| كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير | |
|
|
|
كاتب الموضوع | رسالة |
---|
الشيخ عودة الشيخ عودة
عدد المساهمات : 1748 تاريخ التسجيل : 28/09/2008 العمر : 74
| موضوع: رد: كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير الأحد فبراير 23, 2014 6:02 am | |
| فلما ظفر أرجوان أظهر الحاكم، وأجلسه، وجدد له البيعة، وكتب إلى وجوه القواد والناس بدمشق بالإيقاع بأبي تميم، فلم يشعر إلا وقد هجموا عليه ونهبوا خزائنه، فخرج هارباً، وقتلوا من كان عنده من كتامة، وعادت الفتنة بدمشق، واستولى الأحداث. ثم إن أرجوان أذن للحسن بن عمار في الخروج من استتاره، وأجراه على إقطاعه، وأمره بإغلاق بابه. وعصى أهل صور، وأمروا عليهم رجلاً ملاحاً يعرف بعلاقة، وعصى أيضاً المفرج بن دغفل بن الجراح، ونزل على الرملة وعاث في البلاد. واتفق أن الدوقس، صاحب الروم، نزل على حصن أفامية، فأخرج أرجوان جيش بن الصمصامة في عسكر ضخم، فسار حتى نزل بالرملة، فأطاعه وإليها، وظفر فيها بأبي تميم فقبض عليه، وسير عسكراً إلى صور، وعليهم أبو عبدالله الحسين بن ناصر الدولة بن حمدان، فغزاها براً وبحراً. فأرسل علاقة إلى ملك الروم يستنجده، فسير إليه عدة مراكب مشحونة بالرجال، فالتقوا بمراكب المسلمين على صور، فاقتتلوا، وظفر المسلمون، وانهزم الروم، وقتل منهم جمع، فلما انهزموا انخذل أهل صور، وضعفت نفوسهم، فملك البلد أبو عبدالله بن حمدان، ونهبه، وأخذت الأموال، وقتل كثير من جنده، وكان أول فتح كان على يد أرجوان، وأخذ علاقة أسيراً فسيره إلى مصر، فسلخ وصلب بها؛ وأقام بصور، وسار جيش بن الصمصامة لقصد المفرج ابن دغفل، فهرب من بين يديه، وأرسل يطلب العفو فأمنه. وسار جيش أيضاً إلى عسكر الروم، فلما وصل إلى دمشق تلقاه أهلها مذعنين، فأحسن إلى رؤساء الأحداث، وأطلق المؤن، وأباح دم كل مغربي يتعرض لأهلها، فاطمأنوا إليه. وسار إلى أفامية، فصاف الروم عندها، فانهزم هو وأصحابه، ما عدا بشارة الإخشيدي، فإن ثبت في خمسمائة فارس. ونزل الروم إلى سواد المسلمين يغنمون ما فيه، والدوقس واقف على رايته، وبين يديه ولده وعدة غلمان، فقصده كردي يعرف بأحمد بن الضحاك، من أصحاب بشارة، ومعه خشت، فظنه الدوقس مستأمناً، فلم يحترز منه، فلما دنا منه حمل عليه وضربه بالخشت فقتله، فصاح المسلمون: قتل عدو الله ! وعادوا ونزل النصر عليهم، فانهزمت الروم وقتل منهم مقتلة عظيمة. وسار جيش إلى باب إنطاكية يغنم ويسبي ويحرق، وعاد إلى دمشق فنزل بظاهرها، وكان الزمان شتاء، فسأله أهل دمشق ليدخل البلد، فلم يفعل، ونزل ببيت لهيا، وأحسن السيرة في أهل دمشق، واستخص رؤساء الأحداث، واستحجب جماعة منهم، وجعل يبسط الطعام كل يوم لهم ولمن يجيء معهم من أصحابهم، فكان يحضر كل إنسان منهم في جمع من أصحابه وأشياعه، وأمرهم إذا فرغوا من الطعام أن يحضروا إلى حجرة له يغسلون أيديهم فيها، فعبر على ذلك برهة من الزمان، فأمر أصحابه أن رؤساء الأحداث، إذا دخلوا الحجرة لغسل أيديهم، أن يغلقوا باب الحجرة عليهم، ويضعوا السيف في أصحابهم، فلما كان الغد حضروا الطعام، وقام الرؤساء إلى الحجرة، فأغلقت الأبواب عليهم، وقتل من أصحابهم نحو ثلاثة آلاف رجل، ودخل دمشق فطافها، فاستغاث الناس وسألوه العفو، وعفا عنهم، وأحضر أشراف أهلها، وقتل رؤساء الأحداث بين أيديهم، وسير الأشراف إلى مصر، وأخذ أموالهم ونعمهم، ثم مرض بالبواسير وشدة الضربان فمات. وولي بعده ابنه محمد، وكانت ولايته هذه تسعة أشهر، ثم إن أرجوان بعد هذه الحادثة راسل بسيل ملك الروم، وهادنه عشر سنين، واستقامت الأمور على يد أرجوان. وسير أيضاً جيشاً إلى برقة، وطرابلس الغرب، ففتحها، واستعمل عليها أنساً الصقلبي ونصح الحاكم، وبالغ في ذلك، ولازم خدمته، فثقل مكانه على الحاكم، فقتله سنة تسع وثمانين.
وكان خصياً أبيض، وكان لأرجوان وزير نصراني اسمه فهد بن إبراهيم، فاستوزره الحاكم، ثم إن الحاكم رتب الحسين بن جوهر موضع أرجوان، ولقبه قائد القواد ثم قتل الحسن بن عمار، المقدم ذكره، ثم قتل الحسين بن جوهر، ولم يزل يقيم الوزير بعد الوزير ويقتلهم. ثم جهز يارختكين للمسير إلى حلب، وحصرها، وسير معه العساكر الكثيرة، فسار عنها، فخافه حسان بن المفرج الطائي، فلما رحل من غزة إلى عسقلان كمن له حسان ووالده، وأوقعا به وبمن معه، وأسراه وقتلاه، وقتل من الفريقين قتلى كثيرة، وحصرا الرملة، ونهبا النواحي، وكثر جمعهما، وملكا الرملة وما والاها، فعظم ذلك على الحاكم، وأرسل يعاتبهما، وسبق السيف العذل، فأرسلا إلى الشريف أبي الفتوح الحسن بن جعفر العلوي الحسني، أمير مكة، وخاطباه بأمير المؤمنين، وطلباه إليهما ليبايعا له بالخلافة، فحضر، واستناب بمكة، وخوطب بالخلافة. ثم إن الحاكم راسل حساناً وأباه، وضمن لهما الإقطاع الكثيرة والعطاء الجزير، واستمالهما، فعدلا عن أبي الفتوح، ورداه إلى مكة، وعادا إلى طاعة الحاكم. ثم إن الحاكم جهز عسكراً إلى الشام، واستعمل عليهم علي بن جعفر بن فلاح، فلما وصل إلى الرملة أزاح حسان بن الفمرج وعشيرته عن تلك الأرض، وأخذ ما كان له من الحصون بجبل الشراة، واستولى على أمواله وذخائره، وسار إلى دمشق والياً عليها، فوصل إليها في شوال سنة تسعين وثلاثمائة. وأما حسان فإنه بقي شريداً نحو سنتين، ثم أرسل والده إلى الحاكم فأمنه وأقطعه، فسار حسان إليه بمصر، فأكرمه وأحسن إليه؛ وكان المفرج والد حسان قد توفي مسموماً، وضع الحاكم عليه من سمه، فبموته ضعف أمر حسان على ما ذكرناه. ذكر استيلاء عسكر صمصام الدولة على البصرةفي هذه السنة سار قائد كبير من قواد صمصام الدولة، اسمه لشكرستان، إلى البصرة، فأجلى عنها نواب بهاء الدولة. وسبب ذلك أن الأتراك لما عادوا عن العلاء، كما ذكرناه، كان لشكرستان هذا مع العلاء، فأتاهم من الديلم الذين مع بهاء الدولة أربعمائة رجل مستأمنين، فأخذهم لشكرستان، وسار بهم وبمن معه إلى البصرة، فكثر جمعه، فنزلوا قرب البصرة بين البساتين يقاتلون أصحاب بهاء الدولة، ومال الأيهم بعض أهل البصرة، ومقدمهم أبو الحسن بن أبي جعفر العلوي، وكانوا يحملون إليهم الميرة. وعلم بهاء الدولة بذلك، فأنفذ من يقبض عليهم، فهرب كثير منهم إلى لشكرستان، فقوي بهم، وجمعوا السفن وحملوه فيها، ونزلوا إلى البصرة، فقاتلوا أصحاب بهاء الدولة بها، وأخرجوهم عنها، وملك لشكرستان البصرة، وقتل من أهلها كثيراً، وهرب كثير منهم، وأخذ كثيراً من أموالهم. فكتب بهاء الدولة إلى مهذب الدولة، صاحب البطيحة، يقول: أنت أحق بالبصرة. فسير إليها جيشاً مع عبدالله بن مرزوق، فأجلى لشكرستان عن البصرة، فقيل: إنه سار عن البصرة بغير حرب، ودخلها ابن مرزوق. وقيل: إنما فارقها بعد أن حارب فيها، وضعف عن المقام بين يديه. وصفت البصرة لمهذب الدولة. ثم إن لشكرستان عمل على العود إلى البصرة، فهجم عليها في السفن، ونزل أصحابه بسوق الطعام، واقتتلوا، فاستظهر لشكرستان، وكاتب بهاء الدولة يطلب المصالحة، ويبذل الطاعة، ويخطب له بالبصرة، فأجابه مهذب الدولة إلى ذلك، وأخذ ابنه رهينة. وكان لشكرستان يظهر طاعة صمصام الدولة وبهاء الدولة ومهذب الدولة، وعسف أهل البصرة مدة، فتفرقوا، ثم إنه أحسن إليهم وعدل فيهم، فعادوا. ذكر ولاية المقلد الموصلفي هذه السنة ملك المقلد بن المسيب مدينة الموصل. وكان سبب ذلك أن أخاه أبا الذواد توفي هذه السنة، فطمع المقلد في الإمارة، فلم تساعده عقيل على ذلك، وقلدوا أخاه علياً لأنه أكبر منه، فأسرع المقلد واستمال الديلم الذين كانوا مع أبي جعفر الحجاج بالموصل، فمال إليه بعضهم، وكتب إلى بهاء الدولة قد ولاه الموصل، وسأله مساعدته على أبي جعفر لأنه قد منعه عنها، فساروا ونزلوا على الموصل فخرج إليهم كل من استماله المقلد من الديلم، وضعف الحجاج، وطلب منهم الأمان، فأمنوه، وواعدهم يوماً يخرج إليهم فيه.
ثم إنه انحدر في السفن قبل ذلك اليوم، فلم يشعروا به إلا بعد انحداره، فتبعوه، فلم ينالوا منه شيئاً، ونجا بماله منهم، وسار إلى بهاء الدولة، ودخل المقلد البلد، واستقر الأمر بينه وبين أخيه على أن يخطب لهما، ويقدم علي لكبره، ويكون له معه نائب يجبي المال، واشتركا في البلد والولاية، وسار علي إلى البر، وأقام المقلد، وجرى الأمر على ذلك مديدةً، ثم تشاجروا واختصموا وكان ما نذكره إن شاء الله. وكان المقلد يتولى حماية غربي الفرات من أرض العراق، وكان له ببغداد نائب فيه تهور، فجرى بينه وبين أصحاب بهاء الدولة مشاجرة، فكتب إلى المقلد يشكو، فانحدر من الموصل في عساكره، وجرى بينه وبين أصحاب بهاء الدولة حرب انهزموا فيها، وكتب إلى بهاء الدولة يعتذر، وطلب إنفاذ من يعقد عليه ضمان القصر وغيره. وكان بهاء الدولة مشغولاً بمن يقاتله من عسكر أخيه، فاضطر إلى المغالطة، ومد المقلد يده فأخذ الأموال، فبرز نائب بهاء الدولة ببغداد، وهو حينئذ أبو علي بن إسماعيل، وخرج إلى حرب المقلد، فبلغ الخبر إليه، فأنفذ أصحابه ليلاً، فاقتتلوا، وعادوا إلى المقلد، فلما بلغ الخبر إلى بهاء الدولة بمجيء أصحاب المقلد إلى بغداد، أنفذ أبا جعفر الحجاج إلى بغداد، وأمره بمصالحة المقلد والقبض على أبي علي بن إسماعيل، فسار إلى بغداد في آخر ذي الحجة، فلما وصل إليها راسله المقلد في الصلح، فاصطلحا على أن يحمل إلى بهاء الدولة عشرة آلاف دينار، ولا يأخذ من البلاد إلا رسم الحماية، ويخطب لأبي جعفر بعد بهاء الدولة، وأن يخلع على المقلد الخلع السلطانية، ويلقب بحسام الدولة، ويقطع الموصل، والكوفة، والقصر، والجامعين، واستقر الأمر على ذلك؛ وجلس القادر بالله له. ولم يف المقلد من ذلك بشيء إلا بحمل المال، واستولى على البلاد، ومد يده في المال، وقصده المتصرفون والأماثل، وعظم قدره، وقبض أبو جعفر على أبي علي، ثم هرب أبو علي، نائب بهاء الدولة، واستتر وسار إلى البطيحة مستتراً، ملتجئاً إلى مهذب الدولة. ذكر وفاة المنصور بن يوسف وولاية ابنه باديس في هذه السنة توفي المنصور بن يوسف بلكين أمير إفريقية، أوائل ربيع الأول، خارج صبرة، ودفن بقصره. وكان ملكاً كريماً، شجاعاً، حازماً، ولم يزل مظفراً منصوراً، حسن السيرة، محباً للعدل والرعية، أوسعهم عدلاً، وأسقط البقايا عن أهل إفريقية، وكانت مالاً جليلاً. ولما توفي ولي بعده ابنه باديس، ويكنى أبا مناد، فلما استقر في الأمر سار إلى سردانية، وأتاه الناس من كل ناحية للتعزية والتهنئة، وأراد بنو زيري أعمام أبيه أن يخالفوا عليه، فمنعهم أصحاب أبيه وأصحابه. وكان مولد باديس سنة أربع وسبعين وثلاثمائة، وأتته الخلع والعهد بالولاية من الحاكم بأمر الله من مصر، فقرئ العهد، وبايع للحاكم هو وجماعة بني عمه والأعيان من القواد. وفيها ثار على باديس رجل صنهاجيٌ اسمه خليفة بن مبارك، فأخذ وحمل إلى باديس، فأركب حماراً، وجعل خلفه رجل أسود يصفعه، وطيف به، ولم يقتل احتقاراً له وسجن. وفيها استعمل باديس عمه حماد بن يوسف بلكين على أشير، وأقطعه إياه، وأعطاه من الخيل والسلاح والعدد شيئاً كثيراً، فخرج إليها، وحماد هذا هو جد بني حماد الذين كانوا ملوك إفريقية، والقلعة المنسوبة إليهم مشهورة بإفريقية، ومنهم أخذها عبد المؤمن بن علي. ذكر عدة حوادثفي هذه السنة قبض بهاء الدولة على الفاضل وزيره، وأخذ ماله، واستوزر بهاء الدولة سابور بن أردشير، فأقام نحو شهرين، وفرق الأموال، ووقع بها للقواد قصداً ليضعف بهاء الدولة، ثم هرب إلى البطيحة، وبقي منصب الوزارة فارغاً، واستوزر أبو العباس بن سرجس. وفيها استكتب القادر بالله أبا الحسن علي بن عبد العزيز بن حاجب النعمان. وفيها توفي أحمد بن إبراهيم بن محمد بن إسحاق أبو حامد بن أبي إسحاق المزكي، النيسابوري، في شعبان، وكان إماماً، ومولده سنة ثلاث وعشرين. وفيها توفي علي بن عمر بن محمد بن الحسن أبو إسحاق الحميري، المعروف بالسكري، وبالحربي، وبالكيال، ومولده سنة ست وتسعين ومائتين. وفيها توفي أبو الأغر دبيس بن عفيف الأسدي بخوزستان؛ وأبو طالب محمد بن علي بن عطية المكي، صاحب قوت القلوب، روي أنه صنف قوت القلوب وكان قوته عروق البردي.
ثم دخلت سنة سبع وثمانين وثلاثمائة ذكر موت الأمير نوح بن منصور وولاية ابنه منصور في هذه السنة توفي الأمير الرضي نوح بن منصور الساماني في رجب، واختل بموته ملك آل سامان، وضعف أمرهم ضعفاً ظاهراً، وطمع فيهم أصحاب الأطراف، فزال ملكهم بعد مدةٍ يسيرة. ولما توفي قام بالملك بعده ابنه أبو الحرث منصور بن نوح، وبايعه الأمراء والقواد وسائر الناس، وفرق فيهم بقايا الأموال، فاتفقوا على طاعته. وقام بأمر دولته وتدبيرها بكتوزون. ولما بلغ خبر موته إلى ايلك خان سار إلى سمرقند، وانضم إليه فائق الخاصة، فسيره جريدة إلى بخارى، فلما سمع بمسيره الأمير منصور تحير في أمره، وأعجله عن التجهز، فسار عن بخارى، وقطع النهر، ودخل فائق بخارى، وأظهر أنه إنما قصد المقام بخدمة الأمير منصور، رعايةً لحق أسلافه عليه، إذ هو مولاهم، وأرسل إليه مشايخ بخارى ومقدمهم في العود إلى بلده وملكه، وأعطاه من نفسه ما يطمئن إليه من العهود والمواثيق، فعاد إليها ودخلها وولي فائق أمره وحكم في دولته، وولي بكتوزون إمرة الجيوش بخراسان. وكان محمود بن سبكتكين حينئذ مشغولاً بمحاربة أخيه إسماعيل، على ما نذكره إن شاء الله تعالى، وسار بكوتوزن إلى خراسان فوليها، واستقرت القواعد بها. ذكر موت سبكتكين وملك ولده إسماعيلوفي هذه السنة توفي ناصر الدولة سبكتكين في شعبان، وكان مقامه ببلخ، وقد ابتنى بها دوراً ومساكن، فمرض، وطال مرضه، وانزاح إلى هواء غزنة، فسار عن بلخ إليها، فمات في الطريق، فنقل ميتاً إلى غزنة ودفن فيها، وكانت مدة ملكه نحو عشرين سنة. وكان عادلاً، خيراً، كثير الجهاد، حسن الاعتقاد، ذا مروة تامة، وحسن عهد ووفاء، لا جرم بارك الله في بيته، ودام ملكهم مدة طويلة جازت مدة ملك السامانية والسلجوقية وغيرهم. وكان ابنه محمود أول من لقب بالسلطان، ولم يلقب به أحدٌ قبله. ولما حضرته الوفاة عهد إلى ولده إسماعيل بالملك بعده، فلما مات بايع الجند لإسماعيل، وحلفوا له، وأطلق لهم الأموال، وكان أصغر من أخيه محمود، فاستضعفه الجند، فاشتطوا في الطلب حتى أفنى الخزائن التي خلفها أبوه. ذكر استيلاء أخيه محمود بن سبكتكين على الملكلما توفي سبكتكين، وبلغ الخبر إلى ولده يمين الدولة محمود بنيسابور، جلس للعزاء، ثم أرسل إلى أخيه إسماعيل يعزيه بأبيه، ويعرفه أن أباه إنما عهد إليه لبعده عنه، ويذكره ما يتعين من تقديم الكبير، ويطلب منه الوفاق، وإنفاذ ما يخصه تركة أبيه. فلم يفعل، وترددت الرسل بينهما فلم تستقر القاعدة. فسار محمود عن نيسابور إلى هراة عازماً على قصد أخيه بغزنة، واجتمع بعمه بغراجق بهراة، فساعده على أخيه إسماعيل، وسار نحو بست، وبها أخوه نصر، فتبعه وأعانه وسار معه إلى غزنة. وبلغ الخبر إلى إسماعيل، وهو ببلخ، فسار عنها مجداً، فسبق أخاه محموداً إليها؛ وكان الأمراء الذين مع إسماعيل كاتبوا أخاه محموداً يستدعونه، ووعدوه الميل إليه، فجد في المسير، والتقى هو وإسماعيل بظاهر غزنة، واقتتلوا قتالاً شديداً، فانهزم إسماعيل وصعد إلى قلعة غزنة فاعتصم بها، فحصره أخوه محمود واستنزله بأمان. فلما نزل إليه أكرمه، وأحسن إليه، وأعلى منزلته، وشركه في ملكه وعاد إلى بلخ واستقامت الممالك له. وكانت مدة ملك إسماعيل سبعة أشهر، وهو فاضل، حسن المعرفة، له نظم ونثر، وخطب في بعض الجمعات، فكان يقول بعض الخطبة للخليفة: (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ المُلْكِ وَعَلَّمْتَني مِنْ تَأوِيلِ الأحَادِيثِ، فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ أنْتَ وَلِيِّي في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، تَوَفَّنيِ مُسْلِماً وَأَلْحِقْنيِ بِالصَّالحِيِنَ) يوسف: 101. ذكر وفاة فخر الدولة بن بويه وملك ابنه مجد الدولة في هذه السنة توفي فخر الدولة أبو الحسن علي بن ركن الدولة أبي علي الحسن بن بويه بقلعة طبرق، في شعبان. وكان سبب ذلك أنه أكل لحماً مشوياً، وأكل بعده عنباً، فأخذه المغص، ثم اشتد مرضه فمات منه. فلما مات كانت مفاتيح الخزائن بالري عند أم ولده مجد الدولة، فطلبوا له كفناً فلم يجدوه، وتعذر النزول إلى البلد لشدة شغب الديلم، فاشتروا له من قيم الجامع ثوباً كفنوه فيه، وزاد شغب الجند فلم يمكنهم دفنه فبقي حتى أنتن ثم دفنوه.
وحين توفي قام بملكه بعده ولده مجد الدولة أبو طالب رستم، وعمره أربع سنين، أجلسه الأمراء في الملك، وجعلوا أخاه شمس الدولة بهمذان وقرميسين إلى حدود العراق. وكان المرجع إلى والدة أبي طالب في تدبير الملك، وعن رأيها يصدرون، وبين يديها، في مباشرة الأعمال، أبو طاهر صاحب فخر الدولة، وأبو العباس الضبي الكافي. ذكر وفاة مأمون بن محمد وولاية ابنه علي وفيها توفي مأمون بن محمد، صاحب خوارزم والجرجانية، فلما توفي اجتمع أصحابه على ولده علي وبايعوه، واستقر له ما كان لأبيه، وراسل يمين الدولة محمود بن سبكتكين، وخطب إليه أخته، فزوجه، واتفقت كلمتهما وصارا يداً واحدةً إلى أن مات علي وقام بعده أخوه أبو العباس مأمون بن مأمون، واستقر في الملك، فأرسل إلى يمين الدولة يخطب أخته أيضاً، فأجابه إلى ذلك، وزوجه، فداما أيضاً على الاتفاق والاتحاد مدة. وسيرد من أخباره معه سنة سبع وأربعمائة إن شاء الله تعالى ما تقف عليه. ذكر وفاة العلاء بن الحسن وما كان بعده في هذه السنة توفي أبو القاسم العلاء بن الحسن نائب صمصام الدولة بخوزستان، وكان موته بعسكر مكرم، وكان شهماً، شجاعاً، حسن التدبير، فأنفذ صمصام الدولة أبا علي بن أستاذ هرمز، ومعه المال، ففرقه في الديلم، وسار إلى جنديسابور فدفع أصحاب بهاء الدولة عنها، وجرت له معهم وقائع كثيرة كان الظفر فيها له، وأزاح الأتراك عن خوزستان، وعادوا إلى واسط، وخلت لأبي علي البلاد، ورتب العمال، وجبى الأموال، وكاتب أتراك بهاء الدولة واستمالهم، فأتاه بعضهم فأحسن إليهم، واستمر حال أبي علي في أعمال خوزستان. ثم إن أبا محمد بن مكرم والأتراك عادوا من واسط، واستعد أبو علي للحرب، وجرى بينهم وقائع. ولم يكن للأتراك قوة على الديلم، فعزموا على العود إلى واسط ثانياً، فاتفق مسير بهاء الدولة من البصرة إلى القنطرة البيضاء، وكان ما نذكره إن شاء الله. ذكر القبض على علي بن المسيب وما كان بعد ذلك في هذه السنة قبض المقلد على أخيه علي. وكان سبب ذلك ما ذكرناه من الاختلاف الواقع بين أصحابهما بالموصل، واشتغل المقلد بما ذكرناه بالعراق، فلما خلا وجهه وعاد إلى الموصل عزم على الانتقام من أصحاب أخيه، ثم خافه، فأعمل الحيلة في قبض أخيه، فأحضر عسكره من الديلم والأكراد وأعلمهم أنه يريد قصد دقوقا، وحلفهم على الطاعة، وكانت داره ملاصقة دار أخيه، فنقب في الحائط ودخل إليه وهو سكران، فأخذه وأدخله الخزانة، وقبض عليه، وأرسل إلى زوجته يأمرها بأخذ ولديه قرواش وبدران واللحاق بتكريت، قبل أن يسمع أخوه الحسن الخبر، ففعلت ذلك، وخلصت، وكانت في الحلة التي له على أربعة فراسخ من تكريت. وسمع الحسن الخبر، فبادر إلى الحلة ليقبض أولاد أخيه، فلم يجدهم؛ وأقام المقلد بالموصل يستدعي رؤساء العرب ويخلع عليهم، فاجتمع عنده زهاء ألفي فارس، وسار الحسن في حلل أخيه، ومعه أولاد أخيه علي وحرمه، ويستنفرهم على المقلد، فاجتمع معهم نحو عشرة آلاف، وراسل المقلد يؤذنه بالحرب، فسار عن الموصل، وبقي بينهم منزلٌ واحدٌ، ونزل بإزاء العلث، فحضره وجوه العرب، واختلفوا عليه، فمنهم من أشار بالحرب ومنهم رافع بن محمد بن مقن؛ ومنهم من أشار بالكف عن القتال، وصلة الرحم، ومنهم غريب بن محمد بن مقن، وتنازع هو وأخوه. فبينما هم في ذلك قيل لمقلد: إن أختك رهيلة بنت المسيب تريد لقاءك وقد جاءتك؛ فركب وخرج إليها، فلم تزل معه حتى أطلق أخاه علياً، ورد إليه ماله ومثله معه، وأنزله في خيم ضربها له. فسر الناس بذلك، وتحالفا، وعاد علي إلى حلته. وعاد المقلد إلى الموصل، وتجهز للمسير إلى أبي الحسن علي بن مزيد الأسدي لأنه تعصب لأخيه علي، وقصد ولاية المقلد بالأذى فسار إليه.
ولما خرج عليٌ من محبسه اجتمع العرب إليه، وأشاروا عليه بقصد أخيه المقلد، فسار إلى الموصل، وبها أصحاب المقلد، فامتنعوا عليه، فافتتحها، فسمع المقلد بذلك، فعاد إليه، واجتاز في طريقه بحلة أخيه الحسن، فخرج إليه، ورأى كثرة عسكره، فخاف على أخيه علي منه، فأشار عليه بالوقوف ليصلح الأمر، وسار إلى أخيه علي وقال له: إن الأعور، يعني المقلد، قد أتاك بحده وحديده وأنت غافل؛ وأمره بإفساد عسكر المقلد، فكتب إليهم، فظفر المقلد بالكتب فأخذها وسار مجداً إلى الموصل، فخرج إليه أخواه علي والحسن وصالحاه، ودخل الموصل وهما معه. ثم خاف علي فهرب من الموصل ليلاً، وتبعه الحسن، وترددت الرسل بينهم، فاصطلحوا على أن يدخل أحدهما البلد في غيبة الآخر، وبقوا كذلك إلى سنة تسع وثمانين. ومات علي سنة تسعين وقام الحسن مقامه، فقصده المقلد ومعه بنو خفاجة، فهرب الحسن إلى العراق، وتبعه المقلد فلم يدركه فعاد. ولما استقر أمر المقلد، بعد أخيه علي، سار إلى بلد علي بن مزيد الأسدي فدخله ثانية، والتجأ ابن مزيد إلى مهذب الدولة، فتوسط ما بينه وبين المقلد، وأصلح الأمر معه، وسار المقلد إلى دقوقا فملكها. ذكر ملك جبرئيل دقوقافي هذه السنة ملك جبرئيل بن محمد دقوقا. وجبرئيل هذا كان من الرجالة الفرس ببغداد، وخد مهذب الدولة بالبطيحة، فهم بالغزو، وجمع جمعاً كثيراً، واشترى السلاح وسار فاجتاز في طريقه بدقوقا، فوجد المقلد بن المسيب يحاصرها، فاستغاث أهلها بجبريل فحماهم ومنع عنهم. وكان بدقوقا رجلان نصرانيان قد تمكنا في البلد، وحكما فيه، واستعبدا أهله، فاجتمع جماعة من المسلمين إلى جبرئيل وقالوا له: إنك تريد الغزو، ولست تدري أتبلغ غرضاً أم لا، وعندنا من هذين النصرانيين من قد تعبدنا، وحكم علينا، فلو أقمت عندنا، وكفيتنا أمرهما، ساعدناك على ذلك. فأقام وقبض عليهما، وأخذ مالهما، وقوي أمره، فملك البلد في شهر ربيع الأول، وثبت قدمه، وأحسن معاملة أهل البلد، وعدل فيهم، وبقي مدة على اختلاف الأحوال. ثم ملكها المقلد، وملكها بعده محمد بن عناز، ثم أخذها بعده قرواش، ثم انتقلت إلى فخر الدولة أبي غالب، فعاد جبرئيل هذا حينئذ إلى دقوقا، واجتمع مع أمير من الأكراد يقال له موصك بن جكويه، ودفعا عمال فخر الدولة عنها وأخذاها، فقصدها بدران بن المقلد وغلبهما وأخذها منهما. ذكر عدة حوادثفي هذه السنة خرج أبو الحسن علي بن مزيد على طاعة بهاء الدولة، فسير إليه عسكراً، فهرب من بين أيديهم إلى مكان لا يقدرون على الوصول إليه فيه، ثم أرسل بهاء الدولة وأصلح حاله معه وعاد إلى طاعته. وفيها توفي أبو الوفاء محمد بن المهندسي الحاسب. وفيها، في المحرم، توفي عبيدالله بن محمد بن حمران أبو عبدالله العكبري المعروف بابن بطة الحنبلي، وكان مولده في شوال سنة أربع وثلاثمائة، وكان زاهداً، عابداً، عالماً، ضعيفاً في الرواية. وفيها، في ذي القعدة، توفي أبو الحسين محمد بن أحمد بن إسماعيل المعروف بابن سمعون الواعظ، الزاهد، له كرامات، وكان مولده سنة ثلاثمائة. وفيها، في تاسع ذي الحجة، توفي الحسن بن عبدالله بن سعيد أبو أحمد العسكري، الراوية، العلامة، صاحب التصانيف الكثيرة في الأدب، واللغة، والأمثال، وغيرها. ثم دخلت سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة ذكر عود أبي القاسم السيمجوري إلى نيسابور قد ذكرنا مسير أبي القاسم بن سيمجور أخي أبي علي إلى جرجان ومقامه بها. فلما مات فخر الدولة أقام عنده ولده مجد الدولة، واجتمع عنده جماعة كثيرة من أصحاب أخيه. وكان قد أرسل إلى شمس المعالي يستدعيه من نيسابور ليسلمها إليه، فسار إليه حتى وافى جرجان، فلما بلغها رأى أبا القاسم قد سار عنها، فعاد شمس المعالي إلى نيسابور. فكتب فائق من بخارى إلى أبي القاسم يغريه ببكتوزون، ويأمره بقصد خراسان، وإخراج بكتوزون عنها لعدواة بينهما. فسار أبو القاسم عن جرجان نحو نيسابور، وسر سرية إلى أسفرايين، وبها عسكر لبكتوزون، فقاتلوهم وأجلوهم عن أسفرايين، واستولى أصحاب أي القاسم عليها، وسار أبو القاسم إلى نيسابور، فالتقى هو وبكتوزون بظاهرها في ربيع الأول، واقتتلوا واشتد القتال بينهم فانهزم أبو القاسم وقتل من أصحابه وأسر خلق كثير.
وسار أبو القاسم إلى قهستان وأقام بها حتى اجتمع إليه أصحابه، وسار إلى بوشنج واحتوى عليها، وتصرف فيها، فسار إليه بكتوزون، وترددت الرسل بينهما، حتى اصطلحا وتصاهرا، وعاد بكتوزون إلى نيسابور. ذكر استيلاء محمود بن سبكتكين على نيسابور وعوده عنهالما فرغ محمود من أمر أخيه، وملك غزنة، وعاد إلى بلخ رأى بكتوزون قد ولي خراسان، على ما ذكرناه، فأرسل إلى الأمير منصور بن نوح يذكر طاعته والمحاماة عن دولته، ويطلب خراسان، فأعاد الجواب يعتذر عن خراسان ويأمره بأخذ ترمذ وبلخ وما وراءها من أعمال بست وهراة، فلم يقنع بذلك، وأعاد الطلب، فلم يجبه إلى ذلك، فلما تيقن المنع سار إلى نيسابور، وبها بكتوزون، فلما بلغه خبر مسيره نحوه رحل عنها، فدخلها محمود وملكها. فلما سمع الأمير منصور بن نوح سار عن بخارى نحو نيسابور، فلما علم محمود بذلك سار عن نيسابور إلى مرو الروذ، ونزل عند قنطرة راعول ينتظر ما يكون منهم. ذكر عود قابوس إلى جرجانفي هذه السنة عاد شمس المعالي قابوس بن وشمكير إلى جرجان وملكها؛ ولما ملك فخر الدولة بن بويه جرجان والري أراد أن يسلم جرجان إلى قابوس، فرده عن ذلك الصاحب بن عباد، وعظمها في عينه، فأعرض عن الذي أراده، ونسي ما كان بينهما من الصحبة بخراسان، وأنه بسببه خرجت البلاد عن يد قابوس، والملك عقيم. وقد ذكرنا كيف أخذت منه، ومقامه بخراسان، وإنفاذ ملوك السامانية الجيوش في نصرته مرة بعد أخرى، فلم يقدر الله تعالى عود ملك إليه. ولما ولي سبكتكين خراسان اجتمع به ووعده أن يسير معه الجيوش ليرده إلى مملكته، فمضى إلى بلخ ومرض ومات. فلما كان هذه السنة، بعد موت فخر الدولة، سير شمس المعالي قابوس الأصبهبذ شهريار بن شروين إلى جبل شهريار، وعليه رستم بن المرزبان، خال مجد الدولة بن فخر الدولة، فاقتتلا، فانهزم رستم، واستولى الأصبهبذ على الجبل، وخطب لشمس المعالي، وكان باتي بن سعيد بناحية الاستندارية، وله ميل إلى شمس المعالي، فسار إلى آمل، وبها عسكر لمجد الدولة، فطردهم عنها واستولى عليها، وخطب لقابوس، وكتب إليه بذلك. ثم إن أهل جرجان كتبوا إلى قابوس يستدعونه، فسار إليهم من نيسابور، وسار الأصبهبذ وباتي بن سعيد إلى جرجان، وبها عسكر لمجد الدولة، فالتقوا واقتتلوا، فانهزم عسكر مجد الدولة إلى جرجان، فلما بلغوها صادفوا مقدمة قابوس قد بلغتها، فأيقنوا بالهلاك، وانهزموا من أصحاب قابوس هزيمة ثانية، وكانت قرحاً على قرح، ودخل شمس المعالي جرجان في شعبان من هذه السنة. وبلغ المنهزمون الري، فجهزت العساكر من الري نحو جرجان، فساروا وحصروها، فغلت الأسعار بالبلد، وضاقت الأمور بالعسكر أيضاً، وتوالت عليهم الأمطار والرياح، فاضطروا إلى الرحيل، فتبعهم شمس المعالي فلحقهم وواقعهم فاقتتلوا، وانهزم عسكر الري وأسر من أعيانهم جماعة كثيرة، وقتل أكثر منهم، فأطلق شمس المعالي الأسرى، واستولى على تلك الأعمال ما بين جرجان وأستراباذ. ثم إن الأصبهبذ حدث نفسه بالاستقلال، والتفرد عن قابوس، واغتر بما اجتمع عنده من الأموال والذخائر، فسارت إليه العساكر من الري، وعليها المرزبان، خال مجد الدولة، فهزموا الأصبهبذ وأسروه، ونادوا بشعار شمس المعالي لوحشة كانت عند المرزبان من مجد الدولة، وكتب إلى شمس المعالي بذلك، وانضافت مملكة الجبل جميعها إلى ممالك جرجان وطبرستان، فولاها شمس المعالي ولده منوجهر، ففتح الرويان وسالوس، وراسل قابوس يمين الدولة محموداً، وهاداه، وصالحه، واتفقا على ذلك. ذكر مسير بهاء الدولة إلى واسطفي هذه السنة عاد أبو علي بن إسماعيل إلى طاعة بهاء الدولة، وهو بواسط، فوزر له، ودبر أمره، وأشار عليه بالمسير إلى أبي محمد بن مكرم ومن معه من الجند ومساعدتهم، ففعل ذلك، وسار على كرهٍ وضيقٍ، فنزل بالقنطرة البيضاء، وثبت أبو علي بن أستاذ هرمز وعسكره، وجرى لهم معه وقائع كثيرة.
وضاق الأمر ببهاء الدولة، وتعذرت عليه الأقوات، فاستمد بدر بن حسنويه، فأنفذ إليه شيئاً قام ببعض ما يريده، وأشرف بهاء الدولة على الخطر، وسعى أعداء أبي علي بن إسماعيل به حتى كاد يبطش به، فتجدد من أمر ابني بختيار وقتل صمصام الدولة ما يأتي ذكره، وأتاه الفرج من حيث لم يحتسب، وصلح أمر أبي علي عنده، واجتمعت الكلمة عليه، وسيأتي شرح ذلك، إن شاء الله تعالى. ذكر قتل صمصام الدولةفي هذه السنة، في ذي الحجة، قتل صمصام الدولة بن عضد الدولة. وسبب ذلك أن جماعة كثيرة من الديلم استوحشوا من صمصام الدولة لأنه أمر بعرضهم، وإسقاط من ليس بصحيح النسب، فأسقط منهم مقدار ألف رجل، فبقوا حيارى لا يدرون ما يصنعون. واتفق أن أبا القاسم وأبا نصر ابني عز الدولة بختيار كانا مقبوضين، فخدعا الموكلين بهما في القلعة، فأفرجوا عنهما، فجمعا لفيفاً من الأكراد، واتصل خبرهما بالذين أسقطوا من الديلم، فأتوهم، وقصدوا إلى أرجان، فاجتمعت عليها العساكر، وتحير صمصام الدولة، ولم يكن عنده من يدبره. وكان أبو جعفر أستاذ هرمز مقيماً بفسا، فأشار عليه بعض من عنده بتفريق ما عنده من المال في الرجال، والمسير إلى صمصام الدولة، ، وأخذه إلى عسكره بالأهواز، وخوفه إن لم يفعل ذلك. فشح بالمال، فثار به الجند ونهبوا داره وهربوا، فاختفى، فأخذ وأتي به إلى ابني بختيار، فحبس، ثم احتال فنجا. وأما صمصام الدولة فإنه أشار عليه أصحابه بالصعود إلى القلعة التي على باب شيراز والامتناع بها إلى أن يأتي عسكره ومن يمنعه، فأراد الصعود إليها، فلم يمكنه المستحفظ بها، وكان معه ثلاثمائة رجل، فقالوا له: الرأي أننا نأخذك ووالدتك، ونسير إلى أبي علي بن أستاذ هرمز؛ وأشار بعضهم بقصد الأكراد وأخذهم والتقوي بهم، ففعل ذلك، وخرج معهم بخزائنه وأمواله، فنهبوه، وأرادوا أخذه فهرب وسار إلى الدودمان، على مرحلتين من شيراز. وعرف أبو نصر بن بختيار الخبر، فبادر إلى شيراز، ووثب رئيس الدودمان، واسمه طاهر، بصمصام الدولة فأخذه، وأتاه أبو نصر بن بختيار وأخذه منه فقتله في ذي الحجة، فلما حمل رأسه إليه قال: هذه سنة سنها أبوك، يعني ما كان من قتل عضد الدولة بختيار. وكان عمر صمصام الدولة خمساً وثلاثين سنة وسبعة أشهر، ومدة إمارته بفارس تسع سنين وثمانية أيام، وكان كريماً حليماً. وأما والدته فسلمت إلى بعض قواد الديلم، فقتلها وبنى عليها دكة في داره، فلما ملك بهاء الدولة فارس أخرجها ودفنها في تربة بني بويه. ذكر هرب ابن الوثابفي هذه السنة هرب أبو عبدالله بن جعفر المعروف بابن الوثاب من الاعتقال في دار الخلافة. وكان هذا الرجل يقرب بالنسب من الطائع، فلما خلع الطائع هرب هذا وصار عند مهذب الدولة، فأرسل القادر بالله في أمره، فأخرجه، فسار إلى المدائن، وأتى خبره إلى القادر فأخذه وحبسه، فهرب هذه السنة، ومضى إلى كيلان، وادعى أنه هو الطائع لله، وذكر من أمور الخلافة ما كان يعرفه، وزوجه محمد بن العباس، مقدم كيلان، وشد منه، وأقام له الدعوة، وأطاعه أهل نواحٍ أخر، وأدوا إليه العشر على عادتهم. وورد من هؤلاء القوم جماعة يحجون، فأحضرهم القادر وكشف لهم حاله، وكتب على أيديهم كتباً في المعنى، فلم يقدح ذلك فيه. وكان أهل كيلان يرجعون إلى القاضي أبي القاسم بن كج، فكوتب من بغداد في المعنى، فكشف لهم الأمر، فأخرجوا أبا عبدالله عنهم. ذكر عدة حوادثفي هذه السنة عظم أمر بدر بن حسنويه، وعلا شأنه، ولقب، من ديوان الخليفة، ناصر الدين والدولة، وكان كثير الصدقات بالحرمين، ويكثر الخرج على العرب بطريق مكة ليكفوا عن أذى الحجاج، ومنع أصحابه من الفساد وقطع الطريق، فعظم محله وسار ذكره. وفيها نظر أبو علي بن أبي الريان في الوزارة بواسط. وفيها مات أبو القاسم عبد العزيز بن يوسف الجكار. ثم دخلت سنة تسع وثمانين وثلاثمائة ذكر القبض على منصور بن نوح وملك أخيه عبد الملك في هذه السنة قبض على الأمير منصور بن نوح بن منصور الساماني، صاحب بخارى وما وراء النهر، وملك أخوه عبد الملك.
وسبب قبضه ما ذكرناه من قصد محمود بن سبكتكين بكتوزون بخراسان، وعوده عن نيسابور إلى مرو الروذ، فلما نزلها سار بكتوزون إلى الأمير منصور، وهو بسرخس، فاجتمع به فلم ير من إكرامه وبره ما كان يؤمله، فشكا ذلك إلى فائق، فقابله فائق بأضعاف شكواه، فاتفقا على خلعه من الملك، وإقامة أخيه مقامه، وأجابهما إلى ذلك جماعة من أعيان العسكر، فاستحضره بكتوزون بعلة الاجتماع لتدبير ما هم بصدده من أمر محمود، فلما اجتمعوا به قبضوا عليه، وأمر بكتوزون من سلمه فأعماه، ولم يراقب الله ولا إحسان مواليه، وأقاموا أخاه عبد الملك مقامه في الملك، وهو صبي صغير. وكانت مدة ولاية منصور سنةً وسبعة أشهر. وماج الناس بعضهم في بعض، وأرسل محمود إلى فائق وبكتوزون يلومهما، ويقبح فعلهما، وقويت نفسه على لقائهما، وطمع في الاستقلال بالملك، فسار نحوهما عازماً على القتال. ذكر استيلاء يمين الدولة محمود بن سبكتكين على خراسانلما قبض الأمير منصور سار محمود نحو فائق وبكتوزون، ومعهما عبد الملك ابن نوح، فلما سمعوا بمسيره ساروا إليه، فالتقوا بمرو آخر جمادى الأولى، واقتتلوا أشد قتالٍ رآه الناس إلى الليل، فانهزم بكتوزون وفائق ومن معهما. فأما عبد الملك وفائق فإنهما لحقا ببخارى، وقصد بكتوزون نيسابور، وقصد أبو القاسم بن سيمجور قهستان، فرأى محمود أن يقصد بكتوزون وأبا القاسم، ويعجلهما عن الاجتماع والاحتشاد، فسار إلى طوس، فهرب منه بكتوزون إلى نواحي جرجان، فأرسل محمود خلفه أكبر قواده وأمرائه وهو أرسلان الجاذب في عسكر جرار، فاتبعه حتى ألحقه بجرجان، وعاد فاستخلفه محمود على طوس، وسار إلى هراة. فلما علم بكتوزون بمسير محمود عن نيسابور عاد إليها فملكها، فقصده محمود، فأجفل من بين يديه إجفال الظليم، واجتاز بمرو فنهبها، وسار عنها إلى بخارى، واستقر ملك محمود بخراسان، فأزال عنها اسم السامانية، وخطب فيها للقادر بالله، وكان إلى هذا الوقت لا يخطب له فيها، إنما كان يخطب للطائع لله، واستقل بملكها منفرداً، وتلك سنة الله تعالى يؤتي الملك من يشاء، وينزعه ممن يشاء. وولى محمود قيادة جيوش خراسان أخاه نصراً، وجعله بنيسابور على ما كان يليه آل سيمجور للسامانية، وسار هو إلى بلخ، مستقر والده، فاتخذها دار ملكٍ، واتفق أصحاب الأطراف بخراسان على طاعته كآل فريغون، أصحاب الجوزجان، ونحن نذكرهم إن شاء الله تعالى، وكالشار الشاه، صاحب غرشستان، ونحن نذكر ها هنا أخبار هذا الشار، فاعلم أن هذا اللقب، وهو الشار، لقب كل من يملك بلاد غرشستان، ككسرى للفرس، وقيصر للروم، والنجاشي للحبشة، وكان الشار أبو نصر قد اعتزل الملك وسلمه إلى ولده الشاه، وفيه لوثة وهوج، واشتغل والده أبو نصر بالعلوم ومجالسة العلماء. ولما عصى أبو علي بن سيمجور على الأمير نوح أرسل إلى غرشستان من حصرها، وأجلى عنها الشاه الشار ووالده أبا نصر، فقصدا حصناً منيعاً في آخر ولايتهما، فتحصنا به إلى أن جاء سبكتكين إلى نصرة الأمير نوح، فنزلا إليه وأعاناه على أبي علي وعادا إلى ملكهما. فلما ملك الآن يمين الدولة محمود خراسان أطاعاه وخطبا له. ثم إن يمين الدولة، بعد هذا، أراد الغزوة إلى الهند، فجمع لها وتجهز، وكتب إلى الشاه الشار يستدعيه ليشهد معه غزوته، فامتنع وعصى، فلما فرغ من غزوته سير إليه الجيوش ليملكوا بلاده، فلما دخلوا البلاد طلب والده أبو نصر الأمان، فأجيب إلى ذلك، وحمل إلى يمين الدولة فأكرمه، واعتذر أبو نصر بعقوق ولده، وخلافه عليه، فأمره بالمقام بهراة متوسعاً عليه إلى أن مات سنة اثنتين وأربعمائة. وأما ولده الشاه فإنه قصد ذلك الحصن الذي احتمى به على أبي علي، فأقام به ومعه أمواله وأصحابه، فحصره عسكر يمين الدولة في حصنه، ونصبوا عليه المجانيق، وألحوا عليه بالقتال ليلاً ونهاراً، فانهدمت أسوار حصنه، وتسلق العسكر إليه، فلما أيقن بالعطب طلب الأمان، والعسكر يقاتله، فلم يزل كذلك حتى أخذ أسيراً، وحمل إلى يمين الدولة، فضرب تأديباً له، ثم أودع السجن إلى أن مات، وكان موته قبل موت والده.
