عدة حوادثوفي هذه السنة وجه عمر بن عبد العزيز إلى مسلمة، وهو بأرض الروم، يأمره بالقفول منها بمن معه من المسلمين، ووجه له خيلاً عتاقاً وطعاماً كثيراً، وحث الناس على معونتهم. وفيها أغارت الترك على أذربيجان فقتلوا من المسلمين جماعة، فوجه عمر حاتم بن النعمان الباهلي فقتل أولئك الترك ولم يفلت منهم إلا اليسير، وقدم على عمر منهم بخمسن أسيراً. وفيها عزل يزيد بن المهلب عن العراق ووجه إلى البصرة عدي بن أرطاة الفزاري وعلى الكوفة عبد الحميد ابن عبد الرحمن بن زبد بن الخطاب العدوي القرشي، وضم إليه أبا الزناد، وكان كاتبه، وبعث عدي في أثر يزيد بن المهلب موسى بن الوجيه الحميري.
وحج بالناس هذه السنة أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حازم، وكان عامل عمر على المدينة. وكان العامل على مكة عبد العزيز بن عبد الله بن خالد. وعلى الكوفة عبد الحميد بن عبد الرحمن، وعلى القضاء بها عامر الشعبي. وكان على البصرة عدي بن أرطاة، وعلى القضاء الحسن بن فعزله عدي واستقضى أياساً. واستعمل عمر بن عبد العزيز على خراسان الجراح بن عبد الله الحمي. في هذه السنة مات نافع بن جبير بن مطعم بن عدي بالمدينة. ومود ابن الربيع ولد على عهد رسول الله، مطلوب وأبو ظبيان بن حصين بن جندب الجنبي والد قابوس؛ ظبيان بالظاء المعجمة. وفيها توفي أو هاشم عبد الله بن محمد بن علي بن أبي طالب من سم سقيه عند عوده من الشام، وضع عليه سليمان بن عبد الملك من سقاه، فلما أحس بذلك عاد إلى محمد بن علي بن عبد الله بن عباس وهو بالحميمة فعرفه حاله وأعلمه أن الخلافة صائرة إلى ولده وأعلمه أن الخلافة صائرة إلى ولده وأعلمه كيف يصنع، ثم مات عنده. وفي أيام سليمان توفي عبيد الله بن شريح المغني المشهول. وعبد الرحمن بن كعب بن مالك أبو الخطاب. ثم دخلت سنة مائة ذكر خروج شوذب الخارجي في هذه السنة خرج شوذب، واسمه بسطام، من بني يشكر، في جوخى، وكان في ثمانين رجلاً، فكتب عمر بن عبد العزيز إلى عبد الحميد عاملة بالكوفة أن لا يحركهم حتى سفكوا دماء وفسدوا في الأرض، فإن فعلوا وجه إليهم رجلاً صليباً حازماً في جند. فبعث عبد الحميد محمد بن جرير بن عبد الله البجلي في ألفين وأمره بما كتب به عمر، وكتب عمر إلى بسطام يسأله عن مخرجه، فقدم كتاب عمر عليه وقد وقدم عليه محمد بن جرير، فقام بإزائه لا يترحك. فكان في كتاب عمر: بلغني أنك خرجت غضباً لله ولرسوله ولست أولى بذلك مني، فهلم إلي أناظرك، فإن كان الحق بأيدينا دخلت فيما دخل الناس، وإن كان في يدك نظرنا في أمرك. فكتب بسطام إلى عمر: قد أنصفت وقد بعثت إليك رجلين يدارسانك ويناظرنك. وأرسل إلى عمر مولى لبني شيبان حبشياً اسمه عاصم، ورجلاً من بني يشكر، فقدما على عمر بخناصرة فدخلا إليه، فقال لهما: ما أخرجكما هذا المخرج وما الذي نقمتم؟ فقال عاصم: ما نقمنا سيرتك، إنك لتتحرى العدل والإحسان، فاخبرنا عن قيامك بهذا الأمر أعن رضىً من الناس ومشورة أم ابتززتم أمرهم؟ فقال عمر: ما سألتهم الولاية عليهم ولا غلبتهم عليها، وعهد إلي رجل كان قبلي فقمت ولم ينكره على أحد ولم يكرهه غيركم، وأنتم ترون الرضا بكل من عدل وأنصف من كان من الناس، فاتركوني ذلك الرجل، فإن خالفت الحق ورغبت عنه فلا طاعة لي عليكم. قالا: بيننا وبينك أمر واحد قال: ما هو. قالا: رأيناك خالفت أعمال أهل بيتك وسميتها مظالم، فإن كنت على هدىً وهم على الضلالة فالعنهم وابرأ منهم. فقال عمر: قد علمت أنكم لم تخرجوا طلباً للدنيا ولكنكم أردتم الآخرة فأخطأتم طريقها، وإن الله، عز وجل، لم يبعث رسول صلى الله عليه وسلم ، لعاناً، وقال إبراهيم " فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم " إبراهيم:36. وقال الله، عز وجل: " أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده " الأنعام:90. وقد سميت أعمالهم ظلماً، وكفى بذلك ذماً ونقصاً، وليس لعن أهل الذنوب فريضة لا بد منها، فإن قلتم إنها فريضة فأخبرني متى لعنت فرعون؟ قال: ما أذكر متى لعنته. قال: أفيسعك أن لا تلعن فرعون وهو أخبث الخلق وشرهم ولا يسعني أن لا ألعن أهل بيتي وهم مصلون صائمون! قال: أما هم كفار بظلمهم؟ قال: لا لأن رسول الله، صلى الله عليه وسلم ، دعا الناس إلى الإيمان، فكان من أقر به وبشرائعه قبل منه، فإن أحدث حدثاً أقيم عليه الحد.
فقال الخارجي: إن رسول الله، " صلى الله عليه وسلم " ، دعا الناس إلى توحيد الله والإقرار بما نزل من عنده. قال عمر: فليس أحد منهم يقول لا أعمل بسنة رسول الله، ولكن القوم أسرفوا على أنفسهم على علم منهم أنه محرم عليهم، ولكن غلب عليهم الشقاء. قال عاصم: فابرأ مما خالف عملك ورد أحكامهم. قال عمر: أخبراني عن أبي بكر وعمر أليسا على حق؟ قالا: بلى. قال: أتعلمان أن أبا بكر حين قاتل أهل الردة سفك دماءهم وسبى الذراري وأخذ الأموال؟ قالا: بلى. قال: أتعلمان أن عمر رد السبايا بعده إلى عشائرهم بفدية؟ قالا: نعم. قال: فهل برئ عمر من أبي بكر؟ قالا:لا. قال: أفتراون أنتم من واحد منهما؟ قالا: لا. قال: فأخبراني عن أهل النهروان وهم أسلافكم هل تعلمان أن أهل الكوفة خرجوا فلم يسفكوا دماً ولم يأخذوا مالاً وأن من خرج إليهم من أهل البصرة قتلوا عبد الله بن خباب وجاريته وهي حامل؟ قالا: نعم. قال: فهل برئ من لم يقتل ممن قتل واستعرض؟ قالا: لا. قال: أفتبرأون أنتم من أحد من الطائفتين؟ قالا: لا. قال: أفيسعكم أن تتلوا أبابكر وعمر وأهل البصرة وأهل الكوفة وقد علمتم اختلاف أهمالهم ولا يسعني إلا البراءة من أهل بيتي والدين واحد! فاتقوا الله! فإنكم جهال تقبلون من الناس ما رد عليهم رسول الله، صلى الله عليه وسلم ، وتردون عليهم ما قبل، ويأمن عندكم من خاف عنده، ويخاف عندكم من أمن عنده، فإنكم يخاف عندكم من يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، وكان من فعل ذلك عند رسول الله آمنا وحقن دمه وماله، وأنتم تقتلونه، ويامن عندكم سائر أهل الأديان فتحرمون دماءهم وأموالهم. قال اليشكري: أرأيت رجلاً ولي قوماً وأموالهم فعدل فيها ثم صيرها بعده إلى رجل غير مأمون، أتراه أدى الحق الذي يلزمه لله، عز وجل، أو تراه قد سلم؟ قال: لا. قال: أفتسلم هذا الأمر إلى يزيد من بعدك وأنت تعرف أنه لا يقوم فيه بالحق؟ قال: إنما ولاه غيري والمسلمون أولى بما يكون منهم فيه بعدي. قال: أفترى ذلك من صنع من ولاه حقاً؟ فبكى عرم وقال: أنظراني ثلاثاً. فخرجا من عنده ثم عاد إليه فقال عاصم: أشهد أنك على حق. فقال عمر لليسكري: ما تقول أنت؟ قال: ما أحسن ما وصفت ولكني لا أفتات على المسلمين بأمر، أعرض عليهم ما قلت وأعلم ما حجتهم. فأما عاصم فأقام عند عمر، فأمر له عمر بالعطاء، فتوفي بعد خمسة عشر يوماً. فكان عم بن عبد العزيز يقول: أهلكني أمر يزيد وخصمت فيه، فأستغفر الله. فخاف بنو أمية أن يخرج ما بأيديهم من الأموال وأن يخلع يزيد ولاية العهد، فوضعوا على عمر من سقاه سماً، فلم يلبث بعد ذلك إلا ثلاثاً حتى مرض ومات، ومحمد بن جرير مقابل الخوارج لا يتعرض إليهم ولا يتعرضون إليه، كل منهم ينتظر عود الرسل من عند عمر بن عبد العزيز، فتوفي والأمر على ذلك. ذكر القبض على يزيد بن المهلب واستعمال الجراح على خراسان قيل: وفي هذه السنة كتب عمر بن عبد العزيز إلى عدي بن أرطأة يأمره بإنفاذ يزيد بن المهلب إليه موثقاً، وكان عمر قد كتب إليه أن يستخلف على عمله ويقبل إليه، فاستخلف مخلداً ابنه وقدم من خراسان ونزل واسطاً، ثم ركب السفن يريد البصرة، فبعث عدي بن أرطاة موسى بن الوجيه الحميري، فلحقه في نهر معقل عند الجسر، فأوثقه وبعث به إلى عمر بن عبد العزيز، فدعا به عمر، وكان يبغض يزيد وأهل بيته، ويقول: هؤلاء جبابرة ولا أحب مثلهم. وكان يزيد ببغض عمر ويقول: إنه مراءٍ، لما ولي عمر عرف يزيد أنه بعيد من الرياء، وملا دعا عمر يزيد سأله عن الأموال التي كتب بها إلى سليمان، فقال: كنت من سليمان بالمكان الذي قد رأيت، وإنما كتبت إلى سليمان لأسمع الناس به، وقد علمت أن سليمان لم يكن ليأخذني به. فقال له: لا أجد في أمرك إلا حبسك، فاتق الله وأد ما قبلك فإنها حقوق المسلمين ولا يسعني تركها.
وحبسه بحصن حلب، وبعث الجراح بن عبد الله الحكمي فسرحه إلى خراسان أميراً عليها، وأقبل مخلد بن يزيد من خراسان يعطي الناس، ففرق أموالاً عظيمة، ثم قدم على عمر فقال له: يا أمير المؤمنين إن الله صنع لهذه الأمة بولايتك وقد ابتلينا بك، فلا نكن نحن أشقى الناس بولايتك، علام تحبس هذا السيخ؟ أنا أتحمل ما عليه فصالحنني على ما تسأل. فقال عمر فقال له: يا أمير المؤمنين إن الله صنع لهذه الأمة بولايتك وقد ابتلينا بك، فلا نكن نحن أشقى الناس بولايتك، علام تحبس هذا الشيخ؟ أنا أتحمل ما عليه فصالحني على ما تسأل. فقال عمر: لا ألا أن يحمل الجميع. فقال: يا أمير المؤمنين إن كانت لك بينة فخذ بها وإلا فصدق مقالة يزيد واستحلفه فإن لم يفعل فصالحه. فقال عمر: ما آخذه إلا بجميع المال. فخرج مخلد من عنده، فقال عمر: هذا خير من أبيه. ثم لم يلبث مخلد إلا قليلاً حتى مات، فصلى عليه عمر بن عبد العزيزي، فقال: اليوم مات فتى العرب؛ وأنشد: بكوا حذيفة لم يبكوا مثله ... حتى تبيد خلائق لم تخلق فلما أبى يزيد أن يؤدي إلى عمر شيئاً ألبسه جبة صوف وحمله على جمل وقال: سيروا به إلى دهلك. فلما خرج ومروا به على الناس أخذ يقول: أما لي عشيرة؟ إنما يذهب إلى دهلك الفاسق واللص. فدخل سلامة بن نعيم الخولاني على عمر فقال: يا أمير المؤمنين اردد يزيد إلى محبسه فإني أخاف إن أمضيته أن ينزعه قومه، فإنهم قد عصبوا له. فرده إلى محبسه، فبقى فيه حتى بلغه مرض عمر. ذكر عزل الجراح واستعمال عبد الرحمن بن نعيم القشيري وعبد الرحمن بن عبد الله وقيل: في هذه السنة عزل عمر الجراح بن عبد الله الحكمي عن خراسان واستعمل عليها عبد الرحمن بن نعيم القشيري، وكان عزل الجراح في رمضان. وكان سبب ذلك أن يزيد لما عزل عن خراسان أرسل عامل العاق عاملاً على جرجان، فأخذ جهم بن زحر الجعفي، وكان على جرجان عاملاً ليزيد بن المهلب، فحبسه وقيده وحبس رهطاً قدموا معه، ثم خرج إلى الجراح بخراسان، فأطلق أهل جرجان عاملهم، وقال الجراح لجهم: لولا أنك ابن عمي لم أوسغك هذا فقال جهم: لولا أنك ابن عمي لم آتك. وكان جهم سلف الجراح من قبل ابنتي الحصين بن الحارث، وأما كونه ابن عمه فلأن الحكم والجعفي ابنا سعد القشيري. فقال له الجراح: خالفت إمامك فاغز لعلك تظفر فيصلح أمرك عنده. فوجهه إلى الختل فغنم منهم ورجع، وأوفد الجراح إلى عمر وفداً رجلين من العرب ورجلاً من الموالي يكنى أبا الصيد، فتكلم العربيان والمولى ساكت، فقال عمر: ما أنت من الوفد؟ قال: بلى . قال: فما يمنعك من الكلام؟ فقال: يا أمير المؤمنين عشرون ألفاً من الموالي يغزون بلا عطاء ولا رزق، ومثلهم قد اسلموا من الذمة يؤخذون بالخراج، فأميرنا عصبي جافٍ يقوم على منبرنا فيقول: أتيتكم حفياً، وأنا اليوم عصبي، والله لرجل من قومي أحب إلي من مائة من غيرهم. وهو بعد سيف من سيوف الحجاج، قد عمل بالظلم والعدوان. قال عمر: إذن بمثلك يوفد. فكتب عمر إلى الجراح: انظر من صلى قبلك إلى القبلة فضع عنه الجزية. فسارع الناس إلى الإسلام، فقيل للجراح: إن الناس قد سارعوا إلى الإسلام نفوراً من الجزية فامتحنهم بالحنان. فكتب الجراح بذلك إلى عمر، فكتب عمر إليه: إن الله بعث محمداً، صلى الله عليه وسلم ، داعياً ولم يبعثه خاتناً، وقال: إيتوني رجلاً صدوقاً أسأله عن خراسان. فقيل له: عليك بأبي مجلز. فكتب إلى الجراح : أن أقبل واحمل أبا مجلز وخلف على حرب خراسان عبد الرحمن بن نعيم العامري. فخطب الجراح وقال: يا أهل خراسان جئتكم في ثيابي هذه التي علي وعلى فرسي لم أصب من مالكم إلا حلية سيفي. ولم يكن عنده إلا فرس وبغلة. فسار عنهم، فلما قدم على عمر قال: متى خرجت؟ قال: في شهر رمضان. قال: صدق من وصفك بالجفاء، هلا أقمت حتى تفطر ثم تخرج!
وكان الجراح كتب إلى عمر: إني قدمت خراسان فوجدت قوماً قد أبطرتهم الفتنة، فأحب الأمور إليهم أن يعودوا ليمنعوا حق الله عليهم، فليس يكفهم إلا السيف والسوط، فكرهت الإقدام على ذلك إلا بإذنك. فكتب إليه عمر: يا ابن أم الجراح، أنت أحرص على الفتنة منهم، لا تضربن مؤمناً ولا معاهداً سوطاً إلا في الحق، واحذر القصاص، فإنك صائر إلى من يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وتقرأ كتاباً: " لا يغادر صغيرةً ولا كبيرةً إلا أحصاها " . فلما قدم الجراح على عمر وقدم أبو مجلز قال له عمر: اخبرني عن عبد الرحمن بن عبد الله، قال: يكافي الأكفاء ويعادي الأعداء، وهو أمير يفعل ما يشاء، ويقدم إن وجد من يساعده. قال: فعبد الرحمن بن نعيم؟ قال: يحب العافية والتأني وهو أحب إلي. فولاه الصلاة والحرب، وولى عبد الرحمن القشيري الخراج، وكتب إلى أهل خراسان: إني استعملت عبد الرحمن على حربكم، وعبد الرحمن بن عبد الله على خراجكم، وكتب إليهما يأمرهما بالمعروف والإحسان. فلم يزل عبد الرحمن بن نعيم على خراسان حتى مات عمر وبعد ذلك حتى قتل يزيد بن المهلب، ووجه مسلمة بن عبد العزيز الحارث بن الحكم فكانت ولايته أكثر من سنة ونصف ذكر ابتداء الدعوة العباسيةفي هذه السنة وجه محمد بن علي بن عبد الله بن عباس الدعاة في الآفاق. وكان سبب ذلك أم محمداً كان ينزل أرض الشراة من أعمال البلقاء بالشام، فسار أبو هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية إلى الشام إلى سليمان بن عبد الملك، فاجتمع به محمد بن علي فأحسن صحبته، واجتمع أو هاشم بسليمان وأكرمه وقضى حوائجه، ورأى من علمه وفصاحته ما حسده عليه وخافه، فوضع عليه من وقف على طريقه فسمه في لبن. فلما مات أو هاشم قصدوا محمداً وبايعوه وعادوا فدعوا الناس إليه، فأجابوهم، وكان الذين سيرهم إلى الآفاق جماعةً، فوجه ميسرة إلى العراق، ووجه محمد بن خنيس وأبا عكرمة السراج، وهو أبو محمد الصادق، وحيان العطار، خال إبراهيم بن سلمة، إلى خراسان، وعليها الجراح الحكمي، وأمرهم بالدجعاء إليه وإلى أهل بيته. فلقوا من لقوا. ثم انصرفوا بكتب من استجاب لهم إلى محمد بن علي، فدفعوها إلى ميسرة، فبعث بها ميسرة إلى محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، فاختار أبو محمد الصادق لمحمد بن علي ا ثني عشر رجلاً نقباء، منهم: سليمان بن كثير الخزاعي، ولاهز بن قريظ التميمي، وقحطبة بن شبيب الطائي، وموسى بن كعب التميمي، وخالد بن إبراهيم أبو داود من بني شيبان بن ذهل، والقاسم بن مجاشع التميم، وعمران بن إسماعيل أبو النجم مولى آل أبي معيط، ومالك بن الهيثم الخزاعي، وطلحة بن زريق الخزاعي، وعمر بن أعين أبو حمزة مولى خزاعة، وشبل بن طهمان أبو علي الهروي مولى لبني حنيفة، وعيسى بن أعين مولى خزاعة، واختار سبعين رجلاً، وكتب إليهم محمد بن علي كتاباً ليكون لهم مثالاً وسيرة يسرون بها. الحميمة بضم الحاء المهملة. والشراة بالشين المعجمة. ذكر عدة حوادثفي هذه السنة أمر عمر بن عبد العزيز أهل طرندة بالقفول عنها إلى ملطية، وطرندة وأغلة في البلاد الرومية من ملطية بثلاث مراحل، وكان عبد الله ابن عبد الملك قد أسكنها المسلمين بعد أن غزاها سنة ثلاث وثمانين، وملطية يومئذ خراب، وكان يأتيهم جند من الجزيرة يقيمون عندهم إلى أن ينزل الثلج ويعودون إلى بلادهم، فلم يزالوا كذلك إلى أن ولي عمر فأمرهم بالعود إلى ملطية وأخلى طرندة خوفاً على المسلمين من العدو وأخرب طرندة، واستعمل على ملطية جعونة بن الحارث أحد بني عامر بن صعصعة. وفيها كتب عمر بن عبد العزيز إلى ملوك السند يدعوهم إلى الإسلام على أن يملكهم بلادهم ولهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين، وقد كانت سيرته بلغتهم، فأسلم جيشه بن ذاهر، والملوك تسموا له بأسماء العب، وكان عمر قد استعمل على ذلك الثغر عمرو بن مسلم أخا قتيبة بن مسلم، فعزا بعض الهند، فظفر وبقي ملوك السن مسلمين على بلادهم أيام عمر ويزيد ابن عبد الملك، فلما كان أيام هشام ارتدوا عن الإسلام، وكان سببه ما نذكره إن شاء الله تعالى. وفيها أغزى عمر بن عبد العزيز الوليد بن هشام المعيطي وعمرو بن قيس الكندي الصائفة. وفيها استعمل عمر بن عبد العزيز عمر بن هبيرة الفزاري على الجزيرة عاملاً عليها.
وحج بالناس هذه السنة أبو بكر بن محمد بن عمرو. وكان العمال من تقدم ذكرهم إلا عامل خراسان. وكان على حربها عبد الرحمن ابن نعيم، وعلى خراجها عبد الرحمن بن عبد الله آخرها. وفيها استعمل عمر بن عبد العزيز إسماعيل بن عبد الله مولى بني مخزوم على إفريقية، واستعمل السمح بن مالك الخولاني على الأندلس، وكان قد رأى منه أمانةً وديانةً عند الوليد بن عبد الملك فاستعمله. في هذه السنة مات أبوالطفيل عامر بن واثلة بمكة، وهو آخر من مات من الصحابة. وفيها مات شهر بن حوشب، وقيل سنة اثنتي عشرة ومائة. وفيها توفي القاسم بن مخيمرة الهمداني. وفيها توفي مسلم بن يسار الفقيه، وقيل: سنة إحدى ومائة. وفيها توف أبو أمام أسعد بن سهل بن حنيف، وكان ولد على عهد النبي، صلى الله عليه وسلم ، فسماه وكناه بجده لأمه أبي أمام أسعد بن زراه، كان قد مات قبل بدر. وفيها توفي بسر بن سعد مولى الحضرميين؛ " لسر بضم الباء الموحدة، وبالسين المهملة. وعيسى بن طلح بن عبد الله التيمي. ومحمد بن جبير بن مطعم. وربيعي بن حراس الكوفي؛ جراش بكسر الحاء المهلمة، وبالراء المهملة، وقيل سنة أربع ومائة. وحنش بن عبد الله الصنعاني، كان من أصحاب علي، فلما قتل انتقل إلى مصر، وهو أول من اختط جامع سرقسطة بالأندلس؛ حنش بالحاء المهملة والنون المفتوحتين، والشين المعجمة. ثم دخلت سنة إحدى ومائة ذكر هر ابن المهلب قد ذكرنا حبس يزيد بن المهلب، فلم يزل محبوساً حتى اشتد مرض عمر بن العزيز، فعمل في الهرب، فخاف يزيد بن عبد الملك لأنه قد عذب أصهاره آل أبي عقيل، وكانت أم الحجاج بنت محمد بن يوسف، وهي ابنة أخي الحجاج، زوجة يزيد بن عبد الملك. وكان سبب تعذيبهم أن سليمان بن عبد الملك لما ولي الخلافة طلب آل أبي عقيل فأخذهم وسلمهم إلى يزيد بن المهلب ليخلص أموالهم، فعذبهم وبعث ابن المهلب إلى البلقاء من أعمال دمشق، وبها خزائن الحجاج بن يوسف وعياله، فنقلهم وما معهم إليه، وكان فيمن أتي به أم الحجاج زوجة يزيد ابن عبد الملك، وقيل: بل أخت لها، فعذبها، فأتى يزيد عبد الملك إلى ابن المهلب في منزله فشفع فيها، فلم يشفعه، فقال: الذي قررتم عليها أنا أحمله، فلم يقبل منه، فقال لابن المهلب: أما والله لئن وليت من الأمر شيئاً لأقطعن منك عضوا! فقال ابن المهلب: وأنا والله لئن كان ذلك لأرمينك بمائة ألف سيف. فحمل يزيد بن عبد الملك ما كان عليها، وكان مائة ألف دينار، وقيل أكثر من ذلك. فلما اشتد مرض عمر بن عبد العزيز خاف ابن المهلب من يزيد بن عبد الملك، فأرسل إلى مواليه، فأعدوا له إبلاً وخيلاً وواعدهم مكاناً يأتيهم فيه، فأرسل إلى عامل حلب مالاً وإلى الحرس الذين يحفظونه وقال: إن أمير المؤمنين قد ثقل وليس برجاء، وإن ولي يزيد يسفك دمي. فأخبره، فهرب إلى المكان الذي أعد أصحابه فيه، فركب الدواب وقصد البصرة، وكتب إلى عمر بن عبد العزيز كتاباً يقول: إني لو وثقت بحياتك لم أخرج من محبسك، ولكني خفت أن يلي يزيد فيقتلني شر قتلة. فورد كتاب وبه رمق، فقال: الهم إن كان يري بالمسلمين سوءاً فألحقه به وهضه فقد هاضني. ومر يزيد في طريقه بالهذيل بن زفر بن الحارث، وكان يخافه، فلم يشعر الهذيل إلا وقد دخل يزيد منزله ودعا بلبن فشربه، فاستحيا منه الهذيل وعرض عليه خيله وغيرها، فلم يأخذ منه شيئاً. وقيل في سبب خوف ابن المهلب من يزيد بن عبد الملك ما يأتي ذكره إن شاء الله تعالى. ذكر وفاة عمر بن عبد العزيزقيل: توفي عمر بن عبد العزيز في رجب سنة إحدى ومائة، وكانت شكواه عشرين يوماً، ولما مرض قيل له: لو تداويت. قال: لو كان دوائي في مسح أذني ما مسحتها، نعم المذهوب إليه ربي. وكان موته بدير سمعان، وقيل: بخناصرة، ودفن بدير سمعان. وكانت خلافته سنتين وخمسة أشهر، وكان عمره تسعاً وثلاثين سنة وأشهراً، وقيل: كان عمره أربعين سنة وأشهراً، وكانت كنيته أباحفص، وكان يقال له أشبح بني أمية، وكان قد رمحته دابة من دواب أبيه فشجته وهو غلام، فدخل على أمه فضمته إليها وعذلت ألاه ولامته حيث لم يجعل معه حاضناً، فقال لها عبد العزيز: اسكتي يا أم عاصم فطوباك إن كان أشبح بني أمية.
قال ميمون بن مهران: قال عمر بن عبد العزيز: لما وضعت الوليد في حفرته تظرت فإذا وجهه أسود، فإذا مت ودفنت فاكشف عن وجهي؛ ففعلت فرأيته أحسن مما كان أيام تنعمه. وقيل: كان ابن عمر يقول: ياليت شعري من هذا الذي من ولد عمر في وجهه علامة يملأ الأرض عدلاً؟ وكانت أمر عمر بن عبد العزيز أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب، وعو عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية، ورثاه الشعراء فأكثروا، فقال كثير عزة: أقول لما أتاني ثم مهلكه ... لا تبعدن قوام الحق والدين قد غادروا في ضريح اللحد منجدلاً ... بدير سمعان قسطاس الموازين ورثاه جرير والفرزدق وغيرهما. ذكر بعض سيرتهقبل: لما ولي الخلافة كتب إلى يزيد بن المهلب: أما بعد فإن سليمان كان عبداً من عابد الله أنعم الله عليه عليه ثم قبضه واستخلفني، ويزيد بن عبد الملك من بعدي إن كان، وإن الذي ولاني الله من ذلك من ذلك وقدر لي ليس علي بهين، ولو كانت رغبتي في اخاذ أزواج أو اعتقاد أموال، لكان في الذي أعطاني من ذلك ما قد بلغ بن أفضل ما بلغ بأحد من خلافة، وأنا أخاف فيما ابتليت به حساباً شديداً ومسألة غليظة إلا ما عفا الله ورحم، وقد بايع من قبلنا فبايع من قبلك. فلما قرأ الكتاب قيل له: لست من عماله لأن كلامه ليس ككلام من مضى من أهله. فدعا يزيد الناس إلى البيعة، فبايعوا. قال مقاتل بن حيان: كتب عمر إلى عبد الرحمن بن نعيم: أما بعد فاعمل عمل من يعلم أن الله لا يصلح عمل المفسدين. قال طفيل بن مرداس: كتب عمر إلى سليمان بن أبي السري: ان اعمل خانات، فمن مر بك من المسلمين فاقروه يوماً وليلة وعهدوا دوابهم ومن كانت به علة فاقروه يويمين وليلتين، وإن كان منقطعاً به فأبلغه بلده. فما أتاه كتاب عمر قال له أهل سمرقند: قتيبة ظلمنا وغدر بنا فأخذ بلادنا، وقد أظهر الله العدل والإنصاف فأذن لنا فليقدم منا وفد على أمير المؤمنين. فأذن لهم، فوجهوا وفداً إلى عمر، فكتب لهم إلى سليمان: إن أهل سمرقند شكروا ظلماً وتحاملاً من قتيبة عليهم حتى أخرجهم من أرضهم، فإذا أتاك كتابي فأجلس لهم القاضي فلينظر في أمرهم، فإن قضى لهم فأخرج العرب إلى معسكرهم كما كانوا قبل أن يظهر عليهم قتيبة. قال: فأجلس لهم سليمان جميع بن حاضر القاضي، فقضى أن يخرج عرب سمرقند إلى معسكرهم وينابذوهم على سواء فيكون صلحاُ جديداً أو ظفراً عنوةً. فقال أهل الصغد: بلى نرضى بما كان ولا نحدث حرباً، وتراضوا بذلك. قال دواد بن سليمان الحميد: كتب عمر إلى عبد الحميد: أما بعد فإن أهل الكوفة قد أصابهم بلاء وشدة وجور في أحكام الله وسنة خبيثة سنها عليهم عمال السوء، وإن قوام الدين العدل والإحسان، فلا يكونن شيء أهم إليك من نفسك، فإنه لا قليل من الإثم، ولا تحمل خراباً على عامر ولا عامراً على خراب. انظر الخراب وخذ من ما أطاق وأصلحه حتى يعمر، ولا يؤخذ من العامر إلا وظيفة الخراج في رفق وتسكين لأهل الأرض، ولا تأخذن أجور الضرابين ولا هدية النوروز والمهرجان ولا ثمن الصحف، ولا أجور الفتوح ولا أجور البيوت، ولا درهم النكاح، ولا خراج على من أسلم من أهل الأرض، فاتبع في ذلك أمري فإني قد وليتك من ذلك ما ولأني الله، ولا تعجل دورني بقطع ولا صلب حتى تراجعني فيه، وانظر من أراد من الذرية أن يحج فعجل له مائة ليحج بها، والسلام. قال عثمان بن عبد الحميد: حدثني أبي قال: قالت فاطمة بنت عبد الملك، رحمها الله، امرأة عمر: لما مرض عمر اشتد قلقه ليلة، فسهرنا معه، فلما أصبحنا أمرت وصيفاً له يقال له مرثد ليكون عنده، فإن كانت له حاجة كنت قريباً منه، ثم نمنا، فلما انتفخ النهار استيقظت فتوجهت إليه فرأيت مرثداً خارجاً من البيت نائماً، فقلت له: ما أخرجك؟ قال: هو أخرجني، وقال لي: إني أرى شيئاً ما هو بإنس ولا جن، فخرجت فسمعته يتلو: " تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتقين " القصص:83. قالت: فدخلت فوجدته بعدما دخلت قد وجه نفسه للقبلة وهو ميت.
قال مسلمة بن عبد الملك: دخلت على عمر أعوده فإذا عليه قميص وسخ، فقلت لا مرأته فاطمة، وكانت أخت مسلمة: اغسلوا ثياب أمير المسلمين. فقالت: نفعل. ثم عدت فإذا القميص على حاله. فقلت: ألم آمركم أن تغسلوا قميصه؟ فقالت: والله ما له غيره. قيل: وكانت نفقته كل يوم درهمين. قيل: وكان عبد العزيز قد بعث ابنه إلى المدينة ليتأدب بها، فكتب إلى صالح بن كيسان أن يتعاهده، فأبطأ عمر يوماً عن الصلاة، فقال: ما حبسك؟ فقال: كانت مرجلتي تصلح شعري، فكتب إلى أبيه بذلك، فأرسل أبوه رسولاً، فلم يزل حتى حلق شعره. وقال محمد بن علي الباقر: إن لكل قوم نجبيبه، وإن نجيبة بني أمية عمر بن عبد العزيز، وإنه يبعث يوم القيامة أمه وحده. وقال مجاهد: أتينا عمر نعلمه، فلم نبرح حتى تعلمنا منه. وقال ميمون: كانت العلماء عند عمر تلامذه.وقيل لعمر: ما كان بدء إنابتك؟ قال: أردت ضرب غلام لي فقال: اذكر ليلةً صبيحتها يوم القيامة. وقال عمر: ما كذبت منذ علمت أن الكذب يضر أهله. وقال رياح بن عبيدة: خرج عمر بن عبد العزيز وشيخ متوكئ على يده، فلما فرغ ودخل قلت: أصلح الله الأمير، من الشيخ الذي كان متوكئاً على يدك؟ قال: أرأيته؟ قلت نعم قال: ذاك أخي الخضر أعلمني أني سألي أمر هذه الأمة وأني سأعدل فيها. قال: وأتاه أصحاب مراكب الخلافة يطلبون علفها، فأمر بها فبيعت، وجعل أثمانها في بيت المال وقال: تكفيني بغلتي هذه. فقال: ولما رجع من جنازة سليمان بن عبد الملك رآه مولى له مغتماً فسأله، فقال: ليس أحد من أمة محمد في شرق الأرض ولا غربها إلا وأنا أريد أن أؤدي إليه حقه من غير طلب منه. قال: ولما ولي الخلافة قال لأمرأته وجواريه إنه قد شغل بما في عنقه عن النساء، وخيرهن بين أن يقمن عنده أو يفارقنه، فبكين واخترن المقام معه. قال: ولما ولي عمر بن عبد العزيز صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، وكانت أول خطبة خطبها ثم قال: أيها الناس من صحبنا فليصحبنا بخمس وإلا فلا يقربنا: يرفع إلينا حاجة من لا يستطيع رفعها، ويعيننا على الخير بجهده، ويدلنا من الخير على ما نهتدي إليه، ولا يغتابن أحداً، ولا يعترض في ما لا يعنيه. فانقشع الشعراء والخطباء وثبت عنده الفقهاء والزهاد وقالوا: ما يسعنا أن نفارق هذا الرجل حتى يخالف قوله فعله. قال: فلما ولي الخلافة أحضر قريشاً ووجوه الناس فقال له: إن فدك كانت بيد رسول الله، صلى الله عليه وسلم ، فكان يضعها حيث أراه الله، ثم وليها أبو بكر كذلك، ثم أقطعها مروان، ثم إنها صارت إلي ولم تكن من مالي أعود منها علي، وإني أشهدكم أني قد رددتها على ما كانت عليه في عهد رسول الله، صلى الله عليه وسلم ؛ قال: فانقطعت ظهور الناس ويئسوا من الظلم. قال: وقال عمر بن عبد العزيز لمولاه مزاحم: إن أهلي أقطعوني ما لم يكن إلي أن آخذه ول لهم أن يعطونيه، وإني قد هممت بردة على أربابه. قال: فكيف نصنع بولدك؟ فجرت دموعه وقال: أكلهم إلى الله. قال: وجد لولده ما يجد الناس، فخرج مزاحم حتى دخل على عبد الملك بن عمر فقال ل: إن أمير المؤمنين قد عزوم على كذا وكذا، وهذا أمر يضركم وقد نهيته عنه. فقال عبد الملك: بئس وزير الخليفة أنت! ثم قام فدخل على أبيه وقال له: إن مزاحماً أخبرني بكذا وكذا فما رأيك؟ قال: إني أريد أن أقوم به العشية. قال: عجله فما يؤمنك أن يحدث لك حدث أو يحدث بقلبك حدث؟ فرفع عمر يديه وقال: الحمد الله الذي جعل من ذريتي من يعينني على ديني! ثم قام به من ساعته في الناس وردها.
قال: لما ولي عمر الخلافة أخذ من أهله ما بأيديهم وسمى ذلك مظالم، ففزع بنو أمية إلى عمته فاطمة بنت مروان، فأتته فقالت له: تكلم أنت يا أمير المؤمنين. فقال: إن الله بعث محمداً، صلى الله عليه وسلم ، رحمةً ولم يبعثه عذاباً إلى الناس كافة، ثم اختار له ما عنده وترك للناس نهراً شربهم سواء، ثم ولي أبو بكر فترك النهر على حاله، ثم ولي عمر فعمل عملهما، ثم لم يزل النهر يستقي منه يزيد ومروان وعبد الملك ابنه والوليد وسليمان ابنا عبد الملك حتى أفض الأمر إلي وقد يبس النهر الأعظم فلم يرو أصحابه حتى يعود إلى ما كان عليه. فقالت: حسبك، قد أردت كلامك فأما إذا كانت مقالتك هذه فلا أذكر شيئاً أبداً. فرجعت إليهم فأخبرتهن كلامه. وقد قيل: إنها قالت له: إن بني أمية يقولون كذا وكذا، فلما قال لها هذا الكلام قالت له: إنهم يحذرونك يوماً من أيامهم، فغضب وقال: كل يوم أخافه غير يوم القيامة فلا أمنت شره. فرجعت إليهم فأخبرتهم وقالت: أنتم فعلتم هذا بأنفسكم، تزوجتم بأولاد عمر بن الخطاب فجاء يشبه جده. فسكتوا. قال: وقال سفيان الثوري: الخلفاء خمسة: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وعمر بن عبد العزيز، وما كان سواهم فهم منتزون. قال: وقال الشافعي مثله، قال: وكان يكتب إلى عماله بثلاث، فهي تدور بينهم: بإحياء سنة أو إطفاء بدعة، أو قسم في مسكنة، أورد مظلمة. قال: وكانت فاطمة بنت الحسين بن علي تثني عليه وتقول: لو كان بقي لنا عمر بن عبد العزيز ما احتجنا بعهده إلى أحد. قالت فاطمة امرأته: دخلت عليه وهو في مصلاة ودموعه تجري على لحيته فقلت: أحدث شيء؟ فقال: إني تقلدت أمر أمة محمد فتفكرت في الفقير الجائع والمريض الضائع والغازي والمظلوم المقهور والغريب الأسير والشيخ الكبير وذي العيال الكثير والمال القليل وأشباههم في أقطار الأرض فعلمت أن ربي سيسألني عنهم يوم القيامة، وأن خصمي دونهم محمد، صلى الله عليه وسلم، إلى الله، فخشيت أن لا تثبت حجتي عند الخصومة، فرحمت نفسي فبكيت. قيل: ولما مرض ابنه عبد الملك مرض موته، وكان من أشد أعوانه على العدل، دخل عليه عمر فقال له: يا بني كيف تجدك؟ قال: أجدني في الحق. قال: يا بني أن تكون ميزاني أحب إلي من أن أكون في ميزانك. فقال ابنه: يا أبتاه لأن يكون ما تحب أحب إلي من أن يكون ما أحب. فمات في مرضه وله سبععشرة سنة. قيل: وقالعبد الملك لأبيه عمر: يا أمير المؤمنين ما تقول لربك إذا أتيته وقد تركت حقاً لم تحيه وباطلاً لم تمته؟ فقال: يا بني إن أباك وأجدادك قد دعوا الناس عن الحق فانتهت الأمور إلي وقد أقبل شرها وأدبر خيرها، ولكن أيس حسناً ألا تطلع الشمس على في يوم إلا أحييت فيه حقاً وأمت فيه باطلاً حتى يأتيني الموت فأنا على ذلك؟ وقال له أيضاً: يا أمير المؤمنين انقد لأمر الله وإن جاشت بي وبك القدور. فقال: يا بني إن بادهت الناس بما تقول أحوجوني إلى السيف ولا خير في خير لا يحيا إلا بالسيف، فكرر ذلك. قيل: كتب عمر بن عبد العزيز إلى عماله نسخة واحدة: أما بعد فإن الله، عز وجل، أكرم بالإسلام أهله، وشرفهم وأعزهم، وضرب الذلة والصغار على من خالفهم، وجعلهم خير أمة أخرجت للناس، فلا تولين أمور المسلمين أحداً من أهل ذمتهم وخراجهم فتتبسط عليهم أيديهم وألسنتهم فتذلهم بعد أن أعزهم الله، وتهينهم بعد أن أكرمهم الله تعالى، وتعرضهم لكيدهم والاستطالة عليهم، ومع هذا فلا يؤمن غشهم إياهم، فإن الله، عز وجل، يقول: " لا تتخذوا بطانةً من دونكم لا يألونكم خبالاً ودوا ما عنتم " آل عمران:118، " لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعضٍ " المائدة: 51؛ والسلام. فهذا القدر كافٍ في التنبيه على فضله وعدله. وفي هذه السنة مات محمد بن مروان في قول، وأبو صالح ذكوان. ذكر خلافة يزيد بن عبد الملكوفيها تولى يزيد بن عبد الملك بن مروان الخلافة، وكنيته أو خالد، بعهدٍ من أخيه سليمان بعد عمر بن عبد العزيز، ولما احتضر عمر قيل له: اكتب إلى يزيد فأوصه بالأمة، قال: بماذا أوصيه؟ إنه من بني عبد الملك. ثم كتب إليه: أما بعد فاتق يايزيد الصرعة بعد الغفلة حين لا تقال العثرة ولا تقدر على الرجعة، إنك تترك ما تترك لمن لا يحمدك وتصير إلى من لا يعذرك والسلام.
فلما ولي يزيد نزع أبا بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن المدينة واستعمل عبد الرحمن بن الضحاك بن قيس الفهري عليها، واستقضى عبد الرحمن سلمة بن عبد الله بن عبد الأسد المخزومي، وأراد معاضة ابن حزم فلم يجد عليه سبيلاً، حتى شكا عثمان بن حيان إلى يزيد بن عبد الملك من ابن حزم وأنه ضربه حدين وطلب منه أن يقيده منه، فكتب يزيد إلى عبد الرحمن بن الضحاك كتاباً: أما بعد فانظر فيما ضرب ابن حزم ابن حيان، فإن كان ضربه في أمر بينٍ أو أمر يختلف فيه فلا تلتفت إليه. فأرسل ابن الضحاك فأحضر ابن حزم وضربه حدين في مقام واحد ولم يسأله عن شيء. وعمد يزيد إلى كل ما صنعه عمر بن عبد العزيز مما لم يوافق هواه فرده ولم يخف شناعة عاجلة ولا إثماً عاجلاً، فمن ذلك أن محمد بن يوسف أخا الحجاج بن يوسف كان على اليمين، فجعل عليهم خراجاً مجدداً، فلما ولي عمر بن عبد العزيز كتب إلى عامله يأمره بالاقتصار على العشر ونصف العشر وترك ما جدده محمد بن يوسف وقال: لأن يأتيني من اليمن حصة ذرة أحب إلي من تقرير هذه الوضيعة، فلما ولي يزيد بعد عمر أمر بردها وقال لعالمه: خذها منهم ولو صاروا حرضاً، والسلام. ذكر مقتل شوذب الخارجيقد ذكرنا خروجه ومراسلته عمر بن عبد العزيز المناظرته، فلما مات عمر أحب عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب، وهو الأمير على الكوفة، أن يحظى عند يزيد بن عبد الملك، فكتب إلى محمد بن جرير يأمره بمناجزة شوذب، واسمه بسطام، ولم يرجع رسولاً شوذب ولم يعلم بموت عمر. فلما رأوا محمداً يستعد للحرب أرسل إليه شوذب: ما أعجلكم قبل انقضاء المدة! أليس قد تواعدنا إلى أن يرجع الرسولان؟ فأرسل محمد: إنه لا يسعنا ترككم على هذه الحال، فقالت الخوارج: ما فعل هؤلاء هذا إلا وقد مات الرجل الصالح. فاقتتلوا فأصيب من الخوارج نفر وقتل الكثير من أهل الكوفة وانهزموا، وجرح محمد بن جرير في استه، فدخل الكوفة وتبعهم الخوارج حتى بلغوا الكوفة ثم رجعوا إلى مكانهم. وأقام شوذب ينتظر صاحبيه، فقدما عليه وأخبراه بموت عمر، ووجه يزيد من عند تميم بن الحباب في ألفين قد أرسلهم، وأخبرهم أن يزيد لا يفارقهم على ما فارقهم عليه عمر، فلعنوه ولعنوا معه وحاربوه فقتلوه وقتلوا أصحابه، ولجأ بعضهم إلى الكوفة وبعضهم إلى يزيد. فأرسل إليهم يزيد نجدة بن الحكم الأزدي في جمع، فقتلوه وهزموا أصحابه، فوجه إليهم يزيد السحاج بن وداع في ألفين، فقتلوه وهزموا أصحابه، وقتل منهم نفر، منهم هدبه ابن عم شوذب. فقال أيوب بن خولي يرثيهم: تركنا تميماً في الغبار ملحباً ... تبكي عليه عرسه وقرائبه وقد أسلمت قيس تميماً ومالكاً ... كما أسلم الشحاج أمس أقاربه وأقبل من حران يحمل رايةً ... يغالب أمر الله والله غالبه فيا هدب للهيحا ويا هدب للندى ... ويا هدب للخصم الألد يحاربه وياهدب كم من ملجم قد أجبته ... وقد أسلمته للرياح جوالبه كان أبو شيبان خير مقاتل ... يرجى وخشى حربه من يحاربه ففاز ولا قى الله في الخير كله ... وخذمه بالسيف في الله ضاربه تزود من دنياه درعاً ومغفراً ... وعضباً حساماً لم تخنه مضاربه وأجرد محبرك السراة كأنه ... إذا انقض وافي الريش حجن مخالبه وأقام الخوارج بمكانهم حتى دخل مسلمة بن عبد الملك الكوفة، فشكا إليه أهل الكوفة مكان شوذب وخوفوه منه، فأرسل إليه مسلمة سعيد بن عمرو الحرشي، وكان فارساً، في عشرة آلاف، فأتاه وهو بمكانه، فرأى شوذب وأصحابه ما لا قبل لهم به، فقال لأصحابه: من كان يريد الشهادة فقد جاءته، ومن كان يريد الدنيا فقد ذهبت. فكسروا أغماد سيوفهم وحملوا فكشفوا سعيداً وأصحابه مراراً حتى خاف سعيد الفضيحة، فوبخ أصحابه وقال: من هذه الشرذمة لا أب لكم تفرون! يا أهل الشام يوماً كأيامكم! فحملوا عليهم فطحنوهم طحناً وقتلوا بسطاماً، وهو شوذب، وأصحابه. ذكر موت محمد بن مروان
وفي هذه السنة توفي محمد بن مروان بن الحكم أخو عبد الملك، وكان قد ولي الجزيرة وأرمينية وأذربيجان، وغزا الروم وأهل أرمينية عدة دفعات، وكان شجاعاً قوياً، وكان عبد الملك يحسده لذلك، فلما انتظمت الأمور لعبد الملك أظهر ما في نفسه له، فتجهز محمد ليسير إلى أرمينية، فلما ودع عبد الملك سأله عن سبب مسيره، فقال وأنشد: وإنك لا ترى طرداً لحر ... كإلصاقٍ به بعض الهوان فلو كنا بمنزلةٍ جميعاً ... جريت وأنت مضطرب العنان فقال له عبد الملك: أقسمت عليك لتقيمن، فوالله لا رأيت مني ما تكره، وصلح له؛ ولما أراد الوليد عزله طلب من يسد مكانه، فلم يقدم أحد عليه إلا مسلمة بن عبد الملك. ذكر دخول يزيد بن المهلب البصرة وخلعة يزيد بن عبد الملكقيل: وفي هذه السنة هرب يزيد بن المهلب من حبس عمر بن عبد العزيز، على ما تقدم، فلما مات عمر وبويع يزيد بن عبد الملك كتب إلى عبد الحميد ابن عبد الرحمن وإلى عدي بن أرطاة يأمرهما بالتحرز من يزيد ويعرفهما هربه، وأمر عدياً أن يأخذ من بالبصرة من آل المهلب، فأخذهم وحبسهم، فيهم: المفضل وحبيب ومروان بنو المهلب، وأقبل يزيد حتى ارتفع على القطقطانة، وبعث عبد الحميد جنداً إليهم عليهم هشام بن مساحق العامري، عامر بني لؤي، فساروا حتى نزلوا العذيب، ومر يزيد قريباً منهم فلم يقدموا عليه، ومضى يزيد نحو البصرة وقد جمع عدي بن أرطاة أهل البصرة وخندق عليها، وبعث على خيل البصرة المغيرة بن عبد الله بن أبي عقيل الثقفي، وجاء يزيد في أصحابه الذين معه، فالتقاه أخوه محمد بن المهلب فيمن اجتمع إليه من أهله وقومه ومواليه، فبعث عدي على كل خمس من أخماس البصرة رجلاً، فبعث على الأزد المغيرة بن زياد بن عمرو العتكي، وبعث على تميم محرز بن حمران السعدي، وعلى خمس بكر مفرج بن شيبان بن مالك بن مسمع، وعلى عبد القيس مالك بن المنذر بن الجارود، وعلى أهل العالية عبد الأعلى بن عبد الله بن عامر؛ وأهل العالية قريش وكنانة والأزد وبجيلة وخشعم وقيس عيلان كلها ومزنية، وأهل العالية والكوفية يقال لهم ربع أهل المدينة. فأقبل يزيد لا يمر بخيل من خيلهم ولا قبيلة من قبائلهم إلا تنحوا له عن طريقه، وأقبل يزيد حتى نزل د | |
|
| |
الشيخ عودة الشيخ عودة
عدد المساهمات : 1748 تاريخ التسجيل : 28/09/2008 العمر : 74
| موضوع: رد: كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير الثلاثاء فبراير 11, 2014 3:48 am | |
| وخرجت بنو عمرو بن تميم من أصحاب عدي فنزلوا المربد، وبعث إليهم يزيد بن المهلب مولى له يقال له دارس، فحمل عليهم فهزمهم، وخرج يزيد حين اجتمع الناس له حتى نزل جبانة بني يشكر، وهي النصف فيما بينه وبين القصر، فلقيه قيس وتميم وأهل الشام واقتتلوا هنيهة، وحمل عليهم أصحاب يزيد فانهزموا، وتبعهم ابن المهلب حتى دنا من القصر، فخرج إليهم عدي بنفسه، فقتل من أصحابه موسى بن الوجيه الحميري، والحارث بن المصرف الأودي، وكان من فرسان الحجاج وأشراف أهل الشام، وانهزم أصحاب عدي، وسمع إخوة يزيد، وهم في محبس عدي، الأصوات تدنو والنشاب تقع في القصر، وقال لهم عبد الملك: إني أرى أن يزيد قد ظهر ولا آمن من مع عدي من مضر وأهل الشم أن يأتونا فيقتلونا قبل أن يصل إلينا يزيد، وهم في محبس عدي، الأصوات تدنو والنشاب تقع في القصر، وقال لهم عبد الملك: إني أرى أن يزيد قد ظهر ولا آمن من مع عدي من مضر وأهل الشام أن يأتونا فيقتلونا قبل أن يصل إلينا يزيد، فأغلقوا الباب وألقوا عليه الرحل. ففعلوا، فلم يلبثوا أن جاءهم عبد الله بن دينار مولى بني عامر، وكان على حرس عدي، فجاء يشتد إلى الباب هو وأصحابه وأخذوا يعالجون الباب فلم يطيقوا قلعة، وأعجلهم الناس فخلوا عنهم. وجاء يزدي بن المهلب حتى نزل داراً لسليمان بن زياد بن أبيه، وإلى جنب القصر، وأتى بالسلاليم وفتح القصر، وأتي بعد بن أرطاة فحبسه وقال له: لولا حبسك إخوتي لما حبستك. فلما ظهر يزيد هرب رؤوس أهل البصرة من تميم وقيس ومالك بن المنذر فلحقوا بالكوفة، ولحق بعضهم بالشام، وخرج المغيرة بن زياد بن عمرو العتكي نحو الشام فلقي خالداً القسري وعمرو بن يزيد الحكمي ومعهما حميد بن عبد الملك بن المهلب قد أقبلوا بأمان يزيد بن المهلب وكل شيء أراده، فسألاه عن الخبر، فخلا بهما سراً من حميد وأخبرهما وقال: أين فارجعا. فرجعا وأخذا حميداً معهما، فقال لهما حميد: أنشدكما الله أن تخلفا ما بعثتما به، فإن ابن المهلب قابل منكما، وإن هذا وأهل بيته لم يزالوا لنا أعداء، فلا تسمعا مقالته. فلم يقبلا قوله ورجعا به. وأخذ عبد الحميد بن عبد الرحمن بالكوفة خالد بن يزيد بن المهلب وحمال ابن زحر، ولم يكونا في شيء من الأمر، فأوثقهما وسيرهما إلى الشام، فحبسهما يزيد بن عبد الملك، فلم يفارقا السجن حتى هلكا فيه، وأرسل يزيد ابن عبد الملك إلى الكوفة شيئاً على أهلها ويمتيهم الزيادة. وجهز أخاه سلمة ابن عبد الملك وابن أخيه العابس بن الوليد بن عبد الملك في سبعين ألف مقاتل من أهل الشام والجزيرة، وقيل: كانوا ثمانين ألفاً، فساروا إلى العراق. وكان مسلمة يعيب العابس ويذمه، فوقع بينهما اختلاف؛ فكتب إليه العباس: ألا نفسي فداك أبا سعيد ... وتقصر عن ملا حاتي وعذلي فلولا أن أصلك حين ينمى ... وفرعك منتهى فرعي وأصلي وأني أن رميتك هضت عظمي ... ونالتني إذا نالتك نبلي لقد أنكرتني إنكار خوفٍ ... يقصر منك عن شتمي وأكلي كقول المرء عمرو في الوافي ... أريد حياته ويريد قتلي قيل: إن الأبيات للعابس، وقيل: إنما تمثل بها فبلغ ذلك يزيد بن عبد الملك، فأرسل إليهما وأصلح بينهما، وقدما الكوفة ونزلا بالنخيلة، فاقل مسلمة: ليت هذا المزوني، عني ابن المهلب، لا كلفنا اتباعه في هذا البرد. فقال حيان النبطي مولى لشيبان: أنا أضمن لك أنه لا يبره الأرصة، يريد أضمن أنه لا يبرح العرصة. فقال له العباس: لا أم لك أنت بالنبطية أبصر منك بهذا! فقال حيان: أنبط الله وجهك أسقر أهمر ليس أليه طابئ الخلافة، يريد: أشقر أحمر ليس عليه طابع الخلافة. قال مسلمة: يا أبا سفيان لا يهولنك كلام العباس. فقال: إنه أهمق، يريد أحمق.
ولما سمع أصحاب بن المهلب وصول مسلمة وأهل والشام راعهم ذلك، فبلغ ابن المهلب، فخطب الناس وقال: قد رأيت أهل العسكر وخوفهم، يقولون: جاء أهل الشام ومسلمة، موما أهل الشام؟ هل هم إلا تسعة أسياف، سبعة منها إلي وسيفان علي؟ وما مسلمة إلا جرادة صفراء، أتاكم في برابرة وجرامقة وجراجمة وأنباط وأبناء فلاحين وأوباش وأخلاط، أوليسوا بشراً بألمون كما تألمون، وترجون من الله ما لا يرجون؟ أعيروني سواعدكم تصفقون بها وجوهمم وقد ولوا الأدبار. واستسقوا أهل البصرة ليزيد بن المهلب، وبعث عماله على الأهواز وفارس وكرمان، وبعث إلى خراسان مدرك بن المهلب، وعليها عبد الرحمن بن نعيم، فقال لأهلها: هذا مدرك قد أتاكم ليلقي بينكم الحرب وأنتم في بلاد عافية وطاعة، فسار بنو تميم ليمنعوه، وبلغ الأزد بخراسان ذلك،فخرج منهم نحو ألفي فارس، فلقوا مدركاً على رأس المفازة، فقالوا له: إنك أحب الناس إلينا وقد خرج أخوك، فإن يظهر فإنما ذلك لنا ونحن أسرع الناس إليكم وأحقه بذلك، وإن تكن الأخرى فما لك في أن تغشينا البلاء راحة. فانصرف عنهم، فلما استجمع أهل البصرة ليزيد خطبهم وأخبرهم أنه يدعوهم إلى كتاب الله وسنة نبيه ويحثهم على الجهاد ويزعم أن جهاد أهل الشام أعظم ثواباً من جهاد الترك والديلم. وكان الحسن البصري يسمع، فرفع صوته يقول: والله لقد رأيناك والياً ومولى عليك، فماينبغي لك ذلك. ووثب أصحابه فأخذوا بفمه وأجلسوه، ثم خرجوا من المسجد وعلى باب المسجد النضر بن أنس بن مالك يقول: يا عباد الله ما تنقمون من أن تجيبوا إلى كتبا الله وسنة نبيه، فوالله ما رأينا مذ ولوا علياً إلا أيام عمر بن عبد العزيز. فقال الحسن: والنضر أيضاً قد شهد. ومر الحسن بالناس وقد نصبوا الرايات وهم ينتظرون خروج يزيد، وهم يقولون: تدعونا إلى سنة العمرين، وإن من سنة العمرين أن يوضع في رجله قيد؛ ثم رد إلى محبسه. فقال ناس من أصحابه: لكأنك راضٍ عن أهل الشام؟ فقال: أنا راضٍعن أهل الشام؟ قبحهم الله وبرحهم! أليس هم الذين أحلوا حرم رسول الله، صلى الله عليه وسلم ، يقتلون أهله ثلاثاً؟ قد أبا حوها لأنباطهم وأقباطهم، يحملون الحرائر ذوات الدين، لا ينتهون عن انتهاك حرمة، ثم خرجوا إلى مال بيت الله الحرام فهدموا الكعبة وأوقدوا النيران بين أحجارها وأستارها، عليهم لعنة الله وسوء الدار. ثم إن يزيد سار من البصرة واستعمل عليها أخاه مروان بن المهلب وأتى واسطاً، وكان قد استشار أصحابه حين توجه نحو واسط، فقال له أخوه حبيب وغيره: نرى أن نخرج وننزل بفارس فنأخذ بالشعاب والعقاب وندنو من خراسان ونطاول أهل الشام، فإن أهل الجبال يأتون إليك وفي يدك القلاع والحصون. فقال: ليس هذا برأيي، تريدون أن تجعلوني طائراً على رأس جبل. فقال حبيب: إن الرأي الذي كان ينبغي أن يكون أول الأمر قد فات، قد أمرتك حيث ظهرت على البصرة أن توجه خيلاً عليها بعض أهلك إلى الكوفة، وإنما بها عبد الحميد، مررت به في سبعين رجلاً فعجز عنك فهو عن خيلك أعجز فسبق إليها أهل الشام وأكثر أهلها يرون رأيك، ولأن تلي عليهم أحب إليهم من أن يلي عليهم أهل الشام، فلم تطعني، وأنا أشير برأي، سرح مع بعض أهلك خيلاً كثيرة من خيلك فتأتي الجزيرة وبتادر إليها حتى ينزلوا حصناً من حصونهم، وتسير في أثرهم، فإذا أقبل أهل الشام يريدونك لم يدعوا جندك بالجزيرة يقبلون إليك فيقيمون عليهم فيحبسونهم عنك حتى تأتيهم، ويأتيك من بالموصل من قومك وينفض إليك أهل العراق وأهل الثغور وتقاتلهم في أرض رخيصة السعر، وقد جعلت العراق كله وراء ظهرك. قال: أكره أن أقطع جيشي. فلما نزل واسطاً أقام بها أياماً يسيرة وخرجت السنة ذكر عدة حوادثحج بالناس عبد الرحمن بن الضحاك بن قيس، وكان عامل المدينة. وكان على مكة عبد العزيز بن عبد الله بن خالد بن أسيد، وكان على الكوفة عبد الحميد، وعلى قضائها الشعبي وكانت البصرة قد غلب عليها ابن المهلب. وكان على خراسان عبد الرحمن بن نعيم.
وفيها عزل إسماعيل بن عبيد الله عن إفريقية واستعمل مكانه يزيد بن أبي مسلم كاتب الحجاج، فبقي عليها إلى أن قتل على ما نذكره إن شاء الله تعالى. وفيها توفي مجاهد بن جبر، وقيل سنة ثلاث، وقيل: وفيها توفي أبو صالح ذكوان. وفيها توفي عامر بن أكثمة الليثي. وأبو صالح السمان، وقيل له الزيات أيضاً لأنه كان يبعهما. وأبو عمرو سعيد بن إياس الشيباني، وكان عمره سبعاً وعشرين ومائة سنة، وليست له صحبة. وفي خلافة عمر توفي عبيدة بن أبي لبابة أبو القاسم العامري. ثم دخلت سنة اثنتين ومائة ذكر مقتل يزيد بن المهلب ثم إن يزيد بن المهلب سار عن واسط واستخلف عليها ابنه معاوية وجعل عنده بيت المال والأسراء، وسار على فم النيل حتى نزل العقر، وقدم أخاه عبد الملك بن المهلب نحو الكوفة، فاتقبله العباس بن الوليد بسورا، فاقتتلوا، فحمل عليهم أصحاب عبد الملك حملة كشوفهم فيها؛ ومعهم ناس من تميم وقيس من أهل البصرة، فنادوا: يا أهل الشام! الله الله إن تسلمونا! وقد اضطرهم أصحاب عبد الملك إلى النهر. فقال أهل الشام: لا بأس عليكم، إن لنا جولة في أول القتال؛ ثم كروا عليهم فانكشف أصحاب عبد الملك فانهزموا وعادوا إلى يزيد. وأقبل مسلمة يسير على شاطئ الفرات إلى الأنبار وعقد عليها الجسر، فعبر وسار حتى نزل على ابن المهلب، وأتى إلى ابن المهلب ناس من أهل الكوفة كثير ومن الثغور، فبعث على من خرج إليه من أهل الكوفة وربع أهل المدينة عبد الله بن سفيان بن يزيد بن المغفل الأزدي، وعلى ربع مذحج وأسد النعمان بن إبراهيم بن الأشتر، وعلى كندة وربيعة محمد بن إسحاق بن الأشعث، وعلى تميم وهمدان حنظلة بن عتاب بن ورقاء التميمي، وجمعهم جميعاً مع المفضل بن المهلب وأحصى ديوان ابن المهلب مائة ألف وعشرين ألفاً، فقال: لوددت أن لي بهم من بخراسان من قومي؛ ثم قام في أصحابه فحرصنهم على القتال. وكان عبد الحميد بن عبد الرحمن قد عسكر بالنخيلة وشق المياه وجعل على أهل الكوفة الأرصاد لئلا يخرجوا إلى ابن المهلب، وبعث بعثناً إلى مسلمة مع سبرة بن عبد الرحمن بن مخنف، وبعث مسلمة فعزل عبد الحميد عن الكوفة واستعمل عليها محمد بن عمرو بن الوليد بن عقبة، وهو ذو الشامة. فجمع يزيد رؤوس أصحابه فقال: قد رأيت أن أجمع اثني عشر ألفاً فأبعثهم مع أخي محمد بن المهلب حتى يبتوا مسلمة ويجملوا معهم البراذع والكف والزبيل لدفن خندقهم فيقاتلهم على خندقهم بقية ليلته، وأمده بالرجال حتى اصبح، فإذا أصبحت نهضت إليهم في الناس فأناجزهم، فإنني أرجو عند ذلك أن ينصرنا الله عليهم، فقال السميدع: إنا قد دعوناهم إلى كتاب الله وسنة نبيه،صلى الله عليه وسلم ، وقد زعموا أنهم قبلوا هذا منا، فليس لنا أن تمكر ولا نغدر حتى يردوا علينا ما زعموا أنهم قابلوه منا. وقال أبو رؤبة، وهو رأس الطائفة المرجئة، ومعه أصحاب له: صدق، هكذا ينبغي. فقال يزيد: ويحكم! أتصدقون بني أمية أنهم يعملون بالكتاب والسنة وقد ضيعوا ذلك منذ كانوا؟ إنهم يخادعونكم ليمكروا بكم فلا يسبقوكم إليه، إني لقيت بني مروان فما لقيت منهم أمكر ولا أبعد غدراً من هذه الجرادة الصفراء، يعني مسلمة. قالوا: لا نفعل ذلك حتى يردوا علينا ما زعموا أنهم قابلوه منا. وكان مروان بن المهلب بالبصرة يحث الناس على حرب أهل الشام، والحسن البصري يثبطهم، فلما بلغ ذلك مروان قام في الناس يأمرهم بالجد والاحتشاد، ثم قال: بلغني أن هذا الشيخ الضال المرائي، ولم يسمعه الناس، والله لو أن جاره نزع من خص داره قصبة لظل يرعف أنفه! وايم الله ليكفن عن ذكرنا وعن جمعه إليه سقاط الأبلة وعلوج فرات البصرة أو لأنحين عليه مبرداً خشناً. فلما بلغ ذلك الحسن قال: والله ما كره أن يكرمني الله بهوانه. فقال ناس من أصحابه: لو أرادك ثم شئت لمنعناك. فقال لهم: فقد خالفتكم إذ ذاك ما نهيتكم عنه، آمركم أن لا يقتل بعضكم بعضاً مع غيري، وآمركم أن يقتل بعضكم بعضاً دوني! فبلغ ذلك مروان فاشتد عليهم وطلبهم وتفرقوا، وكف عن الحسن.
وكان اجتماع يزيد بن المهلب ومسلمة بن عبد الملك بن مروان ثمانية أيام، فلما كان يوم الجمعة لأربع عشرة مضت من صفر بعث مسلمة إلى الوضاح أن يخرج بالسفن حتى يحرق الجسر، ففعل، وخرج مسلمة فعبأ جنود أهل الشام ثم قرب من ابن المهلب وجعل على ميمنته جبلة بن مخرمة الكندي، وعلى ميسرته الهذيل بن زفر بن الحارث الكلابي، وجعل العباس ابن الوليد على ميمنته سيف بن هانئ الهمداني، وعلى ميسرته سويد بن القعقاع التميمي، وكان مسلمة على الناس. وخرج يزيد بن المهلب وقد جعل على ميمنته حبيب بن المهلب، وعلى ميسرته المفضل. فخرج رجل من أهل الشام فدعا إلى المبارزة، فبرز إليه محمد بن المهلب، فضربه محمد، فاتقاه الرجل بيده وعلى كفه كف من حديد، فضربه محمد فقطع الكف الحديد، وأسرع السيف في كفه واعتنق فرسه فانهزم. فلما دنا الوضاح من الجسر ألهب فيه النار، فسطع دخانه، وقد أقبل الناس، ونشبت الحرب، ولم يشتد القتال، فلما رأى الناس الدخان وقيل لهم أحرق الجسر انهزموا فقيل ليزيد: قد انهزم الناس. فقال: مم انهزموا؟ هل كان قتال ينهزم من مثله؟ فقيل له: أحرق الجسر فلم يثبت أحد. فقال: قبحهم الله! بق دخن عليه فطار! ثم خرج معه أصحابه فقال: اضربوه وجوه المنهزيمين، ففعلوا ذلك بهم حتى كثروا عليه، واستقبله أمثال الجبال، فقال: دعوهم فوالله إني لأرجو أن لا يجمعني وإياهم مكان أبداً، دعوهم يرحمهم الله، غنم عدا في نواحيها الذئب! وكان يزيد لا يحدث نفسه بالفرار، وكان قد أتاه يزيد بن الحكم بن أبي العاص الثقفي، وهو ابن أخي عثمان بن أبي العاص صاحب رسول الله، صلى الله عليه وسلم ، ليس بينه وبين الحكم بن أبي العاص والد مروان نسب، وهو بواسط، فقال له: إن بني مروان قد باد ملكهم، فإن كنا لم تشعر بذلك فاشعر. فقال: ما شعرت؛ فقال ابن الحكم: فعش ملكاً أو مت كريماً فإن تمت ... وسيفك مشهور بكفك تعذر فقال: أما هذا فعسى. فلما رأى يزيد انهزام أصحابه قال: يا سميدع أرأيي أجود أم رأيك؟ ألم أعلمك ما يريد القوم؟ قال: بلى، فنزل سميدع ونزل يزيد في أصحابهما. وقيل: كان على فرس أشهب فأتاه آتٍ فقال: إن أخاك حبيباً قد قتل. فقال: لا خير في العيش بعده، قد كنت والله أبغض الحياة بعد الهزيمة وقد ازددت لها بغضاً، امضوا قدماً. فعلموا أنه قد استقتل، فتسلل عنه من يكره القتال وبقي معه جماعة جنسه وهو يتقدم، فكلما مر بخيل كشفها، أو جماعة من أهل الشام عدلوا عنه، وأقبل نحوه مسلمة لا يريد غيره. فلما دنا منه أدنى مسلمة فرسه ليركب، فعطف عليه خيول أهل الشام وعلى أصحابه فقتل يزيد والسميدع ومحمد بن المهلب. وكان رجل من كلب يقال له القحل بن عياش، فلما نظر إلى يزيد قال: هذا والله يزيد! والله لأقتلنه أو ليقتلني! فمن يحمل معي يكفيني أصحابه حتى أصل إليه؟ فحمل معه ناس فاقتتلوا ساعة وانفرج الفريقان عن يريد قتيلاً وعن القحل بآخر رمقه، فأومأ إلى أصحابه يريهم مكان يزيد وأنه هو قاتله وأن يزيد قتله. وأتى برأس يزيد مولى لبني مرة، فقيل له: أنت قلته؟ قال: لا، فلما أتى مسلمة سيرة إلى يزيد بن عبد الملك من خال بن الوليد بن عقبة بن أبي معيط. وقيل. وقيل: بل قتله الهذيل بن زفر بن الحارث الكلابي، ولم ينزل يأخذ رأسه أنفةً. ولما قتل يزيد كان المفضل بن المهلب يقاتل أهل الشام وما يدري بقتل يزيد ولا بهزيمة الناس، وكان كلما حمل على الناس انكشفوا، ثم يحمل حتى يخالطهم، وكان معه عامر بن العميثل الأزدي يضرب بسيفه ويقول: قد علمت أم الصبي المولود ... أني بنصل السيف غير رعديد
فاقتتلو ساعةً فانهزمت ربيعة، فاستقبلهم المفضل يناديهم: يا معشر ربيعة الكرة الكرة! والله ما كنتم بكشف ولا لئام ولا لكم هذه بعادة، فلا يؤتين أهل العراق من قبلكم، فدتكم نفسي! فرجعوا إليه يريدون الحملة، فآتى وقيل له: ما تصنع هاهنا وقد قتل يزيد وحبيب ومحمد وانهزم الناس منذ طويل؟ فتفرق الناس عنه، ومضى المفضل إلى واسط، فما كان من العرب أضرب بسيفه ولا أحسن تعبية للحرب ولا أغشى للناس منه. وقيل: بل أتاه أخوه عبد الملك وكره أن يخبره بقتل يزيد فيستقتل، فقال له: إن الأمير قد انحدر إلى واسط. فانحدر المفضل بمن بقي من ولد المهلب إلى واسط، فلما علم بقتل يزيد حلف أنه لا يكلم عبد الملك أبداً، فما كلمه حتى قتل بقندابيل. وكانت عينه أصيبت في الحرب، فقال: فضحني عبد الملك، ما عذري إذا رآني الناس فقالوا شيخ أعور مهزوم! ألا صدقني فقتلت؟ ثم قال: ولا خير في طعن الصناديد باقنا ... ولا في لقاء الحرب بعد يزيد فلما فارق المفضل المعركة جاء عسكر الشام إلى عسكر يزيد، فقاتلهم أبو رؤبة صاحب المرجئة ساعةً من النهار، وأسر ملمة نحو ثلاثمائة أسير فسرحهم إلى الكوفة، فحبسوا بها، فجاء كتاب يزيد بن عبد الملك إلى محمد بن عمرو ابن الوليد يأمره بضرب رقاب الأسرى، فأمر العريان بن الهيثم، وكان على شرطته، أن يخرجهم عشرين عشرين وثلاثين ثلاثين، فقام نحو ثلاثين رجلاً من تميم فقالوا: نحن انهزمنا بالناس فأبدأوا بنا قبل الناس. فأخرجهم العريان فضرب رقابهم وهم يقولون: انهزمنا بالناس فكان هذا جزاءنا. فلما فرغوا منهم جاء رسول بكتاب من عند مسلمة يأمره بترك قتل الآسرى. وأقبل مسلمة حتى نزل الحية. ولما أتت هزيمة يزيد إلى واسط أخرج ابنه معاوية اثنين وثلاثين أسيراً كانوا عنده فضرب أعناقهم، منهم عدي بن أرطاة، ومحمد بن عدي بن أرطاة، ومالك وعبد الملك ابنا مسمع وغيرهم، ثم أقبل حتى أتى البصرة ومعه المال والخزائن، وجاء المفضل بن المهلب، اجتمع أهل المهلب بالبصرة فأعدوا السفن وتجهزوا للركوب في البحر. وكان يزيد بن المهلب بعث وداع ابن حميد الزدي على قندابيل أميراً وقال له: إني سائر إلى هذا العدو ولو قد لقيتم لم أبرح العرصة حتى يكون لي أولهم، فغن ظفرت أكرمتك، وإن كانت الأخرى كنت بقندابيل حتى يقدم عليك أهل بيتي فيتحصنوا بها حتى يأخذوا لأنفسهم أماناً، وقد اخترتك لهم من بين قومي، فكن عند أحسن ظني. وأخذ عليه العود لينا صحن أهل بيته إن هم لجأوا إليه. فلما اجتمع آل المهلب بالبصرة حملوا عيالاتهم وأموالهم في السفن البحرية ثم لججوا في البحر حتى إذا كانوا بحيال كرمان خرجوا من سفنهم وحملوا عيالاتهم وأموالهم على الدواب، وكان المقدم عليهم المفضل بن المهلب، وكان بكرمان فلول كثيرة، فاجتمعوا إلى المفضل، وبعث مسلمة بن عبد الملك مدرك بن ضب الكلبى في طلبهم وفي أثر الفل، فأدرك مدرك المفضل، ومعه الفلول في عقبه، فعطفوا عليه فقاتلوه، واشتد قتالهم إياه، فقتل من أصحاب المفضل النعمان بن إبراهيم بن الأشتر النخعي، ومحمد بن إسحاق بن محمد بن الأشعث وهرب ابن المهلب فطلبوا الأمان فأمنوا، منهمك مالكم بن إبراهيم بن الأشتر، والورد بن عبد الله بن حبيب السعدي التميمي.
ومضى آل المهلب ومن معهم إلى قندابيل، وبعث مسلمة إلى مدرك بن ضب فرده وير في أثرهم هلال بن أحوز التميمي، لحقهم بقندابيل، فأراد أهل المهلب دخولها فمنعهم وداع بن حميد، وكان هلال بن أحوز لم يباينآل المهلب، فلما التقوا كان وداع على المينة وعبد الملك بن هلال على الميسرة، وكلاهما أزدي، فرفع هلال بن أحور راية أمان، فمال إليه وداع ابن حميد وعبد الملك بن هلال وتفرق الناس عن آل المهلب. فلما رأى ذلك مروان بن المهلب أراد أن ينصرف إلى النساء فيقتلهن لئلا يصرن إلى أولئك، فنهاه المفضل عن ذلك وقال: إنا لا نخاف عليهن من هؤلاء. فتركهن، وتقدموا بأسيافهم فقاتلوا حتى قتلوا من عند آخرهم، وهم: المفضل، وعبد الملك، وزياد، ومروان بنو المهلب، ومعاوية بن يزيد بن المهلب، والمنهال ابن أبي عيينه بن المهلب، وعمرو والمغيرة ابنا قبيصة بن لمهلب، وحملت رؤوسهم، وفي أذن كل واحد رقعة فيها اسمه إلا أبا عيينة بن المهلب، وعمر بن يزيد بن المهلب، وعثمان بن المفضل بن المهلب، فإنهم لحقوا برتبيل. وبعث هلال بن أحوز بنسائهم ورؤوسهم والاسرى من آل المهلب إلى مسلمة بالحيرة، فبعثهم مسلمة إلى يزيد بن عبد الملك، فسيرهم يزيد إلى العباس بن الوليد وهو على حلب، فنصب الرؤوس، وأراد مسلمة أن يبيع الذرية، فاشتراهم منه الجراح بن عبد الله الحكمي بمائة ألف وخلى سبيلهم، ولم يأخذ مسلمة من الجراح شيئاً. ولما بلغ يزيد بن عبد الملك الخبر بقتل يزيد سره لأنتصاره ولما في نفسه منه قبل الخلافة. وكان سبب العداوة بينهما أن ابن المهلب خرج من الحمام أيام سليمان ابن عبد الملك وقد تضمخ بالغالية فاجتاز بيزيد بن عبد الملك، وهو إلى جانب عمر بن عبد العزيز، فقال: قبح الله الدنيا، لوددت أم مثقال غالية بألف دينار فلا ينالها إلا كل شريف. فسمع ابن المهلب فقال له: بل وددت أن الغالية كانت في جبهة الأسد فلا ينالها إلا مثلي. فقال له يزيد بن عبد الملك: والله لئن وليت يوماً لأقتلنك. فقال له ابن المهلب: والله لئن وليت هذا الأمر وأنا حي لأضربن وجهك بخمسين ألف سيف، فهذا كان سبب البغض بينهما، وقيل غير ذلك، وقد تقدم ذكره. وأما الأسى فكانوا ثلاثة عشر رجلاً، فلما قدم بهم على يزيد بن عبد الملك وعنده كثير عزة فأنشد: حليم إذا ما نال عاقب مجملاً ... أشد العقاب أو عفا لم يثرب فعفواً أمير المؤمنين وحسبهً ... فما تأته من صالح لك يكتب أساؤوا فإن تصفح فإنك قادر ... وافضل حلمٍ حسبةً حلم مغضب قال يزيد بن عبد الملك: هيهات يا أبا صخر! طف بك الرحم لا سبيل إلى ذلك، إن الله، عز وجل، أفادنيهم بأعمالهم الخبيثة. ثم أمر بهم فقتلوا، وبقي غلام صغير فقال: اقتلوني فما أنا بصغير. فقال: انظروا أنبت. فقال: أنا أعلم بنفسي، قد احتملت ووطئت النساء. فأمر به يزيد فقتل. وأسماء الأسرى الذين قتلوا: المعارك وعبد الله والمغيرة والمفضل ومنجاب أولاد يزيد بن المهلب، ودريد والحجاج وغشان وشبيب والفضل أولاد المفضل بن المهلب، والمفضل بن قبيصة بن المهلب. وقال ثابت يرثى يزيد بن المهلب: أبى طول هذا الليل أن يتصرما ... وهاج لك الهم الفؤاد المتيما أرقت ولم تأرق معي أم خالد ... وقد أرقت عيناي حولاً محرما على هالكٍ هد العشيرة فقده ... دعته المنايا فاستجاب وسلما على ملكٍ بالعقر يا صاح جبنت ... كتائبه واستورد الموت معلما أصيب وأشهد ولو كنت شاهداً ... تسليت إن لم يجمع الحي مأتما وفي غير الأيام يا هند فاعلمي ... لطالب وترٍ نظرة إن تلوما فعلي إن مالت بي الريح ميلةً ... على ابن أبي ذبان أن يتندما أمسلم إن تقدر عليك رماحنا ... نذقك بها قيء الأساود مسلما وإن نلق للعباس في الدهر عشرةً ... نكافئه باليوم الذي كان قدما قصاصاً ولم نعد الذي كان قد أتى ... إلينا وإن كان ابن مروان أظلما ستعلم إن زلت بك النعل زلةً ... وأظهر أقوام حياءً مجمجما
من الظالم الجاني على أهل بيته ... إذا أحضرت أسباب أمر وأبهما وإنا لعطافون بالحلم بعدما ... نرى الجهل من قرط اللئيم تكرما وإنا لحلالون بالثغر لا نرى ... به ساكناً إلا الخميس العرمرما نرى أن للجيران حقاً وذمةً ... إذا الناس لم يرعوا الذي الجار محر وغنا لنقري الضيف من قمع الذرى ... إذا كان رفد الرافدين تجسما وأما أبو عيينة بن المهلب فأرسلت هند بنت المهلب إلى يزيد بن عبد الملك في أمانه، فآمنه، وبقي عمر وعثمان حتى ولي أسد بن عبد الله القسري خراسان، فكتب إليهما بأمانهما فقدماخراسان. قطنة بالنون، وهو ثابت بن كعب بن جابر العتكي الأزدي، أصيبت عينه بخراسان فجعل عليها قطنة فعرف بذلك، وهو يشتبه بثابت بن قطبة بالباء الموحدة، وهو خزاعي وذاك عتكي. ذكر استعمال مسلمة على العراق وخراسانولما فرغ مسلمة بن عبد الملك من حرب يزيد بن المهلب جمع له أخوه يزيد ابن عبد الملك ولاية الكوفة والبصرة وخراسان، فأقر محمد بن عمرو بن الوليد على الكوفة، وكان قد قام بأمر البصرة بعد آل المهلب شبيب بن الحارث التميمي، فبعث عليها مسلمة عبد الرحمن بن سليمان الكلبي، وعلى شرطتها وأحداثها عمرو بن يزيد التميمي، فأراد عبد الرحمن أن يستعرض أهل البصرة فيقتلهم، فنهاه عمرو واستمهله عشرة أيام وكتب إلى مسلمة بالخبر، فعزله وولى البصرة بعد الملك بن بشر بن مروان، وأقر عمرو بن يزيد على الشرط والأحداث. ذكر استعمال سعيد خذينة على خراسان لمسلمةاستعمل مسلمة على خراسان سعيد بن عبد العزيز بن الحارث بن الحكم بن أبي العاص بن أمية، وهو الذي يقال له سعيد خذينة، وإنما لقب بذلك لأنه كان رجلاً ليناً متنعماً، فدخل عليه ملك أبغر وسعيد في ثياب مصبغة وحوله مرافق مصبغة، فلما خرج من عنده قالا: كيف رأيت الأمير؟ قال: خذينة، فلقب خذينة، وخذينة هي الهقانة ربة البيت. وكان سعيد تزوج ابنة مسلمة، فلهذا استعمله على خراسان. فلما استعمل مسلمة سعيداً على خراسان سار إليها فاستعمل شعبة بن ظهير النهشلي على سمرقند، فسار إليها فقدم الصغد، وكان أهلها كفروا في ولاية عبد الرحمن ابن نعيم، ثم عادوا إلى الصلح، فخطب شعبة أهل الصغد ووبخ سكانها من العرب وغيرهم بالجبن وقال: ما أرى فيكم جريحاً ولا أسمع أنة. فاعتذروا ليه بأن جبنوا أميرهم علباء بن حبيب العبدي. وأخذ سعيد عمال عبد الرحمن بن عبد الله الذين ولوا أيام عمر بن عبد العزيز فحبسهم ثم أطلقهم، ثم رفع إلى سعيد أن جهم بن زحر الجعفي، وعبد العزيز بن عمرو بن الحجاج الزبيدي، والمنتجع بن عبد الرحمن الأزدي، ولوا ليزيد بن المهلب في ثمانية نفر وعندهم أموال قد أخفوها من فيء المسلمين. فأرسل إليهم فحبسهم بقهندر مرو، وحمل جهم بن زحر على حمار وأطاف به فضربه مائتي سوط وأمر به وبالثمانية الذين حبسوا معه فسلموا إلى ورقاء بن نصر الباهلي فاستعفاه، فأعفاه، فسلمهم إلى عبد الحميد ابن دثار وعبد الملك بن دثار والزير بن نشيط مولى باهلة، فقتلوا في العذاب جهم بن زحر وعبد العزيز والمنتجع، وعذبوا القعقاع وقماً حتى أشفوا على الموت، فلم يزالوا في السجن حتى غزاهم الترك والصغد، فأمر سعيد بإخراجهم، وكان يقول: قبح الله الزبير فإنه قتل جهماً! ذكر البيعة بولاية العهد لهشام والوليدلما وجه يزيد بن عبد الملك الجيوش إلى يزيد بن المهلب، على ما ذكرناه، واستعمل على الجيش مسلمة بن عبد الملك أخاه والعباس بن الوليد بن عبد الملك وهو ابن أخيه، قالا له: يا أمير المؤمنين إن أهل العراق أهل غدر وإرجاف، وقد توجهنا محاربين والحوادث تحدث ولا نأمن أن يرجف أهل العراق ويقولوا مات أمير المؤمنين فيفت ذلك في أعضادنا، فلو عهدت عهد عبد العزيز بن الوليد لكان رأياً صواباً.