ورأيت عدة مجلدات من كتاب التهذيب للأزهري في اللغة بخطه، وعليه ما هذه نسخته: يقول محمد بن أحمد بن الأزهري قرأ علي الشار أبو نصر هذا الجزء من أوله إلى آخره، وكتبه بيده صح. فهذا يدل على اشتغاله وعلمه بالعربية، فإن من يصحب مثل الأزهري، ويقرأ كتابه التهذيب، يكون فاضلاً. ذكر انقراض دولة السامانية | |
|
| |
الشيخ عودة الشيخ عودة
عدد المساهمات : 1748 تاريخ التسجيل : 28/09/2008 العمر : 74
| موضوع: رد: كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير الأحد فبراير 23, 2014 6:03 am | |
| وملك الترك ما وراء النهر في هذه السنة انقرضت دولة آل سامان على يد محمود بن سبكتكين، وايلك الخان التركي، واسمه أبو نصر أحمد بن علي، ولقبه شمس الدولة. فأما محمود فإنه ملك خراسان، كما ذكرناه، وبقي بيد عبد الملك بن نوح ما وراء النهر، فلما انهزم من محمود قصد بخارى واجتمع بها هو وفائق وبكتوزون وغيرهما من الأمراء والأكابر، فقويت نفوسهم، وشرعوا في جمع العساكر، وعزموا على العود إلى خراسان، فاتفق أن مات فائق، وكان موته في شعبان من هذه السنة، فلما مات ضعفت نفوسهم، ووهنت قوتهم، فإنه كان هو المشار إليه من بينهم، وكان خصياً من موالي نوح بن نصر. وبلغ خبرهم إلى ايلك الخان، فسار في جمع الأتراك إلى بخارى، وأظهر لعبد الملك المودة والموالاة، والحمية له، فظنوه صادقاً، ولم يحترسوا منه، وخرج إليه بكتوزون وغيره من الأمراء والقواد، فلما اجتمعوا قبض عليهم، وسار حتى دخل بخارى يوم الثلاثاء عاشر ذي القعدة من هذه السنة، فلم يدر عبد الملك ما يصنع لقلة عدده، فاختفى ونزل ايلك الخان دار الإمارة، وبث الطلب والعيون على عبد الملك، حتى ظفر به، فأودعه بافكند فمات بها، وكان آخر ملوك السامانية، وانقضت دولتهم على يده كأن لم تغن بالأمس، كدأب الدولة قبلها، إن في ذلك لعبرةً لأولي الأبصار. وحبس معه أخوه أبو الحرث منصور بن نوح الذي كان في الملك قبله، وأخواه أبو إبراهيم، إسماعيل، وأبو يعقوب ابنا نوح، وعماه أبو زكرياء وأبو سليمان، وغيرهم من آل سامان، وأفرد كل واحد منهم في حجرة. وكانت دولتهم قد انتشرت وطبقت كثيراً من الأرض من حدود حلوان إلى بلاد الترك، بما وراء النهر، وكانت من أحسن الدولة سيرةً وعدلاً، وعبد الملك هذا هو عبد الملك بن نوح بن منصور بن نوح بن نصر بن أحمد بن إسماعيل كلهم ملكوا، وكان منهم من ليس مذكورا في هذا النسب؛ وعبد الملك بن نوح بن نصر ملك قبل أخيه منصور بن نوح المذكور، وكان منهم أيضاً منصور بن نوح بن منصور أخو عبد الملك هذا الأخير زال الملك في ولايته ولي قبله. ذكر ملك بهاء الدولة فارس وخوزستانفي هذه السنة دخل الديلم الذين مع أبي علي بن أستاذ هرمز بالأهواز في طاعة بهاء الدولة. وكان سبب ذلك أن ابني بختيار لما قتلا صمصام الدولة، كما تقدم، وملكا بلاد فارس، كتاب إلى أبي علي بن أستاذ هرمز بالخبر، ويذكران تعويلهما عليه، واعتضادهما به، ويأمرانه بأخذ اليمين لهما على من معه من الديلم، والمقام بمكانه، والجد بمحاربة بهاء الدولة. فخافهما أبو علي لما كان أسلفه إليهما من قبل أخويهما وأسرهما، فجمع الديلم الذين معه وأخبرهم الحال، واستشارهم فيما يفعل، فأشاروا بطاعة ابني بختيار ومقاتلة بهاء الدولة، فلم يوافقهم على ذلك، ورأى أن يراسل بهاء الدولة ويستميله ويحلفه لهم، فقالوا: إنا نخاف الأتراك، وقد عرفت ما بيننا وبينهم؛ فسكت عنهم وتفرقوا. وراسله بهاء الدولة يستميله، ويبذل له وللديلم الأمان والإحسان، وترددت الرسل، وقال بهاء الدولة: إن ثأري وثأركم عند من قتل أخي، فلا عذر لكم في التخلف عن الأخذ بثأره؛ واستمال الديلم فأجابوه إلى الدخول في طاعته، وأنفذوا جماعة من أعيانهم إلى بهاء الدولة فحلفوه واستوثقوا منه، وكبتوا إلى أصحابهم المقيمين بالسوس بصورة الحال. وركب بهاء الدولة من الغد إلى باب السوس، رجاء أن يخرج من فيه إلى طاعته، فخرجوا إليه في السلاح، وقاتلوه قتالاً شديداً لم يقاتلوا مثله، فضاق صدره، فقيل له إن هذه عادة الديلم أن يشتد قتالهم عند الصلح، لئلا يظن بهم، ثم كفوا عن القتال وأرسلوا من يحلفه لهم، ونزلوا إلى خدمته، واختلط العسكران، وساروا إلى الأهواز، فقرر أبو علي بن إسماعيل أمورها، وقسم الإقطاعات بين الأتراك والديلم، ثم ساروا إلى رامهرمز فاستولوا عليها وعلى أرجان وغيرها من بلاد خوزستان.
وسار أبو علي بن إسماعيل إلى شيراز، فنزل بظاهرها، فخرج إليه ابنا بختيار في أصحابهما، فحاربوه، فلما اشتدت الحرب مال بعض من معهما إليه، ودخل بعض أصحابه البلد، ونادوا بشعار بهاء الدولة، وكان النقيب أبو أحمد الموسوي بشيراز قد وردها رسولاً من بهاء الدولة إلى صمصام الدولة، فلما قتل صمصام الدولة كان بشيراز، فلما سمع النداء بشعار بهاء الدولة ظن أن الفتح قد تم، فقصد الجامع، وكان يوم الجمعة، وأقام الخطبة لبهاء الدولة. ثم عاد ابنا بختيار، واجتمع إليهما أصحابهما، فخاف النقيب، فاختفى، وحمل في سلةٍ إلى أبي علي بن إسماعيل؛ ثم إن أصحاب ابني بختيار قصدوا أبا علي وأطاعوه، فاستولى على شيراز، وهرب ابنا بختيار، فأما أبو نصر فإنه لحق ببلاد الديلم، وأما الثاني، وهو أبو القاسم، فلحق ببدر بن حسنويه، ثم قصد البطيحة. ولما ملك أبو علي شيراز كتب إلى بهاء الدولة بالفتح، فسار إليها ونزلها، فلما استقر بها أمر بنهب قرية الدودمان وإحراقها، وقتل كل من كان بها من أهلهم فاستأصلهم، وأخرج أخاه صمصام الدولة وجد أكفانه، وحمل إلى التربة بشيراز فدفن بها، وسير عسكراً مع أبي الفتح أستاذ هرمز إلى كرمان فملكها وأقام بها نائباً عن بهاء الدولة. إلى ها هنا آخر ما في ذيل الوزير أي شجاع، رحمه الله. ذكر مسير باديس إلى زناتةفي هذه السنة، منتصف صفر، أمر باديس بن المنصور، صاحب إفريقية، نائبه محمد بن أبي العرب بالتجهز والاستكثار من العساكر والعدد، والمسير إلى زناتة. وسبب ذلك أن عمه يطوفت كتب إليه يعلمه أن زيري بن عطية الملقب بالقرطاس، وقد تقدم ذكره، نزل عليه بتاهرت محارباً، فأمر محمداً بالتجهز إليه، فسار في عساكر كثيرة حتى وصل إلى أشير، وبها حماد بن يوسف عم باديس، وكان قد أقطعه إياها باديس، فرحل حماد معه، فوصل إلى تاهرت، واجتمعا بيطوفت، وبينهم وبين زيري بن عطية مرحلتان، فزحفوا إليه، فكانت بينهما حروب عظيمة. وكان أكثر عسكر حماد يكرهونه لقلة عطائه، فلما اشتد القتال انهزموا، فتبعهم جميع العسكر، فأراد محمد بن أبي العرب أن يرد الناس، فلم يقدر على ذلك، وتمت الهزيمة، وملك زيري بن عطية مالهم وعددهم ورجعت العساكر إلى أشير. وبلغ خبر الهزيمة إلى باديس، فرحل، فلما قارب طبنة بعث في طلب فلفل بن سعيد، فخاف، فأرسل يعتذر إليه، وطلب عهداً بإقطاع مدينة طبنة، فكتب له، وسار باديس، فلما أبعد قصد فلفل مدينة طبنة، وغلب على ما حولها، وقص باغاية فحصرها، وباديس سائر إلى أشير. فلما سمع زيري ابن عطية بأنه قد قرب منه رحل إلى تاهرت، فقصده باديس، فسار زيري إلى العرب. فلما سمع باديس برحيله استعمل عمه يطوفت على أشير، وأعطاه أموالاً وعدداً، وعاد إلى أشير، فبلغه ما فعل فلفل بن سعيد، فأرسل إليه العساكر، وبقي يطوفت ومعه أعمامه وأولاد أعمامه، فلما أبعد عنهم باديس عصوا، وخالفوا عليه، منهم ماكسن، وزاوي وغيرهما، وقبضوا على يطوفت، وأخذوا جميع ما معه من المال، فهرب من أيديهم وعاد إلى باديس. وأما فلفل بن سعيد فإنه لما وصل إليه العسكر المسير إلى قتاله لقيهم وقاتلهم وهزمهم، وقتل فيهم، وسار يطلب القيروان. فسار عند ذلك باديس إلى باغاية، فلقيه أهلها، فعرفوه ما قاسوه من قتال فلفل، وأنه حصرهم خمسة وأربعين يوماً، فشكرهم، ووعدهم الإحسان، وسار يطلب فلفلاً، فوصل إلى مرمجنة، وسار فلفل إليه في جمع كثير من البربر وزناتة، ومعه كل من في نفسه حقد على باديس وأهل بيته، فالتقوا بوادي اغلان، وكان بينهم حرب عظيمة لم يسمع بمثلها، وطال القتال بينهم، وصبر الفريقان، ثم أنزل الله تعالى نصره على باديس وصنهاجة، وانهزم البربر وزناتة هزيمة قبيحة، وانهزم فلفل فأبعد في الهزيمة، وقتل من زويلة تسعة آلاف قتيل سوى من قتل من البربر، وعاد باديس إلى قصره، وفرح أهل القيروان لأنهم خافوا أن يأتيهم فلفل. ثم إن عمومة باديس اتصلوا بفلفل، وصاروا معه على باديس، فلما سمع باديس بذلك سار إليهم، فلما وصل قصر الإفريقي وصله أن عمومته فارقوا فلفلاً، ولم يبق معه سوى ماكسن بن زيري، وذلك أول سنة تسعين وثلاثمائة. ذكر ملك الحاكم طرابلس الغرب وعودها إلى باديس
كان لباديس نائب بطرابلس الغرب، فكاتب الحاكم بأمر الله بمصر، وطلب أن يسلم إليه طرابلس ويلتحق به، فأرسل إليه الحاكم يأنس الصقلي، وكان خصيصاً بالحاكم، وهو المتولي لبلاد برقة، فوصل يأنس وتسلم طرابلس وأقام بها، وذلك سنة تسعين. فأرسل باديس إلى يأنس يسأله عن سبب وصوله إلى طرابلس، وقال له: إن كان الحاكم استعملك عليها فأرسل العهد لأقف عليه. فقال يأنس: إنما أرسلني معيناً ونجدةً إن احتيج إي، ومثلي لا يطلب منه عهد بولايةً لمحلي من دولة الحاكم. فسير إليه جيشاً، فلقيهم يأنس خارج طرابلس، فقتل في المعركة، وانهزم أصحابه ودخلوا طرابلس فتحصنوا بها. وكان قد قتل منهم في المعركة كثير، ونزل عيهم الجيش وحصرهم، وأرسلوا إلى الحاكم يستمدونه، فجهز جيشاً عليهم يحيى بن علي الأندلسي، وسيرهم إلى طرابلس، وأطلق لهم مالاً على برقة، فلم يجد يحيى فيها مالاً، فاختلت حاله، فسار إلى فلفل، وكان قد دخل إلى طرابلس واستولى عليها، فأقام معه فيها، واستوطنها من ذلك الوقت. وسنذكر باقي خبرهم سنة ثلاث وتسعين. وفي سنة إحدى وتسعين سار ماكسن بن زيري، عم أبي باديس، إلى أشير، وبها ابن أخيه حماد بن يوسف بلكين، فكان بينهما حرب شديدة قتل فيها ماكسن وأولاده محسن، وباديس، وحباسة، وتوفي زيري بن عطية بعد قتل ماكسن بتسعة أيام. ذكر عدة حوادثفي هذه السنة، عاشر ربيع الأول، انقض كوكب عظيم ضحوة نهار. وفيها عمل أهل باب البصرة يوم السادس والعشرين من ذي الحجة زينة عظيمة وفرحاً كثيراً، وكذلك عملوا ثامن عشر المحرم مثل ما يعمل الشيعة في عاشوراء، وسبب ذلك أن الشيعة بالكرخ كانوا ينصبون القباب، وتعلق الثياب للزينة، واليوم الثامن عشر من ذي الحجة، وهو يوم الغدير، وكانوا يعملون يوم عاشوراء في المأتم، والنوح، وإظهار الحزن ما هو مشهور، فعمل أهل باب البصرة في مقابل ذلك، بعد يوم الغدير بثمانية أيام، مثلهم وقالوا: هو يوم دخل النبي، صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر، رضي الله عنه، والغار؛ وعملوا بعد عاشوراء بثمانية أيام مثل ما يعملون يوم عاشوراء، وقالوا: هو يوم قتل مصعب بن الزبير. وتوفي هذه السنة أحمد بن محمد بن عيسى أبو محمد السرخسي المقريء الفقيه الشافعي، وهو من أصحاب أبي إسحاق المروزي، وله رواية للحديث أيضاً، وكان شيخ خراسان في زمانه، وقرأ القرآن على ابن مجاهد، والأدب على ابن الأنباري، ومات وله ست وتسعون سنة؛ وعبدالله بن محمد بن إسحاق ابن سليمان أبو القاسم البزاز، المعروف بابن حبابة، وكان شيخ الحنابلة في زمانه. ثم دخلت سنة تسعين وثلاثمائة ذكر خروج إسماعيل بن نوح وما جرى له بخراسان في هذه السنة خرج أبو إبراهيم إسماعيل بن نوح من محبسه، وكان قد حبسه ايلك الخان لما ملك بخارى مع جماعة من أهله. وسبب خلاصه أنه كانت تأتيه جارية تخدمه، وتتعرف أحواله، فلبس ما ان عليها وخرج، فظنه الموكلون الجارية، فلما خرج استخفى عند عجوز من أهل بخارى، فلما سكن الطلب عنه سار من بخارى إلى خوارزم، وتلقب المنتصر، وجامع إليه بقايا القواد السامانية والأجناد، فكثف جمعه، وسير قائداً من أصحابه في عسكر إلى بخارى، فبيت من بها من أصحاب ايلك الخان، فهزمهم وقتل منهم، وكبس جماعة من أعيانهم، مثل جعفر تكين وغيره، وتبع المنهزمين نحو ايلك الخان إلى حدود سمرقند، فلقي هناك عسكراً جراراً جعلهم ايلك الخان يحفظون سمرقند، فانضاف إليهم المنهزمون، ولقوا عسكر المنتصر، فانهزم أيضاً عسكر ايلك الخان، وتبعهم عسكر المنتصر، فغنموا أثقالهم فصلحت أحوالهم بها، وعادوا إلى بخارى، فاستبشر أهلها بعود السامانية. ثم إن ايلك جمع الترك وقصد بخارى، فانحاز من بها من السامانية وعبروا النهر إلى آمل الشط، فضاقت عليهم، فساروا هم والمنتصر نحو أبيورد فملكها، وجبوا أموالها،وساروا نحو نيسابور، وبها منصور بن سبكتكين، نائباً عن أخيه محمود، فالتقوا قرب نيسابور في ربيع الآخر، فاقتتلوا، فانهزم منصور وأصحابه، وقصدوا هراة، وملك المنتصر نيسابور، وكثر جمعه.
وبلغ يمين الدولة الخبر، فسار مجداً نحو نيسابور، فلما قاربها سار عنها المنتصر إلى أسفرايين، فلما أزعجه الطلب سار نحو شمس المعالي قابوس ابن وشمكير وملتجئاً إيه ومتكثراً به، فأكرمه مورده، وحمل إليه شيئاً كثيراً، وأشار على المنتصر بقصد الري إذ كانت ليس بها من يذب عنها، لاشتغال أصحابها باختلافهم، ووعده بأن ينجده بعسكر جرار مع أولاده، فقبل مشورته وسار نحو الري، فنازلها، فضعف من بها عن مقاومته، إلا أنهم حفظوا البلد منه، ودسوا إلى أعيان عسكره كأبي القاسم بن سيمجور وغيره، وبذلوا لهم الأموال ليردوه عنهم، ففعلوا ذلك، وصغروا أمر الري عنده وحسنوا له العود إلى خراسان. فسار نحو الدامغان، وعاد عنه عسكر قابوس. ووصل المنتصر إلى نيسابور في آخر شوال سنة إحدى وتسعين وثلاثمائة، فجبى له الأموال بها، فأرسل إليه يمين الدولة جيشاً فلقوه، فانهزم المنتصر وسار نحو أبيورد، وقصد جرجان، فرده شمس المعالي عنها، فقصد سرخس وجبى أموالها وسكنها. فسار إليه منصور بن سبكتكين من نيسابور، فالتقوا بظاهر سرخس واقتتلوا، فانهزم المنتصر وأصحابه، وأسر أبو القاسم علي ابن محمد بن سيمجور وجماعة من أعيان عسكره، وحملوا إلى المنصور، فسيرهم إلى غزنة، وذلك في ربيع الأول سنة اثنتين وتسعين. وسار المنتصر تائهاً حتى وافى الأتراك الغزية ولهم ميل إلى آل سامان، فحركتهم الحمية، واجتمعوا معه، وسار بهم نحو ايلك الخان، وكان ذلك في شوال سنة ثلاث وتسعين، فلقيهم ايلك بنواحي سمرقند، فهزموه واستولوا على أمواله وسواده، وأسروا جماعة من قواده وعادوا إلى أوطانهم، واجتمعوا على إطلاق الأسرى تقرباً إلى ايلك الخان بذلك. فعلم المنتصر، فاختار من أصحابه جماعة يثق بهم، وسار بهم، فعبر النهر، ونزل بآمل الشط، فلم يقبله مكان، وكلما قصد مكاناً رده أهله خوفاً من معرته، فعاد وعبر النهر إلى بخارى، وطلب واليها لايلك الخان، فلقيه واقتتلوا، فانهزم المنتصر إلى دبوسية وجمع بها، ثم عاودهم فهزمهم، وخرج إليه خلق كثير من فتيان سمرقند، وصاروا في جملته، وحمل له أهلها المال والآلات والثياب والدواب وغير ذلك. فلما سمع ايلك الخان بحاله جمع الأتراك وسار إليه في قضه وقضيضه، والتقوا بنواحي سمرقند، واشتدت الحرب بينهم، فانهزم ايلك الخان، وكان ذلك في شعبان سنة أربع وتسعين، وغنموا أمواله ودوابه. وعاد ايلك الخان إلى بلاد الترك، فجمع وحشد وعاد إلى المنتصر، فوافق عوده تراجع الغزية الذين كانوا مع المنتصر إلى أوطانهم، وقد زحف جمعه، فاقتتلوا بنواحي أسروشنة، فانهزم المنتصر، وأكثر الترك في أصحابه القتل. وسار المنتصر منهزماً، حتى عبر النهر، وسار إلى الجوزجان فنهب أموالها، وسار يطلب مرو، فسير يمين الدولة العساكر، ففارق مكانه وسار وهم في أثره، حتى أتى بسطام، فأرسل إليه قابوس عسكراً أزعجه عنها، فلما ضاقت عليه المذاهب عاد إلى ما وراء النهر، فعبر أصحابه وقد ضجروا وسئموا من السهر والتعب والخوف، ففارقه كثير منهم إلى بعض أصحاب ايلك الخان، فأعلموهم بمكانه، فلم يشعر المنتصر إلا وقد أحاطت به الخيل من كل جانب، فطاردهم ساعة ثم ولاهم الدبر وسار فنزل بحلة من العرب في طاعة يمين الدولة، وكان يمين الدولة قد أوصاهم بطلبه، فلما رأوه أمهلوه حتى أظلم الليل، ثم وثبوا عليه فأخذوه وقتلوه، وكان ذلك خاتمه أمره؛ وإنما أوردت الحادثة هذه السنة لترد متتابعة، فلو تفرقت في السنين لم تعلم على هذه الصورة لقلتها. ذكر محاصرة يمين الدولة سجستانفي هذه السنة سار يمين الدولة إلى سجستان، وصاحبها خلف بن أحمد، فحصره بها. وكان سبب ذلك أن يمين الدولة لما اشتغل بالحروب التي ذكرناها سير خلف بن أحمد ابنه طاهراً إلى قهسنان فملكها، ثم سار منها إلى بوشنج فملكها، وكانت هي وهراة لبغراجق، عم يمين الدولة، فلما فرغ يمين الدولة من تلك الحروب استأذنه عمه في إخراج طاهر بن خلف من ولايته، فأذن له في ذلك، فسار إليه، فلقيه طاهر بنواحي بوشنج، فاقتتلوا، فانهزم طاهر ولج بغراجق في طلبه، فعطف عليه طاهر فقتله ونزل إليه وأخذ رأسه.
فلما سمع يمين الدولة بقتل عمه عظم عليه، وكبر لديه، وجمع عساكره وسار نحو خلف بن أحمد، فتحصن منه خلف بحصن أصبهبذ، وهو حصن يناطح النجوم علواً وارتفاعاً، فحصره فيه وضيق عليه، فذل وخضع، وبذل أموالاً جليلة لينفس عن خناقه، فأجابه يمين الدولة إلى ذلك، وأخذ رهنه على المال. ذكر قتل ابن بختيار بكرمان واستيلاء بهاء الدولة عليها في هذه السنة، في جمادى الآخرة، قتل الأمير أبو نصر بن بختيار، الذي كان قد استولى على بلاد فارس. وسبب قتله أنه لما انهزم من عسكر بهاء الدولة بشيراز سار إلى بلاد الديلم، وكاتب الديلم بفارس وكرمان من هناك يستميلهم، وكاتبوه واستدعوه، فسار إلى بلاد فارس، واجتمع عليه جمع كثير من الزط، والديلم، والأتراك، وتردد في تلك النواحي. . ثم سار إلى كرمان، فلم يقبله الديلم الذين بها، وكان المقدم عليهم أبو جعفر بن أستاذ هرمز، فجمع وقصد أبا جعفر، فالتقيا، فانهزم أبو جعفر إلى السيرجان، ومضى ابن بختيار إلى جيرفت فملكها، وملك أكثر كرمان، فعظم الأمر على بهاء الدولة، فسير إليه الموفق علي بن إسماعيل في جيش كثير، وسار مجداً حتى أطل على جيرفت، فاستأمن إليه من بها من أصحاب ابن بختيار ودخلها. فأنكر عليه من معه من القواد سرعة سيره، وخوفوه عاقبة ذلك، فلم يصغ إليهم، وسأل عن حال ابن بختيار، فأخبر أنه على ثمانية فراسخ من جيرفت، فاختار ثلاثمائة رجل من شجعان أصحابه وسار بهم، وترك الباقين مع السواد بجيرفت. فلما بلغ ذلك المكان لم يجده ودل عليه فلم يزل يتبعه من منزل، حتى لحقه بدارزين، فسار ليلاً، وقدر وصوله إليه عند الصبح فأدركه. فركب ابن بختيار واقتتلوا قتالاً شديداً، وسار الموفق في نفر من غلمانه، فأتى ابن بختيار من ورائه، فانهزم ابن بختيار وأصحابه، ووضع فيهم السيف، فقتل منهم الخلق الكثير. فقدر بابن بختيار بعض أصحابه، وضربه بلت فألقاه وعاد إلى الموفق ليخبره بقتله، فأرسل معه من ينظر إليه، فرآه وقد قتله غيره، وحمل رأسه إلى الموفق. وأكثر الموفق القتل في أصحاب ابن بختيار، واستولى على بلاد كرمان، واستعمل عليها أبا موسى سياهجيل، وعاد إلى بهاء الدولة، فخرج بنفسه ولقيه، وأكرمه وعظمه ثم قبض عليه بعد أيام. ومن أعجب ما يذكر أن الموفق أخبره منجم أنه يقتل ابن بختيار يوم الاثنين، فلما كان قبل الاثنين بخمسة أيام قال للمنجم: قد بقي خمسة أيام وليس لنا علم به؛ فقال له المنجم: إن لم تقتله فاقتلني عوضه، وإلا فأحسن إلي. فلما كان يوم الاثنين أدركه وقتله، وأحسن إلى المنجم إحساناً كثيراً. ذكر القبض على الموفق أبي علي بن إسماعيلقد ذكرنا مسيره إلى قتال ابن بختيار، وقتله ابن بختيار، فلما عاد أكرمه بهاء الدولة ولقيه بنفسه، فاستعفى الموفق من الخدمة، فلم يعفه بهاء الدولة، فألح كل واحد منهما، فأشار أبو محمد بن مكرم على الموفق بترك ذلك، فلم يقبل، فقبض عليه بهاء الدولة وأخذ أمواله، وكتب إلى وزيره سابور ببغداد بالقبض على أنساب الموفق، فعرفهم ذلك سراً، فاحتالوا لنفوسهم وهربوا، واستعمل بهاء الدولة أبا محمد بن مكرم على عمان، ثم إن بهاء الدولة قتل الموفق سنة أربع وتسعين وثلاثمائة. ذكر عدة حوادثفي هذه السنة استعمل بهاء الدولة أبا علي الحسن هرمز على خوزستان، وكانت قد فسدت أحوالها بولاية أبي جعفر الحجاج لها، ومصادرته لأهلها، فعمرها أبو علي، ولقبه بهاء الدولة عميد الجيوش، وحمل إلى بهاء الدولة منها أموالاً جليلة مع حسن سيرةٍ في أهلها وعدل. وفيها ظهر في سجستان معدن الذهب، فكانوا يحفرون التراب ويخرجون منه الذهب الأحمر. وفيها توفي الشريف أبو الحسن محمد بن عمر العلوي، ودفن بالكرخ، وعمره خمس وسبعون سنة، وهو مشهور بكثرة المال والعقار؛ والقاضي أبو الحسن ابن قاضي القضاة أبي محمد بن معروف؛ والقاضي أبو الفرج المعافى بن زكرياء المعروف بابن طرار الجريري، بفتح الجيم، منسوب إلى محمد بن جرير الطبري لأنه كان يتفقه على مذهبه، وكان عالماً بفنون العلوم، كثير الرواية والتصنيف فيها. ثم دخلت سنة إحدى وتسعين وثلاثمائة ذكر قتل المقلد وولاية ابنه قرواش في هذه السنة قتل حسام الدولة المقلد بن المسيب العقيلي غيلةً، قتله مماليك له ترك.
وكان سبب قتله أن هؤلاء الغلمان كانوا قد هربوا منه، فتبعهم وظفر بهم، وقتل منهم وقطع، وأعاد الباقين، فخافوه على نفوسهم، فاغتنم بعضهم غفلته وقتله بالأنبار، وكان قد عظم أمره، وراسل وجوه العساكر ببغداد، وأراد التغلب على الملك، فأتاه الله من حيث لا يشعر. ولما قتل كان ولده الأكبر قرواش غائباً، وكانت أمواله وخزائنه بالأنبار، فخاف نائبه عبدالله بن إبراهيم بن شهرويه بادرة الجند، فراسل أبا منصور بن قراد اللديد، وكان بالسندية، فاستدعاه إليه وقال له: أنا أجعل بينك وبين قرواش عهداًن وأزوجه ابنتك وأقاسمك على ما خلفه أبوه، ونساعده على عمه الحسن إن قصده وطمع فيه. فأجابه إلى ذلك وحمى الخزائن والبلد. وأرسل عبدالله إلى قرواش يحثه على الوصول، فوصل وقاسمه على المال، وأقام قراد عنده. ثم إن الحسن بن المسيب جمع مشايخ عقيل، وشكا قرواشاً إليهم وما صنع مع قراد، فقالوا له: خوفه منك حمله على ذلك؛ فبذل من نفسه الموافقة له، والوقوف عند رضاه، وسفر المشايخ بينهما فاصطلحا، واتفقا على أن يسير الحسن إلى قرواش شبه المحارب، ويخرج هو واقراد لقتاله، فإذا لقي بعضهم عادوا جميعاً على قراد فأخذوه، فسار الحسن وخرج قرواش وقراد لقتاله. فلما تراءى الجمعان جاء بعض أصحاب قراد إليه فأعلمه الحال، فهرب على فرس له، وتبعه قرواش والحسن فلم يدركاه، وعاد قرواش إلى بيت قراد فأخذ ما فيه من الأموال التي أخذها من قرواش، وهي بحالها، وسار قرواش إلى الكوفة، فأوقع بخفاجة عندها وقعة عظيمة، فساروا بعدها إلى الشام، فأقاموا هناك حتى أحضرهم أبو جعفر الحجاج، على ما نذكره إن شاء الله. ذكر البيعة لولي العهدفي هذه السنة، في ربيع الأول، أمر القادر بالله بالبيعة لولده أبي الفضل بولاية العهد، وأحضر حجاج خراسان وأعلمهم ذلك، ولقبه الغالب بالله. وكان سبب البيعة له أن أبا عبدالله بن عثمان الواثقي، من ولد الواثق بالله أمير المؤمنين، كان من أهل نصيبين، فقصد بغداد، ثم سار عنها إلى خراسان، وعبر النهر إلى هارون بن ايلك بغرا خاقان، وصحبه الفقيه أبو الفضل التميمي، وأظهر أنه رسول من الخليفة إلى هارون يأمره بالبيعة لهذا الواثقي، فإنه ولي عهدٍ، فأجابه خاقان إلى ذلك، وبايع له وخطب له ببلاده وأنفق عليه. فبلغ ذلك القادر بالله، فعظم عليه، وراسل خاقان في معناه، فلم يصغ إلى رسالته. فلما توفي هارون خاقان، وولي بعده أحمد قراخاقان، كاتبه الخليفة في معناه، فأمر بإبعاده، فحينئذ بايع الخليفة لولده بولاية العهد. وأما الواثقي فإنه خرج من عنده أحمد قراخاقان وقصد بغداد فعرف بها وطلب، فهرب منها إلى البصرة، ثم إلى فارس وكرمان، ثم إلى بلاد الترك، فلم يتم له ما أراد، وراسل الخليفة الملوك يطلبه، فضاقت عليه الأرض، وسار إلى خوارزم وأقام بها، ثم فارقها، فأخذه يمين الدولة محمود بن سبكتكين فحبسه في قلعة إلى أن توفي بها. ذكر استيلاء طاهر بن خلف على كرمان وعوده عنهافي هذه السنة سار طاهر بن خلف بن أحمد، صاحب سجستان، إلى كرمان طالباً ملكها. وكان سبب مسيره إليها أنه كان قد خرج عن طاعة أبيه، وجرى بينهما حروب كان الظفر فيها لأبيه، ففارق سجستان وسار إلى كرمان، وبها عسكر بهاء الدولة، وهي له على ما ذكرناه، فاجتمع من بها من العساكر إلى المقدم عليهم ومتولي أمر البلد، وهو أبو موسى سياهجيل، فقالوا له: إن هذا الرجل قد وصل، وهو ضعيف، والرأي أن تبادره قبل أن يقوى أمره ويكثر جمعه، فلم يفعل واستهان به، فكثر جمع طاهر، وصعد إلى الجبال، وبها قوم من العصاة على السلطان، فاحتمى بهم وقوي، فنزل إلى جيرفت فملكها وملك غيرها، وقوي طمعه في الباقي. فقصده أبو موسى والديلم، فهزمهم، وأخذ بعض ما بقي بأيديهم، فكاتبوا بهاء الدولة، فسير إليهم جيشاً عليهم أبو جعفر بن أستاذ هرمز، فسار إلى كرمان، وقصد بم، وبها طاهر، فجرى بين طلائع العسكرين حرب، وعاد طاهر إلى سجستان، وفارق كرمان، فلما بلغ سجستان أطلق المأسورين، ودعاهم إلى قتال أبيه معه، وحلف لهم أنهم إذا نصروه وقاتلوا معه أطلقهم، ففعلوا ذلك، وقاتل أباه، فهزمه وملك طاهر البلاد، ودخل أبوه إلى حصن له منيع فاحتمى به.
وأحب الناس طاهراً لحسن سيرته، وسوء سيرة والده، وأطلق طاهر الديلم، ثم إن أباه راسل أصحابه ليفسدهم عليه، فلم يفعلوا، فعدل إلى مخادعته، وراسله يظهر له الندم على ما كان منه، ويستميله بأنه ليس له ولد غيره، وأنه يخاف أن يموت فيملك بلاده غير ولده. ثم استدعاه إليه جريدة ليجتمع به ويعرفه أحواله، فتواعدا تحت قلعة خلف، فأتاه ابنه جريدة، ونزل هو إليه كذلك، وكان قد كمن بالقرب منه كمينا، فلما لقيه اعتنقه، وبكى خلف، وصاح في بكائه، فخرج الكمين وأسروا طاهراً فقتله أبوه بيده، وغسله ودفنه، ولم يكن له ولد غيره. فلما قتل طمع الناس في خلف، لأنهم كانوا يخافون ابنه لشهامته، وقصده حينئذ محمود بن سبكتكين، فملك بلاده على ما نذكره؛ وأما العتبي فذكر في سبب فتحها غير هذا، وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى. ذكر عدة حوادثفي هذه السنة ثار الأتراك ببغداد بنائب السلطان، وهو أبو نصر سابور، فهرب منهم، ووقعت الفتنة بين الأتراك والعامة من أهل الكرخ، وقتل بينهم قتلى كثيرة، ثم إن السنة من أهل بغداد ساعدوا الأتراك على أهل الكرخ، فضعفوا عن الجميع، فسعى الأشراف في إصلاح الحال فسكنت الفتنة. وفيها ولد الأمير أبو جعفر عبدالله بن القادر، وهو القائم بأمر الله. وفيها، في ربيع الأول، توفي أبو القاسم عيسى بن علي بن عيسى، وكان فاضلاً عالماً بعلوم الإسلام وبالمنطق، وكان يجلس للتحديث، وروى الناس عنه. وفيها توفي القاضي أبو الحسن الجزري، وكان على مذهب داود الظاهري، وكان يصحب عضد الدولة قديماً. وفيها توفي أبو عبدالله الحسين بن الحجاج الشاعر بطريق النيل، وحمل إلى بغداد، وديوانه مشهور. وفيها توفي بكران بن أبي الفوارس خال الملك جلال الدولة بواسط. وفيها توفي جعفر بن الفضل بن جعفر بن محمد بن الفرات المعروف بابن حنزابة، الوزير، ومولده سنة ثمان وثلاثمائة، وكان سار إلى مصر فولي وزارة كافور وروي حديثاً كثيراً. ثم دخلت سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة ذكر وقعة ليمين الدولة بالهند في هذه السنة أوقع يمين الدولة محمود بن سبكتكين بجيبال ملك الهند وقعة عظيمة. وسبب ذلك أنه لما اشتغل بأمر خراسان وملكها، وفرغ منها ومن قتال خلف بن أحمد، وخلا وجهه من ذلك، أحب أن يغزو الهند غزوةً تكون كفارة لما كان منه من قتال المسلمين، فثنى عنانه نحو تلك البلاد، فنزل على مدينة برشور، فأتاه عدو الله جيبال ملك الهند في عساكر كثيرة، فاختار يمين الدولة من عساكره والمطوعة خمسة عشر ألفاً، وسار نحوه، فالتقوا في المحرم من هذه السنة، فاقتتلوا، وصبر الفريقان. فلما انتصف النهار انهزم الهند، وقتل فيهم مقتلة عظيمة، وأسر جيبال ومعه جماعة كثيرة من أهله وعشيرته، وغنم المسلمون منهم أموالاً جليلة، وجواهر نفيسة، وأخذ من عنق عدو الله جيبال قلادة من الجوهر العديم النظير قومت بمائتي ألف دينار، وأصيب أمثالها في أعناق مقدمي الأسرى، وغنموا خمس مائة ألف رأس من العبيد، وفتح من بلاد الهند بلاداً كثيرة، فلما فرغ من غزواته أحب أن يطلق جيبال ليراه الهنود في شعار الذل، فأطلقه بمالٍ قرره عليه، فأدى المال. ومن عادة الهند أنهم من حصل منهم في أيدي المسلمين أسيراً لم ينعقد له بعدها رئاسة، فلما رأى جيبال حاله بعد خلاصه حلق رأسه، ثم ألقى نفسه في النار، فاحترق بنار الدنيا قبل نار الآخرة. ذكر غزوة أخرى إلى الهند أيضاً فلما فرغ يمين الدولة من أمر جيبال رأى أن يغزو غزوة أخرى، فسار نحو ويهند، فأقام عليها محاصراً لها، حتى فتحها قهراً، وبلغه أن جماعة من الهند قد اجتمعوا بشعاب تلك الجبال عازمين على الفساد والعناد، فسير إليهم طائفة من عسكره، فأوقعوا بهم، وأكثروا القتل فيهم، ولم ينج منهم إلا الشريد الفريد، وعاد إلى غزنة سالماً ظافراً. ذكر الحرب بين قرواش وعسكر بهاء الدولةفي هذه السنة سير قرواش بن المقلد جمعاً من عقيل إلى المدائن فحصروها، فسير إليهم أبو جعفر نائب بهاء الدولة جيشاً فأزالوهم عنها، فاجتمعت عقيل وأبو الحسن ابن مزيد في بني أسد، وقويت شوكتهم فخرج الحجاج إليهم، واستنجد خفاجة، وأحضرهم من الشام، فاجتمعوا معه، واقتتلوا بنواحي باكرم في رمضان، فانهزمت الديلم والأتراك، وأسر منهم خلق كثير، واستبيح عسكرهم.
فجمع أبو جعفر من عنده من العسكر وخرج إلى بني عقيل وابن مزيد، فالتقوا بنواحي الكوفة، واشتد القتال بينهم، فانهزمت عقيل وابن مزيدن وقتل من أصحابهم خلق كثير، وأسر مثلهم، وسار إلى حلل ابن مزيد فأوقع بمن فيها فانهزموا أيضاً، فنهبت الحلل والبيوت والأموال، ورأوا فيها من العين والمصاغ والثياب ما لا يقدر قدره. ولما سار أبو جعفر عن بغداد اختلت الأحوال بها، وعاد أمر العيارين فظهر، واشتد الفساد، وقتلت النفوس، ونهبت الأموال، وأحرقت المساكن، فبلغ ذلك بهاء الدولة، فسير إلى العراق لحفظه أبا علي بن أبي جعفر المعروف بأستاذ هرمز، ولقبه عميد الجيوش، وأرسل إلى أبي جعفر الحجاج، وطيب قلبه، ووصل أبو علي إلى بغداد، فأقام السياسة، ومنع المفسدين، فسكنت الفتنة وأمن الناس. وفيها توفي محمد بن محمد بن جعفر أبو بكر الفقيه الشافعي المعروف بابن الدقاق، صاحب الأصول. ثم دخلت سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة ذكر ملك يمين الدولة سجستان في هذه السنة ملك يمين الدولة محمود بن سبكتكين سجستان، وانتزعها من يد خلف بن أحمد. قال العتبي: وكان سبب أخذها أن يمين الدولة لما رحل عن خلف بعد أن صالحه، كما تقدم ذكره سنة تسعين، عهد خلف إلى ولده طاهر، وسلم إيه مملكته، وانعكف هو على العبادة والعلم، وكان عالماً، فاضلاً، محباً للعلماء، وكان قصده أن يوهم يمين الدولة أنه ترك الملك وأقبل على طلب الآخرة ليقطع طمعه عن بلاده. فلما استقر طاهر في الملك عق أباه وأهمل أمره، فلاطفه أبوه ورفق به، ثم إنه تمارض في حصنه المذكور، واستدعى ولده ليوصي إليه، فحضر عنده غير محتاطٍ، ونسي إساءته، فلما صار عنده قبض عليه وسجنه، وبقي في السجن إلى أن مات فيه، وأظهر عنه أنه قتل نفسه. ولما سمع عسكر خلف وصاحب جيشه بذلك تغيرت نياتهم في طاعته، وكرهوه، وامتنعوا عليه في مدينته، وأظهروا طاعة يمين الدولة، وخطبوا له، وأرسلوا إليه يطلبون من يتسلم المدينة، ففعل وملكها، واحتوى عليها في هذه السنة، وعزم على قصد خلف وأخذ ما بيده والاستراحة من مكره. فسار إليه، وهو في حصن الطاق، وله سبعة أسوار محكمة، يحيط بها خندق عميق، عريض، لا يخاض إلا من طريق على جسر يرفع عند الخوف، فنازله وضايقه فلم يصل إليه، فأمر بطم الخندق ليمكن العبور إليه، فقطعت الأخشاب وطم بها وبالتراب في يوم واحد مكاناً يعبرون فيه ويقاتلون منه. وزحف الناس ومعهم الفيول، واشتدت الحرب، وعظم الأمر، وتقدم أعظم الفيول إلى باب السور فاقتلعه بنابيه وألقاه، وملكه أصحاب يمين الدولة، وتأخر أصحاب خلف إلى السور الثاني، فلم يزل أصحاب يمين الدولة يدفعونهم عن سور سور، فلما رأى خلف اشتداد الحرب، وأن أسواره تملك عليه، وأن أصحابه قد عجزوا، وأن الفيلة تحطم الناس طار قلبه خوفاً وفرقاً، فأرسل يطلب الأمان، فأجابه يمين الدولة إلى ما طلب وكف عنه، فلما حضره عنده أكرمه واحترمه، وأمر بالمقام في أي البلاد شاء، فاختار أرض الجوزجان، فسير إليها في هيئة حسنة، فأقام بها نحو أربع سنين. ونقل إلى يمين الدولة عنه أنه يراسل ايلك الخان يغريه بقصد يمين الدولة، فنقله إلى جردين، واحتاط عليه هناك، إلى أن أدركه أجله في رجب سنة تسع وتسعين، فسلم يمين الدولة جميع ما خلفه إلى ولده أبي حفص. وكان خلف مشهوراً بطلب العلم وجمع العلماء، وله كتاب صنفه في تفسير القرآن من أكبر الكتب. ذكر الحرب بين عميد الجيوش أبي علي وبين أبي جعفر الحجاجفي هذه السنة كانت الحرب بين أبي علي بن أبي جعفر أستاذ هرمز، وبين أبي جعفر الحجاج. وسبب ذلك أن أبا جعفر كان نائباً عن بهاء الدولة بالعراق، فجمع وغزا، واستناب بعده عميد الجيوش أبا علي، فأقام أبو جعفر بنواحي الكوفة، ولم يستقر بينه وبين أبي علي صلح. وكان أبو جعفر قد جمع جمعاً من الديلم والأتراك وخفاجة فجمع أبو علي أيضاً جمعاً كثيراً وسار إليه، والتقوا بنواحي النعمانية، فاقتتلوا قتالاً عظيماً، وأرسل أبو علي بعض عسكره، فأتوا أبا جعفر من ورائه، فانهزم أبو جعفر ومضى منهزماً.
فلما أمن أبو علي سار من العراق، بعد الهزيمة، إلى خوزستان، وبلغ السوس، وأتاه الخبر أن أبا جعفر قد عاد إلى الكوفة، فرجع إلى العراق، وجرى بينه وبين أبي جعفر منازعات ومراجعات إلى أن آل الأمر إلى الحرب فاستنجد كل واحدٍ منهم بني عقيل وبني خفاجة وبني أسد، فبينما هم كذلك أرسل بهاء الدولة إلى عميد الجيوش أبي علي يستدعيه، فسار إيه إلى خوزستان لأجل أبي العباس بن واصل، صاحب البطيحة. ذكر عصيان سجستان وفتحها ثانيةلما ملك يمين الدولة سجستان عاد عنها واستخلف عليها أميراً كبيراً من أصحابه، يعرف بقنجى الحاجب، فأحسن السيرة في أهلها. ثم إن طوائف من أهل العيث والفساد قدموا عليهم رجلاً يجمعهم، وخالفوا على السلطان، فسار إليهم يمين الدولة، وحصرهم في حصن أرك، ونشبت الحرب في ذي الحجة من هذه السنة، فظهر عليهم، وظفر بهم، وملك حصنهم، وأكثر القتل فيهم، وانهزم بعضهم فسير في آثارهم من يطلبهم، فأدركوهم، فأكثروا القتل فيهم حتى خلت سجستان منهم وصفت له واستقر ملكها عليه، فأقطعها أخاه نصراً مضافةً إلى نيسابور. ذكر وفاة الطائع للهفي هذه السنة، في شوال منها، توفي الطائع لله المخلوع ابن المطيع لله، وحضر الأشراف والقضاة وغيرهم دار الخلافة للصلاة عليه والتعزية، وصلى عليه القادر بالله، وكبر عليه خمساً، وتكلمت العامة في ذلك فقيل: إن هذا مما يفعل بالخلفاء؛ وشيع جنازته ابن حاجب النعمان، ورثاه الشريف الرضي فقال: ما بعد يومك ما يسلو به السالي، ... ومثل يومك لم يخطر على بالي وهي طويلة. ذكر وفاة المنصور بن أبي عامرفي هذه السنة توفي أبو عامر محمد بن أبي عامر المعافري، الملقب بالمنصور، أمير الأندلس مع المؤيد هشام بن الحاكم، وقد تقدم ذكره عند ذكر المؤيد، وكان أصله من الجزيرة الخضراء من بيت مشهور بها، وقدم قرطبة طالباً للعلم، وكانت له همة، فتعلق بوالدة المؤيد في حياة أبيه المستنصر. فلما ولي هشام كان صغيراًن فتكفل المنصور لوالدته القيام بأمره، وإخماد الفتن الثائرة عليه، وإقرار الملك عليه، فولته أمره؛ وكان شهماً، شجاعاً، قوي النفس، حسن التدبير، فاستمال العساكر وأحسن إليهم، فقوي أمره، وتلقب بالمنصور، وتابع الغزوات إلى الفرنج وغيرهم، وسكنت البلاد معه، فلم يضطرب منها شيء. وكان عالماً، محباً للعلماء، يكثر مجالستهم ويناظرهم، وقد أكثر العلماء ذكر مناقبه، وصنفوا لها تصانيف كثيرة، ولما مرض كان متوجها إلى الغزو، فلم يرجع، ودخل بلاد العدو فنال منهم وعاد وهو مثقل، فتوفي بمدينة سالم، وكان قد جمع الغبار الذي وقع على درعه في غزواته شيئاً صالحاً، فأمر أن يجعل في كفنه تبركاً به. وكان حسن الاعتقاد والسيرة، عادلاً، وكانت أيام أعياداً لنضارتها، وأمن الناس فيها، رحمة الله. وله شعر جيد، وكانت أمه تميمية، ولما مات ولي بعده ابنه المظفر أبو مروان عبد الملك، فجرى مجرى أبيه. ذكر محاصرة فلفل مدينة قابسفي هذه السنة سار يحيى بن علي الأندلسي وفلفل من طرابلس إلى مدينة قابس في عسكر كثير، فحصروها، ثم رجعوا إلى طرابلس. ولما رأى يحيى بن عي ما هو عيه من قلة المال، واختلال حاله وسوء مجاورة فلفل وأصحابه له، رجع إلى مصر إلى الحاكم، بعد أن أخذ فلفل وأصحابه خيولهم، وما اختاروه من عددهم بين الشراء والغصب، فأراد الحاكم قتله ثم عفا عنه. وأقام فلفل بطرابلس إلى سنة أربعمائة، فمرض وتوفي، وولي أخوه ورو، فأطاعته زناتة، واستقام أمره، فرحل باديس إلى طرابلس إلى سنة أربعمائة، فمرض وتوفي، وولي أخوه ورو، فأطاعته زناتة، واستقام أمره، فرحل باديس إلى طرابلس لحرب زناتة، فلما بلغهم رحيله فارقوها وملكها باديس، ففر أهلها، وأرسل ورو أخو فلفل إلى باديس يطلب أن يكون هو ومن معه من زناتة في أمانه، ويدخلون في طاعته، ويجعلهم عمالاً كسائر عماله، فأمنهم وأحسن إليهم، وأعطاهم نفزاوة وقسطيلة على أن يرحلوا من أعمال طرابلس، ففعلوا ذلك. ثم إن خزرون بن سعيد أخا ورو جاء إلى باديس، ودخل في طاعته، وفارق أخاه، فأكرمه باديس، وأحسن إليه؛ ثم إن أخاه خالف على باديس، وسار إلى طرابلس فحصرها، وسار إليه خزرون ليمنعه عن حصارها، وكان ذلك سنة ثلاث وأربعمائة. ذكر عدة حوادث
في هذه السنة، في رمضان، طلع كوكب كبير له ذؤابة؛ وفي ذي القعدة انقض كوكب كبير أيضاً كضوء القمر عند تمامة، وانمحق نوره وبقي جرمه يتموج. وفيها اشتدت الفتنة ببغداد، وانتشر العيارون والمفسدون، فبعث بهاء الدولة عميد الجيوش أبا علي بن أستاذ هرمز إلى العراق ليدبر أمره، فوصل إلى بغداد، فزينت له، وقمع المفسدين، ومنع السنة والشيعة من إظهار مذاهبهم، ونفى، بعد ذلك، ابن المعلم فقيه الإمامية، فاستقام البلد. وفيها، في ذي الحجة، ولد الأمير أبو علي الحسن بن بهاء الدولة، وهو الذي ملك الأمر، وتلقب بمشرف الدولة. وفيها هرب الوزير أبو العباس الضبي، وزير مجد الدولة بن فخر الدولة ابن بويه، من الري إلى بدر بن حسنويه، فأكرمه، وقام بالوزارة بعده الخطير أبو علي. وفيها ولى الحاكم بأمر الله على دمشق، وقيادة العساكر الشامية، أبا محمد الأسود، واسمه تمضولت، فقدم إليها، ونزل في قصر الإمارة، فأقام والياً عليها سنةً وشهرين؛ ومن أعماله فيها أنه أطاف إنساناً مغربياً، وشهره، ونادى عليه: هذا جزاء من يحب أبا بكر وعمر ! ثم أخرجه عنها. وفيا توفي عثمان بن جني النحوي، مصنف اللمع وغيرها، ببغداد، وله شعر بارز؛ والقاضي علي بن عبد العزيز الجرجاني بالري، وكان إماماً فاضلاً، ذا فنون كثيرة؛ والوليد بن بكر بن مخلد الأندلسي الفقيه المالكي، وهو محدث مشهور. وفيها توفي أبو الحسن محمد بن عبدالله السلامي الشاعر البغدادي، ومن شعره يصف الدرع، وهي هذه الأبيات: يا ربّ سابغةٍ حبتني نعمةً ... كأفاتها بالسّوء غير مفنّد أضحت تصون عن المنايا مهجتي ... وظللت أبذلها لكلّ مهنّد وله من أحسن المديح في عضد الدولة: وليت، وعزمي والظلام وصارمي ... ثلاثة أشباحٍ كما اجتمع النّسر وبشّرت آمالي بملكٍ هو الورى، ... ودارٍ هي الدنيا، ويومٍ هو الدهر وقدم الموصل، فاجتمع بالخالديين من الشعراء منهم أبو الفرج الببغاء، وأبو الحسين التلعفري، فامتحنوه، وكان صبياً، فبرز عند الامتحان. وفيها توفي محمد بن العباس الخوارزمي الأديب الشاعر، وكان فاضلاً، وتوفي بنيسابور. وفيها توفي محمد بن عبد الرحمن بن زكرياء أبو طاهر المخلص المحدث المشهور، وأول سماعه سنة اثنتي عشرة وثلاثمائة. ثم دخلت سنة أربع وتسعين وثلاثمائة | |
|
| |
الشيخ عودة الشيخ عودة
عدد المساهمات : 1748 تاريخ التسجيل : 28/09/2008 العمر : 74
| موضوع: رد: كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير الأحد فبراير 23, 2014 6:05 am | |
| ذكر استيلاء أبي العباس على البطيحة في هذه السنة، في شعبان، غلب أبو العباس بن واصل على البطيحة، وأخرج منها مهذب الدولة. وكان ابتداء حال أبي العباس أنه كان ينوب عن طاهر بن زيرك الحاجب في الجهبذة، وارتفع معه، ثم أشفق منه ففارقه وسار إلى شيراز، واتصل بخدمة فولاذ، وتقدم عنده، فلما قبض على فولاذ عاد أبو العباس إلى الأهواز بحال سيئة، فخدم فيها. ثم أصعد إلى بغداد، فضاق الأمر عليه، فخرج منها، وخدم أبا محمد ابن مكرم، ثم انتقل إلى خدمة مهذب الدولة بالبطيحة، فجرد معه عسكراً، وسيره إلى حرب لشكرستان حين استولى على البصرة، ومضى إلى سيراف وأخذ ما بها لأبي محمد بن مكرم من سفن ومال، وأتى أسافل دجلة، فغلب عليها، وخلع طاعة مهذب الدولة. فأرسل غليه مهذب الدولة مائة سميرية فيها مقاتلة، فغرق بعضها، وأخذ أبو العباس ما بقي منها، وعدل إلى الأبلة، فهزم أبا سعد بن ماكولا، وهو يصحب لشكرستان، فانهزم أيضاً لشكرستان من بين يديه، واستولى ابن واصل على البصرة، ونزل دار الإمارة، وأمن الديلم والأجناد. وقصد لشكرستان مهذب الدولة، فأعاده إلى قتال أبي العباس في جيش، فلقيه أبو العباس وقاتله، فانهزم لشكرستان وقتل كثير من رجاله، واستولى أبو العباس على ثقله وأمواله، وأصعد إلى البطيحة، وأرسل إلى مهذب الدولة يقول له: قد هزمت جندك، ودخلت بلدك، فخذ لنفسك؛ فسار مهذب الدولة إلى بشامني، وصار عند أبي شجاع فارس بن مردان وابنه صدقة، فغدرا به وأخذا أمواله، فاضطرا إلى الهرب، وسار إلى واسط فوصلها على أقبح صورة، فخرج إليه أهلها فلقوه وأصعدت زوجته ابنة الملك بهاء الدولة إلى بغداد وأصعد مهذب الدولة إليها فلم يمكن من الوصول إليها.
وأما ابن واصل فإنه استولى على أموال مهذب الدولة وبلاده، وكانت عظيمة، ووكل بدار زوجته ابنة بهاء الدولة من يحرسها، ثم جمع كل ما فيها وأسله إلى أبيها، واضطرب عليه أهل البطائح واختلفوا، فسير سبع مائة فارس إلى الجازرة لإصلاحها، فقاتلهم أهلها، فظفروا بالعسكر، وقتلوا فيهم كثيراً. وانتشر الأمر على أبي العباس بن واصل، فعاد إلى البصرة خوفاً أن ينتشر الأمر عليه بها، وترك البطائح شاغرة ليس فيها أحد يحفظها. ولما سمع بهاء الدولة بحال أبي العباس وقوته خافه على البلاد، فسار من فارس إلى الأهواز لتلافي أمره، وأحضر عنده عميد الجيوش من بغداد، وجهز معه عسكراً كثيفاً وسيرهم إلى أبي العباس فأتى إلى واسط وعمل ما يحتاج إليه من سفن وغيرها، وسار إلى البطائح، وفرق جنده في البلاد لتقرير قواعدها. وسمع أبو العباس بمسيره إليه، فأصعد إليه من البصرة، وأرسل يقول له: ما أحوجك تتكلف الانحدار، وقد أتيتك فخذ لنفسك. ووصل إلى عميد الجيوش وهو على تلك الحال من تفرق العسكر عنه، فلقيه فيمن معه بالصليق، فانهزم عميد الجيوش، ووقع من معه بعضهم على بعضٍ، ولقي عميد الجيوش شدة إلى أن وصل إلى واسط، وذهب ثقله وخيامه وخزائنه، فأخبره خازنه أنه قد دفن في الخيمة ثلاثين ألف دينار وخمسين ألف درهم، فأنفذ من أحضرها، فقوي بها. ونذكر باقي خبر البطائح سنة خمس وتسعين. ذكر عدة حوادثفي هذه السنة قلد بهاء الدولة النقيب أبا أحمد الموسوي، والد الشريف الرضي، نقابة العلويين بالعراق، وقضاء القضاة، والحج، والمظالم، وكتب عهده بذلك، من شيراز، ولقب الطاهر ذا المناقب، فامتنع الخليفة من تقليده قضاء القضاة، وأمضى ما سواه. وفيها خرج الأصيفر المنتفقي على الحاج، وحصرهم بالبطانية، وعزم على أخذهم، وكان فيهم أبو الحسن الرفاء، وأبو عبدالله الدجاجي، وكانا يقرآن القرآن بأصواتٍ لم يسمع مثلها، فحضرا عند الأصيفر وقرآ القرآن فترك الحجاج وعاد، وقال لهما: قد تركت لكما ألف ألف دينار. ثم دخلت سنة خمس وتسعين وثلاثمائة ذكر عود مهذب الدولة إلى البطيحة قد ذكرنا انهزام عميد الجيوش من أبي العباس بن واصل، فلما انهزم أقام بواسط، وجمع العساكر عازماً على العود إلى البطائح، وكان أبو العباس قد ترك بها نائباً له، فلم يتمكن من المقام بها، ففارقها إلى صاحبه، فأرسل عميد الجيوش إليها نائباً من أهل البطائح، فعسف الناس، وأخذ الأموال، ولم يلتفت إلى عميد الجيوش، فأرسل إلى بغداد وأحضر مهذب الدولة، وسلموا إليه جميع الولايات، واستقر عليه بهاء الدولة كل سنة خمسين ألف دينار، ولم يعترض عليه ابن واصل، فاشتغل عنه بالتجهيز إلى خوزستان، وحفر نهراً إلى جانب النهر العضدي، بين البصرة والأهواز، وكثر ماؤه، وكان قد اجتمع عنده جمع كثير من الديلم وأنواع الأجناد. ولما كثر ماله وذخائره، وما استولى عليه من البطيحة، قوي طمعه في الملك، وسار هو وعسكره إلى الأهواز في ذي القعدة، فجهز إليه بهاء الدولة جيشاً في الماء، فالتقوا بنهر السدرة، فاقتتلوا، وخاتلهم أبو العباس، وسار إلى الأهواز وتبعه من كان قد لقيه من العسكر، فالتقوا بظاهر الأهواز، وانضاف إلى عسكر بهاء الدولة العساكر التي بالأهواز، فاستظهر أبو العباس عليهم. ورحل بهاء الدولة إلى قنطرة أربق، عازماً على المسير إلى فارس، ودخل أبو العباس إلى دار المملكة وأخذ ما فيها من الأمتعة والأثاث المتخلف عن بهاء الدولة، إلا أنه لم يمكنه المقام لأن بهاء الدولة كان قد جهز عسكراً ليسير في البحر إلى البصرة، فخاف أبو العباس من ذلك، وراسل بهاء الدولة، وصالحه، وزاد في إقطاعه، وحلف كل واحد منهما لصاحبه، وعاد إلى البصرة، وحمل معه كل ما أخذه من دار بهاء الدولة ودور الأكابر والقواد والتجار. ذكر غزوة بهاطيةفي هذه السنة غزا يمين الدولة بهاطية من أعمال الهند، وهي وراء المولتان، ، وصاحبها يعرف ببحيرا، وهي مدينة حصينة، عالية السور، يحيط بها خندق عميق، فامتنع صاحبها بها، ثم إنه خرج إلى ظاهرها، فقاتل المسلمين ثلاثة أيام ثم انهزم في الرابع، وطلب المدينة ليدخلها، فسبقهم المسلمون إلى باب البلد فملكوه عليهم، وأخذتهم السيوف من بين أيديهم ومن خلفهم، فقتل المقاتلة وسبيت الذرية وأخذت الأموال.
وأما بحيرا فإنه لما عاين الهلاك أخذ جماعة من ثقاته وسار إلى رؤوس تلك الجبال، فسير إليه يمين الدولة سرية، فلم يشعر بهم بحيرا إلا وقد أحاطوا به، وحكموا السيوف في أصحابه، فلما أيقن بالعطب أخذ خنجراً معه فقتل به نفسه، وأقام يمين الدولة ببهاطية حتى أصلح أمرها، ورتب قواعدها، وعاد عنها إلى غزنة، واستخلف بها من يعلم من أسلم من أهلها ما يجب عليهم تعلمه، ولقي في عوده شدة شديدة من الأمطار وكثرتها، وزيادة الأنهار، فغرق منه ومن عسكره شيء عظيم. ذكر عدة حوادثفي هذه السنة كان بإفريقية غلاء شديد بحيث تعطلت المخابز والحمامات، وهلك الناس، وذهبت الأموال من الأغنياء، وكثر الوباء، فكان يموت كل يوم ما بين خمسمائة إلى سبعمائة. وفيها وصل قرواش وأبو جعفر الحجاج إلى الكوفة، فقبضا على أبي علي عمر بن محمد بن عمر العلوي، وأخذ منه قرواش مائة ألف دينار، وحمله معه إلى الأنبار. وفيها توفي إسحاق بن محمد بن حمدان بن محمد بن نوح أبو إبراهيم المهلبي. وفيها توفي محمد بن علي بن الحسين بن الحسن بن أبي إسماعيل العلوي الهمذاني، الفقيه الشافعي، رحمه الله تعالى. ثم دخلت سنة ست وتسعين وثلاثمائة ذكر غزوة المولتان في هذه السنة غزا السلطان يمين الدولة المولتان. وكان سبب ذلك أن واليها أبا الفتوح نقل عنه خبث اعتقاده، ونسب إلى الإلحاد، وأنه قد دعا أهل ولايته إلى ما هو عليه، فأجابوه. فرأى يمين الدولة أن يجاهده ويستنزله عما هو عليه، فسار نحوه، فرأى الأنهار التي في طريقه كثيرة الزيادة، عظيمة المد، وخاصة سيحون، فإنه منع جانبه من العبور، فأرسل إلى أندبال يطلب إليه أن يأذن له في العبور، ببلاده إلى المولتان، فلم يجبه إلى ذلك، فابتدأ به قبل المولتان، وقال: نجمع بين غزوتين، لأنه لا غزو إلا التعقيب؛ فدخل بلاده، وجاسها، وأكثر القتل فيها، والنهب لأموال أهلها، والإحراق لأبنيتها، ففر أندبال من بين يديه وهو في أثره كالشهاب في أثر الشيطان، من مضيق إلى مضيق، إلى أن وصل إلى قشمير. ولما سمع أبو الفتوح بخبر إقباله إليه علم عجزه عن الوقوف بين يديه والعصيان عليه، فنقل أمواله إلى سرنديب، وأخلى المولتان، فوصل يمين الدولة إليها ونازلها، فإذا أهلها في ضلالهم يعمهون، فحصرهم، وضيق عليهم، وتابع القتال حتى افتتحها عنوةً، وألزم أهلها عشرين ألف درهم عقوبةً لعصيانهم. ذكر عزوة كواكيرثم سار عنها إلى قلعة كواكير، وكان صاحبها يعرف ببيدا، وكان بها ستمائة صنم، فافتتحها وأحرق الأصنام، فهرب صاحبها إلى قلعته المعروفة بكالنجار، فسار خلفه إليها، وهو حصن كبير يسع خمسمائة ألف إنسان، وفيه خمسمائة فيل، وعشرون ألف دابة، وفي الحصن ما يكفي الجميع مدة. فلما قاربها يمين الدولة وبقي بينهما سبعة فراسخ رأى من الغياض المانعة من سلوك الطريق ما لا حد عليه، فأمر بقطعها، ورأى في الطريق وادياً عظيم العمق، بعيد القعر، فأمر أن يطم منه مقدار ما يسع عشرين فارساً، فطموه بالجلود المملوءة تراباً، ووصل إلى القلعة فحصرها ثلاثة وأربعين يوماً، وراسله صاحبها في الصلح فلم يجبه. ثم بلغه عن خراسان اختلاف بسبب قصد ايلك الخان لها، فصالح ملك الهند على خمسمائة فيل، وثلاثة آلاف من فضة، ولبس خلعه يمين الدولة بعد أن استعفى من شد المنطقة، فإنه اشتد عليه، فلم يجبه يمين الدولة إلى ذلك، فشد المنطقة، وقطع إصبعه الخنصر وأنفذها إلى يمين الدولة توثقةً فيما يعتقدونه، وعاد يمين الدولة إلى خراسان لإصلاح ما اختلف فيها، وكان عازماً على الوغول في بلاد الهند. ذكر عبور عسكر ايلك الخان إلى خراسانكان يمين الدولة لما استقر له ملك خراسان، وملك ايلك الخان ما وراء النهر، قد راسله ووافقه وتزوج ابنته، وانعقدت بينهما مصاهرة ومصالحة، فلم تزل السعاة حتى أفسدوا ذات بينهما، وكتم ايلك الخان ما في نفسه، فلما سار يمين الدولة إلى المولتان اغتنم ايلك الخان خلو خراسان، فسير سباشي تكين، صاحب جيشه في هذه السنة، إلى خراسان في معظم جنده، وسير أخاه جعفر تكين إلى بلخ في عدة من الأمراء.
وكان يمين الدولة قد جعل بهراة أميراً من أكابر أمرائه يقال له: أرسلان الجاذب، فأمره إذا ظهر عليه مخالف أن ينحاز إلى غزنة. فلما عبر سباشي تكين إلى خراسان سار أرسلان إلى غزنة، وملك سباشي هراة وأقام بها، وأرسل إلى نيسابور من استولى عليها. واتصلت الأخبار بيمين الدولة، وهو بالهند، فرجع إلى غزنة لا يلوي على دار، ولا يركن إلى قرار، فلما بلغها فرق في عساكره الأموال، وقواهم، وأصلح ما أراد إصلاحه، واستمد الأتراك الخلجية، فجاءه منه خلق كثير، وسار بهم نحو بلخ، وبها جعفر تكين أخو ايلك الخان، فعبر إلى ترمذ، ونزل يمين الدولة ببلخ، وسير العساكر إلى سباشي تكين بهراة، فلما قاربوه سار نحو مرو ليعبر النهر، فلقيه التركمان الغزية، فقاتلوه فهزمهم وقتل منهم مقتلة عظيمة. ثم سار نحو أبيورد لتعذر العبور عليه، فتبعه عسكر يمين الدولة، كلما رحل نزلوا، حتى ساقه الخوف من الطلب إلى جرجان فأخرج عنها، ثم عاد إلى خراسان، فعارضه يمين الدولة، فمنعه عن مقصده، وأسر أخو سباشي تكين وجماعة من قواده، ونجا هو في خف من أصحابه، فعبر النهر. وكان ايلك الخان قد عبر أخاه جعفر تكين إلى بلخ ليلفت يمين الدولة عن طلب سباشي، فلم يرجع، وجعل دأبه إخراج سباشي من خراسان، فلما أخرجه عنها عاد إلى بلخ، فانهزم من كان بها مع جعفر تكين، وسلمت خراسان ليمين الدولة. ذكر الحرب بين عسكر بهاء الدولة والأكرادفي هذه السنة سير عميد الجيوش عسكراً إلى البندنيجين، وجعل المقدم عليهم قائداً كبيراً من الديلم، فلما وصلوا إليها سار إليهم جمع كثير من الأكراد، فاقتتلوا، فانهزم الديلم، وغنم الأكراد رحلهم ودوابهم، وجرد المقدم عليهم من ثيابه، فأخذ قميصاً من رجل سوادي، وعاد راجلاً حافياً، ولم يكن مقامهم غير أيام قليلة. ذكر عدة حوادثفي هذه السنة قلد الشريف الرضي نقالة الطالبيين بالعراق، ولقب بالرضي ذي الحسبين، ولقب أخوه المرتضى ذا المجدين، فعل ذلك بهاء الدولة. وفيها توفي أبو أحمد عبد الرحيم بن علي بن المرزبان الأصبهاني، قاضي خراسان، وكان إليه أمر البيمارستان ببغداد. وفيها، مستهل شعبان، طلع كوكب كبير يشب الزهرة عن يسرة قبلة العراق، له شعاع على الأرض كشعاع القمر، وبقي إلى منتصف ذي القعدة وغاب. وفيها توفي أبو سعد إسماعيل بن أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل الإسماعيلي الإمام، الفقيه الشافعي، بجرجان في ربيع الآخر، ومحمد بن إسحاق بن محمد ابن يحيى بن مندة أبو عبدالله الحافظ الأصبهاني المشهور، له التصانيف المعروفة. ثم دخلت سنة سبع وتسعين وثلاثمائة ذكر هزيمة ايلك الخان لما أخرج يمين الدولة عساكر ايلك الخان من خراسان، راسل ايلك الخان قدر خان بن بغراخان ملك الختل لقرابة بينهما، وذكر له حاله، واستعان به، واستنصره، واستنفر الترك من أقاصي بلادها، وسار نحو خراسان، واجتمع هو وايلك الخان، فعبرا النهر. وبلغ الخبر يمين الدولة، وهو بطخارستان، فسار وسبقهما إلى بلخ، واستعد للحرب، وجمع الترك الغزية، والخلج، والهند، والأفغانية، والغزنوية، وخرج عن بلخ، فعسكر على فرسخين بمكان فسيح يصلح للحرب، وتقدم ايلك الخان، وقدرخان في عساكرهما، فنزلوا بإزائه، واقتتلوا يومهم ذلك إلى الليل. فلما كان الغد برز بعضهم إلى بعض واقتتلوا، واعتزل يمين الدولة إلى نشز مرتفع ينظر إلى الحرب، ونزل عن دابته وعفر وجهه على الصعيد تواضعاً لله تعالى، وسأله النصر والظفر، ثم نزل وحمل في فيلته على قلب ايلك الخان، فأزاله عن مكانه، ووقعت الهزيمة فيهم، وتبعهم أصحاب يمين الدولة يقتلون، ويأسرون، ويغنمون إلى أن عبروا بهم النهر، وأكثر الشعراء تهنئة يمين لدولة بهذا الفتح. ذكر غزوه إلى الهندفلما فرغ يمين لدولة من الترك سار نحو الهند للغزاة. وسبب ذلك أن بعض أولاد ملوك الهند، يعرف بنواسه شاه وكان قد أسلم على يده، واستخلفه على بعض ما افتتحه من بلادهم. فلما كان الآن بلغه أنه ارتد عن الإسلام، ومالأ أهل الكفر والطغيان، فسار إليه مجداً، فحين قاربه فر الهندي من بين يديه، واستعاد يمين الدولة تلك الولاية، وأعادها إلى حكم الإسلام، واستخلف عليها بعض أصحابه، وعاد إلى غزنة. ذكر حصر أبي جعفر الحجاج بغداد
في هذه السنة جمع أبو جعفر الحجاج جمعاً كثيراً، وأمده بدر بن حسنويه بجيش كثير، فسار بالجميع وحصر بغداد. وسبب ذلك أن أبا جعفر كان نازلاً على قلج حامي طريق خراسان، وكان قلج مبايناً لعميد الجيوش، فاجتمعا لذلك. فتوفي قلج هذه السنة، فجعل عميد الجيوش على حماية الطريق أبا الفتح بن عناز، وكان عدواً لبدر بن حسنويه، فحقد ذلك بدر، فاستدعى أبا جعفر الحجاج، وجمع له جمعاً كثيراً، منهم الأمير هندي بن سعدي، وأبو عيسى شاذي بن محمد، وورام بن محمد، وغيرهم، وسيرهم إلى بغداد. وكان الأمير أبو الحسن علي بن مزيد الأسدي قد عاد من عند بهاء الدولة بخوزستان مغضباً، فاجتمع معهم، فزادت عدتهم على عشرة آلاف فارس. وكان عميد الجيوش عند بهاء الدولة لقتال أبي العباس بن واصل، فسار أبو جعفر ومن اجتمع معه إلى بغداد، ونزلوا على فرسخ منها، وأقاموا شهراً، وببغداد جمعٌ من الأتراك، ومعهم أبو الفتح بن عناز، فحفظوا البلد، فبينما هم كذلك أتاهم خبر انهزام أبي العباس، وقوة بهاء الدولة، ففت ذلك في أعضاد أبي جعفر ومن معه، فتفرقوا، فعاد ابن مزيد إلى بلده، وسار أبو جعفر وأبو عيسى إلى حلوان، وراسل أبو جعفر في إصلاح حاله مع بهاء الدولة، فأجابه إلى ذلك، فحضر عنده بتستر، فلم يلتفت إليه لئلا يستوحش عميد الجيوش. ذكر قصد بدر ولاية رافع بن مقنكان أبو الفتح بن عناز التجأ إلى رافع بن محمد بن مقن، ونزل عليه، حين أخذ بدر بن حسنويه منه حلوان وقرميسين، فأرسل بدر إلى رافع يذكر مودة أبيه، وحقوقه عليه، ويعتب عليه حيث آوى خصمه، ويطلب إليه أن يبعده ليدوم له على العهد والود القديم. فلم يفعل رافع ذلك، فأرسل بدر جيشاً إلى أعمال رافع بالجانب الشرقي من دجلة فنهبها، وقصدوا داره بالمطيرة فنهبوها، وأحرقوها، وساروا إلى قلعة البردان، وهي لرافع أيضاً، ففتحوها قهراً، وأحرقوا ما كان بها من الغلات، وطموا بئرها، فسار أبو الفتح إلى عميد الجيوش ببغداد، فخلع عليه وأكرمه ووعده نصره. ذكر قتل أبي العباس بن واصلفي هذه السنة قتل أبو العباس بن واصل، صاحب البصرة، وقد تقدم ذكر ابتداء حاله، وارتفاعه، واستيلائه على البطيحة، وما أخذه من الأموال، وما هزم من جيوش السلطان، وغير ذلك مما هو مذكور في مواضعه. فلما عظم أمره سار بهاء الدولة من فارس إلى الأهواز ليحفظ خوزستان منه، وكان في البطائح مقابل عميد الجيوش، فلما فرغ منه سار إلى الأهواز، وبها بهاء الدولة، فملكها على ما ذكرناه وعاد منها على صلح مع بهاء الدولة إلى البصرة، وقد ذكرناه أيضاً. ثم تجدد ما أوجب عوده إلى الأهواز، فعاد إليها في جيشه، وبهاء الدولة مقيم بها، فلما قاربها رحل بهاء الدولة عنها لقلة عسكره، وتفرقهم: بعضهم بفارس، وبعضهم بالعراق، وقطع قنطرة أربق، وبقي النهر يحجز بين الفريقين، فاستولى أبو العباس على الأهواز، وأتاه مدد من بدر بن حسنويه ثلاثة آلاف فارس، فقوي بهم. وعزم بهاء الدولة على العود إلى فارس، فمنعه أصحابه، فأصلح أبو العباس القنطرة، وجرى بين العسكرين قتال شديد دام إلى السحر، ثم عبر أبو العباس على القنطرة بعد أن أصلحها، والتقى العسكران واشتد القتال، فانهزم أبو العباس، وقتل من أصحابه كثير، وعاد إلى البصرة مهزوماً منتصف رمضان سنة ست وتسعين وثلاثمائة. فلما عاد منهزماً جهز بهاء الدولة إليه العساكر مع وزيره أبي غالب، فسار إليه، ونزل عليه محاصراً له، وجرى بين العسكرين القتال، وضاق الأمر على الوزير، وقل المال عنده، واستمد بهاء الدولة فلم يمده. ثم إن أبا لعباس جمع سفنه وعساكره، وأصعد إلى عسكر الوزير، وهجم عليه، فانهزم الوزير، وكاد يتم على الهزيكة، فاستوقفه بعض الديلم وثبته، وحملوا على أبي العباس فانهزم هو وأصحابه، وأخذ الوزير سفنه، فاستأمن إليه كثير من أصحابه. ومضى، أبو العباس منهزماً، وركب مع حسان بن ثمان الخفاجي هارباً إلى الكوفة، ودخل الوزير البصرة، وكتب إلى بهاء الدولة بالفتح.
ثم إن أبا العباس سار من الكوفة، وقطع دجلة، ومضى عازماً على اللحاق ببدر بن حسنويه، فبلغ خانقين، وبها جعفر بن العوام في طاعة بدر، فأنزله وأكرمه، وأشار عليه بالمسير في وقته، وحذره الطلب، فاعتل بالتعب، وطلب الاستراحة، ونام، وبلغ خبره إلى أبي الفتح بن عناز وهو في طاعا بهاء الدولة، وكان قريباً منهم، فسار إليهم بخانقين، وهو بها، فحصره وأخذه وسار به إلى بغداد، فسيره عميد الجيوش إلى بهاء الدولة، فلقيهم في الطريق قاصدٌ من بهاء الدولة يأمره بقتله، فقتل وحمل رأسه إلى بهاء الدولة، وطيف به بخوزستان وفارس، وكان بواسط عاشر صفر. ذكر مسير عميد الجيوش إلى حرب بدر وصلحه معه كان في نفس بهاء الدولة على بدر بن حسنويه حقدٌ لما اعتمده في بلاده لاشتغاله عنه بأبي العباس بن واصل، فلما قتل أبو العباس أمر بهاء الدولة عميد الجيوش بالمسير إلى بلاده، وأعطاه مالاً أنفقه في الجند، فجمع عسكراً وسار يريد بلاده، فنزل جنديسابور. فأرسل إليه بدر: إنك لم تقدر على أن تأخذ ما تغلب عليه بنو عقيل من أعمالكم، وبينهم وبين بغداد فرسخ، حتى صالحتهم، فكيف تقدر على أخذ بلادي وحصوني مني، ومعي من الأموال ما ليس معك مثلها ؟ وأنا معك بين أمرين إن حاربتك، فالحرب سجال، ولا نعلم لمن العاقبة، فإن انهزمت أنا لم ينفعك ذلك لأنني أ؛تمي بقلاعي ومعاقلي، وأنفق أموالي، وإذا عجزت فأنا رجلٌ صحراوي، صاحب عمد، أبعد ثم أقرب، وإن انهزمت أنت لم تجتمع، وتلقى من صاحبك العتب؛ والرأي أن أحمل إليك مالاً ترضي به صاحبك، ونصطلح. فأجابه إلى ذلك، وصالحه، وأخذ منه ما كان أخرجه على تجهيز الجيش وعاد عنه. ذكر الحرب بين قرواش وأبي علي بن ثمال الخفاجيفي المحرم جرت وقعة بين معتمد الدولة أبي المنيع قرواش بن المقلد العقيلي، وبين أبي علي بن ثمال الخفاجي، وكان سببها أن قرواشاً جمع جمعاً كثيراً وسار إلى الكوفة، وأبو علي غائب عنها، فدخلها ونزل بها، وعرف أبو علي الخبر، فسار إليه، فالتقوا واقتتلوا، فانهزم قرواش وعاد إلى الأنبار مفلولاً؛ وملك أبو علي الكوفة، وأخذ أصحاب قرواش فصادرهم. ذكر خروج أبي ركوة على الحاكم بمصرفي هذه السنة ظفر الحاكم بأبي ركوة، ونحن نذكر ها هنا خبره أجمع. كان أبو ركوة اسمه الوليد، وإنما كني أبا ركوة لركوةٍ كان يحملها في أسفاره، سنة الصوفية، وهو من ولد هشام بن عبد الملك بن مروان، ويقرب في النسب من المؤيد هشام بن الحاكم الأموي، صاحب الأندلس، وإن المنصور ابن أبي عامر لما استولى على المؤيد هشام بن الحاكم الأموي، صاحب الأندلس، وإن المنصور ابن أبي عامر لما استولى على المؤيد وأخفاه عن الناس، تتبع أهله ومن يصلح منهم للملك، فطلبه، فقتل البعض وهرب البعض. وكان أبو ركوة ممن هرب، وعمره حينئذ قد زاد على العشرين سنة، وقصد مصر، وكتب الحديث، ثم سار إلى مكة واليمن، وعاد إلى مصر ودعا بها إلى القائم، فأجابه بنو قرة وغيرهم. وسبب استجابتهم أن الحاكم بأمر الله كان قد أسرف في مصر في قتل القواد، وحبسهم، وأخذ أموالهم، وسائر القبائل معه في ضنكٍ وضيقٍ، ويودون خروج الملك عن يده؛ وكان الحاكم في الوقت الذي دعا أبو ركوة بني قرة قد آذاهم، وحبس منهم جماعة من أعيانهم، وقتل بعضهم، فلما دعاهم أبو ركوة انقادوا له. وكان بين بني قرة وبين زناته حروب ودماء، فاتفقوا على الصلح، ومنع أنفسهم من الحاكم، فقصد بني قرة، وفتح يعلم الصبيان الخط، وتظاهر بالدين والنسك، وآمهم في صلواتهم، فشرع في دعوتهم إلى ما يريد، فأجابوه وبايعوه، واتفقوا عليه، وعرفهم حينئذ نفسه، وذكر لهم أن عندهم في الكتب أنه يملك مصر وغيرها، ووعدهم ومناهم، وما يعدهم الشيطان إلا غروراً. فاجتمعت بنو قرة وزناتة على بيعته، وخاطبوه بالإمامة، وكانوا بنواحي برقة. فلما سمع الوالي ببرقة خبره كتب إلى الحاكم ينهيه إليه، ويستأذنه في قصدهم وإصلاحهم، فأمره بالكف عنهم وأطراحهم. ثم إن أبا ركوة جمعهم وسار إلى برقة، واستقر بينهم أن يكون الثلث من الغنائم له، والثلثان لبني قرة وزناتة، فلما قاربها خرج إليه واليها، فالتقوا، فانهزم عسكر الحاكم، وملك أبو ركوة برقة، وقوي هو ومن معه بما أخذوا من الأموال والسلاح وغيره، ونادى بالكف عن الرعية والنهب، وأظهر العدل وأمر بالمعروف.
فلما وصل المنهزمون إلى الحاكم عظم عليه الأمر، وأهمته نفسه وملكه، وعاود الإحسان إلى الناس، والكف عن أذاهم، وندب عسكراً نحو خمسة آلاف فارس وسيرهم، وقدم عليهم قائداً يعرف بينال الطويل، وسيره، فبلغ ذات الحمام، وبينها وبين برقة مفازة فيها منزلان، لا يلقى السالك الماء إلا في آبار عميقة بصعوبة وشدة. فسير أبو ركوة قائداً في ألف فارس، وأمرهم بالمسير إلى ينال ومن معه ومطاردتهم قبل الوصول إلى المنزلين المذكورين، وأمرهم، إذا عادوا، أن يغوروا الآبار، ففعلوا ذلك وعادوا، فحينئذ سار أبو ركوة في عساكره ولقيهم وقد خرجوا من المفازة على ضعفٍ وعطش، فقاتلهم، فاشتد القتال، فحمل ينال على عسكر أبي ركوة، فقتل منهم خلقاً كثيراً، وأبو ركوة واقف لم يحمل هو ولا عسكره، فاستأمن إليه جماعة كثيرة من كتامة لما نالهم من الأذى والقتل من الحاكم، وأخذوا الأمان لمن بقي من أصحابهم، ولحقهم الباقون، فحمل حينئذ بهم على عساكر الحاكم، فانهزمت وأسر ينال وقتل، وأسر أكثر عسكره، وقتل منهم خلق كثير، وعاد إلى برقة وقد امتلأت أيديهم من الغنائم. وانتشر ذكره، وعظمت هيبته، وأقام ببرقة، وترددت سراياه إلى الصعيد وأرض مصر، وقام الحاكم من ذلك وقعد، وسقط في يده، وندم على ما فرط، وفرح جند مصر وأعيانها، وعلم الحاكم ذلك، فاشتد قلقه، وأظهر الاعتذار عن الذي فعله. وكتب الناس إلى أبي ركوة يستدعونه، وممن كتب إليه الحسين بن جوهر المعروف بقائد القواد، فسار حينئذ عن برقة إلى الصعيد، وعلم الحاكم، فاشتد خوفه، وبلغ الأمر به كل مبلغ، وجمع عساكره واستشارهم، وكتب إلى الشام يستدعي العساكر، فجاءته، وفرق الأموال، والدواب، والسلاح، وسيرهم وهم اثنا عشر ألف رجل بين فارس وراجل، سوى العرب، واستعمل عليهم الفضل بن عبدالله. فلما قاربوا أبا ركوة لقيهم في عساكره، ورام مناجزة المصريين، والفضل يحاجزه، ويدافع، ويراسل أصحاب أبي ركوة يستميلهم ويبذل لهم الرغائب، فأجابه قائد كبير من بني قرة يعرف بالماضي، وكان يطالعه بأخبار القوم وما هم عازمون، فيدبر الفضل أمره على حسب ما يعلمه منه.. وضاقت الميرة على العساكر، فاضطر الفضل إلى اللقاء، فالتقوا واقتتلوا بكوم شريك، فقتل بين الفريقين قتلى كثيرة، ورأى الفضل من جمع أبي ركوة ما هاله، وخاف المناجزة فعاد إلى عسكره. وراسل بنو قرة العرب الذين في عسكر الحاكم يستدعونهم إليهم ويذكرونهم أعمال الحاكم بهم، فأجابوهم، واستقر الأمر أن يكون الشام للعرب ويصير لأبي ركوة معه مصر، وتواعدوا ليلة يسير فيها أبو ركوة إلى الفضل، فإذا وصل إليه انهزمت العرب، ولا يبقى دون مصر مانع. فكتب الماضي إلى الفضل بذلك، فلما كان ليلة الميعاد جمع الفضل رؤساء العرب ليفطروا عنده، وأظهر أنه صائم، وطاولهم الحديث، وتركهم في خيمة واعتزلهم، ووصى أصحابه بالحذر، ورام العرب العود إلى خيامهم، فعللهم وطاولهم، ثم أحضر الطعام وأحضرهم، فأكلوا وتحدثوا. وسير الفضل سرية إلى طريق أبي ركوة، فلقوا العسكر الوارد من عنده، فاقتتلوا، ووصل الخبر إلى العسكر وارتج، وأراد العرب الركوب، فمنعهم، وأرسل إلى أصحابهم من العرب فأمرهم بالركوب والقتال، ولم يكن عندهم علم بما فعل رؤساؤهم، فركبوا واشتد القتال، ورأى بنو قرة الأمر على خلاف ما قرروه. ثم ركب الفضل ومعه رؤساء العرب، وقد فاتهم ما عزموا عليه، فباشروا الحرب وغاصوا فيها، وورد أبو ركوة مدداً لأصحابه، فلما رآه الفضل رد أصحابه وعاد إلى المدافعة. وجهز الحاكم عسكراً آخر، أربعة آلاف فارس، وعبروا إلى الجيزة، فسمع أبو ركوة بهم، فسار مجداً في عسكره ليوافقهم عند مصر، وضبط الطرق لئلا يسمع الفضل، ولم يكن الماضي يكاتبه، فساروا، وأرسل إليه من الطريق يعرفه الخبر، وقطع أبو ركوة مسيره خمس ليالٍ في ليلتين، وكبسوا عسكر الحاكم بالجيزة، وقتلوا نحو ألف فارس، وخاف أهل مصر، ولم يبرز الحاكم من قصره، وأمر الحاكم من عنده من العساكر بالعبور إلى الجيزة، ورجع أبو ركوة فنزل عند الهرمين، ثم انصرف من يومه، وكتب الحاكم إلى الفضل كتاباً ظاهراً يقول فيه: إن أبا ركوة انهزم من عساكرنا، ليقرأه على القواد وكتب إليه سراً يعلمه الحال. فأظهر الفضل البشارة بانهزام أبي ركوة تسكيناً للناس.