فبلغ ذلك مسلمة بن عبد الملك، فأتى أخاه يزيد فقال: يا أمير المؤمنين إنما أحب إليك أخوك أم ابن أخيك؟ فقال: بلى أخي. فقال: فأخوك أحق بالخلافة. فقال يزيد: إذا لم تكن في ولدي فأخي أحق بها من ابن أخي كما ذكرت. قال: فابنك لم يبلغ فبايع لهشام بن عبد الملك ثم بعده لابنك الوليد، وكان الويد يومئذ ابن إحدى عشرة سنة، فبايع بولاية العهد لهشام بن عبد الملك أخيه وبعده لأبنه الوليد بن يزيد، ثم عاش يزيد حتى بلغ ابنه الوليد، فكان إذا رآه يقول: والله بيني وبين من جعل هشاماً بيني وبينك. ذكر غزو التركلما ولي سعيد خراسان استضعفه الناس وسموه خذينة، وكان قد استعمل شعبة على سمرقند ثم عزله، فطمعت الترك، فجمعهم خاقان ووجههم إلى الصغد، وعلى الترك كور صول، فأقبلوا حتى نزلوا بقصر الباهلي. وقيل: أراد عظماء الدهاقين أن يتزوج امرأة من باهلة كانت في ذلك القصر، فأبت، استجاش، ورجوا أن يسبوا من في القصر، فأقبل كورصول حتى حصر أهل القصر وفيه مائة أهل بيت بدرايهم، وكان على سمقند عثمان بن عبد الله بن مطرف بن الشخير، قد استعمله سعيد بعد شعبة، فكتبوا إليه وخافوا أن يبطئ عنهم المدد فصالحوا الترك على أربيعين ألفاً وأعطوهم سبعة عشر رجلاً رهينةً، وندب عثمان الناس، فانتدب المسيب بن بشر الرياحي، وانتدب معه أربعة آلاف من جميع القبائل، وفيهم سعبة بن ظهير وثابت قطنة وغيرهما الفرسان، فلما عسكروا قال لهم المسيب: إنكم تقدمون على حلبة الترك عليهم خاقان، والعوض إن صبرتم الجنة، والعقاب إن فررتم النار، فمن أراد الغزو والصبر فليقدم، فرجع عنه ألف وثلاثمائة، فلما سار فرسخاً رجع بمثل مقالته الأولى فاعتزله ألف، ثم سار فرسخاً أخر فقال لهم مثل ذلك، فاعزله ألف، ثم سار فلما كان على فرسخين منهم نزل، فأتاهم ترك خاقان ملك قي فقال: لم يبق ها هنا دهقان إلا وقد بايع الترك غيري وأن في ثلاثمائة مقاتل، فهم معك وعندي الخبر قد كانوا صالحوهم وأعطوهم سبعة عشر رجلاً يكونون رهينة في أيديهم حتى يأخذوا صلحهم، فلما بلغهم مسيركم إليهم قتلوا الرهائن، وميعادهم أن يقاتلوا غداً ويفتحو لهم القصر. فبعث المسيب رجلين، رجلاً من العرب ورجلاً من العجم، ليعلما علم القوم، فأقبلا في ليلة مظلمة وقد أخذت الترك في نواحي القصر فليس يصل إليه أحد، ودنوا من القصر، فصاح بهما الربيئة، فقالا له: اسكت وادع لنا عبد الملك بن دثار. فدعاه، فأعلماه بقرب المسيب منهم وقالا: هل عندكم امتناع الليلة وغداً؟ قالزا: قد أجمعنا على تقديم نسائنا للموت أمامنا حتى نموت جيمعا غداً،. فرجعا إلى المسيب فأخبراه، فقال لمن معه: إني سائر إلى هذا العدو، فمن أحب أن يذهب فليذهب، فلم يفارقه أحد وبايعوه على الموت. فأصبح وسار وقد ازداد القصر تحصيناً بالماء الذي أجراه الترك، فلما صار بينه وبين الترك نصف فرسخ نزل وقد أجمع على بيانهم، فلما أمى أمر أصحابه بالصبر وحثهم عليه وقال: ليكن شعاركم يا محمد، ولا تتبعوا مولياً، وعليكم بالدواب فاعقروها، فإنها إذا عقرت كانت أشد عليهم منكم، وليست بكم قلة، فإن سبعمائة سف لا يضرب بها في عسكر إلا أوهنوه وإن كثر أهله. وجعل على ميممنته كثيراً الدبوسي، وعلى ميسرته ثابت قطنة، وهو من الأزد، فلما دنوا منهم كبروا، وذلك في السحر، وثار الترك وخالطهم المسلمون فعقروا الدواب، وترجل المسيب في رجال معه فقاتلوا قتالاً شديداً، وانقطعت يمين البختري المرائي، فاخذ السيف بشماله فقطعت، فجعل يذب بيديه حتى استشهد. وضرب ثابت قطنة عظيماً من عظماء الترك فقتله، وانهزمت الترك، ونادى منادي المسيب: لا تتبعوهم فإنهم لا يدرون من الرعب أبتعتموهم أم لا، واقصدو القصر، ولا تحملوا إلا الماء، ولا تحملوا إلا من يقدر على المشي، ومن حمل امرأة أو صبياً أو ضعيفاً حسبة فأجره على الله، ومن أبى فله أربعون درهماً، وإن كان في القصر أحد من أهل عهدكم فاحملوه. فحملوا من القصر وأتوا ترك خاقان، فأنزلهم قصره وأتاهم بطعام، ثم ساروا إلى سمرقند. ورجعت الترك من الغد فلم يروا في القصر أحداً، ورأوا قتلاهم فقالوا: لم يكن الذي جاءنا من الإنس؛ فقال ثابت قطنة: فدت نفسي فوارس من تميمٍ ... غداة الروع في ضنك المقام
فدت نفسي فوارس أكنفوني ... على الأعداء فر رهج القتام بقصر الباهلي وقد رأوني ... أحامي حيث ضربه المحامي بسيفي بعد حطم الرمح قدماً ... أذودهم بذي شطب حسام أكر عليهم اليحموم كراً ... ككر الشرب آنية المدام أكر به لدى الغمرات حتى ... تجلت لا يضيق به مقامي فلولا الله ليس له شريك ... وضربي قونس الملك الهمام إذاً لسعت نساء بني دثار ... أمام الترك بادية الخدام فمن مثل المسيب في قيمٍ ... أبي بشرٍ كقادمة الحمام وعور تلك الليلة معاوية بن الحجاج الطائي وشلت يده، وكان قد ولي ولاية قبل سعيد، فأخذه سعيد بشيء بقي عليه فدفعه إلى شداد بن خليد الباهلي ليستأديه، فضيق عليه شداد، فقال معاوية: يا معشر قيس سرت إلى قصر الباهلي وأنا شديد البطش حديد البصر، فعورت وشلت يدي، وقاتلت حتى استقذناهم بعدما أشرفوا على القتل والأسر والسبي، وهذا صاحبكم يصنع بي ما يصنع فكفوه عني، فخلاه. قال بعض من كان بالقصر: لما التقوا ظنا أن القيامة قد قامت لما سمعنا من هماهم القوم ووقع الحديد وصهيل الخيل. ذكر غزو الصغدوفي هذه السنة عبر سعيد خذينة النهر وغزا الصغد، وكانوا قد نقضوا العهد وأعانوا الترك على المسلمين، فقال الناس لسعيد: إنك قد تركت الغزو وقد أغار الترك وكفر أهل الصغد. فقطع النهر وقصد الصغد، فلقيه الترك وطائفة من الصغد فهزمهم المسلمون، فقال سعيد: لا تتبعوهم فإن الصغد بستان أمير لمؤمنين وقد هزمتموهم، أفتريدون بوارهم؟ وقد قاتلتم يا أهل العراق الخلفاء غير مرة فهل أبادوكم؟ وقال سورة بن الحر لحيان النبطي: ارجع عنهم يا حيان. قال: عقيرة الله لا أدعها. قال: انصرف يا نبطي. قال: أنبط الله وجهك! وسار المسلمون فانتهوا إلى واد بينهم وبين المرج، فقطعه بعضهم وقد أكمن لهم الترك، فلما جاءهم المسلمون خرجوا عليهم، فانهزم المسلمون حتى أنتهوا إلى الوادي، فصبروا حتى انكشفوا لهم. وقيل: بل كان المنهزمون مسلحة المسلمين، فما شعروا إلا والترك قد خرجوا عليهم من غيضة وعلى الخيل شعبة بن ظهير، فأعجلهم الترك عن الركوب، فقاتلهم شعبة فقتل وقتل نحو من خمسين رجلاً وانهزم أهل المسلحة، وأتى المسلمين الخبر، فركب الخليل بن أوس العبشمي أحد بين ظالم ونادى: يا بني تميم إلي أنا الخليل! فاجتمع معه جماعة، فحمل بهم على العدو فكفوهم حتى جاء الأمير والناس فانهزم العدو، فصار الخليل على خيل بني تميم حتى ولي نصر بن سيار، ثم صارت رياستهم لأخيه الحكم بن اؤس. فلما كان العام المقبل بعض رجالاً من تميم إلى ورغسر فقالوا: ليتنا نلقى العدو فناطردهم. وكان سعيد إذا بعث سرية فأصابوا أو غنموا وسبوا رد السبي وعاقب السرية؛ فقال الهجري الشاعر: سريت إلى الأعداء تلهو بلبةٍ ... وأيرك مسلول وسيفك مغمد وأنت لمن عاديت عرس خفية ... وأنت علينا كالحسام المهند فقعد سعيد على النا وضعفوه. وكان رجل من بني أسد يقال له إسماعيل منقطعاً إلى مروان بن محمد، فذكر إسماعيل عند خذينة مودته لموان، فقال خذينة: وما ذاك السلط؟ فقال إسماعيل: زعمت خذينة انني سلط ... لخدينة المرآة والمشط ومجامر وكاحل جعلت ... ومعازف وبخدها نقط أفذاك أم زعف مضاعفة ... ومهند من شأنه القط لمقرسٍ ذكرٍ أخي ثقةٍ ... لم يغذه التأنيث واللقط في أبيات غيرها. ذكر موت حيان النبطي
وقد ذكر من أمر حيان فيما تقدم عند قتل قتيبة وأنه ساد وتقدم بخراسان، فلما قال سورة بن الحر: يا نبطي، وأجابه حيان فقال: أنبط الله وجهك، على ما تقدم آنفا، حقدها عليه سورة، فقال لسعيد حذينة: إن هذا العبد أعدى الناس للعرب والوالي، وهو أفسد خراسان على قتيبة، وهو واثب بك يفسد عليك خراسان ثم يتحصن في بعض هذه القلاع. فقال سعيد: لا تسمعن هذا أحداً. ثم دعا في مجلسه بلبن وقد أمر بذهب، فسحق وألقي في اللبن الذي في إناء حيان، فشربه حيان، ثم ركض سعيد والناس معه أربعة فراسخ ثم رجع، فعاش حيان أربعة أيام ومات، وقيل: إنه لم يمت هذه السنة، وسيرد ذكره فيما بعد إن شاء الله تعالى. ذكر عزل مسلمة عن العراق وخراسان وولاية ابن هبيرة وكان سببب ذلك أنه ولي العراق وخراسان، فلم يرفع من الخراج شيئاً، واستحيا يزيد بن عبد الملك أن يعزله فكتب إليه: استخلف على عملك وأقبل. وقيل: إن مسلمة شاور عبد العزيز بن حاتم بن النعمان في الشخوص إلى يزيد ليزوره. قال: أمن شوق إليه؟ إن عهدك منه لقريب. قال: لا بد من ذلك. قال: إذا لا تخرج من عملك حتى تلقى الوالي عليه. فسار مسلمة فلقيه عمر بن هبيرة الزاري بالعراق على دواب البريد، فسأله عم مقدمة، فقال عمر: وجهني أمير المؤمنين في حيازة أموال بني المهلب. فلما خرج من عنده أحضر مسلمة عبد العزيز بن حاتم وأخبره خبر ابن هبية، فقال: قد قلت لك. قال مسلمة: فإنه جاء لحيازة أموال آل المهلب. قال: هذا أعجب من الأول، يكون ابن هبيرة على الجزيرة فيعزل عنها ويبعث لحيازة أموال بني المهلب ولم يكتب معه إليك كتاب! فلم يلبث حتى أتاه ابن هبيرة عمالة والغلظة عليهم؛ فقال الفرزدق: راحت بمسلمة البغال عشيةً ... فارعي فزارة لا هناك المرتع عزل ابن بشرٍ وابن عمرو قبله ... وأخو هراة لمثلها يتوقع يعني بابن بشر بن مروان، وبابن عمرو محمداً ذا الشامة، وبأخي هراة سعيد خذينة. وأما ابتداء أمر ابن هبيرة حتى ولي العراق فإنه قدم من البادية من بني فزارة فافترض مع بعض ولاة الحرب، وكان يقول: لأرجو أن لا تنقضي الأيام حتى ألي العراق. وسار مع عمرو بن معتوية العقيلي إلى غزو الروم، فأتي بفرس رائع إلا أنه لا يستطاع ركوبه، فقال: من ركبه فهو له، فقام عمر بن هبيرة وتنحى علن الفرس وأقبل حتى إذا كان بحيث تناله رجلا الفرس إذا رمحه وثب فصار على سرجه، فأخذ الفرس. فلما خلع مطرف بن المغيرة بن شعبة الحجاج سار عمر بن هبيرة في الجيش الذين حاربوه من الري، فلما التقى العسكان التحق ابن هبيرة بمطرف مظهر أنه معه، فلما جال الناس كان ممن قتله وأخذ رأسه، وقيل قتله غيره وأخذ هو رأسه وأتى به عديا فأعطاه مالاً وأوفده إلى الحجاج بالرأس، فسيره الحجاج إلى عبد الملك، فأقطعه ببرزة، وهي قرية بدمشق، وعاد إلى الحجاج، فوجهه إلى كردم بن مرثد الفزاري ليخلص منه مالاً، فاخذه منه وهرب إلى عبد الملك وقال: أنا عائذ بالله وبأمير المؤمنين من الحجاج، فإنني قتلت ابن عمه مطرف بن المغيرة وأتيت أمير المؤمنين برأسه ثم رجعت فأراد قتلي، ولست آمن أن ينسبني إلى أمر يكون فيه هلاكي. فقال: أنت في جواري. فأقام عنده، فكتب فيه الحجاج إلى عبد الملك يذكر أخذه المال وهربه، فقال له: أمسك عنه. وتزوج بعض ولد عبد الملك بنتا للحجاج، فكان ابن هبيرة يهدي ويبرها وييسر عليها، فكتب إلى أبيها تثني عليه، فكتب إليه الحجاج يأمره أن ينزل به حاجاته، وعظم شأنه بالشام . فلما استخلف عمر بن عبد العزيز استعمله على الجزيرة، فلما ولي يزيد بن عبد الملك ورأى ابن بيرة تحكم حرابة عليه تابع هداياه إليها وإلى يزيد بن عبد الملك، فعملت له في ولاية العراق، فولاه يزيد. وكان ابن هبيرة بينه وبين القعقاع بن خليد العبسي تحاسد، فقال القعقاع: من يطيق ابن هبيرة، حبابة بالليل وهداياه بالنهار! فما ماتت حبابة قال القعقاع: هلم فقد ماتت حبابة سامين ... بنفسك يقدمك الذرى والكمواهل أغرك أن كانت حبابة مرةً ... تميحك فانظر كيف ما أنت فاعل
في أبيات. وكان بينه وبين القعقاع يوماً كلام، فقال له القعقاع: يا بن اللخناء من قدمك؟ فقال: قدمك أنت وأهلك أعجاز الغواني، وقدمتي صدور العوالي. فسكت القعقاع. يعني أن عبد الملكل قدمهم لما تزوج إليهم فإن أم الوليد وسليمان ابني عبد الملكل بن مروان عبسية ذكر بعض الدعاة للدولة العباسيةوفي هذه السنة وحه ميسرة رسله من العراق إلى خراسان، فظهر أمر الدعاة بها، فجاء عمر بن بحير بن ورقاء السعدي إلى سعيد خذينة فقال له: إن هاهنا قوماً قد ظهر منهم كلام قبيح، وأعلمه حالهم، فبعث سعيد إلهم فأتي بهم، فقال: ممن أنتم؟ قالوا: ناس من التجار. قال: فما هذا الذي يحكى؟ قالزا: لا ندري. قال: جئتم دعاة؟ قالوا: إن لنا في أنفسنا وتجارتنا شغلاً عن هذا. فقال: مني يعرف هؤلاء؟ فجاء ناس من أهل خراسان أكثرهم من ربيعة واليمن فقالوا: نحن نعرفهم، وهم علينا إن أتاك منهم شيء تكرهه. فخلى سبيلهم. ذكر قتل يزيد بن أبي مسلمقيل: كان يزيد بن عبد الملك قد استعمل يزيد بن أبي مسلم بإفريقية سنة إحدى ومائة، وقيل هذه السنة؛ وكان سبب قتله أنه عزم أن يسير فيهم بسيرة الحجاج في أهل الإسلام الذين سكنوا الأمصار ممن كان أصله من السواد من أهل الذمة، فأسلم بالعراق، فإنه ردهم إلى قراهم ووضع الجزية على رقابهم على نحو ما كانت تؤخد منهم وهم كفار، فلما عزم يزيد على ذلك اجتمع رأيهم على قتله وولوا على أنفسهم الوالي الذي ككان عليهم قبل يزيد بن أبي مسلم، وهو محمد بن زيد، فولي الأمصار، وكان عندهم، وكتبوا إلى يزيد بن عبد الملك: إنا لم نخلع أيدينا من طاعة، ولكن يزيد بن أب مسلم سامنا ما لا يراه الله والمسلمون فقتلناه وأعدنا عاملك. فكتب إليهم يزيد بن عبد الملك: إني لم أرض ما صنع يزيد بن أبي مسلم؛ وأقر محمد ابن يزيد على عمله. ذكر عدة حوادثفي هذه السنة غزا عمر بن هبيرة الروم من ناحية أرمينية وهو على الجزيرة قبل أن يلي العراق، فهزمهم وأسر منهم خلقاً كثيراً وقتل سبعمائة أسير. وفيها غزا عباس بن الوليد بن عبد الملك الروم فافتتح دلسة. وحج بالناس هذه السنة عبد الرحمن بن الضحاك، وهو عامل المدينة، وكان على مكة عبد العزيز بن عبد الله بن خالد. وكان على الكوفة محمد بن عمرو ذو الشامة، وعلى قضائها القاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود، وعلى البصرة عبد الله بن بشر بن مروان إلى أن عزله عمر بن هبيرة، وعلى خراسان سعيد خذينة، وعلى مصر أسامة بن زيد. ثم دخلت سنة ثلاث ومائة ذكر استعمال سعيد الحرشي على خراسان في هذه السنة عزل عمر بن هبيرة سعيد خذينة عن خراسان. وكان سب عزله أن المجشر بن مزاحم السلمي وعبد الله بن عمير الليثي قدما على عمر بن هبيرة فشكواه، فعزله واستعمل سعيد بن عمروا الحرشي، بلحاء المهملة، والشين المعجمة، من بني الحريش بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة. وكان خذينة غازيا بباب سمرقند، فبلغه عزله، وخلف بسمرقند ألف رجل. وقيل: إن عمر بن هبيرة كتب إلى يزيد بن عبد الملك بأسماء من أبلى يوم العقر ولم يذكر سعيداً الحرشي، فقال يزيد: لم يذكر الحرشي؟ وكتب إلى عمر بن هبيرة أن أول الحرشي خراسان، فولاه، فقدم بين يديه المجشر بن مزاحم السلمي؛ فقال نهار بن توسعة: فهل من مبلغ فتيان قومي ... بأن النبل ريشت كل ريش وأن الله أبدل من سعيد ... سعيداً لا المخنث من قريش وقدم سعيد الحرشي خراسان، فلم يعرض لعمال خذينة، وقرأ رجل عهده فلحن فيه، فقال: صه، مهما سمعتم فهو من الكتاب والأمير منه بريء. ولما قدم الحرشي خراسان كان الناس بإزاء العدو، وكانوا قد نكبوا، فخطبهم وحثهم على الجهاد وقال: إنكم لا تقاتلون بكثرة ولا بعدة ولكن بنصر الله وعز الإسلام، فقالوا: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم؛ وقال: فلست لعامر إن لم تروني ... أمام الخيل أطعن بالعوالي وأضرب هامة الجبار منهم ... بعضب الحد حودث بالصقال فما أنا في الحروب بمستكين ... ولا أخشى مصاولة الرجال أبى لي والدي من كل ذم ... وخالي في الحوادث خير خال
فلما سمع أهل الصغد بقدوم الحرشي خافوا على نفوسهم لأنهم كانوا قد أعانوا لترك أيام خذينة، فاجتمع عظماؤهم على الخروج من بلادهم، فقال لهم ملكهم: لا تفعلوا، أقيموا واحملوا الخراج ما مضى واضمنو له خراج ما يأتي وعمارة الأرض والغزو معه إن أراد ذلك، واعتذروا مما كان منكم وأعطوه رهائن. قالوا: نخاف أن لا يرضى ولا يقبل ذلك منا ولكنا نأتي خجندة فنستجير ملكها ونرسل إلى الأمير فنسأله الصفح عما كان منا ونوثق أنه لا يرى أمراً يكرهه. فقال: أنا رجل منكم، والذي أشرت به عليكم خير لكم. فأبوا وخرجوا إلى خجندة، وأرسلوا إلى ملك فرغانة يسألونه أن يمنعهم وينزلهم مدينته، فأراد أن يفعل فقالت أمه: لا يدخل هؤلاء الشياطين مدينتك، ولكن فرغ لهم رستاقاً يكونون فيه، فأرسل إليهم: سموا رستاقاً تكونون فيه حتى أفرغه لكم وأجلوني أربعين يوماً، وقيل عشرين يوماً. فاختاروا شعب عصام بن عبد الله الباهلي، وكان قتيبة قد خلفه فيهم، فقال: نعم، ولا أنا على عقد وجوار حتى تدخلوه، وإن أتتكم العرب قبل أن تدخلوه لم أمنعكم. فرضوا، ففرغ لهم الشعب. ذكر عدة حوادثقيل: وفي هذه السنة أغارت الترك على اللان. وفيها غزا العباس بن الوليد الروم ففتح مدينة يقال لها دلسة. وفيها جمعت مكة والمدينة لعبد الرحمن بن الضحاك. وفيها ولي عبد الواحد بن عبد الله النضري الطائف، وعزل عبد العزيز بن عبد الله بن خالد عنه وعن مكة. وحج بالناس عبد الرحمن بن الضحاك، وكان عامل مكة والمدينة، وكان على العراق عمر بن هبيرة، وعلى خراسان الحرشي، وعلى قضاء الكوفة القاسم بن عبد الرحمن، وعلى قضاء البصرة عبد الملك بن يعلي. وفي هذه السنة مات الشعبي، وقيل ينة أربع، وقيل خمس، وقيل سبع ومائة، وهو ابن سبع وسبعين سنة. وفيها مات يزيد بن الأصم وهو ابن أخت ميمونة زوج النبي، صلى الله عليه وسلم ، وقيل: مات سنة أربع ومائة وعمره ثلاث وسبعون سنة. وفيها مات أبو بردة بن أبي موسى الأشعري. ويزيد ابن نمير السكوني. وفيها توفي عطاء بن يسار، وهو أخو سليمان؛ يسار بالياء المثناة من تحت، والسين المهملة. وفيها توفيت عمرة بنت عبد الرحمن ابن يعبد ابن زرارة الأنصارية، وهي ابنة سبع وسبعين سنة. وفيها توفي مصعب ابن سعد بن أبي وقاص. ويحيى بن وثاب الأسدي المنقري. وعبد العزيز ابن حاتم بن النعمان الباهلي، وكان عامل عمر بن العزيز على الجزيرة. ثم دخلت سنة أربع ومائة ذكر الوقعة بين الحرشي والصغد قيل: وفي هذه السنة غزا الحرشي فقطع النهر وسار فنزل في قصر الريح على فرسخين من قيل: وفي هذه السنة غزا الحرشي فقطع النهر وسار فنزل في قصر الريح على فرسخين من الدبوسية، ولم يجتمع إليه جنده، فأمر بالرحيل، فقال له هلال بن عليم الحنظلي: يا هناه إنك وزيراً خير منك أميراً، لم يجتمع إليك جندك وقد أمرت بالرحيل. فعاد فأمر بالنزور، وأتاه ابن عم ملك فرغانة فقال له: إن أهل الصغد بخجندة، وأخبره بخبرهم، وقال: عاجلهم قبل أن يصلوا إلى الشعب فليس لهم جوار علينا حتى يمضي الأجل. فوجه معه عبد الرحمن القشيري وزياد بن عبد الرحمن في جماعة، ثم ندم بعدما فصلوا وقال: جائني علج لا أعلم أصدق أم كذب، فغررت بجندٍ من المسلمين؛ فارتحل في أثرهم حتى نزل أشروسنة فصالحهم بشيء يسير.
فبينا هو يتعشى إذ قيل له هذا عطاء الدبوسي، وكان مع عبد الرحمن، فسقطت اللقمة من يده، ودعاء بعطاء فقال: ويلك قاتلتم أحداً؟ قال: لا. قال: لله الحمد! وتعشى وأخبره بما قدم له، فسار مسرعاً حتى لحق القشيري بعد ثلاثة أيام، وسار فلما انتهى إلى حجندة قال له بعض أصحابه: ما ترى؟ قال: أرى | |
|
| |
الشيخ عودة الشيخ عودة
عدد المساهمات : 1748 تاريخ التسجيل : 28/09/2008 العمر : 74
| موضوع: رد: كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير الثلاثاء فبراير 11, 2014 3:49 am | |
| ذكر خروج عقفان في أيام يزيد بن عبد الملك خرج حروري اسمه عقفان في ثماني رجلاً، فأراد يزيد أن يرسل إليه جنداً يقاتلونه، فقيل له: إن قتل بهذه البلاد اتخذها الخوارج دار هجرة، والرأي أن تبعث إلى كل رجل من أصحابه رجلاً من قومه يكلمه ويرده. ففعل ذلك فقال لهم أهلوهم: إنا نخاف أن نؤخذ بكم. وأومنوا وبقي عفان وحده، فبعث إليه يزيد أخاه فاستعطفه فرده، فلما ولي هشام بن عبيد الملك ولاه أمر العصاة، فقدم ابنه من خراسان غاضباً، فشده وثاقاً وبعث به إلى هشام، فأطلقه لأبيه وقال: لو خاننا عقفان لكتم أمر ابنه. واستعمل عفان على الصدقة فبقي عليها إلى أن توفي هشام. ذكر خروج مسعود العبديوخرج مسعود بن أبي زينب العبدي بالبحرين على الأشعث بن عبد الله ابن الجارود، ففارق الأشعث البحرين، وسار مسعود إلى اليمامة وعليها سفيان ابن عمرو العقيلي، ولاه إياها عمر بن هبية، فخرج إليه سفيان، فاقتتلوا بالخضرمة قتالاً شديداً، فقتل مسعود، وقام بأمر الخوارج بعده هلال بن مدلج فقاتلهم يومه كله، فقتل ناس من الخوارج وقتلت زينب أخت مسعود، فلما أمسى هلال تفرق عنه أصحابه وبقي في نفر يسير، فدخل قصراً فتحصن به، فنصبوا عليه السلاليم وصعدوا إليه فقتلوه واستأمن أصحابه فآمنهم؛ وقال الفرزدق في هذا اليوم: لعمري لقد سلنت حنيفة سلةً ... سوفاً أبت يوم الوغى أن تغيرا تركن لمسعود وزينب أخته ... رداء وسر بالاً من الموت أحمرا أرين الحروريين يوم لقائهم ... ببرقان يوماً يجعل الموت أشقرا وقيل: إن مسعوداً غلب على البحرين والمامة تسع عشرة سنة حتى قتله سفيان بن عمرو العقيلي. الخضرمة بكسر الخاء وسكون الضاد المعجمتين، وكسر الراء. ذكر مصعب بن محمد الواليكان مصعب من رؤساء الخوارج، وطلبه عمر بن هبيرة وطلب معه مالك بن الصعب وجابر بن سعد، فخرجوا واجتمعوا بالخورنق وأمروا عليهم مصعباً ومعه أخته آمنة وساروا عنه.
فلما ولي هشام بن عبد الملك واستعمل على العراق خالداً القسري سير إليهم جيشاً، وكانوا قد صاروا بحزة من أعمال الموصل، فالتقوا واقتتلوا، فقتل الخوارج، وقيل كان قتلهم آخر أيام يزيد بن عبد المكل، فقال فيهم بعض الشعراء: فتية تعرف التخشع فيهم ... كلهم أحكم القرآن إماما قد برى لحمه التهجد حتى ... عاد جلداً مصفراً وعظاماً غادروهم بقاع حزة صرعى ... فسقى الغيث أرضهم يا إماما ذكر موت يزيد بن عبد الملكفي هذه السنة توفي يزيد بن عبد الملك لخمس بقين من شعبان وله أربعون سنة، وقيل خمس وثلاثون سنة، وقيل غير ذلك، وكانت ولايته أربع سنين وشهراً وأياماً وكنيته أبو خالد، وكان مرضه السل. وقيل: كان سبب موته أن حبابة لما ماتت وجد عليها وداً شديداً، على ما نذكره إن شاء الله تعالى، فخرج مشيعاً لجنازتها ومعه أخوه مسلمة بن عبد الملك ليسليه ويعزيه، فلم يحبه بكلمة، وقيل إن يزيد لم يطق الركوب من الجزع وعجز عن المشي فأمر مسلمة فصلى عليها، وقيل: منعه مسلمة عن ذلك لئلا يرى الناس منه ما يعيبونه به. فلما دفنت بقي بعدها همسة عشر يوماً ومات ودفن إلى جانبها، وقيل: بقي بعدها أربعين يوماً لم يدخل عليه أحد إلا مرة واحدة ولما مات صلى عليه أخوه مسلمة، وقيل: ابنه الوليد، وكان هشام بن عبد الملك بحمص. ذكر بعض سيرتهكان يزيد من فتيانهم، فقال يوماً وقد طرب وعنده حبابة وسلامة القس: دعوني أطير قالت حبابة: على من تدع الأمة؟ قال: عليك؛ قيل وغنته يوماً: وبين الترافي واللهاة حرارة ... ما تطمئن وما تسوغ فتبردا فأهوى ليطير، فقالت: يا أمير المؤمنين إن لنا فيك حاجة. فقال: والله لأطيرن! فقالت: على من تخلف الأمة والملك؟ قال: عليك والله! وقبل يدها؛ فخرج بعض خدمه وهو يقول: سخنت عينك فما أسخفك! وخرجت معه إلى ناحية الأردن يتنزهان، فرماها بحبة عنب فدخلت حلقها فشرقت ومرضت وماتت، فتركها ثلاثة أيام لم يدفنها حتى أنتنت وهو يشمها ويقبلها وينظر إليها ويبكي، فكلم في أمرها حتى أذن في دفنها، وعاد إلى قصره كئيباً حزيناً، وسمع جاريةً له تتمثل بعدها. كفى حزناً بالهائم الصب أن يرى ... منازل من يهوى معطلة قفرا فبكى، وبقي يزيد بعد موتها سبعة أيام لا يظهر للناس، أشار عليه مسلمة بذلك وخاف أن يظهر منه ما سفهه عندهم. وكان يزيد قد حج أيام أخيه سليمان فاشترى حبابة بأربعة آلاف دينار، وكان اسمها العالية، وقال سليمان: لقد هممت أن أحجر على يزيد فردها يزيد فاشتراها رجل من أهل مصر، فلما أفضت الخلافة إلى يزيد قالت امرأته سعدة: هل بقي من الدنيا شيء تتمناه؟ قال: نعم، حبابة. فأرسلت فاشترتها ثم صيغتها وأتت بها يزيد فأجلستها من وراء الستر وقالت: يا أمير المؤمنين هل بقي من الدنيا شيء تتمناه؟ قال: قد أعلمتك. فرفعت الستر وقالت: هذه حبابة، وقامت وتركتها عنده، فحظيت سعدة عنده وأكرمها. وسعدة بنت عبد الله بن عمرو بن عثمان. ولما مات يزيد لم يعلم بموته حتى ناحت سلامة فقالت: لا تلمنا إن خشعنا ... أو هممنا بخسوع قد لعمري بت ليلي ... كأخي الداء الوجيع ثم بات الهم مني ... دون من لي بضجيع ثم بات الهم مني ... دون من لي بضجيع للذي حل بنا اليو ... م من الأمر الفظيع كلما أبصرت ربعاً ... خالياً فاضت دموعي قد خلا من سيدٍ كا ... ن لنا غير مضيع ثم نادت: وا أمير المؤمنين أه! فعلموا بموته. والشعر لبعض الأنصار. وأخبار يزيد مع سلامة وحبابة كثيرة ليس هذا موضع ذكرها.
وإنما قيل لسلامة سلامة القس لأن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي عمار أحد بني جشم بن معاوية بن بكير كان فقيهاً عابداً مجتهداً في العبادة، وكان يسمى القس لعبادته، مر يوماً بمنزل مولاها فسمع غناءها فوقف يسمعه، فرآه مولاها فقال له : هل لك أن تنظر وتسمع فأبى، فقال: أنا أقعدها بمكان لا تراها وتسمع غناءها؛ فدخل معه فغنته، فأعجبه غناؤها، ثم أخرجها مولاها إليه، فشغف بها وأحبها وأحبته هي أيضاً، وكان شاباً جميلاً. فقالت له يوماً على خلوة: أنا والله أحبك! قال: وأنا والله أحبك! قالت: وأحب أن أقبلك! قال: وأنا والله! قالت: وأحب أن أضع بطني على بطنك! قال: وأنا والله! قالت: فما منعك؟ قال: قول الله تعالى: " الأخلاء يومئذٍ بعضهم لبعضٍ عدو إلا المتقين " الزخرف:67 وأن أكره أن تؤول خلتنا إلى عداوة؛ ثم قام وانصرف عنها وعاد إلى عبادته، وله فيها أشعار، منها: ألم ترها لا يبعد الله دارها ... إذا طربت في صوتها كيف تصنع تمد نظام القول ثم نرده ... إلى صلصلٍ من صوتها يترجع وله فيها: ألا قل هذا القلب هل أنت مبصر ... وهل أنت عن سلامة اليوم مقصر ألا ليت أني حيث صارت بها النوى ... جليس لسلمى كلما عج مزهر إذا أخذت في الصوت كاد جليسها ... يطير إليها قبله حين ينظر فقيل لها سلامة القس لذلك. سلامة بتشديد اللام، وحبابة بتخفيف الباء الموحدة. ذكر خلافة هشام بن عبد الملكفي هذه السنة استخلف هشام بن عبد الملك لليال بقين من شعبان، وكان عمره يوم استخلف أربعاً وثلاثين سنة وأشهراً، وكانت ولادته عام قتل مصعب ابن الزبير سنة اثنتين وسبعين، فسماه عبد الملك منصوراً، وسمته أمه باسم أبيها هشام بن إسماعيل بن هشام بن الوليد بن المغيرة المخزومي، فلم ينكر عبد الملك ذلك. وكانت أمه عائشة بنت هشام حمقاء فطلقها عبد الملك. وكانت كنية هشام أبا الوليد، وأتته الخلافة وهو بالرصافة، أتاه البريد بالخاتم والقضيب وسلم عليه بالخلافة، فركب منها حتى أتى دمشق. ذكر ولاية خالد القسري العراقفيها عزل هشام عمر بن هبيرة عن العراق واستعمل خالد بن عبد الله القسري في شوال. قال عمر بن يزيد بن عيمر الأسيدي: دخلت على هشام وخالد عنده وهو يذكر طاعة أهل اليمن، فقلت: والله ما رأيت هكذا خطأ وخطلاً، والله ما فتحت فتنة في الإسلام إلا بأهل اليمن، هم قتلوا عثمان، وهم خلعوا عبد الملك، وإن سيوفنا لتقطر من دماء أهل المهلب. قال: فلما قمت تبعني رجل من آل مروان فقال: يا أخا بني تميم ورت بك زنادي، قد سمعت مقالتك وأمير المؤمنين قد ولى خالداً العراق وليست لك بدار! فيسار خالد إلى العراق من يومه. الأسيدي بضم الهمزة، وتشديد الياء، هكذا يقوله المحدثون، وأما النحاة فإنهم يخفون الياء، وهي عند الجميع نسبة إلى أسيد بن عمرو بن تميم، بضم الهمزة، وتشديد الياء. ذكر دعاة بني العباسقيل: وفي هذه السنة قد بكير بن ماهان من السند، كان بها مع الجنيد ابن عبد الرحمن. فلما عزل الجنيد قدم بكير الكوفة ومعه أربع لبنات من فضة ولبنة من ذهب، فلقي أبا عكرمة الصادق وميسرة ومحمد بن خنيس وسالماً الأعين وأبا يحيى مولى بني سلمة، فذكروا له أمر دعوة بني هاشم، فقبل ذلك ورضيه وأنف ما معه عليهم ودخل إلى محمد بن علي، ومات ميسرة فأقامه مقامه. ذكر عدة حوادثفي هذه السنة غزا الجراح الحكمي اللن حتى حاز ذلك إلى مدائن وحصون وراء بلنجر ففتح بعض ذلك وأصاب غنائم كثيرة. وفيها كانت غزوة سعيد بن عبد الملك أرض الورم، فبعث سرية في نحو ألف مقاتل فأصيبوا جميعاً. وفيها غزا مسلم بن سعيد الكلابي أمير خراسان الترك بما وراء النهر، فلم يفتح شيئاً وقفل، فتبعه الترك فلحقوه والناس يعبرون جيحون، وعلى الساقة عبيد الله بن زيهر بن حيان على خيل تميم، فحاموا حتى عبر الناس. وغزا مسلم أفشين فصالح أهلها على ستة آلاف رأس ودفع إليه القلعة، وذلك لتمام خمس ومائة بعد موت يزيد بن عبد الملك. وفيها غزا مروان بن محمد الصائفة اليمنى فافتتح قونية من أرض الروم وكمخ.
وحج بالناس هذه السنة إبراهيم بن هشام خال هشام بن عبد الملك، فأرسل إلى عطاء: متى أخطب؟ قال: بعد الظهر قبل التروية بيوم، فخطب قبل الظهر وقال: أخبرني رسولي عن عطاء، فقال عطاء: ما أمرته غلا بعد الظهر، فاستحيا. وكان هذه السنة على المدينة ومكة والطائف عبد الواحد النمضري. وكان على العراق وخراسان عمر بن هبيرة. وكان على قضاء الكوفة حسين بن حسن الكندي. وعلى قضاء البصرة موسى بن أنس. في هذه السنة مات كثير عزة. وعكرمة مولى ابن عباس، وكان عكرمة زوج أم سعيد بنت جبير، وفيها مات حميد بن عبد الرحمن بن عوف، وقيل سنة خمس وتسعين، وهو ابن ثلاث وسبعين سنة، وأبو رجاء العطاري، وأبو عبد الرحمن السلمي، وله تسعون سنة، واسمه عبد الله بن حبيب بن ربيعة. وفيها توفي عبد الله بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، وأمه صفية أخت المختار، وأوصى إليه أبوه. وفيها توفي عبد الله بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، أمه صفية أخت المختار، وأوصى إليه أبوه. وفيها توفي أخوه عبيد الله بن عبد الله بن عمر، وهو أخو سالم لأمه، أمهما أم ولد. في أيام يزيد بن عبد الملك توفي أبان بن عثمان بن عفان، وكان قد فلج. وفيها توفي عمارة بن خزيمة بن ثابت الأنصاري، وله خمس وسبعون سنة. وفي أيام يزيد بن عبد الملك مات المغيرة بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي. وعطاء ابن يزيد الجندعي الليثي، ومولده سنة خمس وعشرين، سكن الشام. الجندعي بضم الجيم، والدال المهلة المفتوحة، والنون. وعزاك ابن مالك الغفاري والد خيثم بن عزاك. ومورق العجلي. ثم دخلت سنة ست ومائة ذكر الوقعة بين مضر واليمن بخراسان قيل: وفي هذه السنة كانت الوقعة بين المضرية واليمانية بالبروقان من أرض بلخ. وكان سبب ذلك أن مسلم بن سعيد بن أسلم بن زرعة غزا فتبطأ الناس عنه، وكان ممن تبطأ عنه البختري بن درهم، فرد مسلم نصر بن سيار وبلغاء بن مجاهد وغيرهما إلى بلخ فأمرهم أن يخرجوا الناس، فأحرق نصر باب البختري وزياد بن طريف الباهلي، فمنعهم عمرو بن مسلم أخو قتيبة دخول بلخ وكان عليها، وقطع مسلم بن سعيد النهر، ونزل نصر بن سيار البروقان، وأتاه أهل الغانيان ومسلمة التميمي وحسان بن خالد الأسدي وغيرهما، وتجمعت ربيعة والأزد بالبروقان على نصف فرسخ من نصر، وخرجت مضر إلى نصر، وخرجت ربيعة والأزد إلى عمرو بن مسلم بن عمرو، وأرسلت تغلب إلى عمرو بن مسلم: إنك منا، وأنشدوه سعراً قاله رجل عزا باهلة إلى تغلب، وكان بنو قتيبة من باهلة، فلم يقبل عمرو ذلك، وسفر الضحاك بن مزاحم ويزيد بن المفضل الحداني في الصلح وكلما نصراً، فانصرف، فحمل أصحاب عمرو بن مزاحم ويزيد بن المفضل الحداني في الصلح وكلما نصراً، فانصرف، فحمل أصحاب عمرو بن مسلم والبختري على نصر، وكر نصر عليهم، فكان أول قتيل رجل من باهلة من أصحاب عمرو بن مسلم في ثمانية عشر رجلاً، وانهزم عمرو وأرسل يطلب الأمان من نصر، فآمنه، وقيل: أصابوا عمراً في طاحونة فأتوا به نصراً وفي عنقه حبل، فآمنه وضربه مائة وضرب البختري وزياد بن طريف مائة مائة وحلق رؤوسهم ولحاهم والأبسهم المسوح. وقيل إن الهزيمة كانت أولاً على نصر ومن معه من مضر، فقال عمروا بن مسلم لرجل معه من تميم: كيف ترى أستاه قومك يا أخا تميم؟ يعيره بذلك. ثم كرت تميم فهزمت أصحاب عمرو، فقال التميمي لعمرو: هذه أستاه قومي. وقيل: كان سبب انهزام عمرو أن ربيعة كانت مع عمرو فقتل منهم ومن الأزد جماعة، فقالت ربيعة: علام نقاتل إخواننا وأميرنا وقد تقربنا إلى عمرو فأنكر قرابتنا؟ فاعتزلوا، فانهزمت الأزد وعمرو ثم آمنهم نصر وأمرهم أن يحلقوا مسلم بن سعيد. ذكر غزو مسلم الترك
ثم قطع مسلم النهر ولحق به من لحق من أصحابه، فلما بلغ بخارى أتاه كتاب خالد بن عبد الله بولايته العراق ويأمره بإتمام غزاته. فسار إلى فرغانة، فلما وصلها بلغه أن خاقان قد أقبل إليه وأنه في موضع ذكروه، فارتحل، فسار ثلاث مراحل في يوم، وأقبل إليهم خاقان فلقي طائفة من المسلمين وأصاب دواب لمسلم وقتل أخو غوزك وثار الناس في وجوههم فأخرجوهم من العسكر، ورحل مسلم بالناس فسار ثمانية أيام وهم مطيفون بهم، فلما كانت التاسعة أرادوا النزول فشاوروا الناس، فأشاروا به وقالوا: إذا أصبحنا وردنا الماء والماء منا غير بعيد. فنزلوا ولم يرفعوا بناء في العسكر، وأحرق الناس ما ثقل من الآنية والأمتعة، فحرقوا ماقيمته ألف ألف، وأصبح الناس فساروا فوردوا النهر وأهل فرغانة والشاش دونه، فقال مسلم بن سعيد: أعزم على كل رجل إلا اخترط سيفه، ففعلوا وصارت الدنيا كلها سيوفاً، فتركوا الماء وعبروا. فأقام يوماً ثم قطع من غد واتبعهم ابن لخاقان، فأرسل إليه حميد بن عبد الله، وهو على الساقة: قف لي فإن خلفي مائتي رجل من الترك حتى أقاتلهم، وهو مثقل جراحة، فوقف الناس وعطف على الترك فقاتلهم وأسر أهل الصغد وقائدهم وقائد الترك في سبعة ومضى البقية، ورجع حميد فرمي بنشابه في ركبته فمات. وعطش الناس، وكان عبد الرحمن العامري حمل عشرين قربة على إبله فساقها الناس جرعاً جرعاً، واستسقى مسلم بن يعيد، فأتوه بإناء، فأخذه جابر أو حارثه بن كثير أخو سليمان بن كثير من فيه، فقال مسلم: دعوه فما نازعني شربتي إلا من حر دخله. وأتوا خجندة، وقد أصابهم مجاعة وجهد، فانتشر الناس، فإذا فارسان يسألان عن عبد الرحمن بن نعيم، فأتياه بعهده على خراسان من أسد بن عبد الله أخي خالد، فأقراه عبد الرحمن مسلماً، فقال: سمعاً وطاعة. وكان عبد الرحمن أول من اتخذ الخيام في مفازة آمل. قال الخزرج التغلبي: قاتلنا الترك فأحاطوا بنا حتى أيقنا بالهلاك، فحمل حوثرة بن يزيد بن الحر بن الخنيف على الترك في أربعة آلاف فقاتلهم ساعة ثم رجع، وأقبل نصر بن سيار في ثلاثين فارساً فقاتلهم حتى أزالهم عن مواضعهم فحمل عليهم الناس فانهزم الترك وحوثرة، وهو ابن أخي رقبة بن الحر. قيل: وكان عمر بن هبيرة قال لمسلم بن سعيد خين ولاه: ليكن حاجبك من صالح مواليك، فإنه لسانك والمعبر عنك، وعليك بعمال العذر. قال: وما عمال العذر؟ قال: تأمر أهل كل بلد أن يختاروا لأنفسهم، فإن كان خيراً كان لك وإن كان شراً كان لهم دونك وكنت معذوراً. وكان على خاتم مسلم بن سعيد توبة بن أبي سعيد، فلما ولي أسد بن عبد الله خراسان جعله على خاتمة أيضاً ذكر حج هشام بن عبد الملكوحج بالناس هذه السنة هشام بن عبد الملك، وكتب له أبو الزناد سنن الحج قال أبو الزناد: لقيت هشاماً، فإني لفي الموكب إذ لقيه سعيد بن عبد الله ابن الوليد بن عثمان بن عفان، فسار إلى جنبه فسمعه يقول: يا أمير المؤمنين إن الله لم يزل ينعم على أهل بيت أمير المؤمنين وينصر خليفته المظلوم، ولم يزالوا يلعنون في هذه المواطن أبا تراب! فإنها مواطن صالحة، وأمير المؤمنين ينبغي له أن يلعنه فيها. فشق على هشام قوله وقال: ما قدمنا لشتم أحد ولا للعنه، قدمنا حجاجاً، ثم قطع كلامه وأقبل علي فسألني عن الحج، فأخبرته بما كتبت له، قال: وشق على سعيد أني سمعته تكلم بذلك وكان منكسراً كلما رآني. ذكر ولاية أسد خراسانقيل: وفي هذه السنة استعمل خالد بن عبد الله أخاه أسداً على خراسان فقدمها وسلم بن سعيد غازٍ بفرغانة، فلما أتى أسد لنهر ليقطعه منعه الأشهب بن عبيد التميم، وكان على السفن بآمل، وقال: قد نهيت عن ذلك فأعطاه ولا طفه، فأبى، وقال: فإني أمير، فأذن له، فقال أسد: اعرفوا هذا حتى نشكره في أمانتنا. وأتى الصغد فنزل بالمرج، وعلى سمرقند هانئ بن هانئ، فخرج في الناس يلقى أسداً، فرآه على حجر فتفاءل الناس وقالوا: ما عند هذا خير، أسد على حجر. ودخل سمرقند وبعث رجلين معهما عهد عبد الرحمن بن نعيم على الجند، فقدما وسألا عنه وسلما إليه العهد، فأتى به مسلماً فقال: سمعاً وطاعة. وقفل عبد الرحمن بالناس ومعه مسلم، فقدموا على أسد بسمرقند، فعزل هانئاً عنها واستعمل عليها الحسن بن أبي العمرطة الكندي.
وقيل للحسن: إن الأتراك قد أتوك في سبعة آلاف. فقال: ما أتونا، نحن أتيناهم وغلبناهم على بلادهم واستعبدناهم ومع هذا فلأذنين بعضكم من بعض ولأقربن نواصي خيلكم بخيلهم، ثم سبهم ودعا عليهم، ثم خرج إليهم متبطئاً، فأغاروا ورجعوا سالمين. واستخلف على سمرقند ثابت قطنة، فخطب الناس، فأرتج عليه وقال: ومن يطع الله ورسوله فقد ضل؛ فسكت ولم ينطق بكلمة، وقال: إن لم أكن فيكم خطيباً فإنني ... بسيفي إذا جد الوغى لخطيب فقيل له: لو قلت هذا على المنبر لكنت أخطب الناس؛ فقال حاجب الفيل اليشكري يعيره بحضرته. أبا العلاء لقد لاقيت معضلةً ... يوم العروبة من كربٍ وتخنيق تلوي اللسان إذا رمت الكلام به ... كما هوى زلق من شاهق النيق لما رمتك عيون الناس صاحيةً ... أنشأت تجض لما قمت بالريق أما القرآن فلا تهدى لمحكمةٍ ... من القرآن ولا تدى لتوفيق ذكر استعمال الحر على الموصلفي هذه السنة استعمل هشام الحر بن يوسف بن يحيى بن الحكم بن أبي العاص بن أمية على الموصل، وهو الذي بنى المنقوشة داراً يسكنها، وإنما سميت المنقوشة لأنها كانت منقوشة بالساج والرخام والفصوص الملونة وما شاكلها، وكانت عند سرق القتابين والسعارين وسق الأربعاء، وأمام الآن خربة تجاور سوق الأربعاء. وهذا الحر الذي عمر النهار الذي كان بالموصل. وسبب ذلك أنه رأى امرأة تحمل جرة ماء وهي تحملها قليلاً ثم تستريح قليلاً لبعد الماء، فكتب إلى هشام بذلك، فأمر بحفر نهر إلى البلد، فحفره، فكان أكثر شرب أهل البلاد منه وعليه كان الأشرع المعروف بشار النهر، وبقي العمل فيه عدة سنين، ومات الحر سنة ثلاث عشرو ومائة. ذكر عدة حوادثفي هذه السنة كلم إبراهيم بن محمد بن طلحة هشام بن عبد الملك وهو في الحجر فقال له: أسألك بالله وبحرمة هذا البيت الذي خرجت معظماً له إلا رددت علي ظلامتي. قال: أي ظلامة؟ قال: داري. قال: فأين كنت عن أمير المؤمنين عبد الملك؟ قال: ظلمني. اقل: فالوليد وسليمان؟ قال: ظلماني. قال: فعمر؟ قال: يرحمه الله ردها علي. قال: فيزيد بن عبد الملك؟ قال: ظلمني وقبضها مني بعد قبضي لها، وهي في يدك. فقال هشام: لو كان فيك ضرب لضربتك. فقال: في والله ضرب بالسيف والسوط. فانصرف هشام والأبرش خلفه فقال: أبا مجاشع كيف سمعت هذا الإنسان؟ قال: ما أجوده! قال: هي قريش وألسنتها، ولا يزال في الناس بقايا ما رأيت مثل هذا. وفيها عزل هشام عبد الواحد النضري عن مكة والمدينة والطائف وولى ذلك خاله إبراهيم بن هشام بن إسماعيل، فقدم المدينة في جمادى الأخرة، فكانت ولاية النضري سنة وثمانية أشهر .وفيها غزا سعيد بن عبد الملك الصائفة. وفيها غزا الجراح بن عبد الله اللان فصالح أهلها فأدوا الجزية. وفيها ولد عبد الصمد بن علي بن عبد الله بن عباس في رجب. وفيها اسقضى إبراهيم بن هشام على المدينة محمد بن صفوان الجمحي ثم عزله واستقضى الصلت الكندي. وكان العامل على مكة والدينة والطائف إبراهيم بن هشام المخزومي، وكان على العراق وخراسان خالد بن عبد الله القسري البجلي، وكان عامل خالد على صلاة البصرة عقبة بن عبد الأعلى، وعلى شرطتها مالك بن المنذر بن الجارود، وعلى قضائها ثمامة بن عبد الله بن أنس. وحج بالناس هشام بن عبد الملك. وفيها مات يوسف بن مالك مولى الحضرميين، وبكر بن عبد الله المني ثم دخلت سنة سبع ومائة ذكر ملك الجنيد بعض بلاد السند وقتل صاحبه جيشبة في هذه السنة استعمل خالد القسري الجنيد بن عبد الرحمن على السند، فنزل شط مهران، فمنعه جيشبه بن ذاهر العبور وقال: إننا ملمسمون، فقد استعملني الرجل الصالح، يعين عمر بن عبد العزيز، على بلادي ولست آمنك، فأعطاه رهناً وأخذ منه رهناً بما على بلاده من الخراج، ثم إنهما ترادا الرهن وكفر جيشه وحاربه، وقيل: لم يحاربه ولكن الجنيد تجنى عليه فأتى الهند فجمع جموعاً وأخذ السفن، وقد جنحت سفينته فقتله، وهرب أخوه صصه إلى العراق ليشكو غدر الجنيد، فخدعه الجنيد حتى جاء إليه فقتله. وغزا الجنيد الكيرج، وكانوا قد نقضوا، ففتحها عنوةً وفتح أزين والمالبة وغيرهما من ذلك الثغر.
ذكر غزوة عنبسة الفرنج بالأندلس في هذه السنة غزا غنبسة بن سحيم الكلبي عامل الأندلس بلد الفرنج في جمع كثير ونازل مدينة قرقسونة وحصر أهلها، فصالحوه على نصف أعمالها وعلى جميع ما في المدينة من أسرى المسلمين وأسلابهم وأن يعطوا الجزية ويلتزموا بأحكام الذمة من محاربة من حاربه المسلمون وسالمة من سالموه، فعاد عنهم عنبسة وتوفي في شعبان سنة سبع ومائة أيضاً، وكانت ولايته أربع سنين وأربعة أشهر، ولما مات استعمل عليهم بشر بن صفوان يحيى بن سلمة الكلبي في ذي القعدة سنة سبع أيضاً. ذكر حال الدعاة لبني العباسقيل: وفيها وجه بكير بن ماهان أبا عكرمة وأبا محمد الصادق ومحمد ابن خنيس وعماراً العبادي وزياداً خال الوليد الأزرق في عدة من شيعتهم دعاةً إلى خراسان، فجاء رجل من كندة إلى أسد بن عبد الله فوشى بهم إليه.، فأتى بأبي عكرمة ومحمد بن خنيس وعامة أصحابه، ونجا عمار، فقطع أسد أيدي من ظفر به منهم وصلبهم، وأقبل عمار إلى بكير بن ماهان فأخبره الخبر، فكتب إلى محمد بن علي بذلك، فأجابه: الحمد لله الذي صدق دعوتكم ومقالتكم وقد بقيت منكم قتلى ستقتل. وفيها قدم مسلم بن سعيد إلى خالد بن عبد الله، فكان أسد يكرمه بخراسان ولم يعرض له، فقدم مسلم وابن هبيرة يريد الهرب، فنهاه عن ذلك وقال: إن القوم فينا أحسن رأياً منكم فيهم. وفيها غزا أسد جبال نمرون ملك غرشس مما يلي جبال الطالقان، فصالحه نمرون وأسلم على يده، وهم يتولون اليوم اليمن. ذكر الخبر عن غزوة الغورقيل: وفي هذه السنة غزا أسد الغور، وهي جبال هراة، فعمد أهلها إلى أثقالهم فصيروها في كهف ليس إليه طريق، فأمر أسد باتخاذ توابيت ووضع فيها الرجال ودلاها بسلاسل فاستخرجوا ما قدروا عليه. ذكر عدة حوادثفي هذه السنة عزل هشام الجراح بن عبد الله الحكمي عن أرمينية وأذربيجان واستعمل عليها أخاه مسلمة بن عبد الملك، فاستعمل عليها مسلمة الحارث ابن عمرو الطائي، فافتتح من بلد الترك رستاقاً وقرى كثيرة وأثر فيها أثراً حسناً. وفيها نقل أسد من كان بالبروقان إلى بلخ من الجند وأقطع كل من كان له بالبروقان بقدر مسكنة ومن لم يكن له مسكن أقطعه سمكناً، وأراد أن ينزلهم على الأخماس فقيل له إنهم يتعصبون فخط بينهم. وتولى بناء مدينة بلخ برمك أبو خالد بن برمك، وبينها وبين البروقان فرسخان. وحج بالناس هذه السنة إبراهيم بن هشام، وكان عمال الأمصار من تقدم ذكرهم في السنة قبلها. وفيها مات سليمان بن يسار وعمرة ثلاث وسبعون سنة، وعطاء بن زيدي الليثي وله ثمان وتسعون سنة، وقد تقدم ذكر وفاته سنة خمس ومائة. يسار بالياء المثناة من تحت، وبالسين المهلملة. ثم دخلت سنة ثمان ومائة ذكر غزوة الختل والغور قيل: وفي هذه السنة قطع أسد النهر وأتاه خاقان فلم يكن بينهما قتال في هذه الغزوة، وقيل: عاد مهزوماً من الختل، وكان أسد قد أظهر أنه يريد أن يشتو بسرخ دره، فأمر الناس فارتحلوا، ووجه راياته وسار في ليلة مظلمة إلى سرخ دره، فكبر الناس، فقال: مالهم؟ فقالوا: هذه علامتهم إذا قفلوا. فقال للمنادي: ناد إن الأمير يريد غوريين، فمضى إليهم، فقاتلوهم يوماً وصبروا لهم. وبرز رجل من المشركين بني الصفين، فقال سالم بن أحوز لنصر بن سيار: أنا حامل على هذا العلج فلعلي أقتله فيرضى أسد، فحمل عليه فطعنه فقتله ورجع سالم فوقف قم قال لنصر: أنا حامل حملة أخرى، فحمل فقتل رجلاً آخر، وجرح سالم، فقال: أترى ما صنعنا يرضيه؟ لا أرضاه الله! قال: لا واللهز قال: وأتاهما رسول أسد فقال: يقول لكما الأمير قد رأيت موقفكما وقلة غنائكما عن المسلمين لعنكما الله. فقال: آمين إن عدنا لمثل هذا! وتحاجزوا. ثم عادوا من الغد فاقتتلوا وانهزم المشركون وحوى المسلمون عسكرهم وظهروا على البلاد وأسروا وسبوا وغنموا. وقد كان أصاب الناس جوع شديد بالختل، فبعث أسد بكبشين مع غلام له وقال: بعهما بخمسمائة درهم. فلما مضى الغلام قال أسد: لا يشتريهما إلا ابن الشخير، وكان في المسلحة، فدخل حين أمسى الشاتين في السوق فاشتراهما بخمسائة، فذبح إحداهما وبعث بالأخرى إلى بعض إخوانه، فلما أخبر الغلام أسداً بالقصة بعث إلى ابن الشخير بألف درهم وهو عثمان بن عبد الله بن الشخير أبو مطرف. ذكر عدة حوادث
في هذه السنة غزا مسلمة بن عبد الملك الروم مما يلي الجزيرة ففتح قياسرية، وهي مدينة مشهورة. وفيها أيضاً غزا إبراهيم بن هشام ففتح حصناً الروم. وفيها وجه بكير بن ما هان إلى خراسان جماعةً من شيعة بني العباس، منهم عمار العابدي، فسعى بهم رجل إلى أسد بن عبد الله أمير خراسان، فأخذ عماراً فقطع يديه ورجليه ونجا أصحابه فوصلوا إلى بكير فأخبروه بذلك، فكتب إلى محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، لأجابه: الحمد لله الذي صدق دعوتكم ونجى شيعتكم؛ وقد تقدم سنة سبع ومائة ذكر هذه القصة. وفيها: أن عماراً نجا؛ وفي هذه الرواية: أن عماراً قطع، فلهذا أعدنا ذكرها، والله أعلم. وفيها وقع الحريق بدابق فاحترق المرعى والدواب والرحال. وفيها سار ابن خاقان ملك الترك إلى أذربيجان فحصر بعض مدنها، فسار إليه الحارث ابن عمرو الطائي فالتقوا فاققتلوا فانهزم الترك وتبعهم الحاث حتى عبر نهر أس، فعاد إليه ابن خاقان فعادو الحرب أيضاً، فانهزم ابن خاقان وقتل من الترك خلق كثير. وفيها خرج عباد الرعيني باليمن محكماً، فقتله أميرها يويف بن عمر وقتل أصحابه. وكانونوا ثلاثمائة. وفيها غزا معاوية بن هشام ابن عبد الملك وعه ميمون بن مهران على أهل الشام فقطعوا البحر إلى قبرس، وغزا في البر مسلمة بن عبد الملك بن مروان. وفيها كان بالشام طاعون شدؤد. وحج الناس هذه السنة إبراهيم بن هشام وهو على المدينة ومكة والطائف. وكان العمال من تقدم ذكرهم في السنة قبلها. وفيها مات محمد بن كعب القرطي، وقيل: سنة سبع عشرة، وقيل: إنه ولد على عهد رسول الله، صلى الله عليه وسلم . وفيها مات موسى بن محمد بن علي بن الله والد عيسى ببلاد الروم غازياً، وكان عمره سبعاً وسبعين سنة. وفيها مات القاسم بن محمد بم أبي بكر الصديق، وكان عمره سبعين سنة، وقيل: ثنين وسبعين سنة، وكان قد عمي، وقيل: مات سنة إحدى ومائة. وفيها توفي أبو المتوكل علي بن دودا الناجي. وأبو نضرة المنذر بن قطعة النضري؛ نضرة بالنون والضاد المعجمة. ومحارب ابن دثار الكوفي قاضيها؛ دثار بكسر الدال المهملة، والثاء المثلثة. ثم دخلت سنة تسع ومائة ذكر عزل خالد وأخيه أسد عن خاسان وولاية أشرس قيل: وفي هذه السنة عزل هشام بن عبد الملك خالد بن عبد الله وأخاه عن خراسان. وسبب ذلك أن أسداً تعصب حتى أفسد الناس وضرب نصر بن سيار ونفراً معه بالسياط، منهم: عبد الرحمن بن نعيم وسورة بن الحر والبختري ابن أبي درهم وعامر بن مالك الحماني، وحلقهم وسيرهم إلى أخيه خالد، وكتب إليه: إنهم أرادوا الوثوب بي. فلما قدموا على خالد لام أسداً وعنفه وقال: ألا بعث إلي برؤوسهم؟ فقال: نصر: بعث بالعتاب في غير ذنبٍ ... في كتابٍ تلوم أم تميم إن أكن موثقاً أسيراً لديهم ... في همومٍ وكربةٍ وسهوم رهن تعس فما وجدت بلاءٍ ... كإسار الكرام عند اللئيم أبلغ المدعين قسراً وقسر ... أهل عود القناة ذات الصون هل فطمتم عن الخيانة والغد ... رأم أنتم كالحاكر المستديم وقال الفرزدق: أخالد لولا الله لم تعط طاعةً ... ولولا بنو مروان لم يوثقوا نصراً إذاً للقيتم عند سد وثاقه ... بني الحرب لا كشف اللقاء ولا ضجرا وخطب يوماً أسد فقال: قبح الله هذه الوجوه وجوه أهل الشقاق والنفاق والشغب والفساد! اللهم فرق بيني وبينهم وأخرجني إلى مهاجري ووطني. فبلغ فعله هشام بن عبد الملك، فكتب إلى خالد: اعزل أخاك، فعزله، فرجع إلى العراق في رمضان سنة تسع ومائة، واستخلف على خراسان الحكم ابن عوانة الكلبي، فأقام الحكم صيفية فلم يغز، ثم استعمل هشام أشرس ابن عبد الله السلمي على خراسان وأمره أن يكاتب خالداً. وكان أشرس فاضلاً خيراً، وكانوا يسمونه الكامل لفضله، فلما قدم خراسان فرحوا به، واستقضى أبا المنازل الكندي ثم عزله واستقضى محمد بن زيد. ذكر دعاة بني العباس
قبل: أول من قدم خراسان من دعاة بني العباس زياد أبو محمد مولى همدان في ولاية أسد، بعثه محمد بن علي بن عبد الله بن عباس وقال له: انزل في اليمن والأطف مضر، ونهاه عن رجل من نيسابور يقال له غالب لأنه كان مفرطاً في حب بني فاطمة، ويقال: أول من أتى خراسان بكتاب محمد بن علي حرب بن عثمان مولى بني قيس بن ثعلبة من أهل بلخ، فما قدم زياد دعا إلى بني العباس وذكر سيرة بني أمية وظلمهم، وأطعم الناس الطعام، وقدم عليه غالب وتناظرا في تفضيل آل علي وآل العباس، وافترقا؛ وأقام زياد بمرو وشتوة ويختلف إليه من أهلها يحيى بن عقيل الخزاعي وغيره. فأخبر به أسد، فدعاه وقال له: ما هذا الذي بلغني عنك؟ قال: الباطل، وإنما قدمت إلى تجارة وقد فرقت مالي على الناس، فإذا اجتمع خرجت. فقال له أسد: اخرج عن بلادي. فانصرف فعاد إلى أمره، فرفع أمره إلى أسد وخوف من جانبه، فأحضره وقتل معه عشرة من أهل الكوفة ولم يبنج منهم إلا غلامان استصغرهما، وقيل: بل أمر بزياد أن يوسط بالسيف، فضربوه بالسيف فلم يعمل فيه، فكبر الناس، فقال أسد: ما هذا؟ قيل: نبا السيف عنه، ثم ضرب أخرى فنبا السيف عنه، ثم ضربه الثالثة فقطعه باثنتين، وعرض البراءة على أصحابه، فممن تبرأ خلى سبيله، فتبرأ اثنان فتركا وأبى البراءة ثمانية فقتلوا. فلما كان الغد أقبل أحدهما إلى أسد فقال: أسألك أن تلحقني بأصحابي، فقتله، وذلك قبل الأضحى بأربعة أيام، ثم قدم بعدهم رجل من أهل الكوفة يسمى كثيراً فنزل على أبي النجم، وكان يأتيه الذين لقوا زياداً، فكان على ذلك سنة أو سنتين، وكان أمياً، فقدم عليه خداش، واسمه عمارة غلب عليه خداش، فغلب كثيراً على أمره. وقيل في أمل الدعاة ما تقدم. ذكر عدة حوادثفي هذه السنة غزا عبد الله بن عقبة الفهري في البحر، وغزا معاوية ابن هشام أرض الروم ففتح حصناً يقال له طيبة، فأطيب معه قوم من أهل أنطاكية. وفيها قتل عمر بن يزيد الأسيدي، قتله مالك بن المنذر بن الجارود، وسبب قتله أنه أبلى في قتال يزيد بن المهلب، فقال يزيد بن عبد الملك: هذا رجل العراق. فغاظ ذلك خالد بن عبد الله وأمر مالك بن المنذر، وهو على شرط البصرة، أن يعظمه ولا يعصي له أمراً، وأقبل يطلب له عثرة يقتله بها، فذكر مالك بن المنذر عبد الأعلى بن عبد الله بن عامر فافترى عليه، فقال عمر بن يزيد: لا تفتر على مثل عبد الأعلى. فأغلظ له مالك وضربه بالسياط حتى قتله الأسيدي بضم الهمزة، وتشديد الياء تحتها نقطتان. وفيها غزا مسلمة بن عبد الملك الترك من ناحية أذربيجان فغنم وسبى وعاد سالماً. وحج بالناس هذه السنة إبراهيم بن هشام، فخطب الناس فقال: اسألوني فإنكم لا تسألون أحداً أعلم مني. فسأله رجل من أهل العراق عن الأضحية أواجبة هي، فما درى ما يقول، فنزل ، وكان هو العامل على المدينة ومكة والطائف، وكان على البصرة والكوفة خالد بن عبد الله القشري، وكان قد استخلف على الصلاة بالبصرة أبان بن ضبارة الشربي، وعلى الشرطة بها بلال ابن أبي بردة، وعلى قضائها ثمامة بن عبد الله بن أنس، وعلى خراسان أشرس. وفي هذه السنة مات أبو مجلز لاحق بن حميد البصري. وفيها غزا بشر ابن صفوان عامل إفريقية جزيرة صقلية فغنم شيئاً كثيراً ثم رجع من غزاته إلى القيروان وتوفي بها من سنتها، فاستعمل هشام بعده عبيدة بن عبد الرحمن بن أبي الأغر السلمي، فعزل عبيدة يحيى بن مسلمة الكلبي عن الأندلس واستعمل حذيفة بن الأحوص الأشجعي، فقدم الأندلس في ربيع الأول سنة عشر ومائة، فبقي والياً عليها ستة أسهر ثم عزل، ووليها عثمان بن أبي نسعة الخثعي. ثم دخلت سنة عشر ومائة | |
|
| |
الشيخ عودة الشيخ عودة
عدد المساهمات : 1748 تاريخ التسجيل : 28/09/2008 العمر : 74
| موضوع: رد: كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير الثلاثاء فبراير 11, 2014 3:51 am | |
| ذكر ما جرى لأشرس مع أهل سمرقند وغيرها
في هذه السنة أرسل أشرس إلى أهل سمرقند وما وراء النهر يدعوهم إلى الإسلام على أن توضع عنهم الجزية، وأرسل في ذلك أبا الصيداء صالح بن طريف مولى بني ضبة والربيع بن عمران التميمي. فقال أبو الصيداء: إنما أخرج على شريطة أن من أسلم لا تؤخذ منه الجزية، وإنما خراج خراسان على رؤوس الرجال. فقال أشرس: نعم. فقال أبو الصيداء لأصحابه: فإني أخرج، فإن لم يف العمال أعنتموني عليهم؟ قالوا: نعم. فشخص إلى سمرقند من حولها إلى الإسلام على أن توضع عنهم الجزية،فسارع الناس، فكتب غوزك إلى أشرس أن الخراج قد انكسر. فكتب أشرس إلى ابن أبي العمرطة: إن في الخراج قوة للمسلمين، وقد بلغني أن أهل الصغد وأشباههم ما أسلموا رغبة إنما أسلموا تعوذاً من الجزية، فانظر من اختتن وأقام الفائض وقرأ سورة من القرآن فارفع خراجه. ثم عزل أشرس ابن أبي العمرطة عن الخراج وصيره إلى هانئ بن هانئ، فمنعم أبو الصيداء من أخذ الجزية ممن أسلم، فكتب هانئ إلى أشرس: عن الناس قد أسلموا وبنوا المساجد. فكتب أشرس إليه وإلى العمال: خذوا الخراج ممن كنتم تأخذونه منه. فأعادوا الجزية على من أسلم. فامتنعوا واعتزلوا في سبعة آلاف على عدة فراسخ من سمرقند، وخرج إليهم أبو الصيداء وربيع بن عمران التميمي والهيثم الشيباني وأبو فاطمة الأزدي وعامر بن قشيراء وبجير الخجندي وبنان العنبري وإسماعيل بن عقبة لينصروهم، فعزل أشرس ابن أبي العمرطة عن الحرب وأستعمل مكانه المجشر بن مزاحم السمي على الحرب وصم إليه عميرة بن سعد الشيباني. فلما قدم المجشر كتب إلى أبي الصيداء يسأله أن يقدم عليه هو وأصحابه، فقدم أبو الصيداء وثابت قطنة، فحبسهما، فقال أبو الصيداء: غرتم ورجعتم عما قلتم. فقال هانئ: ليس بغدر ما كان فيه حقن الدماء؛ ثم سيره إلى أشرس، فكتبوا إليه، فكتب أشرس: ضعوا عنهم الخراج، فرجع أصحاب أبي الصيداء وضعف أمرهم، فتبع الرؤساء، فأخذوا وحملوا إلى مرو، وبقي ثابت محبوساً، فألح هانئ في الخراج واستخفوا بعظماء العجم والدهاقين وأقيموا وتخرقت ثيابهم وألقيت مناطقهم في أعتاقهم، وأخذوا الجزية ممن أسلم من لضعفاء، فكفرت الصغد وبخارى واستجاشوا الترك. ولم يزل ثابت قطنة في حبس المجشر حتى قدم نصر بن سيار إلى المجشر والياً فحمله إلى أشرس فحبسه، وكان نصر قد أحسن إليه؛ فقال ثابت يمدحه بأبيات يوقل فيها: ما هاج شوقك من نؤيٍ وأحجار ... ومن رسومٍ عفاها صوب أمطار إن كان ظنب بنصرٍ صادقاً أبداً ... فيما أدبر من نقضي وإمراري لا يصرف الجند حتى يستفئ بهم ... نهباً عظيماً ويحوي ملك جبار إني وإن كنت من جذم الذي نضرت ... منه الفروع وزندي الثاقب الواري لذاكر منك أمراً قد سبقت به ... من كان قبلك يا نصر بن سيار ناضلت عني نضال الحر إذا قصرت ... دوني العشيرة واستبطأت أنصاري وصار كل صديقٍ كنت آمله ... ألباً علي ورث الحبل من جاري وما تبلست بالأمر الذي وقعوا ... به علي ولا دنست أطماري ولا عصيت إماماً كان طاعته ... حقاً علي ولا قارفت من عار وخرج أشرس غازياً فنزل آمل فأقام ثلاثة أشهر. وقدم قطن بن قتيبة بن مسلم فعبر النهر في عشرة آلاف، فأقبل أهل الصغد وبخارى معهم خاقان والترك، فحصروا قطناً في خندقه، فأرسل خاقان من أغار على مسرح الناس، فأخرج أشرس ثابت قطنة بكفالة عبد الله بن بسطام بن مسعود بن عمرو، فوجهه مع عبد الله بن بسطام في خيل، فاتلوا الترك بآمل حتى استنقذوا ما بأيديهم ورجع الترك.
ثم عبر أشرس بالناس إلى قطن، وبعث أشرس سرية مع مسعود أحد بني حيان، فلقيهم العدو فقاتلوهم، فقتل رجال من المسلمين وهزم مسعود فرجع إلى أشرس، وأقبل العدو، فلقيهم المسلمون فجالوا جولة فقتل رجال من المسلمين، ثم رجع المسلمون وصبروا فانهزم المشركون، وسار أشرس بالناس حتى نزل بيكند، فقطع العدو عنهم الماء وأقام المسلمون يوماً وليلةً وعطشوا فرحلوا إلى المدينة التي قطع العدو بها، وعلى المقدمة قطن ابن قتيبة، فلقيهم العدو فقتلوهم فجهدوا من العطش، فمات منهم سبعمائة، فعجز الناس عن القتال، فحرض الحارث بن سريج الناس فقال: القتل بالسيف أكرم في الدنيا وأعظم أجراً عند الله من الموت عطشاً. وتقدم الحارث وقطن في فوارس من تميم فقاتلوا حتى أزالو التر عن الماء، فابتدره الناس فشربوا واستقوا. ثم مر ثابت قطنة بعبد الملك بن دثار الباهلي فقال: هل لك في الجهاد؟ فقال: أمهلني حتى أغتسل وأتحنط. فوقف له حتى اغتسل ثم مضيا، وقال ثابت لأصحابه: أنا أعلم بقتال هؤلاء منك؛ وحرضهم، فحملوا، واشتد القتال، فقال ثابت قطنة: اللهم إني كنت ضيف ابن بسطان البارحة فاجعلني ضيفك الليلة، والله لا ينظر إلي بنو أمية مشدوداً ف الحديد. فحمل وحمل أصحابه، فرجع أصحابه وثبت هو، فرمي برذونة فشب، وضربه فأقدم، وضرب ثابت فارتث فقال وهو صريع: اللهم إني أصبحت ضيقاً لابن بسطام وأمست ضيفك! فاجعل قراي منك الجنة! فقتلوه وقتلوا معه عدة من المسلمين، منهم: صخر بن مسلم بن النعمان العبدي، وعبد الملك بن دثار الباهلي، وغيرهما؛ وجمع قطن وإسحاق بن محمد بن حبان خيلاً من المسلمين تبايعوا على الموت، فحملوا على العدو فقاتلوهم فكشفوهم وركبهم المسلمون يقتلونهم حتى حجزهم الليل وتفرق العدو، وأتى أشرس بخارى فحصر أهلها. الحارث بن سريج بالسين المهلمة والجيم. ذكر وقعة كمرجهثم عن خاقان حصر كمرجه، وهي من أعظم بلدان خراسان، وبها جمع من المسلمين، ومع خاقان أهل فرغانة وأفشينة ونسف وطوائف من أهل بخارى، فاغلق المسلمون الباب وقطعوا القنطرة التي على الخندق. فأتاهم ابن خسرو بن يزدجرد فقال: يا معشر العرب لم تقتلون أنفسكم؟ أنا الذي جئت بخاقان ليرد علي مملكتي وأنا آخذ الأمان. فشتموه. وأتاهم بازغرى في مائتين، وكان داهية، وكان خاقان لا يخالفه، فدنا من المسلمين بأمان وقال: لينزل إلي رجل منكم أكلمه بما أرسلني به خاقان. فأحذروا يزيد بن سعيد الباهلي، وكان يفهم التركية يسيراً، فقال له: إن خاقان أرسلني وهو يقول إني أجعل من عطاؤه منكم ستمائة ألفاً، ومن عطاؤه ثلاثمائة وستمائة، وهو يحسن إليكم. فقال له يزيد: كيف تكون العرب وهم ذئاب مع الترك وهم شاء! لا يكون بيننا وبينهم صلح. فغضب بازغرى، وكان معه تركيان، فقالا: ألا تضرب عنقه؟ فقال: إنه نزل بأمان. وفهم يزيد ما قالا فخاف فقال: بلى إنما تجعلوننا نصفين فيكون نصفنا مع أثقالنا ويسير النصف معكم، فإن ظفرتم فنحن معكم، وإن كان غير ذلك كنا كسائر مدائن الصغد. فرضوا بذلك، وقال: أعرض على أصحابي هذا. وصعد في الحبل، فلما صار على السور نادى: يا أهل كمرجه اجتمعوا فقد جاءكم قوم يدعونكم إلى الكفر بعد الإيمان، فما ترون؟ قالوا: لا نجيب ولا نرضى. قال: يدعونكم إلى قتال المسلمين مع المشركين. قالوا نموت قبل ذلك. فرد بازغرى. ثم أمر خاقان بقطع الخندق، فجعلوا يلقون الحطب الرطب ويلقي المسلمون الحطب اليابس حتى سوي الخندق فأشعلوا فيه النيران وهاجت ريح شديدة صنعاً من الله فاحترق الحطب وكانوا جمعوه في سبعة أيام، في ساعة واحدة. ثم فرق خاقان على الترك أغناماً وأمرهم أن يأكلوا لحمها ويحشوا جلودها تراباً وكبسوا خندقها، ففعلوا ذلك، فأرسل الله سحابة فمطرت مطراً شديداً، فاحتمل السيل ما في الخندق وأقاه في النهر العظيم. ورماهم المسلمون بالسهام فأصابت بازعغرى نشابة في سرته فمات من ليلته، فدخل عليهم بموته أمر عظيم. فلما امتد النهار جاؤوا بالأسرى الذين عندهم، وهم مائة، فيهم أبو العوجاء العتكي والحجاج بن حميد النضري، فقتلوهم ورموا برأس الحجاج، وكان عند المسلمين مائتان من أولاد المشركين رهائن فقتلوهم واستماتوا، واشتد القتال.
ولم يزل أهل كرمجه كذلك حتى أقبلت جنود العرب فنزلت فرغانة، فعير خاقان أهل الصغد وفرغانة والشاش والدهاقين وقال: زعمتم أن في هذه خمسين حماراً وأنا نفتحها في خمسة أيام فارت الخمسة شهرين. وأمرهم بالرحيل وشتمهم، فقالوا: ما ندع جهداً، فاحضرنا غداً وانظر ما نصنع. فلما كان الغد وقف خاقان وتقدم ملك الطاربند فقاتل المسلمين فقتل منهم ثمانية، وجاء حتى وقف على ثلمة إلى جانب بيت فيه مريض من تميم، فرماه التميمي بكلوب، فتعلق بدرعه، ثم نادى النساء والصبيان فجذبوه فسقط لوجه، ورماه رجل بحجر فأصاب أصل أذنه فصرع، وطعنه آخر فقتله، فاشتد قتله على الترك. وأرسل خاقان إلى المسلمين: إنه ليس من رأينا أن نرتحل عن مدينة نحاصرها دون إفتتاحها أو ترحلهم عنها. فقالوا له: ليس من ديننا أن نعطي بأيدينا حتى نقتل فاصنعوا ما بدا لكم. فأعطاهم الترك الأمان أن يرحل خاقان عنهم وبرحوا هم عنها إلى سمرقند أو الدبوسية، فرأى أهل كمرجه ما هم فيه من الحصار فأجابوا إلى ذلكم، فأخذوا من الترك رهائن أن لا يعرضوا لهم وطلبوا أن كورصول التركي يكون معهم في جماعة لمينعهم إلى الدبوسية، فسلموا إليهم الرهائن وأخذوا أيضاً هم من المسلمين رهائن، وارتحل خاقان عنهم، ثم رحلوا هم بعده، فقال الأتراك الذين مع كورصول: إن بالدبوسية عشرة آلاف مقاتل ولا نأمن أن يخرجوا علينا. فقال لهم المسلمون : إن قاتلوكم قاتلناهم معكم. فساروا، فلما صار بينهم وبين الدبوسية فرسخ نظر أهلها إلى الفرسان فظنوا أن كمرجه فتحت وأن خاقان قد قصدهم فتأهبوا للحرب، فأرسل المسلمون إليهم يخبرونهم خبرهم، فالتقوهم وحملوا من كان يضعف عن المشي ومن كان مجروحاً. فلما بلغ المسلمون الدبوسية أرسلوا إلى من عنده الرهائن يعلمونه بوصولهم ويأمرونه بإطلاقهم، فجعلت العرب تطلق رجلاً من الرهن والترك رجلاً حتى بقي سباع بن النعمان مع الترك، ورجل من الترك عند العرب، وجعل كل فريق يخاف من صاحبه الغدر، فقال سباع: خلوا رهينة الترك، فخلوه، وبقي سباع مع الترك، فقال له كورصول: ما حملك على هذا؟ قال: وثقت بك وقلت ترفع نفسك عن الغدر، فوصله كورصول وأعطاه سلاحه وبرذوناً وأطلقه. وكانت مدة حصار كمرجة ثمانية وخمسين يوماً فيقال: إنهم لم يسقول إبلهم خمسة وثلاثين يوماً. ذكر ردة أهل كردرفي هذه السنة أرتد أهل كردر، فأرسل إليهم أشرس جنداً فظفروا بهم؛ فقال عرفجة ونحن كفينا أهل مرو وغيرهم ... ونحن نفينا الترك عن أهل كردر فإن تجعلوا ما قد غنمنا لغيرنا ... فقد يظلم المرء الكريم فيصبر ذكر عدة حوادثفي هذه السنة جمع خالد القسري الصلاة والأحداث والشرط والقضاء بالبصرة لبلال بن أبي بكرة وعزل ثمامة عن القضاء. وفيها غزا مسلمة الترك من باب اللان، فلقي خاقان في جموعه فاقتتلوا قريباً من شهر وأصابهم مطر شديد، فانهزم خاقان وانصرف ورجع مسلمة فسلك على مسلك ذي القرنين. وفيها غزا معاوية الروم ففتح صملة. وفيها غزا الصائفة عبد الله بن عقبة الفهري، وكان على جيش البحر عبد الرحمن بن معاوية بن حديج، بضم الحاء وفتح الدال المهملتين. وحج بالناس إبراهيم بن إسماعيل. فكان العمال على البلاد هذه السنة من تقدم ذكرهم في السنة التي قبلها. وفيها مات الحسن البصري وله سبع وثمانون سنة. ومحمد بن سيرين وهو ابن إحدى وثمانين سنة. وفيها، أعني سنة عشر ومائة، مات الفرزدق الشاعر وله إحدى وتسعون سنة. وجرير بن الخطفى الشاعر. ثم دخلت سنة إحدى عشرة ومائة ذكر عزل أشرس عن خراسان واستعمال الجنيد في هذه السنة عزل هشام أشرس بن عبد الله عن خراسان.
وكان سبب ذلك أن شداد بن خليد الباهلي شكاه إلى هشام، فعزله واسعمل الجنيد بن عبد الرحمن على خراسان، وهو الجنيد بن عبد الرحمن بن عمرو بن الحارث بن خارجة بن سنان بن أبي حارثة امري. وكان سبب استعماله أنه أهدى لأم حكيم بنت يحيى بن الحكم امرأة هشام قلادةً في جوهر، فأعجبت هشاماً، فأهدى لهشام قلادةً أخرى، فاستعمله وحمله على ثمانية من البريد، فقدم خراسان وقطعا النهر، وأرسل الجنيد إلى أشرس وهو يقاتل أهل بخارى والصغد: أن أمدني بخيل، وخاف أن يقتطع دونه فوجه إليه أشرس عامر بن مالك الحماني، فلما كان عامر ببعض الطريق عرض له الترك والصغد، فدخل حائطاً حصيناً وقاتلهم على الثلمة ومعه ورد بن زياد بن أدهم بن كلثوم وواصل بن عمرو القيسي. فخرج واصل وعاصم بن عيمر المسقندي ومعهما غيرهما فاستداروا حتى صاروا من وراء الماء الذي هناك. ثم جمعوا قصباً وخشباً وعبروا عليه، فلم يشعر خاقان إلا والتكبير من خلفه، وحمل الملمون على الترك، فاتلوهم فقتلوا عظيماً من عظمائهم وانهزم الترك، وار عامر إلى الجنيد، فلقيه وأقبل معه، وعلى مقدمة الجنيد عمارة بن حريم، فلما انتهى إلى فرسخين من بيكند تلقته خيل الترك فقاتلتهم، فكاد الجنيد يهلك ومن معه، ثم أظهره الله وسار حتى قدم العسكر، فظفر الجنيد وقتل الترك، وزحف غليه خاقان، فالتقوا دون رزمان من بلاد سمرقند، وقطن بن قتيبة على ساقة الجنيد. فأسر الجنيد من الترك ابن أخي خاقان في هذه الغزاة فبعث به إلى هشام. وكان الجنيد عماله ولم يستعمل إلا مضرياً، استعمل قطن بن قتيبة على بخارى، والوليد بن القعقاع العبسي على هراة، وحبيب بن مرة العبسي على شرطه، وعلى بلخ مسلم بن عبد الرحمن بالباهلي، وكان عليها نصر بن سيار، وكان ما بينه وبين الباهليين متباعداً لما كان بينهم بالبروقان، وأرسل مسلم إلى نصر فصادفوه نائماً، فجاؤووا به في قميص ليس عليه سراويل ملبياً، فقال شيخ من مضر: جئتم به على هذه الحال! فعزل الجنيد مسلماً عن بلخ واستعمل يحيى بن ضبيعة، واستعمل على خراج سمرقند شداد بن خليد الباهلي. ذكر عدة حوادثفي هذه السنة غزا معاوية بن هشام الصائفة اليسرى، وغزا سعيد بن هشام الصائفة اليمنى حتى أتى قيسارية، وغزا في البحر عبد الله بن أبي مريم. واستعمل هشام على عامة الناس من الشام ومصر الحم بن قيس بن مخرمة ابن عبد المطلب بن عبد مناف. وفيها سارت الترك إلى أذربيجان فلقيهم الحارث ابن عمرو فهزمهم. وفيها استعمل هشام الجاح بن عبد الله الحكمي على أرمينية وعزل أخاه مسلمة بن عبد الملك، فدخل بلاد الجذر من ناحية تفليس فتح مدينتهم البيضاء وانصرف سالماً، فجمعت الخزر وحشدت وسارت إلى بلاد الإسلام، وكان ذلك سبب قتل الجراح، على ما نذكره إن شاء الله تعالى. وفيها عزل عبيدة بن عبد الرحمن، عامل إفريقية، عثمان بن نسعة عن الأندلس واستعمل بعده الهيثم بن عبيد الكناني، وقدمها في المرحم سنة إحدى عشرة ومائة، وتوفي في ذي الحجة من السنة، فكانت ولايته عشرة أشهر. وحج بالناس هذه السنة إبراهيم بن هشام المخزومي، فكان العمال من تقدم ذكرهم إلا خراسان كان بها الجنيد، وكان بأرمينية الجراح بن عبد الله. ثم دخلت سنة اثنتي عشرة ومائة ذكر قتل الجراح الحكمي في هذه السنة قتل الجراح بن عبد الله الحكمي. وسبب ذلك ما ذكرناه قبل من دخوله بلاد الخزر وانهزامهم، فلما هزمهم اجتمع الخزر والترك من ناحية اللان، فلقيهم الجراح بن عبد الله فيمن معه من أهل الشام فاقتتلوا أشد قتال رآه الناس، فصبر الفريقان، وتكاثرت الخزر والترك على المسلمين، فاستشهد الجراح ومن كان معه بمرج أدبيل، وكان قد استخلف أخاه الحجاج ابن عبد الله على أرمينية. ولما قتل الجراح طمع الخزر وأغلوا في البلاد حتى قاربوا الموصل، وعظم الخطب على المسلمين. وكان الجراح خيراً فاضلاً من عمال عمر بن عبد العزيز، ورثاه كثير من الشعراء. وقيل: كان قتله ببلنجر. ولما بلغ هشاماً خبره دعا سعيداً الحرشي فقال له: بلغني أن الجراح قد انحاز عن المشركين. قال: كلا يا أمير المؤمنين، الجراح أعرف بالله من أن ينهزم ولكنه قتل. قال: فما رأيك؟ قال: تبعثني على أربعين دابة من دواب البريد، ثم تبعث إلي كل يوم أربعين رجلاً، ثم اكتب إلى أمراء الأجناد يوافوني.
ففعل ذلك هشام، وسار الحرشي، فكان لايمر بمدينة إلا ويستنهض أهلها فيجيبه من يزيد الجهاد، ولم يزل كذلك حتى وصل إلى مدينة أرزن، فلقيه جماعة من أصحاب الجراح وبكوا وبكى لبكائهم وفرق فيهم نفقةً وردهم معه، وجعل لا يلقاه أحد من أصحاب الجراح إلا رده معه، ووصل إلى خلاط، وهي ممتنعة عليه، فحصرها أيضاً وفتحها وقسم غنائمها في أصحابه. ثم سار عن خلاط وفتح الحصون والقلاع شيئاً بعد شيء إلى أن وصل إلى برذعة فنزلها. وكان ابن خاقان يومئذ بأذربيجان يغي وينهب ويسبي ويقتل وهو محاصر مدينة ورثان، فخاف الحرشي أن يملكها، فأرسل بعض أصحابه إلى أهل ورثان سراً يعرفهم وصولهم ويأمرهم بالصبر، فسار القاصد، ولقيه بعض الخزر فأخذوه وسألوه عن حاله، فاخبرهم وصدقهم، فقالوا له: إن فعلت ما نأمرك به أحسنا إليك وأطلقناك وإلا قتلناك. قال: فما الذي يريدون؟ قالوا: تقول لأهل ورثان إنكم ليس لكم مدد ولا من يكشف ما بكم، وتأمرهم بتسليم البلد إلينا. فأجابهم إلى ذلك. فلما قارب المدينة وقف بحيث يسمع أهلها كلامه فقال لهم: أتعرفوني؟ قالوا: نعم أنت فلان. قال: فإن الحرشي قد وصل إلى مكان كذا في عساكر كثيرة، وهو يأمركم بحفظ البلد والصبر، ففي هذين اليومين يصل إليكم فرفعوا أصواتهم بالتكبير والتهليل. وقتلت الخزر ذلك الرجل ورحلوا عن مدينة ورثان، فوصلها الحرشي في العساكر وليس عندها أحد. فارتحل يطلب الخزر إلى أردبيل، فسار الخزر عنها ونزل الحرشي باجروان، فأتاه فارس على فرس أبيض فسلم عليه وقال له: هل لك أيها المير في الجهاد والغنيمة؟ قال: كيف لي ذلك؟ قال: هذا عسكر الخزر في عشرة آلاف ومعهم خمسة آلاف من أهل بين من المسلمين أسارى أو سبايا وقد نزلوا على أربعة فراسخ. فسار الحرشي ليلاً فوافاهم آخر الليل وهم نيام، ففرق أصحابه في أربع جهات فكبسهم مع الفجر ووضع المسلمون فيهم السيف، فما بزغت الشمس حتى قتلوا أجمعون غير رجل واحد، وأطلق الحرشي من معهم من المسلمين وأخذهم إلى باجروان، فلما دخلها أتاه ذلك الرجل صاحب الفرس الأبيض فسلم وقال: هذا جيش للخزر ومعهم أموال المسلمين وحرم الجراح وأولاده بمكان كذا. فسار الحرشي إليهم، فما شعروا إلا والمسلمون معهم فوضعوا فيهم السيف فتقلوهم كيف شاؤوا، ولم يفلت من الخزر إلا الشريد، واستنفذوا من معهم في المسلمين والمسلمات وغنموا أموالهم، وأخذ أود الجراح فأكرمهم وأحسن إليهم، وحمل الجميع إلى باجروان. وبلغ خبر فعله الحرشي بعساكر الخزر ابن ملكهم، فوبخ عساكره وذمهم ونسبهم إلى العجز والوهن، فحرض بعضهم بعضاً وأشاروا عليه بجمع أصحابه والعود إلى قتال الحرشي. فجمع أصحابه من نواحي أذربيجان، فاجتمع معه عساكر كثيرة، وسار الحرشي إليه فالتقيا بأرض برزند، واقتتل الناس أشد قتال وأعظمه، فانحاز المسلمون يسيراً، فحرضهم الحرشي وأمرهم بالصبر، فعادوا إلى القتال وصدقوهم الحملة، واستغاث من مع الخزر من الأساى ونادوا بالتكبير والتهليل والدعاء، فعندها حرص المسلمون بعضهم بعضاً ولم يبق أحد إلا وبكى رحمةً للأسرى، واشتدت نكايتهم في العدو، فولوا الأدبار منهزمين، وتبعهم المسلمون حتى بلغوا بهم نهر رأس، وعادوا عنهم وحووا ما في عساكرهم من الأموال والغنائم، وأطلقوا الأسرى والسبايا وحملوا الجميع إلى باجروان. ثم إن ابن ملك الخزر جمع من لحق به من عساكره وعاد بهم نحو الحرشي فنزل على نهر البيلقان، فالتقوا هناك، فصاح الحرشي بالناس، فحملوا حملةً صادقة ضعضعوا صفوف الخزر، وتابع الحملات وصبر الخزر صبراً عظيماً ثم كانت الهزيمة عليهم، فولوا الأدبار منهزمين، وكان من غرق منهم في النهر أكثر ممن قتل. وجمع الحرشي الغنائم وعاد إلى باجروان فقسمها، وأرسل الخمس إلى هشام بن عبد الملك وعرفه ما فتح الله على المسلمين، فكتب إليه هشام يشكره. وأقام بباجروان، فأتاه كتاب هشام يأمره بالمصير إليه، واستعمل أخاه مسلمة ابن عبد الملك على أرمينية وأذربيجان، فوصل إلى البلاد وسار إلى الترك في شتاء شديد حتى جاز الباب في آثارهم. ذكر وقعة الجنيد بالشعب
في هذه السنة خرج الجنيد غازياً يريد طخارستان، فوجه عمارة بن حريم إلى طخارستان في ثمانية عشر ألفاً، ووجه إبراهيم بن بسام الليثي في عشرة آلاف إلى وجه آخر، وجاشت الترك فأتوا سمرقند وعليها سورة ابن الحر، فكتب سورة إلى الجنيد: إن خاقان جاش الترك فخرجت إليهم فلم أطق أن أمنع حائط سمرقند، فالغوث الغوث! فأمر الجنيد الناس بعبور النهر، فقام إليه المجشر بن مزاحم السلمي وابن بسطام الأزدي وغيرهما وقالوا: إن الترك ليسوا كغيرهم لا يلقونك صفاً ولا زحفاً وقد فرقت جندك، فمسلم بن عبد الرحمن بالبيروذ، والبختري بهراة، وعمارة بن حريم غائب بطخارستان، وصاحب خراسان لا يعبر النهر في أقل من خمسين ألفاً، فاكتب إلى عمارة فليأتك أمهل ولا تعجل. قال: فكيف بسورة ومن معه من المسلمين؟ لو لم أكن إلا في بني مرة أو من طلع معي من الشام لعبرت؛ وقال شعراً: أليس أحق الناس أن يشهد الوغى ... وأن يقتل الأبطال ضخماً على ضخم وقال: ما علتي ما علتي ما علتي ... إن لم اقتلهم فجزوا لمتي وعبر الجنيد فنزل كش وتأهب للمسير، وبلغ الترك فعوروا الآبار التي في طريق كش، فقال الجنيد: أي طريق إلى سمرقند أصلح؟ فقالوا: طريق المحترقة. فقال المجشر: القتل بالسيف أصلح من القتل بالنار، طريق المحترقة كثير الشجر والحشيش ولم يزرع منذ سنين، فإن لقينا خاقان أحرق ذلك كله فقتلنا بالنار والدخان، ولكن خذ طريق العقبة فهو بيننا وبينهم سواء. فأخذ الجنيد طريق العقبة فارتقى في الجبل، فأخذ المجشر بعنان دابته وقال: إنه كان يقال: ليفرخ روعك. قال: أما ما كان بيننا مثلك فلا. فبات في أصل العقبة ثم سار بالناس حتى صار بينه وبين سمرقند أربعة فراسخ ودخل الشعب، فصبحه خاقان في جمع عظم، وزحف إليه أهل الصغد وفرغانة والشاش وطائفة من الترك، فحمل خاقان على المقدمة، وعليها عثمان بن عبد الله بن الشخير، فرجعوا إلى العسكر والترك تتبعهم وجاؤوهم من كل وجه، فجعل الجنيد تميماً والأزد في الميمنة، وربيعة في الميسرة مما يلي الجبل، وعلى مجففة خيل بني تميم عبيد الله بن زهير بن حيان، وعلى المجردة عمروا بن جرقاش المنقري، وعلى جماعة بني تميم عامر بن مالك الحماني، وعلى الأزد عبد الله بن بسطام بن مسعود بن عمرو، وعلى المجففة والمجردة فضيل ابن هناد وعبد الله بن حوذان. فالتقوا، وقصد العدو الميمنة لضيق الميسرة، فترجل حسان بن عبيد الله ابن زهير بين يدي أبيه، فأمره أبوه بالركوب، فركب، وأحاط العدو بالميمنة، فأمدهم الجنيد بنصر بن سيار، فشد هو ومن معه على العدو فكشفوهم، ثم كروا عليهم وقنتلوا عبيد الله بن زهير وابن جرقاش والفضيل ابن هناد، وجالت الميمنة والجنيد واقف في اقلب، فأقبل إلى الميمنة ووقف تحت راية الأزد، وكان قد جفاهم، فقال له صاحب الراية: ما هلكنا لم تبك علينا. وتقدم فقتل، وأخذ الراية ابن مجاعة فقتل، وتداولها ثمانية عشر رجلاً فقتلوا، وقتل يومئذ من الأزد ثمانون رجلاً. وصبر الناس يقاتلون حتى أعيوا، فكانت السيوف لا تقطع شيئاً، فقطع عبدهم الخشب يقاتلون به حتى مل الفريقان، فكانت المعانقة ثم تحاجزوا. وقتل من الأزد عبد الله بن بسطام، ومحمد بن عبد الله بن حوذان، والحسن ابن شيخ، والفضيل صاحب الخيل، ويزيد بن الفضل الحداني، وكان قد حج فأنفق في حجته ثمانين ومائة ألف، وقال لأمه: ادعي الله أن يرزقني الشهادة، فدعت له وغشي عليها، فاستشهد بعد مقدمة من الحج بثلاثة عشر يوماً، وقتل النضر بن راشد العبدي، وكان قد دخل على امرأته والناس يقتتلون فقال لها: كيف أنت إذا أتيت بأبي ضمرة في لبد مضرجاً بالدم؟ فشقت جيبها ودعت بالويل؛ فقال لها: حسبك، لو أعولت علي كل أنثى لعصيتها شوقاً إلى الحور العين! فرجع وقاتل حتى استشهد، رحمه الله. فبينا الناس كذلك إذ أقبل رهج وطلعت فرسان، فنادى الجنيد: الأرض الأرض! فترجل وترجل الناس، ثم نادى: يخندق كل قائد على حياله، فخندقوا وتحاجزوا، وقد أصيب من الأزد مائة وتسعون رجلاً. وكان قتالهم يوم الجمعة، فلما كان يوم السبت قصدهم خاقان وقت الظهر فلم ير موضعاً للقتال أسهل من موضع بكر بن وائل، وعليهم زياد بن الحارث، فقصدهم، فلما قربوا حملت بكر عليهم فأخرجوا لهم، فسجد الجنيد واشتد القتال بينهم.