ثم سار أبو ركوة إلى موضع يعرف بالسبخة، كثير الأشجار، وتبعه الفضل، وكمن أبو ركوة بين الأشجار، وطارد عسكر الفضل، ورجع عسكره القهقري ليستجروا عسكر الفضل ويخرج الكمين عليهم، فلما رأى الكمناء رجوع عسكر أبي ركوة ظنوها الهزيمة لا شك فيها، فولوا يتبعونهم، وركبهم أصحاب الفضل، وعلوهم بالسيوف فقتل منهم ألوف كثيرة، وانهزم أبو ركوة ومعه بنو قرة وساروا إلى حللهم، فلما بلغوها ثبطهم الماضي عنه، فقالوا له: قد قاتلنا معك، ولم يبق فينا قتال، فخذ لنفسك وانج؛ فسار إلى بلد النوبة، فلما بلغ إلى حصن يعرف بحصن الجبل للنوبة أظهر أنه رسول من الحاكم إلى ملكهم، فقال له صاحب الحصن: الملك عليل، ولا بد من استخراج أمره في مسيرك إليه. وبلغ الفضل الخبر، فأرسل إلى صاحب القلعة بالخبر على حقيقته، فوكل به من يحفظه، وأرسل إلى الملك بالحال، وكان ملك النوبة قد توفي وملك ولده، فأمر بأن يسلم إلى نائب الحاكم، فتسلمه رسول الفضل وسار به، فلقيه الفضل وأكرمه وأنزله في مضاربه، وحمله إلى مصر فأشهر بها، وطيف به. وكتب أبو ركوة إلى الحاكم رقعة يقول فيها: يا مولانا الذنوب عظيمة، وأعظم منها عفوك، والدماء حرام ما لم يحللها سخطك، وقد أحسنت وأسأت وما ظلمت إلا نفسي، وسوء عملي أوبقني، وأقول: فررت فلم يغن الفرار، ومن يكن ... مع الله لم يعجزه في الأرض هارب ووالله ما كان الفرار لحاجةٍ، ... سوى فزع الموت الذي أنا شارب وقد قادني جرمي إليك برمّتي، ... كما خرّ ميتٌ في رحا الموت سارب وأجمع كلّ الناس أنّك قاتلي، ... فيما ربّ ظنّ ربّه فيك كاذب وما هو إلاّ الانتقام، وينتهي، ... وأخذك منه واجباً لك واجب ولما طيف به ألبس طرطوراً، وجعل خلفه قرد يصفعه، كان معلماً بذلك، ثم حمل إلى ظاهر القاهرة ليقتل ويصلب، فتوفي قبل وصوله، فقطع رأسه وصلب، وبالغ الحاكم في إكرام الفضل إلى حد أنه عاده في مرضةٍ مرضها دفعتين، فاستعظم الناس ذلك، ثم إنه عمل في قتل الفضل لما عوفي فقتله. ذكر القبض على مجد الدولة وعوده إلى ملكهفي هذه السنة قبضت والدة مجد الدولة بن فخر الدولة بن بويه، صاحب الري وبلد الجبل، عليه. وكان سبب ذلك أن الحكم كان إليها في جميع، أعمال ابنها، فلما وزر له الخطير أبو علي بن علي بن القاسم استمال الأمراء، ووضعهم عليها، والشكوى عليها، وخوف ابنها منها، فصار كالمحجور عليه. فخرجت من الري إلى القلعة فوضع عليها من يحفظها، فعملت الحيلة حتى هربت إلى بدر بن حسنويه، واستعانت به في ردها إلى الري. وجاءها ولدها شمس الدولة، وعساكر همذان، وسار معها بدر إلى الري فحصروها، وجرى بين الفرقين قتال كثير مدةً، ثم استظهر بدر، ودخل البلد، وأسر مجد الدولة، فقيدته والدته وسجنته بالقلعة، وأجلست أخاه شمس الدولة في الملك وصار الأمر إليها. وعاد بدر إلى بلده، وبقي شمس الدولة في الملك نحو سنة، فرأت والدته منه تنكراً وتغيراً، وأن أخاه مجد الدولة ألين عريكةً، وأسلم جانباً، فأعادته إلى الملك، وسار شمس الدولة إلى همذان، وكره بدر هذه الحالة إلا أنه اشتغل بولده هلال عن الحركة فيها، وصارت هي تدبر الأمر، وتسمع رسائل الملوك، وتعطي الأجوبة. وأرسل شمس الدولة إلى بدر يستمده، فسير إليه جنداً، فأخذهم وسار بهم إلى قم، فحصروها، فمنعها أهلها. ثم إن العساكر دخلوا طرفاً منها واشتغلوا بالنهب، فأكب عليهم العامة وقتلوا منهم نحو سبعمائة رجل، وانهزم الباقون إلى معسكرهم، ثم قبض هلال بن بدر على أبيه، فتفرق ذلك الجمع كله. ذكر عدة حوادثفي هذه السنة اشتد الغلاء بالعراق، فضج العامة، وشغب الجند وكانت فتنة. وفيها توفي عبد الصمد الزاهد، ودفن عند قبر أحمد، وكان غاية في الزهد والورع. وفيها هب على الحجاج ريح سوداء بالثعلبية أظلمت لها الأرض، ولم ير الناس بعضهم بعضاً، وأصابهم عطش شديد، ومنعهم ابن الجراح الطائي من المسير ليأخذ منهم مالاً، فضاق الوقت عليهم، فعادوا ولم يحجوا. وفيها مات علي بن أحمد أبو الحسن الفقيه المالكي، المعروف بابن القصار. ثم دخلت سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة ذكر غزوة بهيم نفر
لما فرغ يمين الدولة من الغزوة المتقدمة وعاد إلى غزنة، واستراح هو وعسكره، استعد لغزوة أخرى، فسار في ربيع الآخر من هذه السنة، فانتهى إلى شاطئ نهر هندمند، فلاقاه هناك ابرهمن بال بن اندبال في جيوش الهند، فاقتتلوا ملياً، وكادت الهند تظفر بالمسلمين، ثم إن الله تعالى نصر عليهم، فظفر بهم المسلمون، فانهزموا على أعقابهم، وأخذهم المسلمون بالسيف. وتبع يمين الدولة أثر ابرهمن بال، حتى بلغ قلعة بهيم نغر، وهي على جبل عالٍ كان الهند قد جعلوها خزانةً لصنمهم الأعظم، فينقلون إليهال أنواع الذخائر، قرناً بعد قرن، وأعلاق الجواهر، وهم يعتقدون ذلك ديناً وعبادة، فاجتمع فيها على طول الأزمان ما لم يسمع بمثله، فنازلهم يمين الدولة وحصرهم وقاتلهم. فلما رأى الهنود كثرة جمعه، وحرصهم على القتال، وزحفهم إليهم مرة بعد أخرى، خافوا وجبنوا، وطلبوا الأمان، وفتحوا باب الحصن، وملك المسلمون القلعة، وصعد يمين الدولة إليها في خواص أصحابه وثقاته، فأخذ منها من الجواهر ما لا يحد، ومن الدراهم تسعين ألف ألف درهم شاهية، ومن الأواني الذهبيات والفضيات سبعمائة ألف وأربعمائة من، وكان فيها بيت مملوء من فضة طوله ثلاثون ذراعاً، وعرضه خمسة عشر ذراعاً، إلى غير ذلك من الأمتعة. وعاد إلى غزنة بهذه الغنائم، ففرش تلك الجواهر في صحن داره، وكان قد اجتمع عنده رسل الملوك، فأدخلهم إليه، فرأوا ما لم يسمعوا بمثله. ذكر حال أبي جعفر بن كاكويههو أبو جعفر بن دشمنزيار، وإنما قيل كاكويه لأنه كان ابن خال والدة مجد الدولة بن فخر الدولة بن بويه، وكاكويه هو الخال بالفارسية، وكانت والدة مجد الدولة قد استعملته على أصبهان، فلما فارقت ولدها فسد حاله، فقصد الملك بهاء الدولة وأقام عنده مدة، ثم عادت والدة مجد الدولة إلى ابنها بالري، فهرب أبو جعفر وسار إليها، فأعادته إلى أصبهان، واستقر فيها قدمه، وعظم شأنه، وسيأتي من أخباره ما يعلم به صحة ذلك، إن شاء الله تعالى. ذكر عدة حوادثفي هذه السنة، في ربيع الأول، وقع ثلج كثير ببغداد وواسط والكوفة، والبطائح إلى عبادان، وكانت ببغداد نحو ذراع، وبقي في الطرق نحو عشرين يوماً. وفيها وقعت الفتنة ببغداد في رجب، وكان أولها أن بعض الهاشميين من باب البصرة أتى ابن المعلم فقيه الشيعة في مسجده بالكرخ، فآذاه، ونال منه، فثار به أصحاب ابن المعلم، واستنفر بعضهم بعضاً، وقصدوا أبا حامد الأسفراييني وابن الأكفاني فسبوهما وطلبوا الفقهاء ليوقعوا بهم، فهربوا، وانتقل أبو حامد الأسفراييني إلى دار القطن، وعظمت الفتنة، ثم إن السلطان أخذ جماعةً وسجنهم، فسكنوا، وعاد أبو حامد إلى مسجده، وأخرج ابن المعلم من بغداد، فشفع فيه علي بن مزيد فأعيد. وفيها وقع الغلاء بمصر واشتد، وعظم الأمر، وعدمت الأقوات، ثم تعقبه وباء كثير أفنى كثيراً من أهلها. وفيها زلزلت الدينور زلزلةً شديدةً خربت المساكن، وهلك خلق كثير من أهلها؛ وكان الذين دفنوا ستة عشر ألفاً سوى من بقي تحت الهدم ولم يشاهد. وفيها أمر الحاكم بأمر الله، صاحب مصر، بهدم بيعة قمامة، وهي بالبيت المقدس، وتسميها العامة القيامة، وفيها الموضع الذي دفن فيه المسيح، عليه السلام، فيما يزعمه النصارى، وإليها يحجون من أقطار الأرض، وأمر بهدم البيع في جميع مملكته، فهدمت، وأمر اليهود والنصارى إما أن يسلموا؛ أو يسيروا إلى بلاد الروم ويلبسوا الغيار، فأسلم كثير منهم، ثم أمر بعمارة البيع، ومن اختار العود إلى دينه عاد، فارتد كثير من النصارى. وفيها توفي أبو العباس أحمد بن إبراهيم الضبي، وزير مجد الدولة، ببروجرد، وكان سبب مجيئه إليها أن أم مجد الدولة بن بويه اتهمته أنه سم أخاه فمات، فلما توفي أخوه طلبت منه مائتي دينار لتنفقها في مأتمه، فلم يعطها، فأخرجته، فقصد بروجرد، وهي من أعمال بدر بن حسنويه، فبذل بعد ذلك مائتي ألف دينار ليعود إلى عمله، فلم يقبل منه، فأقام بها إلى أن توفي، وأوصى أن يدفن بمشهد الحسين، عليه السلام، فقيل للشريف أبي أحمد، والد الشريف الرضي، أن يبيعه بخمس مائة دينار موضع قبره، فقال: من يريد جوار جدي لا يباع؛ وأمر أن يعمل له قبر وسير معه من أصحابه خمسين رجلاً، فدفنه بالمشهد.
وتوفي بعده بيسير ابنه أبو القاسم سعد؛ وأبو عبدالله الجرجاني الحنفي بعد أن فلج؛ وأبو الفرج عبد الواحد بن نصر المعروف بالببغاء الشاعر، وديوانه مشهور؛ والقاضي أبو عبدالله الضبي بالبصرة؛ والبديع أبو الفضل أحمد ابن الحسين الهمذاني، صاحب المقامات المشهورة، وله شعر حسن، وقرأ الأدب على أبي الحسين بن فارس مصنف المجمل. وتوفي أبو بكر أحمد بن علي بن لالٍ الفقيه الشافعي الهمذاني بنواحي عكا بالشام، كان انتقل إلى هناك. ثم دخلت سنة تسع وتسعين وثلاثمائة | |
|
| |
الشيخ عودة الشيخ عودة
عدد المساهمات : 1748 تاريخ التسجيل : 28/09/2008 العمر : 74
| موضوع: رد: كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير الأحد فبراير 23, 2014 6:07 am | |
| ذكر ابتداء حال صالح بن مرداس لما قتل عيسى بن خلاط أبا علي بن ثمال بالرحبة وملكها، أقام فيها مدةً، ثم قصده بدران بن المقلد العقيلي، فأخذ الرحبة منه وبقيت لبدران. فأمر الحاكم بأمر الله نائبه بدمشق لؤلؤاً البشاري بالمسير إليها، فقصد الرقة أولاً وملكها، ثم سار إلى الرحبة وملكها ثم عاد إلى دمشق. وكان بالرحبة رجل من أهلها يعرف بابن محكان، فملك البلد، واحتاج إلى من يجعله ظهره، ويستعين به على من يطمع فيه، فكاتب صالح بن مرداس الكلابي، فقدم عليه وأقام عنده مدةً، ثم إن صالحاً تغير عن ذلك، فسار إلى ابن محكان وقاتله على البلد، وقطع الأشجار، ثم تصالحا، وتزوج ابنة ابن محكان، ودخل صالح البلد إلا أنه كان أكثر مقامه بالحلة. ثم إن ابن محكان راسل أهل عانة فأطاعوه، ونقل أهله وماله إليهم، وأخذ رهائنهم، ثم خرجوا عن طاعته، وأخذوا ماله واستعادوا رهائنهم وردوا أولاده، فاجتمع ابن محكان وصالح على قصد عانة، فسارا إليها، فوضع صالح على ابن محكان من يقتله، فقتل غيلةً، وسار صالح إلى الرحبة فملكها، وأخذ أموال ابن محكان وأحسن إلى الرعية، واستمر على ذلك، إلا أن الدعوة للمصريين. ذكر عدة حوادثفي هذه السنة قتل أبو علي بن ثمال الخفاجي، وكان الحاكم بأمر الله، صاحب مصر، قد ولاه الرحبة، فسار إليها، فخرج إليه عيسى بن خلاط العقيلي فقتله وملك الرحبة، ثم ملكها بعده غيره، فصار أمرها إلى صالح بن مرداس الكلابي صاحب حلب. وفيها صرف أبو عمر بن عبد الواحد الهاشمي عن قضاء البصرة، وكان قد علا إسناده في رواية السنن لأبي داود السجستاني، ومن طريقه سمعناه، وولي القضاء بعده أبو الحسن بن أبي الشوارب، فقال العصفري الشاعر: عندي حديثٌ طريفٌ ... بمثله يتغنّى من فاضيين يعزّى ... هذا وهذا يهنّا فذا يقول اكرهونا ... وذا يقول استرحنا ويكذبان ونهذي ... فمن يصدّق منّا ؟ وفيها توفي أبو داود بن سيامرد بن باجعفر، ودفن عند قبر النذور بنهر المعلى، وقبته مشهورة؛ وأبو محمد النامي الفقيه الشافعي، وهو القائل: يا ذا الذي قاسمني في البلى، ... فاختار أن يسكنه أوّلا ما وطّنت نفسي، ولكنّها ... تسري إليكم منزلاً، منزلا ثم دخلت سنة أربع مائة ذكر وقعة نارين بالهند في هذه السنة تجهز يمين الدولة إلى الهند عازماً على غزوها، فسار إليها واخترقها واستباحها ونكس أصنامها. فلما رأى ملك الهند أنه لا قوة له به راسله في الصلح والهدنة على مال يؤديه، وخمسين فيلاً، وأن يكون له في خدمته ألفا فارس لا يزالون. فقبض منه ما بذله وعاد عنه إلى عزنة. ذكر الخلف بين بدر بن حسنويه وابنه هلالفي هذه السنة كانت حرب بين بدر بن حسنويه الكردي وبين ابنه هلال. وكان سبب الوحشة بينهما أن أم هلال كانت من الشاذنجان، فاعتزلها أبوه عند ولاته، فنشأ هلال مبعداً منه لا يميل إليه،وكانت نعمة بدر لابنه الآخر أبي عيسى.
فلما كان في عض الأيام خرج هلال مع أبيه متصيداً، فرأيا سبعاً، وكان بدر إذا رأى سبعاً قتله بيده، فتقدم هلال إلى الأسد بغير إذن أبيه فقتله، فاغتاظ أبوه وقال: كأنك قد فتحت فتحاً، وأي فرقٍ بين السبع والكلب ؟ ورأى إبعاده عنه لشدته، فأقطعه الصامغان، وسهل ذلك على هلال لينفرد بنفسه عن أبيه، فأول ما فعله أنه أساء مجاورة ابن الماضي، صاحب شهرزور، وكان موافقا لأبيه بدر، فنهى بدر ابنه هلالاً عن معارضته، فلم يسمع قوله، وأرسل إلى ابن الماضي يتهدده، فأعاد بدر مراسلة ابنه في معناه، وتهدده إن تعرض بشي هو له، فكان جواب نهيه أنه جمع عسكره وحصر شهرزور ففتحها، وقتل ابن الماضي وأهله، وأخذ أموالهم. فورد على بدر من ذلك ما أزعجه وأقلقه، وأظهر السخط على هلال. وشرع هلال يفسد جند أبيه ويستميلهم ويبذل لهم، فكثر أصحاب هلال لإحسانه إليهم وبذله المال لهم، وأعرض الناس عن بدر لإمساكه المال، فسار كل واحد منهما إلى صاحبه، فالتقيا على باب الدينور، فلما تراءى الجمعان انحازت الأكراد إلى هلال، فأخذ بدر أسيراً وحمل إلى ابنه، فأشير على هلال بقتله، وقالوا: لا يجوز أن تستبقيه بعدما أوحشته؛ فقال: ما بلغ من عقوقي له أن أقتله؛ وحضر عند أبيه وقال له: أنت الأمير، وأنا مدبر جيشك. فخادعه أبوه بأن قال له: لا يسمعن هذا منك أحدٌ فيكون هلاكنا جميعاً، وهذه القلعة لك، والعلامة في تسليمها كذا وكذا، واحفظ المال الذي بها، فإنك الأمير ما دام الناس يظنون بقاءه، وأريد أن تفرد لي قلعة أتفرغ فيها للعبادة. ففعل ذلك، وأعطاه جملة من المال. فلما استقر بدر بالقلعة عمرها وحصنها، وراسل أبا الفتح بن عناز، وأبا عيسى شاذي بن محمد، وهو بأساداباذ، يقول لكل واحدٍ منهما ليقصد أعمال هلال ويشعثها. فسار أبو الفتح إلى قرميسين فملكها، وسار أبو عيسى إلى سابور خواست، فنهب حلل هلال، ومضى إلى نهاوند، وبها أبو بكر بن رافع، فاتبعه هلال إليها، ووضع السيف في الديلم فقتل منهم أربع مائة نفس، منهم تسعون أميراً، وأسلم ابن رافع أبا عيسى إلى هلال، فعفا عنه، ولم يؤاخذه على فعله، وأخذه معه. وأرسل بدر إلى الملك بهاء الدولة يستنجده، فجهز فخر الملك أبا غالب في جيش وسيره إلى بدر، فسار حتى وصل إلى سابور خواست، فقال هلال لأبي عيسى شاذي: قد جاءت عساكر بهاء الدولة، فما الرأي ؟ قال: الرأي أن تتوقف عن لقائهم، وتبذل لبهاء الدولة الطاعة، وترضيه بالمال، فإن لم يجيبوك فضيق عليهم، وانصرف بين أيديهم، فإنهم لا يستطيعون المطاولة، ولا تظن هذا العسكر كمن لقيته بباب نهاوند، فإن أولئك ذللهم أبوك على ممر السنين. فقال: غششتني ولم تنصحني، وأردت بالمطاولة أن يقوى أبي وأضعف أنا؛ وقتله، وسار ليكبس العسكر ليلاً. فلما وصل إليهم وقع الصوت، فركب فخر الملك في العساكر، وجعل عند أثقالهم من يحميها، وتقدم إلى قتال هلال، فلما رأى هلال صعوبة الأمر ندم، وعلم أن أبا عيسى بن شاذي نصحه، فندم على قتله، ثم أرسل إلى فخر الملك يقول له: إنني ما جئت لقتال وحرب، إنما جئت لأكون قريباً منك، وأنزل على حكمك، فترد العسكر عن الحرب، فإنني أدخل في الطاعة. فمال فخر الملك إلى هذا القول، وأرسل الرسول إلى بدر ليخبره بما جاء به. فلما رأى بدر الرسول سبه وطرده، وأرسل إلى فخر الملك يقول له: إن هذا مكر من هلال، لما رأى ضعفه، والرأي أن لا تنفس خناقه. فلما سمع فخر الملك الجواب قويت نفسه، وكان يتهم بدراً بالميل إلى ابنه، وتقدم إلى الجيش بالحرب، فقاتلوا، فلم يكن بأسرع من أن أتي بهلال أسيراً، فقبل الأرض، وطلب أن لا يسلمه إلى أبيه، فأجابه إلى ذلك، وطلب علامته بتسليم القلعة، فأعطاهم العلامة، فامتنعت أمه ومن بالقلعة من التسليم، وطلبوا الأمان، فأمنهم فخر الملك، وصعد القلعة ومعه أصحابه، ثم نزل منها وسلمها إلى بدر، وأخذ ما فيها من الأموال وغيرها، وكانت عظيمة، قيل: كان بها أربعون ألف بدرة دراهم، وأربع مائة بدرة ذهباً، سوى الجواهر النفيسة، والثياب، والسلاح وغير ذلك. وأكثر الشعراء ذكر هذا، فممن قال مهيار: فظنّوك تعبا بحمل العراق، ... كأن لم يروك حملت الجبالا ولو لم تكن في العلوّ السماء ... لما كان غنمك منها هلالا
سريت إليه، فكنت السرار ... له، ولبدر أبيه كمالا وهي كثيرة. ذكر عود المؤيد إلى إمارة الأندلس وما كان منه قد ذكرنا سبب خلعه وحبسه، فلما كان هذه السنة أعيد إلى خلافته، واسمه هشام بن الحاكم بن عبد الرحمن الناصر، وكان عوده تاسع ذي الحجة، وكان الحكم في دولته هذه إلى واضح العامري، وأدخل أهل قرطبة إليه، فوعدهم ومناهم، وكتب إلى البربر الذين مع سليمان بن الحاكم بن سليمان بن عبد الرحمن الناصر، ودعاهم إلى طاعته، والوفاء ببيعته، فلم يجيبوه إلى ذلك، فأمر أجناده وأهل قرطبة بالحذر والاحتياط، فأحبه الناس. ثم نقل إليه أن نفراً من الأمويين بقرطبة قد كاتبوا سليمان، وواعدوه ليكون بقرطبة في السابع والعشرين من ذي الحجة ليسلموا إليه البلد، فأخذهم وحبسهم، فلما كان الميعاد قدم البربر إلى قرطبة، فركب الجند وأهل قرطبة وخرجوا إليهم مع المؤيد، فعاد البربر وتبعتهم عساكره، فلم يلحقوهم، وترددت الرسل بينهم فلم يتفقوا على شيء. ثم إن سليمان والبربر راسلوا ملك الفرنج يستمدونه، وبذلوا له تسليم حصون كان المنصور بن أبي عامر قد فتحها منهم، فأرسل ملك الفرنج إلى المؤيد يعرفه الحال، ويطلب منه تسليم هذه الحصون لئلا يمد سليمان بالعساكر. فاستشار أهل قرطبة في ذلك، فأشاروا بتسليمها إليه خوفاً من أن ينجدوا سليمان، واستقر الصلح في المحرم سنة إحدى وأربعمائة. فلما أيس البربر من إنجاد الفرنج رحلوا، فنزلوا قريباً من قرطبة في صفر سنة إحدى وأربعمائة، وجعلت خيلهم تغير يميناً وشمالاً، وخربوا البلاد. وعمل المؤيد وواضح العامري سوراً وخندقاً على قرطبة أمام السور الكبير، ثم نزل سليمان قرطبة خمسة وأربعين يوماً فلم يملكها، فانتقل إلى الزهراء وحصرها، وقاتل من بها ثلاثة أيام. ثم إن بعض الموكلين بحفظها سلم إليه الباب الذي هو موكل بحفظه، فصعد البربر السور وقاتلوا من عليه حتى أزالوهم، وملكوا البلد عنوةً، وقتل أكثر من به من الجند، وصعد أهله الجبل، واجتمع الناس بالجامع، فأخذهم البربر وذبحوهم، حتى النساء والصبيان، وألقوا النار في الجامع والقصر والديار، فاحترق أكثر ذلك ونهبت الأموال. ثم إن واضحاً كاتب سليمان يعرفه أنه يريد الانتقال عن قرطبة سراً، ويشير عليه بمنازلتها بعد مسيره عنها، ونمى الخبر إلى المؤيد، فقبض عليه وقتله، واشتد الأمر بقرطبة، وعظم الخطب، وقلت الأقوات، وكثر الموت، وكانت الأقوات عند البربر أقل منها بالبلد، لأنهم كانوا قد خربوا البلاد، وجلا أهل قرطبة، وقتل المؤيد كل من مال إلى سليمان. ثم إن البربر وسليمان لازموا الحصار والقتال لأهل قرطبة، وضيقوا عليهم، وفي مدة هذا الحصار ظهر بطليطلة عبيدالله بن محمد بن عبد الجبار، وبايعه أهلها، فسير إليهم المؤيد جيشاً، فحصروهم، فعادوا إلى الطاعة، وأخذ عبيدالله أسيراً، وقتل في شعبان سنة إحدى وأربعمائة. ثم إن أهل قرطبة قاتلوا في بعض الأيام البربر فقتل منهم خلق كثير، وغرق في النهر مثلهم، فرحلوا عنها، وساروا إلى إشبيلية فحصروها، فأرسل المؤيد إليها جيشاً فحماها، ومنع البربر عنها، وراسل سليمان نائب المؤيد بسرقسطة وغيرها يدعوهم إليه، فأجابوه وأطاعوه، فسار البربر وسليمان عن إشبيلية إلى قلعة رباح، فملكوها، وغنموا ما فيها، واتخذوها داراً، ثم عادوا إلى قرطبة فحصروها، وقد خرج كثير من أهلها وعساكرها من الجوع والخوف، واشتد القتال عليها، وملكها سليمان عنوة وقهراً، وقتلوا من وجدوا في الطرق، ونهبوا البلد وأحرقوه، فلم تحص القتلى لكثرتهم. ونزل البربر في الدور التي لم تحرق، فنال أهل قرطبة من ذلك ما لم يسمع بمثله، وأخرج المؤيد من القصر وحمل إلى سليمان، ودخل سليمان قرطبة منتصف شوال سنة ثلاث وأربعمائة وبويع له بها. ثم إن المؤيد جرى له مع سليمان أقاصيص طويلة؛ ثم خرج إلى شرق الأندلس من عنده. وكان ممن قتل في هذا الحصر أبو الوليد بن الفرضي مظلوماً، رحمه الله. ذكر عدة حوادثفي هذه السنة أرسل الحاكم بأمر الله من مصر إلى المدينة، ففتح بيت جعفر الصادق، وأخرج منه مصحف وسيف وكساء وقعب وسرير. وفيها نقص الماء بدجلة حتى أصلحت ما بين أوانا وقريب بغداد، حتى جرت السفن فيها.
وفيها مرض أبو محمد بن سهلان، فاشتد مرضه، فنذر إن عوفي بنى سوراً على مشهد أمير المؤمنين علي، عليه السلام، فعوفي، فأمر ببناء سور عليه، فبني في هذه السنة، تولي بناءه أبو إسحاق الأرجاني. وفيها ولد عدنان ابن الشريف الرضي. وفيها توفي النقيب أبو أحمد الموسوي، والد الرضي، بعد أن أضر ووقف بعض أملاكه على البر، وصلى عليه ابنه الأكبر المرتضى، ودفن بداره، ثم نقل إلى مشهد الحسين، عليه السلام، وكان مولده سنة أربع وثلاثمائة. وفيها توفي أيضاً أبو جعفر الحجاج بن هرمز بالأهواز؛ وعمدة الدولة أبو إسحاق بن معز الدولة بن بويه بمصر. وفيها مرض الخليفة القادر بالله، واشتد مرضه، فأرجف عليه، فجلس للناس وبيده القضيب، فدخل إليه أبو حامد الأسفراييني، فقال لابن حاجب النعمان: اسأل أمير المؤمنين أن يقرأ شيئاً من القرآن ليسمع الناس قراءته؛ فقرأ: (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ اْلمُنَافِقُونَ والَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ والمُرْجِفُونَ في المَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّك بِهِمْ) الآيات الثلاث الأحزاب: 60. وفيها توفي أبو العباس النامي الشاعر؛ وأبو الفتح علي بن محمد البستي الكاتب الشاعر، صاحب الطريقة المشهورة في التجنيس، فمن شعره: يا أيّها السائل عن مذهبي ... ليقتدي فيه بمنهاجي منهاجي العدل. وقمع الهوى، ... فهل لمنهاجي من هاجي ثم دخلت سنة إحدى وأربعمائة ذكر غزوة يمين الدولة بلاد الغور بلاد الغور تجاور غزنة، وكان الغور يقطعون الطريق، ويخيفون السبيل، وبلادهم جبال وعرة، ومضايق غلقة، وكانوا يحتمون بها، ويعتصمون بصعوبة مسلكها، فلما كثر ذلك منهم أنف يمين الدولة محمود بن سبكتكين أن يكون مثل أولئك المفسدين جيرانه، وهم على هذه الحال من الفساد والكفر، فجمع العساكر وسار إليهم وعلى مقدمته التونتاش الحاجب، صاحب هراة، وأرسلان الجاذب صاحب طوس، وهما أكبر أمرائه، فسارا فيمن معهما حتى انتهوا إلى مضيق قد شحن بالمقاتلة، فتناوشوا الحرب، وصبر الفريقان. فسمع يمين الدولة الحال، فجد في السير إليهم، وملك عليهم مسالكهم، فتفرقوا، وساروا إلى عظيم الغورية المعروف بابن سوري، فانتهوا إلى مدينته التي تدعى اهنكران، فبرز من المدينة في عشرة آلاف مقاتل، فقاتلهم المسلمون إلى أن انتصف النهار، فرأوا أشجع الناس وأقواهم على القتال، فأمر يمين الدولة أن يولوهم الأدبار على سبيل الاستدراج، ففعلوا. فلما رأى الغورية ذلك ظنوه هزيمة، فاتبعوهم حتى أبعدوا عن مدينتهم، فحينئذ عطف المسلمون عليهم ووضعوا السيوف فيهم فأبادوهم قتلاً وأسراً، وكان في الأسرى كبيرهم وزعيمهم ابن سوري، ودخل المسلمون المدينة وملكوها، وغنموا ما فيها، وفتحوا تلك القلاع والحصون التي لهم جميعها، فلما عاين ابن سوري ما فعل المسلمون بهم شرب سماً كان معه، فمات وخسر الدنيا والآخرة، (ذَلِكَ هُوَ الخُسْرانُ المُبِينُ). وأظهر يمين الدولة في تلك الأعمال شعار الإسلام، وجعل عندهم من يعلمهم شرائعه وعاد؛ ثم سار إلى طائفة أخرى من الكفار، فقطع عليهم مفازة من رمل، ولحق عساكره عطش شديد وكادوا يهلكون، فلطف الله، سبحانه وتعالى، بهم وأرسل عليهم مطراً سقاهم، وسهل عليهم السير في الرمل، فوصل إلى الكفار، وهم جمع عظيم، ومعهم ستمائة فيل، فقاتلهم أشد قتال صبر فيه بعضهم لبعض، ثم إن الله نصر المسلمين، وهزم الكفار، وأخذ غنائمهم، وعاد سالماً مظفراً منصوراً. ذكر الحرب بين ايلك الخان وبين أخيهوفي هذه السنة سار ايلك الخان في جيوش قاصداً قتال أخيه طغان خان، فلما بلغ يوزكند سقط من الثلج ما منعهم من سلوك الطرق، فعاد إلى سمرقند. وكان سبب قصده أن أخاه أرسل إلى يمين الدولة يعتذر، ويتنصل من قصد أخيه ايلك الخان بلاد خراسان، ويقول: إنني ما رضيت ذلك منه؛ ويلزم أخاه وحده الذنب، وتبرأ هو منه، فلما علم أخوه ايلك الخان ذلك ساءه وحمله على قصده. ذكر الخطبة للمصريين العلويين بالكوفة والموصل
في هذه السنة أيضاً خطب قرواش بن المقلد أمير بني عقيل للحاكم بأمر الله العلوي، صاحب مصر، بأعماله كلها، وهي: الموصل، والأنبار، والمدائن، والكوفة وغيرها، وكان ابتداء الخطبة بالموصل: الحمد لله الذي انجلت بنوره غمرات العصب. وانهدت بقدرته أركان النصب. وأطلع بنوره شمس الحق من العرب. فأرسل القادر بالله، أمير المؤمنين، القاضي أبا بكر بن الباقلاني إلى بهاء الدولة يعرفه ذلك، وأن العلويين والعباسيين انتقلوا من الكوفة إلى بغداد، فأكرم بهاء الدولة القاضي أبا بكر، وكتب إلى عميد الجيوش يأمره بالمسير إلى حرب قرواش، وأطلق له مائة ألف دينار ينفقها في العسكر، وخلع على القاضي أبي بكر، وولاه قضاء عمان والسواحل. وسار عميد الجيوش إلى حرب قرواش فأرسل يعتذر وقطع خطبة العلويين وأعاد خطبة القادر بالله. ذكر الحرب بين بني مزيد وبني دبيسكان أبو الغنائم محمد بن مزيد مقيماً عند بني دبيس في جزيرتهم، بنواحي خوزستان، لمصاهرة بينهم، فقتل أبو الغنائم أحد وجوههم، ولحق بأخيه أبي الحسن علي بن مزيد، فتبعوه فلم يدركوه، وانحدر إليهم سند الدولة أبو الحسن بن مزيد في ألفي فارس، واستنجد عميد الجيوش، فانحدر إليه عجلاً في زبزبة في ثلاثين ديلمياً، وسار ابن مزيد إليهم فلقيهم، واقتتلوا فقتل أبو الغنائم، وانهزم أبو الحسن بن مزيد، فوصل الخبر بهزيمته إلى عميد الجيوش وهو منحدر فعاد. ذكر وفاة عميد الجيوش وولاية فخر الملك العراق في هذه السنة توفي عميد الجيوش أبو علي بن أستاذ هرمز ببغداد، وكانت ولايته ثماني سنين وأربعة أشهر وسبعة عشر يوماً، وكان عمره تسعاً وأربعين سنة، وتولى تجهيزه ودفنه الشريف الرضي، دفنه بمقابر قريش، ورثاه الرضي وغيره. وكان أبوه، أبو جعفر استاذ هرمز، من حجاب عضد الدولة، وجعل عضد الدولة عميد الجيوش في خدمة ابنه صمصام الدولة، فلما قتل اتصل بخدمة بهاء الدولة. فلما استولى الخراب على بغداد، وظهر العيارون، وانحلت الأمور بها، أرسله إليها، فأصلح الأمور، وقمع المفسدين وقتلهم. فلما مات استعمل بهاء الدولة مكانه بالعراق فخر الملك أبا غالب، فأصعد إلى بغداد، فلقيه الكتاب والقواد وأعيان الناس، وزينوا له البلاد، ووصل بغداد في ذي الحجة، ومدحه مهيار وغيره من الشعراء. ومن محاسن أعمال عميد الجيوش أنه حمل إليه مال كثير قد خلفه بعض التجار المصريين، وقيل له: ليس للميت وارث، فقال: لا يدخل خزانة السلطان ما ليس لها، يترك إلى أن يصح خبره. فلما كان بعد مدة جاء أخ للميت بكتاب من مصر بأنه مستحق للتركة، فقصد باب عميد الجيوش ليوصل الكتاب، فرآه يصلي على روشن داره فظنه بعض الحجاب، فأوصل الكتاب إليه فقضى حاجته، فلما علم التاجر أن الذي أخذ الكتاب كان عميد الجيوش عظم الأمر عنده، فأظهر ذلك، فاستحسنه الناس، ولما وصل التاجر إلى مصر أظهر الدعاء له، فضج الناس بالدعاء له والثناء عليه، فبلغه الخبر فسره ذلك. ذكر عدة حوادثفي هذه السنة اشتد الغلاء بخراسان جميعها، وعدم القوت حتى أكل الناس بعضهم بعضاً، فكان الإنسان يصيح: الخبز الخبز ! ويموت، ثم تبعه وباءٌ عظيم حتى عجز الناس عن دفن الموتى. وفيها مات أبو الفتح محمد بن عناز بحلوان، وكانت إمارته عشرين سنة، وقام بعده ابنه أبو الشوك فسيرت إليه العساكر من بغداد لقتاله، ولقيهم أبو الشوك وقاتلهم قتالاً شديداً، وانهزم أبو الشوك إلى حلوان، وأقام بها إلى أن أصلح حاله مع الوزير أبي غالب لما قدم العراق. وفيها توفي أبو عبدالله محمد بن مقن بن مقلد بن جعفر بن عمرة بن المهيا العقيلي، وفي مقلد يجتمع آل المسيب وآل مقن، وكان عمره مائة وعشر سنين، وكان بخيلاً شديد البخل، وشهد مع القرامطة أخذ الحجر الأسود. وفيها توفي الأمير أبو نصر أحمد بن أبي الحارث محمد بن فريغون، صاحب الجوزجان، وكان صهر يمين الدولة على أخته، وكان هو وأبوه قبله يحبان العلماء ويحسنان إليهم. وفيها انقض كوكب كبير لم ير أكبر منه. وفيها زادت دجلة إحدى وعشرين ذراعاً، وغرق كثير من بغداد والعراق، وتفجرت البثوق؛ ولم يحج هذه السنة من العراق أحدٌ.
وفيها توفي إبراهيم بن محمد بن عبيد أبو مسعود الدمشقي الحافظ، سافر الكثير في طلب الحديث، وله عناية بصحيحي البخاري ومسلم؛ وتوفي أيضاً خلف بن محمد بن علي بن حمدون أبو محمد الواسطي، كان فاضلاً، وله اطراف الصحيحين أيضاً. ثم دخلت سنة اثنتين وأربعمائة ذكر ملك يمين الدولة قصدار في هذه السنة استولى يمين الدولة على قصدار، وملكها. وسبب ذلك أن ملكها كان قد صالحه على قطيعة يؤديها إليه، ثم قطعها اغتراراً بحصانة بلده، وكثرة المضايق في الطريق، واحتمى بايلك الخان، وكان يمين الدولة يريد قصدها، فيتقي ناحية ايلك الخان. فلما فسد ذات بينهما صمم العزم وقصدها وتجهز، وأظهر أنه يريد هراة، فسار من غزنة في جمادى الأولى، فلما استقل على الطريق سار نحو قصدار، فسبق خبره، وقطع تلك المضايق والجبل، فلم يشعر صاحبها إلا وعسكر يمين الدولة قد أحاط به ليلاً، فطلب الأمان فأجابه وأخذ منه المال الذي كان قد اجتمع عنده، وأقره على ولايته وعاد. ذكر أسر صالح بن مرداس وملكه حلب وملك أولاده في هذه السنة كانت وقعة بين أبي نصر بن لؤلؤ، صاحب حلب، وبين صالح بن مرداس، وكان ابن لؤلؤ من موالي سعد الدولة بن سيف الدولة بن حمدان، فقوي على ولد سعد الدولة وأخذ البلد منه، وخطب للحاكم صاحب مصر، ولقبه الحاكم مرتضى الدولة. ثم فسد ما بينه وبين الحاكم، فطمع فيه ابن مرداس، وبنو كلاب، وكانوا يطالبونه بالصلات والخلع. ثم إنهم اجتمعوا هذه السنة في خمسمائة فارس، ودخلوا مدينة حلب، فأمر ابن لؤلؤ بإغلاق الأبواب والقبض عليهم، فقبض على مائة وعشرين رجلاً، منهم صالح بن مرداس، وحبسهم، وقتل مائتين وأطلق من لم يفكر به. وكان صالح قد تزوج بابنة عم له يسمى جابراً، وكانت جميلة، فوصفت لابن لؤلؤ، فخطبها إلى إخوتها، وكانوا في حبسه، فذكروا له أن صالحاً قد تزوجها، فلم يقبل منهم، وتزوجها، ثم أطلقهم، وبقي صالح بن مرداس في الحبس، فتوصل حتى صعد من السور وألقى نفسه من أعلى القلعة إلى تلها، واختفى في مسيل ماء. ووقع الخبر بهربه، فأرسل ابن لؤلؤ الخيل في طلبه، فعادوا ولم يظفروا به. فلما سكن عنه الطلب سار بقيده ولبنة حديد في رجليه، حتى وصل قريبة تعرف بالياسرية، فرأى ناساً من العرب فعرفوه وحملوه إلى أهله بمرج دابق، فجمع ألفي فارس فقصد حلب وحاصرها اثنين وثلاثين يوماً، فخرج إليه ابن لؤلؤ فقاتله، فهزمهم صالح وأسر ابن لؤلؤ، وقيده بقيده الذي كان في رجله ولبنته. وكان لابن لؤلؤ أخٌ فنجا وحفظ مدينة حلب. ثم إن ابن لؤلؤ بذل لابن مرداس مالاً على أن يطلقه، فلما استقر الحال بينهما أخذ رهائنه وأطلقه، فقالت أم صالح لابنها: قد أعطاك الله ما لا كنت تؤمله، فإن رأيت أن تتم صنيعك بإطلاق الرهائن فهو المصلحة، فإنه إن أراد الغدر بك لا يمنعه من عندك؛ فأطلقهم، فلما دخلوا البلد حمل ابن لؤلؤ إليه أكثر مما استقر، وكان قد تقرر عليه مائتا ألف دينار، ومائة ثوب، وإطلاق كل أسير عنده من بني كلاب. فلما انفصل الحال ورحل صالح أراد ابن لؤلؤ قبض غلامه فتح، وكان دزدار القلعة، لأنه اتهمه بالممالأة على الهزيمة، وكان خلاف ظنه، فأطلع على ذلك غلاماً له اسمه سرور، وأراد أن يجعله مكان فتح، فأعلم سرور بعض أصدقائه ويعرف بابن غانم. وسبب إعلامه أنه حضر عنده، وكان يخاف ابن لؤلؤ لكثرة ماله، فشكا إلى سرور ذلك، فقال له: سيكون أمر تأمن معه؛ فسأله، فكتمه، فلم يزل يخدعه حتى أعلمه الخبر.
وكان بين ابن غانم وبين فتح مودة، فصعد إليه بالقلعة متنكراً، فأعلمه الخبر، وأشار عليه بمكاتبة الحاكم صاحب مصر، وأمر ابن لؤلؤ أخاه أبا الجيش بالصعود إلى القلعة بحجة افتقاد الخزائن، فإذا صار فيها قبض على فتح، وأرسل إلى فتح يعلمه أنه يريد افتقاد الخزائن، ويأمره بفتح الأبواب. فقال فتح: إنني قد شربت اليوم دواء، وأسأل تأخير الصعود في هذا اليوم، فإنني لا أثق في فتح الأبواب لغيري؛ وقال للرسول: إذا لقيته فاردده. فلما علم ابن لؤلؤ الحال أرسل والدته إلى فتح ليعلم سبب ذلك، فلما صعدت إليه أكرمها، وأظهر لها الطاعة، فعادت وأشارت على أبنها بترك محاقته ففعل، وأرسل إليه يطلب جوهراً كان له بالقلعة، فغالطه فتح ولم يرسله فسكت على مضض لعلمه أن المحاقة لا تفيد لحصانة القلعة، وأشارت والدة ابن لؤلؤ عليه بأن يتمارض، ويظهر شدة المرض، ويستدعي الفتح لينزل إليه ليجعله وصياً، فإذا حضر قبضه. ففعل ذلك، فلم ينزل الفتح، واعتذر، وكاتب الحاكم، وأظهر طاعته، وخطب له، وأظهر العصيان على أستاذه، وأخذ من الحاكم صيدا، وبيروت، وكل ما في حلب من الأموال. وخرج ابن لؤلؤ من حلب إلى إنطاكية، وبها الروم، فأقام عندهم. وكان صالح بن مرداس قد مالأ الفتح على ذلك، فلما عاد عن حلب استصحب معه والدة ابن لؤلؤ ونساءه، وتركهن بمنبج، وتسلم حلب نواب الحاكم، وتنقلت بأيديهم حتى صارت بيد إنسان من الحمدانية يعرف بعزيز الملك، فقدمه الحاكم واصطنعه وولاه حلب، فلما قتل الحاكم وولي الظاهر عصى عليه، فوضعت ست الملك أخت الحاكم فراشاً على قتله فقتله. وكان للمصريين بالشام نائب يعرف بأنوشتكين البربري، وبيده دمشق، والرملة، وعسقلان، وغيرها، فاجتمع حسان أمير بني طي، وصالح بن مرداس أمير بني كلاب، وسنان بن عليان، وتحالفوا، واتفقوا على أن يكون من حلب إلى عانة لصالح، ومن الرملة إلى مصر لحسان، ودمشق لسنان، فسار حسان إلى الرملة فحصرها، وبها أنوشتكين، فسار عنها إلى عسقلان، واستولى عليها حسان ونهبها وقتل أهلها، وذلك سنة أربع عشرة وأربعمائة، أيام الظاهر لإعزاز دين الله خليفة مصر. وقصد صالح حلب، وبها إنسان يعرف بابن ثعبان يتولى أمرها للمصريين، وبالقلعة خادم يعرف بموصوف، فأما أهل البلد فسلموه إلى صالح لإحسانه إليهم، ولسوء سيرة المصريين معهم، وصعد ابن ثعبان إلى القلعة، فحصره صالح بالقلعة، فغار الماء الذي بها، فلم يبق لهم ما يشربون، فسلم الجند القلعة إليه، وذلك سنة أربع عشرة، وملك من بعلبك إلى عانة، وأقام بحلب ست سنين. فلما كان سنة عشرين وأربعمائة جهز الظاهر صاحب مصر جيشاً، وسيرهم إلى الشام لقتال صالح وحسان، وكان مقدم العسكر أنوشتكين البربري، فاجتمع صالح وحسان على قتاله، فاقتتلوا بالأقحوانة على الأردن، عند طبرية، فقتل صالح وولده الأصغر، وأنفذ رأساهما إلى مصر، ونجا ولده أبو كامل نصر بن صالح، فجاء إلى حلب وملكها، وكان لقبه شبل الدولة. فلما علمت الروم بإنطاكية الحال، تجهزوا إلى حلب في عالم كثير، فخرج أهلها فحاربوهم فهزموهم، ونهبوا أموالهم، وعادوا إلى إنطاكية، وبقي شبل الدولة مالكاً لحلب إلى سنة تسع وعشرين وأربعمائة، فأرسل إليه الدزبري العساكر المصرية، وصاحب مصر حينئذ المستنصر بالله، فلقيهم عند حماة، فقتل في شعبان وملك الدزبري حلب في رمضان سنة تسع وعشرين، وملك الشام جميعه، وعظم أمره، وكثر ماله، وأرسل يستدعي الجند الأتراك من البلاد، فبلغ المصريين عنه أنه عازم على العصيان، فتقدموا إلى أهل دمشق بالخروج عن طاعته، ففعلوا، فسار عنها نحو حلب في ربيع الآخر سنة ثلاث وثلاثين وتوفي بعد ذلك بشهر واحد.