ذكر مقتل سورة بن الحر فلما اشتد القتال ورأى الجنيد شدة الأمر استشار أصحابه، فقال له عبيد الله بن حبيب: احتراماً أن تهلك أنت وسورة بن الحر. قال: هلاك سورة أهون علي. قال: فاكتب إليه فليأتك في أهل سمرقند، فإنه إذا بلغ الترك إقباله توجهوا إليه فقاتلوه. فكتب إليه الجنيد يأمره بالقدوم. وقال حليس بن غالب الشيباني: إن الترك بينك وبين الجنيد، فإن خرجت كروا عليك فاختطفوك. فكتب إلى الجنيد: إني لا أقدر على الخروج. فكتب إليه الجنيد: يا ابن اللخناء تخرج وإلا وجهت إليك شداد بن خليد الباهلي، وكان عدوه، فاخرج الزم الماء ولا تفارقه، فأجمع على المسير وقال: إذا سرت على النهر لا أصل في يويمين وبيني وينه في هذا الوجه ليلة، فإذا سكت الرجل سرت. فجاءت عيون الأتراك فأخبروهم بمقالة يورة، ورحل سورة واستخلف على سمر قند موسى بن أسود الحنظلي، وسار في اثني عشر ألفاً، فأصبح على رأس جبل، فتلقاه خاقان حين أصبح وقد سار ثلاثة فراسخ وبينه وبين الجنيد فرسخ فقاتلهم، فاشتد القتال وصبروا. فقال غوزك لخاقان: اليوم حار فلا نقاتلهم حتى يحمى عليهم السلاح، فوافقهم وأشعل النار في الحشيش وحال بينهم وبين الماء، فقال سورة لعبادة: ما ترى يا أبا سليم؟ فقال: أرى أن الترك يريدون الغنيمة فاعقر الدواب واحرق المتاع وجر السيف، فإنهم يخلون لنا الطريق، وإن منعونا شرعنا الرماح ونزحف زحفاً، وإنما هو فرسخ حتى نصل إلى العسكر. فقال: لا أقوى على هذا ولا فلان وفلان، وعد رجالاً، ولكن أجمع الخيل فأصكهم بها سلمت أم عطبت. وجمع الناس وحملوا، فانكشف الترك وثار الغبار فلم يبصروا من وراء الترك لهيب فسقطوا فيه، وسقط العدو والمسلمون وسقط سوة فاندقت فخذه وتفرق الناس، فقتلهم الترك ولم ينجح منهم غير ألفين، وقال ألف، وكان ممن نجا منهم عاصم بن عمير السمرقند، واستشهد حليس بن غالب الشيباني، وانحاز المهلب بن زياد العجلي في سبعمائة إلى رستاق يسمى المرغاب فنزلوا قصراً هناك، فأتاهم الأشكند صاحب نسف في خيل ومعه غوزك، فأعطاهم غوزك الأمان. فقال قريش بن عبد الله العبدي: لا تثقوا بهم، ولكن إذا جننا الليل خرجنا عليهم حتى نأتي سمرقند. فعصوه فنزلوا بالأمان، فساقهم إلى خاقان فقال: لا أجيز أمان غوزك، فقاتلهم الوجف بن خالد والمسلمون فأصيبوا غير سبعة عشر رجلاً فقتلوا غير ثلاثة. وقتل سورة في اللهبن فلما قتل خرج الجنيد من الشعب يريد سمرقند مبادراً فقال له خالد بن عبيد الله: سر وأسرع. فقال له المجشر: انزل وخذ بلجام دابته، فنزل ونزل الناس معه، فلم يستتم نزولهم حتى طلع الترك، فقال المجشر له: لو لقونا ونحن نسير ألم يهلكونا؟ فلما أصبحوا تناهضوا فجال الناس، فقال الجنيد: أيها الناس إنها النار، فرجعوا، ونادى الجنيد: أي عبد قاتل فهو حر. فقاتل العبيد قتالاً عجب منه الناس، فسروا بما رأوا من صبرهم وصبر الناس حتى انهزم العدو ومضوا، فقال موسى بن التعراء للناس: تفرحون بما رأيتم من العبيد إن لكم منهم ليوماً أروزبان. ومضى الجنيد إلى سمر قند فحمل عيال من كان مع سورة إلى مرو وأقام بالصغد أربعة أشهر. وكان صاحب رأي خراسان في الحرب المجشر بن مزاحم وعبد الرحمن بن صبح الخرقي وعبيد الله بن حبيب الهجري، وكان المجشر ينزل الناس على راياتهم ويضع المسالح ليس لأحد مثل رأيه في ذلك، وكان المجشر ينزل الناس على راياتهم ويضع المسالح ليس لأحد مثل رأيه، وكان عبيد الله على تعبية القتال. وكان رجال من الموالي مثل هؤلاء في الرأي والمشورة والعلم بالحرب، فمنهم: الفضل بن بسام، مولى ليث، وعبد الله بن أي عبد الله، مولى سليم، والبختري بن مجاهد، مولى شيبان. فلما انصرف الترك بعث الجنيد نهار بن توسعة، أحد بني تيم الللات، وزبل بن سويد المري إلى هشام، وكتب إليه: إن سورة عصاني، أمرته بلزوم الماء فلم يفعل فتفرق عنه أصحابه فأتتني طائفة إلى كش وطائفة إلى نسف وطائفة إلى سمرقند وأصيب سورة في بقية أصحابه.
فسأل هشام نهار بن توسعة عن الخبر، فأخبره بما شهد، فكتب هشام إلى الجنيد: قد وجهت إليك عشرة آلاف من أهل البصرة، وعشرة آلاف من أهل الكوفة، ومن السلاح ثلاثين ألف رمح، ومثلها ترسة، فافرض فلا غاية لك في الفريضة لخمسة عشر ألفاً. فلما سمع هشام مصاب سورة قال: إنا لله وإنا إليه راجعون، مصاب سورة بخراسان ومصاب الجراح بالباب. وأبلى نصر بن سيار يومئذ بلاء حسناً. وأرسل الجنيد ليلة بالشعب رجلاً وقال له: تسمع ما يقول الناس وكيف حالهم. ففعل ثم رجع إليه فقال: رأيتهم طيبة أنفسهم، يتناشدون الأشعار ويقرأون القرآن. فسره ذلك. قال عبيد بن حاتم بن النعمان: رأيت فساطيط بين السماء والأرض فقلت: لمن هذا؟ فقالوا: بعدب الله بن بسطام وأصحابه، فقتلوا في غدٍ، فقال رجل: مررت في ذلك الموضع بعد ذلك بحين فشممت رائحة المسك. وأقام الجنيد بسمرقند وتوجه خاقان إلى بخارى وعليها قطن بن قتيبة بن مسلم، فخاف الجنيد الترك على قطن بن قتيبة فشاور أصحابه فقال قوم: نلزم سمرقند. وقال قوم: نسير منها فنأتي ربنجين، ثم كش، ثم إلى نسف فنتصل منها إلى أرض زم ونقطع النهر وننزل آمل فنأخذ عليه بالطريق. فاستشار عبد الله بن أبي عبد الله مولى بني سليم وأخبره بما قالوا فاشترط عليه أن لا يخالفه فيما يشير به عليه من ارتحال ونزول وقتال، قال: نعم. قال: فإن أطلب إليك خصالاً. قال: وما هي؟ قال: تخندق حيث ما نزلت، فلا يفوتنك حمل الماء ولو كنت على شاطئ نهر ، وأن تعطيني في نزولك وارتحالك. قال: نعم. قال: أما ما أشاروا عليك في مقامك بسمرقند حتى يأتيك الغياث فالغياث يبطئ عنك، وأما ما أشاروا من طريق كش ونسف فإنك إن سرت بالناس في غير الطريق فتت في أعضادهم وانكسروا عن عدوهم واجترأ عليك خاقان، وهو اليوم قد استفتح بخارى فلم يفتحوا له، فإن أخذت غير الطريق بلغ أهل بخارى ما فعلت فيستسلموا لعدوهم، وإن أخذت الطريق الأعظم هابك العدو، والرأي عندي أن تأخذ عيال من قتل مع سورة فتقسمهم على عشائرهم وتحملهم معك، فإني أرجو بذلك أن ينصرك الله على عدوك وتعطي كل رجل تخلف بمسرقند ألف درهم فرساً. فأخذ برأيه وخلف بسمرقند عثمان بن عبد الله بن الشخير في أربعمائة فاس وأربعمائة راجل. فشتم الناس عبد الله بن أبي عبد الله وقالوا: ما أراد إلا هلاكنا. فخرج الجنيد وحمل العيال معه وسرح الأشحب بن عبيد الحنظلي ومعه عشرة من الطلائع وقال: كلما مضت مرحلة سرح إلي رجلاً يعلمني الخبر. وسار الجنيد فأسرع السير، فقال له عطاء الدبوسي: انظر أضعف شيخ في العسكر فسلحه سلاحاً تاماً بسيفه ورمحه وترسه وجعبته ثم سر على قدر مشيه، فإنا لا نقدر على سرعة المسير والقتال ونحن رجالة. ففعل الجنيد ذلك، ولم يعرض للناس عارض حتى خرجوا من الأماكن المخوفة، ودنا من الطواويس، وأقبل إليه خاقان بكرمينية أول يوم من رمضان واقتتلوا، فأتاه عبد الله بن أبي عبد الله وهو يضحك، فقال الجنيد: ليس هذا يوم ضحك. قال: الحمد لله الذي لم يلقاك هؤلاء في جبال معطشة وعلى ظهر إنما أتوك وأنت مخندق آخر النهار كالين وأنت معك الزاد، فقاتلوا قليلاً ثم رجعوا. ثم قال للجنيد: ارتحل فن خاقان وذأنك تقيم فينطوي عليك إذا شاء. فسار وعبد الله على الساقة، ثم أمره بالنزول فنزل، واستقى الناس وباتوا، فلما اصبحوا ارتحلوا، فقال عبد الله: إني أتوقع أن خاقان يصدم الساقة اليوم فشدوها بالرجال، فقواهم الجنيد، وجاءت الترك فمالت على الساقة فاقتتلوا، فاشتد بينهم وقتل مسلم بن أحوز عظيماً من عظماء الترك، فتطيروا من ذلك وانصرفوا من الطواويس. وسار المسلمون فدخلوا بخارى يوم المهرجان، فتلقوهم بالدراهم البخارية، فأعطاهم عشرة عشرة. قال عبد المؤمن بن خالد: رأيت عبد الله بن أبي عبد الله في المنام بعد موته، فقال: حدث الناس عني برأيي يوم الشعب. وكان الجنيد يذكر خالد بن عبد الله فيقول: زبدة من الزبد، صنبور من صنبور، قل من قل، هيفة من الهيف. والهيفة: الضبع، والقل: الفرد، الصنبور: الذي لا أخ له، وقيل الملصق. وقدمت الجنود من الكوفة على الجنيد، فسرح معهم حوثرة بن زيد العنبري فيمن انتدب معه. وقيل: إن وقعة الشعب كانت سنة ثلاث عشرة؛ وقال نصر بن سيار يذكر يوم الشعب:
إني نشأت وحسادي ذوو عددٍ ... يا ذا المعارج لا تنقص لهم عددا إن تحسدوني على مثل البلاء لكم ... يوماً فمثل بلائي جر لي الحسدا يأبى الإله الذي أعلى بقدرته ... كعبي عليكم وأعطى فوقكم عددا أرمي العداة بأفراس مكلمةٍ ... حتى اتخذن على حسادهن يدا من ذا الذي منكم في الشعب إذ وردوا ... لم يتخذ حومة الأثقال معتمدا هلا شهدتم دفاعي عن جنيدكم ... وقع القنا وشهاب الحرب قد وقدا وقال ابن عرس يمدح نصراً: يا نصر أنت فتى نزار كلها ... فلك المآثر والفعال الأرفع فرجت عن كل القبائل كربةً ... بالشعب حين تخاضعوا وتضعضعوا يوم الجنيد إذ القنا متشاجر ... والنحر دامٍ والخوافق تلمع ما زلت ترميهم بنفسٍ حرةٍ ... حتى تفرج جمعهم وتصدعوا فالناس كل بعدها عتقاؤكم ... ولك المكارم والمعالي أجمع ذكر عدة حوادثفي هذه السنة غزا معاوية بن هشام الصائفة فافتتح خرشنة. وحج بالناس هذه السنة إبراهيم بن هشام المخزومي، وقيل: سليمان بن هشام عبد الملك. وفيها استعمل أهل الأندلس على أنفسهم بعد موت الهيثم أميرهم محمد بن عبد الملك الأشجعي، فبقي شهرين، وولي بعده عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي، وكان عمال الأمصار هذه السنة من ذكرناهم في السنة قلها. وفيها مات رجاء بن حيوة بقسين؛ حيوة بالحاء المهملة المفتوحة، وسكون الياء المثناة من تحت. وفيها توفي مكحول أبو عبد الله الشامي الفقيه. وعبد الجبار بن وائل بن حجر الحضرمي، ومات أبوه وأمه حامل به، فكل ما يروونه عن أبيه فهو منقطع. ثم دخلت سنة ثلاث عشرة ومائة ذكر قتل عبد الوهاب في هذه السنة قتل عبد الوهاب بن بخت، وكان قد غزا مع عبد الله البطال أرض الروم، فانهزم الناس عن البطال، فحمل عد الوهاب وهو يقول: ما رأيت فرساً أجبن منك، سفك الله دمي إن لم أسفك دمك! ثم ألقى بيضته عن رأسه وصاح: أنا عبد الوهاب بن بخت! أمن الجنة تفرون؟ ثم تقدم في نحر العدو، فمر برجل يقول: واعطشاه! فقال: تقدم، الري أمامك. فخالط القوم فقتل وقتل فرسه. ذكر غزو مسلمة وعودهوفيها فرق مسلمة الجيوش ببلاد خاقان ففتحت مدائن وحصون على يديه وقتل منهم وأسر وسبى وأحرق ودان له من وراء جبال بلنجر، وقتل ابن خاقان، فاجتمعت تلك الأمم جميعها الخزر وغيرهم عليه في جمع لا يعلم عددهم إلا الله تعالى، وقد جاز مسلمة بلنجر فلما بلغه خبرهم أمر أصحابه فأوقدوا النيران ثم ترك خيامهم وأثقالهم وعاد هو وعسكره جريدة، وقدم الضعفاء وأخر الشجعان، وطووا المراحل كل مرحلتين في مرحلة حتى وصل إلى الباب والأبواب في آخر رمق. ذكر قتل عبد الرحمن أمير الأندلس وولاية عبد الملك بن قطن في هذه السنة وهي سنة ثلاث عشرة ومائة، غزا عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي أمير الأندلس من قبل عبيدة بن عبد الرحمن السلمي، وكان هشام بن عبد الملك قد استعمل عبيدة على إفريقية والأندلس سنة عشر ومائة، فلما قدم إفريقية رأى المستنبر بن الحارث الحريثي غازياً بصلية، وأقام هناك حتى هجم عليه الشتاء ثم قفل راجعاً، فغرق من معه وسلم المستنبر في مركبه، فحبسه عبيدة عقوبة له وجلده وشهره بالقيروان. ثم إن عبيدة استعمل على الأندلس عبد الرحمن بن عبد الله، فغزا إفرنجة وأوغل في أرضهم وغنم غنائم كثيرة، وكان فيما أصاب رجل من ذهب مفصصة بالدر والياقوت والزمرد، فكسرها وقسمها في الناس. فبلغ ذلك عبيدة، فغضب غضباً شديداً، فكتب إليه يتهدده، فأجابه عبد الرحمن، وكان رجلاً صالحاً: أما بعد فإن السموات والأرض لو كانتا رتقاً لجعل الله للمتقين منها مخرجاً. ثم خرج غازياً ببلاد الفرنج هذه السنة، وقيل: سنة أربع عشرة، وهو الصحيح، فقتل هو ومن معه شهداء. ثم إن عبيدة سار من إفريقية إلى الشام ومعه من الهدايا والإماء ولعبيد والدواب وغير ذلك شيء كثير، واستغفى هشاماً، فأجابه إلى ذلك وعزله، وكان قد استعمل على الأندلس بعد قتل عبد الرحمن عبد الملك بن قطن.
ثم إن هشاماً استعمل على إفريقية بعد عبيدة عبيد الله بن الحبحاب، وكان على مصر، فسار عبيد الله إلى إفريقية سنة ست عشرة ومائة فأخرج المستنير من الحبس وولاه توني. ثم إن عبيد الله جهز جيشاً مع حبيب بن أبي عبيدة وسيرهم إلى أرض السودان فظفر بهم ظفراً لم يظفر أحد مثله وأصاب ما شاء، ثم غزا البحر ثم انصرف. ذكر عدة حوادثفي هذه السنة مات عدي بن ثابت الأنصاري. ومعاوية بن قرة بن إياس الموني، والد إياس قاضي البصرة الذي يضرب بذكائه المثل. وفيها توفي حرام بن سعيد بن محيصة أبو سعيد، وعمره سبعون سنة؛ حرام بفتح الحاء المهملة وبالراء المهملة. وحيصة بضم الميم، وفتح الحاء المهملة، وتشديد الياء المثناة من تحت، وبالصاد المهملة. وفيها توفي طلحة بن مصرف الأيامي. وعبد الله بن عبيد الله بن عمير الليثي. وعبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري، ويكنى أبا جعفرة، وعمره سبع وسبعون سنة. ووهب بن منبه الصناعاني، وكان أصغر من أخيه همام، وكانوا خمسة إخوة: همام ووهب وغيلان وعقيل ومعقل ، وقيل: مات سنة عشر ومائة. وفيها توفي الحر بن يوسف أمير الموصل ودفن بمقابر قريش بالموصل، وكانت بإزاء داره لمعروفة بالمنقوشة، في ذي الحجة، واستعمل هشام مكانه الوليد بن تليد العبسي، وأمره بالجد في إتمام حفر النهر في البلد، فشرع فيه واهتم بعمله. وفيها غزا معاوية بن هشام أرض الروم فرابط من ناحية مرعش ثم رجع. وفي هذه السنة سار جماعة من دعاة بني العباس إلى خراسان، فاخذ الجنيد رجلاً منهم فقتله وقال: من أصبت منهم فدمه هدر. وحج بالناس هذه السنة سليمان بن هشام بن عبد الملك، وقيل: إبراهيم ابن هشام بن إسماعيل المخزومي، و كان العمال من تقدم ذكرهم. ثم دخلت سنة أربع عشرة ومائة ذكر ولاية مروان بن محمد أرمينية وأذربيجان في هذه السنة استعمل هشام بن عبد الملك مروان بن محمد بن مروان، وهو ابن عمه، على الجزيرة وأذربيجان وأرمينية. وكان سبب ذلك أنه كان في عسكر مسلمة بأرمينية حين غزا الخزر، فلما عاد مسلمة سار مروان إلى هشام فلم يشعر به حتى دخل عليه، فسأله عن سبب قدومه فقال: ضقت ذرعاً بما أذكره ولم أر من يحمله غيري! قال: وما هو؟ قال مروان: قد كان من دخول الخزر إلى بلاد الإسلام وقتل الجراح وغيره من لمسلمين ما دخل به الوهن على المسلمين، ثم رأى أمير المؤمنين أن يوجه أخاه مسلمة بن عبد الملك إليهم، فوالله ما وطئ من بلادهم إلا أدناها، ثم رأى أمير المؤمنين أن يوجه أخاه مسلمة بن عبد الملك إليهم، فوالله ما وطئ من بلادهم إلا أدناها، ثم إنه لما رأى كثرة جمعه أعجبه ذلك فكتب إلى الخزر يؤذنهم بالحرب وأقام بعد ذلك ثلاثة أشهر، فاستعد القوم وحشدوا، فلما دخل بلادهم لم يكن له فيهم نكاية، وكان قصاراه السلامة، وقد أردت أن تأذن لي في غزوة أذهب بها عنا العار وأنتقم من العدو. قال: قد أذنت لك. قال: وتمدني بمائة وعشرين ألف مقاتل؟ قال: قد فعلت. قال: وتكتم هذا الأمر عن كل واحد؟ قال: قد فعلت، وقد استعلمتك على أرمينية. فودعه وسار إلى أرمينية والياً عليها، وسمى هشام الجنود من الشام والعراق والجزيرة، فاجتمع عنده من الجنود والمتطوعة مائة وعشرون ألفاً، فأظهر أنه يريد غزو اللان وقصد بلادهم، وأرسل إلى ملك الجذر يطلب منه المهادنة، فأجابه إلى ذلك وأرسل إليه من يقرر الصلح، فأمسك الرسول عنده إلى أن فرغ من جهازه وما يريد، ثم أغلظ لهم القول وآذنهم بالحرب، وسير الرسول إلى صاحبه بذلك ووكل به من ن يسيره على طريق فيه بعد، وسار هو في أقرب الطرق، فما وصل الرسول إلى صاحبه إلا ومران قد وافاهم، فاعلم صاحبه الخبر وأخبره بما قد جمع له مران وحشد واستعد. فاستشار ملك الجذر أصحابه، فقالوا: إن هذا قد اغترك ودخل بلادك، فغن أقمت إلى أن تجمع لم يجتمع عندك إلى مدة فيبلغ منك مايريد، وإن أنت لقيته على حالك هذه هزمك وظفر بك، والرأي أن تتأخر إلى أقصى بلادك وتدعه وما يريد. فقبل رأيهم وسار حيث أمروه.
ودخل مروان البلاد وأوغل فيها وأخربها وعنم وسبى وانتهى إلى آخرها وأقام فيها عدة أيام حتى أذلهم وانتقم منهم، ودخل بلاد ملك السرير فأوقع بأهله وفتح قلاعاً ودان له الملك وصالحه على ألف رأس وخمسمائة غلام وخمسمائة جارية سود الشعور ومائة ألف مديٍ تحمل إلى الباب، وصالح مروان أهل تومان على مائة رأس نصفين، وعشرين ألف مدي، ثم دخل أرض زريكران، فصالحه ملكها، ثم أتى إلى أرض خمزين، فأبى حمزين أن يصالحه، فحصرهم فافتتح حصنهم، ثم أتى سغدان فافتتحها صلحاً ووظف على طيرشانشاه عشرة آلاف مدي كل سنة تحمل إلى الباب، ثم نزل على قلعة صاحب اللكز، وقد امتنع من أداء الوظيفة، فخرج ملك اللكز يريد مالك الخز، فقتله راعٍ بسهم هو لا يعرفه، فصالح أهل اللكز مروان،واستعمل عليهم عاملاً، وسار إلى قلعة شروان، وهي على البحر، فأذعن بالطاعة، وسار إلى الدوداني فأقلع بهم ثم عاد. ذكر عدة حوادثفي هذه السنة غزا معاوية بن هشام الصائفة اليسرى، فأصاب ربض أقرن، وإن عبد الله البطال التقى هو وقسطنطين في جمع، فهزمهم البطالوأسر قسطنطسن. وفيهاغزا سليمان بن هشام الصائفة اليمنى، فبلغ قيسارية. وفي هذه السنة عزل هشام بن عبد الملك إبراهيم بن هشام المخزومي عن المدينة واستعمل عليها خالد بن عبد الملك بن الحارث بن الحكم في ربيع الأول، وكانت إمراة إبراهيم على المدينة ثماني سنين، وعزل أيضاً إبراهيم عن مكة والطائف واستعمل عليها خالد بن عبد الملك بن الحارث بن الحكم في ربيع الأول، وكانت إمراة إبراهيم على المدينة ثماني سنين، وعزل أيضاً إبراهيم عن مكة والطائف واستعمل عليهما محمد بن هشام المخزومي، وقيل. بل ولى محمداً سنة ثلاث عشرة، فلما عزل إبراهيم أقر محمد عليها. وفيها وقع الطاعون بواسط. وفيها أقبل مسلمة بن عبد الملك بعدما هزم خاقان وأحكم ما هناك وبنى الباب. وحج الناس خالد بن عبد الملك بن الحارث، وقيل محمد هشام. وكان العمال من تقدم ذكرهم في السنة قبلها، غير أن المدينة كان عاملها خالد بن عبد الملك، وعامل مكة والطائف محمد بن هشام، وعامل أرمينية وأذربيجان مروان بن محمد. وفيها مات عطاء بن أبي رباح، وقيل سنة خمس عشرة، وعمره ثمان وثمانون سنة، وقيل مائة سنة. وفيها توفي محمد بن الحسين الباقر، وقيل سنة خمس عشرة، وكان عمره ثلاثاً وسبعين سنة، وقيل ثمانياً وخمسين سنة. والحكم بن عتيبة بن النهاس أبو محمد، وهو مولى امرأة من كندة، ومولده سنة خمسين. وفيها توفي عبد الله بن بريدة بن الحصيب الأسلمي قاضي مرو، وكان مولده لثلاث سنين مضت من خلافة عمر بن الخطاب. عتبة بضم العين المهلمة، وفتح التاء فوقها نقطتان، وبعدها ياء مثناة من تحتها، وآخره باء موحدة. وبريدة بضم الباء الموحدة وفتح الراء. والحصيب بضم الحاء وفتح الصاد المهملتني وأخره باء موحدة. ثم دخلت سنة خمس عشرة ومائةفي هذه السنة غزا معاوية بن هشام أرض الروم. وفيها وقع الطاعون بالشام. وفيها وقع بخراسان قحط شديد، فكتب الجنيد إلى الكور بحمل الطعام إلى مرو، فأعطى الجنيد رجلاً درهما فاشترى به رغيفاً، فقال لهم: أتشكون الجوع ورغيف بدرهم؟ لقد رأيتني بالهمد وإن الحبة من الحبوب لتباع عدداً بدرهم. قال: وحج بالناس هذه السنة محمد بن هشام المخزومي. وكان الأمير بخراسان الجنيد، وقيل: بل كان قد مات الجنيد واستخلف عمارة بن حريم المري، وقيل: بل كان موت الجنيد سنة ست عشرة ومائة وفيها غزا عبد الملك بن قطن عامل الأندلس أرض البشكنس وعا سالماً. ثم دخلت سنة ست عشرة ومائةفي هذه السنة غزا معاوية بن عبد الملك أرض الروم الصائفة. فيها كان طاعون شديد بالعراق والشام، وكان أشد بواسط. ذكر عزل الجنيد ووفاته وولاية عاصم خراسان وفيها عزل هشام بن عبد الملك الجنيد بن عبد الرحمن المري عن خراسان. واستعمل عليها عاصم بن عبد الله بن يزيد الهلالي. وسبب ذلك أن الجنيد تزوج الفاضلة بنت يزيد بن المهلب، فغضب هشام فولى عاصم خراسان. وكان الجنيد قد سقي بطنه، فقال هشام لعاصم: إن أدركته وبه رمق فأرهق نفسه. فقدم عاصم وقد مات الجنيد، وكان بينها عداوة، فاخذ عمارة بن حريم، وكان الجنيد قد استخلفه، وهو ابن عمه، فعذبه عاصم وعذب عمال الجنبد.
وعمارة هذا جد أبي الهيذام صاحب العصبية بالشام، وسيأتي ذكرها إن شاء الله. وكان موت الجنيد بمرو، وكان من الأجواد المدوحين غير محمود في حروبه. ذكر خلع الحارث بن سريج بخراسانوفي هذه السنة خلع الحارث بن سريج وأقبل إلى الفارياب، فأرسل إليه عاصم بن عبد الله رسلاً فيهم مقاتل بن حيان النبطي وخطاب بن محرز السلمي فقالا لمن معهما: لا تلقى الحارث إلا بأمان. فأبى القوم عليهما، فأخذهم الحارث وحبسهم ووكل بهم رجلاً، فأوثقوه وخرجوا من السجن فركبوا وعادوا إلى عاصم، فامرهم، فخطبوا وذموا الحارث وذكروا خبث سيرته وغدره. وكان الحارث قد لبس السواد ودعا إلى كتاب الله سنة نبيه والبيعة للرضا، فسار من الفارياب فأتى بلخ، وعليها نصر بن سيار التجيبي، فلقيا الحارث في عشرة آلاف والحارث في أربعة آلاف فقاتلهما ومن معهما، فانهزم أهل بلخ وتبعهم الحارث، فدخل | |
|
| |
الشيخ عودة الشيخ عودة
عدد المساهمات : 1748 تاريخ التسجيل : 28/09/2008 العمر : 74
| موضوع: رد: كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير الثلاثاء فبراير 11, 2014 3:52 am | |
| وكان رأي المغيرة التجسيم، يقول: إن الله على صورة رجل على رأسه تاج، وإن أعضاءه على عدد حروف الهجاء ويقول ما لاينطق به لسان؛ تعالى الله عن ذلك، يقول: إن الله تعالى لما أراد أن يخلق تكلم باسمه الأعظم فطار فروقع على تاجه، ثم كتب بإصبعه على كفه أعمال عباده من المعاصي والطاعات، فلما رأى المعاصي ارفض عرقاً، فاجتمع من عرقه بحران أحدهما ملح مظلم والآخر عذب نير، ثم اطلع في البحر فرأى ظله فذهب ليأخذه فطار فأدركه فقلع عبيني ذلك الظل ومحقه فخلق من عينيه الشمس وسماء أخرى، وخلق من البحر الملح الكفار، ومن البحر العذب المؤمنين، وكان يقول بإلهية علي وتكفير أبي بكر وعمر وسائر الصحابة إلا من ثبت مع علي، وكان يقول: إن الأنبياء لم يختلفوا في شيء من الشرائع، وكان يقول بتحريم ماء الفرات وكل نهر أو عين أو بئر وقعت فيه نجاسة، وكان يخرج إلى المقبرة فيتكلم فيرى أمثال الجراد علاى القبور. وجاء المغيرة إلى محمد الباقر فقال له: أقرر أنك تعلم الغيب حتى أجبي لك العراق. فنهره وطرده. وجاء إلى ابنه جعفر بن محمد الصادق فقال له مثل ذلك، فقال: أعوذ بالله! وكان الشعبي يقول للمغيرة: ما فعل الإمام؟ فيقول: لأتتهزأ به؟ فيقول: لا إنما أتهزأ بك. وأما بيان فإنه يقول بإلهية علي وإن الحسن والحسين إلهان، ومحمد بن الحنفية بعدهم، ثم بعده ابنه أو هشام بن محمد بنوع من التناسخ، وكان يقول: إن الله تعالى بفنى جميعه إلا وجهه، ويحتج بقوله: " ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام " . تعالى الله عما يقول الظالمون والجاحدون علواً كبيراً. وادعى النبوة، وزعم أنه المراد بقوله تعالى: " هذا بيان للناس " آل عمران:138. ذكر خبر الخوارج هذه السنةوفي هذه السنة خرج بهلول بن بشر الملقب كثارة، وهو من الموصل من شيبان. فقيل: وكان سبب خروجه أنه خرج يريد الحج، فأمره غلامه يبتاع له خلا بدرهم، فأتاه بخمر، فأمره بردها وأخذ الدرهم، فلم يجبه صاحب الخمر إلى ذلك، فجاء بهلول إلى عامل القرية، وهي من السواد، فكلمه، فقال العامل: الخمر خير منك ومن قولك. فمضى في حجه وقد عزم على الخروج،فلقي بمكة من كان على مثل رأيه، فاتعدوا قرية من قرى الموصل، فاجتمعوا بها، وهم أربعون رجلاً، وأمروا عليهم بهلولاً، وكتموا أمرهم وجعلوا لا يمرون بعامل إلا أخبروه أنهم قدموا من عند هشام على بعض الأعمال وأخذوا دواب البريد، فلما انتهوا إلى القرية التي ابتاع الغلام بها الخمر قال بهلول: نبدأ بهذا العامل فنقلته. فقال أصحابه: نحن نريد قتل خالد، فإن بدأنا بهذا شهر أمرنا وحذرنا خالد وغيره، فنشدناك الله أن نقتل هذا فيفلت منا خالد، الذي يهدم المساجد ويبني البيع والكنائس ويولي المجوس على المسلمين وينكح أهل الذمة المسلمات لعلنا نقتله فيريح الله من. قال: والله لا أدع ما يلزمني لما بعده وأرجو أن أقتل هذا وخالداً، فقتله، فعلم بهم الناس أنهم خوارج، وهربوا، وخرجت البريد إلى خالد فأعلموه بهم ولا يدرون من رئيسهم. فخرج خالد من واسط وأتى الحيرة، وكان بها جند قد قدموا من الشام مدداً لعامل الهند، فأمرهم خالد بقتاله وقال: من قتل منهم رجلاً أعطيته عطاء سوى ما أخذ في الشام وأعفيته من الخروج إلى هند. فساعوا إلى ذلك، فتوجه مقدمهم، وهو من بني القين، ومعه ستمائة منهم، فضم إليه خالد مائتين من الشرط، فالتقوا على الفرات، فقال القيني لمن معه من الشرط: لا تكونوا معنا ليكون الظفر له ولأصحابه. وخرج إليهم بهلول فحمل على القيني فطعنه فأنفذه وانهزم أهل الشام والشرط، وتبعهم بهلول وأصحابه يقتلونهم حتى بلغوا الكوفة. فأما أهل الشام فكانوا على خيل جياد ففاتوه، وأما شرط الكوفة فأدركهم، فقالوا: أتق الله فينا فإنا مكرهون مظهرون، فجعل يقرع رؤوسهم بالرمح ويقول: النجاء. فوجد بهلول مع القيني بدرة فأخذها. وكان في الكوفة ستة يرن رأي بهلول فخرجوا إليه فقتلوا بصريفين، فخرج بهلول ومعه البدرة قالك من قتل هؤلاء حت أعطيه هذه البدرة؟ فجاء قوم فقالوا: نحن قتلناهم، وهم يظنونه من عند خالد، فقال بهلول لأهل القرية: اصدق هؤلاء؟ قالوا: نعم، فقتلهم وترك أهل القرية.
وبلغت الهزيمة خالداً وما فعل بصريفين، فوجه إليه قائداً من شيبان أحد بني حوشب بن يزيد بن رويم، فلقيه فيما بين الموصل والكوفة، فانهزم أهل الكوفة فأتوا خالداً. فارتحل بهلول من يومه يريد الموصل، فكتب عامل الموصل إلى هشام بن عبيد الملك يخبره بهم ويسأله جنداً، فكتب إليه هشام: وجه إليه كثارة بن بشر. وكان هشام لا يعرف بهلولاً إلى بلقبه، فكتب إليه العامل أن الخارج هو كثارة. ثم قال بهلول لأصحابه: إنا والله ما نصنع بابن النصرانية شيئاً، يعني خالداً، فبم لا نطلب الرأس الذي سلط خالداً؟ فسار يريد هشاماً بالشام، فخاف عمال هشام من هشام إن تركوه يجوز إلى بلادهم، فسير خالد جنداً من العراق، وسير عامل الجزيرة جنداً من الجزيرة، ووجه هشام جنداً من الشام واجتمعوا بدير بين الجزيرة والموصل، وأقبل بهلول إليهم، وقيل التقوا بكحيل دون الموصل، فنزل بهلول على باباب الدير وهو في سبعين وحمل عليهم فقتل منهم نفراً عامة نهاره، وكانوا عشرين ألفاً، فأكثر فيهم القتل والجراح، ثم إن بهلولاً وأصحابه عقروا دوابهم وترجلوا فاتلوا قتالاً شديداً، فقتل كثير من أصحاب بهلول، فطعن بهلول فصرع، فقال له أصحابه: ول أمرنا. فقال: إن هلكت فأمير المؤمنين دعامة الشيباني، وإن هلك فأمروا عمرو اليشكري. ومات بهلول من ليلته، فلما أصبحوا هرب دعامة وخلاهم فقال الضحاك بن قيس يرثي بهلولاً: بدلت بعد أبي بشرٍ وصحبته ... قوماً علي مع الأحزاب أعواناً كأنهم لم يكونوا من صحابتنا ... ولم يكونوا لنا بالأمس خلانا يا عين أذري دموعاً منك تهتانا ... وابكي لنا صحبةً بانوا وإخوانا خلوا لنا ظاهر الدنياوبطانها ... وأصبحوا في جنان الخلد جيرانا فلما قلتل بهلول خرج عمرو اليشكري فلم يلبث أن قتل. وخرج البختري صاحب الأشهب، وبهذا كان يعرف، على خالد في ستين، فوجه إليه خالد السمط بن مسلم البجلي في أربعة آلاف، قالتقوا بناحية الفرات، فانهزمت الخوارج، فتقلاهم عبيد أهل الكوفة وسفلتهم فرموهم بالحجارة حتى قتلوهم. ثم خرج وزير السختياني على خالد بالحيرة في نفر، فجعل لا يمر بقرية إلا أحرقها، ولا يلقى أحداً إلا قتله، وغلب على ما هنالك وعلى بيت المال، فوجه إليه خالد جنداً فقاتلوا عامة أصحابه وأثخن بالجراح، وأتي به خالد، وأقبل على خالد فوعظه، فأعجب خالداً ما سمع منه فلم يقتله وحبسه عنده، وكان يؤتى به في الليل فيحادثه. فسعي بخالد إلى هشام وقيل: أخذ حورياً قد قتل وحرق وأباح لأموال فجعله سميراً، فغضب هشام وكتب إليه يأمره بقتله، وكان خالد يقول: إني أنفس به عن الموت، فأخر قتله، فكتب إليه هشام ثانياً يذمه ويأمره بقتله وإحراقه، فقتله وأحرقه ونفراً معه، ولم يزل يتلو القرآن حتى مات وهو يقرأ: " قل نار جهنم أشد حراً لو كانوا يفقهون " التوبة:81. ذكر خروج الصحاري بن شبيبوفي هذه السنة خرج الصحاري بن شبيب بن يزيد بناحية جبل، وكان قد أتى خالداً يسأله الفريضة، فقال خالد: وما يصنع ابن شبيب بالفريضة؟ فمضى، وندم خاد وخاف أن يفتق عليه فتقاً، فطلبه لم يرجع إليه وسار حتى جبل، وبها نفر من بني تيم اللات بن ثعلبة، فأخبرهم، فقالوا: وما ترجو من ابن النصرانية؟ كنت أولى أن تسير إليه بالسيف فتضربه به. فقال: والله ما أردت الفريضة، وما أردت إلا التوصل إليه لئلا ينكرني ثم أقتله بفلان، يعني بفلان رجلاً من قعدة الصفرية، وكان خالد قتله صبراً، ثم دعاهم إلى الخروج معه، فتبعه منهم ثلاثون رجلاً وخرج بهم، فبلغ خبره خالداً وقال: قد كنت خفتها منه؛ ثم وجه إليه خالد جنداً، فلقوه بناحية المناذر، فقاتلهم قتالاً شديداً فقتلوه وجميع أصحابه. ذكر غزو أسدٍ الختل وفيها غزا أسد الختل، فوجه مصعب بن عمرو الخزاعي إليها، فسار فنزل بقرب بدر طرخان فطلب الأمان ليخرج إلى اسد، فآمنه مصعب، فسيره إلى أسد، فسأله أن يقبل منه ألف ألف درهم، فأبى أسد وقال: إنك دخلتها وأنت غريب من أهل الباميان، أخرج من الختل كما دخلت. قال بدرطرخان: فأنت دخلت إلى خراسان على عشرة من الدواب ولو خرجت منها لم تحتمل على خمسمائة بعير وغير ذلك، إني دخلت الختل شاباً فاردد علي شبباب وخذ ما كسبت منها.
فغضب أسد ورده إلى مصعب ليمكنه من العود إلى حصنه، فوصل بدرطرخان مع مولى لأسد إلى مصعب، فاخذه سلمة بن عبيد الله، وهو من الموالي، وقال: إن الأمير يندم على تركه وحبسه عنده. وأقبل أسد بالناس، فقال لمجشر بن مزاحم: كيف أنت؟ قال مجشر: كنت أمس أحسن حالاً مني اليوم، كان بدرطرخان في أدينا وعرض ما عرض، فلا الأمير قبل منه ما عرض عليه ولا هو شد يديه عليه ولكنه خلى سبيله وأمر بإدخاله حصنه. فندم أسد عند ذلك وأرسل إلى مصعب يسأله: هل دخل بدرطرخان حصنه ظام لا؟ فجاء الرسول فوجده عند سلمة بن عبيد الله، فحوله أسد إليه وأمر به فقطعت يده، وقال: من هاهنا من أولياء أبي فديك رجل من الأزد كان بدرطرخان قد قتله؟ فقالم رجل مكن الأزد فقال: أنا فقال: أضرب عنقه، ففعل. وغلب أسد على القلعة العظمى وبقيت قلعة فوقها صغيرة وفيها ولده وأمواله فلم يوصل إليها. وفرق أسد العسكر في أودية الختل فملأ أيديهم من الغنائم والسبي، وهرب أهله إلى الصين. ذكر عدة حوادثفي هذه السنة غزا الوليد بن القعقاع أرض الروم. وحج بالناس في هذه السنة أبو شاكر مسلمة بن هشام بن عبد الملك وحج معه ابن شهاب الزهري. وكان العامل على مكة والمدينة والطائف محمد بن هشام المخزومي، وعلى العراق والمشرق كله خالد القسري، وعلى خراسان أخوه أسد، وقيل: كان أسد قد هلك في هذه السنة واستخلف عليها جعفر بن حنظلة البهراني وقيل: إنما هلك أسد سنة عشرين ومائة، وعلى ما نذكره إن شاء الله تعالى. وفيها غزا مروان بن محمد أرمينية فدخل بلاد اللان وسار فيها حتى خرج منها إلى بلاد الخزر فمر ببلنجر وسمندر وانتهى إلى البيضاء التي يكون فيها خاقان، فهرب خاقان منه. وفيها توفي حبيب بن أبي ثابت. وعبد الرحمن بن سعيد بن يربوع المخزومي. وقيس بن سعد المكي. وسليمان بن موسى الأشدق. وإياس بن سلمة بن الأكوع ثم دخلت سنة عشرين ومائة ذكر وفاة أسد بن عبد الله في هذه السنة في ربيع الأول توفي أسد بن عبد الله القسري بمدينة بلخ وكان سبب موته أنه كان به دبيلة في جوفه فأصابه مرض قم أفاق منه فخرج يوماً فأتي بكمثرى أول ما جاء فأطعم الناس منه واحدة واحدة وزأخذ كثراة فرمى بها إلى خراسان دهقان هراة فانقطعت الدبيلة فهلك، واستخلف جعفر ابن حنظلة البهراني، فعمل أربعة أشهر ثم جاء عهد نصر بن سيار بالعمل في رجب سنة احدى وعشرين. وكان هذا خراسان دهقان هراة خصيصاً بأسد، فقدم عليه في المهرجان ومعه من الهدايا والتحف ما لم يحمل غيره مثله، وكانت قيمة الهدية ألف ألف. وقال لأسد: إنا معشر العجم أكلنا الدنيا أرعمائة سنة بالحلم والعقل والوقار، وكان الرجال فينا ثلاثة: ميمون النقية، أين ما توجه فتح الله عليه، والذي يليه رجل تمت مروته في بيت، فإن كان كذلك رحب وحيا، ورجل رحب صدره وبسط يده، فإذا كان كذلك قدم وقود، وقد جعل الله صفات هؤلاء فيك فما يعلم أحداً هو أتم كتخذانية منك، إنك عزيز ضابط أهل بيتك وحشمك ومواليك فليس منهم من يستطيع أن يعتدي على صغير ولا كبير، ثم بنيت الإيوانات في المفاوز من أحسن ما عمل، ومن يمن نقيبتك أنك لقيت خاقان وهو في ماة ألف ومعه الحارث بن سريج فهزمته وقتلته وقتلت أصحابه وأبحت عسكره، وأما رحب صدرك وبسط يدك فإنا لا ندري أي المالين أحب إليك، وأمال قدم عليك أم مال خرج من عندك، بل أنت بما خرج أقر عيناً. فضحك أسد وقال: أنت خير دهاقينا، وفرق جميع الهدية بين أصحابه. ولما مات أسد رثاه ابن عرس العبدي فقال: نعى أسد بن عبد الله ناع ... فريع القلب للملك المطاع ببلخٍ وافق المقدار يسري ... وما لقضاء ربك من دفاع فجودي عين بالعبرات سحاً ... ألم يحزنك تفريق الجماع في أبيات غيرها. ولما مات أسد كتب مسلمة بن هشام بن عبد الملك، وهو أبو شاكر إلى خالد القسري: أراح من خالدٍ فأهلكه ... رب أراح العابد من أسد أما أبوه فكان مؤتشباً ... عبداً لئيماً لأعبدٍ فقد يرى الزنى والصليب والخمر ... والخنزير رحلا والغي كالرشد وأمه همها وبغيتها ... هم الإماء العواهر الشرد
كافرة بالنبي مؤمنة ... بقسها والصليب والعمد يعني المعمودية. فلما قرأ خالد الكتاب قال: يا عباد الله من رأى كهذه تعزية رجل من أخيه؟ وكان ما بين خالد وأبي شاكر مباعدة؛ وسببها أن هشاماً يرشح ابنه أبا شاكر للخلافة؛ فقال الكميت: إن الخلافة كائن أو تادها ... بعد الوليد إلى ابن أم حكيم يعني أبا شاكر، وأمه أم حكيم، فبلغ الشعر خالداً فقال: أنا كافر بكل خليفة يكنى أبا ساكر؛ فسمعها أبو شاكر فحقدها عليه. ذكر شيعة بني العباس بخراسانوفي هذه السنة وجهت شيعة بني العابس بخراسان إلى محمد بن علي بن عبد الله بن العباس سليمان بن كثير ليعلمه أمرهم وما هم عليه. وكان سبب ذلك أم محمداً ترك مكاتبتهم ومراسلتهم بطاعتهم التي كانت لخداش الذي تقدم ذكره وقبولهم منه ماروي عنه من الكذب. فلما أبطأت كتبه ورسله عليهم أرسلوا سليمان ليعلم الخبر، فقدم عليه فعنفه محمد في ذلك، ثم صرف سليمان إلى خراسان ومعه كتاب مختوم فغضوه فلم ير فيه إلا بسم الله الرحمن الرحيم، فعظم ذلك عليهم وعلموا مخالفة خداش لأمره، ثم وجه محمد بمن علي إليهم بكير بن ماهان بعد عود سليمان من عنده وكتب معه إليهم يعلمهم كذب خداش، فلم يصدقوه واستخفوا به، فانصرف بكير إلى محمد، فبعث معه يعصي مضببة بعضها بحديد وبعضها بنحاس، فجمع بكير النقباء والشيعة ودفع إلى كل واحد منهم عصاً، فعلموا أنهم مخالفون لسيرته فتابوا ورجعوا. ذكر عزل خالد بن عبد الله القسري وولاية يوسف بن عمر الثقفي وفي هذه السنة عزل هشام بن عبد الملك خالداً عن أعمالهل جميعها، وقد اختلفوا في ذلك وسببه. قيل: إن فروخ أبا المثنى كان على ضياع هشام بنهر الرمان، فثقل مكانه على خالد، فقال خالد لحيان النبطي: اخرج إلى هشام وزد على فروخ، ففعل حيان ذلك وتولاها، فصار حيان أثقل على خالد من فروخ، فجعل يؤذيه، فيقول حيان: لا تؤذي وأنا صنيعتك، فابى إلا أذاه. فلمكا قدم عليه بثق البثوق على الضياع، ثم خرج إلى هشام فقال له: إن خالداً بثق البثوق على ضياعك. فوجه هشام من ينظر إليها، فقال حيان لخادم من خدم هشام: إن تكلمت بكلمة أقولها لك حيث يسمع هشام فلك ألف دينار. قال: فعجاها وأقول ما شئت، فأعطاه ألفاً وقال له: تبكي صبيان هشام، فإذا بكى فقل له: اسكت! والله لكأنك ابن خالد القسري الذي غلته ثلاثة عشر ألف ألف. ففعل الخادم، فسمعها هشام، فسأل حيان عن غلة خالد، فقال: ثلاثة عشر ألف ألف. فوقرت في نفس هشام. وقيل: كانت غلته عشرين ألفاً، وإنه حفر بالعراق الأنهار، منها نهر خالد وباجرى وترمانا والمبارك والجمع وكورة سابور والصلح، وكان كثيراً ما يقول: غني مظلوم، ما تحت قدمي شيء إلا هو لي، يعني أن عمر جعل لبجيلة ربع السواد. وأشار عليه العريان بن الهيثم وبلال بن أبي بردة بعرض املاكه على هشام ليأخذ منها ما أراد ويضمنان له الرضا فإنهما قد بلغهما تغير هشلم عليه، فلم يفعل ولم يجبهما إلى شيء. وقيل لهشام:إن خالداً قال ولدجه: ما أنت بدون مسلمة بن هشام! ودخل رجل من آل عمرو بن سعيد بن العاص على خالد في مجلسه، فأغلظ له في القول، فكتب إلى هشام يشكو خالداً، فكتب هشام إلى خالد يذمه ويلومه ويوبخه ويأمره أن يمشي راجلاً إلى بابه ويترضاه، فقد حعل عزله وولايته إليه، وكان يذكر هشاماً فيقول: ابن الحمقاء، وكان خالد يخطب فيقول: زعمتم أني أغلي أسعاركم، فعلى من يغليها لعنة اللهّ وكان هشام كتب إليه ألا تبيعن من الغلات شيئاً حتى تباع غلات أمير المؤمنين، فبلغت كيلها دارهم. وكان يقول لابنه: كيف أنت إذا احتاج إليك أمير المؤمنين؟ فبلغ هذا جميعه أمير المؤمنين هشاماً فتنكر له. وبلغه أيضاً أنه يستقل ولاية العراق، فكتب إليه هشام: يا بن أم خالد بلغني أنك تقول: ما ولاية العراق لي بشرف. يا بن اللخناء، كيف لا تكون إمرة العراق لك شرفاً وأنت من بجيلة القليلة الذليلة؟ أما والله إني لأظن أن لأول من يأتيك صغير من قريش يشد يديك إلى عنقك.
ولم يزل يبلغه عنه ما يكره، فعزم على عزله، فكتم ذلك وكتب إلى يوسف ابن عمر وهو باليمن، يأمره أن يقدم في ثلاثين من اصحابه إلى العراق فقد ولاه ذلك، فسار يوسف إلى الكوفة فعرس قريباً منها، وقد ختن طارق خليفة خالد بالكوفة ولده فأهدى إليه ألف وصيف ووصيفة سوى الأموال والثياب، فمر بيوسف بعض أهل العراق فسألوه: ما أنتم وأين تريدون؟ قالوا: بعض المواضع. فأتوا طارثقاً فأخبروه خبرهم وأمروه بقتلهم وقالوا: إنهم خوارج. فسار يوسف إلى دور ثقيف، فقيل لهم: ما أنتم؟ فكتموا حالهم وأمر يوسف، فجمع إليه من هناك من مضر، فلما اجتمعوا دخل المسجد مع الفجر وأمر المذن وأقام الصلاة فصلى، وأرسل إلى طارق وخالد فأخذهما وإن القدور لتغلي. وقيل: لما أراد هشام أن يولي يوسف بن عمر العراق كتم ذلك، فقدم جندب مولي يوسف بكتاب يوسف إلى هشام، فقرأه ثم ثال لسالم بن عنبسة وهو على الديوان: أن أجبه عن لسانك وأتني بالكتاب. وكتب هشام بخطه كتاباً صغيراً إلى يوسف يأمره بالمسير إلى العراق، فكتب سالم المتاب وأتى به هشاماً، فجعل كتابه في وسطكه وختمه، ثم دعا رسول يوسف فأمر به فضرب ومزقت ثيابه، ودفع الكتاب إليه فسار. فارتاب بشير بنم أبي طلحة، وكان خليفة سالم، فقال: هذه حيلة، وقد ولى يوسف العراق، فكتب إلى عياض، وهو نائب سالم بالعراق: إن أهلك قد بعثوا إليك بالثوب اليماني، فإذا أتاك فالبسه واحمد الله تعالى وأعلم ذلك طارقاً. فأعلم عياض طاق بن أبي زيدا بالكتاب له. ثم ندم بشير على كتابه، فكتب إلى عياض: إن أهلك قد بدا لهم في إرسال الثوب. فأتى عياض بالكتاب الثاني إلى طارق، فقال طارق: الخبر في الكتاب الأول، ولكن بشيراً ندم وخاف أن يظهر الخبر. وركب طارق من الكوفة إلى خالد وهو بواسط، فرآه داود البريدي، وكان على حجابة خالد وديوانه، فأعلم خالداً، فأذن له، فلما رآه قال: ما أقدمك بغير إذان؟ قال: أمر كنت أخطأت فيه، كنت قد كتبت إلى الأمير أعزيه بأخيه أسد، وإنما كان يجب أن آتيه ماشساً. فرق خالد ودمعت عيناه وقال: ارجع إلى عملك، فأخبره الخبر لما غاب داود، اقل: فما الرأي؟ قال: تركب إلى أمير المؤمنين فتعتذر إليه مما بلغه عنك. قال: لا أفعل ذلك بغير إذن. قال: فترسلني إليه حتى آتيك بعهده. قال: وكم مبلغه؟ قال: مائة ألف ألف . قال: ومن أين آخذها؟ والله ما اجد عشرة آلاف ألف درهم! قال: أتحمل أنا وفلان وفلان. قال: إني إذاً للئيم إن كنت أعطيتهم شيئاً وأعود فيه. فقال طارق: إنما نفيك ونفي أنفسنا بأموالنا وتستأنف الدنيا وتبقى النعمة عليك وعلينا خي من أن يجيء من يطالبنا بالأموال وهي عند أهل الكوفة فيتربصون فنقتل ويأكلون تلك الأموال. فأبى خالد. فودعه طارق وبكى وقال: هذا آخر ما نلتقي في الدنيا. ومضى إلى الكوفة وخرج وخرج خالد إلى الجمة. وقدم رسول يوسف عليه اليمن فقال: أمير المؤمنين ساخط، وقد ضربني ولم يتكتب جواب كتابك، وهذا كتاب سالم صاحب الديوان. فقرأه، فلما انتهى إلى آخره قرأ كتاب هشام بخطه وولاية العراق ويامره أن يأخذ ابن النصرانية، يعني خالداً، وعماله ويعذبهم حتى يشتفي. فأخذ ديلاً وسار من يومه واستخلف على اليمن ابنه الصلت، فقدم الكوفة في جمادى الآخرة سنة عشرين ومائة فنزل النجف، وأرسل مولاه كيسان وقال: انطلق فأتني بطارق، فإن أقبل فاحمله على إكاف، وإن لم يقبل فأت به سحباً. فأتى كيسان الحيرة فأخذ معه عبد المسح سيد أهلها إلى طارق، فقال له: إن يوسف قد قدم على العراق وهو يستدعيك. فقال طارق لكيسان: إن أراد الأمير المال أعطيته ما سأل. وأقبلوا به إلى يوسف بن عمر فتوافوا بالحيرة، فضربه ضرباً مبرحاً، يقال خمسمائة سوط، ودخل الكوفة وأرسل عطاء بن مقدم إلى خالد بالجمة، فاتى الرسول حاجبه وقال: استأذن لي على أبي الهيثم، فدخل متغير اللون، فقال: ايذن له، فدخل عليه، فقال: ويل أمها سخطة! ثم أخذه فحبسه، وصالحه عنه أبان بن الوليد وأصحابه على تسعة آلاف ألف ، فقيل ليوسف: لو لم تفعل لأخذت منه مائة ألف ألف، فندق وقال: قد رهنت لساني معه ولا آمن ولا أرجع.
وأخر أصحاب خالداً فقال: قد أخطأتم ولا آمن أن يأخذها ثم يعود، ارجعوا، فرجعوا فأخبروه أن خالداً لم يرض، فقال: قد رجعتم؟ قالوا: نعم. قال: والله لا أرضى بمثلها ولا مثليها، فأخذ أكثر من ذلك، وقيل: أخذ مائة ألف. فأرسل يوسف إلى بلال بن أبي بردة، فقبضه، وكان قد اتخذ بلال بالكوفة داراً لم ينزلها، فأحضره يوسف مقيداً فأنزله الدار، ثم جعلت سجناً. وكان خالد يصل الهاشميين ويبرهم، فأتاه محمد بن عبد الله ابن عمرو بن عثمان بن عفان ليستميحه فلم ير منه ما يحب، فقال: أما الصلة فللهاشميين وليس لنا منه إلا أنه يلعن علياً، فبلغت خالداً فقال: إن أحب نلنا عثمان بشيء. وكان خالد مع هذا يبالغ في سب علي، فقيل: كان يفعل ذلك نفياً للتهمة وتقرباً إلى القوم. وكانت ولاية خالد العراق في شوال سنة خمس ومائة، وعزل في جمادى الأولى ستة عشرين ومائة، ولما ولي يوسف العراق كان الإسلام ذليلاً والحكم فيه إلى أهل الذمة، فقال يحيى بن نوفل فيه: أتانا وأهل الشرك أهل زكاتنا ... وحكامنا فيما نسر ونجهر فلما أتانا يوسف الخير أشرقت ... له الأرض حتى كل وادٍ منور وحتى رأينا العدل في الناس ظاهراً ... وما كان من قبل العقيلي يظهر في أبيات. ثم قال بعد ذلك: أرانا والخليفة إذ رمانا ... مع الإخلاص بالرجال الجديد كأهل النار حين دعوا أغيثوا ... جميعاً بالحميم وبالصديد وكان في يوسف أشياء متباينة متناقه، كان طويل الصلاة ملازماً للمسجد ضاباطاً لحشمه وأهله عن الناس، لين الكلام، متواضعاً، حسن الملكة، كثير التضرع والدعاء، فكان يصلي الصبح ولا يكلم أحداً حتى يصلي الضحى، يقرأ القرآن ويتضرع، وكان بصيراً بالشعر والأدب، وكان شديد العقوبة مسرفاً في ضرب الأبشار، فكان يأخذ الثوب الجديد فيمر ظفره عليه، فإن تعلق به طاقه فضرب صاحبه وربما قطع يده. وكان أحمق، أتي يوما بثوب فقال لكاتبه: ما تقول في هذا الثوب؟ فقال: كان ينبغي أن تكون بيوته أصغر مما هي. فال للحائك: صدق يا بن اللخناء! فقال الحائك: نحن أعلم بهذا. فقال لكتابه: صدق يا بن اللخناء. فقال الكاتب: هذا يعمل في السنة ثوباً أو ثوبين، وأنا يمر على يدي في كل سنة مائة ثوب مثل هذا. فقال للحائك: صدق يا بن اللخناء! فلم يزل يكذب هذا مرة وهذا مرة حتى عد أبيات الثوب فوحدها تنقص بيتاً من أحد جانبي الثوب، فضرب الحائك مائة سوط. وقيل: إن يوسف أراد السفر فدعا جواريه فقال لإحداهن: تخرجين معي؟ قالت: نعم قال: يا خبيثة كل هذا من حب النكاح، يا خادم اضرب رأسها. وقال لأخرى: ما تقولين؟ فقالت: أقيم على ولدي. فقال: يا خبيثة أكل هذا زهادة في؟ اضرب رأسها. وقال لثالثة: ما تقولين؟ قالت: ما أدري ما أقول، إن قلت ما قالت إحداهما لما نجوت من عقوبتك. فقال: يا لخناء أوتناقضين ونحجبين؟ اضرب رأسها. فضرب الجميع. وكان قصيراً عظيم اللحية، وكان يحضر الثوب الطويل ليفصله ليلبسه، فإن قال الخياط إنه يفضل منه ضربه، فإن قال له الخياط: لا يكفينا إلا بعد التصرف في التفصيل، سره، فكانوا يفصلون له ثياباً طوالاً ويأخذون ما ينبغي من الثوب يوهمونه أن الثوب لم يكفه فيرضى بذلك. وله في هذا الباب أشياء نوادر، منها أنه قال يوماً لكاتب له: ما حبسك؟ قال: اشتكيت ضرسي فدعا بحجام يقلعه ومع ضرس آخر. ذكر ولاية نصر بن سيار الكناني خراسانلما مات أسد بن عبد الله استشار هشام بنم عبد الملك عبد الكريم بن سليط الحنفي، وكان علماً بخراسان، فيمن يوليه، فقال عبد الكريم: يا أمير المؤمنين أما رجل خراسان حزماً ونجدة فالكرماني. فأعرض عنه وقال: ما سمه؟ قال: جديع بن علي. قال: لا حاجة لي فيه، وتطير، قال: فالمسن المجرب يحيى بن نعيم بن هبيرة الشيباني. قال: ربيعة لا تسد بها الثغور. قال عبد الكريم: فقلت في نفس: كره ربيعة واليمن فأرميه بمضر، فقلت: عقيل بن معقل الليثي إن غفرت هنةً. قال: ما هي؟ قلت: ليس بالعفيف. قال: لا حاجة لي فيه. قلت: منصور بن أبي الخرقاء السلمي إن غفرت نكره فإنه مشؤوم. قال: غيره. قلت: فالمجشر بن مزاحم السلمي عاقل شجاع له رأي مع كذب فيه. قال: لا خير في الكذب.
قلت: يحية بن الحضين. قال: ألم أخبرك أن ربيعة لا تسد بها الثغور؟ قال: نصر بن سيار قال: هو لها. قلت: إن غفرت واحد، فإنه عفيف مجرب عاقل. قال: ما هي؟ قلت: عشيرته بها قلقلة. قال: لا أبالك! أتريد عشيرة أكثر مني؟ أنا عشيرته. فكتب عهده وبعثه مع عبد الكريم. وقد قيل: عرض عليه عثمان بن عبد الله بن الشخير، وقيل له: إنه صاحب شراب، وقيل له عن يحيى بن الحضين: إنه كثير التيه، وقيل له عن قطن بن قتيبة: إنه موتور، فلم يولهم فاستعمل نصراً. وكان جعفر بن حنظلة الذي استخلفه أسد على خراسان عند موته قد عرض على نصر أن يولويه بخارى، فاستشار البختري بن مجاهد مولى بين شيبان، فقال له: لا تقبلها لأنك شيخ مضر بخراسان وكأنك بعهدك قد حاء على خراسان، فلما أتاه سلم عليه بالإمرة، فقال له: من أين علمت؟ قال: كنت تأتيني فلما بعثت إلي علمت أنك قد وليت. وأعطى نصر عبد الكريم لما أتاه بعهده عشرة آلاف درهم، واستعمل على بلخ مسلم بن عبد الرحمن بن مسلم، واستعمل على مرو الروذ وساج ابن بكير بن وساج، وعلى هراة الحارث بن عبد الله بن الحشرج، وعلى نيسابور زياد بن عبد الرحمن القشيري، وعلى خوارزم أبا حفص بن علي ختنه، وعلى الصغد قطن بن قتيبة. قال رجل من اليمانية: ما رأيت عصبية مثل هذا. قال: بلى : التي كانت قبلها، فلم يتسعمل أربع سنين إلا مضرياً. وعمت خراسان عمارة لم تعمر قبلها، وأحسن الولاية والجباية؛ فقال سوار ابن الأشعر: أضحت خراسان بعد الخوف آمنةً ... من ظلم كل غشوم الحكم جبار لما أتى يوسفاً أخبار ما لقيت ... اختار نصراً لها نصر بن سيار وأتى نصراً عهده في رجب سنة عشرين ومائة. ذكر عدة حوادثفي هذه السنة غا سليمان بن شام بن عبد الملك الصائفة وافتتح سندرة. وفيها غزا إسحاق بن سلم العقيلي تونشاه وافتتح قلاعها وخرب أرضها. وحج بالناس هذه السنة محمد بن هشام بن إسماعيل المخزومي، وقيل: حج بهم سليمان بن هشام بن عبد الملك، وقيل: أخوه يزيد بن هشام. وكان العامل على المدينة ومكة والطائف محمد بن هشام المخزومي، وعلى العراق والمشرق يوسف بن عمر، وعلى خراسان نصر بن سيار، وقد أمره هشام أن يكاتب يوسف بن عمر، وقيل: كان عليها جعفر بن حنظلة، وعلى البصرة كثير بن عبد الله السلمي، استعمله يوسف، وعلى قضائها عامر بن عبيدة، وعلى أرمينية وأذربيجان مروان بن محمد، وعلى قضاء الكوفة ابن شبرمة. وفيها مات عاصم بن عمر بن قتادة في أصح الأقوال. وفيها مات مسلمة ابن عبد الملك بن مروان، وقيل: سنة إحدى وعشرين بالشام. وفيها مات قيس بن مسلم. ومحمد بن إبراهيم بن الحارث التميمي. وحماد بن سليمانالفقيه. وواقد بن عمرو بن سعد بن معاذ وعلي بن مدرك النخعي الكوفي. والقاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود الكوفي. ثم دخلت سنة إحدى وعشرين ومائةفي هذه السنة غزا مسملة بن هشام الروم فافتتح بها مطامير. ذكر ظهور زيد بن علي بن الحسينقيل: إن زيد بن علي بن الحسين قتل هذه السنة، وقيل: سنة اثنتين وعشرين ومائة ونحن نذكر الآن سبب خلافة على هشام وبيعة، ونذكر قتله سنة اثنتين وعشرين. قد اختلفوا في سبب خلافة، فقيل: إن زيداً وداود بن علي بن عبد الله ابن عباس ومحمد بن عمر بن علي بن أبي طالب قدموا على خالد بن عبد الله القسري بالعراق فأجازهم ورجعوا إلى المدينة، فما ولي يوسف بن عمر كتب إلى هشام بذلك وذكر له أن خالداً ابتاع من زيد أرضاً بالمدينة بعشرة آلاف دينار، ثم رد الأرض عليه، فكتب هشام إلى عامل المدينة أن يسيرهم إليه، ففعل، فسألهم هشام عن ذلك فأقروا بالجائزة وأنكروا ما سوى ذلك وحلفوا فصدقهم وأمرهم بالمسير إلى العراق ليقالاوا خالداً، فساروا على كره وقابلوا خالداً، فصدقهم، فعادوا نحو المدينة. فلما نزلوا القادسية راسل أهل الكوفة زيداً فعاد إليهم.
وقيلك بل ادعى خالد القسري أنه أودع زيداً وداود بن علي ونفراً من قريش مالاً، فكتب يوسف بذلك إلى هشام، فأحضرهم هشام من المدينة وسيرهم إلى يوسف ليجمع بينهم وبين خالد فقدموا عليه، فقال يوسف لزيد: إن خالداً رعم أنه أودعك مالاً. قال: كيف يودعني وهو يشتم آبائي على منبره! فأرسل إلى خالد فأحضره في عباءة، فقال: هذا زيد قد أنكر أنك قد أودعته شيئاً. فنظر خالد إليه وإلى داود وقال ليوسف: أتريد أن تجمع مع إثمك في إثماً في هذا؟ كيف أودعه وأنا أشتمه وأشتم آباءه على المنبر! فقالوا لخالد: ما دعاك إلى ما صنعت؟ قال: شدد علي العذاب فادعيت ذلك وأملت أن يأتي الله بفرج قبل قدومكم. فرجعوا وأقام زيد وداود بالكوفة. قيل: إن يزيد بن خالد القسري هو الذي ادعى المال وديعة عند زيد. فلما أمرهم هشام بالمسير إلى العراق إلى يوسف استقالوه خوفاً من شر يوسف وظلمه فقال: أنا أكتب إليه بالكف عنكم، وألزمهم بذلك، فساروا على كره. وجمع يوسف بينهم وبين يزيد، فقال يزيد: مالي عندهم قليل ولا كثير. قال يوسف: أبي تهزأ أم بأمير المؤمنين؟ فعذبه بومئذ عذاباً كاد يهلكه، ثم أمر بالفراشين فضربوا ونترك زيداً. ثم استحلفهم وأطلقهم، فلحقوا بالمدينة، وأقام زيد بالكوفة، وكان زيد قد قال لهشام لما أمره بالمسير إلى يوسف: ما آمن بعثتني إليه أن لا تجتمع أنا وأنت حيين أبداً. قال: لا بد من المسير إليه فساروا إليه. وقيل: كان السبب في ذلك أن زيداً كان يخاصم ابن عمه جعفر بن الحسن بن الحسن بن علي في وقوف علي، زيد يخاصم عن بني الحسين، وجعفر يخاصم عن بني الحسن، فكانا يتبالغان بين يدي الوالي كل غاية ويقومان فلا يعيدان مما كان بينهما حرفاً. فلما مات جعفر نازعه عبد الله بن لحسن بن لحسن، فتنازعا يوماً بين يدي خالد بن عبد الملمك بن الحارث بالمدينة، فأغلظ عبد الله لزيد قال: يا بن السندية! فضحك زيد وقال: قد كان إسماعيل لأمة ومع ذلك فقد صبرت بعد وفاة سيدها إذ لم يصبر غيرها، يعني فاطمة، وهي عمته، فلم يدخل عليها زماناً، فأرسلت إليه: يا بن أخي إني لأعلم أن أمك عندك كأم عبد الله عنده . وقالت لعبد الله: بئس ما قلت لأم زيد! اما والله لنعم دخيلة القوم كانت! قال: فذكر أن خالداً قال لهما اغدوا علينا غداً فلست لعبد الملك إن لم أفصل بينكما. فاتت المدينة تغلي كالمرجل، يقول قالئل قال زيد كذا، ويقول قائل قال عبد الله كذا. فلما كان الغد جلس خالد في المسجد واجتمع الناس فمن بين شامت ومهموم، فدعا بهما خالد وهو يحب أن يشاتما، فذهب عبد الله يتكلم، فقال زيد: لا تعجل يا ابا محمد، أعتق زيد ما يملك إن خاصمك إلى خالد أبداً. ثم أقبل على خالد فقال: جمعت ذرية رسول الله، صلى الله عليه وسلم ، لأمر ما كان يجمعهم عليه أبو بكر ولا عمر! فقال خالد: أما لهذا السفيه أحد؟ فتكلم رجل من الأنصار من آل عمرو بن حزم فقال: يا ابن أبي تراب وابن حسين السفيه! أما ترى للوالي عليك حقاً ولا طاعة؟ فقال زيد: اسكت أيها القحطاني فإنالا نجيب مثلك. قال: ولم ترغب عني؟ فوالله إني لخير منك، وأبي خير من أبيك، وأمي خير من أمك. فتضاحك زيد وقال: يامعشر قريش هذا الدين قد ذهب فذهبت الأحساب، فوالله ليذهب دين القوم وما تذهب أحسابهم. فتكلم عبد الله بن راقد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب فقال: كذبت والله أيها القحطاني! فوالله لهو خير منك نفساً وأماً وأبا ومحتداً! وتناوله بكلام كثير، وأخذ كفاً من حصباء وضرب بها الأرض ثم قال: إنه والله ما لنا على هذا من صبر. وشخص زيد إلى هشام بن عبد الملك، فجعل هشام لا يأذن له، فيرفع إليه القصص فكلما رفع قصة يكتب هشام في أسفلها: ارجع إلى منزلك. فيقول زيد: والله لا أرجع إلى خالد أبداً. ثم أذن له يوماً بعد طول حبس ورقي علية طويلة وأمر خادماً أن يتبعه بحيث بحيث لا يراه زيد ويمسع ما يقول، فصعد زيد، وكان ديناً، فوقف في بعض الدرجة، فسمعه يقول: والله لا يحب الدنيا أحد إلا ذل. ثم صعد إلى هشام فحلف له على شيء، فقال: لا أصدقك.
فقال: يا أمير المؤمنين إن الله لم يرفع أحداً عن أن يرضى باللله، ولم يضع أحداً عن الأيرصض بذلك منه. فقال هشام: لقد بلغني يا زيد أنك تكر الخلافة وتتمناها ولست هنالك وأنت ابن أمة. قال زيد: إن لك جواباً. قال: فتكلم. قال: إنه ليس أحد أولى بالله ولا أرفع درجة عنده من نبي ابتعثه، وقد كان إسماعيل ابن أمة وأخوه ابن صريحة فاختاره الله عليه وأخرج منه خير البشر، وما على أحد من ذلك إذ كان جده رسول الله وأبوه علي بن أبي طالب ما كانت أمه. قال له هشام: اخرج. قال: أخرج ثم لا أكون إلا بحيث تكره. فقال له سالم: يا أبا الحسين لا تظهرن هذا منك. فخرج من عنده وسار إلى الكوفة، فقال له محمد بن عمر علي بن أبي طالب: أذكرك الله يا زيد لما لحقت بأهلك ولا تأت أهل الكوفة، فإنهم لا يفون لك؛ فلم يقبل. فقال له: خرج بنا اساء على غير ذنب من الحجاز إلى الشام ثم إلى الجزيرة ثم إلى العراق إلى قيس ثقيف يلعب بنا؛ وقال: بكرت تخوفني المنون كأنني ... أصبحت عن عرض الحياة بمعزل فأجبتها: عن المنية منهل ... لابد أسقى بكأس المنهل إن المنية لو تمثل مثلت ... مثلي إذا نزلوا بضيق المنزل فاقني حياءك لا أبا لك واعلمي ... أني امرؤ سأموت إن لم أقتل أستودعك الله وإني أعطي الله عهداً إن دخلت يد في طاعة هؤلاء ما عشت. وفارقه وأقبل إلى الكوفة، فأقام بها مستخفياً ينتقل في المنازل، وأقبلت الشيعة تختلف إليه تبايعه، فبايعه جماعة منهم: سلمة بن كهيل، ونصر بن خزيمة العبسي، ومعاوية بن إسحاق بن زيد بن حارثة الأنصاري، وناس من وجوه أهل الكوفة، وكانت بيعته: إناندعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيه، صلى الله عليه وسلم ، وجهاد الظالمين والدفع عن المستضعفين وإعطاء المحرومين، وقسم هذا الفيء بين أهله بالساء، ورد المظالم، ونصر أهل البيت، أتبايعون على ذلك؟ فإذا قالوا: نعم، وضع يده على أيديهم ويقول: عليك عهد الله وميثاقه وذمته وذمة رسوله، صلى الله عليه وسلم، لتفين ببيعتي ولتقاتلن عدوي ولتنصحن لي في السر والعلانية، فغذا قال: نعم، مسح يده على يده ثم قال: اللهم أشهد. فبايعه خمسة عشر ألفاً، وقيل: اربعون ألفاً، فأمر أصحابه بالاستعداد، فاقبل من يريد أن يفي له ويخرج معه ويستعد ويتعيأ، فشاع أمره في الناس. هذا على قول من زعم أنه أتى الكوفة من الشام واختفى بها يبايع الناس، وأما على قول من زعم أنه أتى إلى يوسف بن عمر لموافقة خالد بن عبد الله اقسري أو ابنه يزويد بن خالد فإن زيداً أقام بالكوفة ظاهراً ومعه داود بن علي بن عبد الله بن عباس، وأقبلت الشيعة تختلف إلى زيد وتأمره بالخروج ويقولون: إنا لنرجو أن تكون انت المنصور، وإن هذا الزمان هو الذي تهلك فيه بنو أمية. فأقامم بالكوفة، وجعل يوسف بن عمر يسأل عنه فيقال هو ها هنا، ويبعث إليه ليسير فيقول: نعم، ويعتل بالوجع، فمكث ما شاء الله. ثم ارسل إليه يوسف ليسير، فاحتج بأنه يبتاع أشياء يريدها، قم أرسل إليه يوسف بالمسير عن الكوفة، فاحتج بأنه يحاكم بعض آل طلحة بن عبيد الله بملك بينهما بالمدينة، فأرسل إليه ليوكل وكيلاً ويرحل عنها. فلما رأى جد يوسف في أمره سار حتى أتى القادسية، وقيل الثعلبة، فتبعه أهل الكوفة وقالوا له: نحن أربعون ألفاً لم يختلف عنك أحد نضرب عنك بأسيافنا، وليس هاهنا من أهل الشام إلا عدة يسيرة بعض قباسلنا يكفيكهم بإذن الله تعالى، وحلفوا له باظلأيمان المغلظة، فجعل يقول: إني أخاف أن تخذولني وتسلموني كفعلكمم بأبي وجدي، فيحلفون له. فقال له داود بن علي: يابن عم إن هؤلاء يغرونك من نفسك، أليس قد خذلوا من كان أعز عليهم منك جدك علي بن أبي طالب حتى قتل؟ والحسن من بعده بايهوه ثم وثبوا عليه فانتزعوا رداءه وجرحوه؟ أوليس قد أخرجوا جدك الحسين وحلفوا له وخذلوه وأسلموه ولم يرضوا بذلك حتى قتلوه. فلا ترجع معهم. فقالوا: إن هذا لا يريد أن تظهر أنت ويزعم أنه وأهل بيته أولى بهذا الأمر منكم. فقال زيد لداود: إن علياً يقالته معاوية بداهية وبكراهية، وإن الحسين قالتله يزيد والأمر مقبل عليهم. فقال داود: إني خائف إن رجعت معهم أن لا يكون أحد أشد عليك منهم، وأنت أعلم.
ومضى داود إلى المدينة، ورجع زيد إلى الكوفة، فلما رجع زيد أتاه سلمة بن كهيل فذكر له فرابته من رسول الله، صلى الله عليه وسلم وحقه، فأحسن ثم قال له: ننشدك الله كم بايعك؟ قال: أرعون ألفاً. قال: فم بايه جدك؟ قال: ثمانون ألفاً. قال: فكم حصل معه؟ قال: ثلاثمائة. قال: نشدتك الله أنت خير أم جدك؟ قال: جدي. قال: فهذا القرن خير أم ذلك القرن؟ قال: ذلك القرن. قال: أفتطمع أن يفي لك هؤلاء وقد غدر أولئك بجدك؟ قال: قد بايعوني ووجبت البيعة في عنقي وأعناقهم. قال: أفتأذن لي أن أخرج من هذا البلد؟ فلا آمن أن يحدث حدث فلا أملك نفسي. فأذن له فخرج إلى اليمامة، وقد تقدم ذكر مبايعة سلمة. وكتب عبد الله بن الحسن بن الحسن إلى يزيد: أما بعد فإن أهل الكوفة نفخ العلانية خور السريرة هرج في الرخاء جزع في اللقاء، تقدمهم أسنتهم ولا تشايعهم قلوبهم، ولقد تواترت إلي كتبهم بدعوتهم، فصممت عن ندائهم وألبست قلبي غشاء عن ذكرهم يأساً منهم واطراحاً لهم، وما لهم مثل إلا ما قال علي بن أبي طالب: إن أهملتم خضتم، وإن حوربتم خرتم، وإن اجتمع الناس على غمام طعنتم، وإن أجبتم إلى مشاقة نكصتم. فلم يصغ زيد إلى شيء من ذلك، فأقام على حاله يبايع الناس ويتجهز للخروج، وتزوج بالكوفة ابنة يعقوب بن عبد الله السلمي، وتزوج أيضاً ابنة عبد الله بن أبي العنبسي الأزدي. وكان سبب تزوجه إياها أن أمها أم عمرو بنت الصلت كانت تتشيع، فاتت زيداً تسلم عليه، وكانت جميلة حسناء قد دخلت في السن ولم يظهر عليها، فخطبها زيد إلى نفسها، فاعذرت بالسن وقالت له: لي ابنة هي أجمل من وابيض وأحسن دلا وشكلاً فضحك زيد ثم تزوجها. وكان يتنقل بالكوفة تارة عنده وتارة عند زوجه الأخرى وتارة في بني عبس وتارة في بني هند وتارة في نبي تغلب وغيرهم إلى ان ظهر. ذكر غزوات نصر بن سيار ما وراء النهروفي هذه السنة غزا نصر بن سيار ما وراء النهر مرتين، وإحدهما من نحو الباب الجديد، فسار من بلخ من تلك الناحية ثم رجع إلى مرو فخطب الناس وأخبرتهم أنه قد أقام منصور بن عمر بن أبي الخرقاء على كشف المظالم وأنه قد وضع الجزية عمن قد أسلم وجعلها على من كان يخفف عنه من المشركين. فلم تمضى جمعة حتى أتاه ثلاثنون ألف مسلم كانوا يؤدون الجزية عن رؤوسهم، وثمانون ألفاً من المشركين كانت قد ألقيت عنهم، فحول ما كان على المسلمين غليهم ووضعه عن المسلمين ثم صنف الخراج ووضعه مواضعه. ثم غزا الثانية إلى ورغسر وسمرقند ثم رجع. ثم غزا الثالثة إلى الشاش من مرو، فحال بينه وبين عبور نهر الشاش كورصول في خمسة عشر ألفاً، وكان معهم الحارث بن سريج. وعبر كورصول في أربعين رجلاًن فبيت أهل العسكر في ليلة مظلمة ومع نصر بخار أخذاه في أهل بخارى ومعه أهل سمر قند وكش ونسف، وهم عشرون ألفاً، فنادى نصر: أى يخرج أحد واثبتوا على مواضعكم. فخرج عاصم بن عمير، وهو على جند سمرقند، فمرت به خيل الترك، فحمل على رجل في آخرهم فأسره، فإذا هو ملك من مولكهم صاحب أربعة آلاف قبة، فأتي به إلى نصر، فقال له نصر: من أنت؟ قال: كورصول. فقال نصر: الحمد الله الذي أمكن منك يا عدوا الله. قال: ما ترجو من قتل شيخ؟ وأنا أعطيك أربعة آلاف بعي من إبل الترك وألف برذون تقوي بها جندك وطلق سبيلي. فاستشار نصر أصحابه، فاشارو وابإطلاقه، فسأله عن عمره، قال: لا أدري. قال: كم غزوت؟ قا: اثنيتن وسبعين غزوة. قال: أشهدت يوم العطش؟ قال: نعم. قال: لو أعطيتني ما طلعت عليه الشمس ما أفلت من يدي بعد ما ذكرت من شماهك. وقال لعاصم بن عمير السعدي: قم إلى سلبه فخذه . فقال: من أسرنيظ قال نصر، وهو يضحك: أسرك يزيد بن قران الحنظلي، وأشار إليه: قال: هذا لا يستطيع أن يغسل استه أو لايستطيع أن يتم له بوله فكيف يأسنري؟ أخبرني من أسرني؟ قال: أسرك عاصم بن عمير. قال: لست أجد ألم القتل إذا كان أسرني فارس من فرسان العرب. فقتله وصلبه على شاطئ النهر. وعاصم بن عمير هو الهزارمرد، قتل بنهاوند أيام قحطبة. فلما قتل كورصول أحرقت الترك أبنيته وقطعوا آذانهم وقصوا شعورهم وأذناب خيلهم. فلما أراد نصر الرجوع أحرقه لئلا يحملوا عظامه، فكان ذلك أشد عليهم من قتله، وارتفع إلى فرغانة فسبى بها ألف رأس.
وكتب يوسف بن عمر إلى نصر: سر إلى هذا الغادر دينه في الشاش، يعني الحارث بن سريج، فإن أظفرك الله به وبأهل الشاش فخرج بلادهم واسب ذراريهم، وإياك وورطة المسلمين. فقرأ الكتاب على الناس واستشارهم، فقال يحي بن الحضين: انظر أمن لأمير المؤمنين أو من الأمير؟ فقال نصر: يا يحى تكلمت بكلمة أيام عاصم بلغت الخيلفة فحظيت بها وبلغت الدرجة الرفيعة، فقلت أقول مثلها، سر يا يحيى فقد وليتك مقدمتي. فلام الناس يحيى فسارإلى الشاش، فأتاهم الحارث فنصب عليهم عرادتين، وأغار الأخرم، وهو فارس الترك على المسلمين فقتلوه وأقوا رأسه إلى الترك، فصاحوا وانهزموا. وسار نصر إلى الشاش، فلتقاه ملكها بالصلح والهدية والرهن، واشترط عليه نصر إخراج الحارث بن سريج عن بلده، فأخرجه إلى فاراب، واستعمل على الشاش نيزك بن صالح مولى عمرو بن العاص، ثم سار حتى نزل قبا من أرض فرغانة، وكانوا أحسوا بمجيئة فأحرقوا الحشيش وقطعوا الميرة، فوجه نصر إلى ولي عهد صاحب فرغانة فحاصره في حصن، وغفلوا عنه فخرج وغنم دواب المسلمين، فوجه إليهم نصر بجالاً من تميم ومعهم محمد بن المثنى، وكان المسلمون ودوابهم كمنوا لهم، فخرجوا واستاقوا بعضها، وخرج عليهم المسلمون فهزموهم وقتلوا الدهقان وأسروا منهم وأسروا ابن الدهقان فقتله نصر، وأرسل نصر سليمان بن صول بكتاب الصلح إلى صاحب فرغانة، فأمر به فأدخا الخزائن ليراها ثم رجع إليه، فقال: كيف رأيت الطريق فيما بيننا وبينكم.؟ قال: سهلاً كثر الماء والمرعى، فكره ذلك وقال: كيف رأيت الطريق فيما بيننا وبينكم؟ قال: سهلاً كثير الماء والمرعى، فكره ذلك وقال: ما علمك؟ فقال سليمان: قد غزوت غرشستان وغور والختل وطبرستان فكيف لا أعلم؟ قال: فكيف رأيت ما أعددنا؟ قال: عدة حسنة، ولكن أما علمت أن المحصور لا يسلم من خصال، لا يأمن أقرب الناس إليه وأوثقهم في نفسه أن يثبت به يطلب مرتبته ويتقرب بذلك أو يفنى ما قد جمع فيسلم برمته أو يصيبه داء فيموت. فكره ما قال له وأمره فأحضر كتاب الصلح، فأجاب إليه وسير أمه معه، وكانت صاحبة أمره، فقدمت على نصر، فأذن لها وجعل يكلمها، وكان مما قالت له كل مالك لا يكون عنده ستة أشياء فليس بملك، وزير يبث إليه ما في نفسه ويشاوره ويثق بنصيحته، وطباخ إذا لم يشته الطعام اتخذ له ما يشتهي، وزوجة إذا دخل عليها مغتماً فنظر إلى وجهها زال غمه، وحصن إذا فزغ أتاه فأنجاه، تعني البرذون، وسيف إذا قاتل لا يخشى خيانته، وذخيرة إذا حملها عاش بها أين كان من الأرض. ثم دخل تميم بن نصر في جماعة فقالت: من هذا؟ قالوا: هذا فتى خراسان تميم بن نصر. قالت: ما له نبل الكبير ولا حلاوة الصغير؛ ثم دخل الحجاج بن قتيبة فقالت: من هذا؟ فقالوا: الحجاج بن قتيبة، فحيته وسألت عنه وقالت: يا معشر العرب ما لكم وفاء ولا يصلح بعضكم بعضاً، قتيبة الذي ذلل لكم ما أرى وهذا ابنه تقعده دونك فحقه أن تجلسه أنت هذا المجلس وتجلس أنت مجلسه. ذكر غزو مروان بن محمد بن مروانوفي سنة إحدى ووعشرين غزا مروان بن محمد من أرمينة وهو اليها، فأتى قلعة بين السرير فقتل وسبى، ثم أتى قلعة ثانية فقتل وسبى ودخل غوميك وهو حصن فيه بيت الملك وسريره، فهرب الملك منه حتى أتى حصناً يقال له خيزج فيه السرير الذهب، فسار إليه مروان ونازله صيفية وشتويته، فصالح الملك على ألف رأس كل سنة ومائة ألف مدي، وسار مروانفدخل أرض ارزو بطران، فصالحه ملكها، ثم سار في أرض تومان فصالحه، وسار حتى أتى خمزين فأخرب بلاده وحصر حصناً له شهراً فصالحه، طبرسران وفيلان، وكل هذه الولايات على شاطئ البحر من أرمينية إلى طبرستان. ذكر عدة حوادثفي هذه السنة غزا مسلمة بن هشام الروم فافتتح بها مطامير. وحج بالناس هذه السنة محمد بن هشام بن إسماعيل المخزومي، وهو كان عامل المدينة ومكة والطائف. وعلى العراق يوسف بن عمر، وعلى خراسان نصر بن سيار، وعلى أرمينية وأذربيجان مروان بن محمد، وعلى قضاء البصرة عامر بن عبيدة، وعلى قضاء الكوفة ابن شبرمة. وفيها فرغ الوليد بن بكير عامل الموصل من حفر النهر الذي أدخله البلد، وكان مبلغ النفقة عليه ثمانية آلاف ألف درهم، وجعل عليه ثمانية أحجار تطحن، ووقف هشام هذه الأرحاء على عمل النهر.
وفيها مات سلمة بن سهيل، وقيل سنة اثنتين وعشرين. وفيها مات عامر بن عبيد الله بن الزبير، وقيل سنة اثنتين وعشرين، وقيل سنة أربع وعشرين بالشام. وفيها مات محمد بن يحيى بن حبان وهو ابن أربع وسبعين سنة بالمدينة، حبان بفتح الحاء، وبالباء الموحدة. وقتل يعقوب بن عبد الله ابن الأشج سهيداً بأرض الروم. ثم دخلت سنة اثنتين وعشرين ومائة ذك | |
|
| |
الشيخ عودة الشيخ عودة
عدد المساهمات : 1748 تاريخ التسجيل : 28/09/2008 العمر : 74
| موضوع: رد: كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير الثلاثاء فبراير 11, 2014 3:54 am | |
| فلما دخل على هشام ذكر جند خراسان ونجدتهم وطاعتهم، فقال: إلا أنهم ليس لهم قائد. قال: ويحك! فما فعل الكناني؟ يعني نصراً. قال: له بأس ورأي إلا أنه لا يعرف الرجل ولا يسمع صوته حتى يدني منه، وما يكاد يفهم منه من الضعف لأجل كبره، فقال شبيل بن عبد الرحمن المازني: كذب والله، وإنه ليس بالشيخ يخشى خرفه، ولا الشاب يخشى سفهه، بل هو المجرب وقد ولي عامة ثغور خراسان قد آثر معناً وأعلى منزلته وشفعه في حوائجه، فلما فعل هذا أجفى القيسية فحضروا عنده واعتذروا إليه. وحج بالناس هذه السنة يزيد بن هشام بن عبد الملك. وكان العمال في الأمصارهم العمال في السنة التي قبلها. وفيها مات محمد بن زاسع الأزدي البصري، وقيل: سنة سبع وعشرين. وفيها توفي جعفر بن إباس. وفيها مات ثابت البناني، وقيل: سنة سبع وعشرين، وله ست وثمانون سنة. وفيها توفي سعيد بن أبي سعد المقبري، واسم أبي سعيد كيسان، وقيل: مات سنة خمس وعشرين، وقيل ست وعشرين. ومالك ابن دينار لزاهد. ثم دخلت سنة أربع وعشرين ومائة ذكر ابتداء أمر أبي مسلم الخراساني قد اختلف الناس في أبي مسلم، فقيل: كان حراً، واسمه إبراهيم بن عثمان ابن بشار بن سدوس بن جودزده من ولد بزرجمهر، ويكنى أبا إسحاق، ولد بأصبهان، ونشأ بالكوفة، وكان أبوه أوصى إلى عيسى بن موسى السراج فحمله إلى الكوفة وهو ابن سبع سنين، فلما اتصل بإبراهيم بن محمد بن علي ابن عبد الله بن عباس الإمام قال له: غير اسمك فإنه لا يتم لنا الأمر إلا بتغيير اسمك على ما وجدته في الكتب؛ فسمى نفسه عبد الرحمن بن مسلم، ويكنى أبا مسلم، فمضى لشأنه وله ذؤابه وهو على حمار بإكاف وله وتسع عشرة سنة، وزوجه إبراهيم الإمام ابنة عمران بن إسماعيل الطائي المعروف بأبي النجم، وهي بخراسان مع أبيها، فبنى بها أبو مسلم بخراسان، وزوج أبو مسلم ابنته فاطمة من محرز بن إبراهيم، وابنته الأخرى أسماء من فهم ابن محرز، فأعقبت أسماء ولم تعقب فاطمة، وفاطمة هي التي تذكرها الخرمية. ثم إن سليمان بن كثير ومالك بن الهيثم ولا هزبن قريظ وقحطبة بن شبيب توجهوا من خراسان يريدون مكة سنة أربع وعشرين ومائة، فلما دخلوا الكوفة أتوا عاصم بن يونس العجلي وهو في الحبس قد اتهم بالدعاء إلى ولد العباس ومعه عيسى وإدريس ابنا معقل العجليان، وهذا إدريس هو جد أب دلف العجلي، وكان حبسهما يوسف بن عمر مع من حبس من عمال خالد القسري ومعهما أبو مسلم يخدمهما قد اتصل بهما، فرأوا فيه العلامات فقالوا: لمن هذا الفتى؟ فقالا: غلام معنا من السراجين يخدما، وكان أبو مسلم يسمع عيسى وإدريس يتكلمان في هذا الرأي ، فإذا سمعهما بكى، فلما رأوا ذلك منه دعوه إلى رأيهم فأجاب. وقيل: إنه من أهل ضياع بني معقل العجلية بأصبهان أو غيرها من الجبل، وكان اسمه إبراهيم، ويلقب حيكان، وإنما سماه عبد الرحمن وكناه أبا مسلم إبراهيم الإمام، وكان مع أبي موسى السراج صاحبه يخرز الأعنة ويعمل السورج، وله معرفة بصناعة الأدم والسروج، فكان يحملها إلى أصبهان والجبال والجزيرة والموصل ونصيبين وآمد وغيرها يتجر فيها. وكان عاصم بن يونس العجلي وإدريس وعيسى ابنا معقل محبوسين، فكان أبو مسلم يخدمهم في الحبس بتلك العلامة، فقدم سليمنان بن كثير ولا هز وقحطبة الكوفة فدخلوا على عاصم، فراوا أبا مسلم عنده، فعجبهم، فأخذوه، وكتب أبو موسى السراج معه كتاباً إلى إبراهيم الإمام، فلقوه بمكة، فأخذ أبا سملم فكان يخدمه.
ثم إن هؤلاء النقباء قدموا على إبراهيم الإمام مرة أخرى يكلبون رجلاً يتوجه معهم إلى خراسان. فكان هذا نسب أبي مسلم على قول من يزعم أنه حر. فملا تمكن وقوي أمره ادعى أنه من ولد سليط بن عبد الله بن عباس، وكان من حديث سليط بن عبد الله بن عباس أنه كانت له جارية مولدة صفراء تخدمه، فواقعها مرة ولم يطلب ولدها ثم تركها دهراً، فاغتنمت ذلك فاستنكحت عبداً من عبيد المدينة فوقع عليها، فحبلت وولدت غلاماً، فحدها عبد الله ابن عباس واستعبد ولدها وسماه سليطاً، فنشأ جلداً ظريفاً يخدم ابن عباس، وكان له من الوليد بن بد الملك منزلة، فادعى أنه ولد عبد الله بن عباس ووضعه على أمر الوليد لما كان في نفسه من علي بن عبد الله بن عباس وأمره بمخاصمة علي، فخاصمه واحتل في شهود على إقرار عبد الله بن عباس بأنه ابنه، فشهدوا بذلكعند قاضي دمشق، فتحامل القاضي ابتاعاً لرأي الوليد فأثبت نسبه. ثم إن سليطاً خاصمعلي بن عبد الله في الميراث حتى لقي منه علي أذى شديداً، وكان مع علي رجل من ولد أبي رافع مولى رسول الله، صلى الله عليه وسلم ، منقطعاً إليه يقال له عمر الدن، فقال لعلي يوماً: لأقتلن هذا الكلب وأريحك منه، فنهاه علي عن ذلك وتهدده بالقطيعة ورفق على سليط حتى كف عنه. ثم إن وسيطاً دخل مع علي بستاناً له بظاهر دمشق، فنام علي فجرى بين عمر الدن وسليط كلام، فقتله عمر ودفنه في البستان، واعانه عليه مولى لعلي وهربا، وكان لسليط صاحب قد عرف دخوله البستان ففقده فأتى أم سليط فأخبرها، وفقد علي أيضاً عمر الدن مولاه، فسأل عنهما وعن سليط فلم يخبره أحد، وغدت أم سليط إلى باب الوليد فاستغاثت على علي، فأتى الوليد من ذلك ما أحب، فأحضر علياً وسأله عن سليط، فحلف أنه لم يعرف خبره وانه لم يأمر فيه بأمر، فأمره بإحضار عمر الدن، فحلف بالله أنه لم يعرف موضعه، فأمر الوليد بارسال الماء في أرض البستان، فلما انتهى إلى موضع الحفرة التي فيها سليط انخسفت وأخرج منها سليط، فأمر الوليد بعلي فضرب وأقيم في الشمس وألبس جبة صوف ليخبره حبر سليط ويدله على عمر الدن، فلم يكن عنده علم، ثم شفع فيه عباس بن زياد فأخرج إلى الحميمة، وقيل إلى الحجر، فأقام به حتى هلك الوليد وولي سليمان، فرده إلى دمشق. وكان هذا مما عدة المنصور على أبي مسلم حين قتله، وقال له: زعمت أنك ابن سليط ولم ترض حتى نسبت إلى عبد الله غير ولده، لقد ارتقيت مرتقى صعباً زكان سبب مودة الوليد على علي بن عبد الله أن اباه عبد الملك بن مروان طلق امرأته ابنها ابنة عبد الله بن جعفر، فتزوجا علي، فتغير له عبد الملك وأطلق لسانه فيه وقال: إنما صلاته رياء، وسمع الوليدذلك من أبيه فبقي في نفسه. وقيل: إن أبا مسلم كان عبداظً، وكان سبب انتقاله إلى بني العابس أن بكير بن ماهان كان كاتباً لبعض عمال السند فقدم الكوفة، فاجتمع هو وشيعة بني العباس، فغمز بهم، فأخذوا، فحبس بكير وخلي عن الباقين، وكان في الحبس يونس أبو عاصم وعيسى بن معقل العجلي ومعه أبو مسلم يخدمه، فدعاهم بكير إلى رأيه، فاجابوه، فقال لعيسى بن معقل: ما هذا الغلام منك؟ قال: مملوك. قال: أتبعه؟ قال: هو لك . قال: أحب أن تأخذ ثمنه. قال: هو لك بما شئئت، فأعطاه أربعمائة درهم، ثم خرجوا من السجن، فبعث به بكير إلى إبراهيم الإمام، فدفعه إبراهيم إلى أبي موسى السارج، فسمع منه وحفظ ثم سار متردداً إلى خراسان. فسار إليها فنزل على سليمان بن كثير، وكان من أمره ما نذكره سنة سبع وعشرين ومائة إن شاء الله تعالى. وقد كان أبو مسلم رأي رؤيا قبل ذلك استدل بها على ملك خراسان فظهر أمرها، فلما ورد نيسابور نزل بوناباذ، وكانت عامرة، فتحدث صاحب الخان الذي نزله ابو سملم بذلك وقال: إن هذا يزعم أنه يلي خراسان. فخرج أبو مسلم لبعض حاجته، فعمد بعض المجان فقطع ذنب حماره، فلما عاد قال لصاحب الخان: من فعل هذا بحماري؟ قال: لا ادري! قال: ما اسم هذه المحلة؟ قال: بوناباذ. قال: إن لم أصيرها كنداباد فلست بأنبي مسلم. فلما ولي خراسان أخربها. ذكر الحرب بين بلج وابني عبد الملك ووفاة بلج وولاية ثعلبة بن سلامة الأندلس
في هذه السنة كان بالأندلس حرب شديدة بين بلج وأمية وقطن ابني عبد الملك بن قطن؛ وكان سببها أنهما لما هربا من قرطبة، كما ذكرناه، فلما قتل أبوهما استنجدا بأهل البلاد والبربر، فاجتمع معهما جمع كثير قيل كانوا مائة ألف مقاتل، فسمع بهم بلج والذين معه فسار إليهم، والتقوا واقتتلو تقالاً شديداً، وجرح بلج جراحات، ثم ظفر بابني عبد الملك والبربر ومن معهم وقتل منهم فأكثر وعاد إلى قرطبة مظفراً منصوراً، فبقي سبعة أيام، ومات من الجراحات التي فيه وكانت وفاته في شوال من هذه السنة، وكانت ولايته أحد عشر شهراً؟. فلما مات قدم أصحابه عليهم ثعلبة بن سلامة العجلي، للأن هشام ابن عبد الملك عهد إليهم: إن حدث ببلج وكلثوم حدث بالأمير ثعلبة، فقام بالأمر، وثارت في أيامه البربر بناحية ماردة، فغزاهم فقتل فيهم فأكثر وأسر منهم ألف رجل وأتى بهم إلى قرطبة. ذكر عدة حوادثوفيها غزا سليمان بن هشام الصائفة، فلقي أليون ملك الروم فغنم. وفيها مات محمد بن علي بن عبد الله بن عباس في قول بعضهم، ووصى إلى ابنه إبراهيم بالقيام بأمر الدعوة إليهم. وحج الناس هذه السنة محمد بن هشام بن إسماعيل. وفيها مات محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، وكان مولده سنة ثمان وخمسين، وقيل سنة خمسين. ثم دخلت سنة خمس وعشرين ومائة ذكر وفاة هشام بن عبد الملك وفيها مات هشام بن عبد الملك بالرصافة لست خلون من شهر ربيع الآخر، وكانت خلافته تسع عشرة سنة وتسعة أشهر وواحداً وعشرين يوماً، وقيل: وثمانية ونصفاً؛ وكان مرضه الذبحة، وعمره خمس وخمسون سنة، وقيل ست وخمسون سنة، فملا مات طلبوا قمقماً من بعض الخزان يسخن فيه الماء لغسله، فما أعطاهم عياض كاتب الوليد، على ما نذكره، فاستعاروا قمقماً، وصلى عليه ابنه مسلمة ودفن بالرضافة. ذكر بعض سيرتهقال عقال بن شبة: دخلت على هشام وعليه قباء فنك أخضر، فوجهني إلى خراسان وجعل يوصيني وأنا أنظر إلى القبا ففطن فقال: مالك؟ فقلت: رأيت عليك قبل أن تلي الخلافة قباء مثل هذا فجعلت أتأمل أهو هذا أم غيره. فقال: هو والله ذاك، وأما ما ترون من جمعي المال وصونه فهو لكم. قال: وكان محشواً عقلاً. وقيل: وضرب رجل نصراني غلاماً لمحمد بن هشام فشجعه، فذهب خصي لمحمد فضرب النصراني، وبلغ هشاماً الخبر وطلب الخصي فعاذ بمحمد، فقال له محمد: ألم آمرك؟ فقال الخصي: بلى والله قد أمرتني. فضرب هشام الخصي وشتم ابنه. قال عبد الله بن علي بن عبد الله بن عباس: جمعت دواوين بني أمية فلم أر ديواناً أصح ولا أصلح للعامة والسلطان من ديوان هشام. وقيل: وأتي هشام برجل عنده قيان وخمر وبربط فقال: اكسروا الطنبور على رأسه. فبكى الشيخ لما ضربع. فقال: عليك بالصبر. فقال: اتراني أبكي للضرب؟ إنمكا أبكي لاحتقاره البربط إذ سماه طنبوراً! قال: وأغلظ رجل الهشام، فقال له: ليس لك أن تغلظ لإمامك. قيل: وتفقد هشام بعض ولده فلم يحضر الجمعة، فقال: ما منعك من الصلاة؟ قال: نفقت دابتي. قال: أفعجزت عن المشي؟ فمنعه الدابةسنةً. قيل: وكتب إلى بعض عماله: قد بعثت إلى أمير المؤمنين بسلة دراقن، وكتب إليه: قد وصل الدراقن فأعجب أمير المؤمنين، فزد منه واستوثق من الدعاء. وكتب إلى عامل له قد بعث بكمأة: قد وصلت المأة وهي أربعون، وقد تغير بعضها من حشوها،فاذا بعثت شيئاً فأجد حشوها في الطرق بالرمل حتى لا تضطرب ولا يصيب بعضها بعضاً. وقيل له: أتطمع في الخلافة؟فأنت بخيل جبان! قال: ولم لا أطمع فيها وأنا حليم عفيف؟ قيل: وكان هشام ينزل الرصافة وهي نمن أعمال قنسرين، وكان الخلفاء قبله وأبناء الخلفاء يبتدرون هرباً من الطاعون فينزلون البرية، فلما أراد هشام أن ينزل الرصافة قيل له: لا تخرج فإن الخلفاء لا يطعنون ولم ير خليفة طعن. قال: أتريديون أن تجربوا في؟ فنزلها، وهي مدينة رومية.
قيل إن الجعد بن درهم أظهر مقالته يخلق القرآن أيام هشام بن عبد الملك، فاخذه هشام وأرسله إلى خالد القسري، وهو أمير العراق، وأمره بقتله، فحبسه خالد من الحبس في وثاقة، فلما صلى العبد يوم الأضحى قال في آخر خطبته: انصرفوا وضحوا يقبل الله منكم، فإني أريد أن أضحي اليوم بالجعد بن درهم، فإنه يقول: ما كلم الله موسى ولا اتخذ إبراهيم خليلاً، تعالى الله عما يقول الجعد علواً كبيراً. ثم نزل وذبحه. قيل: إن غيلان بن يونس ، وقيل ابن مسلم، أبا مروان أظهر القول بالقدر في أيام عمر بن عبد العزيز، فأحضره عمر واستتابه، فتاب ثم عاد إلى الكلام فيه أيام هشام، فأحضره من ناصرة ثم أمر به فقطعت يداه ورجلاه ثم امر به فصلب. قيل: وجاء محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر بالخطاب إلى هشام، فقال: ليس لك عندي صلة، قم قال: أياك أن يغرك أحد فيقول ام يعرفك أمي المؤمنين، إني قد عرفتك، وأنت محمد بن زيد فلا تقيمن وتنفق ما معك، فليس لك عندي صلة، الحق بأهلك. قال مجمع بن يعقوب الأنصاري: شتم هشام رجلاً من الأشراف؟ فوبخه الرجل قال: أما تستحي أن تشتمني وأنت خليفة الله في الرض؟ فاستحيا منه وقا: اقتص مني. قال: إذاً أنا سفيه مثلك. قال: فخذ مني عوضاً من المال. قال: ما كنت لأفعل. قال: فهبها لله. قال: هي لله ثم لك. فنكس هشام رأسه واستحيا وقال: والله لا أعود إلى مثلها أبداً. ذكر بيعة الوليد بن يزيد ابن عبد الملك قيل: وكانت بيعته لست مضين من شهر ربيع الآخر من السنة، وقد تقدم عقد أبيه ولاية العهد له بعد أخيه هشام بن عبد الملك؛ وكان الوليد حين جعل ولي عهد بعد هشام ابن إحدى عشرة سنة، ثم عاش من بعد ذلك فبلغ الوليد خمس عشرة سنة، فكان يزيد يقول: الله بيني وبين من جعل هشاماً بيني وبينك. فلما ولي هشام أكرم الوليد بن يزيد حتى ظهر من الوليد مجون وشرب الشراب، وكان يحمله على ذلك عبد الصمد بن عبد الأعلى مؤدبه، واتخذ له ندماء، فأراد هشام أن يقطعهم عنه فولاه الحج سنة ست عشرة ومائة، فحمل معه كلاباً في صناديق وعمل قبة على قدر الكعبة ليضعها على الكعبة، وحمل معه الخمر، وأراد أن ينصب القبة على الكعبة ويشرب فيها الخمر، فحرمه أصحابه وقالوا: لا نأمن الناس عليك وعلينا معك. فلم يفعل. وظهر للناس منه تهاون بالدين واستخفاف، فطمع هشام في البيعة لابنه مسلمة وخلع الولي، وألاد الوليد على ذلك، فأبى، فقال له: اجعله بعدك، فأبى فتنكر له هشام وأضر به وعمل سراً في البيعة لابنه مسلمة، فأجابه قوم، وكان ممن أجابه خالاه محمد وإبراهيم ابنا هشام بن إسماعيل، وبنو القعقاع بن خليد العبسي، وغيرهم من خاصته، فأفرط الوليد في الشراب وطلب اللذات، فقال له هشام: ويحك يا وليد، والله ما أدري أعلى الإسلام أنت أم لا! ما تدع شيئاً من المنكر إلا أتيته غير متحاش؛ فكتب إليه الوليد: يا أيها السائل عن ديننا ... نحن على دين أبي شاكر نشربها صرفاً وممزوجةً ... بالسخن أحياناً وبالفاتر فغضب هشام على ابنه مسلمة، وكان سكنى أبا شاكر، وقال له: يعيرنيالوليد بك وأنا ارشحك للخلافة! فألزمه الأدب وأحضره الجماعة وولاه الموسم سنة تسع عشرة ومائة، فأظهر النسك واللين، ثم إنه قسم بمكة والمدينة أموالاً؛ فقال مولى لأهل المدينة: يا أيها السائل عن ديننا ... نحن على دين أبي شاكر الواهب الجرد بأرسانها ... ليس بزنديق ولا كافر يعرض بالوليد. وكان هشام يعيب الوليد ويتنقصه ويقصر بهن فخرج الوليد ومعه ناس من خاصته ومواليه فنزل بالأزرق على ماء له بالأردن وخلف كاتبه عياض ين مسلم عند هشام ليكاتبه بما عندهم، وقطع هشام عن الوليد ما كان يجرى عليه، وكاتبه الوليد فلم يجبه إلى رده، وأمره بإخراج عبد الصمد من عنده، وأخرجه، وسأله أن يأذن لابن سهيل في الخروج إليه، فضرب هشام ابن سهيل وسيره، وأخذ عياض بن مسلم كاتب الوليد فضربه وحبسه، فقال الوليد: من يثق بالناس ومن يصنع المعروف! هذا الأحوال المشؤوم قدمه أبي على أهل بيته وصيره ولي عهده ثم يصنع بي ما ترون؟ لا يعلم أن لي في أحدٍ هوى إلا عبث به! وكتب إلى هشام في ذلك يعاتبه ويسأله أن يرد عليه كاتبه، فلم يرده، فكتب إليه الوليد:
رأيتك تبني دائماً في قطيعي ... ولو كنت ذا حزم الهدمت ما تبني تثير على الباقين مجنى ضغينه ... فويل لهم إن مت من شر ما تجني كأني بهم والليت أفضل قولهم ... ألا ليتنا والليت إذ ذاك لا يغني كفرت يداً من منعمٍ لو شكرتها ... جزاك بها الرحمن ذو الفضل والمن فلم يزل الوليد مقيماً في تلك البرية حتى مات هشام، فلما كان صبيحة اليوم الذي جاءته فيه الخلافة قال لأبي الزبير المنذر بن أبي عمرو: ما انت علي ليلة من عقلت عقلي أطول من هذه الليلة! عرضت لي هموم وحدثت نفسي فيها بأمور هذا الرجل، يعني هشاماً، قد أولع بي، فاركب بنا نتنفس. فركبا وسارا ميلين. ووقف على كثيب فنظر إلى رهج فقال: هؤلاء رسل هشام،نسأل الله من خيرهم، إذ بدا لاجلان على البريد أحدهما مولى لأبي محمد السفياني والآخر جردبة، فلما قربا نزلا يعدوان حتى دانوا منه سالم بن عبد الرحمن صاحب ديوان الرسائل. فقرأه وسأل مولى أبي محمد السفياني عن كاتبه عياض، فقال: لم يزل محبوساً حتى نزل بهشام الموت فأرسل إلى الخزان وقال: احتفظوا بما في أيديكم، فأفاق هشام فطلب شيئاً فمنعوه، فقال: إنا لله، كنا خزاناً للويلد! ومات من ساعته، وخرج عياض من السجن فتم أبواب الخزائن وأنزل هشاماً عن فرشه وما وجدوا له قمقماً يسخن له فيه الماء حتى استعاروه، ولا وجدوا كفناً من الخزائن فكفنه غالب مولاه؛ فقال: هلك الاحول المثو ... م فقد أرسل المطر وملكنا من بعد ذا ... ك فقد أورق الشجر فاشكروا الله إنه ... زائد كل من شكر وقيل: إن هذا الشعر لغير الوليد. فلما سمع الوليد موته كتب إلى العباس بن الوليد بن عبد الملك بن مروان أن يأتي الرضافة فيحمي ما فيها من أموال هشام وولده وعياله وحشمه إلا مسلمة بن هشام فإنه كلم أباه في الرفق بالوليد. فقدم العباس الرصافة ففعل ما كتب به الوليد إليه، وكتب به إلى الوليد، فقال الوليد ليت هشاماً كان حياً يرى ... محلبه الأوفر قد أترعا ويروى: ليت هشاماً عاش حتى يرى ... مكياله الأوفر قد طبعا كلناه بالصاع الذي كاله ... وما ظلمناه به إصبعا وما أتينا ذاك عن بدعةٍ ... أحله الفرقان لي أجمعا وضيق على أهل هشام وأصحابه، فجاء خادم لهشام فوقف عند قبره وبكى وقال: يا أمير المؤمنين لو رأيت ما يصنع بنا الوليد. فقال بعض من هناك: لو رأيت ما صنع بهشام لعلمت أنك في نعمة لا تقوم بشكرها! إن هشاماً في شغل مما هو فيه عنكم. واستعمل الوليد العمال، وكتب إلى الآفاق بأخذ البيعة، فجاءته بيعتهم، وكتب إله مروان بن محمد ببيعته استأذنه في القدوم عليه. فلما ولي الوليد أجرى على زمنى أهل الشام وعميهم وكساهم وأمر لكل إنسان منهم بخادم، وأخرج لعيالات الناس الطيب والكسوة وزادهم وزاد الناس في العطاء عشرات، ثم زاد أهل الشام بعد العشرات عشرةً عشرةً، وزاد الوفود، ولم يقل في شيء يسأله إلا وقال: ضمنعت لكم إن لم تعقني عوائق ... بأن سماء الضر عنكم ستقلع سيوشك إلحاق معاً وزيداة ... وأعطية مني عليكم تبرع محرمكم ديوانكم وعطاؤكم ... به تكتب الكتاب شهراً وتطبع قال حلم الوادي المغني: كنا مع الوليد وأتاه خبر موت هشام وهنئ بولايت الخلافة، وأتاه القضيب والخاتم، ثم قال: فأمسكنا سعة ونظرنا إليه بعين الخلافة، فقال: غنوني: طاب يومي ولذ شرب السلافه ... وأتانا نعي من بالرصافة وأتانا البريد ينعى هشاماً ... وأتانا بخاتم للخلافة فاصطبحنا من خمر عانة صرفاً ... ولهونا بقينةٍ عرافه وحلف أن لا يبرح من موضعه حتى يغني في هذا اشعر ويشرب عليه، ففعلنا ذلك ولم نزل نغني إلى الليل. قم إن الوليد هذه السنة عقد لابنيه الحكم وعثمان البيعة من بعده وجعلهما وليي عهده، أحدهما بعد الآخر، وجعل الحكم مقدماً، وكتب بذلك إلى الأمصار العراق وخراسان ذكر ولاية نصر بن سيار خراسان للوليد
في هذه السنة لى الوليد نصر بن سيار خراسان كلها وأفرده بها، قم وفد يوسف بن عمر على الوليد فاشترى منه نصراً وعماله، فرد إليه الوليد ولاية خراسان، وكتب يوسف إلى نصر يأمره بالقدوم ويحمل معه ما قدر عليه من الهديايا والأموال، وأن يقدم معه بعياله أجميعين، وكتب الوليد إلى نصر يأمره أن يتخذ له برابط وطنابير وأباريق ذهب وفضة، وأن يجمع له كل صناجه بخراسان، وكل بازي وبرذون فاره، ثم يسير بكل ذلك بنفسه في وجوه أهل خراسان. وكان المنجمون قد أخبروانصراً بفتنة تكون، وألح يوسفعلى نصر بالقدوم وأرسل اليه رسولاٍ في ذلك، وأمره أن يستحثه أوينادي في الناس أنه قد خلع. فأرضى نصر الرسول واجازه، فلم يمض لذلك إلايسير حتى وقعت الفتنة. فتحول القصره بماجان واتخلف عصمة بن عبد الله الأسدي على خرسان، وموسى بن ورقاء بالشاش، وحسان من أهل الصغانيان بسمرقند،ومقاتل بن علي السعدي بأمل، وامرهم إذابلغهم خروجه من مرو ان يستجلبوا الترك ليعيروا ما وراء النهر ليرجع اليهم، وسار العراق. فبينا هو يسير الى العراق طرقه مولى لبني ليث وأعلمه بقتل الوليد، فلما أصبح أذن للناس وأحضر رسل الوليد وقال لهم: قد كان من مسيري ما علمتم ، وبعثي بالهدايا ما رأيتم، وقد كان قدم الهدايا فبلغت بهيق، وطرقني فلان ليلاً فأخبرني أن الوليد قد قتل ووقعت الفتنة بالشام، وقدم المنصور بن جمهور العراقنوهرب يوسف بن عمر، ونحن بالبلاد التي علمتم وكثت عدونا. فقال سالم بنأحوز: أيها لأمير إنه بعض مكايد قريش ،أرادو تهجين طاعتك، فسر ولاتمتحنا، فقال: يا سالم أنت رجل لك علم بالحرب وحسن طاعة لبني أمية، فأما مثل هذه الأمور فيها راي أمية ورجع بالناس. ذكر قتل يحيى بن زيد بن علي بن الحسينفي هذه السنة قتل يحيى بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب بخرسان . وسبب قتله أنه سار بعد قتل أبيه إلى خرسان، كما سبق ذكره، فأتى بلخ فأقام بها عند الحيش بن عمرو بن داود حتى هلك هشام وولي الوليد ابن يزيد. فمتب يوسف بن عمر إلى نصر بمسير يحيى بن زيد وبمنزله عند الحريش، وقال له: خذه أشد الأخذ، فأخذ نصر الحريش فطالبه بيحيى، فقال: لاعلم لي به. فأمربه فجلد ستمائة سوط.فقال الحريش: والله لوأنه تحت قدمي ما رفعتهما عنه.فلما رأى ذلك قريش بن الحريش قال:لاتقتل أبي وانا ادلك على يحيى ،فدله عليه، فأخذه نصر وكتب إلى الوليد يخبره، فكتب الوليد يأمره أنيؤمنه وخلي سبيله وسبيل أصحابه. فأطلقه نصر و أمره أن يلحق بالوليد وأمر له بألفي درهم، فسار إلى سرخس فأقام بها، فكتب نصر إلى عبد الله بن قيس بن عباده يأمره أن يسيره عنها، فسيره عنها، فسار حتى إنتهى إلى بهيق، وخاف أنيغتله يوسف بنعمر فعاد إلى نيسابور، وبها عمرو بنزرارة، وكان مع يحبى سبعون رجلاً، فرأى يحيى تجاراً، فأخذ هو وأصحابه دوابهم وقالو: علينا أثمنها، فكتب عمروابن زرارة إلى نصر يخبره. فكتب نصر يأمر بمحاربته، فقاتله عمرو، وهو في عشرة الآف ويحيى وسبعين رجلاً، فهزمهم يحيى وقتل عمراً وأصاب دواباً كثيرة وسار حتى مر بهراة، فلم يعترض لمن بها وسار عنها. وسرح نصر بن سيار سالم بن أحوز في طلب يحيى، فلحقه بالجوز جان فقاتله قتالاً شديداً،فرمى يحيى بسهم فأصاب جبهته، رماه رجل من عنزة يقال له عيسى،فقتل منأصاب يحيى من عند أخرهم وأخذوا رأس يحيى وسلبوه قميصه. فلما بلغ الوليد قتل يحيى متب الى يوسف بن عمر: خذ عجيل أهل العراق فأنزله من جذعه، يعني زيداً، وأحرقه بالنار ثم أنسفه باليم نسفاً، فأمر يوسف به فأحرق، ثم رضه وحمله في سفينة ثم 1راه في الفرات وأما يحيى فإنه لما قتل صلب بالجوزجان ، فلم يزل مصلوباً حتى ظهر أبو مسلم الخرساني وأستولى على خراسان فأنزله وصى عليه ودفنه وامربالنياحة عليه في خراسان، واخذ ابو مسلم جيوان بني أمية وعرف منه أسماء من حضر قتل يحيى، فن كان حياً قتله ومن كان ميتاًخلفه في أهله بسوء، وكانت أم يحيى ريطة بنت أبي هاشم عبد الله بن محمد بن الحنيفة. عباد بضم العين ، وفتح الباء الموحدة المخففة ذكر ولاية حنظلة إفريقية وأبي الخطار الأندلسي
في هذه السنة قدم أبو الخطار حسام بن ضرار الكلبي اللأندلسي أميراً في رجب، وكان أبو الخطار لما تبايع ولاة الأندلس من قيس قد قال شعراً وعرض فيه بيوم مرج راهط وما كان من بلاء كلب فيه مروان بنالحكم وقيام القيسين مع الضحاك بنقيس الفهري على مروان، ومن الشعر: أفادت بنو مروان قيساً دماءنا ... وفي الله أن لم يعدلوا حكم عدل كأنكم لم تشهدو مرج راهطٍ ... ولم تعلموا من كان ثم له الفضل وقيناكم حر القنا بحورنا ... وليس لكم خيل تعد ولارجل فلما بلغ شعره هشام بن عبد الملك فأعم أنه رجل من كلب،وكان هشام قد استعمل على إفريقية حنضلة بن صفوان الكلبي سنة أربع وعشرين ومأئة،فكتب إليه هشام أن يولي الخطارالأندلس، فولاه وسيره إليها، فدخل قرطبة يوم جمعة فرأى ثعلبة بن سلامة أميرها قد أضر الأف من البربر،الذين تقدم ذكر أسرهم، ليقتلهم، فلما ذخل أبو الخطار دفع الأسرى إليه، فكانت ولايته سبباً لحياتهم؛وكان لأهل الشام الذين بالأندلس قد أرادو الخروج مع ثعلبة بن سلامة إلى الشام، فلم يزل أبو الخطار يحسن إليهم ويستميلهم حتى أقامو،فأنزل كل قوم إلى شبه منازلهم بالشام، فلمارأوا بلداًيشبه بلدانهم أقاموا.وقيل:إن أهل الشام إنما فرقهم في البلاد لأن قرطبة ضاقت عليهم ففرقهم؛وقد ذكرنا بعض أخبارهم سنة تسع وثلاثين ومائة. ذكر عدة حوادثقيل: وفي هذه السنة وجه الوليد بن يزيد خاله يوسف بنمحمد بن يوسف الثقفي والياًعلى المدينة ومكة والطائف، ودفعإليه محمداًواباهيم ابني هشام بنإسماعيل المخزومي موثقين في عباءتين، فقدم بهما المدينة في شعبان فأقامهما للناس، ثم حملا إلى الشام فأحضرا عند الوليد، فأمر بجلدهما، فقال محمد: أسألك بالقرابة ! قال:وأي قرابة بيننا؟ قال: فقد نهى لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، لضرب ليوط إلا في حد. قال: ففي حد أضربك وقودٍ، أنت أول من فعل بالعرجي، وهو ابن عمي وابن أمير المؤمنين عثمان؛ وكان محمد قد أخذه وقيده وأقامه للناس وجلده وسجنه إلى أن مات بعد تسع سنين لهجاء العرجي إياه، ثم أمر به الوليد فجلد هو وأخوه إبراهيم، ثم أوثقهما حيدداً وأمر أن يبعث بهما إلى يوسف بن عمر وهو على العراق، فلما قدم بهما عليه عذلهما حتى ماتا. وفي هذه السنة عزل الوليد سعيد بن إبراهيم عن قضاء المدينة وولاه يحيى ابن سعيد الأنصاري. وفيها خرجت الروم إلى زبطرة، وهو حصن قديم كان افتتحه حبيب بن مسلمة القهري، فأخربته الروم الآن، فبنى بناء غير محكم، فعاد الروم وأخربوه أيام مروان بن محمد الحمار، ثم بناه الرشيدوشحنه بالرجال، فلما كانت خلافة المأمون طرقه الروم فشعثوه، فأمر المأمون برمته وتحصينه، ثم قصده الروم أيام المعتصم، على ما نذكره إن شاء الله تعالى. فإنما سقت خبره هاهنا لأني لم أعلم تواريخ حوادثه. وفيها اغزا الوليد أخاه الغمر بن يزيد، وأمر على يجوش البحر الأسود ابن بلال المحاذي وسيره إلى قبرس ليخبر أهلها بين المسير إلى الشام أو إلى الروم، فختارة طائفه جوار المسلمين، فسيرهم إلى الشام، واختار أخرون الروم، وسيرهم إليهم. وفيها قدم سليمان بن كثير ومالك بن الهيثم ولاهز بن قريظ وقحطبه بن شبيب مكه، فلقوا، في قول بعض أهل السير، محمد بن عبد الله ابن عباس فأخبروه بقصة أبي مسلم وما رأوه منه، فقال: أحر هو أم عبد؟ قالوا: أما عيسى فيزعم أنه عبد، وأما هو فيزعم انه حر. قال: فشتروه واعتقوه وأعطوا محمد بن علي مائتي ألف درهم وكسوه ثلاثين ألف درهم. فقال لهم: ما أظنكم تلقوني بعد عامي هذا، فإن حدث بي حدث فصاحبكم ابني ابنراهيم فإني أثق به وأوصيكم به خيراً. فرجعوا من عنده. وقال بعضهم: في هذه السنة توفي محمد بن علي بن عبد الله بن عباس في شهر ذي العقده وهو ابن ثلاث وسبعين سنة، وكان بين موته وموت أبيه سبع سنين. وحج بالنالس هذه السنة يوسف بن محمد بن يوسف. وفيها غزا النعمان ابن يزيد بن عبد الملك الصائفه.
في هذه السنة مات أبو حازم الأعرج، وقيل سنة أربعين، وقيل سنة أربع وأربيعين ومائة. وفي أخر أيام هشام بن هشام بن عبد الملك توفي سماك بن حرب. وفي هذه السنة توفي القاسم بن أبي بزه، وأسم أبي بزه يسار، وهو من المشهورين بالقراءة. وأشعث بن أبي الشعثاء سليم بن أسو المحاربي. وسيد بن أبي أنيسه الجزري، مولى بن كلاب وقيل مولى يزيد بن الخطاب، وقيل مولى غني، وكان عمره ستاً وأربعين سنه، وكان فقيهاً عابداً، وكان له أخ أسمه يحيى، كان ضعيفاً بالحديث. وفي أيام هشام مات العرجي الشاعر في حبس محمد بن هشام المخزومي، عامل هشام بن عبد الملك على المدينة ومكة، وكان سبب حبسه أنه هجاه فتتبعه حتى بلغه أنه أخذ مولى فضربه وقتله وأمر عبيدة أن يطأوا امرأة المولى المقتلول، فاخذه محمد فضربه فأقامه للناس فحبسه تسع سنين فمات في السجن العرجي بفتح العين المهملة، وسكون الراء، وأخره جيم وكان عمال الأمصار من تقدم ذكرهم. ثم دخلت سنة ست وعشرين ومائة ذكر قتل خالد بن عبد الله القسري في هذه السنة قتل خالد بن عبد الله، وقد تقدم ذكر عزله عن العراق وخرسان، وكان عمله خمس عشرة سنة فيما قيل، ولما عزله هشام قدم عليه يوسف واسطاً فحبسه فيها، ثمسار يوسف إلى الحيرة وأخذ خالداً فحبسه بها تمام ثمانية عسر شهراً مع أخيه إسماعيل وابن يزيد بن خالجوابن أخيه المنذر بن إسد، اتستأ1ن يوسف هشاماً في تعذيبهفأذن له مر واحدة، وأقسم لئن هلك ليقتلنه،فعذبه يوسف ثم رده إلى حبسه. وقيل: بل عذبه عذاباً كثيراً،وكتب هشام إلى يوسف يأمره بأطلاقه في شوال سنة احد وعشرين،وخرج زيد فقتل، فكتب يوسف بن عمر: إن بني هاشم قد كانوا هلكوا جوعاً فكانت عمة أحدهم قوت عياله ، فلما ولي خالد الغراق أعطاهم الاموال، فتاقت أنفسهم للخلافة، وما خرج زيدإلا عن رأي خالد. فقال هشام:كذب يوسف! وضرب رسوله وقال: لسنا نتهم خالداً في طاعة. وسمع خالد فسار حتى نزل دمشق وسار إلى الصائفة. وكان على دمشق يومئذ كلثوم بن عياض القشيرى، وكان يبغض خالداً. فظهر في دور دمشقحريق كل ليلة يفعله رجل من أهل العراق القشيري، وكان يبغض خالداً، فظهر دور دمشق حريق كل ليلة بفعله رجل من أهل العراق يقال له ابن العمرس، فإذا وقع الحريق يسرقون، وكان أولاد خالد وإخوته بالساحل لحدث كان من الروم، فكتب كلثوم إلى هشام يخبره أم موالي خالد يريدون الوثوب على بيت المال وأنهم يحرقون البلد كل ليلة هذا الفعل. فكتب إليه هشام يأمره أن يحبس آل خالد الصغير منهم والكبر ومواليهم، فأنفذ وأحضر أولاد خالد وإخوته من الساحل في الجوامع ومعهم مواليهم، وحبس بنات خالد والنساء والصبيان، ثم ظهر علي بن العمرس ومن كان معه، فكتب الوليد بن عبد الرحمن عامل الخراج إلى هشام يخبره بأخذ ابن العمرس وأصحابه بأسمائهم وقبائلهم، ولم يذكر فيهم أحداً من موالي خالد. فكتب هشام إلى كلثوم يشتمه ويأمره باطلاق آل خالد، فأطلقهم فترك الموالي رجاء أن يشفع فيهم خالد إذ قدم من الصائفة. ثم قدم خالد فنزل منزله في دمشق فأذن للناس، فقام بناته يحتجبن، فقال: لا تحتجبن فإن هشاماً كل يوم يسوقكن إلى الحبس، فدخل الناس، فقام أولاده يسترون النساء، فقال خالد: خرجت غازياً سامعاً مطيعاً فخلفت في عقبي وأخذ حرمي وأهل بيتي فحبسوا مع أهل الجرائم كما يفعل بالمشركين، فما منع عصابة منكم أن تقولوا علام حبس حرم هذا السامع المطيع؟ أخفتم أن تقتلوا جميعاً؟ أخافكم الله ثم قال! ثم قال: مالي ولهشام؟ ليكفن عني أو أولا دعونى إلى عراقي الهوى، شامي الدار، حجاز الأصل، يعني محمد ابن علي بن عبد الله بن عباس، وقد أذنت لكم أن تبلغوا هشاماً، فلما بلغه قال: قد خرف أبوالهيثم. وتتابعت كتب يوسف بن عمر إلى هشام يطلب منه يزيد بن خالد بن عبد الله، فأرسل هشام إلى كلثوم يأمره بإنفاذ يزيد بن خالد بن عبد الله إلى يوسف ابن عمر، فطلبه، فهرب، فستدعى خالداً فحضر عنده، فحبسه، فسمع هشام فكتب إلى كلثوم يلومه ويأمره بتخليته، فأطلقه.
وكان هشام إذا أراد أمراً أمر الأبرش الكلبي فكتب به إلى خالد، فكتب إليه اللأبرش: إنه بلغ أمير المؤمنين أن رجلاً قال لك يا خالد إن لأحبك لعشر خصال: إن الله كريم وأنت كريم، والله جواد وأنت جواد، والله رحيم وانت رحيم، حتى عدا عشراً، وأمير المؤمنين يقسم بالله لأن تحقق ذلك عنده ليقتلنك. فكتب إليه خالد: إن ذلك المجلس كان أكثر أهلاً من أن يجوز لأحد من أهل البغي والفجور أن يحرف ماكان فيه، وإنما قال لي: يا خالد إني لأحبك لعشر خصال: إن الله الكريم يحب كل كريم، والله يحبك فأنا أحبك، حتى عد عشر خصال، ولكن أعظم من ذلك قيام ابن شقي الحميري إلى أمير المؤمنين وقوله: يا أمير المؤمنين خليفتك في أهلك أكرم عليك أم رسولك في حاجتك؟ فقال: بل خليفتي في أهلي. فقال: ابن شقي: فأنت خليفة الله وحمد رسوله، وضلال رجل من بجيلة، يعني نفسه، أهون على العامة من ضلاض أمير المؤمنينز فلما قرأ هشام كتابه قال: خرف أبو الهيثم! فأقام خلاد بدمشق حتى هلك هشاموقام الوليد، فكتب إليه الوليد: ما حال الخمسين ألف ألف التي علم؟ فاقدم على أمير المؤمنين، فقدم عليه، فأرسل إليه الوليد وهو واقف بباب الساردق فال: يقول أمير المؤمنين أين ابنك يزيد؟ فقال: كان هرب من هشام وكنا نر اه عند أمير المؤمنين حتى استخلفه الله، فملا لم نره ظنناه ببلاد قومه من السراة. ورجع الرسول وقال: لا ولكنك خلفته طالباً للفتنة. فقال: قد علم أمير المؤمنين أنا أهل بين طاعة. فجع الرسول فقال: يقول لك أمير المؤمنين لتأتين به أو لأرهقن نفسك. فرفع خالد صوته وقال: قل له: هذا أردت، والله لو كان تحت قدمي ما رفعتهما عنه. فأمر الوليد بضربه، فضرب، فلم يتكلم، فحبسه حتى قدم يوسف بن عمر من العراق بالأموال فاشتراه من الوليد بخمسين ألف ألف، فأرسل الوليد إلى خالد: إن يوسف يشتريك بخمسين ألف ألف، فإن كنت تضمنها وإلا دفعتك إليه. فقال خالد: ما عهدت العرب تباع، والله لو سألتني أن أضمن عوداً ما ضمنته. فدفعه إلى يوسف، فنزع ثيابه وألبسه عباءة وحمله في محمل بغير وطاءٍ وعذبه عذاباً شديداً، وهو لا يكلمه كلمة، ثم حمله إلى الكوفة فعذبه ثم وضع المضرسة على صدره فقتله من الليل ودفنه من وقته بالحيرة في عباءته التي كان فيها، وذلك في المحرم سنة ست وعشرين. وقيل: بل أمر يوسف فوضع على رجليه عود وقام عليه الرجال حتى تكسرت قدماه وما تكلم ولا عبس. وكانت أنم خالد نصرانية رومية، ابتنى بها أبوه في بعض أعيادهم فأولدها خالداً وأسداً ولم تسلم، وبنى لها خالد بيعة، فذمه الناس والشعراء؛ فمن ذلك قول الفرزدق: ألا قطع الرحمن ظهر مطيةٍ ... أتتنا تهادى من دمشقٍ بخالد فكيف يؤم الناس من كانت امه ... تدين بأن الله ليس بواجد بنى بيعةً فيها النصارى لأمه ... ويهدم من كفرٍ منار المساجد وكان خالد قد أمر بهدم منار المسجد لأنه بلغه أن شارعاً قال: ليتين في المؤذنين حياتي ... إنهم يبصرون من في السطوح فيشيرون أو تشير إليهم ... بالهوى كل ذات دل مليح فلما سمع هذا السعر أمر بهدمها، ولما بلغه أن الناس يذمونه لبنائه البيعة لأمه قام يعتذر إليهم فقال: لعن الله دينهم إن كان شراً من دينكم. وكان يقول: إن خليفة الرجل في أهله أفضل من رسوله في حاجته، يعني أن الخليفة هشاماً من رسول الله، صلى اللهعليه وسلم ، نبرأ إلى الله من هذه المقالة. ذكر قتل الوليد بن يزيد ابن عبد الملك في هذه السنة قتل الوليد بن يزيد بن عبد الملك يزيد بن الوليد بن عبد الملك الذي يقال له الناقص، في جمادى الآخرة
وكان سبب قتله ما تقدم ذكره من خلاعته ومجانته، فلما ولي الخلافة لم يزد من الذي كان فيه من اللهو واللذة والركوب للصيد وشرب النبيذ ومنادمة الفاق إلا تمادياً، فثقل ذلك على رعيته وجنده وكرهوا أمره، وكان أعظمه ما جنى على نفسه إفساده بني هميه هشام والوليد، فإنه أخذ سليمان بن هشام فضربه مائة سوط وحلق رأسه ولحيته وغربه إلى عمان من أرض الشام فحبسه بها، فلم يزل محبوساً حتى قتل الوليد، فأخذ جاريةً كانت لآل الوليد، فكلمه عثمان بن الوليد في ردها، فقال: لا أردها. فقال: إذن تكثر الواهل حول عسكرك! وحبس الأفقم يزيد بن هشام وفرق بين روح بن الوليد وبين امرأته وحبس عدة من ولد الليد، فرماه بنو هاشم وبنو الوليد بالكفر وغشيان أمهات أولاد أبيه وقالوا: قد اتخذ مائة جامعة لبني أمية. وكان أشدهم فيه يزيد بن الوليد، وكان الناس إلى قوله أميل لأنه كان يظهر النسك ويتواضع، وكان قد نهاه سعيد بن بيهس بن صهيب علن البيعة لابنيه الحكم وعثمان لصغرهما، فحبسه حتى مات في الحبس. واراد خالد بن عبد الله القسري على البيعة لابنيه فأبى، فغضب عليه، فقيل له: ى تخالف أمي المؤمنين. فقال: كيف أبايع من لا أصلي خلفه ولا أقبل شهادته؟ قالوا: فنقبل شهادة الوليد مع فسقه! قال: أمير المؤمنين غائب عني وإنما هي أخبار الناس. ففسدت المانية عليه وفسدت عليه قضاعة، وهم واليمن أكثر جند أهل الشام، فاتى حريث وشبيب بن أبي مالك الغساني ومنصور بن جمهور الكلبي وابن عمه حبال بن عمرو ويعقوب بن عبد الرحمن وحميد بن منصور اللخمي والأصبغ بن ذؤالة والطفيل بن حارثة والسري بن زياد إلى خالد بن عبد الله القسري فدعوه إلى أمرهم، فلم يجبهم. وأراد الوليد الحج فخاف خالد أن يقتلوه في الطريق فنهاه عن الحج، فقال: ولم؟ فأخبره فحبسه وأمر أن يطالب بأموال العراق، ثم ستقدم يوسف ابن عمر من العاق وطلب منه أن يحضر معه الأموال، وأراد عزله وتولية عبد الملك بن محمد بن الحجاج بن يوسف. فقدم يوسف بأموال لم يحمل من العراق مثلها، فلقيه حسان النبطي فأخبره أن الوليد يريد أن يولي عبد الملك بن محمد، وأشار عليه أن يحمل الرش إلى وزرائه، ففرق فيهم خمسمائة ألف، وقال له حسان: اكتب على لسان خليفتك بالعراق كتاباً: إني كتبت إليك ولا أملك إلا القصر، وادخل على الوليد والكتاب معك مختوم واشتر منه خالداً، ففعل؛ فأمره الوليد بالعود إلى العراق، واشترى منه خالداً القسري بخمسين ألف ألف فدفعه إليه، فأخذه معه في محمل بغر وطاء إلى العراق. فقال بعض أهل اليمن شعراً على لسان الوليد يحرض عليه، وقيل: إنها للوليد يوبخ اليمن على ترك نصر خالد: ألم تهتج فتذكر الوصالا ... وحبلاً كان متصلاً عزالا بلى فالدمع منك إلى انسجام ... كماء المزن ينسجل انسجالا فدع عنك اذكارك آل سعدىٍ ... فنحن الأكثرون حصىً ومالا ونحن المالكون الناس قسراً ... نسومهم المذلة والنكالا وطئنا الأشعرين بعز قيسٍ ... فيا لك وطأةً لن تستقالا وهذا خالد فينا أسير ... ألا منعوده إن كانوا رجالا عظيمهم وسيدهم قديماً ... جعلنا المخزيات له ظلالا فلو كانت قبائل ذات عز ... لما ذهبت صنائعه ضلالا ولا تركوه مسلوباً أسيراً ... يعالج من سلاسلنا الثقالا وكندة والسكون فما استقاموا ... ولا برحت خيولهم الرحالا بها سمنا البرية كل خسفٍ ... وهدما السهولة والجبالا ولكن الوقائع ضعضعتهم ... وجذتهم وردتهم شلالا فما زالوا لنا بلداً عبيداً ... نسومهم المذلة والسفالا فأصبحت الغداة علي تاج ... لملك الناس ما يبغي انتقالا فعظم ذلك عليهم وسعوا في قتله وادادوا حنقاً؛ وقال حمزة بن بيض في الوليد: وصلت سماء الضر بالضر بعدما ... زعمت سماء الضر سماء الضر عنا ستقلع فليت هشاماً كان حياً يسومنا ... وكنا كما كنا نرجي ونطمع وقال أيضاً:
يا وليد الخنا تركت الطريقا ... واضحاً وارتكبت فجاً عميقاً وتماديت واعتديت وأسرف ... ت وأغريت وانبعثت فسوقا أبداً هات ثم هات وهاتي ... ثم هاتي حتى تخر صعيفاً أنت سكران ما تفيق فما تر ... تق فتقاً وقد فتقت فتوقا فأتت اليمانية يزيد بن الوليد بن عبد الملك فأرادوه على البيعة، فشاور عمر بن يزيد الحكمي، فقال له: لا يبايعك الناس على هذا وشاور أخاك العباس فإن بايعك لم يخالفك أحد، وإن أبى كان الناس له أطوع، فإن أبيت إلا المضي على رأيك فأظهر أن أخاك العباس قد بايعك. وكان الشام وبياً، فخرجوا إلى البوادي، وكان العباس بالقسطل ويزيد بالبادية أيضاً بينهما أميال يسيرة، فأتى يزيد أخاه العباس فاستشاره، فنهاه عن ذلك، فرجع وبايع الناس سراً وبث دعاته، فدعوا الناس، ثم عاود أخاه العباس فاستشاره ودعاه إلى نفسه، فزيره وقال: إن عدت لمثل هذا لأشدنك وثاقاً وأحملتك إلى أمير المؤمنين. فخرج من عنده. فقال العباس: إني لأظنه أشأم مولود في بني مروان. وبلغ الخبر مروان بن محمد بأرمينية، فكتب إلى سعيد بن عبد الملك بن مروان يأمره أن ينهى الناس ويكفهم ويحذرهم الفتنة ويخوفهم خروج الأمر عنهم، فأعظم سعيد ذلك وبعث بالكتاب إلى العباس بن الوليد، فاستدعى العابس يزيد وتهدده، فكتمه يزيد أمره، فصدقه، وقال العباس لأخيه بشر بن الوليد: إني أظن أن الله قد أذن في هلاككم يا بني مروان؛ ثم تمثل: إني أعيذكم بالله من فتنٍ ... مثل الجبال تسامى ثم تنفع إن البرية قد ملت سياستكمفاستمكوا بعمود الدين وارتدعوا لا تلحمن ذئاب الناس أنفسكمإن الذئاب إذا ما ألحمت رتعوا لا تبقرن بأيديكم بطونكم ... فثم لا حسرة تغني ولا جزع فلما اجتمع ليزيد أمره وهو متبد أقبل إلى دمشق، وبينه وبين دمشق أربع ليال، متنكراً في سبعة نفر على حمير، فنزلوا بجرود على مرحلة من دمشق، ثم سار فدخل دمشق وقد بايع له أكثر لأهلها سراً، وبايع أهل المزة، وكان على دمشق عبد الملك بن محمد بن الحجاج، فخاف الوباء فخرج منها فنزل قطنا واستخلف ابنه على دمشق، وعلى شرطته أبو العاج كثير بن عبد الله السلمي، فاجمع يزيد على الظهور، فقيل للعامل: إن يزيد خارج، فلم يصدق. وراسل يزيد أصحابه بعد المغرب ليلة الجمعة، فكمنوا عند باب الفراديس حتى أذن العشاء فدخلوا فصلوا وللمسجد حرس قد وكلوا بإخراج الناس منه بالليل، فلما صلى الله عليه وسلم الناس أخرجهم الحرس، وتباطأ أصحاب يزيد حتى لم يبق في المسجد غير الحرس وأصحاب يزيد، فأخذوا الحرس، ومضى يزيد ابن عنبسة إلى يزيد بن الوليد فأعلمه وأخذ بيده فقال: قم يا أمير المؤمنين وأبشر بنصر الله وعونه. فقالم وأقبل في اثني عشر رجلاً، فلما كان عند سوق الحمر لقوا أربعين رجلاً من أصحابهم ولقيهم زهاء مائتي رجل، فمضوا إلى المسجد فدخلوه وأخذوا باب المقصورة فضربوه فقالوا: رسل الوليد، ففتح لهم الباب خادم، فأخذوه ودخلوا أبا العاج وهو سكران، وأخذوا خزان بيت المال، وأرسل إلى كل من كان يحذره فأخذ، وقبض على محمد بن عبيدة، وهو على بعلبك، وأرسل بني عذرة إلى محمد بن عبد الملك بن محمد بن الحجاج فأخذوه. وكان بالمسجد سلاح كثير فأخذوه، فلما أصبحوا جاء أهل المزة وتابع الناس وجاءت السكاسك وأقبل أهل داريا ويعقوب بن محمد بن هانئ العبسي وأقبل عيسى بن شيب التغلبي في أهل دومة وحرستا، وأقبل حميد ابن حبيب النخعي في أهل دير مروان والأرزة وسطرا، وأقبل أهل جرش وأهل الحديثة ودير زكا، وأقبل ربعي بن هاشم الحارثي في الجماعة من بني عذرة وسلامان، وأقبلت جهينة ومن والاهم. ثم وجه يزيد بن الوليد بن عبد الملك عبد الرحمن بن مصاد في مائتي فارس ليأخذوا عبد الملك ابن محمد بن الحجاج بن يوسف من قصره، فأخذوه بأمان، وأصاب عبد الرحمن خرجين في كل واحد منهما ثلاثون ألف دينار، فقيل له: خذ أحد هذين الخرجين. فقال: لا تتحدث العرب عني أني أول من خان في هذا الأمر. ثم جهز يزيد جيشاً وسيرهم إلى الوليد بن يزيد بن عبد الملك وجعل عليهم عبد العزيز بن الحجاج بن عبد الملك.
وكان يزيد لما ظهر بدمشق سار مولى للوليد إلى فأعلمه الخبر وهو بالأغدف من عمان، فضربه الوليد وحبسه وسير أبا محمد عبد الله بن يزيد بن معاوية إلى دمشق، فسار بعض الطريق فأقام، فأرسل إليه يزيد بن الوليد عبد الرحمن ابن مساد، فسأله أبو محمد ثم بايع ليزيد بن الوليد. ولما أتى الخبر إلى الوليد قال له يزيد بن خالد بن يزيد بن معاوية: سر حتى تنزل حمص فإنها حصينة، ووجه الخيول إلى يزيد فيقتل أو يؤسر. فقال عبد الله بن عنبسة بن سعيد بن العاص: ما ينبغي للخليفة أن يدع عسكره ونساءه قبل أن يقاتل، والله يؤيد أمير المؤمنين وينصره. فقال يزيد بن خالد: وما نخلف على حرمه، وإنما أتاه عبد العزيز وهو ابن عمهن. فأخذ بقول ابن عنسبة وسار حتى أتى البخراء قصر النعمان بن بشير، وسار معه من ولد الضحاك بن قيس أربعون رجلاً فقالوا له: ليس لنا سلاح، فلو أمرت لنا بسلاح. فما أعطاهم شيئاً. ونازله عبد العزيز، وكتب العابس بن الوليد بن عبد الملك إلى الوليد: إني آتيك. فقالالوليد: أخرجوا سريراً، فأخرجوه، فجلس عليه وانتظر العباس. فقاتلهم علد العزيز ومعه منصور ابن جمهور، فبعث إليهم عبد العزرز زياد بن حصين الكلبي يدعوهم إلى كتاب الله وسنة نبيه، فقتله أصحاب الوليد، واقتتلوا قتالاً شدؤداً، وكان الوليد قد أخرج لواء مروان بن الحكم الذي كان عقده بالحابية. وبلغ عبد العزيز مسير العباس إلى الوليد، فأرسل منصور بن جمهور إلى طريقه فأخذه قهراً وأتي به عبد العزيز فقال له: بايع لأخيك يزيد. فبايع ووقف، ونصبوا رايةً وقالوا: هذه راية العباس قد بايع لأمير المؤمنين يزيد. فقال العباس: غنا لله، خدعة من خدع الشيطان، وهلك بنو مروان. فتفرق الناس عن الوليد وأتوا العباس وعبد العزيز. وأرسل الوليد إلى عبد العزيز يبذل له خمسين ألف دينار وولاية حمص ما بقي ويؤمنه من كل حدث على أن ينصرف عن قتاله. فابى ولم يجبه. فظاهر الوليد بين درعين، وأتوه بفرسيه السندي والراية فقاتلهم قتالاً شديداً، فناداهم رجل: اقتلو عدو الله قتلة قوم لوظ! ارجموه بالحجارة! فلما سمع ذلك دخل القصر وأغلق عليه الباب وقال: دعوا لي سلمى والطلاء وقينيةً ... وكأساً ألاحسبي بذلك مالا إذ ما صفا عيشي برملة عالجٍ ... وعانقت سلمى ما أريد بدالا خذوا ملككم لا ثبت الله ملككم ... ثباتاً يساوي ما حييت عقالا وخلوا عناني قبل عير وما جرى ... ولا تحسدوني أن أموت هزالا فلما دخل القصر و | |
|
| |
الشيخ عودة الشيخ عودة
عدد المساهمات : 1748 تاريخ التسجيل : 28/09/2008 العمر : 74
| موضوع: رد: كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير الثلاثاء فبراير 11, 2014 3:56 am | |
| ذكر خلاف أهل فلسطينوفي هذه السنة وثب أهل فلسطين على عاملهم سعيد بن عبد الملك فطردوه، وكان قد استعمله عليهم الوليد، وأحضروا يزيد بن سليمان بن عبد الملك فجعلوه عليهم وقالوا له:إن أمير المؤمنين قد قتل فتول أمرنا. فةليهم ودعا الناس إلى قتال يزيد، فأجابوه. وكان ولد سليمان ينزلولون فلسطين، وبلغ أهل الأردن أمر أهل فلسطين فولوا عليهم محمد بن عبد الملك واجتمعوا معهم على قتال يزيد بن الوليد، وكان أمر أهل فلسكين إلى سعيد بن روح وضبعان بن روح.
وبلغ خبرهم يزيد بن الوليد فسير إليهم سليمان بن هشام بن عبد الملك في أهل دمشق وأهل حمص الذين كانوا مع السفياني، وكانت عدتهم أربعة وثمانين ألفاً، وأرسل يزيد بن الوليد إلى سعيد وضبعان ابني روح فوعدهما وبذلل لهما الولاية والمال، فرحلا في أهل فلسطين ويقي أهل الأردن، فأرسل سليمان خمسة آلاف فنهبوا القرى وساروا إلى طبرية، فقال أهل طبرية: ما نقين والجنود تجوس منازلنا وتحكم في أهلينا، فانتهبوا يزيد بن سليمان ومحمد ابن عبد الملك وأخذوا دوابهما وسلاحهما ولحقوا بمنازلهم. فملا تفرق أهل فلسطين والأردن سار سليمان حتى أتى الصنبرة وأتاه أهل الأردن فبايعوا يزيد بن الوليد، وسار إلى طبرية فصلى بهم الجمعة، وبايع من بها، وسار إلى الرملة فأخذ البيعة على من بها، واستعمل ضبعان بن روح على فلسطين وإبراهيم بن الوليد بن عبد الملك على الأردن. ذكر عزل يوسف بن عمر على العراقولما قتل الوليد استعمل يزيد على العراق منصور بن جمهور، وكان قد ندب قبله إلى ولاية العراق عبد العزيز بن هارون بن عبد الله بن دحية بن خليفة الكلبي، فقال: لو كان معي جبند لقبلت. فتركه وزاستعمل منصوراً، ولم يكن منصور من أهل الدين وإنما صار مع يزيد لرأيه في الغيلانية وحمية لقتل يوسف خالداً القسري، فشهد لذلك قتل الوليد وقال له لما ولاه العراق اتق الله واعلم اني إنما قتلت الوليد لفسقه ولما أظهر من الجور، فلا تركب مثل ما قتلناه عليه. ولما بلغ يوسف بن عمر قتل الوليد عمد إلى من بحضرته من اليمانية فسجنهم ثم جعل يخلوا بالرجل بعد الرجل من المضرية فيقول:: ما عندك إن اضطراب الحيل؟ فيقول المضري: أنا رجل من أهل الشام أبايع من بايعوا وأفعل ما فعلوا. فلم ير عندهم ما يجب فأطلق الميانية. وأقبل منصور، فملا كان بعين التمر كتب إلى من بالحيرة من قواد أهل الشام يخبرهم بقتل الوليد وتأميره على العراق يوأمرهم بأخذ يوسف وعماله، وبعث الكتب كلها إلى سليمان بن سليم بن كيسان ليفرقها على القواد، فحبس الكتب وحمل كتابه فأقراه يوسف بن عمر، فتحير في أمره وقال لسليمان: ما الرأي؟ قال: ليس لك إمام تقاتل أهل الشام معك، ولا آمن عليك منصوراً، وما الرأي إلا أن تلحق بشامك. قال: فكيف الحيلة؟ قال: تظهر الطاعة ليزيد وتدعو له في خطبتك، فإذا قرب منصور تستخفي عندي وتدعه والعمل. ثم مضى سليمان إلى عمرو بن محمد ابن سعيد بن العاص فأخبره بأمره وسأله أن يؤدي يوسف بن عمر عنده، ففعل، فانتقل يوسف إليه، قال: فلم ي رجل كان له مثل عتوه خاف خوفه. وقدم منصور الكوفة فخطبهم وذم الوليد ويوسف، وقامت الخطباء فذموهما معه، فاتى عمرو بن محمد إلى يوسف فأخبره، فجعل لا يذكر رجلاً ممن ذكره بسوء إلا قال: له علي أن أضربه كذا وكذا سوطاً! فجعل عمرو يتعجب من طمعه في الولاية وتهدده الناس. وسار يوسف من الكوفة سراً إلى الشام فنزل البلقاء، فملا بلغ خبره ابن الوليد وجه إليه خمسين فارساً، فعرض رجل من بين نيمر ليوسف فقال: يا بن عمر أنت والله مقتول فأطعني وامنع. قالك لا. قال: فدعني أقتلك أنا ولا تقتلك هذه اليمانية فتغيظنا بقتلك. قال: ما لي فيما عرضت جنان. قال: فأنت أعلم.فطلبه المسيرون لأخذه فلم يروه، فهدوا ابنا له، فقال: إنه انطلق إلى مزرعة له؛ فساروافي طلبه، فلما أحس بهم هرب وترك نعليه، ففتشوا عنه فوجدوه بين نسوة قد ألقين عليه قطيفة خز وجلسن على حواشيها حاسرات، فجروا برجله وأخذه وأقبلوا به إلى يزيد، فوثب عليه بعض الحرس فأخذ بلحيته ونتف بعضها، وكان من أعظم الناس لحيةً وأصغرهم قامةً، فلما أدخل على يزيد قبض على لحية نفسه، وهي إلى سرته، فجعل يقوزل: يا أمير المؤمنين نتف والله لحيتي فما أبقى فيها شعرة! فأمر به فحبس بالخضراء، فأتاه إنسان فقال له: أما تخاف أن يطلع عليك بعض من قد وترت فيلقي عليك حجراً فيقتلك؟ فقال: ما فطنت لهذا. فأرسل إلى يزيد يطلب منه أن يحول إلى حبس غير الخضراء وإن كان أضيق منه. فعجب من حمقه، فنقله وحبسه مع ابني الوليد، فبقي في الحبس ولاية يزيد وشهرين وعشرة أيام من ولاية إبراهيم، فلما قرب مروان من دمشق ولى قتلهم يزيد بن خالد القسري مولى لأبيه خالد يقال له أبو الأسد.
ودخل منصور بن جمهور لأيام خلت من رجب فأخذ بيوت الأموال وأخرج العطاء والأرزاق وأطلق من كان في السجون من العمال وأهل الخراج وبايع ليزيد بالعراق وأقام بقية رجب وشعبان ورمضان وانصرف لأيام بقين منه. ذكر امتناع نصر بن سيار على منصوروفي هذه السنة امتنع نصر بن سيار بخراسان من تسليم عمله لعامل منصور ابن جمهور وكان يزيد ولاها منصواً مع العراق، وذد ذكرنا فيما تقدم ما كان من كتاب يوسف بن عرمإلى نصر لامسير إلهي ومسير نصر وتباطئه وما معه من الهدايا، فاتاه قتل الوليد، فرجع نصر ورد تلك الهديايا واعتق الرقيق وقيم حسان الجواري في ولده وخاصته، وقسم تلك الآنية في عوام الناس، ووجه العمال وأمرهم بحسن السيرة، وايتعمل منصور أخاه منظراً على الري وخراسان فلم يمكنه نصر من ذلك وحفظ نفسه والبلاد منه ومن أخيه. ذكر الحرب بين أهل اليمامة وعاملهملما قتل الوليد بن يزيد كان على الميامة علي بن المهاجر، واستعمله عليها يوسف بن عمر، فقال له المهيربن سلمى بن هلال، احد بني الدؤل بن حنيفة: اترك لنما بلادنا، فأبى، فجمع له المهير وسار إليه وهو في قصره بقاع هجر، فالتقوا بالقاع، فانهزم علي حتى دخل قصره، ثم هرب إلى المدينة، وقتل الميهير ناساً من أصحابه، وكان يحيى بن أبي حفص نهى ابن المهاجر عن القتال فعصاه، فقال: بذلت نصيحتي لبني كلاب ... فلم تقبل مشاورتي ونصحي فدالبني حنيفة من سواهم ... فإنهم فوارس كل فتح وقال شقيق بن عمرو السدوسي : إذا أنت سالمت المهير ورهطة ... أمنت من الأعداء والخوف والذعر فتى راح يوم القاع روحة ماجدٍ ... أراد بها حسن السماع مع الآجر وهذا يوم القاع. وتأمر المهير على اليمامة، ثم إنه مات واستخلف على اليمامة عبد الله بن النعمان أحد بني قيس بن ثعلبة بن الدؤل، فاستعمل عبد الله بن النعمان المندلث ابن أدريس الحنفي على الفلج وهي قرية من قرى بني عامر بن صعصعة، وقيل: هي لبني نميم، فجحمع له بنو كعب بن ربيعة بن عامر ومعهم بنو عقيل وأبو الفلج المندلث وقاتلهم، فقتل المندلث وأكثر أصحابه ولم يقتل من أصحابه بني عامر كثير أحد، وقتل يومئذ يزيد بن الطثرية، وهي أمه نسبت إلى طثر بن عمر بن وائل، وهو يزيد بن المنتشر، فرثاه أخوه ثور بن الطثرية: أرى الأثل من نحو العقيق مجاوري ... مقيماً وقد غالت يزيد غوائله وقد كان يحمي المحجرين بسفه ... ويبلغ أقصى حجرة الحي نائله وهو يوم الفلج الأول فلما بلغ عبد الله بن النعمان قتل المندلث جمع ألفاً من حنيفة وعغيرها وغزا الفلج، فلما تصاف الناس انهزم أبو لطيفة بن مسلم العقيلي، فقال الراجز: فر أبو لطيفة المنافق ... والجفونيان وفر طارق لما أحاطت بهم الوارق طارق بن عبد الله القشيري، والجفونيان من بني قشير. وتحللت بنو جعدة البراذع وولوا فقتل أكثرهم، وقطعت يد زياد بن حيان الجعدي فقال: أنشد كفاً ذهبت وساعدا ... أنشدها ولا أراني واجدا ثم قتل. وقال بعض الربعيين. سمونا لكعب بالصفائح والقنا ... والخيل شعثاً تنحني في الشكائم فما غاب قرن الشمس حتى رأيتنما ... نسوق بني كعب كسوق البهائم بضرب يزيل الهام عن سكناته ... وطعن كأفواه المزاد الثواجم وهذا اليوم هو يوم الفلج الثاني.
ثم إن بني عقيل وقشيراً وجعدة ونميراً تجمعوا وعليهم أبو سهلة النميري فتلوا من لقوا من بني حنيفة بمعدن الصخراء وسلبوا نساءهم، وكفت بنو نمير عن النساء. ثم إن عمر بن الوازع الحنفي لما رأى ما فعل عبد الله بن العنعمان يوم لفلج الثاني قال: لست بدون عبد الله وغيرهممن يغير، وهذه فترة يؤمن فيها عقوبة السلطان. فجمع خيله وأتى الشريف وبث خليه، فاغارت وأغار هو، فملئت يداه من الغنائم وأقبل ومن معه حتى أتى النشاش، وأقبلت بنو عامر وقد حشدت، فلم يشعر عمر بن الوازع إلا برعاء الإبل، فجمع النساء في فسطاط وجعل عليهن حرساً ولقي القوم فقاتلهم فانهزم هو ومن معه وهرب عمر بن الوازع فلحق باليمامة، وتساقط من بني حنيفة خلق كثير في القلب من العطش وشدة الحر، ورجعت بنو عامر بالأسرى والنساء، وقال القحيف: وبالنشاش يوم طار فيه ... لنا ذكر وعد لنا فعال وقال أيضاً: فداء خالتي لبني عقيلٍ ... وكعبٍ حين تزدحم الجدود هم تركوا على النشاس صرعى ... بضربٍ ثم أهونه شديد وكفت قيس يوم النشاش عن السلب، فجاءت علكل فسلبتهم؛ وهذا يوم النشاش، ولم يكن لحنيفة بعده جمع، غير أن عبيد الله بن مسلم الحنفي جمع جمعاً وأغار على ماء لقشير يقال له حلبان، فقال الشاعر: لقد لاقت قشير يوم لاقتٍ ... عبيد الله إحدى المنكرات لقد لاقت على حلبان ليثاً ... هزبراً لا ينام على الترات فإن تربونا بالسياط فإننا ... ضربناكم بالمرهفات الصوارم وإن تحلقوةا منا الرؤوس فإننا ... قطعنا رؤوساً منكم بالغلاصم ثم سكنت البلاد ولم يزل عبيد الله بن مسلم الحنفي مستخفياً حتى قدم السري بن عبد الله الهاشمي والياً على اليمامة لبني العابس، فدل عليه، فقتله؛ فقال نوح بن جرير الخطفى: فلولا السري الهاشمي وسيفه ... أعاد عبيد الله شراً على عكل ذكر عزل منصور عن العراق وولاية عبد الله بن عمر بن عبد العزيز في هذه السنة عزل زيد بن الوليد بن عبد الملك منصور بن حمهور عن العراق وستعمل عليه بعده عبد الله بن عمر بن عبد العزيز، وقال له لما ولاه: سر إلى العراق فإن أهله بميلون إلى أبيك. فقدم إلى العراق وقدم بين يديه رسلاً إلى من بالعراق من فواد الشام، وخاف أن لا يسلم إليه منصور العمل. فانقاد له أهل الشام، وسلم إليه منصور العمل وانصرف إلى الشام ففرق عبد الله العمال وأعطى الناس أرزاقهم وأعطياتهم. فنازعه قواد أهل الشام وقالوا: تقسم على هؤلاء فيئنا وهم عدونا؟ فقال لأهل العراق: إني أريد أن أرد فيئكم عليكم، وعلمت أنكم أحق به فنازعني هؤلاء. فاجتمع أعهل الكوفة بالجبانة، فأرسل إليهم أهل الشام يعتذرون، وثار غوغاء الناس من الفريقين فأصيب منهم رهط لم يعرفوا. واستعمل عبد اللله بن عمر على شرطته عمر بن الغضبان القبعثري، وعلى خراج السواد والمحاسابت أيضاً. ذكر الاختلاف بين أهل خراسانوفي هذه السنة وقع الاختلاف بخراسان بين النزارية واليمانية وأظهر الكرماني الخلافلنصر بن سيار. وكان السبب في ذلك أن نصراً رأى الفتنة قد ثارت فرفع حاصل بيت المال وأعطى الناس بعض أعطياتهم ورقاً وذهباً من الآنية التي كان اتخذها اللوليد، فطلب الناس منه العطاء وهو يخطب، فقال نصر: إياي والمعصية! عليكم بالطاعة والجماعة! فوثب أهل السوق إلى أسواقهم، فغضب نصر وقال: ما لكم عندي عطاء. ثم قال: كأني بكم وقد تبع من تحت أرجلكم شر لا يطاق، وكأني بكم مطرحين في الأسواق كالجزر المنحورة، إنه لم تطل ولاية رجل إلا ملوها، وأنتم يا أهل خراسان مسلحة في نحور العدو، فإياكم أن يختلف فيكم سفيان، وإنكمترشون أمراً تريدون به الفتنة، ولا أبقى الله عليكم! لقد نشرتكم وطيويتكم، وطويتكم ونشرتكم فما عندي منكم عشرة! وإني وإياكم كما قيل: استمسكوا أصحابنا نحدو بكم ... فقد عرفنا خيركم وشركم فاتقوا الله! فوالله لئن اختلف فيكم سفيان ليتمنيني أحكم أنه ينخلع من ماله وولده! يا أهل خراسان إنكم قد غمطتم الجماعة، وركنتم إلى الفرقة! ثم تمثل بقول النابغة الذبياني: فإن يغلب شقاؤكم عليكم ... فإني في صلاحكم سعيت
وقدم على نصر عهده على خراسان من عبد الله بن عمر بن عبد العزيز، فقال الكرماني لأصحابه: الناس في فتنة فانظروا لأموركم رجلاً. وإنما سمي الكرماني لأنه ولد بكرمان، واسمه جديع بن علي الأزدي المعني؛ فقالوا له: أنت لنا. وقالت المضرية لنصر: إن الكرماني يفسد عليك الأمور فأرسل إله فاقتله أو أحبسه. قال: لا ولكن لي أولاد ذكرور وإناث فأزوج بني من بناته وبناتي من بينه. قالوا: لا قال: فأبعث إيه بمائة ألف درهم وهو بخيل ولا يعططي أصحابه شيئاً منها فيتفرقون عنه قالوا: لا، لا، هذه قوة له؛ ولم يزالوا به حتى قالوا له: إن الكرماني لو لم يقدر على السلطان والملك إلا بالنصرانية واليهودية لتنصر وتهود. وكان نصر والكرماني متصافيينم، وكان الكرماني قد أحسن إلى نصر في ولاية أسد بن عبد الله، فلما ولي نصر عزل الكرماني عن الرياسة وولاها غيره، فتباعد ما بينهما. فلما أكثروا على نصر في أمر الكرماني متصافيين، وكان الكرماني عزم على حبسه، فأرسل صاحب حرسه ليأتيه به، فأرادت الأزد أن تخلصه من يده، فمنعهم من ذلك وسار مع صاحب حرسه ليأتيه به، فأرادت الأزد أن تخلصه من يده، فمنعهم من ذلك وسار مع صاحب الحرس إلى نصر وهو يضحك، فلما دخل عليه قال له نصر: يا كرماني ألم يأتني كتاب يوسف بن عمر بقتلك فراجعته وقلت شيخ خراسان وفارسها فحقنت دمك؟ قال: بلى. قال: ألم أغرم عنك ما كان لزمك من الغرم وقسمته في أعطيات الناس؟ قال: بلى. قال: ألم ارئس ابنك عليا على كره من قومك؟قال: بلى. قال: فبدلت ذلك إجماعاً على الفتنة! قال الكرماني: لم يقل الأمير شيئاً إلا وقد كان أكثر منه، وأنا لذلك شاكر، وقد كان مني أيام أسد ما قد علمت فليتأن الأمير فلست أحب الفتنة. فقال سالم ابن أحوز: اضرب عنقه أيا الأمير! فقال عصمة بن عبد الله الأسدي للكرماني: إنك نريد التفنة وما لا تناله. فقال المقدام وقدامة ابنا بعد الرحمن بن نعيم العامري: لجلساء فرعون خير منكم ؟إذ قالوا: أرجه وأخاه الأعراف:111، والله لا يقتل المكرماني بقولكما! فأمر بضربه وحبس في القهندز لثلاث بقين من شهر رمضان سنة ست وعشرين ومائة. فتكلمت الأزد، فقال نصر: إني حلفت أن أحبسه ولا يناله مني سوء، فإن خشيتم عليه فاختاروا رجلاً يكون معه. فاختناروا يزيد النحوي، فكان معه. فجاء رجل من اهل نسف فقال لآل الكرماني: ما تجعلون لي إن أخرجته؟ قالوا: كل ما سألت. فأتى مجرى الماء في القهندز فوسعه وقال لولد الكرماني: اكتبوا إلى أبيكم يستعد الليلة للخروج. فكتبوا إليه، فأدخلوا الكتاب في الطعام، فتعشى الكرماني ويزيد التحوي وخضر بن حكيم وخرجا من عنده، ودخل الكرماني السرب فانطوت على بطنه حية فلم تضره وخرج من السرب، وركب فرسه البشير والقيد في رجله فأتوا به عبد الملك بن حرملة، فأطلق عنه. وقيل: بل خلص الكرماني مولى له رأى خرقاً في القهندز فوسعه وأخرجه، فلم يصلف الصبح حتى اجتمع معه زهاء ألف، ولم يرتفع النهار حتى بلغوا ثلاثة آلاف، وكانت الأزد قد بايعوا عبد الملك بن حرملة على كتاب الله وسنة رسوله، فملا خرج الكرماني قدمه عبد الملك. فلما هرب الكرماني عسكر نصر بباب مرو الروذ وخطب الناس فنال من الكرماني، فقال:ولد بكرمان فكان كرمانياً، ثم سقط إلى هراة فصار هروياً، والساقط بين الفراشين لا أصل ثابت ولا فرع نابت؛ ثم ذكر الأزد فقال: إن يستوسقوا فهم أذل قوم، وإن يأبوا فهم كا قال الأخطل: ضفادع في ظلماء ليل تجاوبنت ... فدل عليها صوتها حية البحر ثم ندم على ما فرط منه فقال: اذكروا الله فإنه حير لا شر فيه. ثم اجمع إلى نصر بشر كثير، فوجه سالم بن أحوز في المجففة إلى الككرماني، فسفر الناس بين نصر والكرماني وسألوا نصراً أن يؤمنه ولا يحبسه، وجاء الكرماني فوضع يده في يد نصر، فأمره بلزوم بيه. ثم بلغ الكرماني عن نصر شيء فخرج إلى قرية له، فخرج نصر فعسكر بباب مرو، فكلموه فيه فآمنه، وكان رأي نصؤ إخراجه من خراسان، فقال له سالم بن أحوز: إن أخرجته نوهت باسمه؛ وقال الناس: إنما أخرجه لأنه هابه. فقال نصر: إن الذي أتخوفه منه إذا خرج أيسر مما أتخوفه منه وهو مقيم، والرجل إذا نفي عن بلده صغر أمره. فأبوا عليه، فآمنه وأعطى أصحابه عشرة عشرة، وأتى الكرماني نصراً فآمنه.
لما عزل ابن جمهور عن العراق وولي عبد الله بن عمر بن عبد العزيز في شوال سنة ست وعشرين خطب نصر وذكر ابن جمهور وقال: قد علمت أنه لم يكن من عمال العراق وقد عزله الله واستعمل الطيب ابن الطيب. فغضب الكرماني لابن جمهور وعاد في جمع الرجال واتخاذ السلاح، فكان يحضر الجمعة في ألف وخمسمائة وأكثر وأقل فيصلي خارج المقصورة، ثم يدخل فيسلم على نصر ولا يجلس. ثم ترك إتيان نصر وأظهر الخلاف، فأرسل إليه نصر مع سالم بن أحوز يقول له: إن والله أردت بحبسك سوءاً ولكن خفت فساداً من الناس فأتني. فقال: لولا أنك في منزلي لقتلتك، ارجع إلى ابن الأقطع وأبلغه ما شئت من خي أو شر. فرجع إلى نصر فأخبره، فلم يول يرسل إليه مرة بعد أخرى، فكان آخر ما قال له الكرماني: إني لا آمن أن يحملك قوم على غير ما تريد فتركب منا ما لا بقية بعده، فإن شئت خرجت عنك لا من هيبة لك، ولكن أكره أن أشأم أهل هذه البلدة،وأسفك الدماء فيها. فتهيأ للخروج إلى جرجان. المعني بفتح الميم، وسكون العين المهلملة، وبعدها نون: قبيلة من الأزد. ذكر خبر الحارث بن سريج وأمانهوفي هذه السنة أومن الحارث بن سريج وهو ببلاد الترك، وكان مقامه عندهم اثنتي عشرة سنة، وأمر بالعود إلى خراسان. وكان السبب في ذلك أن الفتنة لما وقعت بخراسان بين نصر والكرماني خاف نصر قدوم الحارث عليه في أصحابه والترك فيكون أشد عليه من الكرماني وغيره، وطمع أن يناصحه، فأرسل مقاتل بن حيان النبطي وغيره ليردوه عن بلاد الترك. وسار خالد بن زياد الترمذي وخالد بن عمرو مولى بني عامر إلى يزيد بن الوليد فأخذا للحارث منه أماناً،فكتب له أمانه، وأمر نصر أن يرد عليه ما أخذ له، وأمر عبد الله بن عمر بن عبد العزيز عامل الكوفة بذلك أيضاً فأخذا الأمان وسارا إلى الكوفة ثم إلى خراسان، فأرسل نصر إليه، فلقيه الرسول وقد رجع مع مقاتل بن حيان وأصحابه، فوصل إلى نصر وقام بمرو الروذ، ورد نصر عليه ما أخذ له. وكان عوده سنة سبع وعشرين ومائة. ذكر شيعة بني العباسفي هذه السنة وجه إبارهيم بن محمد الإمام أبا هاشم بكير بن ماهان إلى خراسان، وبعث معه بالسيرة والوصية، فقدم مرو وجمع النقباء والدعاة، فنعى إليهم محمد بن علي ودعاهم إلى ابنه إباهيم ودفع إليهم كتابه، فقلبوه ودفعوا إليه ما اجتمع عندهم من نفقات الشيعة، فقدم بها بكير على إبراهيم. ذكر بيعة إبراهيم بن الوليد بالعهدوفي هذه السنة أمر يزيد بن الوليد بالبيعة لأخيه إبراهيم ومن بعده لعبد العزيز بن الحجاج بن عبد الملك. وكان السبب في ذلك أن يزيد مرض سنة ست وعشرين ومائة، فقيل له ليبايع لهما، ولم تزل القدرية ببزيد حتى أمر بالبيعة لهما. ذكر مخالفة مروان بن محمدوفي هذه السنة أظهر مروان بن محمد الخلاف ليزيد بن الوليد. وكان السبب في ذلك أن الوليد لما قتل كان عبد الملك بن مروان بن محمد مع الغمر يزيد أخي الوليد بحران بعد انصرافه من الصائفة، وكان على الجزيرة عبدة بن الرياح الغساني عاملاً للوليد، فلما قتل الوليد سار عبدة عنها إلى الشام، فوثب عبد الملك بن موران بن محمد على حران والجزيرة فضبطهما وكتب إلى أبيه بأرمينية يعلمه بذلك ويشير عليه بتعجيل السير.فتهيأ مروان للمسير وأنفذ إلى الثغور من يضبطها وبحفظها، وأظهر أن يطلب بدم الوليد، وسار ومعه الجنود ومعه ثابت بن نعيم الجذامي من أهل فلسطين. وسبب صحبته له أن هشاماً كان قد حبسه، وسبب حبسه أن هشاماً أرسله إلى إفيقية لما قتلوا عامله كملثوم بن عياض فأفسد الجند، فحبسه هشام، وقدم مروان على هشام في بعض وفاداته فشفع فيه فأطلقه فاستصبحه معه.
فلما سار مروان مسيره هذا أمر ثابت بن نعيم من مع مروان من أهل الشام بالانضمام إليه ومفارقة مروان ليعودوا إلى الشام، فأجابوه إلى ذلك، فاجتمع معه ضعف من مع مروان وباتوا يتحارسون، فلما أصبحوا اصطفوا للقتال، فامر مروان منادين بنادون بين الصفين: يا أهل الشام ما دعاكم إلى هذا؟ ألم أحسن فيكم السيرة؟ فأجابوه بأنا كنا نطيعك بطاعة الخليفة، وقد قتل وبايع أهل الشام يزيد فرضينا بولاية ثابت ليسير بنا إلى أجنادنا. فنادوهم: كذبتم فإنكم لا تريدون ما قلتم، وإنما تريدون أن تغصبوا من مررتم به من أهل الذمة أموالهم! وما بيني وبينكم إلا السيف حتى تنقادوا إلي فأسير بكم إلى الغزاة ثم أترككم تلحقون بأجنادك. فانقادوا له، فأخذ ثابت بن نعيم وأولاده وحبسهم وضبط الجند حتى بلغ حران وسيرهم إلى الشام ودعا أهل الجزيرة إلى العرض فعرض نيفاً وعشرين أفاً وتجهز للمسير إلى يزيد، وكاتبه يزيد ليبايع له ويوليه ما كان عبد الملك بن موران ولى أباه محمد بن مروان من الجزيرة وأرمينية والموصل وأذربيجان، فبايع له مروان وأعطاه يزيد ولاية ما ذكر له . ذكر وفاة يزيد بن الوليد ابن عبد الملك وفي هذه السنة توفي يزيد بن الوليد لعشر بقين من ذي الحجة، وكانت خلافته ستة أشهر وليلتين، وقيلك كانت ستة أشهر واثني عشر يوماً، وقيل: خمسة أشهر واثني عشر يوماً، وكان موته بدمشق، وكان عمره ستاً وأربعين سنة، وقيل: سبعاً وثلاثين سنة؛ وكانت أمه أم ولد اسها شاهفرند بنت فيوز بن يزدجرد بن شهريار بن كسرى، وهو القائل: أنا ابن كسرى وأبي مروان ... وقيصر جدي وجدي خاقان إنما جعل قيصر وخاقان جديه لأن أم فيروز بن يزجرد ابنة كسرى شيرويه بن كسرى، وأمها ابنة قيصر، وأم شيرويه ابنة خاقان ملك الترك. وكان آخر ما تكلم به: وحسرتاه وأسفاه! ونقش خاتمه: العظمة لله. وهو أول من خرج بالسلاح يوم العيد، خرج بين صفين عليهم السلاح. قيل: إنه كان قدرياً، وكان أسمر طويلاً صغير الرأس جملاً. ذكر خلافة إبراهيم بن الوليد بن عبد الملكفلما مات يزيد بن الوليد قام بالأمر بعده أخوه إبراهيم، غير أنه لم يتم له الأمر، فكان يسلم عليه تارة بالخلافة وتارة بالإمارة وتارة لا يسلم عليه بواحدة منهما، فمكث أربعة أشهر، وقيل: سبعين يوماً، ثم سار إليه مروان ابن محمد فخلعه، على ما نذكره، ثم لم يزل حياً حتى أصيب سنة اثنتين وثلاثين ومائة، وكنيته أبو إسحاق؛ أمه أم ولد. ذكر استيلاء عبد الرحمن بن حبيب على أفريقيةكان عبد الرحمن بن أبي عبيدة بن عقبة بن نافع قد انهزم لما قتل أبوه وكلثوم بن عياض سنة اثنتين وعشرين ومائة، وسار إلى الاندلس، وقد ذكرناه، وأراد أن يتغلب عليها، فلم يمكنه ذلك، فلما ولي حنظلة بن صفوان إفريقية، على ما ذكرناه، وجه أبا الخطار إلى الأندلس أميراً، فأيس حينئذ عبد الرحمن مما كان يرجوه فعاد إلى إفريقية وهو خائف من أبي الخطار، وخرج بتوني من إفريقية في جمادى الولى سنة ست وعشرين وقد ولي الوليد ابن يززيد بن عبد الملك الخلافة بالشام، فدعا الناس إلى نفسه، فأجابوه، فسار بهم إلى القيروان، فأراد من بها قتاله فمنعهم حنظلة، وكان لا يرى القتال إلا لكافر أو خارجي، وأرسل إليه حنظلة رسالة مع جماعة من أعيان القيروان رؤساء القبائل يدعوه إلى مراجعة الطاعة، فقبضهم وأخذهم إلى القيروان وقال: إن رمى أحد من أهل القيروان بحجر قتلت من عندي أجمعين،فلم يقالتله أحد. فخرج حنظلة إلى الشام، واستولى عبد الرحمن على القيروان سنة سبع وعشرين ومائة وسائر إفريقية. ولمكا خرج حنظلة إلى الشام دعا على أهل إفريقية وعبد الرحمن، فاستجيب له فيهم، فوقع الوبأ والطاعون سبع سنين لم يفارقهم إلا في أوقات متفرقة، وثار بعبد الرحمن جماعة من العرب والبربر ثم قتل بعد ذلك. فممن خرج عليه عروة بن الوليد الصدفي واستولى على تونس، وقام أبو عطاف عمران بن عطاف الأزدي فنزل بطيفاس، وثارت البرر بالجبال، وخرج عليه ثابت الصنهاجي بباجة فأخذها.
فأحضر عبد الرحمن أخاه إلياس وجعل معه ستمائة فارس وقال له: سر حتى تجتاز بعسكر أبي عطاف الأزدي، فإذا رآك عسكره فارقهم وسر عنهم كأنك تريد تونس إلى قتلا عروة بن الوليد بها، فإذا أتيت موضع كذا فقف فيه حتى يأتيك فلان بكتابي فافعل بما فيه. فسار إلياس ودعا عبد الرحمن إنساناً، وهو الرجل الذي قال لأخيه إلياس عنه، وأعطاه كتاباً وقال له: امض حتى تدخل عسكر أبي عطاف، فإذا أشرف عليهم إلياس ورأيتهم يدهعون السلاح والحخيل فإذا فارقهم إلياس ووضعوا السلاح عنهم وأمنوا فسر إليه وأوصل كتابي إليه فمضى الرجل ودخل عسكر أبي عطاف، وقاربهم إلياس فتحركوا للركوب، ثم فارقهم إلياس نحو تونس فسكنوا وقالوا: قد دخل بين فكي أسد، نحن من هاهنا وأهل تونس من هناك، وأمنوا وصمموا العزم على المير خلفه. فلما أمنوا سار ذلك الرجل إلى إلياس فأوصل إليه كتاب أخيه عبد الرحمن، فإذا فيه: إن قد أمنوك فسر إليهم وهم في غفلتهم. فعاد إلياس إليهم وهم غارون فلم يلحقوا يلبسون سلاحهم حتى دهمهم فقتلهم وقتل أبا عطاف أميرهم سنة ثلاثين ومائة، وأرسل إلى أخيه عبد الرحمن يبشره بذلك، فكتب إليه عبد الرحمن يأمره بالمسير إلى أهل تونس ويقول: إنهم إذا رأوك ظنوك أبا عطاف فأمنوك فظفرت بهم. فسار إليهم، فكان كما قال عبد الرحمن، ووصل إليها وصاحبها عروة ابن الوليد في الحمامفلم يلحق يلبس ثيابه حتى غشيه إلياس فالتحف بمنشفة ينشف بها بدنه وركب فريه عرياناً وهرب، فصاح به إلياس: سا فارس العر! فعاد إليه فضربه إلياس واحتضنه عروة فسقطا إلى الأرض،وكاد عروة يظهر على إلاس فأتاه مولى لإلياس فقتله واحتز رأسه وسيره إلى عبد الرحمن وأقام إلياس بتونس وخرج عليه رجلان بطرابلس اسمهما عبد الجبار والحارث وقتلا من أهل البلد جماعةً كثيرة، فسار إليهم عبد الرحمن سنة إحدى وثلاثين ومائة وقاتلهما فقتلا، وكانا يدينان بمذهب الإباضية من الخوارج. وجند عبد الرحمن في قتال البربر، وعمر عبد الرحمن سور طرابلس سنى اثنتين وثلاثين ومائة، ثم إنه عاد إلى القيروان وغزا تلمسان وبها جمع كثير من البربر فظفر بهم، وذلك سنة خمس وثلاثين، وسير جيشاً إلى صقلية فظفروا وغنموا عنيمة كثيرة، وبعث جياً آخر إلى سردانية فغنموا وقتلوا في الروم، ودوخ المغرب جميعه ولم ينهزم له عسكر. وقتل مروان بن محمد وزالت دولة بني أمية وعبد الرحمن بإفريقية، فخطب للخلفاء العابسيين وأطاع السفاح. ثم قدم عليه جماعة من بني أمية فتزوج هو وإخوته منهم، وكان في من قدم عليه منهم: العاص وعبد المؤمن ابنا الوليد ابن يزيد بن عبد الملك، وكانت ابنة عمهما تحت إلياس أخي عبد الرحمن، فبلغ عبد الرحمن عنهما السعي في الفساد عليه فقلهما، فقالت ابنة عمهما لزوجها إلياس: إن أخاك قد قتل أختانك ولم يراقبك فيهم وتهاون بك، وأنت سيفه الذي يضرب به، وكلما فتحت له فتحاً كتب إلى الخلفاء: إن ابني حبيباً فتحه، وقد جعل له العهد بعده وعزلك عنه. ولم تزل تغريه به. فتحرك لقولها وأعمل الحيلة على أخيه. ثم إن السفاح توفي وولي الخلافة بعده المنصور، فأقر عبد الرحمن على إفريقية، وأرسل إليه خلعةً سوداء أول خلافته فلبسها، وهي أو سواد دخل إفريقية. فأرسل إليه عبد الرحمن هدية وكتب يقول: إن إفريقية اليوم إسلامية كلها وقد انقطع السبي منها والمال، فلا تطلب مني مالاً. فغضب المنصور وأرسل إليه يتهدده، فخلع المنصو بإفريقية ومزق خلعته وهو على المنبر وكان خلع المنصور مما أعان أخاه إلياس عليه. فاتفق جماعة من وجوه القيروان معه على أن يقتلوا عبد الرحمن ويولوه ويعيد الدعاء للمنصور. فبلغ عبد الرحمن غامر أخاه إلياس بالمسير إلى تونس، فتجهز ودخل إليه يودعه ومعه أخوه عبد الوارث، فلما دخلا على عبد الرحمن قتلاه. وكان قتله في ذي الحجة سنة سبع وثلاثين ومائة، وكانت إمارته على إفريقية عشر ينين وسبعة أشهر.
ولما قتل ضبط إلياس أبواب الدار ليأخذ ابنه حبيباً، فم يظفر به، وهرب حبيب إلى تونس واجتمع بعمه عمران بن حبيب وأخبره بقتل أبيه؛ وسار إلياس إليهما، واقتتلوا قتالاً يسيراً، ثم اصطلحوا على أن يكون لحبيب قفصة وقسطيلة ونفزاوة، ويكون لعمران تونس وصطفورة والجزيرة، ويكون سائر إفريقية لإلياس؛ وكان هذا الصلح سنة ثمان وثلاثين ومائة، فلما اصطلحوا سار حبيب بن عبد الرحمن إلى عمله، ومضى إلياس مع أخيه عمران إلى تونس فغدر بعمران أخيه وقتله وانخذ تونس وقتل بها حماعةً من أشراف العرب وعا إلى القيروان. فلما استقر بها بعث بطاعته إلى المنصور مع وفد، منهم عبد الرحمن بن زياد بن أنعم قاضي إفريقية. ثم سار حبيب إلى تونس فملكها، فسار إليه إلياس واقتتلوا قتالاً ضعيفاً، فلما جنهم الليل ترك حبيب خيامه وسار جريدة إلى القيروان فدخلها وأخرج من في السجن وكثر جمعه. ورجع إلياس في طلبه ففارقه أكثر أصحابه وقصدوا حبيباً، فعظم جيشه، وخرج إليه فاتقيا فغدر أصحاب إلياس، وبرز حبيب بين الصفين، فقال له: ما لنا نقتل صنائعنا وموالينا؟ ولكن ابرز أنت إلي فأينا قتل صاحبه استراح منه. فتوقف إلياس ثم برز إليه فاقتلا قتالاً شديداً تكسر فيه رمحاهما ثم سفاهما، ثم إن حبيباً عطف عليه فقتله ودخل القيروان وكان ذلك سنة ثمان وثلاثين ومائة. وهرب إخوة إلياس إلى بطن من البربر يقال لهم ورفجومة فاعصموا بهم، فسار إليهم حبيب فقاتلهم فهزموه، فسار إلى قابس، وقوي أمر ورفجومة حينئذ وأقبلت البربر إليهم والخوارج، وكان مقدم ورفجومة رجلاً اسمه عاصم ابن جميل وكان قد ادعى النبوة والكهانة، فبدل الدين وزاد في الصلاة واسقط ذكر النبي، صلى الله عليه وسلم ، من الأذان، فجهز عاصم من عنده من العرب على قصد القيروان وأتاه رسل جماعة من أهل القيروان يدعونه إليهم وأخذوا عليه العهود والمواثيق بالحماية والصيانة والدعاء للمنصور، فسار إليهم عاصم في البربر والعب، فملا قاربوا القيوان خرج من بها لقتالهم فاقتتلوا، وانهزم أهل القيروان، ودخل عاصم ومن معه القيروان، فاستحلت ورفجومة المحرمات وسبوا النساء والصبيان وربطوا دوابهم في الجامع وأفسدوا فيه. ثم سار عاصم يطلب حبيباً وهو بقابس فأدركه واقتتلوا، وانهزم حبيب إلى جبل أوراس فاحتمى به، وقام بنصره من به، ولحق به عاصم فالتقوا واقتتلوا، فانهزم عاصم وقتل وهو وأكثر أصحابه، وسار حبيب إلى القيروان، فخرج إليه عبد الملك بن أبي الجعد وقد قام بأمر ورفجومة بعد قتل عاصم، فاقتل هو وحبيب، فانهزم حبيب وقتل هو جماعة من أصحابه في المرحم سنة أربعين ومائة. وكانت إمارة عبد الرحمن بن حبيب على إفريقية عشر سنين وأشهراً، وإمارة أخيه إلاس سنة وستة أشهر، وإمارة بنه حبيب ثلاث سنين. ذكر إخراج ورفجومة من القيروانولما قتل حبيب بن عبد الرحمن عاد عبد الملك بن أبي الجعد إلى القيروان وفعل ما كان يفعله عاصم من الفساد والظلم وقلة الدين وغير ذلك، ففارق القيروان أهلها. فاتفق أن رجلاً من الإباضية دخل القيروان الحجاةٍ له فرأى ناساً من الورفجومين قد أخذوا امرأة قهراً والناس ينظرون فأدخلوها الجامع، فترك الإباضي حاجته وقصد أبا الخطاب عبد الأعلى بن السمح المعافري فأعلمه ذلك، فخرج أبو الخطاب وهو يقول: بيتك اللهم بيتك!فاجتمع إليه أصحابه من كل مكان وقصدوا طرابلس الغرب، واجتمع عليه الناس من الإباضية والخوارج وغيرهم، وسير إليهم عبد الملك، مقدم ورفجومة، جيشاً فهزموه وساروا إلى القيروان، فخرجت إليهم ورفجومة واقتتلوا واشتد القتال، فانهزم أهل القيروان الذين مع ورفجومة وخذلوهم، فتبعهم ورفجومة في الهزيمة وكثر القتل فيهم وقتل عبد الملك الورفجومي، وتبعهم أبو الخطاب بقتلهم حتى أسرف فيهم، وعاد إلى طرابلس واستخلف على القيروان عبد الرحمن بن رستم الفارسي. وكان قتل ورفجومة في صفر سنة إحدى وأربعين.