وكان أبو علوان ثمال بن صالح بن مرداس الملقب بمعز الدولة بالرحبة، فلما بلغه موت الدزبري جاء إلى حلب فملكها تسليماً من أهلها، وحاصر امرأة الدزبري وأصحابه بالقلعة أحد عشر شهراً، وملكها في صفر سنة أربع وثلاثين فبقي فيها إلى سنة أربعين. فأنفذ المصريون إلى محاربته أبا عبدالله بن ناصر الدولة بن حمدان، فخرج أهل حلب إلى حربه، فهزمهم، واختنق منهم بالباب جماعة، ثم إنه رحل عن حلب وعاد إلى مصر، وأصابهم سيل ذهب بكثير من دوابهم وأثقالهم. فأنفذ المصريون إلى قتال معز الدولة خادماً يعرف برفق فخرج إليه في أهل حلب، فقاتلوه، فانهزم المصريون، وأسر رفق، ومات عندهم، وكان أسره سنة إحدى وأربعين في ربيع الأول. ثم إن معز الدولة بعد ذلك أرسل الهدايا إلى المصريين، وأصلح أمره معهم، ونزل لهم عن حلب فأنفذوا إليها أبا علي الحسن بن علي بن ملهم، ولقبوه مكين الدولة، فتسلمها من ثمال في ذي القعدة سنة تسع وأربعين، وسار ثمال إلى مصر في ذي الحجة وسار أخوه أبو ذؤابة عطية بن صالح إلى الرحبة، وأقام ابن ملهم بحلب فجرى بين بعض السودان وأحداث حلب حرب. وسمع ابن ملهم أن بعض أهل حلب قد كاتب محمود بن شبل الدولة نصر ابن صالح يستدعونه ليسلموا البلد إليه، فقبض على جماعة منهم، وكان منهم رجل يعرف بكامل بن نباتة، فخاف، فجلس يبكي، وكان يقول لكل من سأله عن بكائه: إن أصحابنا الذين أخذوا قد قتلوا، وأخاف على الباقين. فاجتمع أهل البلد، واشتدوا، وراسلوا محموداً، وهو عنهم مسيرة يومٍ، يستدعونه، وحصروا ابن ملهم، وجاء محمود وحصره معهم في جمادى الآخرة سنة اثنتين وخمسين. ووصلت الأخبار إلى مصر، فسيروا ناصر الدولة أبا علي بن ناصر الدولة ابن حمدان في عسكرٍ، بعد اثنين وثلاثين يوماً من دخول محمود حلب، فلما قارب البلد خرج محمود عن حلب إلى البرية، واختفى الأحداث جميعهم، وكان عطية بن صالح نازلاً بقرب البلد، وقد كره فعل محمود ابن أخيه، فقبض ابن ملهم على مائة وخمسين من الأحداث، ونهب وسط البلد، وأخذ أموال الناس. وأما ناصر الدولة فلم يمكن أصحابه من دخول البلد ونهبه، وسار في طلب محمود، فالتقيا بالغنيدق في رجب، فانهزم أصحاب ابن حمدان، وثبت هو فجرح وحمل إلى محمود أسيراً، فأخذه وسار إلى حلب فملكها، وملك القلعة في شعبان سنة اثنتين وخمسين وأربعمائة، وأطلق ابن حمدان، فسار هو وابن ملهم إلى مصر، فجهز المصريون معز الدولة ثمال بن صالح إلى ابن أخيه، فحصره في حلب في ذي الحجة من السنة، فاستنجد محمود خاله منيع بن شبيب بن وثاب النميري، صاحب حران، فجاء إليه، فلما بلغ ثمالاً مجيئه سار عن حلب إلى البرية في المحرم سنة ثلاث وخمسين، وعاد منيع إلى حران، فعاد ثمال إلى حلب، وخرج إليه محمود ابن أخيه، فاقتتلوا، وقاتل محمود قتالاً شديداً، ثم انهزم محمود فمضى إلى أخواله بني نمير بحران، وتسلم ثمال حلب في ربيع الأول سنة ثلاث وخمسين، وخرج إلى الروم، فغزاهم ثم توفي بحلب في ذي القعدة سنة أربع وخمسين، وكان كريماً، حليماً، وأوصى بحلب لأخيه عطية بن صالح فملكها. ونزل به قوم من التركمان مع ابن خان التركماني، فقوي بهم، فأشار أصحابه بقتلهم، فأمر أهل البلد بذلك، فقتلوا منهم جماعة، ونجا الباقون، فقصدوا محموداً بحران، واجتمعوا معه على حصار حلب، فحصرها وملكها في رمضان سنة أربع وخمسين. وقصد عمه عطية الرقة فملكها، ولم يزل بها حتى أخذها منه شرف الدولة مسلم بن قريش سنة ثلاث وستين، وسار عطية إلى بلد الروم، فمات بالقسطنطينية سنة خمس وستين. وأرسل محمود التركمان مع أميرهم ابن خان إلى ارتاح، فحصرها وأخذها من الروم سنة ستين، وسار محمود إلى طرابلس، فحصرها، وأخذ من أهلها مالاً وعاد، وأرسله محمود في رسالة إلى السلطان ألب أرسلان، ومات محمود في حلب سنة ثمان وستين في ذي الحجة، ووصى بها بعده لابنه مشيب، فلم ينفذ أصحابه وصيته لصغره، وسلموا البلد إلى ولده الأكبر، واسمه نصر، وجده لأمه الملك العزيز ابن الملك جلال الدولة ابن بويه وتزوجها عند دخولهم مصر لما ملك طغرلبك العراق.
وكان نصر يدمن شرب الخمر، فحمله السكر على أن خرج إلى التركمان الذين ملكوا أباه البلد، وهم بالحاضر، يوم الفطر، فلقوه، وقبلوا الأرض بين يديه، فسبهم وأراد قتلهم، فرماه أحدهم بنشابة فقتله، وملك أخوه سابق، وهو الذي كان أبوه أوصى له بحلب، فلما صعد القلعة استدعى أحمد شاه مقدم التركمان، وخلع عليه، وأحسن إليه، وبقي فيها إلى سنة اثنتين وسبعين، فقصده تتش بن ألب أرسلان، فحصره بحلب أربعة أشهر ونصفاً، ثم رحل عنه، ونازله شرف الدولة، فأخذ البلد منه، على ما نذكره إن شاء الله تعالى؛ فهذه جميع أخبار بني مرداس أتيت بها متتابعة لئلا تجهل إذا تفرقت. ذكر قتل جماعة من خفاجةلما فتح الملك فخر الدولة دير العاقول أتاه سلطان، وعلوان، ورجب، أولاد ثمال الخفاجي، ومعهم أعيان عشائرهم، وضمنوا حماية سقي الفرات، ودفع عقيل عنها، وساروا معه إلى بغداد، فأكرمهم وخلع عليهم، وأمرهم بالمسير مع ذي السعادتين الحسن بن منصور إلى الأنبار، فساروا، فلما صاروا بنواحي الأنبار أفسدوا وعاثوا، فقبض ذو السعادتين على نفر منهم، ثم أطلقهم واستحلفهم على الطاعة، والكف عن الأذى، فأشار كاتب نصرانيٌ من أهل دقوقا على سلطان بن ثمال بالقبض على ذي السعادتين، وأن يظهر أن عقيلاً قد أغاروا، فإذا خرج عسكر ذي السعادتين انفرد به فأخذه. فوصل إلى ذي السعادتين الخبر. ثم إن سلطاناً أرسل إليه يقول له إن عقيلاً قد قاربوا الأنبار، ويطلب منه إنفاذ العسكر، فقال ذو السعادتين: أنا أركب وآخذ العساكر؛ ثم دافعه إلى أن فات وقت السير، فانتقض على سلطان ما دبره، فأرسل يقول: قد أخذت جماعة من عقيل؛ ثم إن ذا السعادتين صنع طعاماً كثيراً، وحضر عنده سلطان وكاتبه النصراني وجماعة من أعيان خفاجة، فأمر أصحابه بقتل كثير منهم، وقبض على سلطان وكاتبه وجماعته، ونهب بيوتهم وما فيها، وحبس سلطاناً ومن معه ببغداد، حتى شفع فيهم أبو الحسن بن مزيد، وبذل مالاً عنهم فأطلقوا. وذكر ابن نباتة وغيره هذه الحادثة. ذكر القدح في نسب العلويين المصريينفي هذه السنة كتب ببغداد محضر يتضمن القدح في نسب العلويين خلفاء مصر، وكتب فيه المرتضى وأخوه الرضي وابن البطحاوي العلوي، وابن الأزرق الموسوي، والزكي أبو يعلى عمر بن محمد، ومن القضاة والعلماء ابن الأكفاني وابن الخرزي، وأبو العباس الأبيوردي، وأبو حامد الأسفراييني، والكشفلي، والقدوري، والصيمري، وأبو عبدالله بن البيضاوي، وأبو الفضل النسوي، وأبو عبدالله بن النعمان فقيه الشيعة، وغيرهم، وقد ذكرنا الاختلاف فيهم عند ابتداء دولتهم سنة ست وتسعين ومائتين. ذكر أخذ بني خفاجة الحجاجفي هذه السنة سارت خفاجة إلى واقصة، ونزحوا ماء البرمكي والريان وألقوا فيهما الحنظل؛ ووصل الحجاج من مكة إلى العقبة، فلقيهم خفاجة ومنعوهم الماء، ثم قاتلوهم فلم يكن فيهم امتناع، فأكثروا القتل، وأخذوا الأموال، ولم يسلم من الحاج إلا اليسير، فبلغ الخبر فخر الملك الوزير ببغداد، فسير العساكر في أثرهم، وكتب إلى أبي الحسن علي بن مزيد يأمره بطلب العرب، والأخذ منهم بثأر الحاج، والانتقام، فسار خلفهم فلحقهم وقد قاربوا البصرة، فأوقعوا بهم، فقتل منهم وأسر جمعاً كثيراً، وأخذ من أموال الحاج ما رآه، وكان الباقي قد أخذه العرب وتفرقوا، وأرسل الأسرى وما استرده من أمتعة الحاج إلى الوزير، فحسن موقعه منه. ذكر عدة حوادثفي هذه السنة توفي أبو الحسن بن اللبان الفرضي في ربيع الأول؛ وتوفي في شهر رمضان عثمان بن عيسى أبو عمرو الباقلاني العابد، وكان مجاب الدعوة، رحمة الله عليه. ثم دخلت سنة ثلاث وأربعمائة ذكر قتل قابوس في هذه السنة قتل شمس المعالي قابوس بن وشمكير. وكان سبب قتله أنه كان مع كثرة فضائله ومناقبه، عظيم السياسة، شديد الأخذ، قليل العفو، يقتل على الذنب اليسير، فضجر أصحابه منه، واستطالوا أيامه، واتفقوا على خلعه والقبض عليه.
وكان حينئذ غائباً عن جرجان، فخفي عليه الأمر، فلم يشعر ذات ليلة إلا وقد أحاط العسكر بباب القلعة التي كان بها، وانتهبوا أمواله، ودوابه، وأرادوا استنزاله من الحصن، فقاتلهم هو ومن معه من خواصه وأصحابه، فعادوا ولم يظفروا به، ودخلوا جرجان واستولوا عليها، وعصوا عليه بها، وبعثوا إلى ابنه منوجهر، وهو بطبرستان، يعرفونه الحال، ويستدعونه ليولوه أمرهم، فأسرع السير نحوهم خوفاً من خروج الأمر عنه، فالتقوا، واتفقوا على طاعته إن هو خلع أباه، فأجابهم إلى ذلك على كرهٍ. وكان أبوه شمس المعالي قد سار نحو بسطام عند حدوث هذه الفتنة لينظر فيما تسفر عنه، فأخذوا منوجهر معهم، عازمين على قصد والده وإزعاجه من مكانه، فسار معهم مضطراً، فلما وصل إلى أبيه أذن له وحده دون غيره، فدخل عليه وعنده جمع من أصحابه المحامين عنه، فلما دخل عليه تشاكيا ما هما فيه، وعرض عليه منوجهر أن يكون بين يديه في قتال أولئك القوم ودفعهم وإن ذهبت نفسه. فرأى شمس المعالي ضد ذلك، وسهل عليه حيث صار الملك إلى ولده، فسلم إليه خاتم الملك، ووصاه بما يفعله، واتفقا على أن ينتقل هو إلى قلعة جناشك يتفرغ للعبادة إلى أن يأتيه اليقين وينفرد منوجهر بتدبير الملك. وسار إلى القلعة المذكورة مع من اختاره لخدمته، وسار منوجهر إلى جرجان، وتولى الملك وضبطه ودارى أولئك الأجناد، وهم نافرون، خائفون من شمس المعالي ما دام حياً، فما زالوا يحتالون ويجيلون الرأي حتى دخلوا إلى منوجهر وخوفوه من أبيه مثل ما جرى لهلال بن بدر مع أبيه، وقالوا له: مهما كان والدك في الحياة لا نأمن نحن ولا أنت؛ واستأذنوه في قتله، فلم يرد عليهم جواباً، فمضوا إليه إلى الدار التي هو فيها، وقد دخل إلى الطهارة متخففاً، فأخذوا ما عنده من كسوة، وكان الزمان شتاء، وكان يستغيث: أعطوني ولو جل دابة ! فلم يفعلوا فمات من شدة البرد؛ وجلس ولده للعزاء، ولقب القادر بالله منوجهر فلك المعالي. ثم إن منوجهر راسل يمين الدولة، ودخل في طاعته، وخطب له على منابر بلاده، وخطب إليه أن يزوجه بعض بناته، ففعل، فقوي جنانه، وشرع في التدبير على أولئك الذين قتلوا أباه، فأبادهم بالقتل والتشريد. وكان قابوس غزير الأدب، وافر العلم، له رسائل وشعر حسن، وكان عالماً بالنجوم وغيرها من العلوم، فمن شعره: قل للذي بصروف الدهر عيّرنا ... هل عاند الدهر إلا من له خطر أما ترى البحر يطفو فوقه جيفٌ ... وتستقرّ بأقصى قعره الدّرر فإن تكن نشبت أيدي الخطوب بنا ... ومسّنا من توالي صرفها ضرر ففي السماء نجومٌ غير ذي عدد ... وليس يكسف إلاّ الشمس والقمر ذكر موت ايلك الخان وولاية أخيه طغان خان في هذه السنة توفي ايلك الخان وهو يتجهز للعود إلى خراسان، ليأخذ بثأره من يمين الدولة، وكاتب قدرخان وطغان خان ليساعداه على ذلك. فلما توفي ولي بعده أخوه طغان، فراسل يمين الدولة وصالحه، وقال له: المصلحة للإسلام والمسلمين أن تشتغل أنت بغزو الهند، وأشتغل أنا بغزو الترك، وأن يترك بعضنا بعضاً؛ فوافق ذلك هواه، فأجابه إليه، وزال الخلاف، واشتغلا بغزو الكفار. وكان ايلك الخان خيراً، عادلاً، حسن السيرة، محباً للدين وأهله، معظماً للعلم وأهله، محسناً إليهم. ذكر وفاة بهاء الدولة وملك سلطان الدولةفي هذه السنة، خامس جمادى الآخرة، توفي بهاء الدولة أبو نصر بن عضد الدولة بن بويه، وهو الملك حينئذ بالعراق، وكان مرضه تتابع الصرع مثل مرض أبيه، وكان موته بأرجان، وحمل إلى مشهد أمير المؤمنين علي، عليه السلام، فدفن عند أبيه عضد الدولة، وكان عمره اثنتين وأربعين سنة وتسعة أشهر ونصفاً، وملكه أربعاً وعشرين سنة. ولما توفي ولي الملك بعده ابنه سلطان الدولة أبو شجاع، وسار من أرجان إلى شيراز، وولى أخاه جلال الدولة أبا طاهر بن بهاء الدولة البصرة، وأخاه أبا الفوارس كرمان. ذكر ولاية سليمان الأندلس الدولة الثانيةفي هذه السنة ملك سليمان بن الحاكم بن سليمان بن عبد الرحمن الناصر الأموي، ولقب المستعين، وهذه غير ولايته، منتصف شوال، على ما ذكرناه سنة أربعمائة، وبايعه الناس وخرج أهل قرطبة إليه يسلمون عليه، فأنشد متمثلاً:
إذا ما رأوني طالعاً من ثنيّةٍ ... يقولون من هذا، وقد عرفوني يقولون لي أهلاً وسهلاً ومرحباً ... ولو ظفروا بي ساعةً قتلوني وكان سليمان أديباً شاعراً بليغاً، وأريق في أيامه دماء كثيرة لا تحد، وقد تقدم ذكر ذلك سنة أربعمائة، وكان البربر هم الحاكمين في دولته لا يقدر على خلافهم، لأنهم كانوا عامة جنده، وهم الذين قاموا معه حتى ملكوه، وقد تقدم ذكر ذلك. ذكر عدة حوادثفي هذه السنة خلع سلطان الدولة على أبي الحسن علي بن مزيد الأسدي، وهو أول من تقدم من أهل بيته. وفيها تقلد الرضي الموسوي، صاحب الديوان المشهور، نقابة العلويين ببغداد، وخلع عليه سواد، وهو أول طالبي خلع عليه السواد. وفيها توفي أبو بكر الخوارزمي واسمه محمد بن موسى، الفقيه الحنفي؛ وأبو الحارث محمد بن محمد بن عمر العلوي، نقيب الكوفة، وكان يسير الحاج عشر سنين؛ وأبو عبدالله الحسن بن حامد بن علي بن مروان، الفقيه الحنبلي، وله تصانيف في الفقه؛ والقاضي أبو بكر محمد بن الطيب المتكلم الأشعري:، وكان مالكي المذهب، رثاه بعضهم فقال: انظر إلى جبلٍ تمشي الرجال به، ... وانظر إلى القبر ما يحوي من الصّلف وانظر إلى صارم الإسلام منغمداً، ... وانظر إلى درّة الإسلام في الصّدف وفيها قتل أبو الوليد عبدالله بن محمد، المعروف بابن الفرضي الأندلسي: بقرطبة، قتله البربر. ثم دخلت سنة أربع وأربعمائة ذكر فتح يمين الدولة ناردين في هذه السنة سار يمين الدولة إلى الهند في جمع عظيم وحشد كثير، وقصد واسطة البلاد من الهند، فسار شهرين، حتى قارب مقصده، ورتب أصحابه وعساكره، فسمع عظيم الهند به، فجمع من عنده من قواده وأصحابه، وبرز إلى جبل هناك، صعب المرتقى، ضيق المسلك، فاحتمى به، وطاول المسلمين، وكتب إلى الهنود يستدعيهم من كل ناحية، فاجتمع عليه منهم كل من يحمل سلاحاً، فلما تكاملت عدته نزل من الجبل، وتصاف هو والمسلمون، واشتد القتال وعظم الأمر. ثم إن الله تعالى منح المسلمين أكتافهم فهزموهم، وأكثروا القتل فيهم، وغنموا ما معهم من مالٍ، وفيل، وسلاح، وغير ذلك. ووجد في بيت بد عظيم حجراً منقوراً دلت كتابته على أنه مبني منذ أربعين ألف سنة، فعجب الناس لقلة عقولهم. فلما فرغ من غزوته عاد إلى غزنة، وأرسل إلى القادر بالله يطلب منه منشوراً، وعهداً بخراسان وما بيده من الممالك، فكتب له ذلك، ولقب نظام الدين. ذكر ما فعله خفاجة دفعة أخرىفي هذه السنة جاء سلطان بن ثمال، واستشفع بأبي الحسن بن مزيد إلى فخر الملك ليرضى عنه، فأجابه إلى ذلك، فأخذ عليه العهود بلزوم ما يحمد أمره، فلما خرج وصلت الأخبار بأنهم نهبوا سواد الكوفة، وقتلوا طائفة من الجند، وأتى أهل الكوفة مستغيثين، فسير فخر الملك إليهم عسكراً، وكتب إلى ابن مزيد وغيره بمحاربتهم، فسار إليهم، وأوقع بهم بنهر الرمان، وأسر محمد بن ثمال وجماعة معه، ونجا سلطان وأدخل الأسرى إلى بغداد مشهرين وحبسوا. وهب على المنهزمين من بنى خفاجة ريح شديدة حارة، فقتلت منهم نحو خمسمائة رجل، وأفلت منهم جماعة ممن كانوا أسروا من الحجاج، وكانوا يرعون إبلهم وغنمهم، فعادوا إلى بغداد، فوجد بعضهم نساءهم قد تزوجن وولدن، واقتسمت تركاتهم. ذكر استيلاء طاهر بن هلال على شهرزورقد ذكرنا حال شهرزور، وأن بدر بن حسنويه سلمها إلى عميد الجيوش، فجعل فيها نوابه. فلما كان الآن سار طاهر بن هلال بن بدر إلى شهرزور، وقاتل من بها من عسكر فخر الملك، وأخذها منهم في رجب. فلما سمع الوزير الخبر أرسل إلى طاهر يعاتبه، ويأمره بإطلاق من أسر من أصحابه، ففعل، ولم تزل شهرزور بيد طاهر إلى أن قتله أبو الشوك، وأخذها منه، وجعلها لأخيه مهلهل. ذكر عدة حوادثفي هذه السنة سار أبو الحسن علي بن مزيد الأسدي إلى أبي الشوك على عزم محاربته، فاصطلحا من غير حرب، وتزوج ابنه أبو الأغر دبيس بن علي بأخت أبي الشوك. وفيها توفي القاضي أبو الحسن علي بن سعيد الإصطخري، وهو شيخ من شيوخ المعتزلة ومشهوريهم، وكان عمره قد زاد على ثمانين سنة، وله تصانيف في الرد على الباطنية. ثم دخلت سنة خمس وأربعمائة ذكر غزوة تانيشر
قد ذكر ليمين الدولة أن بناحية تانيشر فيلة من جنس فيلة الصيلمان الموصوفة في الحرب، وأن صاحبها غالٍ في الكفر والطغيان، والعناد للمسلمين، فعزم على غزوه في عقر داره، وأن يذيقه شربة من كأس قتاله، فسار في الجنود والعساكر والمتطوعة، فلقي في طريقه أودية بعيدة القعر، وعرة المسالك، وقفاراً فسيحة الأقطار والأطراف، بعيدة الأكناف، والماء بها قليل، فلقوا شدة، وقاسوا مشقة إلى أن قطعوها. فلما قاربوا مقصدهم لقوا نهراً شديد الجرية، صعب المخاضة، وقد وقف صاحب تلك البلاد على طرفه، يمنع من عبوره، ومعه عساكره، وفيلته التي كان يدل بها. فأمر يمين الدولة شجعان عسكره بعبور النهر، وإشغال الكافر بالقتال ليتمكن باقي العسكر من العبور، ففعلوا ذلك، وقاتلوا الهنود، وشغلوهم عن حفظ النهر، حتى عبر سائر العسكر في المخاضات، وقاتلوهم من جميع جهاتهم إلى آخر النهار، فانهزم الهند، وظفر المسلمون، وغنموا ما معهم من أموال وفيلة، وعادوا إلى غزنة موفرين ظافرين. ذكر قتل بدر بن حسنويه وإطلاق ابنه هلال وقتلهفي هذه السنة قتل بدر بن حسنويه أمير الجبل. وكان سبب قتله أنه سار إلى الحسين بن مسعود الكردي ليملك عليه بلاده، فحصره بحصن كوسحد، فضجر أصحاب بدر منه لهجوم الشتاء، فعزموا على قتله، فأتاه بعض خواصه وعرفه ذلك، فقال: فمن هم الكلاب حتى يفعلوا ذلك ! وأبعدهم، فعاد إليه، فلم يأذن له، فقال من وراء الخركاة: الذي أعلمتك قد قوي العزم عليه؛ فلم يلتفت إليه. وخرج فجلس على تل، فثاروا به، فقتله طائفة منهم تسمى الجورقان، ونهبوا عسكره، وتركوه وساروا. فنزل الحسين بن مسعود، فرآه ملقىً على الأرض، فأمر بتجهيزه وحمله إلى مشهد علي، عليه السلام، ليدفن فيه، ففعل ذلك. وكان عادلاً، كثير الصدقة والمعروف، كبير النفس، عظيم الهمة. ولما قتل هرب الجورقان إلى شمس الدولة أبي طاهر بن فخر الدولة بن بويه، فدخلوا في طاعته. وكان طاهر بن هلال بن بدر هارباً من جده بنواحي شهرزور، فلما عرف بقتله بادر يطلب ملكه، فوقع بينه وبين شمس الدولة حرب، فأسر طاهر وحبس وأخذ ما كان قد جمعه بعد أن ملك نائباً من أبيه هلال، وكان عظيماً، وحمله إلى همذان، وسار اللرية والشاذنجان إلى | |
|
| |
الشيخ عودة الشيخ عودة
عدد المساهمات : 1748 تاريخ التسجيل : 28/09/2008 العمر : 74
| موضوع: رد: كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير الأحد فبراير 23, 2014 6:08 am | |
| وعوده عنها لما ملك شمس الدولة بن فخر الدولة ولاية بدر بن حسنويه وأخذ ما في قلاعه من الأموال عظم شأنه، واتسع ملكه، فسار إلى الري، وبها أخوه مجد الدولة، فرحل عن الري ومعه والدته إلى دنباوند، وخرجت عساكر الري إلى شمس الدولة مذعنة بالطاعة، ودخل الري وملكها، وخرج منها يطلب أخاه ووالدته، فشغب الجند عليه، وزاد خطبهم، وطالبوه مطالبات اتسع الخرق بها، فعاد إلى همذان وأرسل إلى أخيه ووالدته يأمرهما بالعود إلى الري، فعادا. ذكر عدة حوادثفي هذه السنة، في شعبان، توفي أبو الحسن أحمد بن علي البتي، الكاتب الشاعر، ومن شعره في تكةً: لم لا أتيه ومضجعي ... بين الرّوادف والخصور وإذا نسجت، فإنّني ... بين الترائب والنّحور ولقد نشأت صغيرةً ... فأكفّ ربّات الخدور وله نوادر كثيرة منها أنه شرب قفاعاً في دار فخر الملك، فلم يستطبه، فجلس مفكراً، فقال له الفقاعي: في أي شيء تفكر ؟ فقال: في دقة صنعتك، كيف أمكنك الخراء في هذه الكيزان الضيقة كلها. وفي رمضان منها قتل القاضي أبو القاسم يوسف بن أحمد بن كج الفقيه، وكان من أئمة أصحاب الشافعي، وكان قاضي الدينور، قتله طائفة من عامتها خوفاً منه . . وتوفي أبو نصر عمر بن عبد العزيز بن نباتة السعدي الشاعر؛ والقاضي أبو محمد بن الأكفاني، قاضي بغداد، وولي بعده قضاء القضاة أبو الحسن بن أبي الشوارب البصري. وتوفي أبو أحمد عبد السلام بن الحسن البصري الأديب؛ وأبو القاسم هبة الله بن عيسى، كاتب مهذب الدولة بالبطيحة، وهو من الكتاب المفلقين، ومكاتباته مشهورة؛ وكان ممدحاً، وممن مدحه ابن الحجاج. وتوفي أيضاً عبدالله بن محمد بن محمد بن عبدالله بن إدريس أبو سعيد الإدريسي، الاستراباذي، الحافظ، نزيل سمرقند، وهو مصنف تاريخ سمرقند. وتوفي أيضاً الحاكم أبو عبدالله محمد بن عبدالله النيسابوري، صاحب التصانيف الحسنة المشهورة؛ وأبو الحسن بن عياض، وكان يلقب الناصر، وكان يتولى الأهواز، وقام ولده بنكير مقامه؛ وأبو عي الحسين بن الحسين بن حمكان الهمذاني، الفقيه الشافعي، وكان إماماً عالماً. ثم دخلت سنة ست وأربعمائة ذكر الفتنة بين باديس وعمه حماد في هذه السنة ظهر الاختلاف بين الأمير باديس، صاحب إفريقية، وعمه حماد، حتى آل الأمر بينهما إلى الحرب التي لا بقيا بعدها. وسبب ذلك أن باديس أبلغ عن عمه حماد قوارص وأموراً أنكرها، فاغضى عليها، حتى كثر ذلك عليه، ! وكان لباديس ولد اسمه المنصور أراد أن يقدمه ويجعله ولي عهده، فأرسل إلى عمه حماد يقول له بأن يسلم بعض ما بيده من الأعمال التي أقطعه إلى نائب ابنه المنصور، وهي مدينة تيجس، وقصر الإفريقي وقسطنطينة، وسير إلى تسليم ذلك هاشم بن جعفر، وهو من كبار قوادهم، وسير معه عمه إبراهيم ليمنع أخاه حماداً من أمر إن أراده. فسار إلى أن قاربا حماداً، ففارق إبراهيم هاشماً، وتقدم إلى أخيه حماد، فلما وصل إليه حسن له الخلاف على باديس، ووافقه على ذلك، وخلعا الطاعة، وأظهرا العصيان، وجمعا الجموع الكثيرة، فكانوا ثلاثين ألف مقاتل. فبلغ ذلك باديس، فجمع عساكره وسار إليهما، ورحل حماد وأخوه إبراهيم إلى هاشم بن جعفر والعسكر الذين معه، وهو بقلعة شقنبارية، فكان بينهم حرب انهزم فيها: ابن جعفر ولجأ إلى باجة، وغنم حماد ماله وعدده، فرحل باديس إلى مكان يسمى قبر الشهيد، فأتاه جمع كثير من عسكر عمه حماد، ووصلت كتب حماد وإبراهيم إلى باديس أنهما ما فارقا الجماعة، ولا خرجا عن الطاعة، فكذبهما ما ظهر من أفعالهما من سفك الدماء، وقتل الأطفال، وإحراق الزروع والمساكن، وسبي النساء.
ووصل حماد إلى باجة فطلب أهلها منه الأمان، فأمنهم، واطمأنوا إلى عهده، فدخلها يقتل وينهب ويحرق ويأخذ الأموال. وتقدم باديس إليه بعساكره، فلما كان في صفر سنة ست وأربعمائة، وصل حماد إلى مدينة أشير، وهي له، وفيها نائبه، واسمه خلف الحميري، فمنعه خلف من دخولها، وصار في طاعة باديس، فسقط في يد حماد، فإنها هي كانت معولة لحصانتها وقوتها. ووصل باديس إلى مدينة المسيلة، ولقيه أهلها، وفرحوا به، وسير جيشاً إلى المدينة التي أحدثها حماد، فخربوها إلا أنهم لم يأخذوا مال أحمد، وهرب إلى باديس جماعة كثيرة من جند القلعة التي له، وفيها أخوه إبراهيم، فأخذ إبراهيم أبناءهم، وذبحهم على صدور أمهاتهم، فقيل إنه ذبح بيده منهم ستين طفلاً، فلما فرغ من الأطفال قتل الأمهات. وتقارب باديس وحماد، والتقوا مستهل جمادى الأولى، واقتتلوا أشد قتال وأعظمه، ووطن أصحاب باديس أنفسهم على الصبر أو الموت لما كان حماد يفعله لمن يظفر به، واختلط الناس بعضهم ببعض، وكثر القتل، ثم انهزم حماد وعسكره لا يلوي على شيء، وغنم عسكر باديس أثقاله وأمواله، وفي جملة ما غنم منه عشرة آلاف درقة مختارة لمط، ولولا اشتغال العسكر بالنهب لأخذ حماد أسيراً. وسار حتى وصل إلى قلعته تاسع جمادى الأولى، وجاء إلى مدينة دكمة، فتجنى على أهلها، فوضع السيف فيهم، فقتل ثلاثمائة رجل. فخرج إليه فقيه منها وقال له: يا حماد إذا لقيت الجيوش انهزمت، وإذا قاومتك الجموع فررت، وإنما قدرتك وسلطانك على أسير لا قدرة له عليك؛ فقتله وحمل جميع ما في المدينة من طعام وملح وذخيرة إلى القلعة التي له. وسار باديس خلفه، وعزم على المقام بناحيته، وأمر بالبناء، وبذل الأموال لرجاله، فاشتد ذلك على حماد، وأنكر رجاله، وضعفت نفسه، وتفرق عنه أصحابه. ثم مات ورو بن سعيد الزناتي المتغلب على ناحية طرابلس، واختلفت كلمة زناتة، فمالت فرقة مع أخيه خزرون، وفرقة مع ابن ورو، فاشتد ذلك أيضاً على حماد، وكان يطمع أن زناتة تغلب على بعض البلاد، فيضطر باديس إلى الحركة إليهم. ذكر وفاة باديس وولاية ابنه المعزلما كان يوم الثلاثاء، سلخ ذي القعدة سنة ست وأربعمائة، أمر باديس بعرض العساكر، فرأى ما سره، وركب آخر النهار، ونزل معه جماعة من أصحابه، ففارقوه إلى خيامهم، فلما كان نصف الليل توفي. وخرج الخادم في الوقت إلى حبيب بن أبي سعيد، وباديس بن أبي حمامة، وأيوب بن يطوفت، وهم أكبر قواده، فأعلمهم بوفاته. وكان بين حبيب وباديس بن حمادة عداوة، فخرج حبيب مسرعاً إلى باديس وخرج باديس إليه أيضاً، فالتقيا في الطريق، فقال كل واحد منهما لصاحبه: قد عرفت الذي بيننا، والأولى أن نتفق على إصلاح هذا الخلل، فإذا انقضى رجعنا إلى المنافسة. فاجتمعا مع أيوب وقالوا: إن العدو قريب منا، وصاحبنا بعيد عنا، ومتى لم نقدم رأساً نرجع إليه في أمورنا لم نأمن العدو، ونحن نعلم ميل صنهاجة إلى المعز، وغيرهم إلى كرامت بن المنصور أخي باديس، فاجتمعوا على تولية كرامت ظاهراً، فإذا وصلوا إلى موضع الأمن، ولوا المعز بن باديس، وينقطع الشر. فأحضروا كرامت وبايعوه، وولوه في الحال، وأصبحوا وليس عند أحد من العسكر خبر من ذلك، وعزموا أن يقولوا للناس بكرة إن باديس قد شرب دواء، فلما أصبحوا أغلق أهل مدينة المحمدية. أبوابها، وكأنما نودي فيهم بموت باديس، فشاع الخبر، وخاف الناس خوفاً عظيماً، واضطربوا لموته، وأظهروا ولاية كرامت، فلما رأى ذلك عبيد باديس ومن معهم أنكروه، فخلا حبيب بأكابرهم، وعرفهم الحال فسكنوا. ومضى كرامت إلى مدينة أشير ليجمع صنهاجة، وتلكاتة، وغيرهم وأعطوهم من الخزائن مائة ألف دينار. وأما المعز فإنه كان عمره ثماني سنين وستة أشهر وأياماً تقريباً، لأن مولده كان في جمادى الأولى سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة، ولما وصل إليه الخبر بموت أبيه أجلسه من عنده للعزاء، ثم ركب في الموكب، وبايعه الناس، فكان يركب كل يوم، ويطعم الناس كل يوم بين يديه.
وأما العساكر فإنهم رحلوا من مدينة المحمدية إلى المعز، وجعلوا باديس في تابوت بين يدي العسكر، والطبول، والبنود على رأسه، والعساكر تتبعه ميمنة وميسرة، وكان وصولهم إلى المنصورية رابع المحرم سنة سبع وأربعمائة، ووصلوا إلى المهدية، والمعز بها، ثمان المحرم، فركب المعز، ووقف حبيب يعلمه بهم، ويذكر له أسماءهم، ويعرفه بقوادهم وأكابرهم، فرحل المعز من المهدية، فوصل إلى المنصورية منتصف المحرم. وهذا المعز أول من حمل الناس بإفريقية على مذهب مالك، وكان الأغلب عليهم مذهب أبي حنيفة. وأما كرامت فإنه لما وصل إلى مدينة أشير اجتمع عليه قبائل صنهاجة وغيرهم، فأتاه حماد في ألف وخمسمائة فارس، فتقدم إليه كرامت بسبعة آلاف مقاتل، فالتقوا واقتتلوا قتالاً شديداً، فرجع بعض أصحاب كرامت إلى بيت المال فانتهبوه وهربوا، فتمت الهزيمة عليه وعلى أصحابه، ووصل إلى مدينة أشير فأشار عليه قاضيها وأعيان أهلها بالمقام، ومنع حماد عنها، ففعل، ونازلهم حماد، وطلب كرامت ليجتمع به، فخرج إليه، فأعطاه مالاً، وأذن له في المسير إلى المعز، وقتل حماد من أهل أشير كثيراً حيث أشاروا على كرامت بحفظ البلد ومنع حماد منه؛ ووصل كرامت إلى المعز في المحرم هذه السنة، فأكرمه وأحسن إليه. وفي آخر ذي الحجة سير الحاكم الخلع من مصر إلى المعز، ولقبه شرف الدولة، ولم يذكر ما كان منه إلى الشيعة من القتل والإحراق، وسار المعز إلى حماد لثمان بقين من صفر سنة ثمان وأربعمائة بالعساكر لمنعه عن البلاد، فإنه كان يحاصر باغاية وغيرها، فلما قاربه رحل عن باغاية، والتقوا آخر ربيع الأول، فاقتتلوا، فما كان إلا ساعة حتى انهزم حماد وأصحابه، ووضع أصحاب المعز فيهم السيف، وغنموا ما لهم من عدد ومال وغير ذلك، فنادى المعز: من أتى برأس فله أربعة دنانير؛ فأتي بشيء كثير، وأسر إبراهيم أخو حماد، ونجا حماد وقد أصابته جراحة، وتفرق عنه أصحابه، ورجع المعز، وورد رسول من حماد إليه يعتذر، ويقر بالخطأ ويسأل العفو، فأجابه المعز: إن كنت على ما قلته فأرسل ولدك القائد إلينا. واستعمل المعز على جميع العرب المجاورة لإبراهيم عمه كرامت، فعاد جواب حماد أنه إذا وصله كتاب أخيه إبراهيم بالعلامات التي بينهم، أنه قد أخذ له عهد المعز، بعث ولده القائد، أو حضر هو بنفسه. فحضر إبراهيم وأخذ العهود على المعز وأرسل إليه يعرفه ذلك ويشكر المعز على إحسانه إليه، ووصل المعز إلى قصره آخر جمادى الأولى، ولما وصل أطلق عمه إبراهيم، وخلع عليه، وأعطاه الأموال والدواب وجميع ما يحتاج إليه، فلما سمع حماد ذلك أرسل ولده القائد إلى المعز، وكان وصوله للنصف من شعبان، فأكرمه وأعطاه شيئاً كثيراً، وأقطعه المسيلة وطبنة وغيرهما، وعاد إلى أبيه في شهر رمضان، ورضي الصلح، وحلف عليه، واستقرت الأمور بينهما، وتصاهرا، وزوج المعز أخته بعبدالله بن حماد، فازدادوا اتفاقاً وأمناً. وكان بإفريقية والغرب غلاء بسبب الجراد، واختلاف الملوك، ولما استقر الصلح والاتفاق سير المعز الجيوش إلى القبائل من البربر وغيرهم، فإن الحروب بينهم كانت، بسبب الاختلاف، كثيرة، والدماء مسفوكة، فلما رأوا عساكر السلطان رجعوا إلى السكون وترك الحرب، ومن أبى قوتل، فقتل المفسدون، وأصلح ما بين القبائل. ووصل من جزيرة الأندلس زاوي بن زيري بن مناد، عم أبي المعز، وأهله وولده وحشمه، وكان قد أقام بالأندلس مدة طويلة، وقد ذكرنا سبب دخوله الأندلس، وملك بالأندلس غرناطة وقاسى حروباً كثيرة، ووصل معه من الأموال والعدد والجواهر شيء كثير لا يحد، فأكرمهم المعز، وحمل لهم شيئاً عظيماً، وإقامات زائدة وأقاموا عنده. كان ينبغي أن يكتب وفاة باديس وما بعده سنة سبع وأربعمائة، وإنما أتبعنا بعض أخبارهم بعضاً. ذكر غزوة محمود إلى الهندفي هذه السنة غزا محمود بن سبكتكين الهند على عادته، فضل أدلاؤه الطريق، ووقع هو وعسكره في مياه فاضت من البحر، فغرق كثير ممن معه، وخاض الماء بنفسه أياماً حتى تخلص وعاد إلى خراسان. ذكر قتل فخر الملك ووزارة ابن سهلان
وفيها قبض سلطان الدولة على نائبه بالعراق ووزيره فخر الملك أبي غالب، وقتل سلخ ربيع الأول، وكان عمره اثنتين وخمسين سنة وأحد عشر شهراً، وكان نظره بالعراق خمس سنين وأربعة شهور واثني عشر يوماً، وكان كافياً، حسن الولاية والآثار، ووجد له ألف ألف دينار عيناً سوى ما نهب، وسوى الأعراض، وكان قبضه بالأهواز، ولما مات نقل إلى مشهد أمير المؤمنين علي، عليه السلام، فدفن هناك. قيل: كان ابن علمكار، وهو من كبار قوادهم، قد قتل إنساناً ببغداد، فكانت زوجته تكتب إلى فخر الملك أبي غالب تتظلم منه ولا يلتفت إليها، فلقيته يوماً وقالت له: تلك الرقاع التي كنت أكتبها إليك صرت أكتبها إلى الله تعالى. فلم يمض على ذلك غير قليل حتى قبض هو وابن علمكار، فقال له فخر الملك: قد برز جواب رقاع تلك المرأة. ولما قبض فخر الملك استوزر سلطان الدولة أبا محمد الحسن بن سهلان، فلقب عميد أصحابه الجيوش، وكان مولده برامهرمز في شعبان سنة إحدى وستين وثلاثمائة. ذكر قتل طاهر بن هلال بن بدرفي هذه السنة أطلق شمس الدولة بن فخر الدولة بن بويه طاهر بن هلال بن بدر، واستحلفه على الطاعة له، واجتمع معه طوائف فقوي بهم، وحارب أبا الشوك فهزمه، وقتل سعدي أخو أبي الشوك، ثم انهزم أبو الشوك منه مرةً ثانيةً، ومضى منهزماً إلى حلوان، وبذل له أبو الحسن بن مزيد الأسدي المعاونة، فلم يكن فيه معاودة الحرب. وأقام طاهر بالنهروان، وصالح أبا الشوك، وتزوج أخته، فلما أمنه طاهر وثب عليه أبو الشوك فقتله بثأر أخيه سعدي، وحمله أصحابه فدفنوه بمشهد باب التبن. ذكر عدة حوادثفيها توفي الشريف الرضي محمد بن الحسين بن موسى بن إبراهيم بن موسى بن جعفر أبو الحسن، صاحب الديوان المشهور، وشهد جنازته الناس كافة، ولم يشهدها أخوه لأنه لم يستطع أن ينظر إلى جنازته، فأقام بالمشهد إلى أن أعاده الوزير فخر الملك إلى داره، ورثاه كثير من الشعراء منهم أخوه المرتضى، فقال: يا للرجال لفجعةٍ جذمت يدي، ... ووددتها ذهبت لعيّ براسي ما زلت آبى وردها، حتّى أتت، ... فحسوتها في بعض ما أنا حاسي ومطلتها زمناً، فلمّا صمّمت ... لم يثنها مطلي، وطول مكاسي لا تنكروا من فيض دمعي عبرةً، ... فالدمع خير مساعدٍ ومؤاس واهاً لعمرك من قصيرٍ طاهرٍ، ... ولربّ عمرٍ طال بالأرجاس وفيها توفي أبو طالب أحمد بن بكر العبدي النحوي، مصنف شرح الإيضاح؛ وأبو أحمد عبد السلام بن أبي مسلم الفرضي؛ والإمام أبو حامد أحمد بن محمد بن أحمد الأسفراييني إمام أصحاب الشافعي، وكان يحضر دراسته أربعمائة متفقه، وكان يدرس بمسجد عبدالله بن المبارك بقطيعة الفقهاء، وكان عمره إحدى وستين سنة وأشهراً. وفيها توفي أبو جعفر أستاذ هرمز بن الحسن، والد عميد الجيوش، بشيراز، وكان عمره مائة وخمس سنين؛ وفيها توفي شهاب الدولة أبو درع رافع ابن محمد بن مقرن، وله شعر حسن، وما زلت أبكي في الديار تأسّفاً ... لبين خليلٍ، أو فراق حبيب فلما عرفت الرّبع لا شكّ أنّه ... هو الرّبع فاضت مقلتي بغروب وجرّبت دهري ناسياً، فوجدته ... أخا غيرٍ لا تنقضي وخطوب وعاشرت أبناء الزمان، فلم أجد ... من الناس خداناً حافظاً لمغيب ولم يبق منهم حافظٌ لذمامه، ... ولا ناصرٌ يرعى جوار قريب وفيها توفي الشار أبو نصر، الذي كان صاحب غرشستان من خراسان، في قبض يمين الدولة، وقد ذكرنا سبب ذلك. وفيها، في صفر، قلد الشريف المرتضى أبو القاسم أخو الرضي نقابة العلويين، والحج، والمظالم، بعد موت أخيه الرضي. وفيها وقعت فتنة ببغداد بين أهل الكرخ وبين أهل باب الشعير، ونهبوا القلائين، فأنكر فخر الملك على أهل الكرخ، ومنعوا من النوح يوم عاشوراء، ومن تعليق المسوح. وفيها وقع بالبصرة وما جاورها وباء شديد في بلاد العراق وكثير من البلاد. وفيها، في حزيران، جاء مطر شديد في بلاد العراق وكثير من البلاد. ثم دخلت سنة سبع وأربعمائة ذكر قتل خوارزمشاه وملك يمين الدولة خوارزم وتسليمها إلى التونتاش
في هذه السنة قتل خوارزمشاه أبو العباس مأمون بن مأمون وملك يمين الدولة خوارزم. وسبب ذلك أن أبا العباس كان قد ملك خوارزم والجرجانية، كما ذكرناه، وخطب إلى يمين الدولة، فزوجه أخته. ثم إن يمين الدولة أرسل إليه يطلب أن يخطب له على منابر بلاده، فأجابه إلى ذلك، وأحضر أمراء دولته واستشارهم في ذلك، فأظهروا الامتناع، ونهوه عنه، وتهددوه بالقتل إن فعله فعاد الرسول وحكى ليمين الدولة ما شاهده. ثم إن الأمراء خافوه حيث ردوا أمره، فقتلوه غيلة، ولم يعلم قاتله، وأجلسوا مكانه أحد أولاده، وعملوا أن يمين الدولة يسوءه ذلك، وربما طالبهم بثأره، فتعاهدوا على مقاتلته ومقارعته. واتصل الخبر بيمين الدولة، فجمع العساكر وسار نحوهم، فلما قاربهم جمعهم صاحب جيشهم، ويعرف بالبتكين البخاري وأمرهم بالخروج إلى لقاء مقدمة يمين الدولة والإيقاع بمن فيها من الأجناد، فساروا معه وقاتلوا مقدمة يمين الدولة، واشتد القتال بينهم. واتصل الخبر بيمين الدولة، فتقدم نحوهم في سائر جيوشه. فلحقهم وهم في الحرب، فثبت الخوارزمية إلى أن انتصف النهار، وأحسنوا القتال، ثم إنهم انهزموا، وركبهم أصحاب يمين الدولة يقتلون ويأسرون، ولم يسلم إلا القليل. ثم إن البتكين ركب سفينة لينجو فيها، فجرى بينه وبين من معه منافرة، فقاموا عليه وأوثقوه، وردوا السفينة إلى ناحية يمين الدولة، وسلموه إليه، فأخذه وسائر القواد المأسورين معه، وصلبهم عند قبر أبي العباس خوارزمشاه، وأخذ الباقين من الأسرى فسيرهم إلى غزنة فوجاً بعد فوج، فلما اجتمعوا بها أفرج عنهم، وأجرى لهم الأرزاق، وسيرهم إلى أطراف بلاده من أرض الهند يحمونها من الأعداء، ويحفظونها من أهل الفساد، وأخذ خوارزم واستناب بها حاجبه التونتاش. ذكر غزوة قشمير وقنوج وغيرهمافي هذه السنة غزا يمين الدولة بلاد الهند، بعد فراغه من خوارزم، فسار منها إلى غزنة ومنها إلى الهند عازماً على غزو قشمير، إذ كان قد استولى على بلاد الهند ما بينه وبين قشمير؛ وأتاه من المتطوعة نحو عشرين ألف مقاتل من ما وراء النهر، وغيره من البلاد، وسار إليها من غزنة ثلاثة أشهر سيراً دائماً، وعبر نهر سيحون، وجيلوم، وهما نهران عميقان شديدا الجرية، فوطئ أرض الهند، وأتاه رسل ملوكها بالطاعة وبذل الإتاوة. فلما بلغ درب قشمير أتاه صاحبها وأسلم على يده، وسار بين يديه إلى مقصده، فبلغ ماء جون في العشرين من رجب، وفتح ما حولها من الولايات الفسيحة والحصون المنيعة، حتى بلغ حصن هودت، وهو آخر ملوك الهند، فنظر هودب من أعلى حصنه، فرأى من العساكر ما هاله ورعبه، وعلم أنه لا ينجيه إلا الإسلام، فخرج في نحو عشرة آلاف ينادون بكلمة الإخلاص، طلباً للخلاص، فقبله يمين الدولة، وسار عنه إلى قلعة كلجند، وهو من أعيان الهند وشياطينهم، وكان على طريقه غياض ملتفة لا يقدر السالك على قطعها إلا بمشقة، فسير كلجند عساكره وفيوله إلى أطراف تلك الغياض يمنعون من سلوكها، فترك يمين الدولة عليهم من يقاتلهم، وسلك طريقاً مختصرةً إلى الحصن، فلم يشعروا به إلا وهو معهم، فقاتلهم قتالاً شديداً، فلم يطيقوا الصبر على حد السيوف، فانهزموا، وأخذهم السيف من خلفهم، ولقوا نهراً عميقاً بين أيديهم، فاقتحموه، فغرق أكثرهم وكان القتلى والغرقى قريباً من خمسين ألفاً، وعمد كلجند إلى زوجته فقتلها ثم قتل نفسه بعدها، وغنم المسلمون أمواله وملكوا حصونه. ثم سار نحو بيت متعبد لهم، وهو مهرة الهند، وهو من أحصن الأبنية على نهر، ولهم به من الأصنام كثير، منها خمسة أصنام من الذهب الأحمر المرصع بالجواهر، وكان فيها من الذهب ستمائة ألف وتسعون ألفاً وثلاثمائة مثقال، وكان بها من الأصنام المصوغة من النقرة نحو مائتي صنم، فأخذ يمين الدولة ذلك جميعه، وأحرق الباقي، وسار نحو قنوج، وصاحبها راجيال، فوصل إليها في شعبان، فرأى صاحبها قد فارقها، وعبر الماء المسمى كنك، وهو ماء شريف عندهم يرون أنه من الجنة، وأن من غرق نفسه فيه طهر من الآثام، فأخذها يمين الدولة، وأخذ قلاعها وأعمالها، وهي سبع على الماء المذكور، وفيها قريب من عشرة آلاف بيت صنم، يذكرون أنها عملت من مائتي ألف سنة إلى ثلاثمائة ألف كذباً منهم وزوراً، ولما فتحها أباحها عسكره.
ثم سار إلى قلعة البراهمة، فقاتلوه وثبتوا، فلما عضهم السلاح علموا أنهم لا طاقة لهم، فاستسلموا للسيف فقتلوا، ولم ينج منهم إلا الشريد. ثم سار نحو قلعة آسي، وصاحبها جند بال، فلما قاربها هرب جند بال، وأخذ يمين الدولة حصنه وما فيه، ثم سار إلى قلعة شروة، وصاحبها جندرآي، فلما قاربه نقل ماله وفيوله نحو جبال هناك منيعة يحتمي بها، وعمي خبره فلم يدر أين هو، فنازل يمين الدولة حصنه فافتتحه وغنم ما فيه، وسار في طلب جندرآي جريدة، وقد بلغه خبره، فلحق به في آخر شعبان، فقاتله، فقتل أكثر جند جندرآي، وأسر كثيراً منهم، وغنم ما معه من مالٍ وفيل، وهرب جندرآي في نفر من أصحابه فنجا. وكان السبي في هذه الغزوة كثيراً حتى إن أحدهم كان يباع بأقل من عشرة دراهم، ثم عاد إلى غزنة ظافراً؛ ولما عاد من هذه الغزوة أمر ببناء جامع غزنة، فبني بناء لم يسمع بمثله، ووسع فيه، وكان جامعها القديم صغيراً، وأنفق ما غنمه في هذه الغزاة في بنائه. ذكر حال ابن فولاذفي هذه السنة عظمت شوكة ابن فولاذ وكبر شأنه. وكان ابتداء أمره أنه كان وضيعاً، فنجم في دولة بني بويه، وعلا صيته، وارتفع قدره، واجتمع إليه الرجال، فلما كانالآن طلب من مجد الدولة ووالدته أن يقطعاه قزوين لتكون له ولمن معه من الرجال، فلم يفعلا، واعتذرا إليه، فقصد أطراف ولاية الري، وأظهر العصيان، وجعل يفسد ويغير، ويقطع السبيل، وملك ما يليه من القرى، فعجزا عنه، فاستعانا بأصبهبذ المقيم بفريم، فأتاهما في رجال الجيل، وجرى بينهم وبين ابن فولاذ عدة حروب، وجرح ابن فولاذ، وولى منهزماً حتى بلغ الدامغان، فأقام حتى عاد أصحابه إليه ورجع أصبهبذ إلى بلاده. وكتب ابن فولاذ إلى منوجهر بن قابوس يطلب أن ينفذ له عسكراً ليملك البلاد، ويقيم له الخطبة فيها، ويحمل إليه المال، فأنفذ له ألفي رجل، فسار بهم حتى نزل بظاهر الري، وأعاد الإغارة، ومنع الميرة عنها، فضاقت الأقوات بها، فاضطر مجد الدولة ووالدته إلى مداراته، وإعطائه ما يلتمسه، فاستقر بينهم أن يسلما إليه مدينة أصبهان، فسار إليها وأعاد عسكر منوجهر إليه، وزال الفساد، وعاد إلى طاعة مجد الدولة. ذكر ابتداء الدولة العلوية بالأندلس وقتل سليمان وفي هذه السنة ولي الأندلس علي بن حمود بن أبى العيش بن ميمون بن أحمد بن عي بن عبدالله بن عمر بن إدريس بن إدريس بن عبدالله بن الحسن ابن الحسن بن علي بن أبي طالب، عليه السلام، وقيل في نسبه غير ذلك مع اتفاق على صحة نسبه إلى أمير المؤمنين علي، عيه السلام. وكان سبب ذلك أن الفتى خيران العامري لم يكن راضياً بولاية سليمان بن الحاكم الأموي لأنه كان من أصحاب المؤيد على ما ذكرناه قبل، فلما ملك سليمان قرطبة انهزم خيران في جماعة كثيرة من الفتيان العامريين، فتبعهم البربر وواقعهم، فاشتد القتال بينهم، وجرح خيران عدة جراحات، وترك على أنه ميت، فلما فارقوه قام يمشي، فأخذه رجل من البربر إلى داره بقرطبة وعالجه فبرأ، وأعطاه مالاً، وخرج منها سراً إلى شرق الأندلس، فكثر جمعه، وقويت نفسه، وقاتل من هناك من البربر، وملك المرية، واجتمع إليه الأجناد، وأزال البربر عن البلاد المجاورة له، فغلظ أمره وعظم شأنه. وكان علي بن حمود بمدينة سبتة، بينه وبين الأندلس عدوة المجاز مالكاً لها، وكان أخوه القاسم بن حمود بالجزيرة الخضراء مستولياً عليها، وبينهما المجاز، وسبب ملكهما أنهما كانا من جملة أصحاب سليمان بن الحاكم، فقودهما على المغاربة، ثم ولاهما هذه البلاد، وكان خيران يميل إلى دولة المؤيد، ويرغب فيها، ويخطب له على منابر بلاده التي استولى عليها لأنه كان يظن حياته حيث فقد من القصر، فحدث لعلي بن حمود طمع في ملك الأندلس لما رأى من الاختلاف، فكتب إلى خيران يذكر له أن المؤيد كان كتب له بولاية العهد والأخذ بثأره إن هو قتل، فدعا لعلي بن حمود بولاية العهد.
وكان خيران يكاتب الناس، ويأمرهم بالخروج على سليمان. فوافقه جماعة منهم عامر بن فتوح وزير المؤيد، وهو بمالقة، وكاتبوا علي بن حمود، وهو بسبتة، ليعبر إليهم ليقوموا معه ويسيروا إلى قرطبة، فعبر إلى مالقة في سنة خمس وأربعمائة، فخرج عنها عامر بن فتوح، وسلمها إليه، ودعا له بولاية العهد وسار خيران ومن أجابه إليه، فاجتمعوا بالمنكب، وهي ما بين المرية ومالقة، سنة ست وأربعمائة، وقرروا ما يفعلونه، وعادوا يتجهزون لقصد قرطبة، فتجهزوا وجمعوا من وافقهم، وساروا إلى قرطبة وبايعوا علياً على طاعة المؤيد الأموي. فلما بلغوا غرناطة وافقهم أميرها، وسار معهم إلى قرطبة، فخرج سليمان والبربر إليهم، فالتقوا واقتتلوا على عشرة فراسخ من قرطبة، ونشب القتال بينهم، فانهزم سليمان والبربر، وقتل منهم خلق كثير، وأخذ سليمان أسيراً، فحمل إلى علي بن حمد ومعه أخوه وأبوه الحاكم بن سليمان بن عبد الرحمن الناصر، ودخل علي بن حمود قرطبة في المحرم سنة سبع ودخل خيران وغيره إلى القصر طمعاً في أن يجدوا المؤيد حياً، فلم يجدوه، ورأوا شخصاً مدفوناً فنبشوه، وجمعوا له الناس، وأحضروا بعض فتيانه الذين رباهم وعرضوه عليه، ففتشه، وفتش أسنانه لأنه كان له سن سوداء كان يعرفها ذلك الفتى، فأجمع هو وغيره على أنه المؤيد خوفاً على أنفسهم من علي، فأخبروا خيران أنه المؤيد، وكان ذلك الفتى يعلم أن المؤيد حي، فأخذ علي بن حمود سليمان وقتله سابع المحرم سنة سبع، وقتل أباه وأخاه. ولما حضر أبوه بين يدي علي بن حمود قال له: يا شيخ قتلتم المؤيد؛ فقال: والله ما قتلناه، وإنه لحي؛ فحينئذ أسرع في قتله، وكان شيخاً صالحاً منقبضاً لم يتدنس بشيء من أحوال ابنه. واستولى علي بن حمود على قرطبة، ودعا الناس إلى بيعته، فبويع، واجتمع له الملك، ولقب المتوكل على الله. ثم إن خيران أظهر الخلاف عليه لأشياء منها أنه كان طامعاً أن يجد المؤيد فلم يجده، ومنها أنه نقل إليه أن علياً يريد قتله فخرج عن قرطبة وأظهر الخلاف عليه. ذكر ظهور عبد الرحمن الأمويلما خالف خيران علياً أرسل يسأل عن بني أمية، فدل على عبد الرحمن ابن محمد بن عبد الملك بن عبد الرحمن الناصر الأموي، وكان قد خرج من قرطبة مستخفياً، ونزل بجيان، وكان أصلح من بقي من بني أمية، فبايعه خيران وغيره، ولقبوه المرتضى، وراسل خيران منذر بن يحيى التجيبي أمير سرقسطة والثغر الأعلى، وراسل أهل شاطبة، وبلنسية، وطرطوشة، والبنت، فأجابوا كلهم إلى بيعته، والخلاف على علي بن حمود، فاتفق عليه أكثر الأندلس، واجتمعوا بموضع يعرف بالرياحين في الأضحى سنة ثمان وأربعمائة، ومعهم الفقهاء والشيوخ، وجعلوا الخلافة شورى، وأصفقوا على بيعته، وساروا معه إلى صنهاجة والنزول على غرناطة. وأقبل المرتضى على أهل بلنسية، وشاطبة، وأظهر الجفاء لمنذر بن يحيى التجيبي، ولخيران، ولم يقبل عليهما، فندما على ما كان منهما، وسار حتى وصل إلى غرناطة، فوصل إليها، ونزل عليها، وقاتلوها أياماً قتالاً شديداً، فغلبهم أهل غرناطة، وأميرهم زاوي بن زيري الصنهاجي، وانهزم المرتضى وعسكره، واتبعتهم صنهاجة يقتلون ويأسرون، وقتل المرتضى في هذه الهزيمة وعمره أربعون سنة، وهو أصغر من أخيه هشام، وسار أخوه هشام إلى البنت، وأقام بها إلى أن خوطب بالخلافة، ولم يزل علي بن حمود بعد هذه الهزيمة يقصد بلاد خيران والعامريين مرة بعد أخرى. ذكر قتل علي بن حمود العلويفلما كان في ذي القعدة سنة ثمان وأربعمائة تجهز علي بن حمود للمسير إلى جيان لقتال من بها من عسكر خيران، فلما كان الثامن والعشرون منه برزت العساكر إلى ظاهر قرطبة بالبنود والطبول ووقفوا ينتظرون خروجه، فدخل الحمام ومعه غلمانه، فقتلوه، فلما طال على الناس انتظاره بحثوا عن أمره، فدخلوا عليه، فرأوه مقتولاً، فعاد العسكر إلى البلد. وكان لقبه المتوكل على الله، وقيل الناس لدين الله، وكان أسمر، أعين أكحل، خفيف الجسم، طويل القامة، حازماً، عازماً، عادلاً، حسن السيرة، وكان قد عزم على أن يعيد إلى أهل قرطبة أموالهم التي أخذها البربر، فلم تطل أيامه، وكان يحب المدح، ويجزر العطاء عليه.
ثم ولي بعده أخوه القاسم، وهو أكبر من علي بعدة أعوام، وكان عمر علي ثمانياً وأربعين سنة؛ بنوه يحيى، وإدريس، وأمه قرشية، وكنيته أبو الحسن، وكانت ولايته سنة وتسعة أشهر. ذكر ولاية القاسم بن حمود العلوي بقرطبةقد ذكرنا قتل أخيه علي بن حمود سنة سبع وأربعمائة، فلما قتل بايع الناس أخاه القاسم، ولقب المأمون، فلما ولي، واستقر ملكه، كاتب العامريين واستمالهم، وأقطع زهيراً جيان، وقلعة رباح، وبياسة، وكاتب خيران واستعطفه، فلجأ إليه واجتمع به، ثم عاد عنه إلى المرية. وبقي القاسم مالكاً لقرطبة وغيرها إلى سنة اثنتي عشرة وأربعمائة. وكان وادعاً، ليناً، يحب العافية، فأمن الناس معه، وكان يتشيع إلا أنه لم يظهر شيئاً من ذلك، فسار عن قرطبة إلى إشبيلية، فخالفه يحيى ابن أخيه فيها ذكر دولة يحيى بن علي بن حمود وما كان منه ومن عمه لما سار القاسم بن حمود عن قرطبة إلى إشبيلية سار ابن أخيه يحيى بن علي من مالقة إلى قرطبة، فدخلها بغير مانع، فلما تكن بقرطبة دعا الناس إلى بيعته، فأجابوه، فكانت البيعة مستهل جمادى الأولى من سنة اثنتي عشرة وأربعمائة، ولقب بالمعتلي، وبقي بقرطبة يدعى له بالخلافة، وعمه القاسم بإشبيلية يدعى له بالخلافة إلى ذي القعدة سنة ثلاث عشرة وأربعمائة. فسار يحيى عن قرطبة إلى مالقة. ووصل الخبر إلى عمه، فركب وجد في السير ليلاً ونهاراً إلى أن وصل إلى قرطبة فدخلها ثامن عشر ذي القعدة سنة ثلاثة عشرة، وكان، مدة مقامه بإشبيلية، قد استمال العساكر من البربر وقوي بهم، وبقي القاسم بقرطبة شهوراً، ثم اضطرب أمره بها، وسار ابن أخيه يحيى بن علي إلى الجزيرة الخضراء، وغلب عليها، وبها أهل عمه وماله، وغلب أخوه إدريس بن علي، صاحب سبتة، على طنجة، وهي كانت عدة القاسم التي يلجأ إليها إن رأى ما يخاف بالأندلس، فلما ملك ابنا أخيه بلاده طمع فيه الناس، وتسلط البربر على قرطبة فأخذوا أموالهم، فاجتمع أهلها وبرزوا إلى قتاله عاشر جمادى الأولى سنة أربع عشرة، فاقتتلوا قتالاً شديداً، ثم سكنت الحرب، وأمن بعضهم بعضاً إلى منتصف جمادى الأولى من السنة، والقاسم بالقصر يظهر التودد لأهل قرطبة، وأنه معهم، وباطنه مع البربر. فلما كان يوم الجمعة منتصف جمادى الآخرة صلى الناس الجمعة، فلما فرغوا تنادوا: السلاح! السلاح! فاجتمعوا ولبسوا السلاح، وحفظوا البلدا ودخلوا قصر الإمارة، فخرج عنها القاسم، واجتمع معه البربر، وقاتلوا أهل البلد وضيقوا عليهم، وكانوا أكثر من أهله، فبقوا كذلك نيفاً وخمسين يوماً والقتال متصل، فخاف أهل قرطبة، وسألوا البربر في أن يفتحوا لهم الطريق ويؤمنوهم على أنفسهم وأهليهم، فأبوا إلا أن يقتلوهم، فصبروا حينئذ على القتال، وخرجوا من البلد ثاني عشر شعبان، وقاتلوهم قتال مستقتل، فنصرهم الله على البربر، (وَمَنْ بُغِيَ عَلَيْه لَيَنْصُرَنَّهُ اللهُ)، وانهزم البربر هزيمة عظيمة، ولحق كل طائفة منهم ببلد فاستولوا عليه. وأما القاسم بن حمود فإنه سار إلى إشبيلية، وكتب إلى أهلها في إخلاء ألف دار ليسكنها البربر، فعظم ذلك عليهم، وكان بها ابنا محمد والحسن، فثار بهما أهلها، فأخرجوهما عنهم ومن معهما، وضبطوا البلد، وقدموا على أنفسهم ثلاثة من شيوخهم وكبرائهم وهم: القاضي أبو القاسم محمد بن إسماعيل ابن عباد اللخمي، ومحمد بن يريم الالهاني، ومحمد بن محمد بن الحسن الزبيدي، وكانوا يدبرون أمر البلد والناس. ثم اجتمع ابن يريم والزبيدي، وسألوا ابن عباد أن ينفرد بتدبير أمورهم، فامتنع وألحوا عليه، فلما خاف على البلد بامتناعه أجابهم إلى ذلك، وانفرد بالتدبير وحفظ البلد. فلما رأى القاسم ذلك سار في تلك البلاد، ثم إنه نزل بشريش، فزحف إليه يحيى ابن أخيه علي، ومعه جمع من البربر، فحصروه ثم أخذوه أسيراً، فحبسه يحيى، فبقي في حبسه إلى أن توفي يحيى، وملك أخوه إدريس، فلما ملك قتله، وقيل: بل مات حتف أنفه، وحمل إلى ابنه محمد، وهو بالجزيرة الخضراء، فدفنه.
وكانت مدة ولاية القاسم بقرطبة مذ تسمى بالخلافة إلى أن أسره ابن أخيه، ستة أعوام، وبقي محبوساً ست عشرة سنة إلى أن قتل سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة، وكان له ثمانون سنة، وله من الولد محمد والحسن، أمهما أميرة بنت الحسن بن القاسم المعروف بقتون بن إبراهيم بن محمد بن القاسم بن إدريس ابن إدريس بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، عليه السلام، وكان أسمر، أعين، أكحل، مصفر اللون، طويلاً، خفيف العارضين. ذكر عود بني أمية إلى قرطبة | |
|
| |
الشيخ عودة الشيخ عودة
عدد المساهمات : 1748 تاريخ التسجيل : 28/09/2008 العمر : 74
| موضوع: رد: كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير الأحد فبراير 23, 2014 6:10 am | |
| وولاية المستظهر لما انهزم البربر والقاسم بن علي من أهل قرطبة، على ما ذكرناه، اتفق رأي أهل قرطبة على رد بني أمية، فاختاروا عبد الرحمن بن هشام بن عبد الجبار بن عبد الرحمن الناصر الأموي، فبايعوه بالخلافة ثالث عشر رمضان من سنة أربع عشرة وأربعمائة، وعمره حينئذ اثنتان وعشرون سنة، وتلقب بالمستظهر بالله، فكانت ولايته شهراً واحداً وسبعة عشر يوماً وقتل. وكان سبب قتله أنه أخذ جماعة من أعيان قرطبة فسجنهم ليميلهم إلى سليمان بن المرتضى عبد الرحمن بن محمد بن عبد الملك بن عبد الرحمن الناصر، وأخذ أموالهم، فسعوا عليه من اسجن، وألبوا الناس، فأجابهم صاحب الشرطة وغيره، واجتمعوا وقصدوا السجن فأخرجوا من فيه. وكان ممن وافقهم على ذلك أبو عبد الرحمن محمد بن عبد الرحمن الأموي في جماعة كثيرة، فظفروا بالمستظهر، فقتلوه في ذي القعدة، ولم يعقب، وكنيته أبو المطرف، وأمه أم ولد، وكان أبيض أشقر، أعين، شئن الكفين، رحب الصدر، وكان أديباً، خطيباً، بليغاً، رقيق الطبع، له شعر جيد. وكان وزيره أبا محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم، وكان سليمان ابن المرتضى قد مات قبل قتله بعشرة أيام. ذكر ولاية محمد بن عبد الرحمنلما قتل المستظهر بايع الناس بقرطبة محمد بن عبد الرحمن بن عبيدالله ابن الناصر، وكنيته أبو عبد الرحمن الأموي، في ذي القعدة سنة أربع عشرة وأربعمائة، وخطبوا له بالخلافة، ولقبوه المستكفي بالله، وكان همه لا يعدو فرجه وبطنه، وليس له هم ولا فكر في سواهما، وبقي بها ستة عشر شهراً وأياماً، وثار عليه أهل قرطبة في ربيع الأول سنة ست عشرة وأربعمائة، فخلعوه وخرج عن قرطبة ومعه جماعة من أصحابه، حتى صار إلى أعمال مدينة سالم، فضجر منه بعض أصحابه، فشوى له دجاجة، وعمل فيها شيئاً من البيش، فأكلها فمات في ربيع الآخر من هذه السنة. وكان في غاية التخلف، وله أخبار يقبح ذكرها، وكان ربعةً، أشقر، أزرق، مدور الوجه، ضخم الجسم، وكان عمره نحو خمسين سنة. ولما توفي أعاد أهل قرطبة دعوة المعتلي بالله يحيى بن علي بن حمود العلوي بها. ذكر عود يحيى العلوي إلى قرطبة وقتلهلما مات أبو عبد الرحمن الأموي، وصح عند أهل قرطبة خبر موته، سعى معهم بعض أهلها ليحيى بن علي بن حمود العلوي ليعيدوه إلى الخلافة، وكان بمالقة يخطب لنفسه بالخلافة، فكتبوا إليه وخاطبوه بالخلافة، وخطبوا له في رمضان سنة ست عشرة وأربعمائة، فأجابهم إلى ذلك، وأرسل إليهم عبد الرحمن بن عطاف اليفرني والياً عليهم، ولم يحضر هو باختياره، فبقي عبد الرحمن فيها إلى محرم سنة سبع عشرة، فسار إليه مجاهد وخيران العامريان، في ربيع الأول منها، في جيش كثير، فلما قاربوا قرطبة ثار أهلها بعبد الرحمن فأخرجوه، وقتلوا من أصحابه جماعة كثيرة، ونجا الباقون. وأقام خيران ومجاهد بها نحو شهر، ثم اختلفا، فخاف كل واحد منهما صاحبه، فعاد خيران عن قرطبة لسبع بقين من ربيع الآخر من السنة إلى المرية، وبقي بها إلى سنة ثماني عشرة وتوفي، وقيل سنة تسع عشرة، وصارت المرية بعده لصاحبه زهير العامري، فخالف حبوس بن ماكسن الصنهاجي البربري وأخوه على طاعة يحيى بن علي العلوي، وبقي مجاهد مدةً ثم سار إلى دانية، وقطعت خطبة يحيى منها، وأعيدت خطبة الأمويين، على ما نذكره فيما بعد إن شاء الله، وبقي يتردد عليها بالعساكر، واتفق البربر على طاعته، وسلموا إليه ما بأيديهم من الحصون والمدن، فقوي وعظم شأنه وبقي كذلك مدة.
ثم سار إلى قرمونة فأقام بها محاصراً لإشبيلية طامعاً في أخذها، فأتاه الخبر يوماً أن خيلاً لأهل إشبيلية قد أخرجها القاضي أبو القاسم بن عباد إلى نواحي قرمونة، فركب إليهم ولقيهم وقد كمنوا له، فلم يكن بأسرع من أن قتل، وذلك في المحرم سنة سبع وعشرين وأربعمائة، وخلف من الولد الحسن وإدريس لأمي ولد، وكان أسمر، أعين، أكحل، طويل الظهر، قصير الساقين، وقوراً، هيناً، ليناً، وكان عمره اثنتين وأربعين سنة، وأمه بربرية. ذكر اخبار أولاد يحيى وأولاد أخيه وغيرهم وقتل ابن عمار نذكر ها هنا ما كان من أخبار أولاده، وأولاد أخيه، وغيرهم من العلويين، متتابعاً، لئلا ينقطع الكلام، وليأخذ بعضه ببعض. لما قتل يحيى بن علي رجع أبو جعفر أحمد بن أبي موسى المعروف بابن بقية، ونجا الخادم الصقلبي، وهما مدبرا دولة العلويين، فأتيا مالقة، وهي دار مملكتهم، فخاطبا أخاه إدريس بن علي، وكان له سبتة وطنجة، وطلباه فأتى إلى مالقة، وبايعاه بالخلافة على أن يجعل حسن بن يحيى المقتول مكانه بسبتة، فأجابهما إلى ذلك، فبايعاه، وسار حسن بن يحيى ونجا إلى سبتة وطنجة، وتلقب إدريس بالمتأيد بالله، فبقي كذلك إلى سنة ثلاثين، أو إحدى وثلاثين وأربعمائة. فسير القاضي أبو القاسم بن عباد ولده إسماعيل في عسكر ليتغلب على تلك البلاد، فأخذ قرمونة، وأخذ أيضاً اشبونة، واستجة، فأرسل صاحبها إلى إدريس، وإلى باديس بن حبوس، صاحب صنهاجة، فأتاه صاحب صنهاجة بنفسه، وأمده إدريس بعسكر يقوده ابن بقية مدبر دولته، فلم يجسروا على إسماعيل بن عباد، فعادوا عنه، فسار إسماعيل مجداً ليأخذ على صنهاجة الطريق، فأدركهم وقد فارقهم عسكر إدريس قبل ذلك بساعة، فأرسلت صنهاجة من ردهم فعادوا، وقاتلوا إسماعيل بن عباد، فلم يلبث أصحابه أن انهزموا وأسلموه، فقتل وحمل رأسه إلى إدريس. وكان إدريس قد أيقن بالهلاك، وانتقل عن مالقة إلى جبل يحتمي به وهو مريض، فلما أتاه الرأس عاش بعده يومين، ومات وترك من الولد يحيى، ومحمداً، وحسناً، وكان يحيى بن علي المقتول قد حبس ابني عمه محمداً والحسن ابني القاسم بن حمود بالجزيرة، فلما مات إدريس أخرجهما الموكل بهما، ودعا الناس إليهما، فبايعهما السودان خاصة قبل الناس لميل أبيهما إليهم، فملك محمد الجزيرة، ولم يتسم بالخلافة. وأما الحسن بن القاسم فإنه تنسك وترك الدنيا وحج. وكان ابن بقية قد أقام يحيى بن إدريس بعد موت والده بمالقة، فسار إليها نجا الصقلبي من سبتة هو والحسن بن يحيى، فهرب ابن بقية، ودخلها الحسن ونجا، فاستمالا ابن بقية حتى حضر، فقتله الحسن، وقتل ابن عمه يحيى بن إدريس، وبايعه الناس بالخلافة، ولقب بالمستنصر بالله، ورجع نجا إلى سبتة، وترك مع الحسن المستنصر نائباً له يعرف بالشطيفي، فبقي حسن كذلك نحواً من سنتين، ثم مات سنة أربع وثلاثين وأربعمائة، فقيل إن زوجته ابنة عمه إدريس سمته أسفاً على أخيها يحيى، فلما مات المستنصر اعتقل الشطيفي إدريس بن يحيى، وسار نجا من ستبة إلى مالقة، وعزم على محو أمر العلويين، وأن يضبط البلاد لنفسه، وأظهر البربر على ذلك، فعظم عندهم، فقتلوه، وقتلوا الشطيفي وأخرجوا إدريس بن يحيى، وبايعوه بالخلافة، وتسمى بالعالي، وكان كثير الصدقة يتصدق كل جماعة بخمس مائة دينار، ورد كيل مطرود عن وطنه، وأعاد عليهم أملاكهم. وكان متأدباً، حسن اللقاء، له شعر جيد إلا أنه كان يصحب الأموال، ولا يحجب نساءه عنهم، وكل من طلب منهم حصناً من بلاده أعطاه، فأخذ منه صنهاجة عدة حصون، وطلبوا وزيره ومدبر أمره صاحب أبيه موسى بن عفان ليقتلوه، فسلمه إليهم فقتلوه. وكان قد اعتقل ابني عمه محمداً والحسن ابني إدريس بن علي في حصن ايرش، فلما رأى ثقته بايرش اضطراب آرائه خالف عليه وبايع ابن عمه محمد بن إدريس بن علي، وثار بإدريس ابن يحيى من عنده من السودان، وطلبوا محمداً فجاء إليهم فسلم إليه إدريس الأمر، وبايع له سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة، فاعتقله محمد، وتلقب بالمهدي، وولى أخاه الحسن عهده، ولقبه السامي. وظهرت من المهدي شجاعة وجرأة، فهابه البربر وخافوه، فراسلوا الموكل بإدريس بن يحيى، فأجابهم إلى إخراجه، وأخرجه وبايع له، وخطب له بسبتة وطنجة بالخلافة، وبقي إلى أن توفي سنة ست وأربعين.
ثم إن المهدي رأى من أخيه السامي ما أنكره، فنفاه عنه، فسار إلى العدوة إلى جبال غمارة، وأهلها ينقادون للعلويين ويعظمونهم، فبايعوه. ثم إن البربر خاطبوا محمد بن القاسم بالجزيرة، واجتمعوا إليه وبايعوه بالخلافة، وتسمى بالمهدي أيضاً، فصار الأمر في غاية الأخلوقة والفضيحة، أربعة كلهم يسمى أمير المؤمنين في رقعة من الأرض مقدارها ثلاثون فرسخاً، فرجعت البرابر عنه، وعاد إلى الجزيرة، فمات بعد أيام، فولي الجزيرة ابنه القاسم، ولم يتسم بالخلافة، وبقي محمد بن إدريس بمالقة إلى أن مات سنة خمس وأربعين، وكان إدريس بن يحيى المعروف بالعالي عند بني يفرن بتاكرنا، فلما توفي محمد بن إدريس بن علي قصد إدريس بن يحيى مالقة فملكها، ثم انتقلت إلى صنهاجة. ذكر ولاية هشام الأموي قرطبةلما قطعت دعوة يحيى بن علي العلوي عن قرطبة سنة سبع عشرة وأربعمائة، على ما ذكرناه قبل، أجمع أهلها على خلع العلويين لميلهم إلى البربر، وإعادة الخلافة بالأندلس إلى بني أمية، وكان رأسهم في ذلك أبا الحزم جهور بن محمد ابن جهور، فراسلوا أهل الثغور والمتغلبين هناك في هذا، فاتفقوا معهم، فبايعوا أبا بكر هشام بن محمد بن عبد الملك بن عبد الرحمن الناصر الأموي، وكان مقيماً بالبنت مذ قتل أخوه المرتضى، فبايعوه في ربيع الأول سنة ثماني عشرة، وتلقب بالمعتدبالله، وكان أسن من المرتضى، ونهض إلى الثغور فتردد فيها، وجرى له هناك فتن واضطراب شديد من الرؤساء إلى أن اتفق أمرهم على أن يسير إلى قرطبة دار الملك فسار إليها ودخلها ثامن ذي الحجة سنة عشرين وبقي بها حتى خلع ثاني ذي الحجة سنة اثنتين وعشرين. وكان سبب خلعه أن وزيره أبا عاصم سعيداً القزاز لم يكن له قديم رئاسة، وكان يخالف الوزراء المتقدمين، ويتسبب إلى أخذ أموال التجار وغيرهم، وكان يصل البربر، ويحسن إليهم ويقربهم، فنفر عنه أهل قرطبة، فوضعوا عليه من قتله، فلما قتلوه استوحشوا من هشام فخلعوه بسببه. فلما خلع هشام قام أمية بن عبد الرحمن بن هشام بن عبد الجبار بن الناصر، وتسور القصور مع جماعة من الأحداث، ودعا إلى نفسه، فبايعه من سواد الناس كثير، فقال له بعض أهل قرطبة: نخشى عليك أن تقتل في هذه الفتنة، فإن السعادة قد ولت عنكم؛ فقال: بايعوني اليوم واقتلوني غداً. فأنفذ أهل قرطبة وأعيانهم إليه وإلى المعتد بالله يأمرونهما بالخروج عن قرطبة، فودع المعتد أهله وخرج إلى حصن محمد بن الشور بجبل قرطبة، فبقي معه إلى أن غدر أهل الحصن بمحمد ابن الشور فقتلوه وأخرجوا المعتد إلى حصن آخر حبسوه فيه، فاحتال في الخروج منه ليلاً وسار إلى سليمان بن هود الجذامي، فأكرمه وبقي عنده إلى أن مات في صفر سنة ثمان وعشرين، ودفن بناحية لاردة، وهو آخر ملوك بني أمية بالأندلس. وأما أمية فإنه اختفى بقرطبة، فنادى أهل قرطبة بالأسواق والأرباض أن لا يبقى أحد من بني أمية بها، ولا يتركهم عنده أحد، فخرج أمية فيمن خرج، وانقطع خبره مدةً، ثم أراد العود إليها، فعاد طمعاً في أن يسكنها، فأرسل إليه شيوخ قرطبة من منعه عنها، وقيل قتل وغيب، وذلك في جمادى الآخرة سنة أربع وعشرين، ثم انحل عقد الجماعة وانتشر وافترقت البلاد، على ما نذكره. ذكر تفرق ممالك الأندلسثم إن الأندلس اقتسمه أصحاب الأطراف والرؤساء، فتغلب كل إنسان على شيء منه، فصاروا مثل ملوك الطوائف، وكان ذلك أضر شيء على المسلمين فطمع بسببه العدو الكافر، خذله الله، فيهم، ولم يكن لهم اجتمع إلى أن ملكه أمير المسلمين علي بن يوسف بن تاشفين، على ما نذكره إن شاء الله.
فأما قرطبة فاستولى عليها أبو الحزم جهور بن محمد بن جهور، المقدم ذكره، وكان من وزراء الدولة العامرية، قديم الرئاسة، موصوفاً بالدهاء والعقل، ولم يدخل في شيء من الفتن قبل هذا بل كان يتصاون عنها. فلما خلا له الجو، وأمكنته الفرصة، وثب عليها فتولى أمرها وقام بحمايتها، ولم يتنقل إلى رتبة الإمارة ظاهراً، بل دبرها تدبيراً لم يسبق إليه، وأظهر أنه حامٍ للبلد إلى أن يجيء من يستحقه، ويتفق عليه الناس، فيسلمه إليه. ورتب البوابين والحشم على أبواب قصور الإمارة، ولم يتحول هو عن داره إليها، وجعل ما يرتفع من الأموال السلطانية بأيدي رجالٍ رتبهم لذلك، وهو المشرف عليهم، وصير أهل الأسواق جنداً، وجعل أرزاقهم ربح أموال تكون بأيديهم ديناً عليهم، فيكون الربح لهم، ورأس المال باقياً عليهم، وكان يتعهدهم في الأوقات المتفرقة لينظر كيف حفظهم لها، وفرق السلاح عليهم، فكان أحدهم لا يفارقه سلاحه حتى يعجل حضوره إن احتاج إليه. وكان جهور يشهد الجنائز، ويعود المرضى، ويحضر الأفراح على طريقة الصالحين، وهو مع ذلك يدبر الأمر تدبير الملوك، وكان مأمون الجانب، وأمن الناس في أيامه، وبقي كذلك إلى أن مات في صفر سنة خمس وثلاثين وأربعمائة، وقام بأمرها بعده ابنه أبو الوليد محمد بن جهور على هذا التدبير إلى أن مات، فغلب عليها الأمير الملقب بالمأمون، صاحب طليطلة، فدبرها إلى أن مات بها. وأما إشبيلية فاستولى عليها القاضي أبو القاسم محمد بن إسماعيل بن عباد اللخمي، وهو من ولد النعمان بن المنذر، وقد ذكرنا سبب ذلك في دولة يحيى بن علي بن حمود قبل هذا. وفي هذا الوقت ظهر أمر المؤيد هشام ابن الحاكم، وكان قد اختفى وانقطع خبره، وكان ظهوره بمالقة، ثم سار منها إلى المرية، فخافه صاحبها زهير العامري فأخرجه منها، فقصد قلعة رباح، فأطاعه أهلها، فسار إليهم صاحبه إسماعيل بن ذي النون وحاربهم، فضعفوا عن مقاومته، فأخرجوه، فاستدعاه القاضي أبو القاسم محمد بن إسماعيل بن عباد إليه بإشبيلية، وأذاع أمره، وقام بنصره، وكان رؤساء الأندلس في طاعته، فأجابه إلى ذلك صاحب بلنسية ونواحيها، وصاحب قرطبة، وصاحب دانية والجزائر، وصاحب طرطوشة، وأقروا بخلافته، وخطبوا له، وجددت بيعته بقرطبة في المحرم سنة تسع وعشرين وأربعمائة. ثم إن ابن عباد سير جيشاً إلى زهير العامري لأنه لم يخطب للمؤيد، فاستنجد زهير حبوس بن ماكسن الصنهاجي صاحب غرناطة، فسار إليه بجيشه، فعادت عساكر ابن عباد، ولم يكن بين العسكرين قتال، وأقام زهير في بياسة، وعاد حبوس إلى مالقة، فمات في رمضان من هذه السنة، وولي بعده ابنه باديس، واجتمع هو وزهير ليتفقا كما كان زهير وحبوس، فلم تستقر بينهما قاعدة، واقتتلا، فقتل زهير وجمع كثير من أصحابه أواخر سنة تسع وعشرين. ثم في سنة إحدى وثلاثين التقى عسكر ابن عباد وعليهم ابنه إسماعيل مع باديس بن حبوس، وعسكر إدريس العلوي، على ما ذكرناه عند أخبار العلويين فيما تقدم، إلا أنهم اقتتلوا قتالاً شديداً، فقتل إسماعيل، ثم مات بعده أبوه القاضي أبو القاسم سنة ثلاث وثلاثين، وولي بعده ابنه أبو عمرو عباد بن محمد،ولقب بالمعتضد بالله، فضبط ما ولي، وأظهر موت المؤيد. هذا قول ابن أبي الفياض في المؤيد، وقال غيره إن المؤيد لم يظهر خبره منذ عدو من قرطبة عند دخول علي بن حمود إليها، وقتله سليمان، وإنما كان هذا من تمويهات ابن عباد وحيله ومكره، وأعجب من اختفاء حال المؤيد، ثم تصديق الناس ابن عباد فيما أخبر به من حياته، أن إنساناً حضرياً ظهر بعد موت المؤيد بعشرين سنة وادعى أنه المؤيد، فبويع بالخلافة، وخطب له على منابر جميع بلاد الأندلس في أوقات متفرقة، وسفكت الدماء بسببه، واجتمعت العساكر في أمره.
ولما أظهر ابن عباد موت هشام المؤيد، واستقل بأمر إشبيلية وما انضاف إليها، بقي كذلك إن أن مات من ذبحة لحقته لليلتين خلتا من جمادى الآخرة سنة إحدى وستين وأربعمائة، وولي بعده ابنه أبو القاسم محمد بن عباد ابن القاضي أبي القاسم، ولقب بالمعتمد على الله، فاتسع ملكه، وشمخ سلطانه، وملك كثيراً من الأندلس، وملك قرطبة أيضاً، وولى عليها ابنه الظافر بالله، فبلغ خبر ملكه لها إلى يحيى بن ذي النون، صاحب طليطلة، فحسده عليها، فضمن له جرير بن عكاشة أن يجعل ملكها له، وسار إلى قرطبة وأقام بها يسعى في ذلك وهو ينتهز الفرصة. فاتفق أن في بعض الليالي جاء مطر عظيم ومعه ريح شديدة ورعد وبرق، فثار جرير فيمن معه، ووصل إلى قصر الإمارة، فلم يجد من يمانعه، فدخل صاحب الباب إلى الظافر وأعلمه، فخرج بمن معه من العبيد والحرس، وكان صغير السن، وحمل عليهم، ودفعهم عن الباب، ثم إنه عثر في بعض كراته فسقط، فوثب بعض من يقاتله وقتله، ولم يبلغ الخبر إلى الأجناد وأهل البلد إلا والقصر قد ملك، وتلاحق بجرير أصحابه وأشياعه، وترك الظافر ملقىً على الأرض عرياناً، فمر عليه بعض أهل قرطبة، فأبصره على تلك الحال، فنزع رداءه وألقاه عليه، وكان أبوه إذا ذكره يتمثل: ولم أدر من ألقى عليه رداءه ... على أنّه قد سلّ عن ماجدٍ محض ولم يزل المعتمد يسعى في أخذها، حتى عاد ملكها، وترك ولده المأمون فيها، فأقام بها حتى أخذها جيش أمير المسلمين يوسف بن تاشفين، وقتل فيها بعد حروب كثيرة يأتي ذكرها إن شاء الله تعالى سنة أربع وثمانين. وأخذت إشبيلية من أبيه المعتمد في السنة المذكورة، وبقي محبوساً في اغمات إلى أن مات بها، رحمه الله، وكان هو وأولاده جميعهم الرشيد، والمأمون، والراضي، والمعتمد، وأبوه، وجده علماء فضلاء شعراء. وأما بطليوس فقام بها سابور الفتى العامري، وتلقب بالمنصور، ثم انتقلت بعده إلى أبي بكر محمد بن عبدالله بن سلمة، المعروف بابن الأفطس، أصلحه من بربر مكناسة، لكنه ولد أبوه بالأندلس، ونشأوا بها، وتخلقوا تخلق أهلها، وانتسبوا إلى تجيب، وشاكلهم الملك، فلما توفي صارت بعده إلى ابنه أبي محمد عمر بن محمد واتسع ملكه إلى أقصى المغرب، وقتل صبراً مع ولدين له عند تغلب أمير المسلمين على الأندلس. وأما طليطلة فقام بأمرها ابن يعيش، فلم تطل مدته، وصارت رئاسته إلى إسماعيل بن عبد الرحمن بن عامر بن مطرف بن ذي النون، ولقبه الظافر بحول الله، وأصله من البربر وولد بالأندلس، وتأدب بآداب أهلها، وكان مولد إسماعيل سنة تسعين وثلاثمائة، وتوفي سنة خمس وثلاثين وأربعمائة، وكان عالماً بالأدب، وله شعر جيد، وصنف كتاباً في الآداب والأخبار. وولي بعده ابنه يحيى فاشتغل بالخلاعة والمجون، وأكثر مهاداة الفرنج ومصانعتهم ليتلذذ باللعب، وامتدت يده إلى أموال الرعية، ولم تزل الفرنج تأخذ حصونه شيئاً بعد شيء، حتى أخذت طليطلة في سنة سبع وسبعين وأربعمائة، وصار هو ببلنسية، وأقام بها إلى أن قتله القاضي ابن جحاف الأحنف، وفيه يقول الرئيس أبو عبد الرحمن محمد بن طاهر: أيّها الأحنف مهلاً ... فلقد جئت عويصا إذ قتلت الملك يحيى، ... وتقمّصت القميصا ربّ يومٍ فيه تجري ... إن تجد فيه محيصا وأما سرقسطة والثغر الأعلى فكان بيد منذر بن يحيى التجيبي، ثم توفي وولي بعده ابنه يحيى، ثم صارت بعده لسليمان بن أحمد بن محمد بن هود الجذامي وكان يلقب بالمستعين بالله، وكان من قواد منذر على مدينة لاردة، وله وقعة مشهورة بالفرنج بطليطلة سنة أربع وثلاثين وأربعمائة. ثم توفي وولي بعده ابنه المقتدر بالله، وولي بعده ابنه يوسف بن أحمد المؤتمن، ثم ولي بعده ابنه أحمد المستعين بالله على لقب جده، ثم ولي بعده ابنه عبد الملك عماد الدولة، ثم ولي بعده ابنه المستنصر بالله، وعليه انقرضت دولتهم على رأس الخمس مائة، فصارت بلادهم جميعاً لابن تاشفين. ورأيت بعض أولادهم بدمشق سنة تسعين وخمسمائة، وهو فقير جداً، وهو قيم الربوة، فسبحان من لا يزول، ولا تغيره الدهور. وأما طرطوشة فوليها لبيب الفتى العامري.