ثم أإن جماعة كثيرة من المسودة سيرهم محمد بن الأشعث الخزاعي، لأأمير مصر للمنصور،إلى طرابلس لقتال أبي الخطاب، وعليهم أبو الأحوص عمر بن الأحوص العجلي، فخرج إليهم أبو الخطاب وقاتلهم وهزمهم ينة اثنتين وأربعين، فعادوا إلى مصر، واستولى أبو الخطاب على سائر إفريقية. فسير إليه المنصور محمد بن الأشعث الخزاعي أميراً على إفريقية، فسار من مصر سنة ثلاث وأربعين فوصل إليها في خمسين ألفاً، ووجه مع الأغلب بن سالم التميمي، وبلغ أبا الخطاب مسيره فجمع أصحابه من كل ناحية، فكثر جمعه وخافه ابن الأشعث لكثرة جموعه. فتنازعت زناته وهوارة بسبب قتيل من زناته، فاتهمت زناته أبا الخطاب بالميل إليهم، ففارقه جماعة منهم، فقوي جنان ابن الأشعث وسار سيراً رويداً، ثم أظهر أن المنصور قد أمره بالعود، وعاد إلى ورائه ثلاثة أيام سيراً بطيئاً، قوصلت عيون أبي الخطاب وأخبرته بعوده، فتفرق عنه كثير من أصحابه وأمن الباقون، فعاد الأشعث وشجعان هسكره مجداً فصبح أبا الخطاب وهو غير متأهب للحرب، فوضعوا السيوف في الخوارج، واشتد القتال، فقتل أبو الخطاب وعامة أصحابه في صفر سنة أربع وأربعين ومائة. وظن ابن الأشعث أن مادة الخوارج قد انقطعت، وإذا هم قد أطل عليهم أبو هريرة الزناتي في ستة عشر ألفا، فلقيهم ابن الأشعث وقتلهم جمعاً سنة أربع وأربعين، وكتب إلى المنصور بظفره، ورتب الولاة في الأعمال كلها، وبني سور القيروان فيها، وتم سنة ست وأربعين، وضبط إفريقية، وأمعن في طلب كل من خالفه من البربر وغيرهم، فسير جيشاً إلى زويلة ووران،فافتتح وران وقتل من بها من الإباضية، وافتتح زويلة وقتل مقدمهم عبد الله بن سنان الإباضي وأجلى الباقين. فلما رأى البربر وغيرهم من أهل العبث والخلاف على الأمراء ذلك خافوه خوفاً شديداً وأذعنوا له بالطاعة. فثار عليه رجل من جنده يقال له هاشم بن الشاحج بقمونية وتبعه كث4ير من الجند، فسير إليه ابن الأشعث قائداً في عسكر ، فقتله هاشم وانهزم أصحابه، وجعل المضرية من قواد ابن الأشعث يأمرون أصحابهم باللحاق بهاشم كراهية لأبن الأشعث لأنه تعصب عليهم، فبعث إليهابن الأشعث جيشاً آخر، فاقتتلوا وانهزم هاشم ولحق بتاهرت وجمع اطغام البربر، فبلغت عدة عسكره عشرين ألفاً، فسار بهم إلى تهوذة، فسير إليه ابن الأشعث جيشاً فانهزم هاشم وقتلوا كثيراً من أصحابه البربر وغيرهم، فسار إلى ناحية كرابلس. وقدم رسول من المنصور إلى هشام يلومه على مفارقة الطاعة، قال: ما خلفت ولكني دعوت للمهدي بعد أمير المؤمنين، وأنكر ابن الأشعث ذلك وأراد قتلي. فقال له لرسول: فإن كنت على الطاعة فمد عنقك. فضربه بالسيف فقتله سنة سبع وأربعين في صفر، وبذلك الأمان لأصحاب هاشم جميعهم فعادوا. وتبعهم ابن الأشعث بعد ذلك فقتلهم، فغضب المضرية واجتمعت على داوته وخلافه، واسجتمع رأيهم على إخاجه. فملا رأى ذلك سار عنهم، ولقيته رسل المنصور بالبر والإكرام، فقدم عليه، واستعمل المضرسة على إفريقية بعده عيسى بن موسى الخراساني. وكان بعد مسير ابن الأشعث تأمير الهخاساني ثلاثة أشهر، واستعمل المنصور الأغلب التميمي، على ما نذكره، في ربيع الأول سنة ثمان وأربعين ومائة وإنما أوردنا هذه الحوادث متتابعة لتعلق بعضها على ما شرطناه، وقد ذكرنا كل حادثة في أي سنة كانت فحصل الغرضان. ذكر عدة حوادثفي هذه السنة عزل يزيد بن الوليد يوسف ين محمد بن يوسف عن المدينة واستعمل عبد العزيز بن عمرو بن عثمان، فقدمها في ذي القعدة من السنة. وحج بالناس عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز، وقيل: عمر بن عبد الله بن عبد الملك. وكان العامل على العراق عبد الله بن عمر بن عبد العزيز، وعلى قضاء الكوفة ابن أبي ليلى، وعلى البصرة المسور بن عمر بن عباد، وعلى قضائها عامر بن عبيدة، وعلى خراسان نصر بن سيار الكناني. وفيها كاتب مروان بن محمد بن مروان بن الحكم أمير الجزيرة الغمر ابن يزيد الغمر ابن يزيد بن عبد الملك يحثه على الطلب بدم أخيه الوليد ويعده المساعدة له وإنجاذه على ذلك.
وفيها مات سعيد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، وقيل: سنة سبع وعشرين وسعيد بن أبي سعيد المقبري. ومالك بن دينار الزاهد، وقيل مات سنة سبع وعشرين، وقيل سنة ستين. وفيها توفي عبد الرحمن بن القاسم ابنم محمد بن أبي بكر الصديق، وقيل سنة إحدى وثلاثين. وف إمارة يوسف ابن عمر على العراق توفي أبو جمرة الضبعي صاحب ابن عباس. جمرة بالجيم والراء المهملة. ثم دخلت سنة سبع وعشرين ومائة ذكر مسير مروان إلى الشام وخلع إبراهيم وفي هذه السنة سار مروان إلى الشام لمحاربة إبراهيم بن الوليد. وكان السبب في ذلك ما قد ذكرنا بعضه من مسير مروان بعد مقتل الوليد وإنكاره قتله وغلبته على الجزيرة ثم مبايتعته لزيد بن الوليد بعدما ولاه يزيد من عمل أبيه. فلما مات يزيد بن الوليد سار مروان في جنود الجزيرة وخلف ابنه عبد الملك في جمع عظيم بالرقة، فلما انتهى مروان إلى قنسرين لقي بها بشر ابن الوليد، وكان ولاه يزيد قنسرين، ومعه أخوه مسرور بن الوليد، فتصافوا، ودعاهم مروان إلى بيعته، فمال إلية يزيد بن عمر بن هبيرة في القيسية واسلموا بشراً وأخاه مسروراً، فأخذهما مروان فحبسهما، وسار ومعه أهل قنسرين متوجها إلى حمص. وكان أهل حمص قد امتنعوا حين مات ييد من بيعة إلبراهيم وعبد العزيز، فوجه ه إليهم إبراهيم بعد العزيز وجند أهل دمشق فحاصرهم في مدينتهم، وأسرع مروان السير، فلما دنا من حمص رحل عبد العزيز عنها وخرج أهلها إلى مروان فايعوه وساروا معه. ووجه إبرايهم بن الوليد الجنود من دمشق مع سليمان بن هشام، فنزل عين الجر في مائة وعشرين ألفاً، ونزلها مروان في ثمانين ألاً، فدعاهم مروان إلى الكف عن قتلاله وإكطلاق ابني الوليد الحكم وعثمان من السجن وضمن لهم أنه لا يطلب أحداً من قتلة الوليد. فلم يجيبوه وجدوا في قتاله، فاققتلوا ما بين ارتفاع النهار إلى العصر، وكثر القتل بينهم. وكان مروان ذا رأي وكيدة، فأرسل ثلاثة آلاف فارس، فساروا خلف عسكره وقطعوا نهراً كان هناك وقصدوا عسكر إبراهيم ليغيروا فيه، فمل يشعر سليمان ومن معه وهم مشغلون بالقتال إلا بالخيل والبارقة والتكبير في عسكرهم من خلفهم، فلما رأوا ذلك انهزموا ووضع أهل حمص السلاح فيهم لحنقهم عليهم فقتلوا منهم سبعة عشر ألفاً، وكف أهل الجزيرة وأهل قنسرين عن قتلهم وأتوا مروان من أسرائهم بمثل القتلى واكثر، فأخذ مروان عليهمم البيعة الولدي الوليد وخلى عنهم ولم يقتل منهم إلا رجلين، أحدهما يزيد بن العقار والوليد بن مصاد الكلبيان، وكانا ممن وليب قتل الوليد، فإنه حبسهما فهلكا في حبسه. وهرب يزيد بن عبد الله القسري فيمن هرب مع سليمان إلى دمشق واجتمعاوا مع إباهيم وبعد العزيز بن الحجاج، فقال بعضهم لبعض: إن بقي ولدا الويد حتى يخرجهما مروان ويصير الأمر إليهما لم يستبقيا أحداً من قتله أبيهما والرأي قتلهما، فرأى ذلك يزيد بن خالد، لإأمر أبا الأسد مولى خالد يقتلهما، وأخرج يوسف بن عمر فضرب رقبته، وأرادوا قتل أبي محمد السفياني فدخل بيتاً من بيوت السجن وأغلقه فلم يقدروا على فتحه، فأرادوا إحراقه له يؤتوا بنار حتى قيل دخلت خيل مروان المدينة، فهربوا وهرب إبراهيم واختفى، وانهب سليمان ما في بيت المال فقسمه في أصحابه وخرج من المدينة. ذكر بيعة مروان بن محمد بن مروانوفي هذه السنة بويع بدمشق لمروان بالخلافة. وكان سبب ذلك أنه لما دخل دمشق وهرب إبراهيم بن الوليد وسليمان ثار من بدمشق من موالي الوليد دار عبد العزيز بن الحجاج بن عبد الملك فقتلوه ونبشوا قبر يزيد بن الوليد فصلبوه على باب الجابية، وأتي مروان بالغلامين الحكم وعثمان ابني الوليد نقتولين، وبيوسف بن عمر، فدفنهم، وأتي بأبي محمد السفياني في قوده فسلم عليه بالخلافة، ومروان يسلم عليه يومئذ بالإمرة، فقال له مروان: مه! فقال: إنهما جعلاها لك بعدهما؛ وأنشده شعراً قاله الحكم في السجن، وكانا بلغا وولد لأحدهما، وهو الحكم، فقال الحكم: ألا من مبلغ مروان عين ... وعمي الغمر طال به حنينا بأني قد ظلمت وصار قومي ... على قتل الوليد مشايعينا أيذهب كلهم بدمي ومالي ... فلا غشا أصبت ولا سمينا
ومروان بأرض بني نزارٍ ... كليث4 الغاب مفترس عينا أتنكث بيعتي من أجل أمي ... فقد بايعتم قبلي هجينا فإن أهلك أنا وولي عهدي ... فمروان أمير المؤمنينا ثم قال: اسط يدك أبايعك. وسمعه من مع مروان، وكان أول من بايعه معاوية بن يزيد بن حصين بن نمير ورؤوس أهل حمص والناس بعده، فلما استقر له الأمر رجع إلى منزله بحران وطلب منه الأمان لإبراهيم بن الوليد وسليمان بن هشام، فآمنهما، فقدما عليه، وكان سليمان بتدمر بمن معه من إخوته وأهل بيته ومواليه الذكوانية فبايعوا مروان بن محمد. ذكر ظهور عبد الله بن معاوية ابن عبد الله بن جعفر وفي هذه السنة ظهر عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب بالكوفة ودعا إلى نفسه. وكان سبب ذلك أنه قدم على عبد الله بن عمر بن عبد العزيز إلى الكوفة فأكرمه وأجازه وأجرى عليه وعلى إخوته كل يوم ثلاثمائة درهم، فكانوا كذلك حتى هلك يزيد بن الوليد، وبايع الناس أخاه إبراهيم بن الوليد وبعده عبد العزيز بن الحجاج بن عبد الملك، فلما بلغ خبر بيعتهما عبد الله بن عمر بالكوفة بايع الناس وزاد في العطاء وكتب بيعتهما إلى الآفاق، فجاءته البيعة، ثم بلغه امناع مروان بن محمد من البيعة ومسيره إليهما إلى الشام، فحبس عبد الله بن معاوية عنده وزاده فيما كان يجري عليه وأعده لمروان بن محمد إن هو ظفر بإبراهيم بن الوليد ليبايع له وقاتل به مروان، فماج الناس. وورد مروان الشام بإبراهيم، فانهزم إسماعيل بن عبد الله القسري إلى الكوفة مسرعاً، وافتعل كتاباً على لسان إبراهيم بإمرة الكوفة، وجمع الميانية وأعلمهم ذلك، فأحابوه، وامتنع بعبد الله بن عمر عليه وقاتله. فلما رأى الأمر كذلك خاف أن يظهر أمره فيفتضح وقتل فقال لأصحابه: إني أكره سفك الدماء فكفوا أيديكم، فكفوا. وظهر أمر إبراهيم وهربه، ووقعت العصبية بين الناس، وكان سبببها أن عبد الله بن عمر كان أعطى مضر وربيعة عطايا كثيرة ولم يعط جعفر بن نافع بن القعقاع بن شور الذهلي وعثمان بن الخببيري من تميم اللات بن ثعلبة شيئاً، وهما من ربيعة، فكانا مغضب لهما ثمامة بن حوشب بن رويم السيباني، وخرجوا من عند عبد الله بن عمرو هو بالحيرة إلى الكوفة فنادوا: ياآل ربيعة! فاجتمعت ربيعة وتنمروا. وبلغ الخبر عبد الله بن عمر لإأرسل إليهم أخاه عاصماً، فأتاهم وهم بدير هند، فألقى نفسه بينهم وقال: هذه يدي لكم فاحكموا. فاستحيوا ورجعوا وعظموا عاصماً وشكروه، فلما كان المساء أرسل عبد الله بن عمر إلى عمر بن الغضبان بن القبعثرى بمائة ألف، فقسمها في قومه بين همام بن مرة بن ذهل السيباني، وإلى ثمامة بن حوشب بمائة ألف قسمها في قومه، وارسل إلى جعفر بن نافع بمال، وإلى عثمان الخبيري بمال. فلما رأت الشيعة ضعف عبد الله بن عمر طمعوا فيه ودعوا إلى عبد الله بن معاوية واجتمعوا في المسجد وقاروا واتوا عبد الله بن معاوية وأخرجوه من داره وأدخلوه القصر ومنعوا عاصم بن عمر بن الغضبان، ومنصور ابن جمهور،وإسماعيل بن عد الله القسري أخو خالد، وأقام أياماً يبايعه الناس، وأتته البيعة من المدائن وفم النيل، واجتمع إليه الناس، فخرج إلى عبد الله بن عمر بالحيرة، فقيل لابن عمر: قد أقبل ابن معاوية في الخلق، فأكرق ملياً، وأناه رئيس خبازيه فأعلمه بإدراك الطعام، فأمره بإحضاره، فأحضره، فأكل هو ومن معه وهو غير مكترث والناس يتوقعون أن يهجم عليهم ابن معاوية، وفرغ من طعامه وأخرج المال ففرقه في قواده، ثم دعا مولى له كان يتبرك به ويتفاءل باسمه، كان اسمه إما ميموناً وغما رياحاً أو فتحاً أو اسما يتبرك به، فأعطاه اللواء وقال له: امض به إلى موضع كذا فاركزه وادع أصحابك وأقم حتى أتيك. ففعل. | |
|
| |
الشيخ عودة الشيخ عودة
عدد المساهمات : 1748 تاريخ التسجيل : 28/09/2008 العمر : 74
| موضوع: رد: كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير الثلاثاء فبراير 11, 2014 3:57 am | |
| وخرج عبد الله فإذا الأرض بيضاء من أصحاب ابن معاوية، فأمر ابن عمر منادياً فنادى: من جاء برأس فله خمسائة. فأتي برؤوس كثيرة وهو يعطي ما ضمن
وبز رجل من أهل السام، فبرز إليه القاسم بن عبد الغفار العجلي، فسأله الشامي فعرفه فقال: قد ظننت أنه لا يخرج إلي رجل من بكر بن وائل، والله ما أريد قتالك ولكن أحببت أن ألقي إليك حديثاً، أخبرك أنه ليس معكم رجل من أهل اليمن، لا إسماعيل ولا منصور ولا غيرهما إلا وقد كاتب ابن عمر وكاتبه مضر، وما أرى لكم باربيعة كتاباً ولا رسولاً، وأنا رحجل من قيس، فإن أردتم الكتاب ألغته ونحن غداً بإزائكم فإنهم اليوم لا يقاتلونكم. فبلغ الخبر ابن معاوية فأخبره عمر بن الغضبان، فأشار عليه أن يستوثق من إسماعيل ومنصور وغيرهما، فلم يفعل. وأصبح الناس من الغد غادين على القتال، فحمل عمر بن الغضبان على ميمنة ابن عمر فانكشفوا، ومضى إسماعيل ومنصور من فورهما إلى الحيرة، فانهزم أصحاب ابن معاوية إلى الكوفة وابن معاوية معهم فدخلوا القصر، وبقي من بالميسرة من ربيعة ومضر ومن بازائهم من أصحاب ابن عمر، فقال لعمر بن الغضبان: ما كنا نأمن عليكم ما صنع الناس بكم، فانصرفوا. فقال ابن الغضبان: لا أبرح حتى أقتل. فأخذ أصحابه بعنان درابته فأدخلوه الكوفة، فما أمسوا قال لهم ابن معاوية: يا معشر ربيعة، قد رأيتم ما صنع الناس بنا، وقد أعلقنا دماءنا في أعناقكم، فإن قاتلتم قتالنا معكم، وإن كنتم ترون الناس يخذلوننا وإياكم فخذوا لنا ولكم أماناً فقال له عمر بن الغضبان: ما نقاتل معكم وما نأخذ لكم أماناً كما نأخذ لأنفسنا. فأقاموا في القصر والزيدية على أفواه السكك يقاتلون أصحاب ابن عمر أياماً. ثم إن ربيعة أخذت أماناً لابن معاوية ولأنفسهم وللزيدية ليذهبوا حيث شاؤوا، وسار ابن معاوية من الكوفة فنزل المدائن، فأتاه قوم من أهل الكوفة، فخرج بهم فغلب على حلوان والجبال وهمذان وأصبهان والري، وخرج إليه عبيد أهل الكوفة. وكان شاعراً مجيداً، فمن قوله: ولا تركبن الصنيع ال1ذي ... تلوم أخاك على مثله ولا يعجبنك قول امرئ ... يخالف مكا قال في فعله ذكر رجوع الحارث بن السريج إلى مرووفي هذه السنة رجع الحارث إلى مرو، وكان مقيماً عند المشركين مدة، وقد تقدم سبب عودة؛ وكان قدومه مرو في جمادى الآخرة سنة سبع وعشرين، فلقيه الناس بكشمهين، فلما لقيهم قال: ما قرت عبيني منذ خرجت إلى يومي هذا، وما قرة عبيني إلا أن يطاع الله. ولقيه نصر وأنزل وأجرى عليه كل يوم خمسين مرهماً، فكان يقتصر على لون واحد، وأطلق نصر أهله وأولاده، وعرض عليه نصر أن يوليه ويعطيه مائة ألف دينار، فلم يقبل وأرسل إلى نصر: إني لست من الدنيا واللذات في شيء، وإنما أسألك كتاب الله والعمل بالسنة، وأن تستعمل أهل الخير، فإن فعلت ساعدتك على عدوك. وأرسل الحارث إلى الكرماني: إن أعطاني نصر العمل بالكتاب وما سالته عضدته وقمت بأمر الله، وإن لم يفعل أعنتك إن ضمنت الي ضمنت لي القيام بالعدل والسنة. ودعا بني تميم إلى نفسه، فأجابه منهم ومن غيرهم جمع كثير، واجتمع إليه ثلاثة آلاف، وقال لنصر: إنما خرجت من هذه البلدة منذ ثلاث عشرة سنة إنكاراً للجور وأنت تريديني عليه. ذكر انتقاض أهل حمصوفي هذه السنة انتقض أهل حمص على مروان. وكان سبب ذلك أن مروان لما عاد إلى حرآن بعد فراغه من أهل الشام أقام ثلاثة أشهر، فانتقض عليه أهل حمص، وكان الذي دعاهم إلى ذلك ثابت ابن نعيم وراسلهم، وأرسل أهل حمص إلى من بتدمر من مكلب فأتاهم الأصبغ بن ذؤالة الكلبي وأولاده ومعاوية السككي، وكان فارس أهل الشام، وغيرهما في نحو من ألف من فسانهم، فدخلوا ليلة الفطر، فجد مروان في السير إليه ومعه إبراهيم المخلوع وسلمان بن هشام، وكان قد آمنهما، وكان يكرمهما، فبلغهما بعد افطر بيومين وقد سد أهللها أبوابها، فأحدق بالمدينة ووقف بإزاء باب من أبوابها، فنادى مناديه الذين عند الباب: ما دعاكم إلى النكث؟ قالوا إنا على طاعتك لم ننكث. قال: فافتحوا الباب. فافتحوا الباب، فدخله عمر بن الوضاح في الوضاحية، وهم نحو من ثلاثة آلاف، فقالتلهم من في البلد، فكثرتهم خيل مروان، فخرج بها من بها من باب تدمر، فقاتلهم من عليه من أصحاب مروان فقتل عامة من خرج منه وأفلت الأصنع بن ذؤالة وابنه فرافصة، وقتل مروان جماعةً من أسرائهم، وصاب خمسائة من القتلى خحول المدينة، وهدم من سوها نحو غلوة.
وقيل: إن فتح حمص وهدم سورها كان في سنة ثمان وعشرين. ذكر خلاف أهل الغوطةفي هذه السنة خالف أهل الغوطة وولوا عليهم يزيد بن خالد القسري وحصروا دمشق، وأميرهم زامل بن عمرو، فوجه إليهم مروان من حمص أبا الورد بن لكوثر بن زفر بن الحارث، وعمر بن الوضاح في عشرة آلاف، فلما دنوا من المدينة حملوا عليهم، وخرج عليهم، من بالمدينة، فانهزموا، واستباح أهل مروان عسكرهم وأحرقوا المزة وقرى من اليمانية، وأخذ يزيد بن خالد فقتل، وبعث زامل برأسه إلى مروان بحمص. وممن قتل في هذه الحرب عمر بن هانئ العبسي مع يزيد، وكان عابداً ككثير المجاهة. ذكر خلاف أهل فلسطينوفيها خرج ثابت بن نعيم بعد أهل حمص والغوطة، وكان خروجه في أهل فلسطين، وانتقض على مروان أيضاً وأتى طبرية فحاصرها وعليها الوليد ابن معاوية بن مروان بن الحكم ابن أخير عبد الملك، فقالتله أهلها أياماً. فكتب مروان بن محمد إلى أبي الورد يأمره بالمسير إليهم،فما قرب منهم خرج أهل طبرية على ثابت فهزموه واستباحوا عسكره، وانصرف إلى فلسطين منهزماً، وتبعه أبو الورد فالتقوا واقتتلوا، فهزمه أبو الرود ثانية وتفرق أصحابه واسر ثلاثة من أولاده وبعث بهم إلى مروان، وتغيب ثابت وولده رفاعة. واستعمل مروان على فلسطين الماحن بن عبد العزيز الكناني، فظفر بثابت وبعثه إلى مروان موثقاً بعد شهرين، فأمر به وبأولاده الثلاثة فقطعت لأيديهم وأرجلهم وحموا إلى دمشق فألقوا على باب المسجد، ثم صلبهم على أبواب دمشق. وكان مروان بدير أيوب فبايع لابنيه عبيد الله وعبد الله وزوجهما ابنتي هشام بن عبد الملك وجمع كذلك بين أمية، واستقام له الشسام ما خلا تدمر، فسار إليها فنزل القسطل، وبينه وبين تدمر أيام، وكانوا قد عوروا المياه، فاستعمل المزاد والقرب والإبل، وكلمه الأبرش بن الوليد وسلميان ابن هشام وغيرهما وسألوه أن يرسل إلهم، فأذن لهم في ذلك، وسار الأبرش وخوفهم وحذرهم، فأجابوا إلى الطاعة، وهرب نفر منهم إلى البر ممن لم يثق بمروان، ورجع الأبرش إلى مروان ومعه من أطاع بعد أن هدم سورها. وكان مروان قد سير يزيد بن عمر بن هبيرة بين يديه إلى العراق لقتال الضحاك الخارجي، وضرب على أهل الشام بعثاً وأمرهم باللحاق بيزيد، وسار مروان إلى الرضصافة، فاستأذنه سليمان بن هشام لقيم أياماً ليقوى من معه ويستريح ظهره. فأذن له؛ وتقدم مروان إلى قرقيسيا وبها ابن هبيرة ليقدمخ إلى الضحاك، فرجع عشرة آلاف ممن كان مروان قد أخذه من أهل الشام لقتال الضحاك، فأقاموا بالرصافة ودعوا سليمان إلى خلع مروان، فأجابهم. ذكر خلع سليمان بن هشام ابن عبد الملك مروان بن محمد وفي هذه السنة خلع سليمان بن هشام بن عبد الملك مروان بن محمد وحاربه. وكان السبب في ذلك ما ذكرنا من قدوم الجنود عليه وتحسيتهم له خلع مروان، وقالوا له: أنت أرضى عند الناس من مروان وأولى بالخلافة. فأجابهم إلى ذلك وسار بإخوته ومواليه معهم فعسكر بقنسرين، وكانب أهل الشام، فاتوه من كل وجه، وبلغ الخبر مروان فرجع إليهمن قرقيسيا وكتب إلى ابن هبيرة يأمره بالمقام، واجتاز مروان في رجوعه بحصن الكامل وفيه جماعة من موالي سليمان وأولاد هشام فتحصنوا منه، فأرسل إليهم: إني أحذركم أت تعرضوا لأحد ممن يتبعين من جندي بأذى، فإن فعلتم فلا أمان لكم عندي. فأرسلوا إليه: إنا نستكف. ومضى مروان، فجعلوا يغيرون على من يتبعه من أخريات الناس، وبلغه ذلك فتغيظ عليهم. واجتمع إلى سليمان نحو من سبعين ألفاً من أهل الشام والذكوانية وغيرهم، وعسكر بقرية خساف من أرض قنسرين، وأتاه مروان فواقعه عند وصوله، فاشتد بينهم القتال، وانهزم سليمان ومن معه، وابتعهم خيل مروان تقتل وتأسر، واستباحوا هعسكرهم، ووقف مروان موقفاً ووقف ابناه موقفين، ووقف كوثر صاحب شرطته موقفاً، وأمرهم أن لا يؤتوا بأسير إلا قتلوه إلا عبداً مملوكاً. فأحصي من قتلاهم يومئذ نيف على ثلاثين ألق قيل، وقتل إبراهيم بن سليمان وأكثر ولده، وخالد بن هشام المخزومي خال هشام ابن عبد الملك، وادعى كثير من الأسراء للجند أنهم عبيد، فكف عن قتلهم وأمر ببيعهم فيمن يزيد مع من أصيب من عسكرهم.
ومضى سليمان حتى أنتهى إلى حمص، وانضم إليه من أفلت ممن كان معه، فعسكر بها وبنى ما كان مروان أمر بهدمه من حيطانهم. وسار مروان إلى حصن الكامل حنقاً على من فيه فحصرهم وأنزلهم على حكمه، فمثل بهم وأخذهم أهل الرقة فداووا جراحاتهم، فهلك بعضهم وبقي أكثرهم، وكانت عدتهم نحواً من ثلاثمائة. ثم سار إلى سليمان ومن معه، فقال بعضهم لبعض: حتى متى نتهزم من مروان؟ فتبايع سبعمائة من فرسانهم على الموت وساروا بأجمعهم مجمعين على أن يبيتوه إن أصابوا منه غرة. وبلغه خبرهم فتحرز منهم فتحرز منهم وزحف إليهم في الخنادق على احتراس وتعبية، فلم يمكنهم أن يتبعوه، فكمنوا في زيتون على طريقه فخرجوا عليه وهويسير على تعبية فوضعوا السلاح فيمن معه، وانتدب لهم ونادى خيوله، فرجعت إليه، فقتلوه من لدن ارتفاع النهار إلى بعد العصر، وانهزم أصحاب سليمان، وقتل منهم نحو من ستة آلاف فلما بلغ سليمان هزيمتهم حخلف أخاه سعيداً بحمص إلى تدمر فأقام بها، ونزل مروان على حمص فحصر أهلها عشرة أشهر ونصب عليهم نيفاً وثمانين منجنيقاً يرمى بها الليل والنهار، وهم يخرجون إليه كل يوم فيقاتلونه، وربما بيتوا نواحي عسكره. فملا تتابع عليهم البلاء طلبوا الأمان على أن يمكنوه من سعيدبن هشام وابنيه عثمان ومروان ومن رجل كان يسمى السكسي كان يغير على عسكره ومن رجل حبشي كان يشتم مروان، وكان يشد في ذكره ذكر حمار ثم يقول: يا بني سليم يا أولاد كذا وكذا هذا لواؤكم. فأجابهم إلى ذلك، فاستوثق من سعيد وابنيه وقتل السكسكي وسلم الحبشي إلى بني سليم فقطعوا ذكره وأنفه ومثلوا به. فلما فرغ من حمص سارنحو الضحاك الخارجي. وقيل: إن سليمان بن هشام لما انهزم بخساف أقبل هارباً حتى صار إلى عبد الله بن عمر بن عبد العزيز بالعراق فخرج معه إلى الضحاك فبايعه وحرض على مروان؛ فقال بعض شعرائهم: ألم تر الله أظهر دينه ... وصلت قريش خلف بكر بن وائل فلما رأى النضر بن سعيد الحرشي، وكان قد ولي العراق، على ما نذكره إن شاء الله، ذلك علم أنه لا طاقة له بعبد الله بن عمر، فسار إلى مروان، فلما كان بالقادسية خرج إليه ابن ملجان، خليفة الضحاك بالكوفة، فقاتله، فقتله النضر، واستعمل الضحاك على الكوفة المثنى بن عمران العائذي. ثم سار الضحاك في ذي القعدة إلى الموصل، وأقبل ابن هبيرة حتى نزل بعين التمر، فسار إليه المثنى بن عمران فاتتلوا أياماً، فقتل المثنى وعدة من قواد الضحاك وانهزمت الخوارج ومعهم منصور بن جمهور وأتوا الكوفة فجمعوا من بها منهم وساروا نحو ابن هبيرة فلقوه، فقاتلهم أياماً وانهزمت الخوارج، وأتى ابن هبيرة إلى الككوفة وسار إلى واسط، ولما بلغ الضحاك ما لقي أصحابه أرسل عبيدة بن سوار التغلبي إليهم فنزل الصراة، فرجع ابن هبيرة إلهم فالتقوا بالصراة؛ وسيرد خبر خروج الضحاك بعدها إن شار الله تعالى. الحرشي بفتح الحاء المهملة، وبالشين المعجمة. ذكر خروج الضحاك محكماً وفي هذه السنة خرج الضحاك بن قيس الشيباني محكماً ودخل الكوفة. وكان سبب ذلك أن الوليد حين قتل خرج بالجزية حوري يقال له سعيد بن بهدل الشيباني في مائتي من أهل الجزيرة فيهم الضحاك، فاغتنم قتل الوليد واشتغال مروان بالشام فخرج بأرض كفرتوثا، وخرج بسطام البيهي، وهو مفارق لرأيه، في مثل عدتهم من ربيعة، فسار كل واحد منهما إلى صاحبه، فلما تقاربا أرسل سعيد بن بهدل الخيبري، وهو أحد قواده في مائة وخمسين فارساً، فأتاهم وهم غارون، فقتلوا فيهم وقتلوا بسطاماً وجميع من معه إلا أربعة عشر رجلاً، ثم مضى سعيد بن بهدل إلى العراق لما بلغه أن الاختلاف بها، فمات سعيد بن بهدل في الطريق واستخلف الضحاك بن قيس، فبايعه الشراة، فأتى أرض الموصل ثم شهرزو، واجتمعت إليه الصفرية حتى صار في أربعة آلاف.
وهلك يزيد بن الوليد وعامله على العراق عبد الله بن عمر بن عبد العزيز ومروان بالحيرة، فكتب مروان إلى النضر بن سعد الحرشي وهو أحد قواد ابن عمر بولاية العراق، فلم يسلم ابن عمر إليه العمل، فشخص النضر إلى الكوفة وبقي ابن عمر بالحيرة، فتحاربا أربعة أشهر، وأمد مروان النضر بابن الغزيل، واجتمعت المضرية مع النضر عصيبة لمروزان حيث طلب بدم الوليد، وكانت أم الوليد قيسية من مضر، وكان أهل اليمن مع ابن عمر عصيبة له حيث كانوا مع يزيد في قتل الوليد حين أسلم خالداً القسري إلى يوسف فقتله.فلما سمع الضحاك باختلافهم أقبل نحوهم وقصد العراق سنة سبع وعشرين، فأرسل ابن عمر إلى النضر: إن هذا لا يريد غيري وغيرك فهلم نجتمع عليه. فتعاقدا عليه واجتماعا بالكوفة وكان كل منهما يصلي بأصحابه. وأقبل الضحاك فنزل بالنخيلة في رجب واستراح، ثم اتعدوا للقتال يوم الخميس من غد يوم نزلوه فاقتتلوا قتالاً شديداً، فكشفوا ابن عمر وقتلوا أخاه عاصماً وجعفر ابن العابس الكندي أخا عبيد الله، ودخل ابن عمر خندقه وبقي الخوارج عليهم إلى الليل ثم انصرفوا ثم اقتتلوا يوم الجمعة، فانهزم أصحاب ابن عمر فدخلوا خنادقهم، فلما أصبحوا يوم السبت تسلل أصحابه نحو واسط ورأوا قوماً لم يروا أشد بأساً منهم. وكان ممن لحق بواسط النضر بن سعيد الحرشي، وإسماعيل بن عبد الله القسري أخو خالد، ومنصور بن جمهور، والأصبغ بن ذؤالة، وغيرهم من الوجوه، وبقي ابن عمر فيمن عنده من أصحابه لم يبرح، فقال له أصحابه: قد هرب الناس فعلام تقيم؟ فبقي يومين لا يرى إلا هارباً، فرحل عند ذلك إلى واسط واستولى الضحاك على الكوفة ودخلها، ولم يأمنه عبيد الله بن العباس الكندي على نفسه فصار مع الضحاك وبايعه وصار في عسكره؛ فقال أبو عطاء السندي له يعيره باتباعه الضحاك وقد قتل أخاه: فقل لعبيد الله لو كان جعفر ... هو الحي لم يجنح وأنت قتيل ولم يتبع المراق والثار فيهم ... وفي كفه عضب الذباب صقيل إلى معشر ردوا أخالك وأكفروا ... أباك فماذا بعد ذاك تقول فلما بلغ عبيد الله هذا البيت من قول أبي عطاء قال: أقوةل عض بيظر أمك: فلا وصلتك الرحم من ذي قرابة ... وطالب وتر والذليل ذليل تركت أخا شيبان يسلب بزه ... ونجاك خوار العنان مطول ووصل ابن عمر إلى واسط فنزل بدار الحجاج بن يوسف. وعادت الحرب بين عبد الله والنضر إلى ما كانت عليه قبل الضحاك إلى النضر يطلب أن يسلم إليه ابن عمر ولاية العراق بعهد مروان له، وابن عمر يمتنع، وسار الضحاك من الكوفة إلى واسط واستخلف ملجان الشيباني، ونزل الضحاك باب المضمار. فلما رأى ذلك ابن عمر والنضر تركا الحر بينهما واتفقا على قتل الضحاك، فلم يزالوا على ذلك شعبان وشهر رمضان وشوال والقتال بينهم متواصل. ثم إن منصور بن جمهور قال لابن عمر: ما رأيت مثل هؤلاء! فلم تحاربهم وتشغلهم عن مروان؟ أعطهم الرضا واجعلهم بينك وبين مروان فإنهم يرجعون عنا إليه ويوسعونه شراً،فإن ظفروا به كان ما أردت وكنت عندهم آمناً، وإن ظفر بهم وأردت خلافه وقتاله قاتلته وأنت مستريح. فقال ابن عمر: لا عجل حتى ننظر. فلحق بهم منصور، وناداهم: إني أريد أن أسلم وأسمع كلام الله وهي حجتهم؛ فدخل إليهم وبايعهم. ثم إن عبد الله بن عمر بن العزيز خرج إليهم في شوال فصالحهم وبايع الضحاك ومعه سليمان بن هشام بن عبد الملك. ذكر خلع أبي الخطار أمير الأندلس وإمارة ثوابةوفي هذه السنة خلع أهل الأندلس أبا الخطار الحسام بن ضرار أميرهم. وسبب ذلك أنه لما قددم الأندلس أميراً أظهر العصبية لليمانية على المضربة، فاتفق ف بعض الأيام أنه اختصم رجل من كنانة ورجل من غسان، فاستعان الكناني بالصميل بن حاتم بن ذي الجوشن الضبابي، فكلم فيه أبا الخطار، فاسغلظ له أبو الخطار، فأجابه الصميل، فامر به فأقيم وضرب قفاه، فمالت عمامته، فملا خرج قيل له: نرى عمامتك مالت! فقال: إن كان لي قوم فسيقيمونها.
وكان الصميل من أشراف مضر، فلما دخل الأندلس مع بلج شرف فيها بنفسه وأوليته. فلما جرى له ما ذكرناه جمع قومه وأعلمهم، فقالوا له: نحن تبع لك. أريد أن أخرج أبا الخطار من الأندلس. فقال له بعض أصحابه: افعل واستعن بمن شئت ولا تسعن بأبي عطاء القيسي، وكان من أشراف قيس، وكان ينظر الصميل في الرياسة وبجسده. وقال له غيره: الرأي أنك تأتي أبا عطاء وتشد أمرك به فإنه تحركه الحمية وينصرك، وإن تركته مال إلى أبي الخطار وأعانه عليك ليبلغ فيك ما يريد، والرأي أيضاً أن تستعين عليه بأهل اليمن فضلاً عن معد. ففعل ذلك وسار من ليلته إلى أبي عطاء، وكان يسكن مدينة إستجة، فعظمه أبو عطاء وسأله عن سبب قدومه، فاعلمه يكلمه حتى قام فركب فرسه ولبس سلاحه وقال له: انهض الآن حيث شئت فأنا معك، وأمر أهله وأصحابه باتباعه، فساروا إلى مرو، وبها ثوابة بن سلامة الحداني، وكان مطاعاً في قومه، وكان أبو الخطار قد اسعمله على إشبيليةوغيرها، ثم عزله ففسد عليه، فدعاه الصميل إلى نصره ووعده أنه إذا أخرجوا أبا الخطار صار أميراً، فاجاب إلى نصره ودعا قومه فإجابوه فساروا إلى شدونة. وسار إيهم أبو الخطار من قرطبة واستخلف بها إنساناً، فالتقوا واقتتلوا في رجب من هذه السنة، وصبر الفريقان ثم وقعت الهزيمة على أبي الخطار وقتل أصحابه أشد قتل واسر أبو الخطار وكان بقرطبة أمية بنعبد الملك ابن قطن، فاخرج منها خليفة أبي الخطار وانتهت ما وجد لهما فيها. ولما انهزم أبو الخطار سار ثوابة بن سلامة والصميل إلى قرطبة فملكاها، واستقر ثوابة في الإمارة فثار به عبد الرحمن بن حسان الكلبي وأخرج أبا الخطار من السجن، فاستجاش اليمانية، فاجتمع له خلق كثير، وأقبل بهم إلى قرطبة، وخرج إليه ثوابة فيمن معه من اليمانية والمضربة مع الصميل. فلما تقاتل الطائفتان نادى رجل من مضر: يا معشر اليمانية! ما بالك تتعرضون للحرب على أبي الخطار وقد جعلنا الأمير منكم؟ يعني ثوابة، فإنه من اليمن، وول أن الأمير منا لقد كنتم تعتذرون في قتالهم لنا، وما تقول هذا إلا تحرجاً من الدماء ورغبة في العافية للعامة. فملا سمع الناس كلامه قالا: صد والله، الأمير منا فلما بالنا نقالتل قومنا؟ فتركوا القتال وافترق الناس، فهرب أبو الخطار فلحق باجة، ورجع ثوابة إلى قرطبة، فسمي ذلك العسكر عسكر العافية ذكر شيعة بني العباسفي هذه السنة توجه سليمان بن كثير ولا هز بن قريظ وقجطبة إلى مكة فلقوا إبارهيم بن محمد الإمام بها وأوصلوا إلى مولى له عشريمن ألف دينار ومائتي أف درهم وسمكاً ومتاعاً كثيراً، وكان معهم أبو سملم، فقال سليمان لإبراهيم: هذا مولاك. وفيها كتب بكير بن ماهان إلى إبراهيم الإمام أنه في الموت وأنه قد استخلف أبا سلمة حفص بن سليمان، وهو رضى للأمر، فكتب إبراهيم لأبي سلمة يأمره بالقايم بأمر أصحابه وكتب إلى أهل خراسان يخبرهم أنه قد أسند أمرهم إليه، ومضى أبو سلمة إلى خراسان، فصدقوه وقبلةوا أمره ودفعوا إليه ما اجتمع عندهم من نفقات الشيعة وخمس أموالهم. ذكر عدة حوادثوحج بالناس هذه السنة عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز، وهو عامل مروان علاى مكةوالمدينة والطائف، وكان العامل على العراق النضر بن الحرشي، وكان من أمره وأمر ابن عمر والضحاك الخارجي ما ذكرناه. وكان بخراسان نصر بن سيار، وبها من ينازعه فيها المركاني والحارث بن سريج. وفيها مات سويد بن غفلة، وقيل سنة إحدى وثلاثين، وقيل سنة اثنتين وثلاثين، وعمره مائة وعشرون سنة، وعبد الكريم بن مالك الجزري، وقيل غير ذلك، وفيها مات أبو حصين عثمان بن حصين الأسدي الكوفي؛ حصين بفتح الححاء، وكسر الصاد. وفيها مات أبو إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي الهمداني، وقيل سنتة ثمان وعشرين، وعمره مائة سنمة؛ السبيعي بفتح السين، وكسر الباء. وفيها توفي عبد الله بن دينار، وقيل سنة ست وثلاثين. وفيها مات محمد ابن واسع الأزدي البصري، وكنيته أبو بكر. وداود بن أبي هند، واسم أبي هند يدينار مولى بني قشير أبو محمد. وفيها توفي أبو بحر عبد الله بن إسحاق مولى الخضر، وكان إماماً في النحو واللغة، تعلم ذلك من يحيى بن النعمان، وكان يعيب الفرزدق في شعره وينسبه إلى للحن، فهجاه الفرزدق يقول:
فلو كان عبد الله مولى هجوته ... ولكن عبد الله مولى موالياً فقال له أبو عبد الله : لقد لحنت أيضاً في قولك موالياً، ينبغي أن تقول: مولى موالٍ ثم دخلت سنة ثمان وعشرين ومائة ذكر قتل الحارث سريج وغلبه الكرماني على مرو قد تقدم ذكر أمان يزيد بن الوليد للحارث بن سريج وعوده من بلاد المشركين إلى بلاد الإسلام وا كان وبين نصر من الاختلاف. فلما ولي ابن هبيرة العراق كتب إلى نصر بعهده على خراسان فبايع لمروان بن محمد، فقال الحارث: إنما آمنتني يزيد ولم يؤمني مروان، ولا يجيز مروان أمان يزيد، فلا أمنه. فخاف نصراً.فأرسل إليه نصر يدعوه إلى الجماعة وينهاه عن الفرقة وإكماع العدو، فلم يجبه إلى ما أراد وخرج فعسكر، وأرسل إلى نصر: اجعل الأمر شورى، فأبى نصر، وأمر الحارث جهم بن صفوان، رأس الجهمية، وهو مولى راسب، أن يقرأ سيرته وما يدعوه إليه على الناس. فلما سمعوا ذلك كثروا وكثر جماع، وأرسل الحارث إلى نصر ليعزل سالم بن أحوز عن شرطته وبغير عماله ويقر الأمر بينهما أن يختاروا رجالاً يسمون لهم قوماً يعملون بكتاب الله، فاختار نصر مقاتل بن سليمان ومقاتل ابن حيان، واختار الحارث المغيرة بن شعبة الجهضمي ومعاذ بن جبلة، وأمر نصر كابه أن يكتب ما يرضي هؤلاء الأربعة من السنن وما يختارونه من العمال فيوليهم ثغر سمر قند وطخارستان، وكان الحارث يظهر أنه صاحب الرايات الود. فأرسل إليه نصر: إن كنت تزعم أنكم تهدمون سور دمشق وتزيلون ملك بني أمية فخذ مني خمسمائة رأس ومائتي بعير واحمل من الأموال ماشئت وآلة الحرب وسر، فلعمري لئن كنت صاحب ما ذكرت إني لفي يدك، وغن كنت لست ذلك فقد أهلكت عشيرتك. فقال الحارث: قد علمت أن هذا حق ولكن لا يبايعني عليه من صحبني. فقال نصر: فقد ظهر أنهم ليسوا على رأيك، فاذكر الله في عشرين الفا من ربعة واليمن يهلكون فيما بينكم. وعرض عليه نصر أن يوليه ما وراء النهر ويعطيه ثلاثمائة ألف، فلم يقبل، فقال له نصر:فابدأ بالكرماني فإن قتلته فأنا في طاعتك. فلم يقبل. ثم تراضيا بأن جكما جهم بن صفوان ومقاتل بن حيان، فحكما بأن يعتزل نصر وأن يكون الأمر شورى، فلم يقبل نصر. فخالفه الحارث واتهم نصر قوماً من أصحابه أنهم كاتبوا الحارث فاعتذروا إليه فقبل عذرهم. وقدم عليه جمع من أهل خراسان حين سمعوا بالفتنة، منهم: عاصم بن عمير الصريمي، وأبو الذيال الناجي، ومسلم بن عبد الرحمن وغيرهم، وأمر الحارث أن تقرأ سيرته في الأسواق والمساجد وعلى باب نصر، فقرئت، فأتاه حلق كثير، وقرأها رجل على باب نصر، فضربه غلمان نصر، فنابذهم الحارث وتجهزوا للحرب، ودل رجل من أهل مرو الحارث على نقب في سورها،فمضى الحارث إليه فنقبه ودخل المدينة من ناحية باب بالين، فقاتلهم جهم ابن مسعود الناجي فقتل جهم وانهبوا منزل سالم بن أحوز وقتلوا من كان يحرس باب بالين، وذلك يوم الاثنين لليلتين بقيتا من جمادى الآخرة. وعدل الحارث في سكة السعد فرأى أعين مولى حيان، فقاتله فقتل أعين. وكب سالم حين أصبح وأمر منادياً فنادى: من جاء برأس فله ثلاثمائة. فلم تطلع الشمس حتى انهزم وقاتلهم الليل كله، وأتى سالم عسك الحارث فقتل كاتبه، واسمه يزيد بن داوود، وقتل الرجل الذي دل الحارث على النقب. وأرسل نصر إلى الكرماني فأتاه على عهد وعنده جماعة، فوقع بين سالم بن أحوز ومقدام بن نعيم كلام، فأغلظ كل واحد منهما لصاحبه، فأعان كل واحد منهما نفر من الحاضرين، فخاف الكرماني أن يكون مكراً من نصر فقام وتعلقوا به فلم يجلس وركب فرسه ورجع وقال: أراد نصر الغدر بي.
وأسر يومئذ جهم بن صفوان، وكان مع الكرماني، فقتل، وأرسل الحارث ابنه حاتماً إلى الكرماني، فقال له محمد بن المثنى: هما عدواك دعهما يضربان. فلما كان الغد ركب الكرماني إلى باب ميدان يزيد فقاتل أصحاب نصر، وأقبل الكرماني إلى باب حرب بن عامر ووجه أصحابه إلى نصر بوم الأربعاء فترموا ثم تحاجزوا، ولم يكن بينهم يوم الخميس قتال، والتقوا يوم الجمعة فانهزمت الأزد وصلوا إلى الكرماني، فأخذ الللواء بيده فقاتل به، وانهزم أصحاب نصر وأخذوا لهم ثمانين فرساً، وصرع تميم بن نصر وأخذوا له برذونين، وسقط سالم بن أحوز فحمل إلى عسكر نصر. فلما كان بعض. فلما كان بعض الليل خرج نصر من مرو، وقتل عصمة بن عبد الله الأسدي، فكان يحمي أصحاب نصر، واقتتلوا ثلاثة أيام، فانهزم أصحاب الكرماني في آخر يوم، وهم الأزدوربيعة، فنادى الخليل بن غزوان: يا معشر ربيعة واليمن قد دخل الحارث السوق وقتل ابن الأقطع! يعني بن سيار، ففت في أعضاد المضرية، وهم أصحاب نصر، فانهزموا، وترجل تميم بن نصر فقاتل. فلما هزمت اليمانية مضراً أرسل الحارث إلى نصر: إن اليمانية يعيرونني بانهزامكم وأنا كاف، فاجعل حماة أصحابك بإزاء الكرماني. فأخذ عليه نصر العهود بذلك. وقدم على نصر عبد الحكيم بن سعد العودي وأبو جعفر عيسى ابن جرز من مكة، فقال نصر لعبد الحكيم العودي، وهم بطن من الأزد: أما ترى ما فعل سفهاء قومك؟ فقال: بل سفهاء قومك طالت ولايتها بولايتك وصيرت الولاية لقومك دون ربيعة واليمن فبطروا، وفي ربيعة واليمن علماء وسفهاء، فغلب السفهاء العلماء. فقال أبو جعفر عيس لنصر: أيها الأمير حسبك من الولاية وهذه الأمور، فإنه قد أظلك أمر عظيم، سيقوم رجل مجهول النسب يظهر السواد ويدعو إلى دولة تكون فيغلب على الأمر وأنتم تنظرون. فقال نصر: ما أشبه أن يكون كما تقول لقلة الوفاء وسء ذات البين! فقال: إن الحارث مقتول مصلوب، وما الكرماني من ذلك ببعيد. فلما خرج نصر من مروغلب عليها الكرماني وخطب الناس فآمنهم وهدم الدور ونهب الأموال، فأنكر الحارث عليه ذلك، فهم الكرماني به ثم تركه. واعتزل بشر بن جرموز الضبي في خمسة آلاف وقال للحارث: إنما قاتلت معك طلب العدل، فأما إذا أنت مع الكرماني فما تقاتل إلا ليقال غلب الحارث، وهؤلاء يقاتلون عصبيةً، فلست مقاتلاً معك، فنحن الفئة العادلة لا نقاتل إلا من يقاتلنا. وأتى الحارث أتى السور فثلم فيه ثلمةً ودخل البلد، وأتى الكرماني يدعوه إلى أن يكون الأمر سورى، فأبى الكرماني، فانتقل الحارث عنه وأقاموا أياماً. ثم إن الحارث أتى السور فثلم فيه ثلمةً ودخل البلد، وأتى الكرماني فاقتتلوا فاشتد القتال بينهم، فانهزم الحارث وقتلوا مابين اثلمة وعسكرهم والحارث على بغل، فانزل عنه وركب فرساً وبقي في مائة، فقتل عند شجرة زيتون أو غبيراء، وقتل أخوه سوادة وغيرهما. وقيل: كان سبب قتله أن الكرماني خرج إلى بشر بن جرموز، الذي ذكرنا اعتزاله، ومعه الحارث بن سريج، فأقام الكرماني أياماً بينه وبين عسكر بشر فرسخان، ثم قرب منه ليقاتله، فندم الحارث على اتباع الكرماني وقال: لا تعجل إلى قتالهم فأنا أردهم عليك. فخرج في عشرةفوارس، فاتى عسكر بشر فأقام معهم، وخرج المضرية أصحاب الحارثمن عسكر الكرماني إليه، فلم يبق مع الكرماني مضري غير سلمة بن أبي عبد الله: فإنه قال: لم أر الحارث من عسكر الكرماني إليه، فلم يبق مع الكرماني مضري غي سلمة بن أبي عبد الله: فإنه قال: لم أر الحارث إلا غادراً. وغير المهلب بن إياس فإنه قال: لم أر الحارث قط إلا في خيل تطرد، فقاتلهم الكرماني مراراً يقتتلون ثم يرجعون إلى خنادقهم مرة لهؤلاء ومرة لهؤلاء. ثم إن الحارث ارتحل بعد أيام فنقب سور مرو ودخلها وتبعه الكرماني فدخلها أيضاً، فقالت المضرية للحارث: تركنا الخنادق فهو يومنا وقد فررت غير مرة فترجل. فقال: أنا لكم فارساً خير مني لكم راجلاً. فقالوا: لا نرضى إلا أن تترجل، وترجل فاقتتلوا هم والكرماني، فقتل الحارث وأخوه وبشر بن جرموز وعدة من فرسان تميم وانهزم الباقون وصفت مرو لليمن،هدموا دور المضرية فقال نصر بن سيار للحارث حين قتل، شعر. يا مدخل الذل على قومه ... بعداً وسحقاً لك من هالك شؤمك أردى مضراً كلها ... وحز من قومك بالحارك
ما كانت الأزد وأشياعها ... تطمع في عمرو ولا مالك ولا بني سعدٍ إذا ألجموا ... كل طمر لونه حالك عمرو ومالك وسعد بطون من تميم. وقيلك بل قال هذه الأبيات نصر لعثمان بن صدقة وقالت أم كثير الضبية، شعر: لابارك الله في أنثى وعذبها ... تزوجت مضرياً آخر الدهر أبلغ رجال تميمٍ قول موجعةٍ ... أحللتموها بدار الذل والفقر إن أنتم لم تكروا بعد جولتكم ... حتى تعبدوا رجال الأزد في الظهر إني استحيت لكم من بعد طاعتكم ... هذا المزوني يجبيكم على قهر ذكر شيعة بني العباسوفي هذه السنة وجه إبراهيم الإمام أبا مسلم الخراساني، واسمه عبد الرحمن بن مسلم، إلى خراسان، وعمره تسع عشرة سنة، وكتب إلى أصحابه: غني قد أمرته بأمري فاسمعوا له وأطيعوا، فإني قد أمرته على خراسان وما غلب عليه بعد ذلك. فأتاهم، فلم يقبلوا قوله وخرجوا من قابل فالتقوا بمكة عند إبراهيم، فأعلمه أبو سملم أنهم لم ينفذوا كتابه وأمره. فقال إبراهيم قد عرضت هذا الأمر على غير واحد وأبوه علي. وكان قد عرضه على سليمان بن كثير، فقال: لا ألي على اثنين أبداً. ثم عرضه على إبراهيم بن سلمة فأبى، فأعلمهم أنه قد أجمع رأيه على أبي مسلم، وأمرهم بالسمع والطاعة له، ثم قال له: إنك رجل منا أهل البيت، احفظ وصيتي، انظر هذا الحي من اليمن فالزمهم واسكن بين أظهرهم، فإن الله لا يتم هذا الأمر إلا بهم، فاتهم ربيعة في أمرهم، وأما مضر فإنهم العدو القريب الدار، واقتل من شككت فيه، وإن استطعت أن لا تدع بخراسان من يتكلم بلعربية فافعل، وأيما غلام بلغ خمسة أشبار تتهمه فاقتله، ولا تخالف هذا الشيخ، يعني سليمان بن كثير، ولا تعصه، وإذا أشكل عليك أمر فاكتف به مني. وسيرد من خبر أبي مسلم غير هذا إن شاء الله تعالى. ذكر قتل الضحاك الخارجيقد ذكرنا محاصرة الضحاك بن قيس الخارجي عبد الله بن عمر بن عبد العزيز بواسط، فلما طال عليه الحصار أشير عليه بأن يدفعه عن نفسه إلى مروان، فارسل ابن عمر إليه: إن مقامكم على ليس يسيء، هذا مروان فسيروا إليه فإن قتلته فأنا معك. فصالحه وخرج إليه وصلى خلفه، فانصرف إلى الكوفة، وأقام ابن عمر بواسط، وكاتب أهل الموصل الضحاك ليقدم عليهم لمكنوه منها، فسار في جماعة من جنوده بعد عشرين شهراً حتى انتهى إليها، وعليها يومئذ لمروان رجل من بني شيبان يقال له القطران بن أكمة، ففتح أهل الموصل البلد، فدخله الضجحاك وقاتلهم القطران ومن معه من أهله وهم عدة يسيرة حتى قتلوا، واستولى الضحاك على الموصل وكورها. وبلغ مروان خبره وهو محاصر حمص مشتغل بقتال أهلها، فكتب إلى ابنه عبد الله، وهو خليفته بالجزيرة، يأمره أن يسير إلى نصيبين في من معه يمنع الضحاك عن توسط الجزيرة، فسار إليها في سبعة آلاف أو ثمانية آلاف، وسار الضحاك إلى نصيبين فحصر عبد الله فيها، وكان مع الضحاك ما زيدي على مائة ألف، ووجه قائدين من قواده إلى الرقة في أربعة آلاف أو خمسة آلاف، فقاتله من بها، فوجه إلهيم مروان من رحلهم عنها ثم إن مروان سار إلى الضحاك فالتقوا بنواحي كفرتوثا من أعمال مارين فقاتله يومه أجمع فملا كان عند لمساء ترجل الضحاك ومعه من ذوي الثبات وأرباب البصائر نحو من ستة آلاف، ولم يعلم أكثر أهل عسكره بما كان، فأحدقت بهم خيول مروان وألحوا عليهم في القتال حتى قتلوهم عند العتمة، وانصرف من بقي من أصحاب الضحاك عند العتمة إلى عسكرهم ولم يعلموا بقتل الضحاك ولم يعلم به مروان أيضاً. وجاء بعض من عاينه إلى أصحابه فأخبرهم، فبكوا وناحوا عليه، وخرج قائد من قواده إلى مروان فأخبره، فأرسل معه النيران والشمع فطافوا عليه فوجدوه قتيلا وفي وجهه وفي رأسه أكثر من عشرين ضربة، فكبروا، فعرف عسكر الضحاك أنهم قد علموا بقتله، وبعث مروان رأسه إلى مدائن الجزيرة فطيف به فيها. وقيل: إن الضحاك والخيبري إنما قتلا سنة تسع وعشرين. ذكر قتل الخيبري وولاية شيبانولما قتل الضحاك أصبح أهل عسكره فبايعوا الخيبري واقاموا يومئذ وغادوه القتال من بعد الغد وصافوه وصافهم، وكان سليمان بن شهشام بن عبد الملك مع الخيبري، وكان قبله مع الضحاك. وقد ذكرنا سبب قدومه.
وقيل: بل قدم على الضحاك وهو بنصيبين في أكثر من ثلاثة آلاف من أهل بيته ومواليه، فتزوج أخت شيبان الحروري الذي بويع بعد قتل الخيبري، فحمل الخيبري على مروان في نحو من أربعمائة فارس من الشراة، فهزم مروان، وهو في القلب، وخرج مروان من العسكر منهزماً، ودخل الخيبري ومن معه عسكره ينادون بشعارهم ويقتلون من أدركوا حتى انتهوا إلى خيمة مروان نفسه فقطعوا أطنابها، وجلس الخيبري على فرشه. وميمنة مروان وعليها ابنه عبد الله ثابتة، وميسرته ثابتة، وعليها إسحاق بن مسلم العقيلي، فملا رأى أهل العسكر قلة من مع الخيبري ثار إليه عبيدهم بهمد الخيم فتلوا الخيبري وأصحابه جميعاً في خيمة مروان وحولها. وبلغ مروان الخبر وقد جاز العسكر بخمسة أميال أو ستة منهزماً، فانصرف إلى عسكره ورد خيوله عن مواقعها وبات ليلته في عسكره، وانصرف أهل عسكر الخيبري فولوا عليهم شيبان وبايعوه، فقاتلهم مروان بعد ذلم بالكراديس وأبطل الصف منذ يومئذ ذكر خبر أبي حمزة الخارجي مع طالب الحقكان اسم أبي حمزة الخارجي المختار بن عوف الأزدي السلمي البصري، وكان أول مرة أنه كان من الخوارج الإباضية، يوافي كل سنة مكة يدعو الناس إلى خلاف مروان بن محمد، فلم يزل كذلك حتى وافى عبد الله بن يحيى المعروف بطالب الحق في آخر سنة ثمان وعشرين، فقال له: يا رجل أسمع كلاماً حسناً وأراك تدعوا إلى حق، فانطلق معي فإني رجل مطاع في قومه. فخرج حتى ورد حضرموت، فبايعه أو حمزة على الخلافة ودعا إلى خلاف مروان وآل مروان. وكان أبو حمزة اجتاز مرة بمعدن بني سليم، والعامل عليه كثير بن عبد الله ، فسمع كلام أبي حمزة فجلده أربعين سوطاً، فلما ملك أبو حمزة المدينة وافتتحها تغيب كثير حتى كان من أمرهما ما كان. ذكر عدة حوادثفي هذه السنة سير مروان يزيد بن هبيرة إلى العراق لقتال من به من الخوارج في قول. وحج بالناس في هذه السنة عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز، وهو عامل مكة والمدينة. وكان بالعراق عمال الضحاك الخارجي وعبد الله بن عمر بن عبد العزيز، وعلى قضاء البصرة ثمامة بن عبد الله بن أنس، وبخراسان نصر بن سيار والفتنة بها قائمة. وفيه مات عاصم بن أبي النجود صاحب القراءات. ويعقوب بت عتبة بن المغيرة بن الأخنس الثقفي المدني. وفيها توفي جابر بن يزيد الجعفي، وكان من غلاة الشيعة يقول بالرجعة..وفيها مات محمد بن مسلم بن تدروس أبو الزبير المكي. وجامع بن شداد. وأبو قبيل المعافري واسمه حيي بن هانئ المضرب؛ قبيل بفتح القاف، وكسر الباء الموحدة. وسعيد بن مسروق الثوري والد سفيان، وكان ثقة في الحديث. ثمم دخلت سنة تسع وعشرين ومائة ذكر شيبان الحروري إلى أن قتل وهو شيبان بن عبد العزيز أبو الدلف اليشكري. وكان سبب هلاكه أن الخوارج لما بايعوه يعد قتل الخيبري أقام يقاتل مروان، وتفرق عن شيبان كثير من أصحاب الطمع، فبقي في نحو أربعين ألفاً، فأشار عليهم سليمان بن هشام أن ينصرفوا إلى الموصل فيجعلوها ظهرهم، فارتحلوا وتبعهم مروان حتى انتهوا إلى الموصل، فعسكروا شرقي دجلة وعقدوا جسوراً عليها من عسكرهم إلى المدينة، فكانت ميرتهم ومرافقهم منها، وخندق مروان بإزائهم، وكان الخوارج قد نزلوا بالكار ومروان بخصة، وكان أهل الموصل يقاتلون مع الخوارج، فأقام مروان ستة أشهر يقاتلهلم، وقيل تسعة أشهر. وأتي مروان بابن أخ لسليمان بن هشام يقال له أمية بن معاوية بن هشام، وكان مع عمه سليمان في عسكر شيبان أسيراً، فقطع يديه وضرب عنقه، وعمه ينظر إليه. وكتب مروان إلى يزيد بن عمر بن هبيرة يأمره بالمسير من قرقيسيا بجميع من معه إلى العراق، وعلى الكوفة المثنى بن عمران العائذي، عائذة قريش، وهو خليفة للخوارج بالعراق، فلقي ابن هبيرة بعين التمر فاقتتلوا قتالاً شديداً وانصرفت الخوارج ثم اجتمعوا بالكوفة بالنخيلة، فهزمهم ابن هبيرة. ثم اجتمعوا بالبصرة، فأرسل سيبان إليهم عبيدة بن سوار في خيل عظيمة، فالتقوا بالبصرة، فانهزمت الخوارج وقتل عبيدة، واستباح ابن هبيرة عسكرهم فلم يكن لهم همة بالعراق، واستولى ابن هبيرة على العراق.
وكان منصور بن جمهور مع الخوارج فانهزم وغلب علا الماهين وعلى الجبل أجمع، وسار ابن هبيرة إلى واسط فأخذ ابن عمر فحبسه، ووجه نباتة بن حنظلة إلى سليمان بن حبيب، وهو على كور الأهواز، فسمع سليمان الخبر فأرسل إلى نباتة داو بن حاتم، فالتقوا بالمرتان على شاطئ دجيل، فانهزم الناس وقتل داود بن حاتم. وكتب مروان إلى ابن هبيرة لما استولى على العراق يأمره بإرسال عامر بن ضبارة المي إليه فسيره في سبعة آلاف أو ثمانية آلاف، فبلغ شيبان خبره فأرسل الجون بن كلاب الخارجي في جمع، فلقوا عامراً بالسن فهزموه ومن معه، فجدخل السن وتحصن فيه، وجعل مروان يمده بالجنود على طريق البر حتى ينتهوا إلى السن، فكثر جمع عامر. وكان منصور بن جمهور يمد شيبان من الجبل بالأموال، فلما كثر من مع عامر نهض إلى الجون والخوارج فقاتلهم فهزمهم، وقتل الجون، وسار ابن ضبارة مصعداً إلى الموصل. فلما انتهى خبر قتل الجون إلى سيبان ومسير عامر نحوه كره أن يقيم بين العسكرين فارتحل بمن معه من الخوارج، وقدم عامر على مروان بالموصل، فسيره في جمع كثير في أثر شيبان، فإن أقام أقام، وإن سار سار، وأن لا يبداه قتال، فإن قاتله شيبان قاتله، وإن أمسك أمسك عنه، وإن ارتحل ابتعه. فكان على ذلك حتى مر على الجبل وخرج على بيضاء فارس وبها عبد الله بن معاوية بن حبيب بن حعفر في جموعكثيرة، فلم يتهيأ الأمر بينهما، فسار حتى نزل ججيرفت من كرمان، وأقبل عامر بن ضبارة حتى نزل بإزاء ابن معاوية أياماً، ثم ناهضه وقاتله، فانهزم ابن معاوية فلحق بهراة، وسار ابن ضبارة بمن معه فلقي شيبان بجيرفت فاقتلوا قتالاً شديداً فانهزمت الخوارج واستبيح عسكرهم، ومضى شيبان إلى سجستان فهلك بها، وذلك في سنة ثلاثين ومائة. وقيل: بل كان قتال مروان وسيبان على الموصل مقدار شهر ثم انهزم شيبان حتى لحق بفارس وعامر بن ضبارة يتبعه، وسار شيبان إلى جزيرة ابن كاوان، ثم خرج منها إلى عمان، فقتله جلندى بن مسعود بن جيفر بن جلندي الأزدي سنة أربع وثلاثين ومائة؛ ونذكره هناك إن شاء الله تعالى. وركب سليمان ومن معه من أهله ومواليه السفن إلى السند. ولما ولي السفاح الخلافة حضر عنده سليمان، فأكرمه وأعطاه يده فقلبها فلما رأى ذلك سديف مولى السفاح أقبل عليه وقال: لا يغرنك ما ترى من رجال ... إن تحت الضلوع داءً دوياً فضع السيف وارفع السوط حتى ... لا ترى فو ظهرها أموياً فأقبل عليه سليمان، وقال: قتلتني أيها الشيخ! وقام السفاح فدخل، فأخذ سليمان فقتل. وانصرف مروان بعد مسير شيبان عن الموصل إلى منزله بحران فأقام بها حتى سار إلى الزاب. ذكر إظهار الدعوة العباسية بخراسانوفي هذه السنة شخص أبو سملم الخراساني من خراسان إلى إبراهيم الإمام، وكان يختلف منه إلى خراسان ويعود إليه. فلما كانت هذه السنة كتب إبراهيم إلى أبي مسلم يستدعيه ليسأله عن أخبار الناس، فسار نحوه في النصف من مادى الآخرة مع سبعين نفساً من النقباء، فلما صاروا بالدنانقان من أرض خاسان عرض له كامل، فسأله عن مقصده، فقال: الحج، ثم خلا به أبو مسلم فدعاه فأجابه؛ ثم سار أبو مسلم إلى نسا، وعاملهم سليمان بن قيس السلمي لنصر بن سيار، فلما قرب منها ارسل الفضل بن سليمان الطوسي إلى أسيد بن عبد الله الخزاعي ليعلمه قدومه، فدخل قرية من قرى نسا فلقي رجلاً من الشيعة فسأله عن أسيد، فانتهره وقال له: إنه كان في هذه القرية شاً، سعى إلى العامل برجلين قيل إنهما داعيان؛ فأخذهما وأخذ الأحجم بن عبد الله وغيلان بن فضالة وغالب بن سعيد وهاجر ابن عثمان، فانصرف الفضل إلى أبي مسلم وأخبره، فتنكب الطريق، وأرسل طرخان الحمال يستدعي أسيداً ومن قدر عليه من الشيعة، فدعا له أسيداً، فأتاه، فسأله عن الأخبار، فقال: قدم الأزهر بن شعيب وعبد الملك بن سعد بكتب الإمام إليك فخلفا الكتب عندي وخرجا فأخذوا فلا أدري من سعى بهما. قال: فأين الكتب؟ فأتاه بها. ثم سار حتى أتى قومس وعليها بن بديل العجلي، فأتاهم بيهس فقال: أينتريدون؟ قالوا: الحج، وأتاه هو بقومس كتاب إبراهيم الإمام إليه وإلى سليمان بن كثير يقول لأبي مسلم فيه: إني قد بعثت إليك براية النصر، فارجع من حيث لقيك كتابي ووجه إلي قحطبة بما معك يوافني به في الموسم.
فامصرف أبو مسلم إلى خراسان ووجه قحطبة إلى الإمام بما معه من الأموال والعروض، فلما كانوا بنيسابور عرض لهم صاحب المسلحة فسألهم عن حالهم، فقالوا: اردنا الحج فبلغنا عن الطريق شيء خفناه. فأمر المفضل بن السرقي السلمي بإزعاجهم، فخلا به أبو مسلم وعرض عليه أمرهم فأجابه، وأقام عندهم حتى ارتحلوا على مهل. فقدم أبو مسلم مرو فدفه كتاب الإمام إلى سليمان بن كثير يأمره فيه بإظهار الدعوة، فنصبوا أبا مسلم وقالوا: رجل من أهل البيت، ودعوا إلى طاعة بني العباس، وأرسلوا إلى من قرب منهم أو بعد ممن أجابهم، فأمروه بإظهار أمرهم والدعاء إليهم. فنزل أبو مسلم قرية من قرى مرو يقال لها فنين على أبي الحكم عيسى ابن أعين النقيب، ووجه منها أبا داود النقيب ومعه عمرو بن أعين إلى طخارستنا فما دون بلخ فأمرهما بإظهار الدعوة في شهر رمضان، وكان نزلوه في هذهالقرية في شعبان ووجه نصر بن صبيح التميمي وشريك إلى الطالقان. ووجه الجهم بن عطية إلى العلاء بن حريث بخوارزم بإظهار الدعوة في رمضان لخمس بقين منه، فإن أعجلهم عدوهم دون الوقت بالأذى والمكروه فقد حل لهم أن يدفعوا عن أنفسهم ويجردوا السيوف ويجاهدوا أعداء الله، ومن شغله منهم عدوهم عن الوقت فلا حرج عليهم أن يظهروا بعد الوقت. ثم تحول أبو مسلم من عند أبي الحكم فنزل قرية سفيذنج، فنزل على سليمان بن كثير الخزاعي لليلتين خلتا من رمضان، والكرماني وسيبان يقاتلان نصر بن سيار، فبص ملمسم دعاته في الناس وأظهر أمره، فأتاه في ليلة واحدة أهل ستين قرية، فما كان ليلة الخميس لخمس بقين من رمضان من السنة عقد اللواء الذي بعث به الإمام الذي يدعى الظل على رمح طوله أربعة عشر ذراعاً، وعقد الراية التي بعث بها إليه، وهي التي تدعى السحاب، على رمح طوله ثلاثة عشر ذراعاً، وهو يتلو: " أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير " الحج:39، ولبسوا السواد هو وسليمان بن كثير وإخوة سليمان ومواليه ومن كان أجاب الدعوة من أهل سفيذنج، وأوقدوا النيران لليلتهم لسيعتهم من سكان ربع خرقا، وكانت علامتهم، فتجمعوا إليه حين أصبحوا معدين، وتأول الظل والسحاب أن السحاب يطبق الأرض وأن الأرض كما لا تخلو من الظل كذلك لا تخلو من خليفة عباسي إلى آخر الدهر. وقدم على أبي مسلم الدعاة بمن أجاب الدعوة، فكان أول من قدم عليه أهل التقادم مع أبي الوضاح في تسعمائة راجل وأربعة فرسان، ومن أهل هرمز قره ججماعة، وقدم أهل التقادم مع أبي القاسم محرز بن إبراهيم الجوباني في ألف وثلاثمائة راجل وستة عشر فارساً، فيهم من الدعاة أبو العباس المروزي. فجعل أهل التقادم يكبرون من ناحيتهم ويجيبهم أهل التقادم بالتكبير، فدخلوا عسكر أبي مسلم بسفيذنج بعد ظهوره بيومين. وحصن أبو سملم حصن سفيذنج ورمه وسد دروبها. فلما حضر عيد الفطر أمر أبو مسلم سليمان بن كثير أن يصلي به وبالشيعة، ونصب له منبراً بالعسكر، وأمره أن يبدأ بالصلاة قبل الخطبة بغير أذان ولا إقامة، وكان بنو أمية يبدأون بالخطبة قبل الصلاة وبالأذان والإقامة، وأمر أبو سملم أيضاً سليمان بن كثير بست تكبيرات تباعاً، ثم يقرأ ويركع بالسابعة ويكبر في الركعة الثانية خمس تكبيرات تباعاً، ثم يقرأ ويركع بالسادسة ويفتح الخطبة بالتكبير ثم يختمها بالقرآن. وكان بنو أمية يكبرون في الولى أربع تكبيرات يوم العيد وفي الثانية ثلاث تكبيرات. فلما قضى سليمان الصلاة انصرف أبو سملم والشيعة إلى طعام قد اعده لهم، فأكلوا مستبشرين. وكان أبو مسلم وهو في الخندق إذا كتب ألى نصر بن سيار كتاباً يكتب: للأمير نصر، فلما قوي أبو مسلم بمن اجتمع إليه بدأ بنفسه، فكتب إلى نصر: أما بعد فإن الله تباركت أسماؤه عير أقواماً في القرآن فقال: " وأقسموا بالله جهد أيمانهم لن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم، فلما جاءهم نذير ما زادهم إلا نفوراً استكباراً في الأرض ومكر السيئ، ولا يحيق المرك السييء إلا بأهله، فهل ينظرون إلا سنة الأولين فلن تجد لسنة الله تبديلاً ولن تجد لسنة الله تحويلاً غافر:42 - 43.فتعاظم نصر الكتاب وكسر له إحدى عينيه وقال: هذا كتاب ما له جواب.
وكان من الأحداث وأبو مسلم بسفيذنج أن نصراً وجه مولى له يقال له يزيد لمحاربة أبي مسلم بعد ثمانية عشر شهراً من ظهور | |
|
| |
الشيخ عودة الشيخ عودة
عدد المساهمات : 1748 تاريخ التسجيل : 28/09/2008 العمر : 74
| موضوع: رد: كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير الثلاثاء فبراير 11, 2014 3:59 am | |
| وفي هذه السنة قدم أبو حمزة وبلج بن عقبة الأزدي الخارجي من الحج من فبل عبد الله بن يحيى الحضرمي طالب الحق محكماً للخلاف على مروان بن محمد، فبينما الناس بعرفة ما شعروا إلا وقد طلعت عليهم أعلام وعمائم سود على رؤوس الرماح وهم سبعمائة، ففزع الناس حين رأوهم وسألوهم عن حالهم، فأخبروهم بخلافهم مروان وآل مروان. فراسلهم عبد الواحد بن سليمان بن عبد الملك، وهو يومئذ على مكة والمدينة، وطلب منهم هدنة، فقالوا: نحن بحجنا أضن وعليه أشح. فصالحهم على أنهم جميعا آمنون بعضهم من بعض حتى ينفر الناس النفر الأخير، فوقفوا بعرفة على حدة. فدفع بالناس عبد الواحد فنزل بمنى في منزل السلطان، ونزل أبو حمزة بقرن الثعالب. فأرسل عبد الواحد إلى أبي حمزة الخارجي عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي، ومحمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان، وعبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي بكر، وعبيد الله بن عمرو بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب، وربيعة بن أبي عبد الرحمن في رجال أمثالهم، فدخلوا على أبي حمزة وعليه إزار قطن غليظ، فتقدمهم إليه عبد الله بن الحسن ومحمد بن عبد الله فنسبهما فانتسبا إليه، فعبس في وجههما وأظهر الكراهة لهما ثم سأل عبد الرحمن بن القاسم وعبيد الله بن عمر فانتسبا له، فهش إليهما وتبسم في وجوههما وقال: والله ما خرجنا إلا لنسير بسيرة أبويكما. فقال له عبد الله بن الحسن: والله ما خرجنا لتفضل بين آبائنا، ولكن بعثنا إليك الأمير برسالة، وهذا ربيعة يخبركما. فلما ذكر له ربيعة نقض العهد قال أبو حمزة: معاذ الله أن ننقض العهد أو نخيس به، لا والله لا أفعل ولو قطعت رقبتي هذه ولكن تنقضي الهدنة بيننا وبينكم. فرجعوا إلى عبد الواحد فأبلغوه. فلما كان النفر الأول نفر عبد الواحد فيه ووخلى مكة، فدخلها أبو حمزة بغير قتال؛ فقال بعضهم في عبد الواحد: زار الحجيج عصابة قد خالفوا ... دين الإله ففر عبد الواحد ترك الحلائل والإمارة هارباً ... ومضى يخبط كالبعير الشارد ثم مضى عبد الواحد حتى دخل المدينة فضرب على أهلها البعث وزادهم في العطاء عشرة عشرة، واستعمل عليهم عبد العزيز بن عبد الله بن عمرو بن عثمان، فخرجوا، فلما كانوا بالحرة تلقتهم جزر منحورة فمضوا. ذكر ولاية يوسف بن عبد الرحمن الفهري بالأندلسوفي هذه السنة توفي ثوابة بن سلامة أمير الأندلس، وكانت ولايته سنتين وشهوراً، فلما توفي اختلف الناس، فالمضرية أرادت أن يكون الأمير منهم، واليمانية أرادت كذلك أن يكون الأمير منهم، فبقوا بغير أمير، فخاف الصميل الفتنة فأشار بأن يكون الوالي من قريش، فرضوا كلهم بذلك، فاختار لهم يوسف بن عبد الرحمن الفهري، وكان يومئذ بإلبيرة، فكتبوا إليه بما اجتمع عليه الناس من تأميره، فامتنع. فقالوا له: إن لم تفعل وقعت الفتنة ويكون إثم ذلك عليك. فأجاب حينئذ وسار إلى قرطبة فدخلها وأطاعه الناس. فلما انتهى إلى أبي الخطار موت ثوابة وولاية يوسف فقال: إنما أراد الصميل أن يصير الأمر إلى مضر؛ وسعى في الناس حتى ثارت الفتنة بين اليمن ومضر. فلما رأى يوسف ذلك فارق قصر الإمارة بقرطبة وعاد إلى منزله، وسال أبو الخطار إلى شقندة، فاجتمعت إليه اليمانية، واجتمعت المضرية إلى الصميل وتزاحفوا واقتتلوا أياماً كثيرة قتالاً لم يكن بالأتدلس أعظم منه، ثم أجلت الحرب عن هزيمة اليمانية، ومضى أبو الخطار منهزماً فاستتر في رحى كانت للصميل، فدل عليه، فأخذه الصميل وقتله، ورجع يوسف بن عبد الرحمن إاى القصر، وازجاد الصميل شرفاً، وكان اسم الإمارة ليوسفوالحكم إلى الصميل. ثم خرج على يوسف بن عبد الرحمن ابن علقمة اللخمي بمدينة أربونة، فلم يلبث إلا قليلاً حتى قتل وحمل رأسه إلى يوسف. وخرج عليه عذره المعروف بالذمي؛ فإنما قيل له ذلك لأنه استعان بأهل الذمة؛ فوجه إليه بوسف عامر بن عمرو، وهو الذي تنسب إليه مفبرة عامر من أبواب قرطبة، فلم يظفر به وعاد مفلولاً، فسار إليه يوسف بن عبد الرحمن فقاتله فقتله واستباح عسكره. وقد وردت هذه الحادثة من حهة أخرى وفيها بعض الخلاف، وسنذكرهاسنة تسع وثلاثين ومائة عند دخول عبد الرحمن الأموي الأندلس. ذكر عدة حوادث
وحج بالناس عبد الواحد، وهو كان العامل على مكة والمدينة والطائف. وكان على العراق يزيد بن عمر بن هبيرة، وعلى قضاء الكوفة الحجاج بن عاصم المحاربي، وعلى البصرة عباد بن منصور، وكان على خراسان نصر بن سيار والفتنة بها. وفيها مات سالم أبو نصر. وفيها مات يحيى بن يعمر العدوي بخراسان، وكان قد تعلم النحو من أبي الأسود الدؤلي، وكان من فصحاء التابعين. وفيها مات أبو الزناد بن عبد الله بن ذكوان. وفيها مات وهب بن كيسان. ويحيى بن أبي كثير اليمامي أبو نصر. وسعيد بن أبي صالح. وأبي اسحاق الشيباني. والحارث بن عبد الرحمن. ورقبة بن مصقلة الكوفي. ومنصور بن زادان مولى عبد الرحمن بن أبي عقيل الثقفي، وشهد جنازته المسلمون واليهود والنصارى والمجوش لإتفاقهم على صلاحه، وقيل: مات سنة إحدى وثلاثين. ثم دخلت سنة ثلاثين ومائة ذكر دخول أبي مسلم مرو والبيعة بها وفي هذه السنة دخل أبو مسلم مرو في ربيع الآخر، وقيل في جمادى الأولى. وكان السبب في ذلك في اتفاق ابن الكرماني معه. إن ابن الكرماني ومن معه وسائر القبائل بخراسان لما عاقدوا نصراً على أبي مسلم غظم عليه وجمع أصحابه لحربهم، فكان سليمان بن كثير بإزاء ابن الكرماني، فقال له سليمان: إن أبا مسلم يقول لك: أما تأنف من مصالحة نصر وقد قتل بالأمس أباك وصلبه؟ وما كنت أحسبك تجامع نصراً في مسجد تصليان فيه! فأحفظه هذا الكلام، فرجع عن رأيه وانتقض صلح العرب. فلما انتقض صلحهم بعث نصر إلى أبي مسلم يلتمس منه أن يدخل مع مضر، وبعث أصحاب ابن الكرماني،وهم ربيعة واليمن، إلى أبي مسلم بمثل ذلك،فراسلوه بذلك أياماً، فأمرهم أبو مسلم أن يقدم عليه وفد الفريقين حتى يختار أحدهما، ففعلوا، وأمر أبو مسلم الشيعة أن تختار ربيعة واليمن، فإن الشيطان في مضر، وهم أصحاب مروان وعماله وقتلة يحيى بن زيد. فقدم الوفدان، فجلس أبو مسلم ولأجلسهم وجمع عنده من الشيعة سبعين رجلاً فقال لهم ليختاروا أحد الفريقين. فقام سليمان بن كثير من الشيعة فتكلم، وكان خطيباً مفوهاً، فاختارابن الكرماني وأصحابه، ثم قام أبو منصور طلحة ابن زريق النقيب فاختارهم أيضاً، ثم قام مرثد بن شقيق السلمي فقال: إن مضر قتلة آل النبي، صلى الله عليه وسلم ، وأعوان بني أمية وشيعة مروان الجعدي وعماله ودماؤنا في أعناقهم وأموالنا في أيديهم، ونصر بن سيار عامل مروان يتعد أموره ويدعو له على منبره ويسميه أمير المؤمنين، ونحن نبرأ إلى الله، عز وجل، من أن يكون نصر على هدىً، وقد اخترنا علي بن الكرماني وأصحابه. فقالالسبعون: القول ما مرثد بن شفيق. فنهض وفد وقد نصر عليهم الكآبة والذلة، ورجع وفد ابن الكرماني منصورين. ورجع أبو مسلم من آلين إلى الماخوان وأمر الشيعة أن يبنوا المساكن فقد أغناهم الله من اجتماع كلمة العرب عليهم. ثم أرسل إلى أبي مسلم علي بن الكرماني ليدخل مدينة مرو من ناحيته وليدخل هو وعشيرته من الناحية الأخرى، فأرسل إليه أبو مسلم: إني لست آمن أن تجتمع يدك ويد نصر على محاربتي، ولكن ادخل أنت وأنشب الحرب مع أصحاب نصر.
فدخل ابن الكرماني فأنشب الحرب، وبعث أبو مسلم شبل بن طهمان النقيب في خيل فدخلوها، ونزل شبل بقصر بخاراخذاه، وبعث إلى أبي مسلم ليدخل إليهم، فسار من الماخوان وعلى مقدمته أسيد بن عبد الله الخزاعي، وعلى ميمنته مالك بن الهيثم الخزاعي، وعلى ميسرته القاسم بن مجاشع التميمي. فدخل مرو والفريقان يقتتلان، فأمرهما بالكف وهو يتلو من كتاب الله عز وجل: " ودخل المدينة على حين غفلةٍ من أهلها فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته وهذا من عدوه " القصص:15 الآية. ومضى أبو مسلم إلى قصر الإمارة، وأرسل إلى الفريقين أن كفوا ولينصرف كل فريق إلى عسكره، ففعلوا وصفت مرو لأبي مسلم، فأمر بأخذ البيعة من الجند، وكان الذي يأخذها أبو منصور طلحة بن رزيق، وكان أحد النقباء عالماً بحجج الهاشمية ومعايب الأموية. وكان النقباء اثنني عشر رجلاً اختارهم محمد بن علي من السبعين الذين كانوا استجابوا له حين بعث رسوله إى خراسان سنة ثلاث ومائة أو أربع ومائة، ووصف له من العدل صفة، وكان منهم من خزاعة: سليمان بن كثير، ومالك بن الهيثم، وزياد بن صالح، وطلحة بن زريق، وعمرو بن أعين؛ ومن طيء: قحطبة بن شبيب بن خالد ابن معدان؛ ومن تميم: موسى بن كعب أبو عيينة، ولاهز بن قريط، والقاسم ابن مجاشع،وأسلم بن سلام؛ ومن بكر بن وائل: أبو داود بن إبراهيم الشيباني، وأبو علي الهروي، ويقال شبل بن طهمان مكان عمرو بن أعين، وعيسى بن كعب، وأبو النجم إسماعيل بن عمران مكان أبي علي الهروي، وهو ختن أبي مسلم؛ ولم يكن في النقباء أحد والده حتى غير أبي منصور طلحة ابنرريق بن سعد، وهو أبو زينب الخزاعي، وكان قد شهد حرب ابن الأشعث وصحب المهلب وغزامة. وكان أبو مسلم يشاوره في الأمور ويسأله عنها وعما شهد من الحروب. وكانت البيعة: أبا يعكم على كتاب الله وسنة رسوله محمد، صلى الله عليه وسلم ، والطاعة للرضا من أهل بيت رسول الله، صلى الله عليه وسلم ، وعليكم بذلك عهد الله وميثاقه والطلاق والعتاق والمشي إلى بيت الله الحرام، وعلى أن لا تسألوا رزقاً ولا طعماً حتى يبتدئكم به ولا تكم. رزيق بتقديم الراء على الزاي. ذكر هرب نصر بن سيار من مروثم أرسل أبو مسلم لاهز بن قريظ في جماعة إلى نصر بن سيار يدعوه إلى كتاب الله عز وجل، والرضاء من آل محمد، فلما رأى ما جاءه من اليمانية والربيعية والعجم وأنه لا طاقة له بهم أظهر قبول ما أتاه به وأنه يأتيه ويبايعه، وجعل يرشيهم لما هم من الغدر والهرب، إلى أن أمسوا، وأمر أصحابه أن يخرجوا من ليلتهم إلى مكان يأمنون فيه، فقال له سالم بن احوز: لا يتهيأ لنا الخروج الليلة ولكننا نخرج القابلة. فلما كان الغد عبأ مسلم أصحابه وكتائبه إلى بعد الظهر وأعاد إلى نصر لاهز بن قريط وجماعة معه، فدخلوا على نصر، فقال: ما أسرع ما عدتم! فقال له لاهز بن قريط: لا بد لك من ذلك. فقال نصر: إذا كان لابد من ذلك فإني أتوضأ وأخرج إليه، وأرسل إلى أبي مسلم، فغن كان هذا رأيه وأمره أتيته، وأتهيأ إلى أن يجيء رسولي. فقام نصر، فلما قام قرأ لاهز بن قريظ: إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين القصص:20. فدخل نصر منزله وأعلمهم أنه ينتظر انصراف رسوله من عند أبي مسلم. فلما جنه الليل خرج من خلف حجرته ومعه تميم ابنه والحكم بن نميلة النميري وامرأته المزبانة وانطلقوا هراباً، فلما استبطأ لاهز وأصحابه دخلوا منزله فوجدوه قد هرب. فلما بلغ ذلك أبا مسلم سار إلى معسكر نصر وأخذ ثقات أصحابه وصناديدهم فكتفهم وكان فيهم سالم بن أحوز صاحب شرطة نصر، والبختري كاتبه، وابنان له، ويونس بن عبدويه، وحمد بن قطن، ومجاهد بن يحيى بن حضين، وغيرهم، فاستوثق منهم بالحدي، وكانوا في الحبس عنده، وسار أبو سملم وابن الكماني في طلب نصر ليلتهما، فأدركا امرأته قد خلفها وسار، فرجع أو مسلم وابن الكرماني إلى مرو، وسار نصر: ما الذي ارتاب به نصر حتى هرب؟ قالوا: لا ندري. قال: فهل تكلم أحد منكم بشيء؟ قالوا تلا لاهز هذه الآية: إن الملأ يأتمرون بك. قال: هذا الذي دعاه إلى الهرب. قم قال: يا لاهز تدغل في الدين! ثم قتله. واستشار أبو مسلم أبا طلحة في أصحاب نصر فقال: اجعل سوطك السيف وسجنك القبر. فقتلهم أبو مسلم، وكان عدتهم أربعة وعشرين رجلاً.