وأما بلنسية فكان بها المنصور أبو الحسن عبد العزيز بن عبد الرحمن بن محمد بن المنصور بن أبي عامر المعافري. ثم انضاف إليه المرية وما كان إليها، وبعده ابنه محمد، ودام فيها إلى أن غدر به صهره المأمون بن إسماعيل بن ذي النون، وأخذ منه رئاسة بلنسية في ذي الحجة سنة سبع وخمسين وأربعمائة، فانتزح إلى المرية، وأقام بها إلى أن خلع، على ما نذكره إن شاء الله تعالى. وأما السهلة فملكها عبود بن رزين، وأصله بربري، ومولده بالأندلس، فلما هلك ولي بعده ابنه عبد الملك، وكان أديباً شاعراً، ثم ولي بعده ابنه عز الدولة، ومنه ملكها الملثمون. وأما دانية والجزائر فكانت بيد الموفق أبي الحسن مجاهد العامري؛ وسار إليه من قرطبة الفقيه أبو محمد عبدالله المعيطي ومعه خلق كثير، فأقامه مجاهد شبه خليفة يصدر عنه رأيه، وبايعه في جمادى الآخرة سنة خمس وأربعمائة، فأقام المعيطي بدانية مع مجاهد ومن انضم إليه نحو خمسة أشهر، ثم سار هو ومجاهد في البحر إلى الجزائر التي في البحر، وهي ميورقة بالياء، ومنورقة بالنون، ويابسة. ثم بعث المعيطي بعد ذلك مجاهداً إلى سردانية في مائة وعشرين مركباً بين كبير وصغير ومعه ألف فارس، ففتحها في ربيع الأول سنة ست وأربعين وأربعمائة، وقتل بها خلقاً كثيراً من النصارى، وسبى مثلهم، فسار إليه الفرنج والروم من البر في آخر هذه السنة، فأخرجوه منها، ورجع إلى الأندلس والمعيطي قد توفي، فغاص مجاهد في تلك الفتن إلى أن توفي، وولي بعده ابنه علي بن مجاهد، وكانا جميعاً من أهل العلم والمحبة لأهله والإحسان إليهم، وجلباهم من أقاصي البلاد وأدانيها، ثم مات ابنه عليٌ فولي بعده ابنه أبو عامر، ولم يكن مثل أبيه وجده. ثم إن دانية وسائر بلاد بني مجاهد صارت إلى المقتدر بالله أحمد بن سليمان بن هود في شهر رمضان سنة ثمان وسبعين وأربعمائة. وأما مرسية فوليها بنو طاهر، واستقامت رئاستها لأبي عبد الرحمن منهم، المدعو بالرئيس، ودامت رئاسته إلى أن أخذها منه المعتمد بن عباد على يد وزيره أبي بكر بن عمار المهري، فلما ملكها عصى على المعتمد فيها، فوجه إليه عسكراً مقدمهم أبو محمد عبد الرحمن بن رشيق القشيري، فحصروه وضيقوا عليه حتى هرب منها، فلما دخلها القشيري عصى فيها أيضاً على المعتمد، إلى أن دخل في طاعة الملثمين، وبقي أبو عبد الرحمن بن طاهر بمدينة بلنسية إلى أن مات بها سنة سبع وخمسمائة، ودفن بمرسية، وقد نيف على تسعين سنة. وأما المرية فملكها خيران العامري، وتوفي كما ذكرنا، ووليها بعده زهير العامري، واتسع ملكه إلى شاطبة، إلى ما يجاور عمل طليطلة، ودام إلى أن قتل، كما تقدم، وصارت مملكته إلى المنصور أبي الحسن عبد العزيز ابن عبد الرحمن بن المنصور بن أبي عامر، فولي بعده ابنه محمد، فلما توفي عبد العزيز ببلنسية أقام ابنه محمد بالمرية، وهو يدبر بلنسية، فانتهز الفرصة فيها المأمون يحيى بن ذي النون وأخذها منه، وبقي بالمرية إلى أن أخذها منه صهره ذو الوزارتين أبو الأحوص المعتصم معن بن صمادح التجيبي، ودانت له لورقة، وبياسة، وجيان، وغيرها إلى أن توفي سنة ثلاث وأربعين، وولي بعده ابنه أبو يحيى محمد بن معن وهو ابن أربع عشرة سنة، فكفله عوه أبو عتبة بن محمد إلى أن توفي سنة ست وأربعين، فبقي أبو يحيى مستضعفاً لصغره، وأخذت بلاده البعيدة عنه، ولم يبق له غير المرية وما يجاورها. فلما كبر أخذ نفسه بالعلوم، ومكارم الأخلاق، فامتد صيته، واشتهر ذكره، وعظم سلطانه، والتحق بأكابر الملوك، ودام بها إلى أن نازله جيش الملثمين، فمرض في أثناء ذلك، وكان القتال تحت قصره، فسمع يوماً صياحاً وجلبة، فقال: نغص علينا كل شيء حتى الموت ! وتوفي في مرضه ذلك لثمان بقين من ربيع الأول سنة أربع وثمانين وأربعمائة، ودخل أولاده وأهله البحر في مركب إلى بجاية، قاعدة مملكة بني حماد من إفريقية، وملك الملثمون المرية وما معها. وأما مالقة فملكها بنو علي بن حمود، فلم تزل في مملكة العلويين يخطب لهم فيها إلى أن أخذها منهم إدريس بن حبوس صاحب غرناطة سنة سبع وأربعين، وانقضى أمر العلويين بالأندلس.
وأما غرناطة فملكها حبوس بن ماكسن الصنهاجي، ثم مات سنة تسع وعشرين وأربعمائة، وولي بعده ابنه باديس، فلما توفي ولي بعده ابن أخيه عبد الله بن بلكين، وبقي إلى أن ملكها منه الملثمون في رجب سنة أربع وثمانين وأربعمائة، وانقرضت دول جميعهم، وصارت الأندلس جميعها للملثمين، وملكهم أمير المسلمين يوسف بن تاشفين، واتصلت مملكته من المغرب الأقصى إلى آخر بلاد المسلمين بالأندلس؛ نعود إلى سنة سبع وأربعمائة. ذكر الحرب بين سلطان الدولة وأخيه أبي الفوارسقد ذكرنا أن الملك سلطان الدولة لما ملك بعد أبيه بهاء الدولة ولى أخاه أبا الفوارس بن بهاء الدولة كرمان، فلما وليها اجتمع إليه الديلم، وحسنوا له محاربة أخيه وأخذ البلاد منه، فتجهز وتوجه إلى شيراز، فلم يشعر سلطان الدولة حتى دخل أبو الفوارس إلى شيراز، فجمع عساكره وسار إليه فحاربه، فانهزم أبو الفوارس، وعاد إلى كرمان، فتبعه إليها، فخرج منها هارباً إلى خراسان، وقصد يمين الدولة محمود بن سبكتكين، وهو ببست فأكرمه وعظمه، وحمل إليه شيئاً كثيراً، وأجلسه فوق دارا بن قابوس بن وشمكير، فقال دارا: نحن أعظم محلاً منهم لأن أباه وأعمامه خدموا آبائي؛ فقال محمود: لكنهم أخذوا الملك بالسيف؛ أراد بهذا نصرة نفسه حيث أخذ خراسان من السامانية، ووعد محمود أن ينصره. ثم إن أبا الفوارس باع جوهرتين كانتا على جبهة فرسه بعشرة آلاف دينار، فاشتراهما محمود وحملهما إليه، فقال له: من غلطكم تتركون هذا على جبهة الفرس، وقيمتهما ستون ألف دينار. ثم إن محموداً سير جيشاً مع أبي الفوارس إلى كرمان، مقدمهم أبو سعد الطائي، وهو من أعين قواده، فسار إلى كرمان فملكها، وقصد بلاد فارس وقد فارقها سلطان الدولة إلى بغداد، فدخل شيراز. فلما سمع سلطان الدولة عاد إلى فارس، فالتقوا هناك واقتتلوا، فانهزم أبو الفوارس، وقتل كثير من أصحابه، وعاد بأسوإ حالٍ، وملك سلطان الدولة بلاد فارس، وهرب أبو الفوارس سنة ثمان وأربعمائة إلى كرمان، فسير سلطان الدولة الجيوش في أثره، فأخذوا كرمان منه، فلحق بشمس الدولة بن فخر الدولة بن بويه، صاحب همذان، ولم يمكنه العود إلى يمين لدولة، لأنه أساء السيرة مع أبي سعد الطائي. ثم فارق شمس الدولة، ولحق بمهذب الدولة، صاحب البطيحة، فأكرمه وأنزله داره، وأنفذ إليه أخوه جلال الدولة من البصرة مالاً وثياباً، وعرض عليه الانحدار إليه فلم يفعله، وترددت الرسل بينه وبين سلطان الدولة، فأعاد إليه كرمان، وسيرت إليه الخلع والتقليد بذلك، وحملت إليه الأموال، فعاد إليها. ذكر قتل الشيعة بإفريقيةفي هذه السنة، في المحرم، قتلت الشيعة بجميع بلاد إفريقية. وكان سبب ذلك أن المعز بن باديس ركب ومشى في القيروان والناس يسلمون عليه ويدعون له، فاجتاز بجماعة، فسأل عنهم، فقيل: هؤلاء رافضة يسبون أبا بكر وعمر؛ فقال: رضي الله عن أبي بكر وعمر ! فانصرفت العامة من فورها إلى درب المقلى من القيروان، وهو حومة تجتمع به الشيعة، فقتلوا منهم، وكان ذلك شهوة العسكر وأتباعهم، طمعاً في النهب، وانبسطت أيدي العامة في الشيعة، وأغراهم عامل القيروان وحرضهم. وسبب ذلك أنه كان قد أصلح أمور البلد، فبلغه أن المعز بن باديس يريد عزله، فأراد فساده، فقتل من الشيعة خلق كثير، وأحرقوا بالنار، ونهبت ديارهم، وقتلوا في جميع إفريقية، واجتمع جماعة منهم إلى قصر المنصور قريب القيروان، فتحصنوا به، فحصرهم العامة وضيقوا عليهم، فاشتد عليهم الجوع، فأقبلوا يخرجون والناس يقتلونهم حتى قتلوا عن آخرهم، ولجأ من كان منهم بالمهدية إلى الجامع فقتلوا كلهم. وكانت الشيعة تسمى بالمغرب المشارقة نسبة إلى أبي عبدالله الشيعي، وكان من المشرق، وأكثر الشعراء ذكر هذه الحادثة، فمن فرحٍ مسرورٍ ومن باكٍ حزينٍ. ذكر عدة حوادثفي هذه السنة، في ربيع الأول، احترقت قبة مشهد الحسين والأروقة، وكان سببه أنهم أشعلوا شمعتين كبيرتين، فسقطتا في الليل على التازير فاحترق وتعدت النار؛ وفيه أيضاً احترق نهر طابق، ودار القطن، وكثير من باب البصرة، واحترق جامع سر من رأى. وفيها تشعث الركن اليماني من البيت الحرام، وسقط حائط بين يدي حجرة النبي، صلى الله عليه وسلم، ووقعت القبة الكبيرة على الصخرة بالبيت المقدس.
وفيها كانت فتنة كبيرة بين السنة والشيعة بواسط، فانتصر السنة وهرب وجوه الشيعة والعلويين إلى علي بن مزيد فاستنصروه. وفيها، في رجب، مات محمد بن أحمد بن القاسم بن إسماعيل أبو الحسين الضبي القاضي المعروف بابن المحاملي، وكان من أعيان الفقهاء الشافعية وكبار المحدثين؛ مولده سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة؛ ومحمد بن الحسين بن محمد ابن الهيثم أبو عمر البسطامي، الواعظ، الفقيه، الشافعي، ولي قضاء نيسابور. ثم دخلت سنة ثمان وأربعمائة ذكر خروج الترك من الصين وموت طغان خان في هذه السنة خرج الترك من الصين في عدد كثير يزيدون على ثلاثمائة ألف خركاة من أجناس الترك، منهم الخطابية الذين ملكوا ما وراء النهر، وسيرد خبر ملكهم إن شاء الله تعالى. وكان سبب خروجهم أن طغان خان لما ملك تركستان مرض مرضاً شديداً، وطال به المرض، فطمعوا في البلاد لذلك فساروا إليها وملكوا بعضها وغنموا وسبوا وبقي بينهم وبين بلاساغون ثمانية أيام، فلما بلغه الخبر كان بها مريضاً، فسأل الله تعالى أن يعافيه لينتقم من الكفرة، ويحمي البلاد منهم، ثم يفعل به بعد ذلك ما أراد، فاستجاب الله له وشفاه، فجمع العساكر، وكتب إلى سائر بلاد الإسلام يستنفر الناس، فاجتمع إليه من المتطوعة مائة ألف وعشرون ألفاً، فلما بلغ الترك خبر عافيته وجمعه العساكر وكثرة من معه عادوا إلى بلادهم، فسار خلفهم نحو ثلاثة أشهر حتى أدركهم وهم آمنون لبعد المسافة، فكبسهم وقتل منهم زيادة على مائتي ألف رجل، وأسر نحو مائة ألف، وغنم من الدواب والخركاهات وغير ذلك من الأواني الذهبية والفضية ومعمول الصين ما لا عهد لأحدٍ بمثله، وعاد إلى بلاساغون، فلما بلغها عاوده مرضه فمات منه. وكان عادلاً، خيراً، ديناً، يحب العلم وأهله، ويميل إلى أهل الدين، ويصلهم ويقربهم، وما أشبه قصته بقصة سعد بن معاذ الأنصاري، وقد تقدمت في غزوة الخندق، وقيل: كانت هذه الحادثة مع أحمد بن علي قراخان، أخي طغان خان، وإنها كانت سنة ثلاث وأربعمائة. ذكر ملك أخيه أرسلان خانلما مات طغان خان ملك بعده أخوه أبو المظفر أرسلان خان، ولقبه شرف الدولة، فخالف عليه قدر خان يوسف بن بغراخان هارون بن سليمان الذي ملك بخارى، وقد تقدم ذكره، وكان ينوب عن طغان خان بسمرقند، فكاتب يمين الدولة يستنجده على أرسلان خان، فعقد على جيحون جسراً من السفن، وضبطه بالسلاسل، فعبر عليه، ولم يكن يعرف هناك قبل هذا، وأعانه على أرسلان خان. ثم إن يمين الدولة خافه، فعاد إلى بلاده، فاصطلح قدر خان وأرسلان خان على قصد بلاد يمني الدولة واقتسامها، وسار إلى بلخ. وبلغ الخبر إلى يمين الدولة، فقصدهما، واقتتلوا، وصبر الفريقان، ثم انهزم الترك وعبروا جيحون، فكان من غرق منهم أكثر ممن نجا. وورد رسول متولي خوارزم إلى يمين الدولة يهنئه بالفتح عقيب الوقعة، فقال له: من أين علمتم ؟ فقال: من كثرة القلانس التي جاءت على الماء؛ وعبر يمين الدولة، فشكا أهل تلك البلاد إلى قدر خان ما يلقون من عسكر يمين الدولة، فقال: قد قرب الأمر بيننا وبين عدونا، فإن ظفرنا منعنا عنكم، وإن ظفر عدونا فقد استرحتم منا. ثم اجتمع هو وقدر خان، وأكلا طعاماً. وكان قدر خان عادلاً حسن السيرة، كثير الجهاد، فمن فتوحه ختن، وهي بلاد بين الصين وتركستان وهي كثيرة العلماء والفضلاء، وبقي كذلك إلى سنة ثلاث وعشرين وأربعمائة فتوفي فيها، وكان يديم لصلاة في الجماعة. ولما توفي خلف ثلاثة بنين منهم: أبو شجاع أرسلان خان، وكان له كاشغر، وختن، وبلاساغون، وخطب له على منابرها، وكان لقبه شرف الدولة، ولم يشرب الخمر قط، وكان ديناً، مكرماً للعلماء وأهل الدين، فقصدوه من كل ناحية، فوصلهم وأحسن إليهم، وخلف أيضاً بغراخان ابن قدر خان، وكان له طراز واسبيجاب فقدم أخوه أرسلان وأخذ مملكته، فتحاربا، فانهزم أرسلان خان وأخذ أسيراً، فأودعوه الحبس، وملك بلاده.
ثم إن بغراخان عهد بالملك لولده الأكبر، واسمه حسين جغري تكين، وجعله ولي عهده، وكان لبغراخان امرأة له منها ولد صغير، فغاظها ذلك، فعمدت إليه وسمته فمات هو وعدة من أهله، وخنقت أخاه أرسلان خان ابن قدر خان، وكان ذلك سنة تسع وثلاثين وأربعمائة، وقتلت وجوه أصحابه، وملكت ابنه، واسمه إبراهيم، وسيرته في جيش إلى مدينة تعرف ببرسخان، وصاحبها يعرف بينالتكين، فظفر به ينالتكين وقتله، وانهزم عسكره إلى أمه، واختلف أولاد بغراخان، فقصدهم طفغاج خان صاحب سمرقند. ذكر ملك طفغاج خان وولدهوكان طفغاج خان أبو المظفر إبراهيم بن نصر ايلك يلقب عماد الدولة، وكان بيده سمرقند وفرغانة، وكان أبوه زاهداً متعبداً، وهو الذي ملك سمرقند، فلما مات ورثه ابنه طفغاج، وملك بعده، وكان طفغاج متديناً لا يأخذ مالاً حتى يستفتي الفقهاء، فورد عليه أبو شجاع العلوي الواعظ، وكان زاهداً، فوعظه وقال له: إنك لا تصلح للملك. فأغلق طفغاج بابه، وعزم على ترك الملك، فاجتمع عليه أهل البلد وقالوا: قد أخطأ هذا، والقيام بأمورنا متعين عليه. فعند ذلك فتح بابه، ومات سنة ستين وأربعمائة. وكان السلطان ألب أرسلان قد قصد بلاده ونبها أيام عمه طغرلبك، فلم يقابل الشر بمثله، وأرسل رسولاً إلى القائم بأمر الله سنة ثلاث وخمسين يهنئه، بعوده إلى مستقره، ويسأل التقدم إلى ألب أرسلان بالكف عن بلاده، فأجيب إلى ذلك، وأرسل إليه الخلع والألقاب، ثم فلج سنة ستين. وكان في حياته قد جعل الملك في ولده شمس الملك، فقصده أخوه طغان خان ابن طفغاج، وحصره بسمرقند، فاجتمع أهلها إلى شمس الملك، وقالوا له: قد خرب أخوك ضياعنا وأفسدها، ولو كان غيره لساعدناك، ولكنه أخوك فلا ندخل بينكما؛ فوعدهم المناجزة، وخرج من البلد نصف الليل في خمسمائة غلام معدين، وكبس أخاه، وهو غير محتاطٍ، فظفر به، فهزمه، وكان هذا وأبوهما حي. ثم قصده هارون بغراخان بن يوسف قدر خان، وطغرل قراخان، وكان طفغاج قد استولى على ممالكهما، وقاربا سمرقند، فلم يظفرا بشمس الملك، فصالحاه وعادا فصارت الأعمال المتاخمة لجيحون لمشس الملك، وأعمال الخاهر في أيديهما، والحد بينهما خجندة. وكان السلطان ألب أرسلان قد تزوج ابنة قدر خان، وكانت قبله عند مسعود ابن محمود بن سبكتكين، وتزوج شمس الملك ابنة ألب أرسلان، وزوج بنت عمه عيسى خان من السلطان ملكشاه، وهي خاتون الجلالية أم الملك محمود الذي ولي السلطنة بعد أبيه، وسنذكر ذلك إن شاء الله تعالى. ثم اختلف ألب أرسلان وشمس الملك، وسنذكره سنة خمس وستين عند قتل ألب أرسلان؛ ثم مات شمس الملك، فولي بعده أخوه خضر خان، ثم مات، فولي ابنه أحمد خان، وهو الذي قبض عليه ملكشاه، ثم أطلقه وأعاده إلى ولايته سنة خمس وثمانين، وسنذكره هناك إن شاء الله تعالى. ثم إن جنده ثاروا به فقتلوه وملك بعده محمود خان، وكان جده من ملوكهم، وكان أصم، فقصده طغان خان بن قراخان، صاحب طراز، فقتله واستولى على الملك، واستناب بسمرقند أبا المعالي محمد بن زيد العلوي البغدادي، فولي ثلاث سنين، ثم عصى عليه، فحاصره طغان خان، وأخذه وقتله، وقتل خلقاً كثيراً معه. ثم خرج طغان خان إلى ترمذ يريد خراسان، فلقيه السلطان سنجر وطفر به وقتله وصارت أعمال ما وراء النهر له، فاستناب بها محمد خان بن كمشتكين ابن إبراهيم بن طفغاج خان، فأخذها منه عمر خان، وملك سمرقند، ثم هرب من جنده وقصد خوارزم فظفر به السلطان سنجر فقتله وولي سمرقند محمد خان وولي بخارى محمد تكين بن طغانتكين. ذكر كاشغر وتركستانوأما كاشغر، وهي مدينة تركستان، فإنها كانت لأرسلان خان بن يوسف قدر خان، كما ذكرنا، ثم صارت بعد لمحمود بغراخان، صاحب طراز والشاش، خمسة عشر شهراً، ثم مات فولي بعده طغرل خان بن يوسف قدر خان، فاستولى على الملك، وملك بلاساغون، وكان ملكه ست عشرة سنة ثم توفي.
وملك ابنه طغرلتكين، وأقام شهرين، ثم أتهى هارون بغراخان أخو يوسف طغرلخان بن طفغاج بغراخان، وعبر كاشغر، وقبض على هارون، وأطاعه عسكره، وملك كاشغر، وختن، وما يتصل بهما إلى بلاساغون، وأقام مالكاً تسعاً وعشرين سنة، وتوفي سنة ست وتسعين وأربعمائة، فولي ابنه أحمد ابن أرسلان خان، وأرسل رسولاً إلى الخليفة المستظهر بالله يطلب منه الخلع والألقاب، فأرسل إليه ما طلب، ولقبه نور الدولة. ذكر وفاة مهذب الدولة وحال البطيحة بعده في هذه السنة، في جمادى الأولى، توفي مهذب الدولة أبو الحسن علي ابن نصر، ومولده سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة، وهو الذي نزل عليه القادر بالله. وكان سبب موته أنه افتصد، فانتفخ ساعده، ومرض منه، واشتد مرضه. فلما كان قبل وفاته بثلاثة أيام تحدث الجند بإقامة ولده أبي الحسين أحمد مقامه، فبلغ ابن أخت مهذب الدولة، وهو أبو محمد عبدالله بن يني، فاستدعى الديلم والأتراك، ورغبهم ووعدهم، واستحلفهم لنفسه، وقرر معهم القبض على أبي الحسين بن مهذب الدولة وتسليمه إليه، فمضوا إليه ليلاً وقالوا له: أنت ولد الأمير، ووارث الأمر من بعده، فلو قمت معنا إلى دار الإمارة ليظهر أمرك وتجتمع الكلمة عليك لكان حسناً. فخرج من داره معهم، فلما فارقها قبضوا عيه وحملوه إلى أبي محمد، فسمعت والدته، فدخلت إلى مهذب الدولة قبل موته بيوم فأعلمته الخبر، فقال: أي شيء أقدر أعمل وأنا على هذه الحال ؟ وتوفي من الغد، وولي الأمر أبو محمد، وتسلم الأموال والبلد، وأمر بضرب أبي الحسين بن مهذب الدولة، فضرب ضرباً شديداً توفي منه بعد ثلاثة أيام من موت أبيه. وبقي أبو محمد أميراً إلى منتصف شعبان، وتوفي بالذبحة، وكان قد قال قبل موته: رأيت مهذب الدولة في المنام وقد مسك حلقي ليخنقني، ويقول: قتلت ابني أحمد، وقابلت نعمتي عليك بذاك. فمات بعد أيام، فكان ملكه أقل من ثلاثة أشهر. فلما توفي اتفق الجماعة على تأمير أبي عبدالله الحسين بن بكر الشرابي، وكان من خواص مهذب الدولة فصار أمير البطيحة، وبذل للملك سلطان الدولة بذولاً، فأقره عليها، وبقي إلى سنة عشر وأربعمائة، فسير إليه سلطان الدولة صدقة بن فارس المازياري، فملك البطيحة، وأسر أبا عبدالله الشرابي، فبقي عنده أسيراً إلى أن توفي صدقة وخلص، على ما نذكره إن شاء الله تعالى. ذكر وفاة علي بن مزيد | |
|
| |
الشيخ عودة الشيخ عودة
عدد المساهمات : 1748 تاريخ التسجيل : 28/09/2008 العمر : 74
| موضوع: رد: كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير الأحد فبراير 23, 2014 6:11 am | |
| وإمارة ابنه دبيس في هذه السنة، في ذي القعدة، توفي أبو الحسن علي بن مزيد الأسدي، وقام بعده ابنه نور الدولة أبو الأغر دبيس، وكان أبوه قد جعله ولي عهده في حياته، وخلع عليه سلطان الدولة، وأذن في ولايته، فلما توفي والده اختلفت العشيرة على دبيس، فطلب أخوه المقلد بن أبي الحسن علي الإمارة، وسار إلى بغداد، وبذل للأتراك بذولاً كثيرة ليعاضدوه، فسار معه منهم جمع كثير، وكبسوا دبيساً بالنعمانية ونهبوا حلته، فانهزم إلى نواحي واسط، وعاد الأتراك إلى بغداد، وقام الأثير الخادم بأمر دبيس، حتى ثبت قدمه، ومضى المقلد أخوه إلى بني عقيل، ونذكر باقي أخباره موضعها إن شاء الله تعالى. ذكر عدة حوادثفي هذه السنة ضعف أمر الديلم ببغداد، وطمع فيهم العامة، فانحدروا إلى واسط، فخرج إليهم عامتها وأتراكها، فقاتلوهم، فدفع الديلم عن أنفسهم، وقتلوا من أتراك واسط وعامتها خالقاً كثيرة، وعظم أمر العيارين ببغداد، فأفسدوا ونهبوا الأموال. وفيها توفي الحاجب أبو طاهر سباشي المشطب وكان كثير المعروف؛ وأبو الحسن الهماني، وكان متولي البصرة وغيرها، وهو الذي مدحه مهيار بقوله: أستنجدُ الصَّبْرَ فيكم، وهو مغلوب وفيها قدم سلطان الدولة بغداد، وضرب الطبل في أوقات الصلوات الخمس، ولم تجربه عادة إنما كان عضد الدولة يفعل ذلك في أوقات ثلاث صلوات. وفيها هرب ابن سهلان من سلطان الدولة إلى هيت وأقام عند قرواش، وولى سلطان الدولة موضعه أبا القاسم جعفر بن أبي الفرج بن فسانجس، ومولده ببغداد سنة خمس وخمسين وثلاثمائة. وفيها كانت ببغداد فتنة بين أهل الكرخ من الشيعة وبين غيرهم من السنة اشتدت. وفيها استناب القادر بالله المعتزلة والشيعة وغيرهما من أرباب المقالات المخالفة لما يعتقده من مذاهبهم، ونهى من المناظرة في شيء منها، ومن فعل ذلك نكل به وعوقب. ثم دخلت سنة تسع وأربعمائة
ذكر ولاية ابن سهلان العراق في هذه السنة عرض سلطان الدولة على الرخجي ولاية العراق، فقال: ولاية العراق تحتاج إلى من فيه عسف وخرق، وليس غير ابن سهلان، وأنا أخلفه ها هنا. فولاه سلطان الدولة العراق في المحرم، فسار من عند سلطان الدولة، فلما كان ببعض الطريق ترك ثقله، والكتاب، وأصحابه، وسار جريدة في خمسمائة فارس مع طراد بن دبيس الأسدي، يطلب مهارش ومضراً ابني دبيس، وكان مضر قد قبض قديماً عليه بأمر فخر الملك، فكان يبغضه لذلك، وأراد أن يأخذ جزيرة بني أسد فيه ويسلمها إلى طراد. فلما علم مضر ومهارش قصده لهما سارا عن المذار، فتبعهما، والحر شديد، فكاد يهلك هو ومن معه عطشاً، فكان من لطف الله به أن بني أسد اشتغلوا بجمع أموالهم وإبعادها، وبقي الحسن بن دبيس فقاتل قتالاً شديداً، وقتل جماعة من الديلم والأتراك، ثم انهزموا ونهب ابن سهلان أموالهم، وصان حرمهم ونساءهم، فلما نزل في خيمته قال: الآن ولدتني أمي؛ وبذل الأمان لمهارش ومضر وأهلهما، وأشرك بينهم وبين طراد في الجزيرة ورحل. وأنكر على سلطان الدولة فعله ذلك، ووصل إلى واسط والفتن بها قائمة، فأصلحها، وقتل جماعة من أهلها. وورد عليه الخبر باشتداد الفتن ببغداد، فسار إليها، فدخلها أواخر شهر ربيع الآخر، فهرب منه العيارون، ونفي جماعة من العباسيين وغيرهم، ونفي أبا عبدالله بن النعمان فقيه الشيعة، وأنزل الديلم أطراف الكرخ وباب البصرة، ولم يكن قبل ذلك، ففعلوا من الفساد ما لم يشاهد مثله. فمن ذلك أن رجلاً من المستورين أغلق بابه عليه خوفاً منهم، فلما كان أول يوم من شهر رمضان خرج لحاجته، فرآهم على حال عظيم من شرب الخمر والفساد، فأراد الرجوع إلى بيته، فأكرهوه على الدخول معهم إلى دارٍ نزلوها، وألزموه بشرب الخمر فامتنع، فصبوها في فيه قهراً، وقالوا له: قم إلى هذه المرأة فافعل بها، فامتنع فألزموه، فدخل معها إلى بيت في الدار، وأعطاها دراهم، وقال: هذا أول يوم في رمضان، والمعصية فيه تتضاعف، وأحب أن تخبريهم أنني قد فعلت. فقالت: لا كرامة ولا عزازة، أنت تصون دينك عن الزناء وأنا أريد أن أصون أمانتي في هذا الشهر عن الكذب ! فصارت هذه الحكاية سائرة في بغداد. ثم إن أبا محمد بن سهلان أفسد الأتراك والعامة، فانحدر الأتراك إلى واسط، فلقوا بها سلطان الدولة، فشكوا إليه، فسكنهم ووعدهم الإصعاد إلى بغداد وإصلاح الحال. واستحضر سلطان الدولة ابن سهلان، فخافه ومضى إلى بني خفاجة، ثم أصعد إلى الموصل فأقام بها مدة، ثم انحدر إلى الأنبار ومنها إلى البطيحة. فأرسل سلطان الدولة إلى البطيحة رسولاً يطلبه من الشرابي، فلم يسلمه، فسير إليها عسكراً، فانهزم الشرابي، وانحدر ابن سهلان إلى البصرة، فاتصل بالملك جلال الدولة، وكان الرخجي قد خرج مع ابن سهلان إلى الموصل، ففارقه بها، وأصلح حاله مع سلطان الدولة وعاد إليه. ذكر غزوة يمين الدولة إلى الهندفي هذه السنة سار يمين الدولة إلى الهند غازياً، واحتشد وجمع، واستعد وأعد أكثر مما تقدم. وسبب هذا الاهتمام أنه لما فتح قنوج، وهرب صاحبها منه، ويلقب رآي قنوج، ومعنى رآي هو لقب الملك كقيصر وكسرى، فلما عاد إلى غزنة أرسل بيدا اللعين، وهو أعظم ملوك الهند مملكةً، وأكثرهم جيشاً، وتسمى مملكته كجوراهة، رسلاً إلى رآي قنوج، واسمه راجيال، يوبخه على انهزامه، وإسلام بلاده للمسلمين، وطال الكلام بينهما، وآل أمرهما إلى الاختلاف. وتأهب كل واحد منهما لصاحبه، وسار إليه، فالتقوا واقتتلوا، فقتل راجيال، وأتى القتل على أكثر جنوده، فازداد بيدا بما اتفق له شراً وعتواً، وبعد صيتٍ في الهند، وعلواً، وقصده بعض ملوك الهند الذي ملك يمين الدولة بلاده، وهزمه وأبا أجناده، وصار في جملته وخدمه والتجأ إليه، فوعده بإعادة ملكه إليه، وحفظ ضالته عليه، واعتذر بهجوم الشتاء وتتابع الأنداء. فنمت هذه الأخبار إلى يمين الدولة فأزعجته، وتجهز للغزو، وقصد بيدا، وأخذ ملكه منه، وسار عن غزنة، وابتدأ في طريقه بالأفغانية، وهم كفار يسكنون الجبال، ويفسدون في الأرض، ويقطعون الطريق بين غزنة وبينه، فقصد بلادهم، وسلك مضايقها، وفتح مغالقها، وخرب عامرها، وغنم أموالهم، وأكثر القتل فيهم والأسر، وغنم المسلمون من أموالهم الكثير.
ثم استقل على المسير، وبلغ إلى مكان لم يبلغه فيما تقدم من غزواته، وعبر نهر كنك، ولم يعبره قبلها، فلما جازه رأى قفلاً قد بلغت عدة أحمالهم ألف عدد، فغنمها، وهي من العود، والأمتعة الفائقة، وجد به السير، فأتاه في الطريق خبر ملك من ملوك الهند يقال له تروجنبال قد سار من بين يديه ملتجئاً إلى بيدا ليحتمي به عليه، فطوى المراحل، فلحق تروجنبال ومن معه، رابع عشر شعبان، وبينه وبين الهنود نهر عميق، فعبر إليهم بعض أصحابه وشغلهم بالقتال، ثم عبر هو وباقي العسكر إليهم، فاقتتلوا عامة نهارهم وانهزم تروجنبال ومن معه، وكثر فيه القتل والأسر، وأسلموا أموالهم وأهليهم، فغنمها المسلمون، وأخذوا منهم الكثير من الجواهر وأخذ ما يزيد على مائتي فيل، وسار المسلمون يتصون آثارهم، وانهزم ملكهم جريحاً، وتحير في أمره، وأرسل إلى يمين الدولة يطلب الأمان فلم يؤمنه، ولم يقنع منه إلا الإسلام، وقتل من عساكره ما لا يحصى. وسار تروجنبال ليلحق ببيدا، فانفرد به بعض الهنود فقتله. فلما رأى ملوك الهند ذلك تابعوا رسلهم إلى يمين الدولة يبذلون له الطاعة والإتاوة. وسار يمين الدولة بعد الوقعة إلى مدينة باري، وهي من أحصن القلاع والبلاد وأقوها، فرآها من سكانها خالية، وعلى عروشها خاوية، فأمر بهدمها وتخريبها وعشر قلاع معها متناهية الحصانة، وقتل من أهلها خلقاً كثيراً، وسار يطلب بيدا الملك، فلحقه وقد نزل إلى جانب نهر، وأجرى الماء من بين يديه فصار وحلاً، وترك عن يمينه وشماله طريقاً يبساً يقاتل منه إذا أراد القتال، وكان عدة من معه ستة وخمسين ألف فارس، ومائة ألف وأربعة وثمانين ألف راجل، وسبع مائة وستة وأربعين فيلاً، فأرسل يمين الدولة طائفة من عسكره للقتال، فأخرج إليهم بيدا مثلهم، ولم يزل كل عسكر يمد أصحابه، حتى كثر الجمعان، واشتد الضرب والطعان، فأدركهم الليل وحجز بينهم. فلما كان الغد بكر يمين الدولة إليهم، فرأى الديار منهم بلاقع، وركب كل فرقة منهم طريقاً مخالفاً لطريق الأخرى. ووجد خزائن الأموال والسلاح بحالها، فغنموا الجميع، واقتفى آثار المنهزمين، فلحقوهم في الغياض والآجام، وأكثروا فيهم القتل والأسر، ونجا بيدا فريداً وحيداً، وعاد يمين الدولة إلى غزنة منصوراً. ذكر عدة حوادثفي هذه السنة قبض سلطان الدولة على وزيره ابن فسانجس وإخوته، وولى وزارته ذا السعادتين أبا غالب الحسن بن منصور، ومولده بسيراف سنة اثنتين وخمسين وثلاثمائة. وفيها توفي الغالب بالله ولي عهد أبيه القادر بالله في شهر رمضان؛ وتوفي أيضاً أبو أحمد عبدالله بن محمد بن أبي علان، قاضي الأهواز، ومولده سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة، وله تصانيف حسنة، وكان معتزلياً. وفي هذه السنة مات عبد الغني بن سعيد بن بشر بن مروان الحافظ المصري، صاحب المؤتلف والمختلف، ومولده سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة. وتوفي رجاء بن عيسى بن محمد أبو العباس الأنصناوي، وأنصنا من قرى مصر، وهو من الفقهاء المالكية وسمع الحديث الكثير. ثم دخلت سنة عشر وأربعمائةفي هذه السنة قبض الملك جلال الدولة أبو طاهر بن بهاء الدولة على وزيره أبي سعد عبد الواحد بن علي بن ماكولا، وكان ابن عمه أبو جعفر محمد بن مسعود كاتباً فاضلاً، وكان يعرض الديلم لعضد الدولة، ولأبي سعد شعر منه: وإن لقائي للشّجاع لهيّن، ... ولكنّ حمل الضّيم منه شديد إذا كان قلب القرن ينبو عن الوغى ... فإنّ جناني جلمدٌ وحديد وفيها توفي وثاب بن سابق النميري، صاحب حران؛ وأبو الحسن بن أسد الكاتب؛ وأبو بكر محمد بن عبد السلام الهاشمي القاضب بالبصرة؛ وأبو الفضل عبد الواحد بن عبد العزيز التميمي، الفقيه الحنبلي البغدادي، عم أبي محمد.
قال أبو الفضل: سمعت أبا الحسن بن القصاب الصوفي قال: دخلت أنا وجماعة إلى البيمارستان ببغداد، فرأينا شاباً مجنوناً شديد الهوس، فولعنا به، فرد بفصاحةٍ، وقال: انظروا إلى شعور مطررة. وأجساد معطرة. . . وقد جعلوا اللهو صناعة. واللعب بضاعة. وجانبوا العلم رأساً. فقتل: أتعرف شيئاً من العلم فنسألك ؟ قال: نعم إن عندي علماً جماً، فاسألوني. فقال بعضنا: من الكريم في الحقيقة ؟ قال: من رزق أمثالكم، وأنتم لا تساوون ثومة. فأضحكنا. فقال آخر: من أقل الناس شكراً ؟ فقال: من عوفي من بلية ثم رآها في غيره فترك الاعتبار، فإن الشكر عليها واجب. فأبكانا بعد أن أضحكنا. فقلنا: ما الظرف ؟ قال: خلاف ما أنتم عليه. ثم قال: اللهم إن لم ترد عقلي، فرد يدي لأصفع كل واحد منهم صفعة ! فتركناه وانصرفنا. وفيها مات الأصيفر المنتفقي الذي كان يؤذي الحاج في طريقهم؛ وأبو بكر أحمد بن موسى بن مردويه الحافظ الأصبهاني؛ وعبد الصمد بن بابك أبو القاسم الشاعر، قدم على الصاحب بن عباد فقال: أنت ابن بابك ؟ فقال: أنا ابن باك؛ فاستحسن قوله. ثم دخلت سنة إحدى عشرة وأربعمائة ذكر قتل الحاكم وولاية ابنه الظاهر في هذه السنة، ليلة الاثنين لثلاث بقين من شوال، فقد الحاكم بأمر الله أبو علي المنصور بن العزيز بالله نزار بن المعز العلوي، صاحب مصر بها، ولم يعرف له خبر. وكان سبب فقده أنه خرج يطوف ليلة على رسمه، وأصبح عند قبر الفقاعي، وتوجه إلى شرقي حلوان ومعه ركابيان، فأعاد أحدهما مع جماعة من العرب إلى بيت المال، وأمر لهم بجائزة، ثم عاد الركابي الآخر، وذكر أنه خلفه عند العين والمقصبة. وبقي الناس على رسمهم يخرجون كل يوم يلتمسون رجوعه إلى سلخ شوال، فلما كان ثالث ذي القعدة خرج مظفر الصقلبي، صاحب المظلة، وغيره من خواص الحاكم، ومعهم القاضي، فبلغوا عسفان، ودخلوا في الجبل، فبصروا بالحمار الذي كان عليه راكباً، وقد ضربت يداه بسيف فأثر فيهما، وعليه سرجه ولجامه، فاتبعوا الأثر، فانتهوا به إلى البركة التي شرقي حلوان، فرأوا ثيابه، وهي سبع قطع صوف، وهي مزررة بحالها لم تحل، وفيها أثر السكاكين، فعادوا ولم يشكوا في قتله. وقيل: كان سبب قتله أن أهل مصر كانوا يكرهونه لما يظهر منه من سوء أفعاله، فكانوا يكتبون إليه الرقاع فيها سبة، وسب أسلافه، والدعاء عليه، حتى إنهم عملوا من قراطيس صورة امرأة وبيدها رقعة، فلما رآها ظن أنها امرأة تشتكي، فأمر بأخذ الرقعة منها، فقرأها، وفيها كل لعن وشتيمة قبيحة، وذكر حرمه بما يكره، فأمر بطلب المرأة، فقيل إنها من قراطيس، فأمر بإحراق مصر ونهبها، ففعلوا ذلكم، وقاتل أهلها أشد قتال، وانضاف إليهم في اليوم الثالث الأتراك والمشارقة، فقويت شوكتهم وأرسلوا إلى الحاكم يسألونه الصفح ويعتذرون، فلم يقبل، فصاروا إلى التهديد، فلما رأى قوتهم أمر بالكف عنهم، وقد أحرق بعض مصر ونهب بعضها، وتتبع المصريون من أخذ نساءهم وأبناءهم، فابتاعوا ذلك بعد أن فضحوهن فازداد غيظهم منه وحنقهم عليه. ثم إنه أوحش أخته، وأرسل إليها مراسلات قبيحة يقول فيها: بلغني أن الرجال يدخلون إليك؛ وتهددها بالقتل، فأرسلت إلى قائد كبير من قواد الحاكم يقال له ابن دواس، وكان أيضاً يخاف الحاكم، تقول له: إنني أريد أن ألقاك؛ فحضرت عنده وقالت له: قد جئت إليك في أمر تحفظ فيه نفسك ونفسي، وأنت تعلم ما يعتقده أخي فيك، وأنه متى تمكن منك لا يبقي عليك، وأنا كذلك، وقد انضاف إلى هذا ما تظاهر به مما يكرهه المسلمون، ولا يصبرون عليه، وأخاف أن يثوروا به فيهلك هو ونحن معه، وتنقلع هذه، الدولة. فأجابها إلى ما تريد، فقالت: إنه يصعد إلى هذا الجبل غداً، وليس معه غلام إلا الركابي وصبي، وينفرد بنفسه، فتقيم رجلين تثق بهما يقتلانه، ويقتلان الصبي، وتقيم ولده بعده، وتكون أنت مدبر الدولة، وأزيد في إقطاعك مائة ألف دينار. فأقام رجلين، وأعطتهما هي ألف دينار، ومضيا إلى الجبل، وركب الحاكم على عادته، وسار منفرداً إليه، فقتلاه، وكان عمره ستاً وثلاثين سنة وتسعة أشهر، وولايته خمساً وعشرين سنة وعشرين يوماً، وكان جواداً بالمال، سفاكاً للدماء، قتل عدداً كثيراً من أماثل دولته وغيرهم، فكانت سيرته عجيبة.