وأما نصر فإنه سار من سرخس إلى طوس فأقام بها خمسة عشر يوماً، وبسرخس يوماً، ثم سار إلى نيسابور فأقام بها، ودخل ابن الكرماني مرو مع أبي مسلم وتابعه على رأي وعاقده عليه يحيى بن حضين بضم الحاء المهملة، وفتح الصاد المعجمة، وآخره نون. ذكر قتل شيبان الحروريوفي هذه السنة قتل شيبان بن سلمة الحروري. وكان سبب قتله أنه كان هو وعلي بن الكرماني مجتمعين على قتال نصر لمخالفة شيبان نصراً لأنه من عمال مروان، وشيبان يرى رأي الخوارج، وخالفة ابن الكرماني نصراً لأن نصراً قتل أباه الكرماني، وأن نصراً مضري وابن الكرماني يماني، وبين الفريقين من العصبية ما هو مشهور، فلما صالح ابن الكرماني أبا مسلم على ما تقدم وفارق شيبان تنحى شيبان عن مرو إذ علم أنه لا يقوى لحربهما، وقد هرب نصر إلى سرخس. ولما استقام الأمر لأبي مسلم أرسل إلى شيبان يدعوه إلى البيعة، فقال شيبان: أنا أدعوك إلى بيعتي. فأرسل إليه أبو مسلم: إن لم تدخل في أمرنا فارتحل عن منزلك الذي أنت به. فأرسل شيبان إلى ابن الكرماني يستنصره، فأبى ، فسار شيبان إلى سرخس واجتمع إله جمع كثير من بكر بن وائل، فأرسل إليه أبو مسلم تسعة من الأزد يدعوه ويسأله أن يكف، فأخذ الرسل فسحبنهم. فكتب أبو مسلم إلى بسام بن إبرايهم مولى بني ليث بأبيورد يأمره أن يسير إلى سيبان فيقاتله، فسار إليه فقاتله، فانهزم شيبان واتبعه بسام حتى دخل المدينة فقتل شيبان وعدة من بكر بن وائل. فقيل لأيب مسلم: إن بساماً ارتد ثانيةً وهويقتل البريء السقيم؛ فاستقدمه، قدم عليه، واستخلف على عسكره رجلاً. فلما قتل شيبان مر رجل من بكر بن وائل برسل أبي ملم فقتلهم. وقيل: إن أبا مسلم وجه إلى سشيبان عسكراً من عنده عليهم خزيمة بن خازم وبسام بن إبراهيم. ذكر قتل ابني الكرمانيوفي هذه السنة قتل أبو مسلم علياً وعثمان ابني الكرماني. وكان سبب ذلك أن أبا مسلم كان وجه موسى بن كعب إلى أبيورد فافتتحها وكتب إلى أبي مسلم بذلك، ووجه أبا داود إلى بلخ، وبها زياد بن عبد الرحمن القشيري، فلما بلغه قصد أبي دواد بلخ خرج في أهل بلخ وترمذ وغيرهما من كور طخارستان إلى الجوزجان، فلما دنا أبو داودمنهم انصرفوا منهزمين إلى ترمذ، ودخل أبو داود مدينة بلخ، فكتب إليه أبو مسلم يأمره بالقدوم عليه، ووجه مكانه يحيى بن نعيم أبا الميلاء على بلخ، فلما قدم يحيى مدينة بلخ كاتبه زياد بن عبد الرحمن أن يرجع وتصير أيديهم واحدة، فأجابه، فرجع زياد ومسلم بن عبد الرحمن بن مسلم الباهلي وعيسى بن زرعة السلمي وأهل بلخ وترمذ وملوكطخارستنا ما وراء النهر ودونه فنزلوا على فرسخ من بلخ وخرج إليهم يحيى بن نعيم بمن معه، فصارت كلمتهم واحدة مضر وربيعة واليمن ومن معهم من العجم على قتال المسودة، وجعلوا الولاية عليهم لمقاتل بن حيان النبطي كراهة أن يكون من واحد من الفرق الثلاثة. وأمر أبو مسلم أبا داود بالعود، فاقبل بمن معه حتى اجتمعوا على نهر السرجتان، وكان زياد وأصحابه قد وجهوا أبا سعيد اقرشي مسلحة لئلا يأتيهم أصحاب أبي داود من خلفهم، وكانت أعلام أبي داود سوداً، فلما اقتتل أبو داود وزياد وأصحابهما امر أبو سعيد أصحبه أن يأتوا زياداً وأصحابه، فأتوهم من خلفهم، فلما رأى زياد ومن معه أعلام أبي سعيجد وراياته سوداً ظنوه كميناً لأبي داود فانهزموا، وتبعهم أو داود، فوقع عامة أصحاب زياد في نهر السرجنان وقتل عامة رجالهم المتخلفين، ونزل أبو داود معسكرهم وحوى ما فيه. ومضى زياد ويحيى ومن معهما إى ترمذ، واستصفى أبو داود أموال من قتل ومن هرب واستقامت له بلخ. وكتب إليه أبو مسلم يأمره بالقدوم عليه، ووجه النضر بن صبيح المري على بلخ. وقدم أبو داود على أبي مسلم واتفقا على أن يفرقا بين علي وعثمان ابني الكرماني، فبعث أبو مسلم عثمان عاملاُ على بلخ، فلمكا قدمها استخلف الفرافصة بن ظهير العبسي على بلخ.
وأقبلت المضريه من ترمذ عليهم مسلم بن عبد الرحمن بالباهلي، فالتقوا هم وأصحاب عثمان فاقتتلوا قتالاً شديداً، فانهزم أصحاب عثمان، وغلب مسلم على بلخ، وبلغ عثمان والنضر بن صبيح الخبر وهما بمرو الروذ، فأقبلا نحوهم، فهرب أصحاب عبد الرحمن من ليلتهم، فلم يمعن النضر في طلبهم رجاء أن يفوتوا، ولقيهم أصحاب عثمان فاقتتلوا قتالاً شديداً، ولم يكن النضر معهم، فانهزم أصحاب عثمان وقتل منهم خلق كثير. ورجع أبو داود من مرو إلى بلخ، وسار أبو مسلم ومعه علي بن الكرماني إلى نيسابور، واتفق رأي أبي مسلم ورأي أبي داود على أن يقتل أبو مسلم علياً وقتل أبو داود عثمان، فملا قدم أو داود بلخ بعث عثمان عاململاً على الجبل فيمن معه من أهل مرو، فلما خرج من بلخ تبعه أبو داود فأخذه وأصحابه فحبسهم جميعاً، ثم ضرب أعناقهم صبراً، وقتل أبو مسلم في ذلك اليوم علي بن الكرماني، وقد كان أبو مسلم أمره أن يسمي له خاصته ليوليهم ويأمر لهم بجوائز وكسورات، فسماهم له، فقتلهم جميعاً. ذكر قدوم قحطبة إلى نيسابورلما قتل شيبان الخارجي وابنا الكرماني، على ما تقدم، وهرب نصر بن سيار من مرو، وغلب أبو مسلم على خراسان، وبعث العمال على البلاد، فاستعمل سباغ بن النعمان الأزدي على سمر قند، وأبا داود خالد بن إبراهيم على طخارستان، ومحمد بن الأشعث على الطبسين، وجعل مالك بن اليثم على شرطه، ووجه قحطبة إلى طوس ومعه عدة من القواد، منهم: أبو عون عبد الملك بن يزيد، خالد بن برمك، وعثمان بن نهيك، وخازم ابن خزيمة، وغيرهم؛ فلقي قطبة من بطوس فهزمهم، وكان من مات منهم في الزحام أكثر ممن قتل، فبلغ عدة القتلى بضعة عشر ألفاً. ووجه أبو مسلم القاسم بن مجاشع إلى نيسابور على طريق المحجة، وكتب إلى قحطبة يأمره بقتال تميم بن نصر بن سيار والنابئ بن سويد لجأ إلهما من أهل خاسان، وكان أصحاب شيبان بن سلمة الخارجي قد لحقوا بنصر، ووجه أبو مسلم علي بن معقل في عشرة آلاف رجل إلى تمسم بن نصر، وأمره أن يكون مع قحطبة، واسر قحطبة إلى السوذقان، وهو معسكر تميم بن نصر والنابئ، وقد عبأ أصحابه وزحف إليهم، فدعاهم إلى ككتاب الله، عز وجل، وسنة نبيه، صلى الله عليه وسلم ، وإلى الرضاء من آل محمد، فلم يجيبوه، فقاتلهم قتالاً شديداً، فقتل تميم بن نصر في المعركة، وقتل من أصحابه مقتلة عظيمة واستبيح عسكرهم، وكان عدة من معه ثلاثين ألفاً، وهرب النابئ ومن معه، وبلغ الخبر نصر بن سيار بنيسابور بقتل ابنه. ولما استولى قحطبة على عسكرهم سير ألى خالد بن برمك ما قبض فيه، وسار هو إلى نيسابور، وبلغ ذلك نصر بن سيار فهرب منها فيمن معه فنزل قومس، وتفرق عنه أصحابه فسار إلى نباتة بن حنظلة بجرجان، وقدم قحطبة نيسابور بجنوده فأقام بها رمضان وشوال. ذكر قتل نباته بن حنظلةوفي هذه السنة قتل نباتة بن حنظلة عامل يزيد بن هبيرة على جرجان، وكان يزيد بن هبيرة بعثه إلى نصر، فأتى فارس وأصبهان ثم سار إلى الري ومضى إلى جرجان، وكان نصر بقومس على ما تقدم، فقيل له: إن قومس لا تحملنا، فسار إلى جرجان فنزلها مع نباتة وخندقوا عليهم. واقبل قحطبة إلى جرجان في ذي القعدة، فقال قحطبة: يا أهل خراسان أتدرون إلى من تسيرون ومن تقاتلون؟ إنما تقتلون بقيه قوم حرقوا بيت الله تعالى! وكان الحسن بن قحطبة على مقدمة أبيه، فوجه جمعاً إلى مسلحة نباتة وعليها رجل يقال له ذويب، فبيتوهم فقتلوا ذؤيباً وسبعين رجلاً من أصحابه فرجعوا إلى الحسن.
وقدم قحطبة فنزل بإزاء نباتة وأهل الشام في عدة لم ير الناس مثلها، فلما رآهم أهل خراسان هابوهم حتى تكلموا بذلك وأظهروه، فبلغ قحطبة قولهم، فقام فيهم فقال: يا أهل خراسان هابوهم حتى تكلموا بذلك وأظهروه، فبلغ قحطبة قولهم، فقام فيهم فقال: يا أهل خراسان هذه البلاد كانت لآبائكم، وكانوا ينصرون على عدوهم لعلهم وحسن سيرتهم حتى بدلوا وظلموا فسخط الله، عز وجل، عليهم فانتزع سالكانهم وسلط عليهم أذل أمة كانت في الأرض عندهم، فغلبوهم على بلادهم، وكانوا بذلك يحكمون بالعدل ويوفون بالعهد ونصرون المظلوم، ثم بدلوا وغيروا وجاروا في الحكم وأخافوا أهل البر والتقوى من عترة رسول الله فسلطكم عليهم لنتقم منهم بكم لتكونوا أشد عقوبة لأنكم طلبتموهم بالثأر، وعقد عهد إلي الإمام أنكم تقلقونمهم في مثل هذه العدة فينصركم الله، عز وجل، عليهم فتهزمونهم وتقتلونهم. فالتقوا في مستهل ذي الحجة سنة ثلاثين ومائة يوم الجمعة، فقال لهم قحطبة قبل التال: إن الإمام أخبرنا أنكم تنصرون على عدوكم هذا اليوم من هذا الشهر، وكان على ميمنته ابنه الحسن، فاقتتلوا قتالاً شديداً، فقتل بناتة، وانهزم أهل الشام فقتل منهم عشرة آلاف، وبعث إلى أيب مسلم برأس نباتة وابنه حية. ذكر وقعة أبي حمزة الخارجي بقديدفي هذه السنة لسبع بقين من صفر كانت الوقعة بقديد بين أهل المدينة وأبي حمزة الخارجي. قد ذكرنا أن عبد الواحد بن سليمان ضرب البعث على أهل المدينة واستعمل عليهم عبد العزيز بن عبد الله، فخرجوا، فلما كانوا بالحرة لقيتهم جزر منحورة فتقدموا، فلما كانوا بالعقيق تعلق لواؤهم بسمرة فانكسر الرمح، فتشاءم الناس بالخروج وأتاهم رسل أبي حمزة يقولون: إننا والله مالنا بقتالكم حاجة، دعونا نمض إلى عونا. فابى أهل المدينة ولم يجيبوه إلى ذلك وساروا حتى نزلوا قديداً، وكانوا مترفين ليسوا بأصحاب حرب، فلم يشعروا إلا وقد خرج عليهم أصحاب أبي حمزة من الفضاض فقتلوهم وكانت المقتلة بقريش، وفيهم كانت الشوكة، فأصيب منهم عدد كثير؛ وقدم المنهزمون المدينة فكانت المرأة تقيم النوائح على حميمها ومعها النساء، فما تبرح النساء حتى تأتيهن الأخبار عن رجالهن فيخرجن امرأة امرأة كل واحدة منهن تذهب لقتل رجلها فلا تبقى عندها امرأة لكثرة من قتل. وقيل: إن خزاعة دلت أبا حمزة على أصحاب قديد، وقيل: كان عدة القتلى سبعمائة. ذكر دخول أبي حمزة المدينةوفي هذه السنة دخل أبو حمزة المدينة ثالث عشر صفر، ومضى عبد الواحد منها إلى الشام، وكان أبو حمزة قد أعذر إليهم وقال لهم: ما لنا بقتالكم حاجة، دعونا نمض إلى عدونا. فأبى أهل المدينة، فلقيهم فقتل منهم خلقاً كثيراً، ودخل المدينة فرقي المنبر وخطبهم وقال لهم: يا أهل المدينة! مررت بكم زمان الأحول، يعني هشام بن عبد الملك، وقد أصاب ثماركم عاهة فكتبتم إليه تسألونه أن يضع عنكم خراجكم ففعل، فزاد الغني غنى الفقير فقراً، فقلتم له: جزاك الله خيراً، فلا جزاكم الله خيراً، فلا جزاكم الله خيراً ولا جزاه خيراً! واعلموا يا أهل المدينة أنا لم نخرج من ديانا أشراً ولا بطراً ولا عبثاً ولا الدولة ملك نريد ان نخوض فيه ولا لثأر قديم نيل منا، ولكنا لما رأينا مصابيح الحق قد عطلت، وعنف القائل بالحق، وقتل القائم بالقسط، ضاقت علينا الأرض بما رحبت، وسمعنا داعياً يدعو إلى طاعة الرحمن وحكم القرآن، فأجبنا داعي الله، ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض الأحقاق:2 - 32، فاقبلنا من قبائل شتى ونحن قليلون متسضعفون في الأرض فآوانا الله وأيدنا بنصره فأصبحنا بنعمته إخواناً، ثم لقينا رجالكم بقديد فدعوناهم إلى طاعة الرحمن وحم القرآن فدعونا إلى طاعة الشيطان فيهم بجرانه، وغلت بدمائهم مراجلة وصدق عليهم ظنه، وأقبل أنصار الله، عز وجل، عصائب وكتائب بكل مهند ذي رونق، فدارت رحانا واستدارت رحاهم بضرب يرتاب به المبطلون، وأنتم يا أهل المدينة إن تنصروا مروان وآل مروان يسحتكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا ويشف صدور قوم مؤمنين التوبة:14. يا أهل المدينة أو لكم خير أول وآخركم شر آخر! يا أهل المدينة أخبروني عن ثمانية أسهم فرضها الله، عز وجل، في كتابه على القوي والضعيف فجاء تاع ليس له فيها سهم فأخذها لنفسه مكابراً محاربا ربه.
يا اهل المدينة بلغني أنكم تنقصون أصحابي! قلتم شباب أحداث وأعراب حفاة! ويحكم! وهل كان أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم ، إلا شباباً أحداثاً وأعراباً حفاة؟ هم والله مكتهلون في شبابهم، غضة عن الشر أعينهم، ثقيلة عن الباطل أقدامهم. وأحسن السيرة مع أهل المدينة واستمال حتى سمعوه يقول: من زنى فهو كافر، ومن سرق فهو كافر، ومن شك في كفرهما فهو كافر. وأقام أبو حمزة بالمدينة ثلاثة أشهر. ذكر قتل أبي حمزة الخارجيثم إن أبا حمزة ودع أهل المدينة وقال لهم: يا أهل المدينة إنا خارجون إلى مروان، فإن نظفر نعدل في إخوانكم ونحملكم على سنة نبيكم، وإن يكن ما تتمنون فسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون الشعراء:227. ثم سار نحو الشام،وكان مروان قد انتخب من عسكره أربعة آلاف فارس واستعمل عليهم عبد الملك بن محمد بن عطسة السعدي، سعد هوازن، وأمره أن يجد السير، وأمره أن يقاتل الخوارج، فإن هو ظفر بهم يسير حتى يبلغ اليمن ويقالتل عبد الله بنم حيحى طالب الحق. فاسر ابن عطية فالتقى أبا حمزة بوادي القرى، فقال أبو حمزة لأصحابه: لا تقاتلوهم حتى تختبروهم. فصاحوا بهم: ما تقولون في القرآن والعمل به؟ فقال ابن عطية: نضعه في جوف الجوالق. فقال: فما تقولون في مال اليتيم؟ قال ابن عطية: نأكل ماله ونفجر بأمه، في أشياء سألوه عنها. فملا سمعوا كلامه قاتلوه حتى أمسوا وصاحوا: ويحك يا بن عطية! إن الله قد جعل الليل سكناً فاسكن. فأبى وقاتلهم حتى قتلهم، وانهزم أصحاب أبي حمزة، من لم يقتل، وأتوا المدينة، فلقيهم فقتلهم، وسار ابن عطية إلى المدينة فأقام شهراً. وفيمن قتل مع أبي حمزة عبد العزيز القارئ المدني المعروف بيشكست النحوي، وكان من أهل المدينة، يكتم مذهب الخوارج، فلما دخل أبو حمزة المدينة انضم إليه، فملا قتل الخوارج قتل معهم. ذكر قتل عبد الله بن يحيىولما أقام ابن عطية بالمدينة شهراً سار نحو اليمن واستخلف على المدينة الوليد ابن عروة بن محمد بن عطية، واستخلف على مكة رجلاً من أهل الشام، وقصد اليمن، وبلغ عبد الله بن يحيى طالب الحق مسيره وهو بصنعاء، فاقبل إليه بمن معه، فالتقى هو وابن عطية فاقتتلوا، فقتل ابن يحيى وحمل رأسه إلى مروان بالشام، ومضى ان عطية إلى صنعاء. ذكر قتل ابن عطيةولما سار ابن عطية إلى صنعاء دخلها وأقام بها، فكتب إليه مروان يأمره أن يسرع إليه السير ليحج بالناس؛ فسار في اثني عشر رجلاً بعهد مروان على الحج ومعه أربعون ألفاً، وسار وخلف عسكره وخيله بصنعاء، ونزل الجرف، فأتاه ابنا جهانة المراديان في جمعٍ كثير وقالوا له ولأصحابه: أنتم لصوص! فأخرج ابن عطية عهده على الحج وقال: هذا عهد أمير المؤمنين بالحج، وأنا ابن عطية. قالوا: هذا باطل، فانتم لصوص. فقاتلهم ابن عطية قتالاً شديداً حتى قتل. ذكر إيقاع قحطبة بأهل جرجانوفي هذه السنة قتل قحطبة بن شبيب من أهل جرجان ما يزيد على ثلاثين ألفاً. وسبب ذلك أنه بلغه عنهم بعد قتل نباتة بن حنظلة أنهم يريدون الخروج عليه، فبما بلغه ذلك دخل إليهم واستقرر منهم فقتل منهم من ذكرنا، وسار نصر، وكان بقومس، حتى نزل خوار الري، وكاتب ابن هبيرة يستمده، وهو بواسط، مع ناس من وجوه أهل خراسان، وعظم الأمر عليه وقال له: غني قد كذبت أهل خراسان حتى ما أحد منهم يصدقني، فأمدني بعشرة آلاف قبل أن تمدني بمائة ألف لا تغني شيئاً. فحبس ابن هبيرة ليعلموه أمر الناس قبلنا ورسأللته المدد فاحتبس رسلي ولم يمدني بأحد، وإنما أنا بمنزلة من أخرج من بيته إلى حجرته، ثم أخرج من حجرته إلى داره، ثم من داره إلى فناء داره، فإن أدركه من يعينه فعسى أن يعود إلى داره وتبقى له، وإن أخرج إلى الطريق فلا دار له ولا فناء. فكتب مروان إلى ابن هبيرة يأمره أن يمد نصراً، وكتب إلى نصر يعلمه ذلك، وجهز ابن هبيرة جيشاً كثيفاً وجعل عليم ابن غطيف وسيرهم إلى نصر. ذكر عدة حوادثغزا الصائفة هذه السنة الوليد بن هشام فنزل العمق وبنى حصن مرعش. وفيها وقع الطاعون بالبصرة.
وحج بالناس هذه السنة محمد بن عبد الملك بن مروان، وكان هو أمير مكة والمدينة والطائف، وكان بالعراق يزيد بن عمر بن هبيرة، وكان على قضاء الكوفة الحجاج بن عاصم المحاربي، وعلى قضاء البصرة عبادة بن منصور، وكان الأمير بخرايان نصر بن سيار، والأمر بخراسان على ما وصفت. قلت: قد ذكر أبو جعفر ها هنا أن محمد بن عبد الملك حج بالناس، وكان أمير مكة والمدينة، وذكر فيما تقدم أن عروة بن الوليد كان على المدينة، وذكر في آخر سنة إحدى وثلاثين أن عروة أيضاً كان على المدينة ومكة والطائف وأنه حج بالناس تلك السنة. في هذه النة مات أبو جعفر بن القعقاع القرئ مولى عبد الله بن عباس المخزومي بالمدينة، وقيل: سمي مولى أبي بكر بن عبد الرحمن بقديد. وفيها توفي أيوب بن أبي تميمة السختياني، وقيل: سنة تسع وعشرين، وعمره ثلاث وستون سنة. وإسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة الأنصاري، وقيل: سنة اثنتين ومائة، وقيل: سنة أربع وثلاثين ومائة، ويكنى ابا نجيح. وفيها توفي محمد بن مخرمة بن سليمان وله سبعون سنة. وأبو وجرة السعدي يزيد بن عيد. وأبو الحويرث. ويزيد بن أبي ملك الهمداني. ويزيد ابن رومان. وعكرمة بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام. وعبد العزيز ابن رفيع بضم الراء المهملة، وفتح الفاء، وبالعين المهملة وهو أبو عبيد الله المكي الفقيه، وكان قد قارب مائة سنة، وكان لا يثبت معه امرأة لكثرة نكاحه. وإسماعيل بن أبي حكيم كاتب عمر بن العزيز. ويزيد بن أبان، وهو المعروف بيزيد الرشك، وكان قساماً بالبصرة. وحفص بن سليمان بن المغيرة، وكان مولده سنة ثمانين، يروى قراءة عاصم عنه ثم دخلت سنة إحدى وثلاثين ومائة ذكر موت نصر بن سيار وفي هذه السنة مات نصر بن سيار بساوة قرب الري. وكان سبب مسيره إليها أن نصراً سار بعد قتل نباته إلى خوار الري، وأميرها أبو بكر العقيلي، ووجه قحطبة ابنه الحسن إلى نصر في المحرم من سنة إحدى وثلاثين ومائة، ثم وجه أبا كامل وأبا القاسم محرز بن إبراهيم وأبا العابس المروزي إلى الحسن ابنه، فلما كانوا قريباً من الحسن انحاز أبو كامل وترك عسكره وأتى نصراً فصار معه وأعلمه مكان الجند الذين فارقهم. فوجه إليهم نصر جنداً، فهرب جند قحطبة منهم وخلفوا شيئاً من متاعهم، فأخذه أصحاب نصر، فبعث نصر إلى أبن هبيرة، فعرض له ابن غطيف بالري فأخذ الكتاب من رسول نصر المتاع وبعث به إلى ابن هبيرة، فغضب نصر وقال: أما واله لأدعن ابن هبيرة فليعرفن أنه ليس بشيء ولا ابنه. وكان ابن غطيف في ثلاثة آلاف قد سيره ابن هبيرة إلى نصر، فأقام بالري فلم يأت نصراً، وسار نصر حتى نزل الري وعليها حبيب بن يزيد النهشلي، فلما قدمها نصر سار ابن غطيف منها إلى همذان، وفيها مالك ابن أدهم بن محرز الباهلي، فعدل ابن غطيف عنها إلى أصبهان إلى عامر ابن ضبارة؛ فلما قدم نصر الري أقام بها يومين ثم مرض، وكان يحمل حملاً، فلما بلغ ساوة مات، فلما مات بها دخل أصحابه همذان. وكانت وفاته لمضي اثنتي عشرة ليلةً من شهر ربيع الأول، وكان عمره خمساً وثمانين سنة، وقيل: إن نصراً لما سار من خوار الري متوجها نحو الري لم يدخل الري ولكنه سلك المفازة التي بين الري وهمذان فمات بها. ذكر دخول قحطبة الريولما مات نصر بن سيار بعث الحسن بن قحطبة خزيمة بن خازم إلى سمنان، وأقبل قحطبة من جرجان وقدم أمامه زياد بن زرارة القشيري، وكان قد ندم على ابتاع أبي مسلم، فانخذل عن قحطبة فأخذ طريق أصبهان يريد أن يأتي عامر بن ضبارة، فوجه قحطبة المسيب بن زهيرة الضبي، فلحقه من غدٍ بعد العصر فقاتله، فانهزم زياد وقتل عامة من معه، ورجع المسيب بن زهير إلى قحطبة. ثم سار قحطبة إلى قومس، وبها ابنه الحسن، وقدم خزيمة بن خازم سمنان، فقدم قحطبة ابنه الحسن إلى الري. وبلغ حبيب بن بديل النهشلي ومن معه من أهل الشام مير الحسن، فخرجوا عن الري، ودخل الحسن في صفر فأقام حتى قدم أبوه، ولما قدم قحطبة الري كتب إلى أبي مسلم يعلمه بذلك.
ولما استقر أمر بني العباس بالري هرب أكثر أهلها لميلهم إلى بني أمية لأنهم كانوا سفيانية، فأمر أبو مسلم بأخذ أملاكهم وأموالهم، ولما عادوا من الحج أقاموا بالكوفة سنة اثنتين وثلاثين ومائة ثم كتبوا إلى السفاح يتظلمون من أبي مسلم، فأمر برد أملاكهم فأعاد أبو مسلم الجواب يعرف حالهم وأنهم أشد الأعداء، فلم يسمع قوله وعزم على أبي مسلم برد أملاكهم، ففعل. ولما دخل قحطبة الري وأقام بها أخذ أمره بالحزم والاحتياط والحفظ وضبظ الطرق، وكان لا يسلكها أحد إلا بجواز منه، فأقام بالري، وبلغه أن بدستبى قوماً من الخوارج وصعاليك تجمعوا بها، فوجه إليهم أبا عون في عسكر كثيف، فنازلهم ودعاهم إلى كتاب الله وسنة رسوله وإلى الرضاء من آل رسول الله،صلى الله عليه وسلم ، فلم يجيبوه، فقالتلهم قتالاً شديداً حتى ظفر بهم؛ فتحصن عدة منهم حتى آمنهم أبو عون، فخرجوا إليه، وأقام معه بعضهم وتفرق بعضهم. وكتب أبو مسلم إلى أصبهبذ طبرستان يدعوه إلى الطاعة وأداء الخراج، فأجابه إلى ذلك؛ وكتب إلى المصمغان صاحب دنباوند بمثل ذلك، فأجابه: إنما أنت خارجي وإن أمرك سنقضي. فغضب أبو مسلم وكتب إلى موسى بن كعب، وهو بالري، يأمره بالمسير إليه وقتاله إلى أن يذعن بالطاعة، فسار إليه وراسله، فامتنع من الطاعة وأداء الخراج، فأقام موسى ولم يتمكن من المصمغان لضيق بلاده، وكان المصمغان يرسل إليه كل يوم عدة كثيرة من الديلم يقاتله في عسكره، وأخذ عليه الكرق، ومنع الميرة، وكثرت في أصاب موسى الجراح والقتل. فملا رأى أنه لا يبلغ غرضاً عاد إلى الري، ولم يزيل المصمغان ممتنعاً إلى أيام المنصور، فأغزاه جيشاً كثيفاً عليهم حماد بن عمرو، ففتح دنباوند على يده. ولما ورد كتاب قحطبة على أبي مسلم بنزوله الري ارتحل أبو مسلم، فيما ذكر، عن مرو فنزل نيسابور. وأما قحطبة فإنه سير ابنه الحسن بعد نزووله الري بثلاث ليالٍ إلى همذان، فلما توجه إليها سار عنها مالك بن أدهم ومن كان بها من أهل الشام وأهل خراسان إلى نهاوند فأقام بها، وفارقه ناس كثير، ودخل الحسن همذان وسار منها إلى نهاوند فنزل على أربعة فراسخ في المدينة وحصرهم. ذكر قتل عامر بن ضبارة ودخول قحطبة أصبهانوكان سبب قتله أن عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر لما هزمه ابن ضبارة مضى هارباً نحو خراسان وسلك إليها طريق كرمان وسار عامر في أثره. وبلغ ابن هبيرة مقتل نباتة بن حنظلة بجرجان، فلما بلغه خبره كتب إلى ابن ضبارة وإلى ابنه داود بن يزيد بن عمر بن هيرة أن يسيرا إلى قحطبة، وكانا بكرمان، فسارا في خمسين ألفاً، فنزلوا باصبهان، وكان يقال لعسكر ابن ضبارة عسكر العساكر. فبعث قحطبة إليهم جماعةً من القواد، وعليهم جمعاً مقاتل بن حكيم العكي، فساروا حتى نزلوا قم. وبلغابن ضبارة نزلو الحسن بن قحطبة بنهاوند فسار ليعين من بها منأصحاب مروان، فأرسل العكي من قم إلى قحطبة يعلمه يعلمه بذلك، فأقبل قحطبة من الري حتى لحق مقاتل بن حكيم العكي، ثم سار فالتقوا هم وابن ضبارة ودواد بن يزيد بن هبيرة؛ وكان عسكر قحطبة عشرين ألفاً، فيهم خالد ابن برمك! وكان عسكر ابن ضبارة مائة ألف، وقيل خمسين ومائة ألف؛ فأم قحطبة بمصحف فنصب على رمح، ونادى: يا اهل الشام! إنا ندعوكم إلى ما في هذا المصحف! فشتموه وأفحشوه في القول. فأرسل قحطبة إلى أصحابه يأمرهم بالحملة، فحمل عليهم العكي، وتهايج الناس، ولم يكن بينهم كثير قتالٍ، حتى انهزم أهل الشام وقتلوا قتلاً ذريعاً، وانهزم ابن ضبارة حتى دخل عسكره وتبعه قحطبة، فنزل ابن ضبارة ونادى: إلي إلي! فانهزم الناس عنه وانهزم داود بن هبيرة، فسأل عن ابن ضبارة فقيل: انهزم. فقال: لعن الله شرنا منقلباً! وقاتل حتى قتل. وأصابوا عسكره وأخذوا منه ما لا يعلم قدره من السلاح والمتاع والرقيق والخيل وما رئي عسكر قط كان فيه من أصناف الأشياء ما في هذا العسكر كأنه مدينة. وكان فيه من البرابط والطنابير والمزامير والخمر ما لا يحصى. وأرسل قحطبة بالظفر إلى ابنه الحسن وهو بنهاوند، وكانت الوقعة بنواحي أصبهان في رجب. ذكر محاربة قحطبة أهل نهاوند ودخولها
ولما قتل ابن ضبارة كتب قحطبة بذلك إلى ابنه الحسن وهو يحاصر نهاوند، فلما أتاه الكتاب كبر هو وجنده ونادوا بقتله، فقال عاصم بن عمير السعدي: ما نادى هؤلاء بقتله إلا وهو حق! فاخرجوا إلى الحسن بن قحطبة فإنكم لا تقومون له فتذهبون حيث شئتم قبل أن يأتيه أبوه أ مدد من عنده. فقالت الرجالة: تخرجون وأنتم فرسان على خيول وتتركونا؟ وقال له مالك بن أدهم الباهلي: لا أبرح حتى يقدم علي قحطبة. وأقام قحطبة على أصبهان عشرين يوماً، ثم سار فقدم على ابنه بنهاوند فحصرهم ثلاثة أشهر: شعبان ورمضان وشوال، ووضع عليهم المجانيق، وأرسل إلى من بنهاوند من أهل خراسان يدعوهم إليه وأعطاهم الأمان، فأبو ذلك. ثم أرسل إلى أهل الشام بمثل ذلك فأجابوه وقبلوا أمانه وبعثوا إليه يسألونه أن يشغل عنهم أهل المدينة بالقتال ليفتحوا له الباب الذي يليهم، ففعل ذ1لك قحطبة وقاتلهم، ففتح أهل الشام الباب، فخرجوا، فلما رأى أهر خراسان ذلك سألوهم عن خروجهم، فقالوا: أخذنا الأمان لنا ولكم. فخرج رؤساء أهل خراسان، فدفع قحطبة كل رجل منهم إلى قائد من قواده ثم أمر فنودي: من كان بيده أسير ممن خرج إلينا فليضرب عنقه وييأتنا برأسه! ففعلوا ذلك؛ فلم يبق أحد ممن كان قد هرب من أبي مسلم إلا قتل إلا أهل الشام، فإنه وفي لهم وخلى سبيلهم وأخذ عليهم أن لا يملئوا عليه عدواً، ولم يقتل منهم أحداً وكان ممن قتل من أهل خراسان: أبو كامل، وحاتم بن لحارث بن سريج، وابن نصر بن سيار، وعاصم بن عمير، وعلي بن عقيل، وبيهس. ولما حاصر قحطبة نهاوند أرسل ابنه الحسن إلى مرج القلعة، فقدم الحسن خازم بن خزيمة إلى حلوان وعليها عبد الله بن العلاء الكندي، فهرب من حوان وخلاها. ذكر فتح شهرزورثم إن قحطبة وجه أبا عون عبد الملك بن يزيد الخراساني ومالك بن طرافة الخراساني في أربعة آلاف إلى شهرزور وبها عثمان بن سفيان على مقدمة عبد الله بن مروان بن محمد، فنزلوا على فرسخين من شهرزور في الغشرين من ذي الحجة وقاتلوا عثمان بعد يوم وليلة من نزولهم، فانهزم أصحاب عثمان وقتل، وأقام أبو عون في بلاد الموصل. وقيل: إن عثمان لم يقتل ولكنه هرب إلى عبد الله بن مروان، وغنم أبو عون عسكره وقتل من أصحابه مقتلةً عظيمة؛ وسير قحطبة العساكر إلى أبي عون فاجتمع معه ثلاثون ألفاً. ولما بلغ خبر أبي عون مروان بن محمد، وهو بحران، سار منها ومعه جنود أهل الشام والجزيرة والموصل، وحشر معه بنو أمية أبناءهم، وأقبل نحو أبي عون حتى نزل الزاب الأكبر. وأقام أبو عون بشعرزور بقية ذي الحجة والمحرم من سننة اثنتين وثلاثين ومائة، وفرض بها بخمسة آلاف. ذكر مسير قحطبة إلى ابن هبيرة بالعراقولما قدم على يزيد بن عمر بن هبيرة امير العراق بانه داود منهزماً من حلوان خرج يزيد نحو قحطبة في عدد كثير لا يحصى ومعه حوثرة بن سهيل الباهلي، وكان مروان أمد به ابن هبيرة، وسار ابن هبيرة حتى نزل بحلولاء الوقيعة واحتفر الخندق الذي كانت العجم احتفرته أيام وقعة جلولاء، وأقام به وارتحل ابن هبيرة راحعاً إلى الدسكرة، وأقبل قحطبة حتى نزل قرماسين، ثم سار إلى حلوان،ثم إلى خانقين، وأتى عكبراء وعبر دجلة ومضى حتى نزل دمما دون الأنبار، وارتحل ابن هبيرة بمن معه منصرفاً مبادراً إلى الكوفة لقحطبة، وقدم حوثرة في خمسة عشر ألفاً إلى الكوفة. وقيل: إن حوثرة لم يفارق ابن هبيرة. وأرسل قحطبة طائفة من أصحابه إلى الأنبار وغيرها وأمرهم بإحدار ما فيها من السفن إلى دمما ليعبورا الفرات، فحملوا إليه كل سفينة هناك، فقطع قحطبة الفرات من دمما حتى صار في غربيه، ثم سا يريد الكوفة حتى أنتهى إلى الموضع الذي فيه ابن هبيرة، وخرجت السنة. ذكر عدة حوادثوحج الناس الوليد بن عروة بن محمد بن عطية السعدي، وهو ابن أخي عبد الملك بن محمد الذي قتل أبا حمزة، وكان هو على الحجاز. ولما بلغ الوليد قتل عمه عبد الملك مضى إلى الذين قتلوه فقتل منهم مقتلةً عظيمةً وبقر بطون نسائهم وقتل الصبيان وحرق من قدر عليه منهم. وكان على العراق يزيد بن عمر بن هبيرة، وعلى قضاء الكوفة الحجاج ابن عاصم المحاربي، وعلى قضاء البصرة عباد بن منصور الناجي.
وفيها توفي منصور بن المعمر السلمي أبو عتاب الكوفي. وفيها قتل أبو مسلم الخراساني جبلة بن أبي داود العتكي مولاهم أخا عبد العزيز بن دواد، ويكنى أبا مروان. ثم دخلت سنة اثنتين وثلاثين ومائة ذكر هلاك قحطبة وهزيمة ابن هبيرة وفي هذه السنة هلك قحطبة بن شبيب. وكان سبب ذلك أن قحطبة لما عبر الفرات وصار في غربيه، وذلك في المحرم لثمان مضين منه، كان ابن هبيرة قد عسكر على فم الفرات من أرض الفلوجة العليا على رأس ثلاثة وعشرين فرسخاً من الكوفة، وقد اجتمع إليه فل ابن ضبارة، فأمده مروان بحوثرة الباهلي، فقال حوثرة وغيره لابن هبيرة: إن قحطبة قد مضى يريد الكوفة فاقصد أنت خراسان ودعه ومروان فإنك تكسره وبالحري أن يتبعك، قال: ما كان ليتبعني ويدع الكوفة، ولكن الرأي أن أبادره إلى الكوفة؛ فعبر دجلة من المدائن يرير الكوفة، فاستعمل على مقدمته حوثرة وأمره بالمسير إلى الكوفة، والفريقان يسيران على جانبي الفرات. وقال قحطبة: إن الإمام أخبرني أن لي في هذا المكان وقعة يكون النصر فيها لنا. ونزل قحطبة الجبارية، وقد دلوه على مخاضة، فعبر منها وقال حوثرة ومحمد بن نباتة، فانهزم أهل الشام وفقدوا قحطبة، فقال أصحابه: من كان عنده عهد من قحطبة فليخبرنا به. فقال مقاتل بن مالك العتكي: سمعت قحطبة يقول: إن حدث بي حدث فالحسن ابني أمير الناس. فبايع الناس حميد بن قحطة لأخيه الحسن، وكان قد سيره أبوه في سرية فأرسلوا إليه فأحضروه وسلموا إليه الأمر. ولما فقدوا قحطبة بحثوا عنه فوجدوه في جدول وحرب بن سالم بن أحوز قتيلين، فظنوا أنكل واحد منهما قتل صاحبه. وقيل: إن معن بن زائدة ضرب قحطبة لما عبر الفرات على حبل عاتقة فسقط في الماء فأخرجوه، فقال: شدوا يدي إذ أنا مت وألقوني في الماء لئلا يعلم الناس بقتلي. وقاتل أهل خراسان فانهزم محمد بن نباتة وأهل الشام، ومات قحطبة، وقال قبل موته: إذا قدمتم الكوفة فوزير آل محمد أبو سلمة الخلال فسلموا هذا المر إليه. وقيل: بل غرق قحطبة. ولما انهزم ابن نباتة وحوثرة لحقوا بابن هبيرة، فانهزم ابن هبيرة بهزيمتهم، ولحقوا بواسط وتركوا عسكرهم وما فيه من الأموال والسلاح وغير ذلك. ولما قام الحسن بن قحطبة بالأمر أمر بإحصاء ما في العسكر. وقيل: إن حوثرة كان بالكوفة فبلغه هزيمة ابن هيرة فسار إليه فيمن معه. ذكر خروج محمد بن خالد بالكوفة مسوداً وفي هذه السنة خرج محمد بن خالد عبد الله القسري بالكوفة وسود قبل أن يدخلها الحسن بن قحطبة وأخرج عنها عامل ابن هبيرة ثم دخلها الحسن. وكان من خبره أن محمداً خرج بالكوفة ليلة عاشوراء مسوداً وعلى الكوفة زياد بن صالح الحارثي، وعلى شرطة عبد الرحمن بن بشير العجلي، وسا محمد إلى القصر، فارتحل زياد ومن معه من اهل الشام، ودخل محمد القصر، وسمع حوثرة الخبر فسار نحو الكوفة، فتفرق عن محمد عامة من معه لما بلغهم الخبر وبقي في نفر يسير من أهل الشام ومن اليمانيين من كان هرب من مروان، وكان معه مواليه وارسل أبو سلمة الخلال، ولم يظهر بعد، إلى محمد يأمره بالخروج من القصر تخوفاً عليه من حوثرة ومن معه، ولم يبلغ أحداً من الفريقين هلاك قحطبة، فأبى محمد أن يخرج، وبلغ حوثرة تفرق أصحاب محمد عنه فتهيأ للمسير نحوه. فبينا محمد في القصر إذ أتاه بعض طلائعه فقال له: قد جاءت خيل من أهل الشام، فوجه إليهم عدة من مواليه، فناداهم الشاميون: نحن بجيلة وفينا مليح ابن خالد البجلي جئنا لندخل في طاعة الأمير، فدخلوا؛ ثم جاءت خيل أعظم من تلك فيها جهم بن الأصفح الكناني؛ ثم جاءت خيل أعظم منها مع رجل من آل بحدل؛ فلما رأى تلك حوثرة من صنع أصحابه ارتحل نحو واسط. وكتب محمد بن خالد من ليلته إلى قحطبة، وهو لا يعلم بهلاكه، يعلم أنه قد ظفر بالكوفة. فقدم القاصد على الحسن بن قحطبة، فلما دفع إليه كتاب محمد بن خالد قرأه على الناس ثم ارتحل نحو الكوفة يوم الجمعة ويم السبت والأحد وصبحه الحسن يوم الأثنين.
وقد قيل: إن الحسن بن قحطبة أقبل نحو الكوفة بعد هزيمة ابن هبيرة وعليها عبد الرحمن بن بشير العجلي فهرب عنها، فسود محمد بن خالد وخرج في أحد عشر رجلاً وبايع الناس، ودخلها الحسن من الغد، فلما دخلها الجسن هو وأصحابه أتوا أبا سلمة، وهو في بني سلمة، فاستخرجوه، فعسكر بالنخيلة يومين قثم ارتحل إلى حمام أعين، ووجه الحسن بن قحطبة إلى واسط لقتال ابن هيرة، وبايع الناس أبا سلمة حفص بن سليمان مولى السبيع، وكان يقال له وزير آل محمد، واستعمل محمد بن خالد بن عبد الله على الكوفة، وكان يقال له الأمير، حتى ظهرأبو العباس السفاح. ووجه حميد بن قحطبة إلى المدائن في قواد، وبعث المسيب بن زهير وخالدب بن برمك إلى دير قنى، وبعث المهلبي وشراحيل إلى عين التمر، وبسام بن إبراهيم بن بسام إلى الأهواز، وبها عبد الواحد بن عمر بن هبيرة. فلما أتى بسام الأهواز خرج عنها عبد الواحد إلى البصرة بعد أن قاتله وهزمه بسام، وبعث إلى البصرة سفيان بن معاوية بن يزيد بن المهلب عاملاً عليها، فقدمها وكان عليها سلم بن قتيبة الباهلي عاملاً لابن هبيرة، وقد لحق به عبد الواحد بن هبيرة، كما تقدم ذكره. فأرسل سفيان بن معاوية إلى سلم يأمره بالتحول من دار الإمارة ويعلمه ما أتاه من رأي أبي سلمة، وامتنع وجمع معه قيساً ومضر ومن بالبصرة من بني أمية، وجمع سفيان جميع اليمانية وحلفاءهم من ربيعة وغيرهم، وأتاهم قائد من قواد ابن هبيرة كل بعثه مدداً لسلم في ألفي رجل من كلب، فأتى سلم سوق الإبل ووجه الخيول في سكك البصة ونادى: من جاء برأس فله خمسمائة، ومن جاء بأسير فله ألف درهم. ومضى معاوية بن سفيان بن معاوية في ربيعة وخاصته، فلقيه خيل تميم، فقل معاوية وأتي برأسه إلى سلم، فأعطى قاتله عشر | |
|
| |
الشيخ عودة الشيخ عودة
عدد المساهمات : 1748 تاريخ التسجيل : 28/09/2008 العمر : 74
| موضوع: رد: كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير الثلاثاء فبراير 11, 2014 4:01 am | |
| أيها الناس الآن أقشعت حنادس الدينا، وانكشف غطاؤها، وأشرقت أرضها وسماؤها، وطلعت الشمس من طلعها، وبزغ القمر من مبزغه، وأخذ القوس باريها، وعاد السهم إلى منزعه، ورجع الحق إلى نصابه في أهل بيت نبيكم، أهل الرأفة والرحمة بكم والعطف عليكم.
أيها الناس! إنا والله ما خرجنا في طلب هذا الأمر لنكثر لجيناً ولا عقياناً، ولا نحفر نهراً، ولا نبني قصراً؛ وإنما أخرجتنا الأنفة من ابتزاهم حقنا، والغضب لبني عمنا، وما كرهنا من أموركم، فلقد كانت أموركم ترمضنا ونحن على فرشنا، ويشتد علنا سوء سيرة بني أمية فيكم واستنزالهم لكم واستئثارهم بفيئكم وصداقتكم ومغانمكم عليكم، لكم ذمة الله، تبارك وتعالى، وذمة رسوله، صلى الله عليه وسلم، وذمة العابس، رحمه الله، علينا أن نحكم فيكم بما أنزل الله، ونعمل فيكم بكتاب الله، ونسير في العامة والخاصة بسيرة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، تباً لبني حرب بن أمية وبني مروان! آثروا في مدتهم العاجلة على الآجلة، والدار الفانية على الدار الباقية، فركبوا الآثام، وظلموا الأنام، وانتهكوا المحارم، وغشوا بالجرائم، وجاروا باستدراج الله وأمناً لمكر الله، فأتاهم بأس الله بياتاً وهم نائمون، فأصبحوا أحاديث، ومزقوا كل ممزق، فبعداً لقوم الظالمين، وأدلنا الله من مروان، وقد غرة بالله الغرور، أرسل لعدو الله في عنانه حتى عثر في فضل خاصمه، أظن عدو الله أن لن نقدر عليه فنادى حزبه وجمع مكايده ورمى بكتائبه، فوجد أمامه ووراء وعن يمينه وشماله من مكر الله وبأسه ونقمته ما امات باطله، وحا ضلاله، وجعل دائرة السوء به، وأحيا شر فنا وعزنا ورد إلينا حقنا وإرثنا. أيها الناس! إن أمير المؤمنين، نصره الله نصراً عزيزاً، إنما عاد إلى المنبر بعد الصلاة لنه كاره أن يخلط بكلام الجمعة غيره، وإنما قطعه عن استتمام الكلام شدة الوعك، فاعوا الله لأمير المؤمنين بالعافية، فقد بدلكم الله بمروان عدو الرحمن وخليفة الشيطان، المتبع السفلة الذين أفسدوا في الأرض بعد إصلاحها بإبدال الدين وانتهاك حريم المسلمين، الشاب المتكهل المتمهل المقتدي بسلفه الأبرار الأخيار الذين أصلحوا الأرض بعد فسادها بمعالم الهدى ومناهج التقوى. فعج الناس له بالدعاء، ثم قال. يا أهل الكوفة! إنا والله ما زلنا مظلومين مقهورين على حقنا حتى أباح الله شيعنا أهل خراسان، فأحيا بهم حقنا، وأبلج بهم حجتنا، وأظهر بهم دولتنا، وأراكم الله بهم ما لستم تنتظرون، فأظهر فيكم الخليفة من هاشم وبيض به وجوهكم، وأدالكم على أهل الشام، ونقل إليكم الله بشكر، والزموا طاعتنا، ولا تخدعوا عن أنفسكم، فإن الأمر أمركم، وإن لكل أهل بين مصراً وإنكم مصرنا، وأمير المؤمنين عبد الله بن محمد؛ وأشار بيده إلى أبي العابس السفاح. واعلموا أن هذا الأمر فينا ليس بخارج منا حتى نسلمه إلى عيسى بن مريم، عليه السلام، والحمد لله على ما أبلانا وأولانا. ثم نزل أبو العباس وداود بن علي أمامه حتى دخل القصر وأجلس أخاه أبا جعفر المنصور يأخذ البيعة على الناس في المسجد، فلم يزل يأخذها عليهم حتى صلى بهم العصر ثم المغرب وجنهم الليل فدخل. وقيل: إن داود بن علي لما تكلم قال في آخر كلامه: أيها الناس إن والله ما كان بينكم وبين رسول الله،صلى الله عليه وسلم ، خليفة إلا علي ابن أبي طالب وأمير المؤمنين الذي خلفي. ثم نزل. وخرج أبو العباس يعسكر بحمام أعين في عسكر أبي سلمة ونزل معه في حجرته بينهما ستر وحاجب السفاح يومئذ عبد الله بن بسام. واستخلف على الكوفة وأرضها عمه داود بن علي، وبعث عمه عبد الله بن علي إلى أبي عون بن يزيد بشهرزور، وبعث ابن أخيه عيسى بن موسى إلى الحسن بن قحطبة، وهو يومئذ يحاصر ابن هبيرة بواسط، وبعث يحيى ابن جعفر بن تمام بن عباس إلى حميد بن قحطبة بالمدائن، وبعث أبا اليقظان عثمان بن عروة بن محمد بن عمار بن ياسر إلى بسام بن إبراهيم بن بسام بالأهواز، وبعث سلمة بن عمرو بن عثمان إلى مالك بن الطواف. وأقام السفاح بالعسكر أشهراً ثم ارتحل فنزل المدينة الهاشمية بقصر الإمارة، وكان تنكر لأبي سلمة قبل تحوله حتى عرف ذلك.
وقد قيل: إن داود بن علي وابنه موسى لم يكونا بالشام عند مسير بنب العباس إلى العراق، إنما كانا بالعاق أو بغيره فخرجا يريدان الشام، فلقيهما أبو العابس قصتهم وأنهم يريدون الكوفة ليظهروا بها ويظهروا أمرهم. فقال له داود: يا أبا العباس تأتي الكوفة وشخ بني أمية مروان بن محمد بحران مطل على العراق في أهل الشام والجزيرة، وشيخ العرب يزيد بن هيرة بالعراق في جند العرب! وقال: يا عمي من أحب الحياةذل؛ ثم تمثل بقول الأعشى: فما ميتة إن متها غير عاجزٍ ... بعارٍ إذا ما غالت النفس غولها فالتفت داود إلى ابنة موسى فقال: صدق والله ابن عمك، فارجع بنا معه نعش أعزاء أو نمت كرماء. فرجعوا جميعاً. فكان عيسى بن موسى يقول إذا ذكر خروجهم من الحميمة يريدون الكوفة: إن نفراً أربعة عشر رجلاً خرجوا من دارهم وأهلهم يطلبون ما طلبنا لعظيمة همتهم، كبيرة أنفسهم، شديدة قلوبهم. ذكر هزيمة مروان بالزابقد ذكرنا أن قحطبة أرسل أبا عون عبد الملك بن يزيد الأزدي إلى شهرزور، وأنه قتل عثمان بن سفيان وأقام بناحية الموصل، وأن مروان ابن محمد سار إليه من حران حتى بلغ الزاب وحفر خندقاً وكان في عشرين ومائة ألف، وسار أبو عون إلى الزاب، فوجه أبو سلمة إلى أبي عون عيينة بن موسى، والمنهال بن فتان، وإسحاق بن طلحة، كل واحد في ثلاثة آلاف. فلما ظهر أبو العباس بعث سلمة بن محمد في ألفين، وعبد الله الطائي في ألف وخمسائة، وعبد الحيمد بن ربعي الطائي في ألفين، ووداس بن نضلة في خمسائة إلى أبي عون، ثم قال: من يسير إلى مروان من أهل بيتي؟ فقال: عبد الله بن علي: أنا. فسيره إلى أبي عون، فقدم عليه، فتحول أبو عون عن سرادقة وخلاه له وما فيه. فلما كان لليلتين خلتا من جمادى الآخرة سنممة اثنتين ومائة سأل عبد الله بن علي عن مخاضة فدل عليها بالزاب، فامر عيينه بن موسى، فعبر في خمسة آلاف، فانتهى إلى عسكر مروان، فقاتلهم حتى أمسوا، ورجع إلى عبد الله بن علي. وأصبح مروان فعقد الجسر وعبر عليه، فنهاه وزراؤه عن ذلك، فلم يقبل وسير ابنه عبد الله، فنزل أسفل من عسكر علد الله بن علي، فبعث عبد الله ابن علي المخارق في أربعة آلاف نحو عبد الله بن مروان، فسرح إليه ابن موران الوليد بن معاوية بن مروان بن الحكم، فالتقيا، فانهزم أصحاب المخارق وثبت هو فأسر هو وجماعة وسيرهم إلى مروان مع رؤوس القتلى، فقال مروان: أدخلوا علي رجلاً من الأسرى. فاتوه بالمخارق، وكان نحيفاً. فقال: أنت المخارق؟ قال: لا، أنا عبد من عبيد أهل العسكر. قال: فتعرف المخارق؟ قال: نعم. قال: فنظر هل تراه في هذه الرؤوس. فنظر إلى رأس منها فقال: هو هذا. فخلى سبيله، فقال رجل مع مروان حين نظر المخارق وهو لا يعرفه: لعن الله أبا مسلم حين جاءنا بهؤلاء يقاتلنا بهم. وقيل: إن المخارق لما نظر إلى الرؤوس قال: ما أرى رأسه فيها ولا أراه إلا قد ذهب. فخلى سبيله. ولما بلغت الهزيمة عبد الله بن علي أرسل إلى طريق المنهزمين من يمنعهم من دخول العسكر لئلا ينكر قومهم،وأشار عليه أبو عون أن يبادر مروان بالقتال قبل أن يظهر أمر المخارق فيفت ذلك في أعضاد الناس، فنادى فيهم بلبس السلاح والخروج إلى الحرب، فركبوا، واستخلف على عسكره محمد ابن صول وسار نحو مروان، وجعل على ميمنته أبا عون، وعلى ميسرته الوليد ابن معاوية، وكان عسكره عشرين ألفاً، وقيل: اثني عشر ألفاً وقيل غير ذلك. فلما التقى العسكران قال مروان لعبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز: عن زالت اليوم الشمس ولم يقاتلونا كنا الذين ندفعها إلى المسيح، عليه السلام، وإن قاتلونا فأقبل الزوال فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وأرسل مروان إلى عبد الله يسأله الموادعة، فقال عبد الله: كذب ابن زريق، لا تزول الشمس حتى أوطئه الخيل إن شاء الله. فقال مروان لأهل الشام: قفوا لا نبدأهم بالقتال، وجعل ينظر إلى الشمس، فحمل الوليد بن معاوية بن مروان بن الحكم، وهو ختن مروان بن محمد على ابنته، فغضب وشتمه، وقاتل ابن معاوية أبا عون، فانحاز أبو عون إلى عبد الله بن علي، فقال لموسى ابن كعب: يا عبد الله مر الناس فلينزلوا. فنودي: الأرض فنزل الناس وأشرعوا الرماح وجثوا على الركب فقاتلوهم، وجعل أهل الشام يتأخرون كأنهم يدفعون، ومشى عبد الله بن علي قدماً وهو يقول: يار رب حتى متى نقتل فيك؟ ونادى: يا أهل خراسان! يال لثارات إبراهيم! يا محمد! يا منصور! واشتد بينهم القتال. فقال مروان لقضاعة: انزلوا. فقالوا: قل لبني سليم فلينزلوا. فأرسل إلى السكاسك أن احملوا. فقالوا: قل لبني عامر فليحملوا. فأرسل إلى السكون أن احملوا، فالوا: قل لغطفان فليحملوا. فقال لصاحب شرطته: انزل. فقال: والله ما كنت لأحعل نفسي غرضاً. قال: أما والله لأسؤنك! فقال: وددت والله أنك قدرت على ذلك. وكان مروان ذلك اليوم لا يدبر شيئاً إلا كان فيه الخلل، فأمر بالأموال فأخرجت، وقال للناس: اصبروا وقاتلوا فهذه الأموال لكم. فجعل ناس من الناس يصيبون من ذلك، فقيل له: إن الناس قد مالوا على هذا المال ولا نأمنهم أن يذهبوا به. فأرسل إلى ابنه عبد الله: أن سر في أصحابك إلى قوم عسكرك فاقتل من أخذ من المال وامنعهم. فكان ممن غرق يومئذ: إبراهيم بن الوليد بن عبد الملك بن المخلوع، فاستخرجوه في الغرقى، فقرأ عبد الله: " وإذا فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون " وقيل بل قتله عبد الله بن علي بالشام. وقتل في هذه الوقعة يعيد بن هشام بن عبد الملك. وقيل: بل قتله عبد الله بالشام. وأقام عبد الله بن علي غي عسكره سبعة أيام، فقال رجل من ولد سعيد اب العاص يعير مروان: لج الفرار بمروان فقلت له: ... عاد الظلوم ظليماً همه الهرب أين الفرار وترك الملك إذ ذهبت ... عنك الهوينا فلا دين ولا حسب فراشة الحلم فرعون العقاب وإن ... تطلب نداه فكلب دونه كلب وكتب يومئذ عبد الله بن علي إلى السفاح بالفتح، وحوى عسكر مروان بما فيه فوجد سلاحاً كثيراً وأموالاً، ولم يجد فيه امرأة إلا جارية كانت لعبد الله بن مروان. فلما أتى الكتاب السفاح صلى ركعتين وأمر لمن شهد الوقعة بخمسمائة خمسمائة دينار، ورفع أرزاقهم إلى ثمانين. وكانت هزيمة مروان بالزاب يوم السبت لإحدى عشرة ليلة خلت من جمادى الآخرة؛ وكان فيمن قتل معه يحيى بن معاوية بن هشام بن عبد الملك، وهو أخو عبد الرحمن صاحب الأندلس، فلما تقدم إلى القتال رأى عبد الله ابن علي فتى عليه أبهة الشرف ياقتل مستقتلاً فناداه: يا فتى لك المان ولو كنت مروان بن محمد! فقال: إن لم أكنه فلست بدونه. قال: فلك الأمان ولو كنت من كنت. فأطرق ثم قال: أذل الحياة وكره الممات ... وكلا أراه طعاماً وبيلا فإن لم يكن غير إحداهما ... فسير إلى الموت سيراً جميلا ثم قاتل حتى قتل؛ فإذا هو مسلمة بن عبد الملك. ذكر قتل إبراهيم بن محمد بن علي الإمامقد ذكرنا سبب حبسه. واختلف الناس في موته، فقيل: إن مروان حبسه بحران، وحبس سعيد بن هشام بن عبد الملك وابنيه عثمان ومروان، وعبد الله بن عمر بن عبد العزيز، والعباس بن الوليد بن عبد الملكل، وأبا محمد السفياني، هلك منهم في وباء وقع بحران العابس بن الوليد، وإبارهيم بن محمد ابن علي الإمام، وعبد الله بن عمر. فلما كان قبل هزيمة مروان من الزاب بجمعة خرج سعيد بن هشام وابن عمه ومن معه من المحبوسين فقتلوا صاحب السجن وخرجوا، فقتلهم أهل حران ومن فيها من الغوغاء، وكان فيمن قتله أهل حران شراحيل بن مسلمة ابن عبد الملك، وعبد الملك بن بشر التغلبي، وبطريق أرمينية الرابعة واسمه كوشان، وتخلف أبو محمد السفياني في الحبس فلم يخرج فيمن خرج ومعه غيره لم يستحلوا الخروج من الحبس، فقدم مروان منهزماً من الزاب فجاء فخلى عنهم. وقيل: إن مروان هدم على إبراهيم بيتاً فقتله.
وقد قيل: إن شراحيل بن مسلمة بن عبد الملك كان محبوساً مع إبارهيم فكانا يتزاوران، فصار بينهما مودة، فأتى رسول من شراحيل إلى إبراهيم يوماً بلبن فقال: يقول لك أخوك إني شربت من هذا اللبن فاستطبته فأحببت أن تشرب منه؛ فشرب منه فتكسر جسده من ساعته، وكان يوماً يزور في شراحيل فأبطأ عليه فأرسل إليه شراحيل: إنك قد أبطأت فما حبسك؟ فأعاد إبراهيم: إني لما شربت اللبن الذي أرسلت به قد أسهلني. فاتاه شراحيل فقال: والله الذي لا إله إلا هو ما شربت اليوم لبناً ولا أرسلت به إليك! فإنا لله وإنا إليه راجعون! احتيل والله عليك. فبات أبراهيم ليلته وأصبح ميتاً؛ فقال إبراهيم ابن هرثمة يرثيه يرثيه: قد كنت أحسبني جلداً فضعضعني ... قبر بحران فيه عصمة الدين فيه الإمام وخير الناس كلهم ... بين الصفائح والأحجار والطين فيه الإمام الذي عمت مصيبته ... وعيلت كل ذي مالٍ ومسكين فلا عفا الله عن مروان مظلمةً ... لكن عفا الله عمن قال آمين وكان إبراهيم خيرأ فاضلاً كريماً، قدم المدينة مرةً ففرق في أهلها مالاً جليلاً، وبعث إلى عبد الله بن الحسن بن الحسن بخمسمائة دينار، وبعث إلى جعفر بن محمد بألف دينار، فبعث إلى جماعة العلويين بمال كثير، فأتاه الحسين بن زيد بن علي وهو صغير فأجلسه في حجرة قال: من أنت؟ قال: أنا الحسين بن زيد بن علي. فبكى حتى بل رداءه وأمر وكيله بإحضار ما بقي من المال، فأحضر أربعمائة دينار، فسلمها إليه وقال: لو كان عندنا شيء آخر لسلمته إليك، وسير معه بعض مواليه إلى أمه رابطة بنت عبد الملك بن محمد بن الحنفية يعتذر إليها. وكان مولده سنة اثنتين وثمانين، وأمه أم ولد بربرية اسمها سلمى. وكان ينبغي أن يقدم ذكر قتله على هزيمة مروان، وإنما قدمنا ذلك لتتبع الحادثة بعضها بعضاً. ذكر قتل مروان بن محمد بن الحكموفي هذه السنة قتل مروان بن محمد، وكان قتله ببوصير، من أعمال مصر، لثلاث بقين من ذي الحجة سنة اثنتين وثلاثين ومائة. وكان مروان لما هزمه عبد الله بن علي بالزاب أتى مدينة الموصل وعليها هشام بن عمرو التغلبي وبشر بن خزيمة الأسدي فقطعا الجسر! فناداهم أهل الشام: هذا أمير المؤمنين مروان! فقالوا: كذبتم، أمير المؤمنين لا يفر! وسبه أهل الموصل، وقالوا: ياجعدي! يا معطل الحمد لله الذي أزال سلطانكم وذهب بدولتكم! الحمد لله الذي أتانا بأهل بيت نبينا! فلما سمع ذلك سار إلى بلد فعبر دجلة وأتى حران، وبها ابن أخيه أبان بن يزيد بن محمد بن مروان عامله عليها، فأقام بها نيفاً وعشرين يوماً. وسار عبد الله بن علي حتى أتى الموصل فدخلها وعزل عنها هشاماً واستعمل عليها محمد بن صول، ثم سار في أثر مروان بن محمد، فلما دنا منه عبد الله حمل مروان أهله وعياله ومضى منهزماً وخلف بمدينة حران ابن أخيه أبان بن يويد وتحته أم عثمان ابنة مروان. وقدم عبد الله بن علي حران، فلقيه أبان مسوداً مبايعاً له، فبايعه ودخل في طاعته، فآمنه ومن كان بحران والجزيرة. ومضى مروان إلى حمص، فلقيه أهلها بالسمع والطاعة، فأقام بها يومين أو ثلاثة ثم سار منها. فلما رأوا قلة ممن معه طمعوا فيه وقالوا: مرعوب منهزم؛ فاتبعوه بعدما رحل عنهم فلحقوه على أميال. فلما رأى غبرة الخيل كمن لهم، فلما جاوزوا الكمين صافهم مروان فيمن معه وناشدهم، فأبوا إلا قتاله، فقاتلهم وأتاهم الكمين من خلفهم، فانهزم أهل حمص وقتلوا حتى انتهوا إلى قريب المدينة. وأتى مروان دمشق وعليها الوليد بن معاوية بن مروان، فخلفه بها وقال: قاتلهم حتى يجتمع أهل الشام. ومضى مروان حتى أتى فلسطيم فنزل نهر أبي فطرس، وقد غلب على فلسطين الحكم بن ضبعان الجذامي، فأرسل مروان إلى عبد الله بن يزيد بن روح بن زنباع الجذامي فأجاره، وكان بيت المال في يد الحكم.
وكان السفاح قد كتب إلى عبد الله بن علي يأمره باتباع مروان، فسار حتى أتى الموصل، فتلقاه من بها مسودين وفتحوا له المدينة؛ ثم سار إلى حران، فتلقاه أبان بن يزيد مسوداً، كما تقدم، فآمنه وهدم عبد الله الدار التي حبس فيها إبراهيم. ثم سار من حران إلى منبج، وقد سودوا، فأقام بها، أياماً، ثم سار إلى بعلبك فأقام يومين، ثم سار فنزل مزة دمشق، وهي قرية من قرى الغوطة؛ وقدم عليه أخوه صالح بن علي مدداً فنزل مرج عذراء في ثمانية آلاف؛ ثم تقدم بعبد الله فنزل على الباب الشرقي، ونزل صالح على باب الجابية، ونزل أبو عون على باب كيسان، ونزل بسام بن إبراهيم على باب الصغير، ونزل حميد بن قحطبة على باب توما، وعبد الصمد ويحيى بن صفوان والعباس بن يزيد على باب الفراديس، وفي دمشق الوليد بن معاوية، فحصروه ودخلوها عنوة يوم الأربعاء لخمس مضين من رمضان سنة اثنتين وثلاثين ومائة. وكان أول من صعد سور المدينة من باب شرقي عبد الله الطائي، ومن ناحية باب الصغير بسام بن إبراهيم، فقاتلوا بها ثلاث ساعات، وقتل الوليد ابن معاوية فيمن قتل. وأقام عبد الله بن علي في دمشق خمسة عشر يوماً، ثم سار يريد فلسطين، فلقيه أهل الأردن وقد سودوا، وأتى أبي فطرس وقد ذهب مروان، فأقام عبد الله بفلسطين، ونزل بالمدينة يحيى بن جعفر الهاشمي، فأتاه كتاب السفاح يأمره بإرسال صالح بن علي في طلب مروان. فسار صالح من نهر أي فطرس في ذي القعدة سنة اثنتين وثلاثين ومائة ومعه ابن فتان وعامر بن إسماعيل، فقدم صالح أبا عون وعامر بن إسماعيل الحارثي، فساروا حتى بلغوا العريش. فأحرق مروان ما كان حوله من علف وطعام. وسار صالح فنزل النيل، ثم سار حتى أتى الصعيد، وبلغه أن خيلاً لمروان يحرقون الأعلاف فوجه إليهم فأخذوا وقدم بهم على صالح وهو بالفسطاط، وسار فنزل موضعاً يقال له ذات السلاسل، وقدم أبو عون عامر ابن إسماعيل الحارثي وشعبة بن كثير المازني في خيل أهل الموصل فلقوا خيلاً لمروان فهزمهم وأسروا منهم رجالاً فقتلوابعضاً واستحيوا بعضاً، فسألوهم عن مروان فأخبروهم بمكانه على أن يؤمنوهم، وساروا فوجدوه نازلاً في كنيسة في بوصير، فوافوه ليلاً، وكان أصحاب أبي عون قليلين، فقال لهم عامر بن إسماعيل: إن أصبحنا وأوا قلتنا أهلكونا ولم ينج منا أحد. وكسر جفن سيفه وفعل أصحابه مثله وحملوا على أصحاب مروان فانهزموا، وحمل رجل من أهل الكحوفة كان يبيع الرمان فاحتز رأسه، فأخذه عامر فبعث به إلى أبي عون، وبعثه أبو عون إلى صالح. فلما وصل إليه أمر أن يقص لسانه، فانقطع لسانه، فأخذه هر، فقال صالح: ماذا ترينا الأيام من العجائب والعبر! هذا لسان مروان قد أخذه هر؛ وقال شاعر: قد فتح الله مصراً عنوةً لكم ... وأهلك الفاجر الجعدي إذ ظلما فلاك مقوله هر يجرره ... وكان ربك من ذي الكفر منتقما وسيره صالح إلى أبي العباس السفاح. وكان قتله لليلتين بقيتا من ذي الحجة، ورجع صالح إلى الشام وخلف أبا عون بمصر وسلم إليه السلاح والأموال والرقيق. ولما وصل الرأس إلى السفاح كان بالكوفة، فلما رآه سجد ثم رفع رأسه فقال: الحمد الله الذي أظهرني عليك وأظفرني بك ولم يبق ثأري قبلك وقبل رهطك أعداء الدين! وتمثل: لو يشربون دمي لم يرو شاربهم ... ولا دماؤهم للغيظ ترويني ولما قتل مروان هرب ابناه عبد الله وعبيد الله إلى أرض الحبشة، فلقوا من الحبشة بلاء، قاتلهم الحبشة فقتل عبيد الله ونجا عبد الله وعدة ممن معه، فبقي إلى خلافة المهدي، فاخذه نصر بن محمد بن الشعث، عامل فلسطين، فبعث به إلى المهدي. ولما قتل مروان قصد عامر الكنيسة التي فيها حرم مروان، وكان قد وكل بهن خادماً وأمره أن يقتلهن بعده، فأخذه عامر وأخذ نساء مروان وبناته فسيرهن إلى صالح بن علي بن عبد الله بن عباس. فلما دخلن عليه تكلمت ابنة مروان الكبرى فقالت: يا عم أمير المؤمنين! حفظ الله لك من أمرك ما تحب حفظه، نحن بناتك وبنات أخيك وابن عمكفليسعنا من عفوكم ما وسعكم من جورنا.
قال: والله لا استبقي منكم واحداً! ألم يقتل أبوك ابن أخي إبراهيم الإمام؟ ألم يقتل هشام بن عبد الملك زيد بن علي بن الحسين وصلبه في الكوفة؟ ألم يقتل الوليد بن يزيد يحيى بن زيد وصلبه بخراسان؟ أل يقتل ابن زياد الدعي مسلم بن عقيل؟ ألم يقتل يزيد بن معاوية الحسين بن علي وأهل بيته؟ ألم يخرج إليه بحرم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، سبايا فوقفهن موقف السبي؟ ألم يحمل رأس الحسين وقد قرع دماغه؟ فما الذي يحملني على الإبقاء عليكن؟! قالت: فليسعنا عفوكم! فقال: أما هذا فنعم، وإن أحببت زوجتك ابني الفضل! فقالت: وأي عز خير من هذا! بل تلحقنا بحران. فحملهن إليها، فلما دخلنها ورأين منازل مروان رفعن أصواتهن بالبكاء. قيل: كان يوماً بكير بن ما هان مع أصحابه قبل أني قتل مروان يتحدث إذ مر به عامر بن إسماعيل وهو لا يعرفه فأتى دجلة واستقى من مائها ثم رجع، فدعاه بكير فقال: ما اسمك يا فتى؟ قال: عامر بن إسماعيل بن الحارث. قال: فكن من بني مسلية. قال: فأنا منهم. قال: أنت والله تقتل مروان! فكان هذا القول هو الذي قوى طوع عامر في قتل مروان. ولما قتل مروان كان عمره اثنتين وستين سنة، وقيل: تسعاً وستين سنة؛ وكانت ولايته من حين بويع إلى أن قتل خمس سنين وعشرة أشهر وستة عشر يوماً؛ وكان يكنى أبا عبد الملك؛ وكانت أمه أم ولد كردية، كانت لإبراهيم بن الأشتر، أخذها محمد بن مروان يوم قتل إبراهيم فولدت مروان فلهذا قال عبد الله بن عياش المشرف للسفاح: الحمد لله الذي أبدلنا بحمار الجزيرة وابن أمة النخع ابن عم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ابن عبد المطلب. وكان مروان يلقب بالحمار والجعدي لأنه تعلم من الجعد بن درهم مذهبه في القول بخلق القرآن والقدر وغير ذلك، وقيل: إن الجعد كان زنديقاً، وعظمه ميمون بن مهران فقال: لشاه قباذ أحب إلي مما تدين به. فقال له: قتلك الله، وهو قاتلك، وشهد عليه ميمون، وطلبه هشام فظفر به وسيره إلى خالد القسري فقتله، فكان الناس يذمون مروان بنسبته إليه. وكان مروان أبيض أشهل شديد الشهلة، ضخم الهامة، كث اللحية أبيضها، ربعة؛ وكان شجاعاً حازماً إلا أن مدته انقضت فلم ينفعه حزمه ولا شجاعته. عياش بالياء تحتها نقطتان، والشين المعجمة. ذكر من قتل من بني أميةدخل سديف على السفاح وعنده سليمان بن هشام بن عبد الملك وقد أكرمه، فقال سديف: لا يغرنك ما ترى من الرجال ... إن تحت الضلوع داء دوياً فضع السيف وارفع السوط حتى ... لا ترى فوق ظهرها أمويا فقال سليمان: قتلتني يا شيخ! ودخل السفاح، وأخذ سليمان فقتل. ودخل شبل بن عبد الله مولى بني هاشم على عبد الله بن علي وعنده من بني أمية نحو تسعين رجلاً على الطعام، فأقبل عليه شبل فقال: أصبح الملك ثابت الآساس ... بالبهاليل من بني العابس طلبوا وتر هاشم فشفوها ... بعد ميلٍ من الزمان وياس لا تقيلن عبد شمسٍ عثاراً ... واقطعن كل رقلةٍ وغراس ذلها أظهر التودد منها ... وبها منكم كحر المواسي ولقد غاظني وغاظ سوائي ... قربهم من تنمارقٍ وكراسي أنزلوها بحيث أنزلها الل ... ه بدار الهوان والإتعاس والقتل الذي بحران أضحى ... ثاوياً بين غربةٍ وتناس فأمر بها عبد الله فضربوا بالعمد حتى قتلوا، وبسط عليهم الأنطاع فأكل الطعام عليها وهو يسمع أنين بعهم حتى ماتوا جيمعاً، وأمر عبد الله ابن علي بنبش قبور بني أمية بدمشق، فنبش قبر معاوية بن أبي سفيان، فلم يجدوا فيه إلا خيطاً مثل الهباء، ونبش قبر يزيد بن معاوية بن أبي سفيان فوجدوا فيه حطاماً كأنه الرماد، ونبش قبر عبد الملك فإنه وجد صحيحاً لم يبل منه إلا أرنبة أنفه، فضربه بالسياط وصلبه وحرقه وذراه في الريح.
وتتبع بني امية من أولاد الخلفاء وغيرهم فأخذهم، ولم يفلت منهم إلا رضيع أو من هرب إلى الأندلس، فقتلهم بنهر أبي فطرس، وكان فيمن قتل: محمد بن عبد الملك بن مروان، والغمر بن يزيد بن عبد الملك، وعبد الواحد بن سليمان بن عبد الملك، وسعيد بن عبد الملك، وقيل: غنه مات قبل ذلك، وأبو عبيدة بن الوليد بن عبد الملك، وقيل: إن إبراهيم بن يزيد المخلوع قتل معهم، واستصفى كل شيء لهم من مال وغي ذلك؛ فلما فرغ منهم قال: بني أمية قد أفنيت جمعكم ... فكيف لي منكم بالأول الماضي يطيب النفس أن النار تجمعكم ... عوضتم منم لظاها شر معتاض منيتم، لا أقال الله عثرتكم، ... بليث غاب إلى الأعداء نهاض إن كان غيظي منكم لفوتٍ فلقد ... منيت منكم بما ربي به راض وقيل: إن سديفاً أنشد هذا الشعر للسفاح ومعه كانت الحادثة، هو الذي قتلهم. وقتل سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس بالبصرة أيضاً جماعةً من بني أمية عليهم الثياب الموشية المرتفعة وأمر بهم فجروا بأرجلهم فألقوا على الطريق فأكلتهم الكلاب. فلما رأى بنو أمية ذلك اشتد خوفهم وتشتت شملهم واختفى من قدر على الاختفاء وكان ممن اختفى منهم عمرو بن معاوية بن عمرو بن سفيان بن عتبة بن أبي سفيان. قال: وكنت لا اتي مكاناً إلا عرفت فيه،فضاقت على الأرض، فقدمت على سليمان بن علي، وهو لا يعرفني، فقلت: لفظتني البلاد إليك، ودلني فضلك عليك، فإما قتلتني فاسترحت، وإما رددتني سالماً فامنت. فقال: ومن أنت؟ فعرفته نفسي، فقال: مرحباً بك، ما حاجتك؟ فقتل: إن الحرم اللواتي أنت أولى الناس بهن وأقربهم إليهن قد خفن لخوفنا ومن خاف خيف عليه. قال: فبكى كثيراً ثم قال: يحقن الله دمك ويوفر مالك ويحفظ حرمك. ثم كتب إلى السفاح: يا أمير الؤمنين إنه قد وفد وافد من بني أمية علينا، وإنا قتلناهم على عقوقهم لا على أرحامهم، فإننا يجمعنا وإياهم عبد مناف والرحم تبل ولا تقتل وترفع ولا توضع، فإن رأى أمير المؤمنين أن يهبهم لي فليفعل، وإن فعل فليجعل كتاباً عاماً إلى البلدان نشكر الله تعالى على نعمه عندنا وإحسانه إلينا. فأجابه إلى ما سأل، فكان هذا أول أمان بني أمية. ذكر خلع حبيب بن مرة المريوفي هذه السنة بيض حبيب بن مرة المري وخلع هو ومن معه من أهل البثنية وحوران، وكان خلعهم قبل خلع أبي الورد، فسار إليه عبد الله وقاتله دفعاتٍ، وكان حبيب من قواد مروان وفرسانه. وكان سبب تبييضه الخوف على نفسه وقومه، فبايعته قيس وغيرهم ممن يليهم. فلما بلغ عبد الله خروج أبي الورد ةتبييضه دعا حبيباً إلى الصلح، فصالحه وآمنه ومن معه وسار نحو أبي الورد. ذكر خلع أبي الورد وأهل دمشقوفيها خلع أبو الورد مجزاة بن الكوثرة بن زفر بن الحارث الكلابي، وكان من أصحاب مروان وقواده. وكان سبب ذلك أن مروان لما انهزم قام أبو الورد بقنسرين، فقدمها عبد الله بن علي فبايعه أبو الورد ودخل فيما دخل فيه جنده، وكان ولد مسلمة بن عبد الملك مجاورين له ببالس والناعورة، فقدم بالس قائد من قواد عبد الله بن علي فبعث بولد مسلمة ونسائهم، فشكا بعضهم ذلك إلى أبي الورد، فخرج من مزرعة له يقال لها خساف فقتل ذلك القائد ومن معه وأظهر التبييض والخلع لعبد الله، ودعا أهل قنسرين إلى ذلك، فبيضوا أجمعهم، والسفاح يومئذ بالحيرة، وعبد الله بن علي مشتغل بحرب حبيب بن مرة المري بأرض البلقاء وحوران والبثنية، على ماذكرناه.
فلما بلغ عبد الله بييض أهل قنسرين وخلعهم صالح حبيب بن مرة وسار نحو قنسرين للقاء أبي الورد، فمر بدمشق فخلف بها أبا غانم عبد الحميد بن ربعي الطائي في أربعة آلاف، وكان بدمشق أهل عبد الله وأمهات أولاده وثقله، فلما قدم حمص انتقض له أهل دمشق وبيضوا وقاموا مع عثمان بن عبد الأعلى بن سراقة الأزدي فلقوا أبا غانم ومن معه فهزموه وقتلوا من أصحابه مقتلةً عظيمة وانتهبوا ما كان عبد الله خلف من ثقله ولم يعرضوا لأهله واجتمعوا على الخلاف. وسار عبد الله، وكان قد اجتمع مع أبي الورد جماعة من أهل قنسرين وكاتبوا من يليهم من أهل حمص وتدمر، فقدم منهم ألوف عليهم أبو محمد بن عبد الله بن يزيد بن معاوية، ودعوا إليه، وقالوا: هذا السفياني الذي كان يذكر، وهم في نحو من أربعين ألفاً، فعسكروا بمرج الأخرم، ودنا منهم عبد الله بن علي ووجه إليهم أخاه عبد الصمد بن علي في عشرة آلاف، وكان أبو الورد هو المدبر لعسكر قنسرين وصاحب القتال، فناهضهم القتال، وكثر القتل في الفريقين، وانكشف عبد الصمد ومن معه، وقتل منهم ألوف ولحق بأخيه عبد الله. فأقبلى عبد الله معه وجماعة القواد فالتقوا ثانيةً بمرج الأخرم فاقتتلوا قتالاً شديداً، وثبت عبد الله، فانهزم أصحاب أبي الورد وثبت هو في نحو من خمسمائة من قومه وأصحابه فقتلوا جميعاً، وهرب أبو محمد ومن معه حتى لحقوا بتدمر، وآمن عبد الله أهل قنسرين وسودوا وبايعوه ودخلوا في طاعته. ثم انصرف راجعاً إلى أهل دمشق لما كان من تبييضهم عليه، فلما دنا منهم هرب الناس ولم يكن منهم قتال، وآمن عبد الله أهلها وبايعوه ولم يأخذهم بما كان منهم. ولم يزل أبو محمد السفياني متغيباً هارباً ولحق بأرض الحجاز وبقي كذلك إلى أيام المنصور، فبلغ زياد بن هبد الله الحارثي عامل المنصور مكانه، فبعث إليه خيلاً فقاتلوه فقتلوه وأحذوا ابنين له أسيرين، فبعث زياد برأس أبي محمد بن عبد الله السفياني وبابنيه، فأطلقهما المنصور وآمنهما. وقيل: إن حرب عبد الله وأبي الورد كانت سلخ ذي الحجة سنة ثلاث وثلاثين ومائة. ذكر تبييض أهل الجزيرة وخلعهموفي هذه السنة بيض أهل الجزيرة وخلعوا أبا العباس السفاح وساروا إلى حران وبها موسى بن كعب في ثلاثة آلاف من جند السفاح فحاصروه بها وليس على أهل الجزيرة رأس يجمعهم، فقدم عليهم إسحاق بن مسلم العقيلي من أرمينية، وكان سار عنها حين بلغه هزيمة مروان، فاجتمع عليه أهل الجزيرة وحاصر موسى بن كعب نحواً من الشهرين. ووجه أبو العباس السفاح أخاه أبا جعفر فيمن كان معه من الجنود بواسط محاصرين ابن هبيرة، فسار فاجتاز بقرقيسيا والرقة، وأهلهما قد تبيضوا، وسار نحو حران، فرحل إسحاق بن مسلم إلى الرهاء، وذلك سنة ثلاث وثلاثين ومائة، وخرج موسى بن كعب من حران فلقي أبا جعفر. ووجه إسحاق بن مسلم أخاه بكار بن مسلم إلى ربيعة بدارا ومادرين، ورئيس ربيعة يومئذ رجل من الحرورية يقال له بريكة، فعمد إليهم أبو جعفر فلقيهم، فقاتلوه قتالاً شديداً، وقتل بريكة في المعركة، وانصرف بكار إلى أخيه إسحاق بالرهاء، فخلفه إسحاق بها وسار إلى سميساط في عظم عسكره،وأقبل أبو جعفر إلى الرهاء، وكان بينهم وبين بكار وقعات. وكتب السفاح إلى عبد الله بن علي يأمره أن يسير في جنوده إلى سمياط، فسار حتى نزل بإزاء إسحاق بسمياط، وإسحاق في ستين ألفاً وبينهم الفرات، وأقبل أبو جعفر من الرهاء وحاصر إسحاق بسميساط سبعة أشهر، وكان إسحاق يقول: في عنقي بيعة، فأنا لا ادعها حتى أعلم أن صاحبها مات أوقتل. فأرسله إليه أبو جعفر: إن مروان قد قتل. فقالك حتى أتيقن. فلما تيقن قتله طلب الصلح والأمان، فكتبوا إلى السفاح بذلك وأمرهم أن يؤمنوه ومن معه، فكتبوا بينهم كتاباً بذلك، وخرج إسحاق إلى أبي جعفر، وكان عنده من آثر صحابته، واستقام أهل الجزيرة والشام، وولى أبو العباس أخاه أبا جعفر الجزيرة وأرمينية وأذربيجان، فلم يزل عليها حتى استخلف. وقد قيل: إن عبد الله بن علي هو الذي آمن إسحاق بن مسلم. ذكر قتل أبي سلمة الخلال وسليمان بن كثير
قد ذكرنا ما كان من أبي سلمة في أمر أبي العباس السفاح ومن كان معه من بني هاشم عند قدومهم الكوفة بحيث صار عندهم متهماً، وتغير السفاح عليه وهو بعسكره بحمام أعين، ثم تحول عنه إلى المدينة الهاشمية فنزل قصر الإمارة بها وهو متكر لأبي سلمة.وكتب إلى أبي مسلم يعلمه رأيه فيه وما كان هم به من الغش، وكتب إليه أبو مسلم: إن كان أمير المؤمنين اطلع على ذلك منه فليقتله. فقال داود بن علي للسفاح: لا تفعل يا أمير المؤمنين فيحتج بها أبو مسلم عليك واهل خراسان الذين معك أصحابه، وحاله فيهم حاله، ولكن اكتب إلى أبي مسلم فليبعث إليه من يقتله. فكتب إليه، فبعث أبو مسلم مرار بن أنس ال2ضبي لقتله، فقدم على السفاح فأعلمه بسبب قدومه، فأمر السفاح منادياً فنادى: إن أمير المؤمنين قد رضي عن أبي سلمة ودعاه فكساه، ثم دخل عليه بعد ذلك ليلة فلم يزل عنده حتى ذهب عامل الليل، ثم انصرف إلى منزله وحده، فعرض له مرار ابن أنس ومن معه من أعوانه فقتلوه وقالوا: قتله الخوارج، ثم أخرج من الغد فصلى عليه يحيى بن محمد بن علي ودفن بالمدينة الهاشمية عند الكوفة، فقال سليمان بن المهاجر البجلي. إن الوزير وزير آل محمد ... وأدى فمن يشناك صار وزيرا وكان يقال لأبي سلمة: وزير آل محمد، ولأبي مسلم، فملا قدم على أبي مسلم سايره عبيد الله بن الحسن الأعرج وسلميان بن كثير، فقال سليمان بن كثير لعبيد الله: يا هذا إنا كنا نرجو أن يتم أمركم، فإذا شئتم فادعونا إلى ما تريدون. فظن عبيد الله أنه دسيس من أبي مسلم، فأتى أبا مسلم فأخبره وخاف أن يعلمه أن يقتله، فاحضر أبو مسلم سليمان بن كثير وقال له: احفظ قوزل الإمام لي من اتهمته فاقتله؟ قال: نعم. قال: فإني اتهمتك. قال: أنشدك الله! قال: لا تناشدني، فانت منطوٍ على غش الإمام، وأمر بضرب عنقه. ورجع أبو جعفر إلى السفاح فقال: لست خليفة ولا أمرك بشيء إن تركت أبا مسلم ولم تقتله. قال: وكيف؟ قال: والله ما يصنع إلا ما أراد. قال أبو العباس: فاكتمها. وقد قيل: إن أبا جعفر إنما سار إلى أبي مسلم قبل أن يقتل أبو سلمة. وكان سبب ذلك أن السفاح لما ظهر تذاكروا ما صنع أبو سلمة فقال بعض من هناك: لعل ما صنع كان من رأي أبي مسلم. فقال السفاح: لئن كان هذا عن رأيه إنا لنعرفن بلاء إلا أن يدفعه الله عنا. وأرسل أخاه أبا جعفر إلى أبي مسلم ليعلم رأيه. فسار إليه وأعلمه ما كان من أبي سلمة فأرسل مرار بن أنس فقتله. ذكر محاصرة ابن هبيرة بواسطقد ذكرنا ما كان من أمر يزيد بن هليرة والجيش الذين لقوه من أهل خاسان مع قحطبة، ثم مع ابنة الحسن، وانهزامه إلى واسط وتحصنه بها، وكان لما انهزم قد وكل بالأثال قوماً، فذهبوا بها، فقال له حوثرة: أين تذهب وقد قتل صاحبهم؟ يعني قحطبة، امض إلى الكوفة ومعك جند كثير، فقاتلهم حتى تقتل أو تظفر. قال: بل نأتي واسطاً فننظر. قال: مكا تريد على أن تمكنه من نفسك وتقتل. وقال يحيى بن حضين: غنك لو تأتي مروان بشيء أحل إليه من هذه الجنود، فالزم الفارت حتى تأتيه، وأياك وواسطاً فتصير في حصار ولي بعد الحصر إلا القتل. لإابى. وكان يخاف مروان لأنه كان يكتب إليه بالأمر فيخالفه، فخاف أن يقتله، فأتى واسطاً فتحصن بها؛ وسير أبو سلمة إليه الحسن بن قحطبة فحصره، وأول وقعة كانت بينهم يوم الأربعاء. قال أهل الشام لابن هيرة: ايذن لنا في قتالهم. فأذن لهم، فخرجوا وخرج ابن هبيرة وعلى ميمنته ابنه داود، فالتقوا وعلى ميمنة الحسن خازم بن خزيمة، فحمل خازم على ابن هبيرة، فانهزم هو ومن معه وغص الباب بالناس، ورمى أصحابه بالعرادات، ورجع أهل الشام، فكر عليهم الحسن واضطرهم إلى دجلة، فغرق منهم ناس كثير، فتلقوهم بالسفن وتحاجزوا، فمكثوا سبعة أيام ثم خرجوا إليهم فاقتتلوا وانهزم أهل الشام هزيمةً قبيحة، فدخلوا المدينة، فمكثوا ما شاء الله لا يقاتلون إلا رمياً.
وبلغ ابن هبيرة، وهو في الحصار، أن أبا أمية التغلبي قد سود فأخذه وحبسه، فتكلم ناس من ربيعة في ذلك ومعن بن زائدة السيباني وأخذوا ثلاثة من فزارة رهط ابن هبيرة فحبسوهم. وشتموا ابن هبيرة وقالوا: لا نترك ما في أيدينا حتى يترك ابن هبيرة صاحبنا، وابى أبن هبيرة أن يطلقه، فاعتزل معن وعبد الرحمن بن بشير العجلي فيمن معهما. فقيل لابن هبيرة: هؤلاء فرسانك قد أفسدتهم، وإن تماديت في ذلك كانوا أشد عليك ممن حصرك. فدعا أبا أمية فكساه وخلى سبيله، فاصطلحوا وعادوا إلى ما كانوا عليه. وقدم أبو نصر مالك بن الهيثم من ناحية سجستان إلى الحسن، فأوفد الحسن وفداً إلى السفاح بقدوم أبي نصر عليه، وجعل على الوفد غيلان بن عبد الله الخزاعي، وكان غيلان واجداً على الحسن لأنه سرحه إلى روح بن حاتم مدداً له، فلما قدم على السفاح وقال: أشهد أنط أمير المؤمنين، وأنك حبل الله المتين، وأنك إمام المتقين. قال: حاجتك يا غيلان؟ قال: أستغفرك. قال: غفر الله لك. قال غيلان: يا أمير المؤمنين من علينا برجل من أهل بيتك ننظر إلى وجهه وتقر عيننا به. فبعث أخاه أبا جعفر لقتال ابن هبيرة عند رجوعه من خراسان. وكتب إلى الحسن: إن العسكر عسكرك، والقواد قوادك، ولكن أحببت أن يكون أخي حاضراً، فاسمع له وأطع وأحسن موازرته. وكتب إلى مالك بن الهيثم بمثل ذلك.وكان الحسن هو المدبر لأمر ذلك العسكر. فلما قدم أبو جعفر المنصور على الحسن تحول الحسن عن خيمته وأنزله فيها، وجلعل الحسن على حرس المنصور عثمان بن نهيك. وقاتلهم مالك بن الهيثم يوماً فانهزم أهل الشام إلى خنادقهم وقد كمن لهم معن وأبو يحيى الجذامي. فملا جازهم أصحاب مالك خرجوا عليهم فقاتلوهم حتى جاء الليل، وابن هبيرة على برج الخلالين، فاقتتلوا ما شاء الله من الليل، وسرح ابن هبيرة إلى معن يأمره بالآنصاف، فانصرف، فمكثوا أياماً، وخرج أهل واسط أيضاً مع معن ومحمد بن نباتة، فقاتلهم أصحاب الحسن فهزموهم إلى دجلة حتى تساقطو فيها ورجعوا وقد قتل ولد مالك بن الهيثم، فملا رآه أبوه قتيلاً قال: لعن الله الحياة بعدك! ثم حملوا على أهل واسط فقاتلوهم حتى المدينة. وكان مالك يملأ السفن حطباً ثم يضرمها ناراً لتحرق ما مرت به، فكان ابن هبية يجر تلك السفن بكلاليب، فمكثوا كذلك أحد عشر شهراً. فلما طال عليم الحصار طلبوا لصلح، ولم يطلبوه حتى جاءهم خبر قتل مروان، أتاهم به إسماعيل بن عبد الله القسري وقال لهم: علام تقتلون أنفسكم وقد قتل مروان؟ وتجنى أصحاب ابن هبيرة عليه، فقالت اليمانية: لا نعين مروان زآثاره فينا آثاره. وقالت النزارية: لا تقاتل حتى تقاتل معنا اليمانية، وكان يقاتل معه صعاليك الناس وفتيانهم. وهم ابن هبيرة بأن يدعو إلى محمد بن عبد الله بن الحسن بن علي، فكتب إليه، فأبطأ جوابه، وكاتب السفاح اليمانية من أصحاب ابن هبيرة وأطمعهم، فخرج إليه زياد بن صالح وزياد بن عبد الله الحارثيان ووعدا ابن هبيرة أن يصلحا له ناحية ابن العباس، فلم يفعلا، وجرت السفراء بين أبي جعفر وابن هبيرة حتى جعل له أماناً وكتب به كتاباً مكث ابن هبية يشاور فيه العلماء أربعين يوماً حتى رضيه فأنفذه إلى أبي جعفر، فأنفذه أبو جعفر إلى أخيه السفاح فأمره بأمضائه. وكان رأي أبي جعفر الوفاء له بما أعطاه، وكان السفاح لا يقطع أمراً دون أبي مسلم، وكان أبو الجهم عيناً لأبي مسلم على السفاح، فكتب السفاح إلى أبي مسلم يخبره أمر ابن هبية، فكتب أبو مسلم إليه: إن الطريق السهل إذا ألقيت فيه الحجارةفسد، ولا واله لا يصلح طريق فيه ابن هبيرة. ولما تم الكتاب خرج ابن هبيرة إلى أبي جعفر في ألف وثلاثمائة من الخارية وأراد أن يدخل على دابته، فقام إليه الحاجب سلام بن سليم فقال: مرحباً بك أبا خالد، انزل راشداً! وقد أطاف بحجرة المنصور عشرة آلاف من أهل خراسان، فنزل، ودعا له بوسادة ليجلس عليها، وأدخل القواد ثم أذن لابن هبيرة وحده، فدخل وحادثه ساعةً ثم قام ثم مكث يأتيه يوماً ويتركه يوماً، فكان يأتيه في خمسمائة فارس وثلاثمائة راجل. فقيل لأبيجعفر: إن ابن هبيرة ليأتي فيتضعضع له العسكر وما نقص من سلطانه شيء. فأمره أبو جعفر أن لا يأتي إلا في حاشيته فكان يأتي في ثلاثين، ثم صار يأتي في ثلاثة أو أربعة.
وكلم ابن هبيرة المنصور يوماً، فقال له ابن هبيرة: يا هناه! أو: يا أيها المرء! ثم رجع فقال: أيها الأمير إن عهدي بكلام الناس بمثل ما خاطبتك به لقريب فسبقني لساني إلى ما لم أرده. فألح السفاح على أبي جعفر يأمره بقتل ابن هبيرة وهو يراجعه حتى كتب إليه: والله لتقتلنه أو لأرسلن إليه من يخرجه من حجرتك ثم يتولى قتله. فعزم على قتله، فبعث خازم بن خزيمة والهيثم بن شعبة بن ظهير وأمرهما بختم بيوت الأموال، ثم بعث إلى وجوه من مع ابن هبيرة من القيسية والمضرية فأحضرهم، فأقبل محمد بن نباتة وحوثرة بن سهيل في اثني وعشرين رجلاً، فخرج سلام بن سليم فقال: أين ابن نباته وحوثرة؟ فدخلا وقد أجلس أبوز جعفر عثمان بن نهيك وغيره في مائة في حجة دون حجرته، فنزعت سيوفهما وكتفا، واستدعى رجلين رجلين يفعل بهما مثل ذلك، قال بعضهم: أعطينمونا عهد الله ثم غدرتم بنا! إنا لنرجو ان يدرككم الله! وجعل ابن نباتة يضرط فيلحية نفسه وقال: كأني كنت أنظر إلى هذا. وانطلق خازم والهيثم بن شعبة في نحو من مائة إلى ابن هبيرة فقالوا: نريد حمل المال. فقال لحاجبه: دلهم على الخزائن. فأقاموا عند كل بيت نفراً، وأقبلوا نحوه وعنده ابنه داود وعدة من مواليه وبني له صغير في حجرة. فلما أقبلوا نحوه قام حاجبه في وجوههم، فضربه الهيثم بن شعبة على حبل عاتقه فصرعه، وقاتل ابنه داود، وأقبل هو إليه ونحى ابنه من حجرة فال: دونكم هذا الصبي، وخر ساجاً فقتل؛ وحملت رؤوسهم إلى أبي جعفر، ونادى بالأمان للناس إلا الحكم بن عبد الملك بن بشر، وخاد بن سلمة المخزومي، وعمر، بن ذر، فاستأمن زياد بن عبد الله لابن ذر، فأمنه، وهرب الحكم، وآمن أبو جعفر خالداً فقتله السفاح ولم يجز أمان أبي جعفر ، فقال أبو العطاء السندي يرثي ابن هبيرة. ألا إن عيناً لم تجد يوم واسطٍ ... عليك بجاري دمعها لجمود عشية قام النائحات وصفقت ... أكف بأيدي مأتم وخدود فإن تمس مهجور الفناء فربما ... أقام به بعد الوفود وفود فإنك لم تبعد على متعهدٍ ... بلى كل من تحت التراب بعيد ذكر قتل عمال أبي سلمة بفارسوفي هذه السنة وجه أبو مسلم الخراساني محمد بن الأشعث على فارس وأمره أن يقتل عمال أبي سلمة، ففعل ذلك، فوجه السفاح عمه عيسى ابن علي إلى فارس، وعليها محمد بن الأشعث، فأراد محمد قتل عيسى، فقيل له: إن هذا لا يسوغ لك. فقال: بلى أمرني أبو مسلم أن لايقدم أحد علي يدعي الولاية من غيره إلا ضربت عنقه؛ ثم ترك عيسى خوفاً من عاقبة قتله واستحلف عبيسى بالأيمان المحرجة أن لا يعلو منبراً ولا يتقلد سيفاً إلا في جهاد، فلم يل عيسى بعد ذلك ولاية ولا تقلد سيفاً إلا في غزو، ثم وجه السفاح بعد ذلك إسماعيل بن علي والياً على فارس. ذكر ولاية يحيى بن محمد الموصل وما قيل فيهاوفي هذه السنة استعمل السفاح أخاه يحيى بن محمد على الموصل عوض محمد بن صول. وكان سبب ذلك أن أهل الموصل امتنعوا من طاعة محمد بن صول، وقالوا: يلي علينا مولى الخثعم، وأخرجوه عنهم. فكتب إلى السفاح بذلك واستعمل عليهم أخاه يحيى بن محمد وسيره إليها في اثني عشر ألف رجل، فنزل قصر الإمارة مجانب مسجد الجامع، ولم يظهر لأهل الموصل شيئاً ينكرونه ولم يعترض فيما يفعلونه، ثم دعاهم فقتل منهم أثني عشر رجلاً، فنفر أهل البلد وحملوا السلاح، فأعطاهم الأمان، وأمر فنودي: من دخل الجامع فهو آمن؛ فأتاه الناس يهرعون إليه، فأقام يحيى الرجال على أبواب الجمع، فقتلوا الناس قتلاً ذريعاً أسرفوا فيه، فقيل: إنه قتل فيه أحد عشر ألفاً ممن له خاتم وممن ليس له خاتم خلقاً كثيراً.
فلما كان الليل سمع يحيى صراخ النساء اللاتي قتل رجالهن، فسأل عن ذلك الصوت فأخبر به، فقال: إذا كان الغد فاقتلوا النساء والصبيان. ففعلوا ذلك، وقتل منهم ثلاثة أيام، وكان في عسكره قائد معه أربعة آلاف زنجي، فأخذوا النساء قهراً.فلما فرغ يحيى من قتل أهل الموصل في اليوم الثالث ركب اليوم الرابع وبين يديه الحراب والسيوف المسلولة، فاعترضته امرأة وأخذت بعنان دابته، فأراد أصحابه قتلها فنهاهم عن ذلك، فقالت: له:ألست من بني هشام؟ أست ابن عم رسول الله، صلى الله عليه وسلم ؟ أما تأنف للعربيات المسلمات أن ينكحهن الزنج؟ فأمسك عن جوابها وسير معها من يبلغها مأمنها، وقد عمل كلامها فيه. فلما كان الغد جمع الزنج للعطاء، فاجتمعوا، فأمر بهم فتلوا عن آخرهم. وقيل: كان السبب في قتل أهل الموصل ما ظهر منهم من محبة بني أمية وكراهة بني العباس، وأن امرأة غسلت رأسها وألقت الخطمي من السطح فوقع على رأس بعض الخراسانية فظنها فعلت ذلك تعمداً، فهاجم الدار، وقتل أهلها، فثار أهل البلد وقتلوه، وثارت الفتنة وفيمن قتل معروف بن أبي معروف، وكان زاهداً عابداً، وقد أدرك كثيراً من الصحابة ز ذكر عدة حوادثوفيها وجه السفاح أخاه المنصور والياً على الجزيرة وأذربيجان وأرمينية، وفيها عزل عمه داود بن علي عن الكوفة وسوادها وولاه المدينة ومكة واليمن واليمامة،وولى موضعه من عمل الكوفة ابن أخيه عيسى بن موسى بن محمد، فاستقضى عيسى على الكوفة ابن أبي ليلى. وكان العامل على البصرة هذه السنة سفيان بن عينة المهلبي، وعلى قضائها الحجاج بن أرطاة، وعلى السند منصور بن جمهور، وعلى فارس محمد بن الأشعث، وعلى الجزيرة وأرمينية وأذربيجان أبو جعفر بن محمد بن علي، وعلى الموصل يحيى بن محمد بن علي، وعلى الشام عبد الله بن علي، وعلى مصر أبو عون عبد لملك بن يزيد، وعلى خراسان والجبال أبو مسلم، وعلى ديوان الخراج خالد بن برمك. وحج بالناس هذه السنة داود بن علي. وفيها قتل يحيى بن معاوية بن هشام بن عبد الملك مع مروان بن محمد بالزاب، ويحيى أخو عبد الرحمن الداخل إلى الأندلس. وفيها قتل يونس ابن مغيرة بن حلين بدمشق لما دخلها عبد الله بن علي، وكان عمره عشرين ومائة سنة، قتله رجلان من خراسان ولم يعرفاه، فلما عرفاه بكيا عليه، وقيل: بل عضته دابة من دوابه فقتلته، وكان ضريراً. وفيها مات صفوان بن سليم مولى حميد بن عبد الحمن. وفيها توفي محمد بن أبي كبر نب محمد بن عمرو بن حزم بالمدينة، وكان قاضيها. وفيها مات همام بن منبه. وعبد الله ابن عوف. وسعيد بن سليمان بن زيد بن ثابت الأنصاري. وخبيب بن عبد الرحمن بن خبيب بن يسار الأنصاري، وهو خال عبيد الله بن عمر العمري؛ خبيب بضم الخاء المعجمة، وفتح الحاء والراء المهملتين. وفيها توفي عبد الل | |
|
| |
الشيخ عودة الشيخ عودة
عدد المساهمات : 1748 تاريخ التسجيل : 28/09/2008 العمر : 74
| موضوع: رد: كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير الثلاثاء فبراير 11, 2014 4:03 am | |
| فسار في ثمانية آلاف فرقهم فيما بين نيسابور والري، وقدم بالأموال والخزائن فخلفها بالري، وجمع أيضاً أموال الجبل، وقدم في ألف، فأمر السفاح القواد وسائر الناس أن يتلقوه، فدخل أبو سملم على السفاح، فأكرمه وأعظمه، ثم استأذن السفاح في الحج، فاذن له وقال: لولا أن لأبا جعفر، يعني أخاه المنصور، يريد الحج لا ستعملتك على الموسم؛ وأنزله قريباً منه. وكان ما بين أبي جعفر وأبي مسلم متباعداً لأن السفاح كان بعث أبا جعفر إلى خراسان بعدما صفت الأمور له ومعه عهد أبي مسلم بخراسان وبالبيعة للسفاح وأبي جعفر المنصور من بعده، فبايع لهما أبو مسلم وأهل خراسان، وكان أبو مسلم قد استخف بأبي جعفر؛ فلما رجع أخبر السفاح ما كان من أمر أبي مسلم، فلما قدم أبو سملم هذه المرة قال أبو جعفر للسفاح: أطعني وأتقل أبا مسلم، فوالله إن في رأسه لغدرة. فقال: قد عرفت بلاءه وما كان منه. فقال أبو جعفر: إنما كان بدولتنا، والله لو بعثت سنوراً لقام مقامه وبلغ ما بلغ. فقال: كيف نقتله؟ قال: إذا دخل عليك وحادثته ضربته أنا من خلفه ضربة قتلته بها. قال: فكيف بأصحابه؟ قال: أبو جعفر: لو قتل لتفرقوا وذلوا. فأمره بقتله، وخرج أبو جعفر. ثم ندم السفاح على ذلك فأمر أبا جعفر بالكف عنه. وكان أبو جعفر قبل ذلك بحران وسار منها إلى الأنبار وبها السفاح، واستخلف على حران مقاتل بن حكيم العكي. وحج أبو جعف وأبو مسلم، وكان أبو جعفر على الموسم. وفيها مات زيد بن أسلم مولى عمر بن الخطاب. ذكر موت السفاحفي هذه السنة مات السفاح بالأنبار لثلاث عشرة مضت من ذي الحجة، وقيل: لاثنتي عشرة مضت منه، بالجدري؛ وكان له يوم مات ثلاث وثلاثون سنة، وقيل: ست وثلاثون، وقيل: ثمان وعشرون سنة. وكانت ولايته من لدن قتل مروان إلى أن توفي أربع سنين؟. ومن لدن بويع له بالخلافة إلى أن مات أربع سنين وثماينة أشهر، وقيل: وتسعة أشهر، منها ثمانية أشهر يقاتل مروان وكان جعداً، طويلاً، أبيض، أقنى الأنف، حسن الوجه واللحية. وأمه ريطة بنت عبد الله بن عبد المدان الحارثي، وكان وزيره أبا الجهم بن عطية. وصلى عليه عمه عيسى بن علي ودفنه بالأنبار العتيقة في قصره. وخلف تسع جباب، وأربعة أقمصة فيهما وشمس في الناس، ولا يوجد، وهما: يا آل مروان إن الله مهلككم ... ومبدل بكم خوفاً وتشريدا لا عمر الله من إنشائكم أحداً ... وبثكم في بلاد الخوف تطريدا قال: فعلت ذلك فدخلت قلوبهم مخافة. قال جعفر بن يحيى: نظر السفاح يوماً في المرآة، وكان أجمل الناس وجهاً، فقال: أللهم إني لا أقول كما قال سليمان بن عبد الملك: أنا الملك الشاب، ولكني أقول: اللهم عمرني طويلاً في طاعتك ممتعاً بالعافية. فما استتم كلامه حتى سمع غلاماً يقول لغلام آخر: الأجل بيني وبينك شهران وخمسة أيام. فتطير من كلامه وقال: حسببي الله ولا قوة إلا بالله، عليك توكلت، وبك أستعين. فما مضت الأيام حتى أخذته الحمى واتصل مرضه فمات بعد شهرين وخمسة ايام. ذكر خلافة المنصوروفي هذه السنة عقد السفاح عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس لأخيه أبي جعفر عبد الله بن محمد بالخلافة من بعده وجعله ولي عهد المسلمين، ومن بعد أبي جعفر ولد أخيه عيسى بن موسى بن محمد بن علي، وجعل العهد في ثوب وختمة بخاتمه وخواتيم أهل بيته ودفعه إلى عيسى بن موسى. فلما توفي السفاح كان أبو جعفر بمكة، فأخذ البيعة لأبي جعفر عيسى ابن موسى وكتب إليه يعلمه وفاة السفاح والبيعة له، فلقيه الرسول بمنزل صفية فقال: صفت لنا إن شاء الله. وكتب إلى أبي مسلم يستدعيه، وكان أبو جعفر قد تقدم، فأقبل أبو مسلم إلليه. فلما جلس وألقى إليه كتابه قرأه وبكى واسترجع ونظر إلى أبي جعفر وقد جزع جزعاً شديداً فقال: ما هذا الجزع وقد أتتك الخلافة؟ قال: أتخوف شر عمي عبد الله بن علي وشغبه علي. قال: لا تخفه فأنا أكفيكه إن شاء الله، وإنما عامة جنده ومن معه أهل خراسان وهم لا يعصونني. فسري عنه. وبايع له أبو مسلم والناس، وأقبلا حتى قدما الكوفة.
وقيل: إن أبا سملم هو الذي كان تقدم على أبي جعفر فعرف الخبر قبله فكب إليه: عافاك الله ومتع بك، إنه أتاني أمر أقطعني وبلغ مني مبلغاً لم يبلغه مني شيء قط، وفاة أمير المؤمنين، فنسأل الله أن يعظم أجرك ويحسن الخلافة عليك، وإنه ليس من أهلك أحد أشد تعظيماً لحقك وأصفى نصيحة لك وحرصاً على ما يسرك مني. ثم مكث يومين وكتب إلى أبي جعفر ببيعنه، وإنما أراد ترهيب أبي جعفر. قال: ورد أبو جعفر زياد بن عبيد الله إلى مكة، وكان عاملاً عليها وعلى المدينة للسفاح؛ وقيل: كان قد عزله قبل موته عن مكة وولاها العباس بن عبد الله بن معبد بن العباس. ولما بلغ عيسى بن موسى الناس لأبي جعفر أرسل إلى عبد الله بن علي بالشام يخبره بوفاة السفاح وبيعة المنصور ويأمره بأخذ البيعة للمنصور، وكان قد قدم قبل ذلك على السفاح فجعله على الصائفة وسير معه أهل الشام وخراسان، فسار حتى بلغ دلوك ولم يدرك فأتاه موت السفاح، فعاد بمن معه من الجيوش وقد بايع لنفسه. ذكر الفتنة بالأندلسوفي هذه السنة خرج في الأندلس الحباب بن رواحة بن عبد الله الزهري ودعا إلى نفسه واجتمع إليه جمع من اليمانية، فسار إلى الصميل وهو أمير قرطبة، فحصره بها وضيق عليه، فاستمد الصميل يوسف الفهري أمير الأندلس، فلم يفعل لتالي الغلاء والجوع على الأندلس ولأن يوسف قد كره الصميل واختار هلاكه ليستريح منه. وثار بها أيضاً عامر العبدري وجمع جمعاً واجتمع مع الحباب على الصميل وقاما بدعوة بني العباس. فلما اشتد الحصار على الصميل كتب إلى قومه يستمدهم، فسارعوا إلى نصرته واجتمعوا وساروا إليه، فلما سمع الحباب بقربهم سار الصميل عن سرقسطة وفارقها، فعاد الحباب ؟إليها وملكها، واستعمل يوسف الفهري الصميل على طيلطلة. ذكر عدة حوادثكان على الكوفة عيسى بن موسى، وعلى الشام عبد الله بن علي، وعلى مصر صالح بن علي، وعلى البصرة سليمان بن علي، وعلى المدينة زياد بن عبيد الله الحارثي، وعلى مكة العباس بن عبد الله بن معبد. وفيها مات ربيعة بن أبي عبد الرحمن، وهو ربيعة الرأي، وقيل: مات سنة خمس وثلاثين ومائة، وقيل: سنة اثنتين وأربعين ومائة. وفيها مات عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم. وفيها توفي عبد الملك بن عمير بن سويد اللخمي الفرسي، وإنما قيل له الفرسي، بالفاء، نسبة إلى فرس له. وعطاء بن السائب أبو زيد الثقفي. وعروة بن وريم. وفي هذه السنة قدم أبو جعفر المنصور أمير المؤمنين من مكة فدخل الكوفة فصلى بأهلها الجمعة وخطبهم وسار إلى الأنبار فأقام بها وجمع إليه أطرافه، وكان عيسى بن موسى قد أحرز بيوت الأموال والخزائن والدواوين حتى قدم عليه أبو جعفر، فسلم الأمر إليه. ثم دخلت سنة سبع وثلاثين ومائة ذكر خروج عبد الله بن علي وهزيمته قد ذكرنا مسير عبد الله بن علي إلى الصائفة في الجنود، وموت السفاح، وإرسال عيسى بن موسى إلى عمه عبد الله بن علي يخبره بموته ويأمره بالبيعة لأبي جعفر المنصور، وكان السفاح قد أمر بذلك قبل وفاته. فلما قدم الرسول على عبد الله بذلك لحقه بدلوك، وهي بأفواه الدروب، فأمر منادياً فنادى: الصلاة جامعة! فاجتمعوا عليه، فقرأ عليهم الكتاب بوفاة السفاح ودعا الناس إلى نفسه، وأعلمهم أن السفاح حين أراد أن يوجه الجنود إلى مروان بن محمد دعا بني أبيه فأرادهم على المسي إليه فقال: من انتدب منكم فسار إليه فهو ولي عهدي، فلم ينتدب له غيري، وعلى هذا خرجت من عنده وقتلت من قتلت، وشهد له أبو غانم لطائي وخفاف المروروذي وغيرهما من القواد، فبايعوه، وفيهم حميد بن قحطبة وغيرهم من أهل خراسان والشام والجزيرة، إلا أن حميداً فارقه، على ما نذكره. ثم سار عبد الله حتى نزل حران، وبها مقاتل العكي قد استخلفه أبو جعفر لما سار إلى مكة، فتحصن منه مقاتل، فحصره أربعين يوماً. وكان أبو مسلم قد عاد من الحج مع المنصو، كما ذكرناه، فقال للمنصور: إن شئت جمعت ثيابي في منطقتي وخدمتك، وإن شئت أتيت خراسان فأمددتك بالجنود، وإن شئت سرت إلى حرب عبد الله بن علي. فأمره بالمسير لحرب عبد الله، فسار أبو مسلم في الجنود نحو عبد الله، فلم يتخلف عنه أحد، وكان قد لحقه حميد بن قحطبة فسار معه، وجعل على مقدمته مالك بن الهيثم الخزاعي.
فلما بلغ عبد الله، وهو يحاصر حران، إقبال أبي مسلم خشي أن يهجم عليه عطاء العتكل أماناً، فنزل إليه فيمن معه وأقام معه أيايماً، ثم وجهه إلى عثمان بن عبد الأعلى بن سراقة الأزدي بالقرقة ومعه ابناه وكتب معه كتاباً. فلما قدموا على عثمان دفع العتكي الكتاب إليه، فقتل العتكي واحتبس ابنيه، فلما هزم عبد الله قتلهما. وكان عبد الله بن علي قد خشي أن لا يناصحه أهل خراسان فقتل منهم نحواً من يبعة عشر ألفاً واستعمل حميد بن قحطبة على حلب، وكتب معه كتاباً إلى زفر بن عاصم عاملها يأمره بقتل حميد إذا قدم عليه، فسار حميد والكتاب معه، فلما كان ببعض الطريق قال: إن ذهابي بكتاب لا أعلم ما فيه لغرر. فقرأه، فلما رأى ما فيه أعلم خاصته ما في هذا الكتاب وقال: من أراد المسير معي منكم فليسر. فاتبعه ناس كثير منهم، وسار على الرصافة إلى العراق. فأمر المنصور محمد بن صول بالمسير إلى عبد الله بن علي ليمكر به، فلما أتاه قال له: إني سمعت أبا العباس يقول الخليفة بعدي عمر عبد الله. فقال له: كذبت، لإنما وضعك أبزو جعفر. فضرب عنقه. ومحمد بن صول هو جد إبرايهمبن العباس الكاتب الصولي. ثم أقبل عبد الله بن علي حتى نزل نصيبين وخندق عليه، وقدم أبو مسلم فيمن معه، وكان المنصور قد كتب إلى الحسن بن قحطبة، وكان خليفته بأرمينية، يأمره أن يوافي أبا مسلم، فقدم على أبي مسلم بالموصل، وأقبل أبو مسلم فنزل ناحية نصيبين فأخذ طريق الشام، ولم يعرض لعبد الله، وكتب إليه: إني لم أومر بقتالك ولكن أمير المؤمنين ولاني الشام فأنا أريدها. فقال من كان مع عبد الله من أهل الشام لعبد الله: كيف نقيم معك وهذا يأتي بلادنا فيقتل من قدر عليه من رجالنا ويسبي ذرارينا؟ ولكن نخرج إلى بلادنا فمنعه ونقاتله. فقال لهم عبد الله: إنه والله ما يريد الشام وما توجه إلا لقتالكم، وإن أقمتم ليأتينكم. فأبوا إلا المير إلى الشام، وأبو مسلم قريب منهم، فارتحل عبد الله نحو الشام، وتحول أبو مسلم فنزل في معسكر عبد الله بن علي في موضعه وعور ما حوله من المياه وألقى فيها الجيف. وبلغ عبد الله ذلك فقال لأصحابه: ألم أقل لكم؟ورجع فنزل في موضع سعكر أبي مسلم الذي كان به، فاقتتلوا خمسة أشهر وأهل الشام أكثر فرساناً وأكمل عدة، وعلى ميمنة عبد الله بكار بن سلم العقيلي، وعلى ميسرته حبيب ابن سويد الأسدي، وعلى الخيل عبد الصمد بن علي أخو عبد الله، وعلى ميمنة أبي مسلم الحسن بن قحطبة، وعلى ميسرته خازم بن خيزمة، فاقتتلوا شهراً. ثم إن أصحاب عبد الله حملوا على ععسكر أبي مسمل فأزالوهم عن مواضعهم ورجعوا، ثم حمل عليهم عبد الصمد بن علي في خيل مجردة فقتل منهم ثمانية عشر رجلاً ورجع في أصحابه، ثم تجمعوا وحملوا ثانية على أصحاب أبي مسلم فأزالوا صفهم وجالوا جولةً، فقيل لأبي مسلم: لو حولت دابتك إلى هذا التل ليراك الناس فيجعوا فإنهم قد انهزموا. فقال: إن أهل الحجى لا يعطفون دوابهم على هذه الحال. وأمر منادياً فنادى: يا أهل خراسان ارجعوا فإن العافية لمن اتقى.فتراجع الناس.وارتجز أبو مسلم يومئذ فقال: من كان ينوي أهله فلا رجع ... فر من الموت وفي الموت وقع وكان قد عمل لأبي مسلم عريش، كان يجلس عليه إذا التقى الناس فينظر إلى القتال، فإن رأى خللاً في الجيش سده وأمر مقدم تلك الناحية بالاحتياط وبما يفعل، فلا تزال رسله تختلف إليهم حتى ينصرف الناس بعضهم عن بعض.
فلما كان يوم الثلاثاء والأربعاء لسبع خلون من جمادى الآخرة سنة ست وثلاثين التقوا فاقتتلوا، فمكر بهم أبو مسلم، وأمر الحسن بن قحطبة أن يعبيء الميمنة أكثرها إلى الميسرة وليترك في الميمنة حماعة أصحابه وأشداءهم، فلما رأى ذلك أهل الشام أعروا ميسرتهم وانضموا إلى ميممنتهم بإزاء ميسرة أبي مسلم، وأمر أبو سملم أهل القلب أن يحملوا مع من بقي في ميمنته على ميسرة أهل الشام فحملوا عليهم فحطموهم، وجال القلب والميمنة وركبهم أصحاب أبي مسلم، فانهزم أصحاب عبد الله، فقال عبد الله بن علي لابن سراقة الأزدي: يا ابن سراقة ما ترى؟ قال: أرى أن تصبر وتقاتل حتى تموت، فإن الفرار قبيح بمثلك وقد عبنته على مروان. قال: فإني أتي العاق. قال:فأنا معك. فانهزموا وتركوا عسكرهم، فحواه أبو سملم وكتب بذلك إلى المنصور، فأرسل أبا الخصيب مولاه يحصي ما أصابوا من العسكر، فغضب أبو مسلم. ومضى عبد الله وعبد الصمد ابنا علي، فأما عبد الصمد فقدم الكوفة فاستأمن له عيسى بن موسى فأمنه المنصور، وقيل: بل أقام عبد الصمد بن علي بالرصافة حتى قدمها جمهور بن مرار العجلي في خيول أرسلها المنصور، فأخذه فبعث به إلى المنصور موثقاً مع أبي الخصيب فأطلقه؛ وأما عبد الله بن علي فأتى أخاه سليمان بن علي بالبصرة فأقام عنده زماناً متوارياً. ثم إن أبا مسلم آمن الناس بعد الهزيمة وأمر بالكف عنهم. ذكر قتل أبي مسلم الخراسانيوفي هذه السنة قتل أبو مسلم الخراساني، قتله المنصور. وكان سبب ذلك أن أبا مسلم كتب إلى السفاح يستأذنه في الحج، على ما تقدم، وكتب السفاح إلى المنصور وهو على الجزيرة وأرمينية وأذربيجان: إن أبا مسلم كتب يستأذنني في الحج وقد أذنت له وهو يريد أن يسألني أن أوليه الموسم، فاكتب إلي تستأذنني في الحج فآذن لك، فإنك إن كنت بمكة لم يطمع أن يتقدمك. فكتب المنصور إلى أخيه السفاح بستأذنه في الحج، فأذن له، فقدم الأنبار، فقال أبو مسلم: أما وجد أبو جعفر عاماً يحج فيه غير هذا؟ وحقدها عليه، وحجا معاً، فكان أبو مسلم يكسو الأعراب ويصلح الآبار والطريق، وكان الذكر له، وكان الأعراب يقولون: هذا المكذوب عليه. فلما قدم مكة ورأى أهل اليمن قال: أي جند هؤلاء لو لقيهم رجل ظريف اللسان غزير الدمعة! فلما صدر الناس عن الموسم تقدم أبو مسلم في الطريق على أبي جعفر، فأتاه خبر وفاة السفاح، فكتب إلى أبي جعفر يعزيه عن أخيه ولم يهنئه بالخلافة ولم يقم حتى يلحقه ولم يرجع. فغضب أبو جعفر وكتب إليه كتاباً غليظاً، فلما أتاه الكتاب كتب إليه يهنئه بالخلافة. وتقدم أبو مسلم فأتى الأنبار فدعا عيسى ابن موسى إلى أن يبايع له، فأتى عيسى، وقدم أبو جعفر وخلع عبد الله بن علي،فسير المنصور أبا مسلم إلى قتاله، كما تقدم مكاناً، مع الحسن بن قحطبة، فأرسل الحسن إلى أبي أيوب وزير المنصور: إني قد رأيت بأبي مسلم، أنه يأتيه كتاب أمير المؤمنين فيقرأه ثم يلقي الكتاب من يده إلى مالك بن الهيثم فيقرأه ويضحكان استهزاء، فلما ألقيت الرسالة إلى أبي أيوب ضحك وقال: نحن لأي مسلم أشد تهمة منا لعبد الله بن علي، إلا أنا نرجو واحدة، نعلم أن أهل خراسان لا يحبون عبد الله وقد قتل منهم من قتل. وكان قتل منهم سبعة عشرألفاً. فلما انهزم عبد الله وجمع أبو مسلم ما غنم من عسكره بعث أبو جعفر أبا الخطيب إلى أبي مسلم ليكتب له ما أصاب من الأموال، فأراد أبو مسلم قتله، فتكلم فيه فخلى سبيله وقال: أنا أمين على الدماء خائن في الأموال. وشتم المنصور، فرجع أبو الخطيب إلا المنصور فأخبره، فخاف أن يمضي أبو مسلم إلى خراسان، فكتب إليه: إني قد وليتك مصر والشام فهي خير لك من خراسان، فوجه إلى مصر من أحببت وأقم بالشام فتكون بقرب أمير المؤمنين، فإن أحب لقاءك أتيته من قريب. فلما أتاه الكتاب غضب وقال: يوليني الشام ومصر وخراسان لي! فكتب الرسول إلى المنصور بذلك. وأقبل أبو مسلم من الجزيرة مجمعاً على الخلاف، وخرج عن وجهه يريد خراسان.
فسار المنصور من الأنبار إلى المدائن وكتب إلى أبي مسلم في المسير إله، فكتب إليه أبو مسلم وهو بالزاب: إنه لم يبق لأمير المؤمنين، أكرمه الله، عدوا إلا أمكنه الله منه، وقد كنا نروي عن ملوك آل ساسان أن أخوف مايكون الوزراء إذا سكنت الدهماء، فنحن نافرون عن قربك، حريصون على الوفاء لك ما وفيت، حريون بالسمع والطاعة غير أنها من بعيد حيث يقارنها السلامة، فإن أرضاك ذلك فإنا كأحسن عبيدك، وإن أبيت إلا أن تعطي نفسك إرادتها نق2ضت ما أبرمت من عهدك ضناً بنفسي. فلما وصل الكاب إلى المنصور كتب إلى أبي مسمل: قد فهمت كتابك وليست صفتك صفة أولئك الوزراء الغششة ملوكهم الذين يتمنون اضطراب حبل الدولة لكثرة جرائمهم، فإنما راحتهم في انتشار نظام الجماعة، فلم سويت نفسك بهم؟ فأنت في طاعتك وما صحتك واضلاعك بما حملت من أعباء هذا الأمر على ما أنت به، ليس مع الشرطة التي أوجبت منك سمعاً ولا طاعة، وحمل إليك أمير المؤمنين عيسى بن موسى رسالة لتسكن إليها إن أصغيت وأسأل الله أن يحول بين الشيطان ونزغاته وبينك، فإنه لم يجد باباً يفسد به نيتك أوكد عنده وأقرب من الباب الذي فتحه عليك. وقيل: بل كتب إليه أبو مسمل: أما بعد فإني اتخذت رجلاً إماماً ودليلاً على ما افترض الله على خلقه، وكان في محله العلم نازلاً، وفي قرابته من رسول الله، صلى الله عليه وسلم ، قريباً، فاستجهلني بالقرآن فحرفه عن مواضعه طمعاً في قليل قد نعاه الله إلى خلقه، فكان كالذي دلى بغرور وأمرني أن أجرد السيف وأرفع الرحمة، ولا أقبل المعذرة ولا أقيل العشرة، ففعلت توطئة لسلطانكم حتى عرفكم الله من كان يحملكم ثم استنقذنب الله بالتوبة، فإن يعف عني فقدماً عرف به ونسب إليه، وإن يعاقبني فيما قدمت يدياي وما الله بظلام للعبيد. وخرج أبو مسلم مراغماً مشاقاً، وسار المنصور من الأنبار إلى المدائن، وأخذ أبو مسلم طريق حلوان، فقال المنصور لعمه عيسى بن علي ومن حضر من بني هاشم: اكتبوا إلى أبي مسلم. فكتبوا إليه يعظمون أمره ويشكرونه وسألونه أن يتم على ما كان منه وعليه من الطاعة ويحذرونه عاقبة البغي ويأمرونه بالرجوع إلى المنصور. وبعث المنصور الكتاب مع أبي حميد المروروذي وقال له: كلم أبا مسمل بألين ما تكلم به أحداً، منه وأعلمه أني رافعه وصانع به ما لم يصنعه به أحد إن هو صلح وراجع ما أحب، فإن أبي أن يرجع فقل له: يقول لك أمير المؤمنين لست من العباس وإني بريء من محمد إن مضيت مشاقاً ولم تأتني إن وكلت أمرك إلى أحد سواي، وإن لم أل طلبك وقتالك بنفسي، ولو خضت البحر لخضته، ولو اقتحمت النار لاقتحمتها حتى أقتلك أو أموت قبل ذلك؛ ولا تقولن هذا الكلام حتى تيأس من رجوعه ولا تطمع منه خير. فسار أبو حميد فقدم على أبي مسلم بحلوان فدفع إليه الكتاب وقال له: إن الناس يبلغونك عن أمير المؤمنين ما لم يقله وخلاف ما عليه رأيه منك حسداً وبغاً، يريدون إزالة النعمة وتغييرها، فلا تفسد ما كان منك. وكلمه وقال: يا أبا مسلم إنك لم تزل أمير آل محمد يعرفك بذلك الناس، وما ذخر الله لك من الأجر عنده في ذلك أعظم مما أنت فيه من ديناك، فلا تحبط أجرك ولا يستهوينك الشيطان. فقال له أبو مسلم: متى كنت تكلمني بهذا الكلام؟ فقال: إنك دعوتنا إلى هذا الأمر وإلى طاعة أهل بيت النبي، صلى الله عليه وسلم، بني العباس، وأمرتنا من خالف ذلك فدعوتنا من أرضين متفرقة وأسباب مختلفة، فجمعنا الله على طاعتهم وألف ما بين قلوبنا بمحبتهم وأعزنا بنصرنا لهم، ولم نلق منهم رجلاً إلا بما قذف الله في قلوبنا حتى أتيناهم في بلادهم ببصائر نافذة، وطاعة خالصة، أفتريد حين بلغنا غاية منانا ومنتهى أملنا أن تفسد أمرنا وتفرق كلمتنا؟ زقد قلت لنا من خالفكم فاقتلوه وغن خالفتكم فاقتلوني! فأقبل أبو مسلم على أبي نصر مالك بن الهيثم فقال: أما تسمع ما يقول لي هذا؟ ما كان بكلامه يا مالك! قال: لا تسمع قوله ولا يهولنك هذا منه، فلعمري ما هذا كلامه ولما بعد هذا أشد منه، فامض لأمرك ولا ترجع، فوالله لئن أتيته ليقتلنك، ولقد وقع في نفسه منك شيء لا يأمنك أبداً.
فقال: قوموا، فنهضوا، فأرسل أبو مسلم إلى نيزك فعرض عليه الكتب وما قالوا، فقال: ما أرى أن تأتيه وأرى أن تأتي الري فتقيم بها فيصير ما بين خراسان والري لك، وهم جندك لا يخالفك أحد، فإن استقام لك استقمت له، وإن أبى كنت في جنك وكانت خراسان وراءك ورأيت رأيك. فدعا أبا حميد فقال: ارجع إلى صاحبك فيس من رأيي أن آتيه. قال: قد عزمت على خلافه؟ قال: نعم. قال: لا تفعل! قال: لا أعود إليه أبداً. فلما يئس من رجوعه معه قال له ما أمره به أبو جعفر، فوجم طويلاً ثم قال: قم. فكسره ذلك القول ورعبه. وكان أبو جعفر المنصور قد كتب إلى أبي داود خليفة أبي مسلم بخراسان حين اتهم أبا سملم: إن لك إمرة خراسان ما بقيت. فكتب أبو داود إلى أبي مسلم: إنا لم نخرج لمكعصية خلفاء الله وأهل بيت نبيه، صلى الله عليه وسلم ، فلا تخالفن إمامك ولا ترجعن إلا بإذنه. فوافاه كتابه على تلك الحال، فزاده رعباً وهماً، فأرسل إلى أبي حميد فقال له: إني كنت عازماً على المضي إلى خراسان ثم رأيت أن أوجه أبا إسحاق إلى أمير المؤمنين فيأتيني برأيه، فإنه ممن أثق به. فوجهه، فلما قدم تلقاه بنو هاشم بكل ما يحب، وقال له المنصور: اصرفه عن وجهه ولك ولاية خراسان؛ وأجازه. فرج أبو إسحاق وقال لأبي مسلم: ما أنكرت شيئاً، رأيتهم معظمين لحقك يرون لك ما يرون لأنفسهم. وأشار عليه أن يرجع إلى أمير المؤمنين فيعتذر إليه مما كان منه، فأجمع على ذلك. فقال له نيزك: قد أحمعت على الرجوع؟ قال: نعم؛ وتمثل: ما للرجال مع القضاء محالة ... ذهب القضاء بحيلة الأقوام قال: إذا عزمت على هذا فخار الله لك. احفظ عني واحدةً، إذا دخلت عليه فاقتله ثم بايع من شئت، فإن الناس لا يخالفونك. وكتب أبو مسلم إلى المنصور يخبره أنه منصرف إليه، وسار نحوه، واستخلف أبا نصر على عسكره، وقال له: أقم حتى يأتيك كتابي، فغن أتاك مختوماً بنصف خاتم فأنا كتبته، وإن أتاك بالخاتم كله فم أختمه. وقدم المدائن في ثلاثة آلاف رجل وخلف الناس بحلوان. ولما ورد كتاب أبي مسلم على المنصور قرأه وألقاه إلى أبي أيوب وزيره، فقرأه وقال له المنصور: والله لئن ملأت عيني منه لأقتلنه. فخاف أبو أيوب من أصحاب أبي مسلم أن يقتلوا المنصور ويقتلوه معه، فدعا سلمة بن سعيد بن جابر وقال له: هل عندك شكر؟ فقال: نعم. قال: إن وليتك ولاية تصيب منها مثل ما يصيب صاحب العراق تدخل معك أخي حاتماً - وأراد بإدخال أخيه معه أن يطمع ولا ينكر - وتجعل له النصف؟ قال: نعم. قال له: إن كسكركانت عام أول كذا وكذا ومنها العام أصعاف ذلك، فإن دفعتهاإليك بما كانت أو بالأمانة أصبت ما يضيق به ذرعاً. قال: كيف لي بهذا المال؟ قال له أبو أيوب: تأتي أبا مسلم فتلقاه وتكلمه أن يجعل هذا فيما يرفع من حوائجه، فإن أمير المؤمنين يريد أن يوليه إذا قدم ما وراء بابه ويريح نفسه، قال: فكيف لي أن يأذن لي أمير المؤمنين في لقائه؟ فاستأذن له أبو أيوب في ذلك، فأذن له المنصور وأمره أن يبلغ سلامه وشوقه إلى أبي مسلم، فلقيه سلمة بالطريق وأخبره الخبر وطابت نفسه، وكان قبل ذلك كئياً حزيناً، ولم يزل مسروراً حتى قدم. فلما دنا أبو مسلم من المنصور أمر الناس بتلقيه، فتلقاه بنو هاشم والناس، ثم قدم فدخل على المنصور فقبل يده، وأمره أن ينصرف ويروح نفسه لثلاثة ويدخل الحمام، فانصرف. فلما كان الغد دعا المنصور عثمان بن نهيك وأربعةً من الحرس، منهم: شبيب بن واج وأبو حنيفة حرب بن قيس، فأمرهم بقتل أبي مسلم إذا صفق بيديه، وتركهم خلف الرواق.
وأرسل إلى أبي مسلم يستدعيه، وكان عنده عيسى بن موسى يتغدى، فدخل على المنصور، فقال له المنصور: أخبرني عن نصلين أصبتهما مع عبد الله بن علي. قال: هذا أحدهما. قال أرينيه. فانتضاه وناوله إياه، فوضعه المنصور تحت فراشه وأقبل عليه يعاتبه وقال له: أخبرني عن كتابك إلى السفاح تنهاه عن الموات، أردت أن تعلمنا الدين؟ قال: ظننت أخذه لا يحل، فلما أتاني كتابه علمت أن وأهل بيته معدن العلم. قال: فاخبرني عن تقدمك إياي بطريق مكة.قال: كرهت اجتماعنا على الماء فيضر ذلك بالناس فتقدمتك للرفق. قال: فقولك لمن أشار عليك بالانصراف إلي بطريق مكة حين أتاك موت أبي العباس إلى أن تقدم فنرى رأينا، ومضيت فلا أنت أقمت حتى ألحقك ولا أنت رجعت إلي! قال: منعني من ذلك ما أخبرتك من طلب الرفق بالناس، وقلت تقدم الكوفة وليس عليك من خلاف. قالك فجارية عبد الله أردت أن تتخذها؟ قال: لا، ولكني خفت أن تضيع فحملتها في قبة ووكلت بها من يحفظها. قال: فمراغمتك وخروجك إلى خراسان؟ قال: خفت أن يكون قد دخلك مني شيء فقلت آتي خراسان فأكتب إليك بعذري فأذهب ما في نفسك. قال: فالمال الذي جمعته بخراسان؟ قال: أنفقه بالجند تقويةً لهم واستصلاحاً. قال: ألست الكاتب إلي تبدأ بنفسك وتخطب عمتي آمنة ابنة علي وتزعم أنك ابن سليط بن عبد الله بن عباس؟ لقد ارتقيت، لا أم لك، مرتقى صعباً. ثم قال: وما الذي دعاك إلى قتل سليمان بن كثير مع أثره في دعوتنا وهو أحد فتياننا قبل أن يدخلك في هذا الأمر؟ قال: أراد الخلاف وعصاني فقتلته. فلما طال عتاب المنصور قال: لا يقال هذا لي بعد بلائي وما كان مني. قال: يابن الخبيثة! والله لو كانت أمة مكانك لأجزأت، إنما عملت في دولتنا ويريحنا، فلو كان ذلك إليك ما قطعت فتيلاً. فأخذ أبو مسلم بيده يقبلها ويعتذر إليه، فقال له المنصور: ما رايت كاليوم! والله ما زدتني إلا غضباً! قال أبو مسلم: دع هذا فقد أصبحت ما أخاف إلا الله تعالى. فغضب المنصور وشتمه وصفق بيده على الأخرى، فخرج عليه الحرس، فضربه عثمان بن نهبك فقطع حمائل سيفه، فقال: استبقني لعدوك يا أمير المؤمنين! فقال: لا أبقاني الله إذاً، أعدوا أعدى لي منك؟ وأخذه الحرس بسيوفهم حتى قتلوه وهو يصيح العفو، فقال المنصور: يا بن اللخناء العفو والسيوف قد اعتورتك! فقتلوه في شعبان لخمس بقين منه. فقال المنصور: زعمت أن الدين لا يقتضى ... فاستوف بالكيل أبا مجرم سقيت كأساً كنت تسقي بها ... أمر في الحلق من العلقم وكان أبو مسلم قد قتل في دولته ستمائة ألف صبراً. فلما تقل أبو مسلم دخل أبو لجهم على المنصور فرأى أبا مسلم قتيلاً فقال: ألا أراد الناس؟ قال: بلى فمر بمتاع يحمل إلى رواق آخر. وخرج أبو الجهم فقال: انصرفوا فإن الأمير يريد القائلة عند أمير المؤمنين. ورأوا المتاع ينقل فظنوه صادقاً فانصرفوا، وأمر لهم المنصور بالجوائز، فأعطى أبا إسحاق مائة ألف. ودخل عيسى بن موسى على المنصور بعد قتل أبي مسلم فقال: يا أمير المؤمنين أين أبو مسلم؟ فقال: قد كان هاهنا. فقال عيسى: عرفت نصيحته وطاعته وري الإمام إبراهيم كان فيه. فقال: يا أحمق والله ما أعلم في الأرض عدواً أعدى لك منه! ها هوذا في البساط. فقال عيسى: إنا لله وإنا إليه راجعون. وكان لعيسى فيه رأي. فقال له المنصور: خلع الله قلبك! وهل كان لكم ملك أو سلطان أو أمر أو نهي مع أبي مسلم؟ ثم دعا المنصور بجعفر بن حنظلة فدخل عليه، فقال: ما تقول في أمر أبي مسلم؟ قال: يا أمير المؤمنين إن كنت أخذت من رأسه شعرة فاقتل ثم اقتل. فقال له المنصور: وفقك الله! فلما نظر إلى أبي مسلم مقتولاً قال: يا أمير المؤمنين عد من هذا اليوم لخلافتك. ثم دعا المنصور بأبي إسحاق، فلما دخل عليه قال له: أنت المانع عدو الله على ما أجمع عليه! وقد كان بلغه أنه أشار عليه بإتيان خراسان، قال: فكف أبو إسحاق وجعل يلتفت يميناً وشمالاً خوفاً من أبي مسلم، فقال له المنصور: تكلم بما أردت فقد قتل الله الفاسق، وأمر بإخراجه. فلما رآه أبو إسحاق خر ساجداً لله فأطال ورفع رأسه وهو يقول: الحمد لله الذي آمنني بك اليوم! والله أمنته يوماً واحداً، وما جئته يوماً قط إلا وقد أوصيت وتكفنت وتحنطت. ثم رفع ثيابه الظاهرة فإذا تحتها كتان حدد وقد تحنط.
فلما رأى أبو جعفر حاله رحمه وقال له: استقبل طاعة خليفتك وأحمد الله الذي أراحك من الفاسق هذا. ثم قال له: فرق عني هذه الجماعة. ثم كتب المنصور بعد قتل أبي مسلم إلى أبي نصر مالك بن الهيثم عن لسان أبي مسلم يأمره بحمل ثقله وما خلف عنده وأني قدم، وختم الكتاب بخاتم أبي مسلم، فلما رأى الخاتم تاماً علم أن أبا مسلم لم يكتب، فقال: فعلتموها! وانحدر إلى همذان وهو يريد خراسان. فكتب المنصور لأبي نصر عهده على شهرزور، وكتب إلى زهير بن التركي، وهو على همذان: إن مر بك أبو نصر فاحبسه. فسبق الكتاب إلى زهير وأبو نصر بهمذان، فقال له زهير: قد صنعت لك طعاماً فلو أكرمتني بدخول منزلي. فحضر عنده، فأخذه زهير فحبسه. وكتب أبو جعفر إلى زهير كتاباً يأمره بقتل أبي نصر، وقدم صاحب العهد على أبي نصر بعهده على شهرزور، فخلى زهير سبيله لهواه فيه، فخرج ثم وصل بعد يوم الكتاب إلى زهير بقتل أبي نصر، فقال: جاءني كتاب بعهده فخليت سبيله. وقدم أبو نصر على المنصور فقال له: أشرت على أبي مسلم بالمضي إلى خراسان؟ قال: نعم، كانت له عندي أيادٍ فنصحت له، وإن اصطنعني أمير المؤمنين نصحت له وشكرت. فعفا عنه. فلما كان يوم الراوندية قام أبو نصر على باب القصر وقال: أنا البواب اليوم لا يدخل أحد وأنا حي. فسأل عنه المنصور فأخبر به، فعلم أنه قد نصح له. وقيل: إن زهيراً أبا نصر إلى المنصور مقيداً، فمن عليه واستعمله على الموصل. ولما قتل المنصور أبا مسلم خطب الناس فقال: أيها الناس لا تخرجوا من أنس الطاعة إلى وحشة المعصية، ولا تمشوا في ظلمة الباطل بعد سعيكم في ضياء الحق، وإن أبا مسلم أحسن مبتدأً وأساء معقباً، وأخذ من الناس بنا أكثر مما أعطانا، ورجح قبيح باطنه على حسن ظاهره، وعلمنا من خبث سريرته وفساد نيته ما لو علمه اللائم لنا فيه لعذرنا في قتله وعنفنا في إمهالنا، وما ال ينقض بيعته ويخفر ذمته حتى أحل لنا عقوبته وأباحنا دمه، فحكمنا فيه حكمه لنما في غيره ممن شق العصا، ولم يمنعنا الحق من إمضاء الحق فيه؛ وما أحسن ما قال النابغة الذبياني للنعمان - يعني ابن المنذر - فمن أطاعك فانفعه بطاعته ... كما أطاعك وادلله على الرشد ومن عصاك فعاقبه معاقبة ... تنهى الظلوم ولا تقعد على ضمد ثم نزل. وكان أبو مسلم قد سمع الحديث من عكرمة، وأبي الزبير المكي، وثابت الناتي، ومحمد بن علي بن عبد الله بن عباس، والسدير؛ وروى عنه إبراهيم ابن ميمون الصائغ، وعبد الله بن المبارك، وغيرهما. خطب يوماً فقام إليه رجل فقال: ما هذا السواد الذي أرى عليك؟ فقال: حدثني أبو البير عن جبابر بن عبد الله أن النبي، صلى الله عليه وسلم ، دخل مكة يوم الفتح وعلى رأسه عمامة سوداء، وهذه وثياب الدولة، يا غلام اضرب عنقه. قيل لعبد الله بن المبارك: أبو مسلم كان خيراً أو الحجاج؟ قال: لا أقول إن أبا مسلم كان خيراً من أحد، ولكن الحجاج كان شراً منه. وكان أبو مسلم نازكاً شجاعاً ذا رأي وعقل وتدبير وحزم ومروءة، وقيل له: بم نلت ما أنت فيه من القهر للأعداء؟ فقال: ارتديت الصبر وآثرت الكتمان وحالفت الحزان والأشجان وشامخت المقادير والأحكام حتى بلغت غاية همتي وأدركت نهاية بغيتي؛ ثم قال: قد نلت بالحزم والكتمان ما عجزت ... عنه ملوك بني ساسان إذ حشدوا ما زلت أضربهم بالسيف فانتبهوا ... من رقدةٍ لم ينمها قبلهم أحد طفقت أسعى عليهم في ديارهم ... والقوم في ملكهم بالشام قد رقدوا ومن رعى غنماً في أرض مسبعةٍ ... ونام عنها تولى رعيها الأسد وقيل: إن أبا مسلم ورد نيسابور على حمار بإكافٍ وليس معه أدمي، فقصد في بعض الليالي داراً لفاذوسيان فدق عليه الباب، ففزع أصحابه وخرجوا إليه، فقال لهم: قولوا للدهقان إن أبا مسلم بالباب يطلب منك ألف درهم ودابة. فقالوا للدهقان ذلك، فقال الدهقان: في أي زي هو وأي عدة؟ فأخبروه أنه وحده في أدون زي، فسكت ساعةً ثم دعا بألف درهم ودابة من خواص دوابه وأذن له وقال: يا أبا مسلم قد أسعفناك بما طلبت، وإن عرضت حاجة أخرى فنحن بين يديك. فقال: ما نضيع لك ما فعلته.
فلما ملك له بعض أقاربه: إن فتحت نيسابور أخذت كل ما تريده من مال الفاذوسيان دهقانها المجوسي. فقال أبو مسلم: له عندنا يد. فلما ملك نيسابور أتته هدايا الفاذوسيان، فقيل له: لا تقبلها واطلب منه الأموال. فقال: له عندي يد. ولم يتعرض له ولا لأحد من أصحابه وأمواله. وهذا يدل على علو همة وكمال مروءة. وفي هذه السنة استعمل المنصور أبا داود على خراسان وكتب إليه بعهده. ذكر خروج سنباد بخراسانوفي هذه السنة خرج ينباذ بخراسان يطلب بدم أبي مسلم، وكان مجوسياً من قرى نيسابور يقال لها أهروانه؛ كان ظهوره غضباً لقتل أبي ملم لأنه كان من صنائعه، وكثر أتباعه، وكان عامتهممن أهل الجبال، وغلب على نيسابور وقومس والري، وتسمى فيوز أصبهبذ،. فلما صار بالري أخذ خزائن أبي مسلم، وكان أبو مسلم خلفها بالري حين شخص إلى أبي العباس، وسبى الحرم، ونهب الأموال ولم يعرض للتجار، وكان يظهر أنه يقصد الكعبة ويهدمها. فوجه إليه المنصور جمهور بن مرار العجلي في عشرة آلاف فارس، فالتقوا بين همذان والري على طرف المفازة، وعزم جمهور على مطاولته، فلما التقوا قدم سنباذ السبايا من النساء المسلمات على الجمال، فلما رأين عسكر المسلمين قمن في المحامل ونادين: وامحمداه! ذهب الإسلام! ووقعت الريح في أثوابهن فنفرت الإبل وعادت على عسكر سنباذ، فتفرق العسكر وكان ذلك سبب الهزيمة، وتبع المسلمون الإبل ووضعوا السيوف في المجوس ومن معهم فقتلوهم كيف شاؤوا، وكان عدد القتلى نحواً من ستين ألفاً، وسبى ذراريهم ونساءهم، ثم قتل سنباذ بين طبرستان وقومس. وكان بين مخرج سنباذ وقتله سبعون ليلة، وكان سبب قتله أنه قصد طبرستان ملتجئاً إلى صاحبها، فأرسل إلى طريقه عاملاً له اسمه طوس، فتكبر عليه سنباذ، فضرب طوس عنقه وكتب إلى المنصور بقتله وأخذ ما معه من الأموال؛ وكتب المنصور إلى صاحب طبرستان يطلب منه الأموال، فأنكرها، فسير الجنود إليه، فهرب إلى الديلم. ذكر خروج ملبد بن حرملةوفي هذه السنة خرج ملبد بن حرملة السيباني، فحكم بناحية الجزيرة، فسارت إليه روابط الجزيرة، وهو في نحو ألف فارس، فقاتلهم وهزمهم وقتل منهم. ثم سار إليه يزيد بن حاتم المهلبي، فهزمه ملبد وأخذ جاريةً له كان يطأها، فوجه إليه المنصور مولاه مهلهل بن صفوان في ألفين من نخبة الجند، فهزمهم ملبد واستباح عسكرهم. ثم وجه إليه نزاراً قائداً من قواد خراسان، فقتله ملبد وانهزم أصحابه. ثم وجه إليه زياد بن مشكان في جمع كثير، فلقيهم ملبد فهزمهم. ثم وجه إليه صالح بن صبيح في جيش كثيف وخيل كثيرة وعدة، فهزمهم ملبد. ثم سار إليه حميد بن قحطبة وهو على الجزيرة يومئذ، فلقيه ملبد فهزمه، وتحصن منه حميد بن قحطبة وأعطاه مائة ألف درهم على أن يكف عنه. وقيل: إن خروج ملبد كان ينة ثمان وثلاثين ومائة. ذكر عدة حوادثولم يكن للناس هذه السنة صائفة لشغل السلطان بحرب سنباذ. وحج بالناس هذه السنة إسماعيل بن علي بن عبد الله بن عباس وهو على الموصل، وكان على المدينة زياد بن عبد الله، وعلى مكة العباس بن عبد الله ابن معبد. ومات العباس عند انقضاء الموسم، فضم إسماعيل عمله إلى زياد ابن عبيد الله وأقره المنصور عليه. وكان على الكوفة عيسى بن موسى، وعلى البصرة وأعمالها سليمان بن علي، وعلى قضائها عمر بن عامر السلمي، وعلى خراسان أبو داود خالد بن إليراهيم، وعلى مصر صالح بن علي، وعلى الجزيرة حميد بن قحطبة، وعلى الموصل إسماعيل بن علي بن عبد الله، وهي على ما كانت عليه من الأجتدال. ثم دخلت سنة ثمان وثلاثين ومائة ذكر خلع جمهور بن مرار العجلي وفيها خلع جمهور بن مرار المنصور بالري. وكان سبب ذلك أن جمهوراً لما هرم سنباذ حوى ما في عسكره، وكان فيه خزائن أبي مسلم، فلم يوجهها إلى المنصور، فخاف فخلع ووجه إليه المنصوةر محمد بن الأشعث في جيش عظيم نحو الري، ففارقها جمهور نحو أصبهان، ودخل محمد الري، وملك جمهور أصبهان، فأرسل إليه محمد عسكراً، وبقي في الري، فأشار على جمهور بعض أصحابه أن يسير في نخبة عسكره نحو محمد فإنه في قلة، فإن ظفر لم يكن لمن بعده بقية، فسار إليه مجداً.
وبلغ خبره محمداً، فحذر واحتاط، وأتاه عسكر من خراسان فقوي بهم، فالتقوا بقصر الفيروزان بين الري وأصبهان فاقتتلوا قتالاً عظيماً، ومع جمهور نخبة فرسان العجم، فهزم جمهور وقتل من أصحابه خلق كثير، وهرب جمهور فلحق بأذربيجان، ثم إنه بعد ذلك قتل بإسباذروا قتله أصحابه وحملوا رأسه إلى المنصور. ذكر قتل ملبد الخارجيقد ذكرنا خروجه في السنة قبلها، وتحصن حميد منه، ولما بلغ المنصور ظفر ملبدٍ، وتحصن حميد منه، وجه إليه عبد العزيز بن عبد الرحمن أخا عبد الجبار وضم زياد بن مشكان، فأكمن له ملبد مائة فارس، فلما لقبه عبد العزيز خرج عليه الكمين فهزموه وقتلوه عامة أصحابه. فوجه إليه خازم بن خزيمة في نحو ثمانية آلاف من المروروذية، فسار خازم حتى نزل الموصل، وبعث إلى ملبد بعض أصحابه، وعبر ملبد دجلة من بلد وسار نحو خازم، وسار إليه خازم وعلى مقدمته وطلائعه فضلة بن نعيم بن خازم بن عبد الله النهشلي، وعلى ميمنته زهير بن محمد العامري، وعلى ميسرته أبو حماد الأبرص، وخازم في القلب، فلم يزل يساير ملبداً وأصحابه إلى الليل وتواقفوا ليلتهم، فلما كان الغد سار ملبد نحو كورة حزة، وخازم في أثره وتركوا خندقهم، وكان خازم قد خندق على أصحابه بالحسك، فلما خرجوا منه حمل عليهم نملبد وأصحابه. فلما رأى ذلك خازم ألقى الحسك بين يديه ويدي أصحابه، فحملوا على ميمنة خازم فطووها، ثم حملوا على الميسرة وطووها، ثم انتهوا إلى القلب وفيه خازم، فنادى خازم في أصحابه: الأرض! فنزلوا ونزل ملبد وأصحابه وعقروا عامة دوابهم، ثم اضطربوا بالسيوف حتى تقطعت. وأمر خازم فضلة بن نعيم أن إذا سطع الغبار ولم يبصر بعضنا بعضاً فارجع إلى خيلك وخيل أصحابك فاركبوها ثم ارموهم بنشاب؛ ففعل ذلك، وتراجعأصحاب خازم من الميمنة إلى الميسرة ثم رشقوا ملبداً وأصحابه بالنشاب، فقتل ملبد في ثمانمائة رجل ممن ترجل، وقتل منهم قبل أن يترجلوا زهاء ثلاثمائة وهرب الباقون، وتبعهم فضلة فقتل منهم مائة وخمسين رجلاً. ذكر عدة حوادثفي هذه السنة خرج قسطنطين ملك الروم إلى بلد الإسلام فدخل ملطية عنوةً وقهراً وغلب أهلها وهدم سورها وعفا عمن فيها من المقاتلة والذرية. وفيها غزا العباس بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس الصائفة مع صالح بن علي وعيسى بن علي، وقيل: كانت سنة تسع وثلاثين، فبنى صالح ما كان ملك الروم أخربنه من سور ملطية. وفيها بايع عبد الله بن علي للمنصور وهو مقيم بالبصرة مع أخيه سليمان ابن علي. وفيها وسع المنصور المسجد الحرام. وحج الناس هذه السنة الفضل بن صالح بن علي، وكان على المدينة ومكة والطائف زياد بن عبيد الله الحارثي، وعلى الكوفة وسوادها عيسى بن موسى، وعلى البصرة سليمان بن علي، وعلى قضائها سوار بن عبد الله، وعلى خراسان أو داود خالد بن ابراهيم، وعلى مصر صالح بن علي. وفيها توفي السواد بن رفاعة بن أبي مالك القرطبي. وسعيد بن جمهان أبو حفص الأسلمي، يروي عن سفينة حديث الخلافة ثلاثون . ويونس بن عبيد البصري، وق5يل توفي سنة تسع وثلاثين ومائة. ثم دخلت سنة تسع وثلاثين ومائة ذكر غزو الروم والفداء معهم في هذه السنة فرغ صالح بن علي والعباس بن محمد من عمارة ما أخربه الروم من ملطية، ثم غزوا الصائفة من درب الحدث فوغلا في أرض الروم، وغزا مع صالح أختاه أم عيسى ولبابة بنتا علي، وكانتا نذرتا إن زال ملك بني أمية أن تجاهدا في سبيل الله. وغزا من درب ملطية جعفر بن حنظلة المرهاني. وفي هذه السنة كان الفداء بين المنصور وملك الروم، فاستفدى المنصور أسرى قاليقلا وغيرهم من الروم، وبناها وعخمرها ورد إليها، وندب إليها جنداً من أهل الجزيرة وغيرهم، فأقاموا بها وحموها، ولم يكن بعد ذلك صائفة فيما قيل إلا سنة ست وأربعين، لاشتغال المنصور بابني عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي، إلا أن بعضهم قال: إن الحسن بن قحطبة غزا الصائفة مع عبد الوهاب بن إبراهيم الإمام في سنة أربعين، وأقبل قسطنتين ملك الروم في مائة ألف فبلغ جيحان فسمع كثرة المسلمين فأحجم عنهم، ثم لم يكن بعدها صائفة إلى سنة ست وأربعين. ذكر دخول عبد الرحمن بن معاوية إلى الأندلسقد ذكرنا في سنة اثنتين وتسعين فتح الأندلس وعزل موسى بن نصير عنها.
فلما عزل عنها وسار إلى اشام استخلف عليها ابنه عبد العزيز وضبططها وحمى ثغورها وافتتح في ولايته مدائن كثيرة، وكان خيراً فاضلاً، وبقي أميراً إلى سنة سبع وتسعين، وقيل: ثمانٍ وتسعين، فقتل بها. وقد تقدم سبب قتله. فلما قتل بقي أهل الأندلس ستة أشهر لا يجمعهم والٍ، ثم اتفقوا على أيوب بن حبيب اللخمي، وهو ابن أخت موسى بن نصير، فكان يصلي بهم لصلاحه، وتحول إلى قرطبة وجعلها دار إمارة في أول سنة تسع وتسعين، وقيل سنة ثمان وتسعين. ثم إن سليمان بن عبد الملك استعمل بعده الحر بن عبد الرحمن الثقفي، فقدمها سنة ثمان وتسعين، فأقام والياً عليها سنتين وتسعة أشهر. فلما ولي عمر بن عبد العزيز الخلافة استعمل على الأندلس السمح بن مالك الخولاني وأمره أن يميز أرضها ويخرج منها ما كان عنوةً ويأخذ منه الخمس ويكتب إليه بصفة الأندلس، وكان رأيه إقفال أهلها منها لانقاطاعهم عن المسلمين. فقدمها السمح سنة مائة في رمضان وفعل ما أمره عمر، وقتل عند انصرافه من دار الحرب سنة اثنتين ومائة، وكان قد بدا لعمر في نقل أهلها عنها وتركهم، ودعا لأهلها. ثم وليها بعد السمح عنبسة بن سحيم الكلبي سنة ثلاثة ومائة، توفي في شعبان سنة سبع ومائة عند انصرافه من غزوة الإفرنج. ثم وليها بعده يحيى بن سلمى الكلبيفي ذي القعدة سنة سبع، فبقي عليها والياً سنتين وستة أشهر، ثم دخل الأندلس حذيفة بن الأبرص الأشجعي سنة عشر ومائة فبقي والياً عليها ستة أشهر، ثم عزل. ثم وليها عثمان بن أبي نسعة الخثعمي، فقدمها سنة عشر ومائة وعزل آخر سنة عشر ومائة أيضاً، وكانت ولايته خمسة أشهر. ثم وليها الهيثم بن عبيد الكناني، فقدمها في المرحم سنة إحدى عشرة ومائة، فأقام والياص عليها عشرة أشهر وأياماً ثم توفي في ذي الحجة، فقدم أهل الأندلس على أنفسهم محمد بن عبد الله الأشجعي، وكانت ولايته شهرين، وولي بعده عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي في صفر سنة اثنتي عشرة ومائة، واستشهد في أرض العدو في رمضان سنة أربع عشرة ومائة. ثم وليها عبد الملك بن قطن الفهري، فأقام عليها سنتين وعزل. ثم وليها بعده عقبة بن الحجاج السلولي، دخلها سنة ست عشرة ومائة، فوليها خمس سنين، وثار أهل الأندلس به فخلعوه فولوه بعده عبد الملك بن قطن، وهي ولايته الثانية، وقد ذكر بعض مؤرخي الأندلس أنه توفي، فولى أهل الأندلس عبد الملك. ثم وليها بلج نب بشر القشيري، بايعه أصحابه، فهرب عبد الملك ولحق بداره، وهرب ابناه قطن وأمية فلحق أحدهما بماردة والآخر بسرقسطة، ثم ثارت اليمن على بلج وسألوه قتل عبد الملك بن قطن، فلما خشي فسادهم أمر به فقتل وصلب، وكان عمره تسعين سنة، فلما بلغ ابنيه قتله حشدا من ماردة إلى أربونة، فاجتمع إليهما مائة ألف، وزحفوا إلى بلج ومن معه بقرطبة، فخرج إليهم بلج فلقيهم فيمن معه من أهل الشام بقرب قرطبة فهزمهما، ورجع إلى قرطبة فمات بعد أيام يسيرة. وكان سبب قدوم بلج الأندلس أنه كان مع همه كلثوم بن عياض في وقعة البربر سنة ثلاث وعشرين، وقد تقدم ذكرها، فلما قتل عمه سار إلى الأندلس، فاجازه عبد الملك بن قطن إليها، وكان سبب قتله. ثم ولى أهل الشام على الأندلس مكانه ثعلبة بن سلامة العاملي فأقام إلى أن قدم أبو الخطار والياً على الأندلس سنة خمس وعشرين ومائة، فدان له أهل الأندلس، وأقبل إليه ثعلبة وابن أبي نسعة وابنا عبد الملك فآمنهم وأحسن إليهم واستقام أمره، وكان شجاعاً ذا رأي وكرم، وكثر أهل الشام عنده، فلم تحملهم قرطبة، ففرقهم في البلاد، فانزل أهل دمشق إلبيرة لشبهها بها سوماها دمشق، وأنزل أهل حمص إسبيلية وسماها حمص، وأنزل أهل قنسرين بجيان وسماها قنسرين، وأنزل أهل الأردن برية وسماها الأردن، وأنزل أهل فلسطين بشذونة وسماها فلسطين، وأنزل أهل مصر بتدمير وسماها مصر لشبهها بها، ثم تعصب ليمانية، وكان ذلك سبباً لتألب الصميل بن حاتم عليه مع مضر وحربه وخلعه. وقامت هذه الفتنة سنة سبع وعشرين ومائة.
وكان الصميل بن حاتم بن شمر بن ذي الجوشن قد قدم الأندلس في أمداد الشام فرأس بها، فأراد أبو الخطار أن يضع منه فأمر به يوماً وعنده الجند فشتم وأهين، فخرج وعمامته مائلة، فقال له بعض الحجاب: ما بال عمامتك مائلة؟ فقال: إن كان لي قوم فسيقيمونها، وبعث إلى قومه فشكا إليهم ما لقي. فقالوا: نحن لك تبع، وكتبوا إلى ثوابة بن سلامة الجذامي، وهو من أهل فلسطين، فوفد عليهم وأجابهم وتبعهم لخم وجذام. فبلغ ذلك إلى أبي الخطار فسار إليهم، فقاتلوه فانهزم أصحابه وأسر أبو الخطار ودخل ثوابة قصر قرطبة وأبو الخطار في قيوده، فولي ثوابة الأندلس سنتين ثم توفي، فأراد أهل اليمن إهادة أبي الخطار، وامتنعت مضر ورأسهم الصميل، فافترقت الكلمة، فأقامت الأندلس أربعة أشهر بغي أميرز وقد تقدم أبسط من هذا سنة سبع وعسرين ومائة. فلما بقوا بغير أمير قدموا عبد الرحمن بن كثير اللخمي للأحكام. فلما تفاقم الأمر اتفق رأيهم على يوسف بت عبد الرحمن بن حبيب بن أبي عبيدة الفهري، فوليها يوسف سنة تسع وعشرين،فاستقر الأمر أن يلي سنة ثم يرد الأمر إلى اليمن فيولون من أحبوا من قومهم. فلما انقضت السنة أقبل أهل اليمن بأسهم يريدون أن يولوا رجلاً منهم، فبيتهم الصميل فقتل منهم خلقاً كثيراً، فهي وقعة شقندة المشهورة، وفيها قتل أبو الخطار و | |
|
| |
الشيخ عودة الشيخ عودة
عدد المساهمات : 1748 تاريخ التسجيل : 28/09/2008 العمر : 74
| موضوع: رد: كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير الثلاثاء فبراير 11, 2014 4:04 am | |
| وقيل: إن رياحاً ضمن للمنصور أن يخرج محمداً وإبراهيم ابني عبد الله إن استعمله على المدينة، فاستعمله عليها، فسار حتى دخلها، فلما دخل دار مروان، وهي التي كان ينزلها الأمراء، قال لحاجب كان له يقال له أبو البختري: هذه دار مروان ؟ قال: نعم. قال: أما إنها محلال مظعان ونحن أول من يظعن منها. فلما تفرق الناس عنه قال لحاجبه: يا أبا البختري خذ بيدي ندخل على هذا الشيخ، يعني عبد الله بن الحسن؛ فدخلا عليه، وقال رياح: أيها الشيخ إن أمير المؤمنين والله ما استعملني لرحم قريبة ولا ليد سلفت إليه، والله لا لعبت في كما لعبت بزياد وابن القسري، والله لأزهقن نفسك أو لتأتيني بابنيك محمد وإبراهيم ! فرفع رأسه إليه وقال: نعم، أما والله إنك لأزيرق قيس المذبوح فيها كما تذبح الشاة ! قال أبو البختري: فانصرف والله رياح آخذاً بيدي أجد برد يده وإن رجليه لتخطان الأرض مما كلمه. قال: فقلت له: إن هذا ما اطلع على الغيب. قال: إيهاً ويلك ! فوالله ما قال إلا ما سمع. فذبح كما تذبح الشاة. ثم إنه دعا بالقسري وسأله عن الأموال، فضربه وسجنه وأخذ كاتبه زراعاً وعاقبه فأكثر، وطلب إليه أن يذكر ما أخذ محمد بن خالد من الأموال، وهو لا يجيبه، فلما طال عليه العذاب أجابه إلى ذلك، فقال له رياح: احضر الرفيعة وقت اجتماع الناس، ففعل ذلك، فلما اجتمع الناس أحضره فقال: أيها الناس إن الأمير أمرني أن أرفع على ابن خالد، وقد كتبت كتاباً لأنجو به وإنا لنشهدكم أن كل ما فيه باطل. فأمر رياح فضرب مائة سوط ورد إلى السجن. وجد رياح في طلب محمد، فأخبر أنه في شعب من شعاب رضوى، جبل جهينة، وهو في عمل ينبع، فأمر عامله في طلب محمد، فهرب منه راجلاً فأفلت وله ابن صغير ولد في خوفه وهو مع جارية له فسقط من الجبل فتقطع، فقال محمد: منخرق السّربال يشكو الوجى ... تنكبه أطراف مروٍ حداد شرّده الخوف فأزرى به ... كذاك من يكره حرّ الجلاد قد كان في الموت له راحة ... والموت حتم في رقاب العباد وبينا رياح يسير في الحرة إذ لقي محمداً، فعدل محمد إلى بئر هناك فجعل يستقي، فقال رياح: قاتله الله أعرابياً ما أحسن ذراعه ! ذكر حبس أولاد الحسنقد ذكرنا قبل أن المنصور حبسهم، وقد قيل أيضاً إن رياحاً هو الذي حبسهم. قال علي بن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي: حضرنا باب رياح في المقصورة، فقال الآذن: من كان ها هنا من بني الحسين فليدخل. فدخلوا من باب المقصورة وخرجوا من باب مروان. ثم قال: من ها هنا من بني الحسن فليدخل. فدخلوا من باب المقصورة ودخل الحدادون من بني مروان، فدعا بالقيود فقيدهم وحبسهم، وكانوا: عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي، والحسن وإبراهيم ابني الحسن بن الحسن، وجعفر بن الحسن بن الحسن، وسليمان وعبد الله ابني داود بن الحسن بن الحسن، ومحمد وإسماعيل وإسحاق بني إبراهيم بن الحسن بن الحسن، وعباس بن الحسن بن الحسن بن علي، وموسى ابن عبد الله بن الحسن بن الحسن. فلما حبسهم لم يكن فيهم علي بن الحسن بن الحسن بن علي العابد. فلما كان الغد بعد الصبح إذ قد أقبل رجل متلفف، فقال له رياح: مرحباً بك، ما حاجتك ؟ قال: جئتك لتحبسني مع قومي، فإذا هو علي بن الحسن بن الحسن، فحبسه معهم. وكان محمد قد أرسل ابنه علياً إلى مصر يدعو إليه، فبلغ خبره عامل مصر، وقيل: إنه على الوثوب بك والقيام عليك بمن شايعه، فقبضه وأرسله إلى المنصور، فاعترف له وسمى أصحاب أبيه، وكان فيمن سمى عبد الرحمن بن أبي الوالي، وأبو حنين، فضربهما المنصور وحبسهما وحبس علياً، فبقي محبوساً إلى أن مات. وكتب المنصور إلى رياح أن يحبس معهم محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان المعروف بالديباج، وكان أخا عبد الله بن الحسن بن الحسن، لأن أمهما جميعاً فاطمة بنت الحسين بن علي، فأخذه معهم.
وقيل: إن المنصور حبس عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي وحده وترك باقي أولاد الحسن، فلم يزل محبوساً، فبقي الحسن بن الحسن بن الحسن قد نصل خضابه حزناً على أخيه عبد الله، وكان المنصور يقول: ما فعلت الحادة ؟ ومر الحسن بن الحسن بن الحسن على إبراهيم بن الحسن وهو يعلف إبلاً له فقال: أتعلف إبلك وعبد الله محبوس ! يا غلام أطلق عقلها ! فأطلقها ثم صاح في أدبارها فلم يوجد منها بعير. فلما طال حبس عبد الله بن الحسن قال عبد العزيز بن سعيد للمنصور: أتطمع في خروج محمد وإبراهيم وبنو الحسن مخلون ؟ والله للواحد منهم أهيب في صدور الناس من الأسد ! فكان ذلك سبب حبس الباقين. ذكر حملهم إلى العراقولما حج المنصور سنة أربع وأربعين ومائة أرسل محمد بن عمران بن إبراهيم بن محمد بن طلحة، ومالك بن أنس إلى بني الحسن، وهم في الحبس، يسألهم أن يدفعوا إليه محمداً وإبراهيم ابني عبد الله، فدخلا عليهم وعبد الله قائم يصلي، فأبلغاهم الرسالة، فقال الحسن بن الحسن أخو عبد الله: هذا عمل ابني المشومة ! أما والله ما هذا عن رأينا ولا عن ملاءٍ منا ولنا فيه حكم. فقال له أخوه إبراهيم: علام تؤذي أخاك في ابنيه وتؤذي ابن أخيك في أمه ؟ ثم فرغ عبد الله من صلاته فأبلغاه الرسالة، فقال: لا والله لا أريد عليكما حرفاً، إن أحب أن يأذن لي فألقاه فليفعل. فانطلق الرسولان فأبلغا المنصور، فقال: أيسخر بي، لا والله لا ترى عينه عيني حتى يأتيني بابنيه. وكان عبد الله لا يحدث أحداً قط إلا قلبه عن رأيه. ثم سار المنصور لوجهه، فلما حج ورجع لم يدخل المدينة ومضى إلى الربذة، فخرج إليه رياح إلى الربذة فرده إلى المدينة وأمره بإشخاص بني الحسن إليه ومعهم محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان أخو بني الحسن لأمهم، فرجع رياح فأخذهم وسار بهم إلى الربذة، وجعلت القيود والسلاسل في أرجلهم وأعناقهم، وجعلهم في محامل بغير وطاء؛ ولما خرج بهم رياح من المدينة وقف جعفر بن محمد من وراء ستر يراهم ولا يرونه وهو يبكي ودموعه تجري على لحيته وهو يدعو الله، ثم قال: والله لا يحفظ الله حرميه بعد هؤلاء. ولما ساروا كان محمد وإبراهيم ابنا عبد الله يأتيان كهيئة الأعراب فيسايران أباهما ويستأذنانه بالخروج، ويقول: لا تعجلا حتى يمكنكما ذلك. وقال لهما: إن منعكما أبو جعفر، يعني المنصور، أن تعيشا كريمين فلا يمنعكما أن تموتا كريمين. فلما وصلوا إلى الربذة أدخل محمد بن عبد الله العثماني على المنصور وعليه قميص وإزار رقيق، فلما وقف بين يديه قال: إيهاً يا ديوث ! قال محمد: سبحان الله ! لقد عرفتني بغير ذلك صغيراً وكبيراً ! قال: فممن حملت ابنتك رقية ؟ وكانت تحت إبراهيم بن عبد الله بن الحسن، وقد أعطيتني الأيمان أن لا تغشني ولا تمالئ علي عدواً، أنت ترى ابنتك حاملاً وزوجها غائب وأنت بين أن تكون حانثاً أو ديوثاً ! وايم الله إني لأهم برجمها ! قال محمد: أما أيماني فهي علي إن كنت دخلت لك في أمر غش علمته، وأما ما رميت به هذه الجارية فإن الله قد أكرمها بولادة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إياها، ولكني ظننت حين ظهر حمله أن زوجها ألم بها على حين غفلة. فاغتاظ المنصور من كلامه وأمر بشق ثيابه عن إزاره، فحكي أن عورته قد كشفت، ثم أمر به فضرب خمسين ومائة سوط، فبلغت منه كل مبلغٍ والمنصور يفتري عليه لا يكنى، فأصاب سوط منها وجهه، فقال: ويحك اكفف عن وجهي ! فإن له حرمة برسول الله صلى الله عليه وسلم، فأغرى المنصور فقال للجلاد: الرأس الرأس ! فضرب على رأسه نحواً من ثلاثين سوطاً وأصاب إحدى عينيه سوط فسالت، ثم أخرج وكأنه زنجي من الضرب، وكان من أحسن الناس، وكان يسمى الديباج لحسنه. فلما أخرج وثب إليه مولى له فقال: ألا أطرح ركاني عليك ؟ قال: بلى جزيت خيراً ! والله إن لشفوف إزاري أشد علي من الضرب. وكان سبب أخذه أن رياحاً قال للمنصور: يا أمير المؤمنين أما أهل خراسان فشيعتك، وأما أهل العراق فشيعة آل أبي طالب، وأما أهل الشام فوالله ما عليٌ عندهم إلا كافر، ولكن محمد بن عبد الله العثماني لو دعا أهل الشام ما تخلف عنه منهم أحد. فوقعت في نفس المنصور، فأمر به فأخذ معهم، وكان حسن الرأي فيه قبل ذلك.
ثم إن أبا عون كتب إلى المنصور: إن أهل خراسان قد تغاشوا عني وطال عليهم أمر محمد بن عبد الله. فأمر المنصور بمحمد بن عبد الله بن عمر العثماني فقتل، وأرسل رأسه إلى خراسان، وأرسل معه من يحلف أنه رأس محمد بن عبد الله وأن أمه فاطمة بنت سول الله، صلى الله عليه وسلم، فلما قتل قال أخوه عبد الله بن الحسن: إنا لله وإنا إليه راجعون ! إن كنا لنأمن به في سلطانهم ثم قد قتل منا في سلطاننا ! ثم إن المنصور أخذهم وسار بهم من الربذة فمر بهم على بغلة شقراء، فناداه عبد الله بن الحسن: يا أبا جعفر ما هكذا فعلنا بأسرائكم يوم بدر ! فأخسأه أبو جعفر وثقل عليه ومضى، فلما قدموا إلى الكوفة قال عبد الله لمن معه: أما ترون في هذه القرية من يمنعنا من هذا الطاغية ؟ قال: فلقيه الحسن وعلي ابنا أخيه مشتملين على سيفين فقالا له: قد جئناك يا بن رسول الله فمرنا بالذي تريد. قال: قد قضيتما ما عليكما ولن تغنيا في هؤلاء شيئاً، فانصرفا. ثم إن المنصور أودعهم بقصر ابن هبيرة شرقي الكوفة، وأحضر المنصور محمد بن إبراهيم بن الحسن، وكان أحسن الناس صورةً، فقال له: أنت الديباج الأصغر ؟ قال: نعم. قال: لأقتلنك قتلةً لم أقتلها أحداً ! ثم أمر به فبني عليه أسطوانة وهو حي فمات فيها. وكان إبراهيم بن الحسن أول من مات منهم، ثم عبد الله بن الحسن فدفن قريباً من حيث مات، فإن يكن في القبر الذي يزعم الناس أنه قبره وإلا فهو قريب منه. ثم مات علي بن الحسن. وقيل: إن المنصور أمر بهم فقتلوا، وقيل: بل أمر بهم فسقوا السم، وقيل: وضع المنصور على عبد الله من قال له إن ابنه محمداً قد خرج فقتل فانصدع قلبه فمات، والله أعلم. ولم ينج منهم إلا سليمان وعبد الله ابنا داود بن الحسن بن الحسن بن علي، وإسحاق وإسماعيل ابنا إبراهيم بن الحسن بن الحسن، وجعفر بن الحسن، وانقضى أمرهم. ذكر عدة حوادثكان على مكة هذه السنة السري بن عبد الله، وعلى المدينة رياح بن عثمان، وعلى الكوفة عيسى بن موسى، وعلى البصرة سفيان بن معاوية، وعلى مصر يزيد بن حاتم بن قتيبة بن المهلب بن أبي صفرة، وهو الذي قال فيه يزيد ابن ثابت يمدحه ويهجو يزيد بن أسيد السلمي: لشتّان ما بين اليزيدين في الندى ... يزيد سليمٍ والأغرّ بن حاتم في أبيات كثيرة. وكان ممدحاً جواداً. وفيها ثار هشام بن عذرة الفهري، وهو من بني عمرو، ويوسف بن عبد الرحمن الفهري بطليطلة على الأمير عبد الرحمن الأموي، فاتبعه من فيها، فاسر إليه عبد الرحمن فحاصره وشدد عليه الحصار، فمال إلى الصلح وأعطاه ابنه أفلح رهينةً، فأخذه عبد الرحمن ورجع إلى قرطبة، فرجع هشام وخلع عبد الرحمن، فعاد إليه عبد الرحمن وحاصره ونصب عليه المجانيق، فلم يؤثر فيها لحصانتها، فقتل أفلح ابنه ورمى رأسه في المنجنيق ورحل إلى قرطبة ولم يظفر بهشام. وفيها مات عبد الله بن شبرمة. وعمرو بن عبيد المعتزلي، وكان زاهداً. وبريد بن أبي مريم مولى سهل بن الحنظلية. وعقيل بن خالد الأيلي صاحب الزهري، وكان موته بمصر فجأةً. ومحمد بن عمرو بن علقمة بن وقاص الليثي أبو الحسن المدني. وهاشم بن هاشم بن عتبة بن أبي وقاص المدني. بريد بضم الباء الموحدة، وفتح الراء المهملة. وعقيل بضم العين المهملة، وفتح القاف. ثم دخلت سنة خمس وأربعين ومائة ذكر ظهور محمد بن عبد الله بن الحسن في هذه السنة كان ظهور محمد بن عبد الله نب الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب بالمدينة لليلتين بقيتا من جمادى الآخرة، وقيل: رابع عشر شهر رمضان. وقد ذكرنا فيما تقدم أخباره وتبعته وحمل المنصور أهله إلى العراق. فلما حملهم وسار بهم رد رياحاً إلى المدينة أميراً عليها، فألح في طلب محمد وضيق عليه وطلبه حتى سقط ابنه فمات، وأرهقه الطلب يوماً فتدلى في بئر بالمدينة يناول أصحابه الماء وانغمس في الماء إلى حلقه، وكان بدنه لا يخفى لعظمه، وبلغ رياحاً خبر محمد وأنه بالمذار، فركب نحوه في جنده، فتنحى محمد عن طريقه واختفى في دار الجهنية، فحيث لم يره رياح رجع إلى دار مروان. وكان الذي أعلم رياحاً سليمان بن عبد الله بن أبي سبرة.
فلما اشتد الطلب بمحمد خرج قبل وقته الذي واعد أخاه إبراهيم على الخروج فيه، وقيل: بل خرج محمد لميعاده مع أخيه، وإنما أخوه تأخر لجدري لحقه، وكان عبيد الله بن عمرو بن أبي ذئب وعبد الحميد بن جعفر يقولان لمحمد بن عبد الله: ما تنتظر بالخروج ! فوالله ما على هذه الأمة أشأم منك. اخرج ولو وحدك. فتحرك بذلك أيضاً ؟! وأتى رياحاً الخبر أن محمداً خارجٌ الليلة، فأحضر محمد بن عمران بن إبراهيم بن محمد قاضي المدينة، والعباس بن عبد الله بن الحارث بن العباس وغيرهما عنده، صمت طويلاً ثم قال لهم: يا أهل المدينة أمير المؤمنين يطلب محمداً في شرق الأرض وغربها وهو بين أظهركم، وأقسم بالله لئن خرج لأقتلنكم أجمعين ! وقال لمحمد بن عمران: أنت قاضي أمير المؤمنين فادع عشيرتك فأرسل تجمع بني زهرة، فأرسل فجاؤوا في جمع كثير فأجلسهم بالباب، فأرسل فأخذ نفراً من العلويين وغيرهم، فيهم: جعفر بن محمد بن علي بن الحسين، والحسين بن علي بن الحسين بن علي، والحسن بن علي بن الحسن بن علي بن الحسين بن علي، ورجال من قريش فيهم إسماعيل بن أيوب بن سلمة بن عبد الله بن الوليد بن المغيرة وابنه خالد. فبينما هم عنده إذ ظهر محمد، فسمعوا التكبير، فقال ابن مسلم بن عقبة المري: أطعني في هؤلاء واضرب أعناقهم. فقال له الحسين بن علي ابن الحسين بن علي: والله ما ذاك إليك، إنا لعلى السمع والطاعة. وأقبل محمد من المذار في مائة وخمسين رجلاً، فأتى في بني سلمة بهؤلاء تفاؤلاً بالسلامة، وقصد السجن فكسر بابه وأخرج من فيه، وكان فيهم محمد بن خالد بن عبد الله القسري، وابن أخي النذير بن يزيد ورزام، فأخرجهم وجعل على الرجالة خوات بن بكير بن خوات بن جبير، وأتى دار الإمارة وهو يقول لأصحابه: لا تقتلوا إلا يقتلوا. فامتنع منهم رياح، فدخلوا من باب المقصورة وأخذوا رياحاً أسيراً وأخاه عباساً وابن مسلم بن عقبة المري فحبسهم في دار الإمارة، ثم خرج إلى المسجد فصعد المنبر فخطب الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد فإنه قد كان من أمر هذا الطاغية عدو الله أبي جعفر ما لم يخف عليكم، من بنائه القبة الخضراء التي بناها معاندةً لله في ملكه وتصغيراً للكعبة الحرام، وإنما أخذ الله فرعون حين قال: " أنا ربّكم الأعلى " النازعات: 24، وإن أحق الناس بالقيام في هذا الدين أبناء المهاجرين والأنصار المواسين، اللهم إنهم قد أحلوا حرامك وحرموا حلالك، وآمنوا من أخفت وأخافوا من آمنت ! اللهم فاحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً ! أيها الناس إني والله ما خرجت من بين أظهركم وأنتم عندي أهل قوة ولا شدة، ولكني اخترتكم لنفسي ! والله ما جئت هذه وفي الأرض مصر يعبد الله فيه إلا وقد أخذ لي فيه البيعة ! وكان المنصور يكتب إلى محمد على ألسن قواده يدعونه إلى الظهور ويخبرونه أنهم معه، فكان محمد يقول: لو التقيانا مال إلي القواد كلهم. واستولى محمد على المدينة واستعمل عليها عثمان بن محمد بن خالد بن الزبير وعلى قضائها عبد العزيز بن المطلب بن عبد الله المخزومي، وعلى بيت السلاح عبد العزيز الداروردي، وعلى الشرط أبا القلمس عثمان بن عبيد الله بن عمر بن الخطاب، وعلى ديوان العطاء عبد الله بن جعفر بن عبد الرحمن بن المسور بن مخرمة؛ وقيل: كان على شرطه عبد الحميد بن جعفر فعزله. وأرسل محمد إلى محمد بن عبد العزيز: إني كنت لأظنك ستنصرنا وتقوم معنا. فاعتذر إليه وقال: أفعل؛ ثم انسل منه وأتى مكة. ولم يتخلف عن محمد أحد من وجوه الناس إلا نفر، منهم: الضحاك بن عثمان بن عبد الله بن خالد بن حزام، وعبد الله بن المنذر بن المغيرة بن عبد الله بن خالد، وأبو سلمة ابن عبيد الله بن عبيد الله بن عمر، وحبيب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير. وكان أهل المدينة قد استفتوا مالك بن أنس في الخروج مع محمد وقالوا: إن في أعناقنا بيعة لأبي جعفر، فقال: إنما بايعتم مكرهين وليس على مكره يمين. فأسرع الناس إلى محمد ولزم مالك بيته. فأرسل محمد إلى إسماعيل بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، وكان شيخاً كبيراً، فدعاه إلى بيعته، فقال: يا بن أخي أنت والله مقتول فكيف أبايعك ؟ فارتدع الناس عنه قليلاً.
وكان بنو معاوية بن عبد الله بن جعفر قد أسرعوا إلى محمد، فأتت حمادة بنت معاوية إلى إسماعيل بن عبد الله وقالت له: يا عم إن إخوتي قد أسرعوا إلى ابن خالهم، وإنك إن قلت هذه المقالة ثبطت الناس عنه فيقتل ابن خالي وإخوتي. فأبى إسماعيل إلا النهي عنه، فيقال: إن حمادة عدت عليه فقتلته، فأراد محمد الصلاة عليه فمنعه عبد الله بن إسماعيل وقال: أتأمر بقتل أبي وتصلي عليه ؟ فنحاه الحرس وصلى عليه محمد. ولما ظهر محمد كان محمد بن خالد القسري بالمدينة في حبس رياح فأطلقه. وقال ابن خالد: فلما سمعت دعوته التي دعا إليها على المنبر قلت: هذه دعوة حق، والله لأبلين لله فيها بلاء حسناً. فقلت: يا أمير المؤمنين إنك قد خرجت بهذا البلد، والله لو وقف على نقب من أنقابه أحد لمات أهله جوعاً وعطشاً، فانهض معي فإنما هي عشر حتى أضربه بمائة ألف سيف. فأبى علي، فبينا أنا عنده إذ قال: ما وجدنا من خير المتاع شيئاً أجود من شيء وجدناه عند أبن أبي فروة ختن أبي الخصيب، وكان انتهبه، قال: فقلت: ألا أراك قد أبصرت خير المتاع ! فكتبت إلى المنصور فأخبرته بقلة من معه، فأخذني محمد فحبسني حتى أطلقني عيسى بن موسى بعد قتله بأيام. وكان رجل منآل أويس بن أبي سرح العامري، عامر بن لؤي، اسمه الحسين بن صخر بالمدينة لما ظهر محمد، فسار من ساعته إلى المنصور فبلغه في تسعة أيام، فقدم ليلاً فقام على أبواب المدينة فصاح حتى علموا به وأدخلوه، فقال الربيع: ما حاجتك هذه الساعة وأمير المؤمنين نائم؟ قال: لا بد لي منه. فدخل الربيع على المنصور فأخبره خبره وأنه قد طلب مشافهته، فأذن له، فدخل عليه فقال: يا أمير المؤمنين خرج محمد بن عبد الله بالمدينة ! قال: قتلته والله إن كنت صادقاً، أخبرني من معه. فسمى له نن معه من وجوه أهل المدينة وأهل بيته. قال: أنت رأيته وعاينته ؟ قال: أنا رأيته وعاينته وكلمته على منبر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، جالساً، فأدخله أبو جعفر بيتاً، فلما أصبح جاء رسولٌ لسعيد بن دينار غلام عيسي بن موسى يلي أمواله بالمدينة فأخبره بأمر محمد، وتواترت عليه أخباره، فأخرج الأويسي، فقال: لأوطئن الرجال عقبيك ولأعيننك ! فأمر له بتسعة آلاف درهم لكل ليلة ألف درهم. وأشفق من محمد فقال له الحارثي المنجم: يا أمير المؤمنين ما يجزعك منه ؟ والله لو ملك الأرض ما لبث إلا تسعين يوماً. فأرسل المنصور إلى عمه عبد الله بن علي، وهو محبوس: إن هذا الرجل قد خرج فإن كان عندك رأي فأشر به علينا، وكان ذا رأي عندهم، فقال: إن المحبوس محبوس الرأي. فأرسل إليه المنصور: لو جاءني حتى يضرب بابي ما أخرجتك، وأنا خير لك منه، وهو ملك أهل بيتك. فأعاد عليه عبد الله: ارتحل الساعة حتى تأتي الكوفة فاجثم على أكبادهم، فإنهم شيعة أهل هذا البيت وأنصارهم، ثم احففها بالمسالح، فمن خرج منها إلى وجه من الوجوه أو أتاها من وجه من الوجوه فاضرب عنقه، وابعث إلى سلم بن قتيبة ينحدر إليك، وكان بالري، واكتب إلى أهل الشام فمرهم أن يحملوا إليك من أهل البأس والنجدة ما حمل البريد فأحسن جوائزهم ووجههم مع سلم. ففعل. وقيل: أرسل المنصور إلى عبد الله مع إخوته يستشيرونه في أمر محمد، وقال لهم: لا يعلم عبد الله أني أرسلتكم إليه. فلما دخلوا عليه قال: لأمرٍ ما جئتم، ما جاء بكم جميعاً وقد هجرتموني مذ دهر ؟ قالوا: إنا استأذنا أمير المؤمنين فأذن لنا. قال: ليس هذا بشيء، فما الخبر؟ قالوا: خرج محمد بن عبد الله. قال: فما ترون ابن سلامة صانعاً ؟ يعني المنصور. قالوا: لا ندري والله. قال: إن البخل قد قتله، فمروه فليخرج الأموال وليعط الأجناد، فإن غلب فما أسرع ما يعود إليه ماله، وإن غلب لم يقدم صاحبه على دينار ولا درهم. ولما ورد الخبر على المنصور بخروج محمد كان المنصور قد خط مدينة بغداد بالقصب، فسار إلى الكوفة ومعه عبد الله بن الربيع بن عبيد الله بن المدان، فقال له المنصور: إن محمداً قد خرج بالمدينة. فقال عبد الله: هلك وأهلك، خرج في غير عدد ولا رجال.
حدثني سعيد بن عمرو بن جعدة المخزومي قال: كنت مع مروان يوم الزاب واقفاً فقال لي مروان: من هذا الذي يقاتلني ؟ قلت: عبد الله بن علي ابن عبد الله بن عباس. قال: وددت والله أن علي بن أبي طالب يقاتلني مكانه، إن علياً وولده لا حظ لهم في هذا الأمر، وهل هو إلا رجل من بني هاشم وابن رسول الله معه ريح الشام ونصر الشام ؟ يا بن جعدة أتدري ما حملني أن عقدت لعبد الله وعبيد الله بعدي وتركت عبد الملك وهو أكبر من عبدي الله ؟ قال ابن جعدة: لا. قال: وجدت الذي يلي هذا الأمر عبد الله وعبيد الله، وكان عبيد الله أقرب إلى عبد الله من عبد الملك، فعقدت له، فاستحلفه المنصور على صحة ذلك، فحلف له، فسري عنه. ولما بلغ المنصور خبر ظهور محمد قال لأبي أيوب وعبد الملك: هل من رجل تعرفانه بالرأي يجمع رأيه إلى رأينا ؟ قالا: بالكوفة بديل بن يحيى، وكان السفاح يشاوره، فأرسل إليه وقال له: إن محمداً قد ظهر بالمدينة. قال: فاشحن الأهواز بالجنود. قال: إنه ظهر بالمدينة ! قال: قد فهمت وإنما الأهواز الباب الذي تؤتون منه. فلما ظهر إبراهيم بالبصرة قال له المنصور ذلك، قال: فعاجله بالجنود واشغل الأهواز عليه. وشاور المنصور أيضاً جعفر بن حنظلة البهراني عند ظهور محمد، فقال: وجه الجنود إلى البصرة. قال: انصرف حتى أرسل إليك. فلما صار إبراهيم إلى البصرة أرسل إليه فقال له ذلك، فقال: إني خفت بادرة الجنود. قال: وكيف خفت البصرة ؟ قال: لأن محمداً ظهر بالمدينة وليسوا أهل الحرب، بحسبهم أن يقيموا شأن أنفسهم، وأهل الكوفة تحت قدمك، وأهل الشام أعداء آل أبي طالب، فلم يبق إلا البصرة. ثم إن المنصور كتب إلى محمد: بسم الله الرحمن الرحيم " إنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ في الأرْضِ فَسَاداً أنْ يُقَتَّلُوا أوْ يُصَلَّبُوا أوْ تُقَطَّعَ أيْدِيهمْ وَأرْجُلُهُم مِنْ خِلاَفٍ أوْ يُنْفَوْا مَنَ الأرْضِ " المائدة: 33 - 34 الآيتين؛ ولك عهد الله وميثاقه وذمة رسوله أن أؤمنك وجميع ولدك وإخوتك وأهل بيتك ومن اتبعكم على دمائكم وأموالكم، وأسوغك ما أصبت من دم أو مال، وأعطيك ألف ألف درهم وما سألت من الحوائج، وأنزلك من البلاد حيث شئت، وأن أطلق من في حبسي من أهل بيتك، وأن أؤمن كل من جاءك وبايعك واتبعك أو دخل في شيء من أمرك ثم لا أتبع أحداً منهم بشيء كان منه أبداً، فإن أردت أن تتوثق لنفسك فوجه إلي من أحببت يأخذ لك من الأمان والعهد والميثاق ما تتوثق به، والسلام. فكتب إليه محمد: " طسمِ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤمِنُونَ " إلى: " يَحْذَرُونَ " القصص: 1 - 5 وأنا أعرض عليك من الأمان مثل ما عرضت علي، فإن الحق حقنا وإنما ادعيتم هذا الأمر بنا وخرجتم له بشيعتنا وحظيتم بفضله، فإن أبانا علياً كان الوصي وكان الإمام، فكيف ورثتم ولايته وولده أحياء ؟ ثم قد علمت أنه لم يطلب الأمر أحد له مثل نسبنا وشرفنا وحالنا وشرف آبائنا، لسنا من أبناء اللعناء ولا الطرداء ولا الطلقاء، وليس يمت أحد من بني هاشم بمثل الذي نمت به من القرابة والسابقة والفضل، وإنا بنو أم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فاطمة بنت عمرو في الجاهلية، وبنو بنته فاطمة في الإسلام دونكم. إن الله اختارنا واختار لنا، فوالدنا من النبيين محمد أفضلهم، ومن السلف أولهم إسلاماً علي، ومن الأزواج أفضلهن خديجة الطاهرة وأول من صلى إلى القبلة، ومن البنات خيرهن فاطمة سيدة نساء العالمين وأهل الجنة، ومن المولودين في الإسلام حسن وحسين سيدا شباب أهل الجنة، وإن هاشماً ولد علياً مرتين، وإن عبد المطلب ولد حسناً مرتين، وإن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ولدني مرتين من قبل حسن وحسين، وإني أوسط بني هاشم نسباً وأصرحهم أباً، لم تعرق في العجم، ولم تنازع في أمهات الأولاد، فما زال الله يختار لي الآباء والأمهات في الجاهلية والإسلام حتى اختار لي في الأشرار، فأنا ابن أرفع الناس درجة في الجنة، وأهونهم عذاباً في النار، ولك الله علي إن دخلت في طاعتي وأجبت دعوتي أن أؤمنك على نفسك ومالك وعلى كل أمر أحدثته إلا حداً من حدود الله أو حقاً لمسلم أو معاهد، فقد علمت ما يلزمني من ذلك.
وأنا أولى بالأمر منك وأوفى بالعهد، لأنك أعطيتني من الأمان والعهد ما أعطيته رجالاً قبلي، فأي الأمانات تعطيني ؟ أمان ابن هبيرة أم أمان عمك عبد الله بن علي أم أمان أبي مسلم ؟ فلما ورد كتابه على المنصور قال له أبو أيوب المورياني: دعني أجبه عليه. قال: لا إذاً تقارعنا على الأحساب، فدعني وإياه. ثم كتب إليه المنصور: بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد فقد بلغني كلامك وقرأت كتابك، فإذا جل فخرك بقرابة النساء لتضل به الجفاة والغوغاء، ولم يجعل الله النساء كالعمومة والآباء، ولا كالعصبة والأولياء، ولأن الله جعل العم أباً، وبدأ به في كتابه على الوالدة الدنيا، ولو كان اختيار الله لهن على قدر قرابتهن كانت آمنة أقربهن رحماً، وأعظمهن حقاً، وأول من يدخل الجنة، ولكن اختيار الله لخلقه على علمه فيما مضى منهم واصطفائه لهم. وأما ما ذكرت من فاطمة أم أبي طالب وولادتها فإن الله لم يرزق أحداً من ولدها الإسلام لا بنتاً ولا ابناً، ولو أن رجلاً رزق الإسلام بالقرابة رزقه عبد الله ولكان أولاهم بكل خير في الدنيا والآخرة، ولكن الأمر لله يختار لدينه من يشاء، قال الله تعالى: " إنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يهدي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أعْلَمُ بِاْلمُهْتَدِينَ " القصص: 56. ولقد بعث الله محمدا، صلى الله عليه وسلم، وله عمومة أربعة، فأنزل الله، عز وجل: " وَأنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ " الشعراء: 214 فأنذرهم ودعاهم، فأجاب اثنان، أحدهما أبي، وأبي اثنان، أحدهما أبوك، فقطع الله ولايتهما منه ولم يجعل بينه وبينهما إلا ولا ذمة ولا ميراثاً. وزعمت أن ابن أخف أهل النار عذاباً وابن خير الأشرار، وليس في الكفر بالله صغير ولا في عذاب الله خفيف ولا يسير، وليس في الشر خيار، ولا ينبغي لمؤمن يؤمن بالله أن يفخر بالنار، وسترد فتعلم " وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا " الآية الشعراء: 227. وأما أمر حسن وأن عبد المطلب ولده مرتين وأن النبي، صلى الله عليه وسلم، ولدك مرتين، فخير الأولين والآخرين رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لم يلده إلا مرة، ولا عبد المطلب إلا مرة. وزعمت أنك أوسط بني هاشم وأصرحهم أماً وأباً، وأنه لم يلدك العجم ولم تعرف فيك أمهات الأولاد، فقد رأيتك فخرت على بني هاشم طراً، فانظر، ويحك، أين أنت من الله غداً ! فإنك قد تعديت طورك وفخرت على من هو خير منك نفساً وأباً وأولاداً وأخاً إبراهيم بن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وما خيار بني أبيك خاصة وأهل الفضل منهم إلا بنو أمهات الأولاد، ما ولد فيكم بعد وفاة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أفضل من علي بن الحسين، وهو لأم ولد، ولهو خير من جدك حسن بن حسين، وما كان فيكم بعده مثل محمد ابن علي، وجدته أم ولد، ولهو خير من أبيك، ولا مثل ابنه جعفر وجدته أم ولد، وهو خير منك. وأما قولك إنكم بنو رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فإن الله تعالى يقول في كتابه: " مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أبَا أحَدٍ مِنْ رِجَالِكُم " الأحزاب: 40 ولكنكم بنو بنته، وإنها لقرابة قريبة ولكنها لا يجوز لها الميراث ولا ترث الولاية، ولا يجوز لها الإمامة، فكيف تورث بها ؟ ولقد طلبها أبوك بكل وجه فأخرج فاطمة نهاراً ومرضها سراً ودفنها ليلاً، فأبى الناس إلا الشيخين، ولقد جاءت السنة التي لا اختلاف فيها من المسلمين أن الجد أبا الأم والخال والخالة لا يورثون. وأما ما فخرت به من علي وسابقته فقد حضرت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، الوفاة فأمر غيره بالصلاة ثم أخذ الناس رجلاً بعد رجل فلم يأخذوه، وكان في الستة فتركوه كلهم دفعاً له عنها ولم يروا له حقاً فيها.
وأما عبد الرحمن فقدم عليه عثمان وهو له متهم، وقاتله طلحة والزبير، وأبي سعد بيعته فأغلق بابه دونه، ثم بايع معاوية بعده، ثم طلبها بكل وجه وقاتل عليها وتفرق عنه أصحابه وشك فيه شيعته قبل الحكومة، ثم حكم حكمين رضي بهما وأعطاهما عهد الله وميثاقه فاجتمعا على خلعه، ثم كان حسن فباعها من معاوية بخرق ودراهم ولحق بالحجاز وأسلم شيعته بيد معاوية ودفع الأمر إلى غير أهله وأخذ مالاً من غير ولاية ولا حله، فإن كان لكم فيها شيء فقد بعتموه وأخذتم ثمنه، ثم خرج عمك حسين على ابن مرجانة فكان الناس معه عليه حتى قتلوه وأتوا برأسه إليه، ثم خرجتم على بني أمية فقتلوكم وصلبوكم على جذوع النخل وأحرقوكم بالنيران ونفوكم من البلدان حتى قتل يحيى بن زيد بخراسان وقتلوا رجالكم وأسروا الصبية والنساء وحملوهم بلا وطاءٍ في المحامل كالسبي المجلوب إلى الشام حتى خرجنا عليهم فطلبنا بثأركم وأدركنا بدمائكم وأورثناكم أرضهم وديارهم وسنينا سلفكم وفضلناه، فاتخذت ذلك عينا حجة وظننت أنا إنما ذكرنا أباك للتقدمة منا له على حمزة والعباس وجعفر، وليس ذلك كما ظننت، ولكن خرج هؤلاء من الدنيا سالمين متسلماً منهم مجتمعاً عليهم بالفضل، وابتلي أبوك بالقتال والحرب، وكانت بنو أمية تلعنه كما تلعن الكفرة في الصلاة المكتوبة، فاحتججنا له وذكرناهم فضله وعنفناهم وظلمناهم بما نالوا منه. فلقد علمت أن مكرمتنا في الجاهلية سقاية الحاج الأعظم وولاية زمزم، فصارت للعباس من بين إخوته، فنازعنا فيها أبوك فقضى لنا عليه عمر، فلم نزل نليها في الجاهلية والإسلام، ولقد قحط أهل المدينة فلم يتوسل عمر إلى ربه ولم يتقرب إليه إلا بأبينا حتى يغيثهم الله وسقاهم الغيث وأبوك حاضر لم يتوسل به، ولقد علمت أنه لم يبق أحد من بني عبد المطلب بعد النبي، صلى الله عليه وسلم، غيره فكانت وراثة من عمومته، ثم طلب هذا الأمر غير واحد من بني هاشم فلم ينله إلا ولده، فالسقاية سقايته، وميراث النبي له، والخلافة في ولده، فلم يبق شرف ولا فضل في جاهلية ولا إسلام في الدنيا والآخرة إلا والعباس وارثه مورثه. وأما ما ذكرت من بدر فإن الإسلام جاء والعباس يمون أبا طالب وعياله وينفق عليهم للأزمة التي أصابته، ولولا أن العباس أخرج إلى بدر كارهاً لمات طالب وعقيل جوعاً وللحسا جفان عتبة وشيبة، ولكنه كان من المطعمين فأذهب عنكم العار والسبة وكفاكم النفقة والمؤونة، ثم فدى عقيلاً يوم بدر، فكيف تفخر علينا وقد علناكم في الكفر وفديناكم وجزنا عليكم مكارم الآباء وورثنا دونكم خاتم الأنبياء وطلبنا بثأركم فأدركنا منه ما عجزتم عنه، ولم تدركوا لأنفسكم ! والسلام عليكم ورحمة الله. فكان محمد قد استعمل محمد بن الحسن بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب على مكة، والقاسم بن إسحاق على اليمن، وموسى بن عبد الله على الشام؛ فأما محمد بن الحسن والقاسم فسارا إلى مكة، فخرج إليهما السري ابن عبد الله عامل المنصور على مكة فلقيهما ببطن أذاخر فهزماه. ودخل محمد مكة وأقام بها يسيراً، فأتاه كتاب محمد بن عبد الله يأمره بالمسير إليه فيمن معه ويخبره بمسير عيسى بن موسى إليه ليحاربه، فسار إليه من مكة هو والقاسم، فبلغه بنواحي قديد قتل محمد، فهرب هو وأصحابه وتفرقوا، فلحق محمد بن الحسن بإبراهيم فأقام عنده حتى قتل إبراهيم واختفى القاسم بالمدينة حتى أخذت له ابنة عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن جعفر، امرأة عيسى، الأمان له ولإخوته معاوية وغيره. وأما موسى بن عبد الله فسار نحو الشام ومعه رزام مولى محمد بن خالد القسري، فانسل منه رزام وسار إلى المنصور برسالة من مولاه محمد القسري، فظهر محمد بن عبد الله على ذلك، فحبس محمداً القسري، ووصل موسى إلى الشام فرأى منهم سوء رد عليه وغلظة، فكتب إلى محمد: أخبرك أني لقيت الشام وأهله، فكان أحسنهم قولاً الذي قال: والله لقد مللنا البلاء وضقنا حتى ما فينا لهذا الأمر موضع ولا لنا به حاجة، ومنهم طائفة تحلف لئن أصبحنا من ليلتنا وأمسينا من غدٍ ليرفعن أمرنا، فكتبت إليك وقد غيبت وجهي وخفت على نفسي. ثم رجع إلى المدينة.
وقيل: أتى البصرة وأرسل صاحباً له يشتري له طعاماً، فاشتراه وجاء به على حمال أسود فأدخله الدار التي سكنها وخرج، فلم يكن بأسرع من أن كبست الدار وأخذ موسى وابنه عبد الله وغلامه، فأخذوا وحملوا إلى محمد ابن سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس، فلما رأى موسى قال: لا قرب الله قرابتكم ولا حيا وجوهكم ! تركت البلاد كلها إلا بلداً أنا فيه، فإن وصلت أرحامكم أغضبت أمير المؤمنين، وإن أطعته قطعت أرحامكم. ثم أرسلهم إلى المنصور، فأمر فضرب موسى وابنه كل واحد خمسمائة سوط، فلم يتأوهوا. فقال المنصور: أعذرت أهل الباطل في صبرهم، فما بال هؤلاء ؟ فقال موسى: أهل الحق أولى بالصبر. ثم أخرجهم وأمر بهم فسجنوا. خبيب بن ثابت بالخاء المعجمة المضمومة، وببائين موحدتين وبينهما ياء مثناة من تحتها. ذكر مسير عيسى بن موسى إلى محمد بن عبد الله وقتلهثم إن المنصور أحضر ابن أخيه عيسى بن موسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس وأمره بالمسير إلى المدينة لقتال محمد. فقال: شاور عمومتك يا أمير المؤمنين. ثم قال: فأين قول ابن هرثمة: نزور أمرأً لا يمحض القوم سرّه ... ولا ينتجي الأدنين عمّا يحاول إذا ما أتى شيئاً مضى كالذي أتى ... وإن قال إنّي فاعلٌ فهو فاعل فقال المنصور: امض أيها الرجل، فوالله ما يراد غيري وغيرك، وما هو إلا أن تشخص أنت أو أشخص أنا. فسار وسير معه الجنود. وقال المنصور لما سار عيسى: لا أبالي أيهما قتل صاحبه. وبعث معه محمد بن أبي العباس السفاح، وكثير بن حصين العبدي، وابن قحطبة، وهزارمرد وغيرهم، وقال له حين ودعه: يا عيسى إني أبعثك إلى ما بين هذين، وأشار إلى جنبيه، فإن ظفرت بالرجل فأعمد سيفك وابذل الأمان، وإن تغيب فضمنهم إياه فإنهم يعرفون مذابه، ومن لقيك من آل أبي طالب فاكتب إلي باسمه، ومن لم يلقك فاقبض ماله. وكان جعفر الصادق تغيب عنه فقبض ماله، فلما قدم المنصور المدينة قال له جعفر في معنى ماله، فقال: قبضه مهديكم. فلما وصل عيسى إلى فيد كتب إلى الناس في خرق حرير، منهم: عبد العزيز بن المطلب المخزومي، وعبيد الله بن محمد بن صفوان الجمحي، وكتب إلى عبد الله بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب يأمره بالخروج من المدينة فيمن أطاعه، فخرج هو وعمر بن محمد بن عمر، وأبو عقيل محمد بن عبد الله بن عقيل، وأبو عيسى. ولما بلغ محمداً قرب عيسى من المدينة استشار أصحابه في الخروج من المدينة أو المقام بها، فأشار بعضهم بالخروج عنها، وأشار بعضهم بالمقام بها لقول رسول الله، صلى الله عليه وسلم: رأيتني في درع حصينة فأولتها المدينة فأقام ثم استشارهم في حفر خندق رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقال له جابر بن أنس، رئيس سليم: يا أمير المؤمنين نحن أخوالك وجيرانك وفينا السلاح والكراع، فلا تخندق الخندق، فإن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، خندق خندقه لما الله أعلم به، وإن خندقته لم يحسن القتال رجالة ولم توجه لنا الخيل بين الأزقة، وإن الذين تخندق دونهم هم الذين يحول الخندق دونهم. فقال أحد بني شجاع: خندق، خندق رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فاقتد به، وتريد أنت أن تدع أثر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لرأيك ! قال: إنه والله يا بن شجاع ما شيء أثقل عليك وعلى أصحابك من لقائهم، وما شيء أحب من مناجزتهم. فقال محمد: إنما اتبعنا في الخندق أثر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فلا يردني أحد عنه فلست بتاركه. وأمر به فحفر، وبدأ هو فحفر بنفسه الخندق الذي حفره رسول الله، صلى الله عليه وسلم، للأحزاب. وسار عيسى حتى نزل الأعوص، وكان محمد قد جمع الناس وأخذ عليهم الميثاق وحصرهم فلا يخرجون، وخطبهم محمد بن عبد الله فقال لهم: إن عدو الله عدوكم قد نزل الأعوص، وإن أحق الناس بالقيام بهذا الأمر لأبناء المهاجرين والأنصار، ألا وإنا قد جمعناكم وأخذنا عليكم الميثاق، وعدوكم عدد كثير والنصر من الله والأمر بيده، وإنه قد بدا لي أن آذن لكم، فمن أحب منكم أن يقيم أقام، ومن أحب أن يظعن ظعن. فخرج عالم كثير، وخرج ناسٌ من أهل المدينة بذراريهم وأهليهم إلى الأعراض والجبال، وبقي محمد في شرذمة يسيرة، فأمر أبا القلمس برد من قدر عليه، فأعجزه كثير منهم، فتركهم.
وكان المنصور قد أرسل ابن الأصم مع عيسى ينزله المنازل، فلما قدموا نزلوا على ميل من المدينة، فقال ابن الأصم: إن الخيل لا عمل لها مع الرجالة، وإني أخاف إن كشفوكم كشفة أن يدخلوا عسكركم. فتأخروا إلى سقاية سليمان بن عبد الملك بالجرف، وهي على أربعة أميال من المدينة، وقال: لا يهرول الراجل أكثر من ميلين أو ثلاثة حتى تأخذه الخيل. وأرسل عيسى خمسمائة رجل إلى بطحاء ابن أزهر على ستة أميال من المدينة، فأقاموا بها، وقال: أخاف أن ينهزم محمد فيأتي مكة فيرده هؤلاء؛ فأقاموا بها حتى قتل. وأرسل عيسى إلى محمد يخبره أن المنصور قد آمنه وأهله، فأعاد الجواب: يا هذا إن لك برسول الله، صلى الله عليه وسلم، قرابة قريبة، وإني أدعوك إلى كتاب الله وسنة نبيه والعمل بطاعته، وأحذرك نقمته وعذابه، وإني والله ما أنا منصرف عن هذا الأمر حتى ألقى الله عليه، وإياك أن يقتلك من يدعوك إلى الله فتكون شر قتيل، أو تقتله فيكون أعظم لوزرك. فلما بلغته الرسالة قال عيسى: ليس بيننا وبينه إلا القتال. وقال محمد للرسول: علام تقتلونني وإنما رجل فر من أن يقتل ؟ قال: القوم يدعونك إلى الأمان، فإن أبيت إلا قتالهم قاتلوك على ما قاتل عليه خير آبائك عليٌ طلحة والزبير على نثك بيعتهم وكيد ملكه. فلما سمع المنصور قوله قال: ما سرني أنه قال غير ذلك. ونزل عيسى بالجرف لإثنتي عشرة من رمضان يوم السبت، فأقام السبت والأحد وغدا يوم الاثنين فوقف على سلع فنظر إلى المدينة ومن فيها فنادى: يا أهل المدينة إن الله حرم دماء بعضنا على بعض فهلموا إلى الأمان ! فمن قام تحت رايتنا فهو آمن، ومن دخل داره فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، ومن ألقى سلاحه فهو آمن، ومن خرج من المدينة فهو آمن، خلوا بيننا وبين صاحبنا فإما لنا وإما له ! فشتموه. وانصرف من يومه، وعاد من الغد وقد فرق القواد من سائر جهات المدينة وأخلى ناحية مسجد أبي الجراح، وهو على بطحان، فإنه أخلى تلك الناحية لخروج من ينهزم، وبرز محمد في أصحابه، وكانت رايته مع عثمان بن محمد بن خالد بن الزبير، وكان شعاره: أحد أحد. فبرز أبو القلمس، وهو من أصحاب محمد، فبرز إليه أخو أسد واقتتلوا طويلاً، فقتله أبو القلمس، وبرز إليه آخر فقتله، فقال حين ضربه: خذها وأنا ابن الفاروق. فقال رجل من أصحاب عيسى: قتلت خيراً من ألف فاروق. وقاتل محمد بن عبد الله يومئذ قتالاً عظيماً فقتل بيده سبعين رجلاً، وأمر عيسى حميد بن قحطبة فتقدم في مائة كلهم راجل سواه فزحفوا حتى بلغوا جداراً دون الخندق عليه ناس من أصحاب محمد، فهدم حميد الحائط وانتهى إلى الخندق ونصب عليه أبواباً وعبر هو وأصحابه عليها فجازوا الخندق وقاتلوا من ورائه أشد قتال من بكرة إلى العصر، وأمر عيسى أصحابه فألقوا الحقائب وغيرها في الخندق وجعل الأبواب عليها وجازت الخيل فاقتتلوا قتالاً شديداً، فانصرف محمد قبل الظهر فاغتسل وتحنط ثم رجع، فقال له عبد الله بن جعفر: بأبي أنت وأمي؛ والله ما لك بما ترى طاقة ! فلو أتيت الحسن ابن معاوية بمكة فإن جل أصحابك. فقال: لو خرجت لقتل أهل المدينة، والله لا أرجع حتى أقتل أو أقتل، وأنت مني في سعة فاذهب حيث شئت. فمشى معه قليلاً ثم رجع عنه، وتفرق عنه جل أصحابه حتى بقي في ثلاثمائة رجل يزيدون قليلاً، فقال لبعض أصحابه: نحن اليوم بعدة أهل بدر. وصلى محمد الظهر والعصر، وكان معه عيسى بن خضير وهو يناشده إلا ذهبت إلى البصرة أو غيرها، ومحمد يقول: والله لا تبتلون بي مرتين، ولكن اذهب أنت حيث شئت. فقال ابن خضير: واين المذهب عنك ؟ ثم مضى فأحرق الديوان الذي فيه أسماء من بايعه، وقتل رياح بن عثمان وأخاه عباس بن عثمان وقتل ابن مسلم بن عقبة المري ومضى إلى محمد بن القسري وهو محبوس ليقتله، فعلم به فردم الأبواب دونه، فلم يقدر عليه ورجع إلى محمد فقاتل بين يديه حتى قتل. وتقدم حميد بن قحطبة وتقدم محمد، فلما صار ينظر مسيل سلع عرقب فرسه وعرقب بنو شجاع الخميسيون دوابهم ولم يبق أحد إلا كسر جفن سيفه، فقال لهم محمد: قد بايعتموني ولست بارحاً حتى أقتل، فمن أحب أن ينصرف فقد أذنت له.
واشتد القتال فهزموا أصحاب عيسى مرتين وثلاثاً، وقال يزيد بن معاوية بن عباس بن جعفر: ويل امه فتحاً لو كان له رجال ! فصعد نفر من أصحاب عيسى على جبل سلع وانحدروا منه إلى المدينة، وأمرت أسماء بنت حسن بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس بخمار أسود فرفع على منارة محمد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقال أصحاب محمد: دخلت المدينة، فهربوا، فقال يزيد: لكل قوم جبل يعصمهم، ولنا جبل لا نؤتى إلا منه، يعني سلعاً. وفتح بنو أبو عمرو الغفاريون طريقاً في بني غفار لأصحاب عيسى ودخلوا منه أيضاً وجاؤوا من وراء أصحاب محمد، ونادى محمد حميد بن قحطبة: ابرز إلي فأنا محمد بن عبد الله. فقال حميد: قد عرفتك وأنت الشريف ابن الشريف الكريم ابن الكريم، لا والله لا أبرز إليك وبين يدي من هؤلاء الأغمار أحد، فإذا فرغت منهم فسأبرز إليك. وجعل حميد يدعو ابن خضير إلى الأمان ويشح به على الموت، وابن خضير يحمل على الناس راجلاً لا يصغي إلى أمانه وهو يأخذه بين يديه، فضربه رجل من أصحاب عيسى على أليته فخلها، فرجع إلى أصحابه فشدها بثوب ثم عاد إلى القتال، فضربه إنسان على عينه فغاص السيف وسقط، فابتدروه فقتلوه واحتزوا رأسه وكأنه باذنجانة مفلقة من كثرة الجراح فيه. فلما قتل تقدم محمد فقاتل على جيفته، فجعل يهذ الناس هذاً، وكان أشبه الناس بقتال حمزة. ولم يزل يقاتل حتى ضربه رجل دون شحمة أذنه اليمنى فبرك لركبته وجعل يذب عن نفسه ويقول: ويحكم ابن نبيكم مجرح مظلوم ! فطعنه ابن قحطبة في صدره فصرعه، ثم نزل إليه فاحتز رأسه وأتى به عيسى، وهو لا يعرف من كثرة الدماء. وقيل: إن عيسى اتهم بن قحطبة، وكان في الخيل، فقال له: ما أراك تبالغ. فقال له: أتتهمني ؟ فوالله لأضربن محمداً حين أراه بالسيف أو أقتل دونه. قال: فمر به وهو مقتول فضربه ليبر يمينه. وقيل: بل رمي بسهم وهو يقاتل فوقف إلى جدار فتحاماه الناس، فلما وجد الموت تحامل على سيفه فكسره، وهو ذو الفقار سيف علي، وقيل: بل أعطاه رجلاً من التجار كان معه وله عليه أربعمائة دينار وقال: خذه فإنك لا تلقى أحداً من آل أبي طالب إلا أخذه وأعطاك حقك؛ فلم يزل عنده حتى ولي جعفر بن سليمان المدينة فأخبر به، فأخذ السيف منه وأعطاه أربعمائة دينار ولم يزل معه حتى أخذه منه المهدي، ثم صار إلى الهادي، فجربه على كلب فانقطع السيف، وقيل: بل بقي إلى أيام الرشيد، وكان يتقلده وكان به ثماني عشرة فقارة. ولما أتي عيسى برأس محمد قال لأصحابه: ما تقولون فيه ؟ فوقعوا فيه، فقال بعضهم: كذبتم، ما لهذا قاتلناه، ولكنه خالف أمير المؤمنين وشق عصا المسلمين وإن كان لصواماً قواماً ! فسكتوا. فأرسل عيسى الرأس إلى المنصور مع محمد بن أبي الكرام بن عبد الله بن علي بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، وبالبشارة مع القاسم بن الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب، فأرسل مع رؤوس بني شجاع، فأمر المنصور فطيف برأس محمد في الكوفة وسيره إلى الآفاق؛ ولما رأى المنصور رؤوس بني شجاع قال: هكذا فليكن الناس، طلبت محمداً فاشتمل عليه هؤلاء ثم نقلوه وانتقلوا معه، ثم قاتلوا معه حتى قتلوا. وكان قتل محمد وأصحابه يوم الاثنينبعد العصر لأربع عشرة خلت من شهر رمضان. وكان المنصور قد بلغه أن عيسى قد هزم فقال: كلا، أين لعب أصحابنا وصبياننا بها على المنابر ومشورة النساء ؟ ما أنى لذلك بعد ! ثم بلغه أن محمداً هرب فقال: كلا، إنا أهل بيت لا نفر. فجاءته بعد ذلك الرؤوس. ولما وصل رأس محمد إلى المنصور كان الحسن بن زيد بن الحسن بن علي عنده، فلما رأى الرأس عظيم عليه فتجلد خوفاً من المنصور، وقال لنقيب المنصور: أهو ؟ قال: هو فلذهم، وقال: لوددت أنا الركانة إلى طاعته وأنه لم يكن فعل ولا قال وإلا فأم موسى طالق، وكانت غاية أيمانه، ولكنه أراد قتله، وكانت نفسه أكرم علينا من نفسه، فبصق بعض الغلمان في وجهه، فأمر المنصور بأنفه فكسر عقوبة له. ولما ورد الخبر بقتل محمد على أخيه إبراهيم بالبصرة كان يوم العيد، فخرج فصلى بالناس ونعاه على المنبر وأظهر الجزع عليه، وتمثل على المنبر: يا با المنازل يا خير الفوارس من ... يفجع بمثلك في الدنيا فقد فجعا الله يعلم أنّي لو خشيتهم ... وأوجس القلب من خوف لهم فزعا
لم يقتلوه ولم أسلم أخي أبداً ... حتّى نموت جميعاً أو نعيش معا ولما قتل محمد أرسل عيسى ألويةً فنصبت في مواضع بالمدينة ونادى مناديه: من دخل تحت لواء منها فهو آمن. وأخذ أصحاب محمد فصلبهم ما بين ثنية الوداع إلى دار عمر بن عبد العزيز صفين ووكل بخشبة ابن خضير من يحفظها، فاحتمله قومٌ من ا | |
|
| |
الشيخ عودة الشيخ عودة
عدد المساهمات : 1748 تاريخ التسجيل : 28/09/2008 العمر : 74
| موضوع: رد: كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير الثلاثاء فبراير 11, 2014 4:06 am | |
| واجتمع عليه أصحابه وخاصته يحمونه ويقاتلون دونه، فقال حميد بن قحطبة لأصحابه: شدوا على تلك الجماعة حتى تزيلوهم عن موضعهم وتعلموا ما اجتمعوا عليه؛ فشدوا عليهم فقاتلوهم أشد قتال حتى أفرجوهم عن إبراهيم ووصلوا إليه وحزوا رأسه فأتوا به عيسى، فأراه ابن أبي الكزام الجعفري فقال: نعم هذا رأسه. فنزل عيسى إلى الأرض فسجد وبعث برأسه إلى المنصور. وكان قتله يوم الأثنين لخمس ليالٍ بقين من ذي القعدة سنة خمس وأربعين ومائة، وكان عمره ثمانياً وأربعين سنة، ومكث منذ خرج إلى أن قتل ثلاثة أشهر إلا خمسة أيام. وقيل: كان سبب انهزام أصحابه أنهم لما هزموا أصحاب المنصور وتبعوهم ونادى منادي إبراهيم: ألا لا تتبعوا مدبراً ! فرجعوا، فلما رآهم أصحاب المنصور راجعين ظنوهم منهزمين فعطفوا في آثارهم، وكانت الهزيمة. وبلغ المنصور الخبر بهزيمة أصحابه أولاً فعزم على إتيان الري، فأتاه نوبخت المنجم وقال: يا أمير المؤمنين الظفر لك وسيقتل إبراهيم ! فلم يقبل منه. فبينما هو كذلك إذ جاءه الخبر بقتل إبراهيم، فتمثل: فألقت عصاها واستقرّ بها النّوى ... كما قرّ عيناً بالإياب المسافر فأقطع المنصور نوبخت ألفي جريب بنهر حويزة. وحمل رأس إبراهيم إلى المنصور فوضع بين يديه، فلما رآه بكى حتى خرجت دموعه على خد إبراهيم ثم قال: أما والله إني كنت لهذا كارهاً ! ولكنك ابتليت بي وابتليت بك ! ثم جلس مجلساً عاماً وأذن للناس. فكان الداخل يدخل فيتناول إبراهيم ويسيء القول فيه ويذكر فيه القبيح التماساً لرضاء المنصور، والمنصور ممسك متغير لونه، حتى دخل جعفر بن حنظلة الدارمي فوقف فسلم ثم قال: أعظم الله أجرك يا أمير المؤمنين في ابن عمك، وغفر له ما فرط فيه من حقك ! فأسفر لون المنصور وأقبل عليه وقال: يا أبا خالد مرحباً ها هنا ! فعلم الناس أن ذلك يرضيه، فقاتلوا مثل قوله. وقيل: لما وضع الرأس بصق في وجهه رجل من الحرس، فأمر به المنصور فضرب بالعمد فهشمت أنفه ووجهه، وضرب حتى خمد، وأمر به فجروا رجله فألقوه خارج الباب. وقي: ونظر المنصور إلى سفيان بن معاوية بعد مدة راكباً فقال: لله العجب كيف يفلتني ابن الفاعلة ! انقضى أمر إبراهيم رضي الله عنه. ذكر عدة حوادثوفيها خرجت الترك والخزر بباب الأبواب فقتلوا من المسلمين بأرمينية جماعة كثيرة. وحج بالناس هذه السنة السري بن عبد الله بن الحارث بن العباس، وكان على مكة، وكان على المدينة عبد الله بن الربيع، وعلى الكوفة عيسى بن موسى، وعلى البصرة سلم بن قتيبة الباهلي، وعلى قضائها عباد بن منصور، وعلى مصر يزيد بن حاتم. وفيها عزل المنصور مالك بن الهيثم عن الموصل بابنه جعفر بن أبي جعفر المنصور وسير معه حرب بن عبد الله، وهو من أكابر قواده، وهو صاحب الحربية ببغداد، وبنى بأسفل الموصل قصراً وسكنه، فهو يعرف إلى اليوم بقصر حرب، وفيه ولدت زبيدة بنت جعفر زوجة الرشيد، وعنده يومنا هذا قرية كانت ملكاً لنا فبنينا فيها رباطاً للصوفية وقفنا القرية عليه، قد جمعت كثيراً من هذا الكتاب في هذه القرية في دار لنا بها، وهي من أنزه المواضع وأحسنها، وأثر القصر باقٍ بها إلى الآن. سبحان من لا يزول ولا تغيره الدهور. وفيها مات عمرو بن ميمون بن مهران. والحسن بن الحسن بن علي ابن أبي طالب، وكان موته في حبس المنصور، لأنه أخذه من المدينة، كما ذكرناه، وهو عم محمد وإبراهيم. وفيها مات عبد الملك بن أبي سليمان العرزمي، ويحيى بن الحارث الذماري، وله سبعون سنة. وإسماعيل بن أبي خالد البجلي، وحبيب بن الشهيد مولى الأزد، وكنيته أبو شهيد. ثم دخلت سنة ست وأربعين ومائة ذكر انتقال المنصور إلى بغداد وكيفية بنائها وفيها، في صفر، تحول المنصور من مدينة ابن هبيرة إلى بغداد وبنى مدينتها، وقد ذكرنا في سنة خمس وأربعين ومائة السبب الباعث للمنصور على بناء مدينة بغداد، ونذكر الآن بناءها.
ولما عزم المنصور على بناء بغداد شاور أصحابه، وكان فيهم خالد بن برمك، فأشار أيضاً بذلك، وهو خطها، فاستشاره في نقض المدائن وإيوان كسرى ونقل نقضها إلى بغداد، فقال: لا أرى ذلك، لأنه علم من أعلام الإسلام يستدل به الناظر على أنه لم يكن ليزال مثل أصحابه عنه بأمر الدنيا، وإنما هو على أمر دين، ومع هذا ففيه مصلى علي بن أبي طالب. قال المنصور: لا، أبيت يا خالد إلا الميل إلى أصحابك العجم ! وأمر بنقض القصر الأبيض، فنقضت ناحية منه وحمل نقضه، فنظر، فكان مقدار ما يلزمهم له أكثر من ثمن الحديد. فدعا خالد بن برمك فأعلمه ذلك، فقال: يا أمير المؤمنين قد كنت أرى أن لا تفعل، فأما إذ فعلت فإني أرى أن تهدم لئلا يقال إنك عجزت عن هدم ما بناه غيرك. فأعرض عنه وترك هدمه. ونقل أبواب مدينة واسط فجعلها على بغداد، وباباً جيء به من الشام، وباباً آخر جيء به من الكوفة كان عمله خالد بن عبد الله القسري؛ وجعل المدينة مدورةً لئلا يكون بعض الناس أقرب إلى السلطان من بعض، وعمل لها سورين، السور الداخل أعلى من الخارج، وبنى قصره في وسطها، والمسجد الجامع بجانب القصر، وكان الحجاج بن أرطأة هو الذي خط المسجد وقبلته غير مستقيمة يحتاج المصلي أن ينحرف إلى باب البصرة لأنه وضع بعد القصر، وكان القصر غير مستقيم على القبلة. وكان اللبن الذي يبنى به ذراعاً في ذراع، ووزن بعضها لما نقض، وكان وزن لبنة منه مائة رطل وستة عشر رطلاً، وكانت مقاصير جماعة من قواد المنصور وكتابه تشرع أبوابها إلى رحبة الجامع، فطلب إليه عمه عيسى ابن علي أن يأذن له في الركوب من باب الرحبة إلى القصر لضعفه، فلم يأذن له، قال: فاحسبني راوية، فأمر الناس بإخراج أبوابهم من الرحبة إلى فصلان الطاقات. وكانت الأسواق في المدينة، فجاء رسول الله لملك الروم، فأمر الربيع فطاف به في المدينة، فقال: كيف رأيت ؟ قال: رأيت بناء حسناً إلا أني رأيت أعداءك معك وهم السوقة. فلما عاد الرسول عنه أمر بإخراجهم إلى ناحية الكرخ. وقيل: إنما أخرجهم لأن الغرباء يطرقونها ويبيتون فيها وربما كان فيهم الجاسوس. وقيل: إن المنصور كان يتبع من خرج مع إبراهيم بن عبد الله، وكان أبو زكرياء يحيى بن عبد الله، محتسب بغداد، له مع إبراهيم ميل، فجمع جماعةً من السفلة فشغبوا على المنصور، فسكنهم وأخذ أبا زكرياء فقتله وأخرج الأسواق، فكلم في بقال، فأمر أن يجعل في كل ربع بقال يبيع البقل والخل حسب. وجعل الطريق أربعين ذراعاً. وكان مقدار النفقة على بنائها وبناء المسجد والقصر والأسواق والفصلان والخنادق وأبوابها أربعة آلاف ألف وثمانمائة وثلاثة درهماً. وكان الأستاذ من البنائين يعمل يومه بقيراط فضة، والروزكاري بحبتين، وحاسب القواد عند الفراغ منها فألزم كلاً منهم بما بقي عنده فأخذه، حتى إن خالد بن الصلت بقي عليه خمسة عشر درهماً فحبسه وأخذها منه. ذكر خروج العلاء بالأندلسوفيها سار العلاء بن مغيث اليحصبي من إفريقية إلى مدينة بناحية من الأندلس ولبس السواد وقام بالدولة العباسية وخطب للمنصور، واجتمع إليه خلقٌ كثير، فخرج إليه الأمير عبد الرحمن الأموي، فالتقيا بنواحي إشبيلية، ثم تحاربا أياماً، فانهزم العلاء وأصحابه، وقتل منهم في المعركة سبعة آلاف، وقتل العلاء، وأمر بعض التجار بحمل رأسه ورؤوس جماعة من مشاهير أصحابه إلى القيروان وإلقائها بالسوق سراً، ففعل ذلك، ثم حمل منها شيء إلى مكة، فوصلت وكان بها المنصور، وكان مع الرؤوس لواء أسود وكتاب كتبه المنصور للعلاء. ذكر عدة حوادثفي هذه السنة عزل سلم بن قتيبة عن البصرة. وكان سبب عزله أن المنصور كتب إليه يأمره بهدم دور من خرج مع إبراهيم وبعقر نخلهم؛ فكتب سلم: بأي ذلك أبدأ، بالدور أم بالنخل ؟ فأنكر المنصور ذلك عليه وعزله واستعمل محمد بن سليمان، فعاث بالبصرة وهدم دار أبي مروان، ودار عون بن مالك، ودار عبد الواحد بن زياد وغيرهم. وغزا الصائفة هذه السنة جعفر بن حنظلة البهراني. وفيها عزل عن المدينة عبد الله بن الربيع الحارثي، وولي مكانه جعفر بن سليمان، فقدمها في ربيع الأول. وفيها عزل عن مكة السري بن عبد الله ووليها عبد الصمد بن علي. وحج بالناس هذه السنة عبد الوهاب بن إبراهيم الإمام.
وفيها مات هشام بن عروة بن الزبير، وقيل سنة سبع وأربعين في شعبان. وعوف الأعرابي. وطلحة بن يحيى بن طلحة بن عبيد الله التميمي الكوفي. وفيها غزا مالك بن عبد الله الخثعمي، الذي يقال له مالك الصوائف، وهو من أهل فلسطين، بلاد الروم فغنم غنائم كثيرة ثم قفل، فلما كان من درب الحدث على خمسة عشر ميلاً بموضع يدعى الرهوة نزل بها ثلاثاً وباع الغنائم وقسم سهام الغنيمة، فسميت تلك الرهوة رهوة مالك. وفيها توفي ابن السائب الكلبي النسابة. ثم دخلت سنة سبع وأربعين ومائة ذكر قتل حرب بن عبد الله فيها أغار أسترخان الخوارزمي في جمع من الترك على المسلمين بناحية أرمينية وسبى من المسلمين وأهل الذمة خلقاً ودخلوا تفليس، وكان حرب مقيماً بالموصل في ألفين من الجند لمكان الخوارج الذين بالجزية، وسير المنصور إلى محاربة الترك جبرائيل بن يحيى وحرب بن عبد الله، فقاتلوهم، فهزم جبرائيل وقتل حرب، وقتل من أصحاب جبرائيل خلقٌ كثير. ذكر البيعة للمهدي وخلع عيسى بن موسىوفيها خلع عيسى بن موسى بن محمد بن علي من ولاية العهد وبويع للمهدي محمد بن المنصور. وقد اختلف في السبب الذي خلع لأجله نفسه، فقيل: إن عيسى لم يزل على ولاية العهد وإمارة الكوفة ومن أيام السفاح إلى الآن، فلما كبر المهدي وعزم المنصور على البيعة له كلم عيسى بن موسى في ذلك، وكان يكرمه ويجلسه عن يمينه ويجلس المهدي عن يساره، فلما قال له المنصور في معنى خلع نفسه وتقديم المهدي عليه أبى وقال: يا أمير المؤمنين كيف بالأيمان علي وعلى المسلمين من العتق والطلاق وغير ذلك ؟ ليس إلى الخلع سبيل ! فتغير المنصور عليه وباعده بعض المباعدة وصار يأذن للمهدي قبله، وكان يجلس عن يمينه في مجلس عيسى ثم يؤذن لعيسى فيدخل فيجلس إلى جانب المهدي، ولم يجلس عن يسار المنصور، فاغتاظ منه ثم صار يأذن للمهدي ولعمه عيسى بن علي، ثم لعبد الصمد بن علي، ثم لعيسى بن موسى، وربما قدم وأخر، إلا أنه يبدأ بالإذن للمهدي على كل حال. وتوهم عيسى أنه يقدم إذنهم لحاجةٍ له إليهم، وعيسى صامت لا يشكو، ثم صار حال عيسى إلى أعظم من ذلك، فكان يكون في المجلس معه بعض ولده فيسمع الحفر في أصل الحائط وينثر عليه التراب وينظر إلى الخشبة من السقف قد حفر عن أحد طرفيها لتقلع فيسقط التراب على قلنسوته وثيابه فيأمر من معه من ولده بالتحول ويقوم هو يصلي ثم يؤذن له فيدخل بهيئته والتراب على رأسه وثيابه لا ينفضه، فيقول له المنصور: يا عيسى ما يدخل علي أحد بمثل هيئتك من كثرة الغبار والتراب ! أفكل هذا من الشارع ؟ فيقول: أحسب ذلك يا أمير المؤمنين، ولا يشكو شيئاً. وكان المنصور يرسل إليه عمه عيسى بن علي في ذلك، فكان عيسى بن موسى لا يؤثره ويتهمه. فقيل: إن المنصور أمر أن يسقى عيسى بن موسى بعض ما يتلفه فوجد الماء في بطنه فاستأذن في العود إلى بيته بالكوفة، فأذن له، فمرض من ذلك واشتد مرضه ثم عوفي بعد أن أشفى. وقال عيسى بن علي للمنصور: إن ابن موسى إنما يتربص بالخلافة لابنه موسى فابنه الذي يمنعه، فقال له: خوفه وتهدده، فكلمه عيسى بن علي في ذلك وخوفه، فخاف موسى بن عيسى وأتى العباس بن محمد فقال: يا عم إني أرى ما يسام أبي من إخراج هذا الأمر عن عنقه وهو يؤذى بصنوف الأذى والمكروه، فهو يهدد مرة، ويؤخر إذن مرة، ويهدم عليه الحيطان مرة، وتدس إليه الحتوف مرة، وأبي لا يعطي على ذلك شيئاً ولا يكون ذلك أبداً، ولكن ها هنا طريق لعله يعطي عليها وإلا فلا، قال: وما هو ؟ قال: يقبل عليه أمير المؤمنين وأنا شاهد فيقول له: إني أعلم أنك لا تبخل بهذا الأمر عن المهدي لنفسك لكبر سنك وأنه لا تطول مدتك فيه، وإنما تبخل به لإبنك، أفتراني أدع ابنك يبقى بعدك حتى يلي على ابني ؟ كلا والله لا يكون ذلك أبداً، ولأثبن على ابنك تنظر حتى تيأس منه. فإن فعل ذلك فلعله أن يجيب إلى ما يراد منه.
فجاء العباس إلى المنصور وأخبره بذلك، فلما اجتمعوا عنده قال ذلك، وكان عيسى بن علي حاضراً، فقام ليبول، فأمر عيسى بن موسى ابنه موسى ليقوم معه يجمع عليه ثيابه، فقام معه، فقال له عيسى بن علي: بأبي أنت وبأبي أبٌ ولدك ! والله إني لأعلم أنه لا خير في هذا الأمر بعدكما، وإنكما لأحق به، ولكن المرء مغرىً بما تعجل، فقال موسى في نفسه: امكنني هذا والله من مقاتله وهو الذي يغري بأبي، والله لأقتلنه ! فلما رجعا قال موسى لأبيه ذلك سراً، فاستأذنه في أن يقول للمنصور ما سمع منه، فقال له أبوه: أف لهذا رأياً ومذهباً ! ائتمنك عمك على مقالة أراد أن يسرك بها فجعلتها سبباً لمكروهه، لا يسمعن هذا أحد، ارجع إلى مكانك. فلما رجع إلى مكانه أمر المنصور الربيع فقام إلى موسى فخنقه بحمائله، وموسى يصيح: الله الله في دمي يا أمير المؤمنين ! وما يبالي عيسى أن تقتلني وله بضعة عشر ذكراً، والمنصور يقول: يا ربيع أزهق نفسه، والربيع يوهم أنه يريد تلفه وهو يرفق به وموسى يصيح. فلما رأى ذلك أبوه قال: والله يا أمير المؤمنين ما كنت أظن أن الأمر يبلغ منك هذا كله ! فاكفف عنه، فها أنا ذا أشهدك أن نسائي طوالق ومماليكي أحرار وما أملك في سبيل الله تصرف ذلك في من رأيت يا أمير المؤمنين ! وهذه يدي بالبيعة للمهدي. فبايعه للمهدي. ثم جعل عيسى بن موسى بعد المهدي. فقال بعض أهل الكوفة: هذا الذي كان غداً فصار بعد غد. وقيل: إن المنصور وضع الجند وكانوا يسمعون عيسى بن موسى ما يكره، فشكا ذلك من فعلهم، فنهاهم المنصور عنه، وكانوا يكفون ثم يعودون، ثم إنهما تكاتبا مكاتبات أغضبت المنصور، وعاد الجند معه لأشد ما كانوا، منهم: أسد بن المرزبان، وعقبة بن سلم، ونصر بن حرب بن عبد الله، وغيرهم، فكانوا يمنعون من الدخول عليه ويسمعونه، فشكاهم إلى المنصور، فقال له: يا بن أخي أنا والله أخافهم عليك وعلى نفسي، فإنهم يحبون هذا الفتى، فلو قدمته بين يديك لكفوا. فأجاب عيسى إلى ذلك. وقيل: إن المنصور استشار خالد بن برمك في ذلك وبعثه إلى عيسى، فأخذ معه ثلاثين من كبار شيعة المنصور ممن يختارهم وقال لعيسى في أمر البيعة، فامتنع، فرجعوا إلى المنصور وشهدوا على عيسى أنه خلع نفسه فبايع للمهدي، وجاء عيسى فأنكر ذلك فلم يسمع منه، وشكر لخالد صنيعه. وقيل: بل اشترى المنصور منه ذلك بمال قدره أحد عشر ألف ألف درهم له ولأولاده وأشهد على نفسه بالخلع. وكانت مدة ولاية عيسى بن موسى الكوفة ثلاث عشرة سنةً، وعزله المنصور واستعمل محمد بن سليمان بن علي عليها ليؤذي عيسى ويستخف به، فلم يفعل ولم يزل معظماً له مبجلاً. ذكر موت عبد الله بن عليوكان المنصور قد أحضر عيسى بن موسى بعد أن خلع نفسه وسلم إليه عمه عبد الله بن علي وأمره بقتله، وقال له: إن الخلافة صائرةٌ إليك بعد المهدي فاضرب عنقه، وإياك أن تضعف فتنقض علي أمري الذي دبرته؛ ثم مضى إلى مكة وكتب إلى عيسى من الطريق يستعلم منه ما فعل في الأمر الذي أمره، فكتب عيسى في الجواب: قد أنفذت ما أمرت به؛ فلم يشك أنه قتله. وكان عيسى حين أخذ عبد الله من عند المنصور دعا كاتبه يونس بن فروة وأخبره الخبر، فقال: أراد أن تقتله ثم يقتله لأنه أمر بقتله سراً ثم يدعيه عليك علانيةً، فلا تقتله ولا تدفعه إليه سراً أبداً واكتم أمره. ففعل ذلك عيسى. فلما قدم المنصور وضع على أعمامه من يحركهم على الشفاعة في أخيهم عبد الله، ففعلوا وشفعوا، فشفعهم وقال لعيسى: إني كنت دفعت إليك عمي وعمك عبد الله ليكون في منزلك، وقد كلمني عمومتك فيه، وقد صفحت عنه فأتنا به.
قال: يا أمير المؤمنين أل تأمرني بقتله ؟ فقتلته ! قال: ما أمرتك ! قال: بلى أمرتني. قال: ما أمرتك إلا بحبسه وقد كذبت ! ثم قال المنصور لعمومته: إن هذا قد أقر لكم بقتل أخيكم، قالوا: فادفعه إلينا نقيده به. فسلمه إليهم، وخرجوا به إلى الرحبة، واجتمع الناس وشهر الأمر، وقام أحدهم ليقتله، فقال له عيسى: أفاعل أنت ؟ قال: إي والله ! قال: ردوني إلى أمير المؤمنين. فردوه إليه. فقال له: إنما أردت بقتله أن تقتلني. هذا عك حي سوي. قال: ائتنا به. فأتاه به. قال: يدخل حتى أرى رأيي؛ ثم انصرفوا، ثم أمر به فجعل في بيت أساسه ملح وأجرى الماء في أساسه فسقط عليه، فمات فدفن في مقابر باب الشام، فكان أول من دفن فيها؛ وكان عمره اثنتين وخمسين سنة. قيل: ركب المنصور يوماً ومعه ابن عياش المنتوف، فقال له المنصور: تعرف ثلاثة خلفاء أسماؤهم على العين قتلت ثلاثة خوارج مبدأ أسمائهم على العين ؟ قال: لا أعرف إلا ما يقول العامة: إن علياً قتل عثمان، وكذبوا؛ وعبد الملك قتل عبد الرحمن بن الأشعث؛ وعبد الله بن الزبير قتل عمرو ابن سعيد؛ وعبد الله بن علي سقط عليه البيت. فقال المنصور: إذا سقط عليه فما ذنبي أنا ؟ قال: ما قلت إن لك ذنباً. قوله: ابن الزبير قتل عمرو بن سعيد ليس بصحيح، إنما قتله عبد الملك. عياش بالياء المثناة من تحت، والشين المعجمة. ذكر عدة حوادثفي هذه السنة ولى المنصور محمداً ابن أخيه أبي العباس السفاح، البصرة، فاستعفى منها، فأعفاه، فانصرف إلى بغداد واستخلف بها نخبة بن سالم، فأقره المنصور عليها، فلما رجع إلى بغداد مات بها. وحج بالناس هذه السنة المنصور، وكان عامله على مكة والطائف عمه عبد الصمد بن علي، وعلى المدينة جعفر بن سليمان، وعلى مصر يزيد بن حاتم المهلبي. وفيها أغزى عبد الرحمن الأموي صاحب الأندلس مولاه بدراً، وتمام ابن علقمة طليطلة، وبها هاشم بن عذرة، وضيقا عليه، ثم أسراه هو وحياة ابن الوليد اليحصبي وعثمان بن حمزة بن عبيد الله بن عمر بن الخطاب، وأتيا بهم إلى عبد الرحمن في جباب صوف وقد حلقت رؤوسهم ولحاهم وقد أركبوا الحير وهم في السلاسل، ثم صلبوا بقرطبة. وفيها قدم رسول عبد الرحمن الذي أرسله إلى الشام في إحضار ولده الأكبر سليمان فحضر وسليمان معه، وكان قد ولد لعبد الرحمن بالأندلس ولد هشام، فقدمه الأمير عبد الرحمن على سليمان، فحصل بينهما حقدٌ وغل أوجبا ما نذكره فيما بعد. وفيها تناثرت النجوم. وفيها مات أشعث بن عبد الملك الحمراني البصري. وهشام بن حسان مولى لعتيك، وقيل: مات سنة ثمان وأربعين. وعبد الرحمن بن زبيد بن الحارث اليامي أبو الأشعث الكوفي. ثم دخلت سنة ثمان وأربعين ومائة ذكر خروج حسان بن مجالد وفيها خرج حسان بن مجالد بن يحيى بن مالك بن الأجدع الهمداني. ومالك هذا هو أخو مسروق بن الأجدع. وكان خروجه بنواحي الموصل بقرية تسمى بافخارى قريب من الموصل على دجلة، فخرج إليه عسكر الموصل، وعليها الصقر بن نجدة، وكان قد وليها بعد حرب بن عبد الله، فالتقوا واقتتلوا وانهزم عسكر الموصل على الجسر، وأحرق الخوارج أصحاب حسان السوق هناك ونهبوه. ثم إن حسان سار إلى الرقة ومنها إلى البحر ودخل إلى بلد السند، وكانت الخوارج من أهل عمان يدخلونهم ويدعونهم، فاستأذنهم في المصير إليهم، فلم يجيبوه، فعاد إلى الموصل، فخرج إليه الصقر أيضاً والحسن بن صالح بن حسان الهمداني وبلال القيسي، فالتقوا فانهزم الصقر وأسر الحسن بن صالح وبلال، فقتل حسان بلالاً واستبقى الحسن لأنه من همدان، ففارقه بعض أصحابه لهذا. وكان حسان قد أخذ رأي الخوارج عن خاله حفص بن أشيم، وكان من علماء الخوارج وفقهائهم.
ولما بلغ المنصور خروج حسان قال: خارجي من همدان ؟ قالوا: إنه ابن أخت حفص بن أشيم. فقال: فمن هناك ؟ وإنما انكر المنصور ذلك لأن عامة همدان شيعة لعلي، وعزم المنصور على إنفاذ الجيوش إلى الموصل والفتك بأهلها، فأحضر أبا حنيفة، وابن أبي ليلى، وابن شبرمة، وقال لهم: إن أهل الموصل شرطوا إلي أنهم لا يخرجون علي، فإن فعلوا حلت دماؤهم وأموالهم، وقد خرجوا. فسكت أبو حنيفة وتكلم الرجلان وقالا: رعيتك، فإن عفوت فأهل ذلك أنت، وإن عاقبت فبما يستحقون. فقال لأبي حنيفة: أراك سكت يا شيخ ؟ فقال: يا أمير المؤمنين أباحوك ما لا يملكون أرأيت لو أن امرأة أباحت فرجها بغير عقد نكاح وملك يمين أكان يجوز أن توطأ ؟ قال: لا ! وكف عن أهل الموصل وأمر أبا حنيفة وصاحبيه بالعود إلى الكوفة. ذكر استعمال خالد بن برمكوفيها استعمل المنصور على الموصل خالد بن برمك وسبب ذلك أنه بلغه انتشار الأكراد بولايتها وإفسادهم، فقال: من لها ؟ فقالوا: المسيب بن زهير، فأشار عمارة بن غمرة بخالد بن برمك، فولاه وسيره إليها وأحسن الناس وقهر المفسدين وكفهم، وهابه أهل البلد هيبةً شديدة مع إحسانه إليهم. وفيها ولد الفضل بن يحيى بن خالد بن برمك لسبع بقين من ذي الحجة قبل أن يولد الرشيد بن المهدي بسبعة أيام، فأرضعته الخيزران أم الرشيد بلبن ابنها، فكان الفضل بن يحيى أخا الرشيد من الرضاعة؛ ولذلك يقول سلم الخاسر: أصبح الفضل والخليفة هارو ... ن رضيعي لبان خير النساء وقال أبو الجنوب: كفى لك فضلاً أنّ أفضل خرّةٍ ... غذتك بثديٍ والخليفة واحد ذكر ولاية الأغلب بن سالم إفريقيةلما بلغ المنصور خروج محمد بن الأشعث من إفريقية بعث إلى الأغلب ابن سالم بن عقال بن خفاجة التميمي عهداً بولاية إفريقية. وكان هذا الأغلب ممن قام مع أبي مسلم الخراساني وقدم إفريقية مع محمد بن الأشعث؛ فلما أتاه العهد القيروان في جمادى الآخرة سنة ثمانٍ وأربعين ومائة وأخرج جماعةً من قواد المضرية وسكن الناس. وخرج عليه أبو قرة في جمعٍ كثير من البربر، فسار إليه الأغلب، فهرب أبو قرة من غير قتال، وسار الأغلب يريد طنجة، فاشتد ذلك على الجند وكرهوا المسير وتسللوا عنه إلى القيروان، فلم يبق معه إلا نفر يسي. وكان الحسن بن حرب الكندي بمدينة تونس، وكاتب الجند ودعاهم إلى نفسه، فأجابوه، فسار حتى دخل القيروان من غير مانع. وبلغ الأغلب الخبر فعاد مجداً، فقال له بعض أصحابه: ليس من الرأي أن تعدل إلى لقاء العدو في هذه العدة القليلة، ولكن الرأي أن تعدل إلى قابس، فإن أكثر من معه يجيء إليك لأنهم كرهوا المسير إلى طنجة لا غير وتقوى بهم وتقاتل عدوك. ففعل ذلك وكثر جمعه وسار إلى الحسن بن حرب فاقتتلوا قتالاً شديداً، فانهزم الحسن وقتل من أصحابه جمع كثير، ومضى الحسن إلى تونس في جمادى الآخرة سنة خمسين ومائة، ودخل الأغلب القيروان. وحشد الحسن وجمع فصار في عدة عظيمة، فقصد الأغلب، فخرج إليه الأغلب من القيروان، فالتقوا واقتتلوا، فأصاب الأغلب سهمٌ فقتله، وثبت أصحابه، فتقدم عليهم المخارق بن غفار، فحمل المخارق على الحسن، وكان في ميمنة الأغلب، فهزمه، فمضى منهزماً إلى تونس في شعبان سنة خمسين ومائة، وولي المخارق إفريقية في رمضان، ووجه الخيل في طلب الحسن، فهرب الحسن من تونس إلى كنايه فأقام شهرين، ثم رجع إلى تونس، فخرج إليه من بها من الجند فقتلوه. وقد قيل: إن الحسن قتل بعد قتل الأغلب، لأن أصحاب الأغلب ثبتوا بعد قتله في المعركة، فقتل الحسن بن حرب أيضاً وولى أصحابه منهزمين، وصلب الحسن، ودفن الأغلب وسمي الشهيد، وكانت هذه الوقعة في شعبان سنة خمسين ومائة. ذكر الفتن بالأندلسفي هذه السنة خرج سعيد اليحصبي المعروف بالمطري بالأندلس بمدينة لبلة.
وسبب ذلك أنه سكر يوماً فتذكر من قتل من أصحابه اليمانية مع العلاء، وقد ذكرناه، فعقد لواء، فلما صحا رآه معقوداً فسأل عنه فأخبر به، فأراد حله ثم قال: ما كنت لأعقد لواء ثم أحله بغير شيء ؟! وشرع في الخلاف، فاجتمعت اليمانية إليه وقصد إشبيلية وتغلب عليها وكثر جمعه، فبادره عبد الرحمن صاحب الأندلس في جموعه، فامتنع المطري في قلعة زعواق لإحدى عشرة ليلة خلت من ربيع الأول، فحصره عبد الرحمن فيها وضيق عليه ومنع أهل الخلاف من الوصول إليه. وكان قد وافقه على الخلاف غياث بن علقمة اللخمي، وكان بمدينة شذونة، وقد انضاف إليه جماعةٌ من رؤساء القبائل يريدون إمداد الطري، وهم في جمع كثير. فلما سمع عبد الرحمن ذلك سير إليهم بدراً مولاه في جيش، فحال بينهم وبين الوصول إلى المطري، فطال الحصار عليه وقلت رجاله بالقتل، ففارقه بعضهم، فخرج يوماً من القلعة وقاتل فقتل وحمل رأسه إلى عبد الرحمن. فقدم أهل القلعة عليهم خليفة بن مروان، فدام الحصار عليهم، فأرسل أهلها يطلبون الأمان من عبد الرحمن ليسلموا إليه خليفة، فأجابهم إلى ذلك وآمنهم، فسلموا إليه الحصن وخليفة، فخرب الحصن وقتل خليفة ومن معه، ثم انتقل إلى غياث، وكان موافقاً للمطري على الخلاف، فحصرهم وضيق عليهم، فطلبوا الأمان فآمنهم إلا نفراً كان يعرف كراهتهم لدولته، فإنه قبض عليهم، وعاد إلى قرطبة، فلما عاد إليها خرج عليه عبد الله بن خراشة الأسدي بكورة جيان، فاجتمعت إليه جموعٌ، فأغار على قرطبة، فسير إليه عبد الرحمن جيشاً، فتفرق جمعه، فطلب الأمان، فبذله له عبد الرحمن ووفى له. ذكر عدة حوادثوفيها عسكر صالح بن علي بدابق ولم يغز. وحج بالناس أبو جعفر المنصور، وكان ولاة الأمصار من تقدم ذكرهم. وفيها مات سليمان بن مهران الأعمش، وكان مولده سنة ستين. وفيها مات جعفر بن محمد الصادق وقبره بالمدينة يزال، وهو وأبوه وجده في قبر واحد مع الحسن بن علي بن أبي طالب. وفيها مات زكرياء بن أبي زائدة. وأبو أمية عمرو بن الحارث بن يعقوب مولى قيس بن سعد بن عبادة، وقيل غير ذلك، وكان مولده سنة تسعين. وعبد الله بن يزيد مولى الأسود بن سفيان، ويقال مولى تميم، وهو ثقة. ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى القاضي. ومحمد ابن الوليد الزبيدي. ومحمد بن عجلان المدني. وعوام بن حوشب بن يزيد ابن رويم الشيباني الواسطي. ويحيى بن أبي عمرو السيباني، من أهل الرملة. سيبان بالسين المهملة، ثم بالياء المثناة من تحت، ثم بالباء الموحدة: بطن من حمير. ثم دخلت سنة تسع وأربعين ومائةوفيها غزا العباس بن محمد الصائفة أرض الروم ومعه الحسن بن قحطبة ومحمد بن الأشعث، فمات محمد في الطريق. وفيها استتم المنصور بناء سور بغداد وخندقها وفرغ من جميع أمورها وسار إلى حديثة الموصل ثم عاد. وحج بالناس محمد بن إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس. وفيها عزل عبد الصمد بن علي على مكة في قول بعضهم، واستعمل محمد بن إبراهيم. وكان عمال الأمصار من تقدم ذكرهم سوى مكة والطائف. وفيها أغزى عبد الرحمن صاحب الأندلس بدراً مولاه إلى بلاد العدو فجاوز إليه وأخذ جزيتها. وكان أبو الصباح حي بن يحيى على إشبيلية فعزله فدعا إلى الخلاف، فأنفذ إليه عبد الرحمن وخدعه حتى حضر عنده فقتله. وفيها مات سلم بن قتيبة الباهلي بالري، وكان مشهوراً عظيم القدر. وكهمس بن الحسن أبو الحسن التميمي البصري. وفيها توفي عيسى بن عمر الثقفي النحوي المشهور، وعنه أخذ الخليل النحو، وله فيه تصنيف. ثم دخلت سنة خمسين ومائة ذكر خروج أستاذ سيس وفيها خرج أستاذ سيس في أهل هراة وباذغيس وسجستان وغيرها من خراسان، وكان فيما قيل في ثلاثمائة ألف مقاتل، فغلبوا على عامة خراسان، وساروا حتى التقوا هم وأهل مرو الروذ، فخرج إليهم الأجشم المروروذي في أهل مرو الروذ فقاتلوه قتالاً شديداً، فقتل الأجشم وكثر القتل في أصحابه وهزم عدة من القواد، منهم: معاذ بن مسلم، وجبرائيل بن يحيى، وحماد ابن عمرو، وأبو النجم السجستاني، وداود بن كرار.
ووجه المنصور، وهو بالرذان، خازم بن خزيمة إلى المهدي، فولاه المهدي محاربة أستاذ سيس وضم إليه القواد. فسار خازم وأخذ معه من انهزم وجعلهم في أخريات الناس يكثر بهم من معه، وكان معه من هذه الطبقة اثنان وعشرون ألفاً. ثم انتخب منهم ستة آلاف رجل وضمهم إلى اثني عشر ألفاً كانوا معه من المنتخبين، وكان بكار بن سلم فيمن انتخب، وتعبأ للقتال، فجعل الهيثم بن شعبة بن ظهير على ميمنته، ونهار بن حصين السعدي على ميسرته، وبكار بن سلم العقيلي في مقدمته، وكان لواؤه مع الزبرقان. فمكر بهم وراوغهم في أن ينقلهم من موضع إلى موضع وخندق إلى خندق حتى قطعهم، وكان أكثرهم رجالة، ثم سار خازم إلى موضع فنزله وخندق عليه وعلى جميع أصحابه، وجعل له أربعة أبواب، وجعلى على كل باب ألفاً من أصحابه الذين انتخب. وأتى أصحاب أستاذ سيس ومعهم الفؤوس والمرور والزبل ليطموا الخندق، فأتوا الخندق من الباب الذي عليه بكار بن سلم، فحملوا على أصحاب بكار حملة هزموهم بها، فرمى بكار بنفسه، فترجل على باب الخندق وقال لأصحابه: لا يؤتى المسلمون من ناحيتنا. فترجل معه من أهله وعشيرته نحو من خمسين رجلاً وقاتلوهم حتى ردوهم من بابهم، ثم أقبل إلى الباب الذي عليه خازم رجل من أصحاب أستاذ سيس من أهل سجستان اسمه الحريش، وهو الذي كان يدبر أمره، فلما رآه خازم مقبلاً بعث إلى الهيثم بن شعبة، وكان في الميمنة، يأمره أن يخرج من الباب الذي عليه بكار، فإن من بإزائه قد شغلوا عنهم، ويسير حتى يغيب عن أبصارهم، ثم يرجع من خلف العدو، وقد كانوا يتوقعون قدوم أبي عون بن سلم بن قتيبة من طخارستان. وبعث خازم إلى بكار: إذا رأيت رايات الهيثم قد جاءت كبروا وقولوا: قد جاء أهل طخارستان. ففعل ذلك الهيثم، وخرج خازم في القلب على الحريش وشغلهم بالقتال وصبر بعضهم لبعض. فبينا هم على ذلك نظروا إلى أعلام الهيثم فتنادوا بينهم: جاء أهل طخارستان، فلما نظروا إليها حمل عليهم أصحاب خازم فكشفوهم، ولقيهم أصحاب الهيثم فطعنوهم بالرماح ورموهم بالنشاب. وخرج عليهم نهار بن حصين من ناحية الميسرة وبكار بن سلم وأصحابه من ناحيتهم فهزموهم ووضعوا فيهم السيوف، فقتلهم المسلمون فأكثروا، وكان عدد من قتل سبعين ألفاً، وأسروا أربعة عشر ألفاً، ونجا أستاذ سيس إلى جبل في نفر يسير، فحصرهم خازم وقتل الأسرى، ووافاه أبو عون وعمرو ابن سلم ومن معهما، فنزل أستاذ سيس على حكم أبي عون، فحكم أن يوثق أستاذ سيس وبنوه وأهل بيته بالحديد، وأن يعتق الباقون وهم ثلاثون ألفاً، فأمضى خازم حكمه وكسا كل رجل ثوبين، وكتب إلى المهدي بذلك، فكتب المهدي إلى المنصور. وقيل: إن خروج أستاذ سيس كان سنة خمسين، وكانت هزيمته سنة إحدى وخمسين ومائة. وقد قيل: إن أستاذ سيس ادعى النبوة وأظهر أصحابه الفسق وقطع السبيل. وقيل: إنه جد المأمون أبو أمه مراجل، وابنه غالب خال المأمون، وهو الذي قتل ذا الرياستين الفضل بن سهل لمواطأة من المأمون، وسيرد ذكره إن شاء الله. ذكر عدة حوادثفي هذه السنة عزل المنصور جعفر بن سليمان عن المدينة وولاها الحسن ابن زيد بن الحسن بن الحسن بن علي. وفيها خرج بالأندلس غياث بن المسير الأسدي بنائحة فجمع العمال لعبد الرحمن جمعاً كثيراً وسار إلى إياث، فواقعه، فانهزم غياث ومن معه وقتل غياث وبعث برأسه إلى عبد الرحمن بقرطبة وفيها مات جعفر بن أبي جعفر المنصور، وصلى عليه أبوه، ودفن ليلاً في مقابر قريش، ولم يكن للناس في هذه السنة صائفة. وحج بالناس عبد الصمد بن علي، وكان هو العامل على مكة في قول بعضهم، وقال بعضهم: بل كان العامل محمد بن إبراهيم. وكان على الكوفة محمد بن سليمان بن علي، وعلى البصرة عقبة بن سلم، وعلى قضائها سوار، وعلى مصر يزيد بن حاتم. وفي هذه السنة مات الإمام الأعظم أو حنيفة النعمان بن ثابت. ومعمر ابن راشد.
وعمر بن ذر، وقيل: مات عمر سنة خمس وخمسين ومائة، وكان من الصالحين، يقول بالإرجاء. وفي سنة خمسين مات عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج. ومحمد بن إسحاق بن يسار صاحب المغازي، وقيل: مات سنة إحدى وخمسين. وفيها مات مقاتل بن سليمان البلخي المفسر، وكان ضعيفاً في الحديث. وأبو جناب الكلبي. وعثمان بن الأسود. وسعيد ابن أبي عروبة، واسم أبي عروبة مهران مولى بني يشكر، كنيته أبو النضر. يسار بالياء تحتها نقطتان، وبالسين يسار المهملة. ثم دخلت سنة إحدى وخمسين ومائةفيها أغارت الكرك على جدة. ذكر عزل عمر بن حفص عن السند وولاية هشام بن عمرو وفيها عزل المنصور بن حفص بن عثمان بن قبيصة بن أبي صفرة المعروف بهزارمرد، يعني ألف رجل، عن السند، واستعمل عليها هشام بن عمرو التغلبي، واستعمل عمر بن حفص على إفريقية. وكان سبب عزله عن السند أنه كان عليها لما ظهر محمد وإبراهيم ابنا عبد الله بن الحسن، فوجه محمد ابنه عبد الله المعروف بالأشتر إلى البصرة، فاشترى منها خيلاً عتاقاً ليكون سبب وصولهم إلى عمر بن حفص لأنه كان فيمن بايعه من قواد المنصور، وكان يتشيع، وساروا في البحر إلى السند، فأمرهم عمر أن يحضروا خيلهم، فقال له بعضهم: إنا جئناك بما هو خير من الخيل وبما لك فيه خير الدنيا والآخرة فأعطنا الأمان إما قبلت منا وإما سترت وأمسكت عن إيذائنا حتى نخرج عن بلادك راجعين. فآمنه. فذكر له حالهم وحال عبد الله بن محمد بن عبد الله أرسله أبوه إليه، فرحب بهم وبايعهم وأنزل الأشتر عنده مختفياً، ودعا كبراء أهل البلد وقواده وأهل بيته إلى البيعة، فأجابوه، فقطع ألويتهم البيض وهيأ لبسه من البياض ليخطب فيه وتهيأ لذلك يوم الخميس، فوصله مركب لطيف فيه رسول من امرأة عمر ابن حفص تخبره بقتل محمد بن عبد الله، فدخل على الأشتر فأخبره وعزاه، فقال له الأشتر: إن أمري قد ظهر ودمي في عنقك. قال عمر: قد رأيت رأياً، ها هنا من ملوك السند عظيم الشأن كثير المملكة، وهو على شوكة، أشد الناس تعظيماً لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، وهو وفي، أرسل إليه فاعقد بينك وبينه عقداًفأوجهك إليه فلست ترام معه. ففعل ذلك، وسار إليه الأشتر، فأكرمه وأظهر بره، وتشللت إليه الزيدية حتى اجتمع معه أربعمائة إنسان من أهل البصائر، فكان يركب فيهم ويتصيد في هيئة الملوك وآلاتهم. فلما انتهى ذلك إلى المنصور بلغ منه وكتب إلى عمر بن حفص يخبره ما بلغه، فقرأ الكتاب على أهله وقال لهم: إن أقررت بالقصة عزلني، وإن صرت إليه قتلني، وإن امتنعت حاربني. فقال له رجل منهم : ألق الذنب علي وخذني وقيدني، فإنه سيكتب في حملي إليه، فاحملن فإنه لا يقدم علي لمكانك في السند وحال أهل بيتك بالبصرة. فقال عمر: أخاف عليك خلاف ما تظن. قال: إن قتلت فنفسي فدا لنفسك. فقيده وحبسه وكتب إلى المنصور بأمره، فكتب إليه المنصور يأمره بحمله، فلما صار إليه رب عنقه. ثم استعمل على السند هشام بن عمرو التغلبي؛ وكان سبب استعماله أن المنصور كان تفكر فيمن يوليه السند، فبينا هو راكب والمنصور ينظر إليه إذ غاب يسيراً ثم عاد فاستأذن على المنصور، فأدخله، فقال: إني لما انصرفت من الموكب لقيتني أختي فلانة، فرأيت من جمالها وعقلها ودينها ما رضيتها لأمير المؤمنين. فأطرق ثم قال: اخرج يأتك أمري. فلما خرج قال المنصور لحاجبه الربيع: لولا قول جرير: لا تطلبن خؤولة في تغلب ... فالزنج أكرم منهم أخوالا لتزوجت إليه قل له لو كان لنا حاجة في النكاح لقبلت، فجزاك الله خيراً وقد وليتك السند. فتجهز إليها، وأمره أن يكاتب ذلك الملك بتسليم عبد الله، فإن سلمه وإلا حاربه، وكتب إلى عمر بن حفص بولايته إفريقية.
فسار هشام إلى السند فملكها، وسار عمر إلى إفريقية فوليها، فلما صار هشام بالسند كره أخذ عبد الله الأشتر وأقبل يري الناس أنه يكاتب ذلك الملك، واتصلت الأخبار بالمنصور بذلك، فجعل يكتب إليه يستحثه، فبينا هو كذلك إذ خرجت خارجة ببلاد السند، فوجه هشام أخاه سفنجا، فخرج في جيشه وطريقه بجنبات ذلك الملك، فبينا هو يسير إذا غبرة قد ارتفعت، فظن أنهم مقدمة العدو الذي يقصده، قفوجه طلائعه، فزحفت إليه، فقالوا: هذا عبد الله بن محمد العلوي يتنزه على شاطئ مهران. فمضى يريده، فقال نصحاؤه: هذا ابن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وقد تركه أخوك متعمداً فخافه أن يبوء بدمه، فلم يقصده، فقال: ما كنت لأدع أخذه ولا أدع أحداً يحظى بأخذه أو قتله عند المنصور. وكان عبد الله في عشرة، فقصده فقاتله عبد الله وقاتل أصحابه حتى قتل وقتلوا جميعاً، فلم يفلت منهم مخبر، وسقط عبد الله بين القتلى فلم يشعر به. وقيل: إن أصحابه قذفوه في مهران حتى لا يحمل رأسه، فكتب هشام بذلك إلى المنصور، فكتب إليه إليه المنصور يشكره ويأمره بمحاربة ذلك الملك، فحاربه حتى ظفر به وقتله وغلب على مملكته. وكان عبد الله قد اتخذ سراري فأولد واحدة منهن ولداً، وهو محمد ابن عبد الله الذي يقال له ابن الأشتر، فأخذ هشام السراري والولد معهن فسيرهن إلى المنصور، فسير المنصور والولد إلى عامله بالمدينة وكتب معه بصحة نسبه وتسليمه إلى أهله. ذكر ولاية أبي جعفر عمر بن حفص إفريقيةوفي هذه السنة استعمل المنصور على إفريقية أبا جعفر عمر بن حفص من ولد قبيصة بن أبي صفرة أخي المهلب، وإنما نسب إلي بيت المهلب لشهرته. وكان سبب مسيره إليها أن المنصور لما بلغه قتل الأغلب بن سالم خاف على إفريقية، فوجه إليها عمر والياً، فقدم القيروان في صفر سنة إحدى وخمسين ومائة في خمسمائة فارس، فاجتمع وجوه البلد فوصلهم وأحسن إليهم وأقام والأمور مستقيمة ثلاث سنين. فسار إلى الزاب لبناء مدينة طبنة بأمر المنصور، واستخلف على القيروان حبيب بن حبيب المهلبي، فخلت إفريقية من الجند، فتار بها البربر، فخرج إليهم حبيب فقتل، واجتمع البربر بطرابلس وولوا عليهم أبا حاتم الإباضي واسمه يعقوب بن حبيب مولى كندة، وكان عامل عمر بن حفص على طرابلس الجنيد بن بشار الأسادي، وكتب إلى عمر يستمده، فأمده بعسكر، فالتقوا وقاتلوا أبا حاتم الإباضي، فهمزمهم، فساروا إلى قابس، وحصرهم أبو حاتم وعمر مقيم بالزاب على عمارة طبنة، وانتقضت إفريقية من كل ناحية ومضوا إلى طبنة فأحاطوا بها في اثني عشر عسكراً، منهم: أبو قرة الصفري في أربعين ألفاً، وعبد الرحمن بن رستم في خمسة عشر ألفاً، وأبو حاتم في عسكر كثير، وعاصم السدراتي الإباضي في ستة آلاف، والمسعود الزناتي الإباضي في عشرة آلاف فارس، وغير من ذكرنا. فلما رأى عمر بن حفص إحاطتهم به عزم على الخروج إلى قتالهم، فمنعه أصحابه وقالوا: إن أصبت تلف العرب. فعدل إلى إعمال الحيلة، فأرسل إلى أبي قرة مقدم الصفرية يبذل له ستين ألف درهم ليرجع عنه، فقال: بعد أن سلم علي بالخلافة أربعين سنة أبيع حربكم بعرض قليل من الدنيا ؟ فلم يجبهم إلى ذلك. فأرسل إلى أخي أبي قرة فدفع إليه أربعة آلاف درهم وثياباً عل أن يعمل في صرف أخيه الصفرية، فأجابهم وارتحل من ليلته وتبعه العسكر منصرفين إلى بلادهم، فاضطر أبو قرة إلى أتباعهم. فلما سارت الصفرية سير عمر جيشاً إلى ابن رستم وهو في تهوذا، قبيلة من البربر، فقاتلوه، فانهزم ابن رستم إلى تاهرت، فضعف أمر الإباضية عن مقاومة عمر، فساروا عن طبنة إلى القيروان، فحصرها أبو حاتم وعمر بطبنة يصلح أمورها ويحفظها ممن يجاوره من الخوارج، فلما علم ضيق الحال بالقيروان سار إليها. ولما سار عمر بن حفص إلى القيروان استخلف على طبنة عسكراً. فلما سمع أبو قرة بمسير عمر بن حفص سار هو إلى طبنة فحصرها، فخرج إليه من بها من العساكر وقاتلوه، فانهزم منهم وقتل من عسكره خلق كثير.
وأما أبو حاتم فإنه لما حصر القيروان كثر جمعه ولازم حصارها وليس في بيت مالها دينار ولا في أهرائها شيء من الطعام، فدام الحصار ثمانية أشهر، وكان الجند يخرجون فيقاتلون الخوارج طرفي النهار حتى جهدهم الجوع وأكلوا دوابهم وكلابهم ولحق كثير من أهلها بالبربر ولم يبق غير دخول الخوارج إليها، فأتاهم الخبر بوصول عمر بن حف من طبنة، فنزل الهريش، وهو في سبعمائة فارس، فزحف الخوارد إليه بأجمعهم وتركوا القيروان، فلما فارقوها سار عمر إلى تونس، فتبعه البربر، فعاد إلى القيروان مجداً وأدخل إليها ما يحتاج من طعام ودواب وحطب وغير ذلك، ووصل أبو حاتم والبربر إليه فحصروه، فطال الحصار حتى أكلوا دوابهم، وفي ك يوم يكون بينهم قتال وحرب، فلما ضاق الأمر بعمر وبمن معه قال لهم: الرأي أن أخرج من الحصار وأغير على بلاد البربر وأحمل إليكم الميرة. قالوا: إنا نخاف بعدك، قال: فأرسل فلاناً وفلاناً يفعلان ذلك، فأجابوه، فلما قال للرجلين قالا: لا نتركك في الحصار ونسير عنك. فعزم على إلقاء نفسه إلى الموت، فأتى الخبر أن المنصور قد سير إيه يزيد ابن حاتم بن قتيبة بن المهلب في ستين ألف مقاتل، وأشار عليه من عنده بالتوقف عن القتال إلى أن يصل العسكر، فلم يفعل وخرج وقاتل، فقتل منتصف ذي الحجة سنة أربع وخمسين ومائة، وقام بأمر الناس حميد بن صخر، وهو أخو عمر لأمه، فوادع أبا حاتم وصالحه على أن حميداً ومن معه لا يخلعون المنصور ولا ينازعهم أبو حاتم في سوادهم وسلاحهم، وأجابهم إلى ذلك وفتحت له القيروان، وخرج أكثر الجند إلى طبنة، وأحرق أبو حاتم أبواب القيروان وثلم سورها. وبلغه وصول يزيد بن حاتم فسار إلى طرابلس وأمر صاحبه بالقيروان بأخذ سلاح الجند وأن يفرق بينهم، فخالف بعض أصحابه وقالوا: لا نغدر بهم، وكان المقدم على المخالفيين عمر بن عثمان الفهري، وقام في القيروان وقتل أصحاب أبي حاتم، فعاد أبو حاتم، فهرب عمر بن عثمان من بين يديه إلى تونس، وعاد أبو حاتم إلى طرابلس لقتال يزيد بن حاتم. فقيل: كان بين الخوارج والجنود من لدن عمر بن حفص إلى انقضاء أمرهم ثلاثمائة وخمس وسبعون وقعة. ذكر ولاية يزيد بن حاتم إفريقية وقتال الخوارجلما بلغ المنصور ما حل بعمر بن حفص من الخوارج جهز يزيد بن حاتم ابن قبيصة بن أي صفرة في ستين ألف فارس وسيره إلى إفريقية، فوصلها سنة أربع وخمسين ومائة. فلما قاربها سار إليه بعض جندها واجتمعوا به وساروا معه إلى طرابلس، فسار أبو حاتم الخارجي إلى جبال نفوسة، وسير يزيد طائفة من العسكر إلى قابس، فلقيهم أبو حاتم فهزمهم، فعادوا إلى يزيد، ونزل أبو حاتم في مكان وعر وخندق على عسكره، وعبأ يزيد أصحابه وسار إليه، فالتقوا في ربيع الأول سنة خمس وخمسين، فاقتتلوا أشد قتال، فانهزمت البربر وقتل أبو حاتم وأهل نجدته، وطلبهم يزيد في كل سهل وجبل فقتلهم قتلاً ذريعاً، وكان عدة من قتل في المعركة ثلاثين ألفاً. وجعل آل المهلب يقتلون الخوارج ويقولون: يا لثارات عمر بن حفص ! وأقام شهراً يقتل الخوارج، ثم رحل إلى القيروان. فكان عبد الرحمن بن حبيب بن عبد الرحمن الفهري مع أبي حاتم، فهرب إلى كتامة، فسير إليهم يزيد بن حاتم جيشاً فحصروا البربر وظفروا بهم وقتلوا منهم خلقاً كثيراً، وهرب عبد الرحمن وقتل جميع من كان معه وصفت إفريقية، وأحسن يزيد السيرة وآمن الناس إلى أن انتقضت ورفجومة سنة أربع وستين ومائة بأرض الزاب وعليها أيوب الهواري، فسير إليهم عسكراً كثيراً، واستعمل عليهم يزيد بن مجزاء المهلبي، فالتقوا واقتتلوا، فانهزم يزيد وقتل كثير من أصحابه، وقتل المخارق بن غفار صاحب الزاب، فولي مكانه المهلب بن يزيد المهلبي وأمدهم يزيد بن حاتم بجمع كثير، واستخمل عليهم العلاء بن سعيد المهلبي، وانضم إليهم المنهزمون ولقوا ورفجومة واقتتلوا، واشتد القتال، فانهزمت البربر وأيوب وقتلوا بكل مكان حتى أتي على آخرهم، ولم يقتل من الجند أحد. ثم مات يزيد في رمضان سنة سبعين ومائة، وكانت ولايته خمس عشرة سنة وثلاثة أشهر، واستخلف ابنه داود على إفريقية. ذكر بناء الرصافة للمهدي
وفي هذه السنة قدم المهدي من خراسان في شوال، فقدم عيه أهل بيته من الشام والكوفة والبصرة وغيرها فهنأوه بمقدمه، وفأجازهم وحملهم وكساهم، وفعل بهم المنصور مثل ذلك، وبنى له الرصافة. وكان سبب بنائها أن بعض الجند شغبوا على المنصور وحاربوه على باب الذهب، فدخل عليه قثم بن العباس، وهو شيخهم، وله الحرمة والتقدم عندهم، فقال له المنصور: أما ترى ما نحن فيه من التياث الجند علينا ؟ وقد خفت أن تجتمع كلمتهم فيخرج هذا الأمر من أيدينا، فما ترى ؟ قال: يا أمير المؤمنينعندي رأي إن اظهرته لك فسد، وإن تركتني أمضيه وصلحت خلافتك وهابك جندك. قال له: أفتمضي في خلافتي شيئاً لا أعلمه ؟ فقال له: إن كنت عندك متهماً فلا تشاورني، وإن كنت مأموناً عليها فدعني أفعل رأيي. قال له المنصور: فأمضه. فانصرف قثم إلى منزله، فدعا غلاماً له فقال له: إذا كان غداً فتقدمن واجلس في دار أمير المؤمنين، فإذا رأيتني قد دخلت وتوسطت أصحاب المراتب فخذ بعنان بغلتي فاستحلفني بحق رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وبحق العباس وبحق أمير المؤمنين إلا ما وقفت لك وسمعت مسألتك وأجبتك عنها، فإني سأنتهرك وأغلظ لك القول فلا تخف وعاود المسألة، فإني سأضربك فعاود وقل لي: أي الحيين أشرف، اليمن أم مضر ؟ فإذا أجبتك فاترك البغلة وأنت حر. ففعل الغلام ما أمره، وفعل قثم به ما قاله، ثم قال: مضر أشرف لأن منها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وفيها كتاب الله، وفيها بيت الله، ومنها خليفة الله. فامتعضت لذلك اليمن إذ لم يذكر لهم شيئاً من شرفها، وقال بعض قوادهم: ليس الأمر كذلك مطلقاً بغير فضيلة لليمن؛ ثم قال لغلام له: قم إلى بغلة الشيخ فاكبحها. ففعل حتى كاد يقعيها، فامتعضت مضر وقالوا: أيفعل هذا بشيخنا ؟ فأمر بعضهم غلامه فضرب يد ذلك الغلام فقطعها، فنفر الحيان. ودخل قثم على المنصور فافترق الجند، فصارت مضر فرقة، وربيعة فرقة، والخراسانية فرقة. فقال قثم للمنصور: قد فرقت بين جندك وجعلتهم أحزاباً كل حزب منهم يخاف أن يحدث عليك حدثاً فتضربه بالحزب الآخر، وقد بقي عليك في التدبير بقية، وهي أن تعبر بابنك فتنزله في ذلك الجانب وتحول معه قطعة من جيشك فيصير ذلك بلداً وهذا بلداً، فإن فسد عليك أولئك ضربتهم بهؤلاء، وإن فسد عليك هؤلاء ضربتهم بأولئك، وإن فسد عيك بعض القبائل ضربتهم بالقبيلة الأخرى. فقبل رأيه واستقام ملكه وبنى الرصافة، وتولى صالح صاحب المصلى ذلك. ذكر قتل سليمان بن حكيم العبديفي هذه السنة سار عق | |
|
| |
| كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير | |
|