منها: أنه أمر في صدر خلافته بسبب الصحابة، رضي الله عنهم، وأن تكتب على حيطان الجوامع والأسواق، وكتب إلى سائر عماله بذلك، وكان ذلك سنة خمس وتسعين وثلاثمائة. ثم أمر بعد ذلك بمدة بالكف عن السب، وتأديب من يسبهم، أو يذكرهم بسوء، ثم أمر في سنة تسع وتسعين بترك صلاة التراويح، فاجتمع الناس بالجامع العتيق، وصلى بهم إمام جميع رمضان، فأخذه وقتله، ولم يصل أحد التراويح إلى سنة ثمان وأربعمائة، فرجع عن ذلك، وأمر بإقامتها على العادة. وبنى الجامع براشدة، وأخرج إلى الجوامع والمساجد من الآلأت، والمصاحف، والستور، والحصر ما لم ير الناس مثله، وحل أهل الذمة على الإسلام، أو السمير إلى مأمنهم أو لبس الغيار، فأسلم كثير منهم، ثم كان الرجل منهم، بعد ذلك، يلقاه فيقول له: إنني أريد العود إلى ديني؛ فيأذن له. ومنع النساء من الخروج من بيوتهن، وقتل من خرج منهن، فشكت إليه من لا قيم لها يقوم بأمرها، فأمر الناس أن يحملوا كل ما يباع في الأسواق إلى الدروب ويبيعوه على النساء، وأمر من يبيع أن يكون معه شبه المغرفة بساعد طويل يمده إلى المرأة، وهي من وراء الباب، وفيه ما تشتريه، فإذا رضيت وضعت الثمن في المغرفة وأخذت ما فيها لئلا يراها، فنال الناس من ذلك شدة عظيمة. ولما فقد الحاكم ولي الأمر بعده ابنه أبو الحسن علي، ولقب الظاهر لإعزاز دين الله، وأخذت له البيعة، ورد النظر في الأمور جميعها إلى الوزير أبي القاسم علي بن أحمد الجرجرائي. ؟؟؟؟ ذكر ملك مشرف الدولة العراق في هذه السنة، في ذي الحجة، عظم أمر أبي علي مشرف الدولة بن بهاء الدولة، وخوطب بأمير الأمراء، ثم ملك العراق، وأزال عنه أخاه سلطان الدولة. وكان سببه أن الجند شغبوا على سلطان الدولة، ومنعوه من الحركة، وأراد ترتيب أخيه مشرف الدولة في الملك، فأشير على سلطان الدولة بالقبض عليه، فلم يمكنه ذلك، وأراد سلطان الدولة الانحدار إلى واسط، فقال الجند: إما أن تجعل عندنا ولدك أو أخاك مشرف الدولة. فراسل أخاه بذلك، فامتنع، ثم أجاب بعد معاودةٍ، ثم إنهما اتفقا، واجتمعا ببغداد، واستقر بينهما أنهما لا يستخدمان ابن سهلان، وفارق سلطان الدولة بغداد، وقصد الأهواز واستخلف أخاه مشرف الدولة على العراق. فلما انحدر سلطان الدولة ووصل إلى تستر استوزر ابن سهلان، فاستوحش مشرف الدولة، فأنفذ سلطان الدولة وزيره ابن سهلان ليخرج أخاه مشرف الدولة من العراق، فجمع مشرف الدولة عسكراً كثيراً منهم أتراك واسط، وأبو الأغر دبيس بن علي بن مزيد، ولقي ابن سهلان عند واسط، فانهزم ابن سهلان وتحصن بواسط، وحاصره مشرف الدولة وضيق عليه، فغلت الأسعار حتى بلغ الكر من الطعام ألف دينار قاسانية، وأكل الناس الدواب حتى الكلاب، فلما رأى ابن سهلان إدبار أموره سلم البلد، واستحلف مشرف الدولة وخرج إليه، وخوطب حينئذ مشرف الدولة بشاهنشاه، وكان ذلك في آخر ذي الحجة، ومضت الديلم الذين كانوا بواسط في خدمته، وساروا معه، فحلف لهم وأقطعهم، واتفق هو وأخوه جلال الدولة أبو طاهر. فلما سمع سلطان الدولة ذلك سار عن الأهواز إلى أرجان، وقطعت خطبته من العراق، وخطب لأخيه ببغداد آخر المحرم سنة اثنتي عشرة وأربعمائة، وقبض على ابن سهلان وكحل. ولما سمع سلطان الدولة بذلك ضعفت نفسه، وسار إلى الأهواز في أربعمائة فارس، فقلت عليهم الميرة، فنهبوا السواد في طريقهم، فاجتمع الأتراك الذين بالأهواز، وقاتلوا أصحاب سلطان الدولة، ونادوا بشعار مشرف الدولة، وساروا منها، فقطعوا الطريق على قافلة وأخذوها وانصرفوا. ذكر ولاية الظاهر لإعزاز دين الله
لما قتل الحاكم، على ما ذكرناه، بقي الجند خمسة أيام، ثم اجتمعوا إلى أخته، واسمها ست الملك، وقالوا: قد تأخر مولانا، ولم تجر عادته بذلك. فقالت: قد جاءتني رقعته بأنه يأتي بعد غدٍ. فتفرقوا، وبعثت بالأموال إلى القواد على يد ابن دواس، فلما كان اليوم السابع ألبست أبا الحسن علياً ابن أخيها الحاكم أفخر الملابس، وكان الجند قد حضروا للميعاد، فلم يرعهم إلا وقد أخرج أبو الحسن، وهو صبيٌ، والوزير بين يديه، فصاح: يا عبيد الدولة، مولاتنا تقول لكم: هذا مولاكم أمير المؤمنين فسلموا عليه ! فقبل ابن دواس الأرض، والقواد الذين أرسلت إليهم الأموال، ودعوا له، فتبعهم الباقون ومشوا معه، ولم يزل راكباً إلى الظهر، فنزل، ودعا الناس من الغد فبايعوا له، ولقب الظاهر لإعزاز دين الله، وكتبت الكتب إلى البلاد بمصر والشام بأخذ البيعة له. وجمعت أخت الحاكم الناس، ووعدتهم، وأحسنت إليهم، ورتبت الأمور ترتيباً حسناً، وجعلت الأمر بيد ابن دواس، وقالت له: إننا نريد أن نرد جميع أحوال المملكة إليك، ونزيد في إقطاعك، ونشرفك بالخلع، فاختر يوماً يكون ذلك. فقبل الأرض ودعا، وظهر الخبر به بين الناس، ثم أحضرته، وأحضرت القواد معه، وأغلقت أبواب القصر، وأرسلت إليه خادماً وقالت له: قل للقواد إن هذا قتل سيدكم، واضربه بالسف؛ ففعل ذلك وقتله، فلم يختلف رجلان، وباشرت الأمور بنفسها، وقامت هيبتها عند الناس، واستقامت الأمور، وعاشت بعد الحاكم أربع سنين وماتت. ذكر الفتنة بين الأتراك والأكراد بهمذانفي هذه السنة زاد شغب الأتراك بهمذان على صاحبهم شمس الدولة بن فخر الدولة، وكان قد تقدم ذلك منهم غير مرة، وهو يحلم عنهم بل يعجز، فقوي طمعهم، فزادوا في التوثب والشغب، وأرادوا إخراج القواد القوهية من عنده، فلم يجبهم إلى ذلك، فعزموا على الإيقاع بهم بغير أمره، فاعتزل الأكراد مع وزيره تاج الملك أبي نصر بن بهرام إلى قلعة برجين، فسار الأتراك إليهم فحصروهم، ولم يلتفتوا إلى شمس الدولة، فكتب الوزير إلى أبي جعفر بن كاكويه، صاحب أصبهان، يستنجده، وعين له ليلة يكون قدوم العساكر إليه فيها بغتةً، ليخرج هو أيضاً تلك الليلة ليكبسوا الأتراك. ففعل أبو جعفر ذلك، وسير ألفي فارس، وضبطوا الطرق لئلا يسبقهم الخبر، وكبسوا الأتراك سحراً على غفلة، ونزل الوزير والقوهية من القلعة، فوضعوا فيهم السيف، فأكثروا القتل، وأخذوا المال، ومن سلم من الأتراك نجا فقيراً. وفعل شمس الدولة بمن عنده في همذان كذلك، وأخرجهم، فمضى ثلاثمائة منهم إلى كرمان، وخدموا أبا الفوارس بن بهاء الدولة صاحبها. ذكر القبض على أبي القاسم المغربي وابن فهدفي هذه السنة قبض معتمد الدولة قرواش بن المقلد على وزيره أبي القاسم المغربي، وعلى أبي القاسم سليمان بن فهد بالموصل، وكان ابن فهد يكتب في حداثته بين يدي الصابي، وخدم المقلد بن المسيب، وأصعد إلى الموصل، واقتنى بها ضياعاً، ونظر فيها لقرواش، فظلم أهلها وصادرهم، ثم سخط قرواش عليهما فحبسهما، وطولب سليمان بالمال، فادعى الفقر فقتل. وأما المغربي فإنه خدع قرواشاً، ووعده بمال له في الكوفة وبغداد، فأمر بحمله وترك. وفي قرواش وابن فهد يقول الشاعر، وهو ابن الزمكدم: وليلٍ كوجه البرقعيديّ ظلمةً، ... وبرد أغانيه، وطول قرونه سريت، ونومي فيه نومٌ مشرّدٌ، ... كعقل سليمان بن فهدٍ ودينه على أولقٍ فيه التفاتٌ كأنّه ... أبو جابرٍ في خطبه وجنونه إلى أن بدا ضوء الصباح كأنّه ... سنا وجه قرواشٍ وضوء جبينه وهذه الأبيات قد أجمع أهل البيان على أنها غاية في الجودة لم يقل خير منها في معناها. ذكر الحرب بين قرواش وغريب بن مقن في هذه السنة، في ربيع الأول اجتمع غريب بن مقن، ونور الدولة دبيس ابن علي بن مزيد الأسدي، وأتاهم عسكر من بغداد فقاتلوا قرواشاً، ومعه رافع بن الحسين، عند كرخ سر من رأى، فانهزم قرواش ومن معه، وأسر في المعركة، ونهبت خزائنه وأثقاله، واستجار رافع بغريب، وفتحوا تكريت عنوةً، وعاد عسكر بغداد إليها بعد عشرة أيام.
ثم إن قرواشاً خلص، وقصد سلطان بن الحسين بن ثمال، أمير خفاجة، فسار إليهم جماعة من الأتراك، فعاد قرواش وانهزم ثانياً هو وسلطان، وكانت الوقعة بينهم غربي الفرات. ولما انهزم قرواش مد نواب السلطان أيديهم إلى أعماله، فأرسل يسأل الصفح عنه، ويبذل الطاعة. ذكر عدة حوادثفيها أغارت زناتة بإفريقية على دواب المعز بن باديس، صاحب البلاد، ليأخذوها، فخرج إليهم عامل مدينة قابس فقاتلهم فهزمهم. وفيها، في ربيع الآخر، نشأت سحابة بإفريقية أيضاً شديدة البرق والرعد، فأمطرت حجارة كثيرة ما رأى الناس أكبر منها، فهلك كل من أصابه شيء منها. وفيها توفي أبو بكر محمد بن عمر العنبري الشاعر، وديوانه مشهور، ومن قوله: ذنبي إلى الدهر أني لم أمدّ يدي ... في الراغبين، ولم أطلب ولم أسل وأنّني كلّما نابت نوائبه ... ألفيتني بالرّزايا غير محتفل ثم دخلت سنة اثنتي عشرة وأربعمائة ذكر الخطبة لمشرف الدولة ببغداد وقتل وزيره أبي غالب في هذه السنة، في المحرم قطعت خطبة سلطان الدولة من العراق، وخطب لمشرف الدولة، فطلب الديلم من مشرف الدولة أن ينحدروا إلى بيوتهم بخوزستان، فأذن لهم، وأمر وزيره أبا غالب بالانحدار معهم، فقال له: إني إن فعلت خاطرت بنفسي، ولكن أبذلها في خدمتك. ثم انحدر في العساكر، فلما وصل إلى الأهواز نادى الديلم بشعار سلطان الدولة، وهجموا على أبي غالب فقتلوه، فسار الأتراك الذين كانوا معه إلى طراد ابن دبيس الأسدي بالجزيرة التي لنبي دبيس، ولم يقدروا أن يدفعوا عنه، فكانت وزارته ثمانية عشر شهراً وثلاثة أيام، وعمره ستين سنة وخمسة أشهر، فأخذ ولده أبو العباس، وصودر على ثلاثين ألف دينار. فلما بلغ سلطان الدولة قتله اطمأن، وقويت نفسه، وكان قد خافه، وأنفذ ابنه أبا كاليجار إلى الأهواز فملكها. ذكر وفاة صدقة صاحب البطيحةفي هذه السنة مرض صدقة صاحب البطيحة، فقصدها أبو الهيجاء محمد بن عمران بن شاهين، في صفر، وكان أبو الهيجاء بعد موت أبيه قد تمزق في البلاد تارةً بمصر، وتارةً عند بدر بن حسنويه، وتارةً بينهما، فلما ولي الوزير أبو غالب أنفق عليه لأدب كان فيه، فكاتبه بعض أهل البطيحة ليسلموا إليه، فسار إليهم، فسمع به صدقة قبل موته بيومين، فسير إليه جيشاً، فقاتلوه، فانهزم أبو الهيجاء وأخذ أسيراً، فأراد استبقاءه فمنعه سابور ابن المرزبان بن مروان، وقتله بيده. ثم توفي صدقة، بعد قتله، في صفر، فاجتمع أهل البطيحة على ولاية سابور بن المرزبان، فوليهم، وكتب إلى مشرف الدولة يطلب أن يقرر عليه ما كان على صدقة من الحلم، ويستعمل على البطيحة، فأجابه إلى ذلك، وزاد في القرار عليه، واستقر في الأمر. ثم إن أبا نصر شيرزاد بن الحسن بن مروان زاد في المقاطعة، فلم يدخل سابور في الزيادة، فولي أبو نصر البطيحة، وسار إليها، وفارقها سابور إلى الجزيرة بني دبيس، واستقر أبو نصر في الولاية، وأمنت به الطرق. ذكر عدة حوادثفي هذه السنة توفي علي بن هلال المعروف بابن البواب، الكاتب المشهور، وإليه انتهى الخط، ودفن بجوار أحمد بن حنبل، وكان يقص بجامع بغداد، ورثاه المرتضى، وقيل كان موته سنة ثلاث عشرة وأربعمائة. وفيها حج الناس من العراق، وكان قد انقطع سنة عشر وسنة إحدى عشرة، فلما كان هذه السنة قصد جماعة من أعيان خراسان السلطان محمود بن سبكتكين وقالوا له: أنت أعظم ملوك الإسلام، وأثرك في الجهاد مشهور، والحج قد انقطع كما ترى، والتشاغل به واجبٌ، وقد كان بدر بن حسنويه، وفي أصحابك كثير أعظم منه، يسير الحاج بتدبيره، وما له عشرون، فاجعل لهذا الأمر حظاً من اهتمامك. | |
|
| |
الشيخ عودة الشيخ عودة
عدد المساهمات : 1748 تاريخ التسجيل : 28/09/2008 العمر : 74
| موضوع: رد: كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير الأحد فبراير 23, 2014 6:13 am | |
| فتقدم إلى أبي محمد الناصحي قاضي قضاة بلاده بأن يسير بالحاج، وأعطاه ثلاثين ألف دينار يعطيها للعرب سوى النفقة في الصدقات، ونادى في خراسان بالتأهب للحج، فاجتمع خلق عظيم، وساروا، وحج بهم أبو لحسن الأقساسي، فلما بلغوا فيد حصرهم العرب، فبذل لهم الناصحي خمسة آلاف دينار، فلم يقنعوا، وصمموا العزم على أخذ الحاج، وكان مقدمهم رجل يقال له حمار بن عدي، بضم العين، من بني نبهان، فركب فرسه، وعليه درعه وسلاحه، وجال جولة يرهب بها، وكان من سمرقند شاب يوصف بجودة الرمي، فرماه بسهم فقتله، وتفرق أصحابه، وسلم الحاج فحجوا، وعادوا سالمين. وفيها قلد أبو جعفر السمناني الحسبة، والمواريث، ببغداد، والموتى. وتوفي هذه السنة أبو سعد أحمد بن محمد بن أحمد بن عبدالله الماليني الصوفي بمصر، في شوال، وهو من المكثرين في الحديث؛ ومحمد بن أحمد بن محمد بن رزق البزاز، المعروف بابن زرقويه، شيخ الخطيب أبي بكر، ومولده سنة خمس وعشرين وثلاثمائة، وكان فقيهاً شافعياً؛ وأبو عبد الرحمن محمد بن الحسين السلمي الصوفي، النيسابوري، صاحب طبقات الصوفية؛ وأبو علي الحسن بن علي الدقاق النيسابوري الصوفي، شيخ أبي القاسم القشيري؛ وأبو الفتح بن أبي الفوارس. المجلد السادس بسم الله الرحمن الرحيم ثم دخلت سنة ثلاث عشرة وأربعمائة ذكر الصلح بين سلطان الدولة ومشرف الدولة في هذه السنة اصطلح سلطان الدولة وأخوه مشرف الدولة وحلف كل واحد منهما لصاحبه، وكان الصلح بسعي من أبي محمد بن مكرم، ومؤيد الملك الرخجي، وزير مشرف الدولة، على أن يكون العراق جميعه لمشرف الدولة، وفارس وكرمان لسلطان الدولة. ذكر مقتل المعز وزيره وصاحب جيشهفي هذه السنة قتل المعز بن باديس، صاحب إفريقية، وزيره وصاحب جيشه أبا عبد الله محمد بن الحسن. وسبب ذلك أنه أقام سبع سنين لم يحمل إلى المعز من الأموال شيئاً بل يجبيها ويرفعها عنده، وطمع طمعاً عظيماً، لا يصبر على مثله، بكثرة أتباعه، ولأن أخاه عبد الله بطرابلس الغرب مجاور لزناتة، وهم أعداء دولته، فصار المعز لا يكاتب ملكاً، ولا يراسله، إلا ويكتب أبو عبد الله معه عن نفسه، فعظم ذلك على المعز وقتله. يحكى عن أبي عبد الله أنه قال: سهرت ليلة أفكر في شيء أحدثه في الناس وأخرجه عليهم من الخدم التي التزمتها، فنمت فرأيت عبد الله بن محمد الكاتب، وكان وزيراً لباديس، والد هذا المعز، وكان عظيم القدر والمحل، وهو يقول لي: اتق الله، أبا عبد الله، في الناس كافة، وفي نفسك خاصة، فقد أسهرت عينيك، وأبرمت حافظيك، وقد بدا لي منك ما خفي عليك، وعن قليل ترد على ما وردنا، وتقدم على ما قدمنا. فاكتب عني ما أقول، فإنني لا أقول إلا حقاً. فأملى علي هذه الأبيات: وليت، وقد رأيت مصير قوم ... هم كانوا السماء وكنت أرضا سموا درج العلى حتى اطمأنوا ... وهد بهم، فعاد الرفع خفضا وأعظم أسوة لك بي لأني ... ملكت ولم أعش طولاً وعرضا فلا تغتر بالدنيا وأقصر ... فإن أوان أمرك قد تقضى قال: فانتبهت مرعوباً، ورسخت الأبيات في حفظي، فلم يبق بعد هذا المنام غير شهرين حتى قتل. ولما وصل خبر قتله إلى أخيه عبد الله بطرابلس بعث إلى زناتة فعاهدهم، وأدخلهم مدينة طرابلس، فقتلوا من كان فيها من صنهاجة وسائر الجيش، وأخذوا المدينة. فلما سمع المعز ذلك أخذ أولاد عبد الله ونفراً من أهلهم فحبسهم، ثم قتلهم بعد أيام، لأن نساء المقتولين بطرابلس استغثن إلى المعز في قتلهم فقتلهم. ذكر عدة حوادثوفيها كان بإفريقية غلاء شديد، ومجاعة عظيمة لم يكن مثلها في تعذر الأقوات، إلا أنه لم يمت فيها أحد بسبب الجوع، ولم يجد الناس كبير مشقة. وفيها، في شهر رمضان، استوزر مشرف الدولة أبا الحسين بن الحسن الرخجي، ولقب مؤيد الملك، وامتدحه مهيار وغيره من الشعراء وبني مارستانا بواسط، وأكثر فيه من الأدوية والأشربة، ورتب له الخزان والأطباء، ووقف عليه الوقوف الكثيرة، وكان يعرض عليه الوزارة فيأباها، فلما قتل أبو غالب ألزمه بها مشرف الدولة فلم يقدر على الامتناع.
وفيها توفي أبو الحسن علي بن عيسى السكري شاعر السنة، ومولده ببغداد في صفر سنة سبع وخمسين وثلاثمائة. وكان قد قرأ الكلام على القاضي أبي بكر بن الباقلاني، وإنما سمي شاعر السنة لأنه أكثر مدح الصحابة، ومناقضات شعراء الشيعة. وفيها توفي أبو علي عمر بن محمد بن عمر العلوي، وأخذ السلطان ماله جميعه. وفيها توفي أبو عبد الله بن المعلم، فقيه الإمامية، ورثاه المرتضى. ثم دخلت سنة أربع عشرة وأربعمائة ذكر استيلاء علاء الدولة على همذان في هذه السنة استولى أبو جعفر بن كاكويه على همذان وملكها وكذلك غيرها مما يقاربها. وسبب ذلك أن فرهاذ بن مرداويج الديلمي، مقطع بروجرد، قصده سماء الدولة أبو الحسن بن شمس الدولة بن بويه، صاحب همذان، وحصره فالتجأ فرهاذ إلى علاء الدولة، فحماه ومنع عنه، وسارا جميعاً إلى همذان فحصراها وقطعا الميرة عنها، فخرج إليهما من بها من العسكر، فاقتتلوا فرحل علاء الدولة إلى جرباذقان، فهلك من عسكره ثلاثمائة رجل من شدة البرد. فسار إليه تاج الملك القوهي، مقدم عسكر همذان، فحصره بها، فصانع علاء الدولة الأكراد الذين مع تاج الملك، فرحلوا عنه، فخلص من الحصار، وشرع بالتجهز ليعاود حصار همذان، فأكثر من الجموع، وسار إليها، فلقيه سماء الدولة في عساكره ومعه تاج الملك، فاقتتلوا، فانهزم عسكر همذان، ومضى تاج الملك إلى قلعة فاحتمى بها، وتقدم علاء الدولة إلى سماء الدولة، فترجل له وخدمه، وأخذه وأنزله في خيمته، وحمل إليه المال وما يحتاج إليه، وسار وهو معه إلى القلعة التي بها تاج الملك، فحصره وقطع الماء عن القلعة، فطلب تاج الملك الأمان فأمنه، فنزل إليه، ودخل معه همذان. ولما ملك علاء الدولة همذان سار إلى الدينور فملكها، ثم إلى سابور خواست فملكها أيضاً، وجمع تلك الأعمال، وقبض على أمراء الديلم الذين بهمذان، وسجنهم بقلعة عند أصبهان، وأخذ أموالهم وأقطاعهم، وأبعد كل من فيه شر من الديلم، وترك عنده من يعلم أنه لا شر فيه، وأكثر القتل، فقامت هيبته، وخافه الناس، وضبط المملكة. وقصد حسام الدولة أبا الشوك، فأرسل إليه مشرف الدولة يشفع فيه، فعاد عنه. ذكر وزارة أبي القاسم المغربي لمشرف الدولةفي هذه السنة قبض مشرف الدولة على وزيره مؤيد الملك الرخجي في شهر رمضان، وكانت وزارته سنتين وثلاثة أيام. وكان سبب عزله أن الأثير الخادم تغير عليه لأنه صادر ابن شعيا اليهودي على مائة ألف دينار، وكان متعلقاً على الأثير، فسعى وعزله، واستوزر بعده أبا القاسم الحسين بن علي بن الحسين المغربي ومولده بمصر سنة سبعين وثلاثمائة، وكان أبوه من أصحاب سيف الدولة بن حمدان، فسار إلى مصر، فتولى بها، فقتله الحاكم، فهرب ولده أبو القاسم إلى الشام، وقصد حسان بن المفرج بن الجراح الطائي، وحمله على مخالفة الحاكم والخروج عن طاعته، ففعل ذلك، وحسن له أن يبايع أبا الفتوح الحسن بن جعفر العلوي، أمير مكة، فأجابه إليه، واستقدمه إلى الرملة، وخوطب بأمير المؤمنين. فأنفذ الحاكم إلى حسان مالاً جليلاً، وأفسد معه حال أبي الفتوح، فأعاده حسان إلى وادي القرى، وسار أبو الفتوح منه إلى مكة. ثم قصد أبو القاسم العراق، واتصل بفخر الملك، فاتهمه القادر بالله لأنه من مصر، فأبعده فخر الملك، فقصد قرواشاً بالموصل، فكتب له، ثم عاد عنه، وتنقلت به الحال إلى أن وزر بعد مؤيد الملك الرخجي. وكان خبيثاً، محتالاً، حسوداً، إذا دخل عليه ذو فضيلة سأله عن غيرها ليظهر للناس جهله. وفيها، في المحرم، قدم مشرف الدولة إلى بغداد، ولقيه القادر بالله في الطيار، وعليه السواد، ولم يلق قبله أحداً من ملوك بني بويه. وفيها قتل أبو محمد بن سهلان، قتله نبكير بن عياض عند إيذج. ذكر الفتنة بمكة
في هذه السنة كان يوم النفر الأول يوم الجمعة، فقام رجل من مصر، بإحدى يديه سيف مسلول، وفي الأخرى دبوس، بعدما فرغ الإمام من الصلاة، فقصد ذلك الرجل الحجر الأسود كأنه يستلمه، فضرب الحجر ثلاث ضربات بالدبوس، وقال: إلى متى يعبد الحجر الأسود ومحمد وعلي؟ فليمنعني مانع من هذا، فإني أريد أن أهدم البيت. فخاف أكثر الحاضرين وتراجعوا عنه، وكاد يفلت، فثار به رجل فضربه بخنجر فقتله، وقطعه الناس وأحرقوه، وقتل ممن اتهم بمصاحبته جماعة وأحرقوا، وثارت الفتنة، وكان الظاهر من القتلى أكثر من عشرين رجلاً غير من اختفى منهم. وألح الناس، ذلك اليوم، على المغاربة والمصريين بالنهب والسلب، وعلى غيرهم في طريق منى إلى البلد. فلما كان الغد ماج الناس واضطربوا، وأخذوا أربعة من أصحاب ذلك الرجل، فقالوا: نحن مائة رجل، فضربت أعناق هؤلاء الأربعة، وتقشر بعض وجه الحجر من الضربات، فأخذ ذلك الفتات وعجن بلك وأعيد إلى موضعه. ذكر فتح قلعة من الهندفي هذه السنة أوغل يمين الدولة محمود بن سبكتكين في بلاد الهند، فغنم وقتل، حتى وصل إلى قلعة على رأس جبل منيع، ليس له مصعد إلا من موضع واحد، وهي كبيرة تسع خلقاً، وبها خمسمائة فيل، وفي رأس الجبل من الغلات، والمياه، وجميع ما يحتاج الناس إليه، فحصرهم يمين الدولة، وأدام الحصار، وضيق عليهم، واستمر القتال، فقتل منهم كثير. فلما رأوا ما حل بهم أذعنوا له، وطلبوا الأمان، فأمنهم وأقر ملكهم فيها على خراج يأخذه منه، وأهدى له هدايا كثيرة، منها طائر على هيئة القمري من خاصيته إذا أحضر الطعام وفيه سم دمعت عينا هذا الطائر وجرى منهما ماء وتحجر، فإذا حك وجعل على الجراحات الواسعة ألحمها. ذكر عدة حوادثفيها توفي القاضي عبد الجبار بن أحمد المعتزلي الرازي، صاحب التصانيف المشهورة في الكلام وغيره، وكان موته بمدينة الري، وقد جاوز تسعين سنة، وأبو عبد الله الكشفلي، الفقيه الشافعي، وأبو جعفر محمد بن أحمد الفقيه الحنفي النسفي، وكان زاهداً مصنفاً، وهلال بن محمد بن جعفر أبو الفتح الحفار، ومولده سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة، وكان عالماً بالحديث، عالي الإسناد. ثم دخلت سنة خمس عشرة وأربعمائة ذكر الخلف بين مشرف الدولة والأتراك وعزل الوزير المغربي في هذه السنة تأكدت الوحشة بين الأثير عنبر الخادم، ومعه الوزير ابن المغربي، وبين الأتراك، فاستأذن الأثير والوزير ابن المغربي الملك مشرف الدولة في الانتزاح إلى بلد يأمنان فيه على أنفسهما، فقال: أنا أسير معكما. فساروا جميعاً ومعهم جماعة من مقدمي الديلم إلى السندية، وبها قرواش، فأنزلهم، ثم ساروا كلهم إلى أوانا. فلما علم الأتراك ذلك عظم عليهم، وانزعجوا منه، وأرسلوا المرتضى وأبا الحسن الزينبي وجماعة من قواد الأتراك يعتذرون، ويقولون: نحن العبيد، فكتب إليهم أبو القاسم المغربي: إنني تأملت ما لكم من الجامكيات، فإذا هي ستمائة ألف دينار، وعملت دخل بغداد، فإذا هو أربعمائة ألف دينار، فإن أسقطتم مائة ألف دينار تحملت بالباقي، فقالوا: نحن نسقطها، فاستشعر منهم أبو القاسم المغربي، فهرب إلى قرواش، فكانت وزارته عشرة أشهر وخمسة أيام، فلما أبعد خرج الأتراك فسألوا الملك والأثير الانحدار معهم، فأجابهم إلى ذلك وانحدروا جميعهم. ذكر الفتنة بالكوفة ووزارة أبي القاسم المغربي لابن مروانفي هذه السنة وقعت فتنة بالكوفة بين العلويين والعباسيين. وسببها أن المختار أبا علي بن عبيد الله العلوي وقعت بينه وبين الزكي أبي علي النهرسابسي، وبين أبي الحسن علي بن أبي طالب بن عمر مباينة، فاعتضد المختار بالعباسيين، فساروا إلى بغداد، وشكوا ما يفعل بهم النهرسابسي، فتقدم الخليفة القادر بالله بالإصلاح بينهم مراعاة لأبي القاسم الوزير المغربي لأن النهرسابسي كان صديقه، وابن أبي طالب كان صهره، فعادوا، واستعان كل فريق بخفاجة، فأعان كل فريق من الكوفيين طائفة من خفاجة، فجرى بينهم قتال، فظهر العلويون، وقتل من العباسيين ستة نفر، وأحرقت دورهم ونهبت، فعادوا إلى بغداد، ومنعوا من الخطبة يوم الجمعة، وثاروا، وقتلوا ابن أبي العباس العلوي وقالوا: إن أخاه كان في جملة الفتكة بالكوفة.
فبرز أمر الخليفة إلى المرتضى يأمره بصرف ابن أبي طالب عن نقابة الكوفة، وردها إلى المختار، فأنكر الوزير المغربي ما يجري على صهره ابن أبي طالب من العزل، وكان عند قرواش بسر من رأى، فاعترض أرحاء كانت للخليفة بدرزيجان، فأرسل الخليفة القاضي أبا جعفر السمناني في رسالة إلى قرواش يأمره بإبعاد المغربي عنه، ففعل، فسار المغربي إلى ابن مروان بديار بكر، وغضب الخليفة على النهرسابسي، وبقي تحت السخط إلى سنة ثماني عشرة وأربعمائة، فشفع فيه الأتراك وغيرهم، فرضي عنه، وحلفه على الطاعة، فحلف. ذكر وفاة سلطان الدولة وملك ولده أبي كاليجار وقتل ابن مكرمفي هذه السنة، في شوال، توفي الملك سلطان الدولة أبو شجاع بن بهاء الدولة أبي نصر بن عضد الدولة بشيراز، وكان عمره اثنتين وعشرين سنة وخمسة أشهر. وكان ابنه أبو كاليجار بالأهواز، فطلبه الأوحد أبو محمد بن مكرم ليملك بعد أبيه، وكان هواه معه، وكان الأتراك يريدون عمه أبة الفوارس ابن بهاء الدولة، صاحب كرمان، فكاتبوه يطلبونه إليهم أيضاً، فتأخر أبو كاليجار عنها، فسبقه عمه أبو الفوارس إليها فملكها. وكان أبو المكارم بن أبي محمد بن مكرم قد أشار على أبيه، لما رأى الاختلاف، أن يسير إلى مكان يأمن فيه على نفسه، فلم يقبل قوله، فسار وتركه وقصد البصرة، فندم أبوه حيث لم يكن معه، فقال له العادل أبو منصور ابن مافنة: المصلحة أن تقصد سيراف، وتكون مالك أمرك، وابنك أبو القاسم بعمان، فتحتاج الملوك إليك. فركب سفينة لمضي إليها، فأصابه برد، فبطل عن الحركة، وأرسل العادل بن مافنة إلى كرمان لإحضار أبي الفوارس، فسار إليه العادل وأبلغه رسالة ابن مكرم باستدعائه، فسار مجداً ومعه العادل، فوصلوا إلى فارس، وخرج ابن مكرم يلتقي أبا الفوارس ومعه الناس، فطالبه الأجناد بحق البيعة، فأحالهم على ابن مكرم، فتضجر ابن مكرم، فقال له العادل: الرأي أن تبذل مالك وأموالنا حتى تمشي الأمور، فانتهره فسكت، وتلوم ابن مكرم بإيصال المال إلى الأجناد، فشكوه إلى أبي الفوارس، فقبض عليه وعلى العادل بن مافنة، ثم قتل ابن مكرم واستبقى ابن مافنة. فلما سمع ابنه أبو القاسم بقتله صار مع الملك أبي كاليجار وأطاعه، وتجهز أبو كاليجار، وأقام بأمره أبو مزاحم صندل الخادم، وكان مربيه، وساروا بالعساكر إلى فارس، فسير عمه أبو الفوارس عسكراً مع وزيره أبي منصور الحسن بن علي الفسوي لقتاله، فوصل أبو كاليجار والوزير متهاون به لكثرة عسكره، فأتوه وهو نائم، وقد تفرق عسكره في البلد يبتاعون ما يحتاجون إليه، وكان جاهلاً بالحرب، فلما شاهدوا أعلام أبي كاليجار شرع الوزير يرتب العسكر، وقد داخلهم الرعب، فحمل عليهم أبو كاليجار وهم على اضطراب، فانهزموا، وغنم أبو كاليجار وعسكره أموالهم، ودوابهم، وكل مالهم، فلما انتهى خبر الهزيمة إلى عمه أبي الفوارس سار إلى كرمان، وملك أبو كاليجار بلاد فارس ودخل شيراز. ذكر عود أبي الفوارس إلى فارس وإخراجه عنها ولما ملك أبو كاليجار بلاد فارس ودخل شيراز جرى على الديلم الشيرازية من عسكره ما أخرجهم عن طاعته، وتمنوا معه أنهم كانوا قتلوا مع عمه. وكان جماعة من الديلم بمدينة فسا في طاعة أبي الفوارس، وهم يريدون أن يصلحوا حالهم مع أبي كاليجار ويصيروا معه، فأرسل إليهم الديلم الذين بشيراز يعرفونهم ما يلقون من الأذى، ويأمرونهم بالتمسك بطاعة أبي الفوارس، ففعلوا ذلك. ثم إن عسكر أبي كاليجار طالبوه بالمال، وشغبوا عليه، فأظهر الديلم الشيرازية ما في نفوسهم من الحقد، فعجز عن المقام معهم، فسار عن شيراز إلى النوبنذجان، ولقي شدة في طريقه، ثم انتقل عنها لشدة حرها، ووخامة هوائها، ومرض أصحابه، فأتى شعب بوان فأقام به. فلما سار عن شيراز أرسل الديلم الشيرازية إلى عمه أبي الفوارس يحثونه على المجيء إليهم، ويعرفونه بعد أبي كاليجار عنه، فسار إليهم، فسلموا إليه شيراز، وقصد إلى أبي كاليجار بشعب بوان ليحاربه ويخرجه عن البلاد، فاختار العسكران الصلح، فسفروا فيه، فاستقر لأبي الفوارس كرمان وفارس، ولأبي كاليجار خوزستان، وعاد أبو الفوارس إلى شيراز، وسار أبو كاليجار إلى أرجان.
ثم إن وزير أبي الفوارس خبط الناس، وأفسد قلوبهم، وصادرهم، وجاز به، مال لأبي كاليجار، والديلم الذين معه، فأخذه، فحينئذ حث العادل ابن مافنة صندلاً الخادم على العود إلى شيراز، وكان قد فارق بها نعمة عظيمة، وصار مع أبي كاليجار، وكان الديلم يطيعونه، فعادت الحال إلى أشد مما كانت عليه، فسار كل واحد من أبي كاليجار وعمه أبي الفوارس إلى صاحبه، فالتقوا واقتتلوا، فانهزم أبو الفوارس إلى داربجرد وملك أبو كاليجار فارس، وعاد أبو الفوارس فجمع الأكراد فأكثر، فاجتمع معه منهم عشرة آلاف مقاتل، فالتقوا بين البيضاء وإصطخر فاقتتلوا أشد من القتال الأول، فعاود أبو الفوارس الهزيمة، فسار إلى كرمان، واستقر ملك أبي كاليجار بفارس سنة سبع عشرة وأربعمائة، وكان أهل شيراز يكرهونه. ذكر خروج زناتة والظفر بهمفي هذه السنة خرج بإفريقية جمع كثير من زناتة، فقطعوا الطريق، وأفسدوا بقسطيلية ونفزاوة، وأغاروا وغنموا، واشتدت شوكتهم، وكثر جمعهم. فسير إليهم المعز بن باديس جيشاً جريدة، وأمرهم أن يجدوا السير ويسبقوا أخبارهم، ففعلوا ذلك، وكتموا خبرهم، وطووا المراحل حتى أدركوهم وهم آمنون من الطلب، فوضعوا فيهم السيف، فقتل منهم خلق كثير، وعلق خمسمائة رأس في أعناق الخيول وسيرت إلى المعز، وكان يوم دخولها يوماً مشهوداً. ذكر عودة الحاج على الشام وما كان من الظاهر إليهمفي هذه السنة عاد الحجاج من مكة إلى العراق على الشام لصعوبة الطريق المعتاد، فلما وصلوا إلى مكة بذل لهم الظاهر العلوي، صاحب مصر، أموالاً جليلة وخلعاً نفيسة، وتكلف شيئاً كثيراً، وأعطى لكل رجل في الصحبة جملة من المال ليظهر لأهل خراسان ذلك. وكان على تسيير الحجاج الشريف أبو الحسن الأقساسي، وعلى حجاج خراسان حسنك نائب يمين الدولة بن سبكتبكين، فعظم ما جرى على الخليفة القادر بالله، وعبر حسنك دجلة عند أوانا، وسار إلى خراسان، وتهدد القادر بالله ابن الأقساسي، فمرض فمات، ورثاه المرتضي وغيره وأرسل إلى يمين الدولة في المعنى، فسير يمين الدولة الخلع التي خلعت على صاحبه حسنك إلى بغداد فأحرقت. ذكر عدة حوادثفي هذه السنة تزوج السلطان مشرف الدولة بابنة علاء الدولة بن كاكويه، وكان الصداق خمسين ألف دينار، وتولى العقد المرتضى. وفيها قلد القاضي أبو جعفر السمناني قضاء الرصافة وباب الطاق. وفيها توفي أبو الحسن علي بن محمد السمسمي الأديب، وابن الدقاق النحوي، وأبو الحسين بن بشران المحدث، وعمره سبع وثمانون سنة، والقاضي أبو محمد بن أبي حامد المروروذي قاضي البصرة بها، وأبو الفرج أحمد بن عمر المعروف بابن المسلمة، الشاهد، وهو جد رئيس الرؤساء، وأحمد بن محمد بن أحمد بن القاسم أبو الحسن المحاملي، الفقيه الشافعي، تفقه على أبي حامد، وصنف المصنفات المشهورة، وعبيد الله بن عمر بن علي بن محمد بن الأشرس أبو القاسم المقريء، الفقيه الشافعي. ثم دخلت سنة ست عشرة وأربعمائة ذكر فتح سومنات في هذه السنة فتح يمين الدولة في بلاد الهند عدة حصون ومدن، وأخذ الصنم المعروف بسومنات، وهذا الصنم كان أعظم أصنام الهند، وهم يحجون إليه كل ليلة خسوف، فيجتمع عنده ما ينيف على مائة ألف إنسان، وتزعم الهنود أن الأرواح إذا فارقت الأجساد اجتمعت إليه على مذهب التناسخ، فينشئها فيمن شاء، وأن المد والجزر الذي عنده إنما هو عبادة البحر على قدر استطاعته. وكانوا يحملون إليه كل علق نفيس، ويعطون سدنته كل مال جزيل، وله من الموقوف ما يزيد على عشرة آلاف قرية، وقد اجتمع في البيت الذي هو فيه من نفيس الجوهر ما لا تحصى قيمته.. ولأهل الهند نهر كبير يسمى كنك يعظمونه غاية التعظيم، ويلقون فيه عظام من يموت من كبرائهم، ويعتقدون أنها تساق إلى جنة النعيم. وبين هذا النهر وبين سومنات نحو مائتي فرسخ، وكان يحمل من مائة كل يوم إلى سومنات ما يغسل به، ويكون عنده من البرهميين كل يوم ألف رجل لعبادته وتقديم الوفود إليه، وثلاثمائة رجل يحلقون رؤوس زواره ولحاهم، وثلاثمائة رجل وخمسمائة أمة يغنون ويرقصون على باب الصنم، ولكل واحد من هؤلاء شيء معلوم كل يوم.
| |
|
| |
الشيخ عودة الشيخ عودة
عدد المساهمات : 1748 تاريخ التسجيل : 28/09/2008 العمر : 74
| موضوع: رد: كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير الأحد فبراير 23, 2014 6:15 am | |
| وكان يمين الدولة كلما فتح من الهند فتحاً، وكسر صنماً يقول الهنود: إن هذه الأصنام قد سخط عليها سومنات، ولو أنه راض عنها لأهلك من تقصدها بسوء، فلما بلغ ذلك يمين الدولة عزم على غزوه وإهلاكه، ظناً منه أن الهنود إذا فقدوه، ورأوا كذب ادعائهم الباطل، دخلوا في الإسلام، فاستخار الله تعالى وسار عن غزنة عاشر شعبان من هذه السنة، في ثلاثين ألف فارس من عساكره سوى المتطوعة، وسلك سبيل الملتان، فوصلها منتصف شهر رمضان. وفي طريقه إلى الهند برية قفر، لا ساكن فيها، ولا ماء، ولا ميرة، فتجهز هو وعسكره على قدرها، ثم زاد بعد الحاجة عشرين ألف جمل تحمل الماء والميرة، وقصد أنهلوارة، فلما قطع المفازة رأى في طرفها حصوناً مشحونة بالرجال، وعندها آبار قد غوروها ليتعذر عليه حصرها، فيسر الله تعالى فتحها عند قربه منها بالرعب الذي قذفه في قلوبهم، وتسلمها، وقتل سكانها وأهلك أوثانها، وامتاروا منها الماء وما يحتاجون إليه. وسار إلى أنهلوارة فوصلها مستهل ذي القعدة، فرأى صاحبها المدعو بهيم قد أجفل عنها وتركها وأمعن في الهرب وقصد حصناً له يحتمي به فاستولى يمين الدولة على المدينة، وسار إلى سومنات، فلقي في طريقه عدة حصون فيها كثير من الأوثان شبه الحجاب والنقباء لسومنات، على ما سول لهم الشيطان، فقاتل من بها، وفتحها وخربها، وكسر أصنامها، وسار إلى سومنات في مفازة قفرة قليلة الماء، فلقي فيها عشرين ألف مقاتل من سكانها لم يدينوا للملك، فأرسل إليهم السرايا، فقاتلوهم، فهزموهم وغنموا مالهم، وامتاروا من عندهم، وساروا حتى بلغوا دبولوارة، وهي على مرحلتين من سومنات، وقد ثبت أهلها له ظناً منهم أن سومنات يمنعهم ويدفع عنهم، فاستولى عليها، وقتل رجالها، وغنم أموالها، وسار عنها إلى سومنات، فوصلها يوم الخميس منتصف ذي القعدة، فرأى حصناً حصيناً مبنياً على ساحل البحر بحيث تبلغه أمواجه، وأهله على الأسوار يتفرجون على المسلمين، واثقين أن معبودهم يقطع دابرهم ويهلكهم. فلما كان من الغد، وهو يوم الجمعة، زحف وقاتل من به، فرأى الهنود من المسلمين قتالاً لم يعهدوا مثله، ففارقوا السور، فنصب المسلمون عليه السلاليم، وصعدوا إليه، وأعلنوا بكلمة الإخلاص، وأظهروا شعار الإسلام، فحينئذ اشتد القتال، وعظم الخطب وتقدم جماعة الهنود إلى سومنات، فعفروا له خدودهم، وسألوه النصر، وأدركهم الليل فكف بعضهم عن بعض. فلما كان الغد بكر المسلمون إليهم وقاتلوهم، فأكثروا في الهنود القتل، وأجلوهم عن المدينة إلى بيت صنمهم سومنات، فقاتلوا على بابه أشد قتال، وكان الفريق منهم بعد الفريق يدخلون إلى سومنات فيعتنقونه ويبكون، ويتضرعون إليه، ويخرجون فيقاتلون إلى أن يقتلوا، حتى كاد الفناء يستوعبهم، فبقي منهم القليل، فدخلوا البحر إلى مركبين لهم لينجو فيهما، فأدركهم المسلمون فقتلوا بعضاً وغرق بعض. وأما البيت الذي فيه سومنات فهو مبني على ست وخمسين سارية من الساج المصفح بالرصاص، وسومنات من حجر طوله خمسة أذرع: ثلاثة مدورة ظاهرة، وذراعان في البناء، وليس بصورة مصورة، فأخذه يمين الدولة فكسره، وأحرق بعضه، وأخذ بعضه معه إلى غزنة، فجعله عتبة الجامع. وكان بيت الصنم مظلماً، وإنما الضوء الذي عنده من قناديل الجوهر الفائق، وكان عنده سلسلة ذهب فيها جرس، وزنها مائتا من، كلما مضى طائفة معلومة من الليل حركت السلسلة فيصوت الجرس فيقوم طائفة من البرهميين إلى عبادتهم، وعنده خزانة فيها عدة من الأصنام الذهبية والفضية، وعليها الستور المعلقة المرصعة بالجوهر، كل واحد منها منسوب إلى عظيم من عظمائهم، وقيمة ما في البيوت تزيد على عشرين ألف ألف دينار، فأخذ الجميع، وكانت عدة القتلى تزيد على خمسين ألف قتيل.
ثم إن يمين الدولة ورد عليه الخبر أن بهيم صاحب أنهلوارة قد قصد قلعة تسمى كندهة في البحر، بينها وبين البر من جهة سومنات أربعون فرسخاً، فسار إليها يمين الدولة من سومنات، فلما حاذى القلعة رأى رجلين من الصيادين، فسألهما عن خوض البحر هناك، فعرفاه أنه يمكن خوضه لكن إن تحرك الهواء يسيراً غرق من فيه. فاستخار الله تعالى، وخاضه هو ومن معه، فخرجوا سالمين، فرأوا بهيم وقد فارق قلعته وأخلاها فعاد عنها، وقصد المنصورة، وكان صاحبها قد ارتد عن الإسلام، فلما بلغه خبر مجيء يمين الدولة فارقها واحتمى بغياض أشبة، فقصده يمين الدولة من موضعين، فأحاط به وبمن معه، فقتل أكثرهم، وغرق منهم كثير، ولم ينج منهم إلا القليل. ثم سار إلى بهاطية، فأطاعه أهلها، ودانوا له، فرحل إلى غزنة، فوصلها عاشر صفر من سنة سبع عشرة وأربعمائة. ذكر وفاة مشرف الدولة وملك أخيه جلال الدولة في هذه السنة، في ربيع الأول، توفي الملك مشرف الدولة أبو علي بن بهاء الدولة بمرض حاد، وعمره ثلاث وعشرون سنة وثلاثة أشهر، وملكه خمس سنين وخمسة وعشرون يوماً، وكان كثير الخير، قليل الشر، عادلاً، حسن السيرة، وكانت والدته في الحياة، وتوفيت سنة خمس وعشرين. ولما توفي مشرف الدولة خطب ببغداد، بعد موته، لأخيه أبي طاهر جلال الدولة، وهو بالبصرة، وطلب إلى بغداد، فلم يصل إليها، وإنما بلغ إلى واسط وأقام بها، ثم عاد إلى البصرة، فقطعت خطبته، وخطب لابن أخيه الملك أبي كاليجار بن سلطان الدولة بن بهاء الدولة في شوال، وهو حينئذ صاحب خوزستان، والحرب بينه وبين عمه أبي الفوارس، صاحب كرمان، بفارس، فلما سمع جلال الدولة بذلك أصعد إلى بغداد، فانحدر عسكرها ليردوه عنها، فلقوه بالسيب من أعمال النهروان، فردوه فلم يرجع، فرموه بالنشاب، ونهبوا بعض خزائنه، فعاد إلى البصرة، وأرسلوا إلى الملك أبي كاليجار ليصعد إلى بغداد ليملكوه، فوعدهم الإصعاد، ولم يمكنه لأجل صاحب كرمان، ولما أصعد جلال الدولة كان وزيره أبا سعد بن ماكولا. ذكر ملك نصر الدولة بن مروان مدينة الرهاوفي هذه السنة ملك نصر الدولة بن مروان، صاحب ديار بكر، مدينة الرها. وكان سبب ملكها أن الرها كانت لرجل من بني نمير يسمى عطيراً، وفيه شر وجهل، واستخلف عليها نائباً له اسمه أحمد بن محمد، فأحسن السيرة، وعدل في الرعية، فمالوا إليه. وكان عطير يقيم بحلته، ويدخل البلد في الأوقات المتفرقة، فرأى أن نائبه يحكم في البلد، ويأمر وينهى، فحسده، فقال له يوماً: قد أكلت مالي، واستوليت على بلدي، وصرت الأمير وأنا النائب، فاعتذر إليه، فلم يقبل عذره وقتله. فأنكرت الرعية قتله، وغضبوا على عطير، وكاتبوا نصر الدولة ابن مروان ليسلموا إليه البلد، فسير إليهم نائباً كان له بآمد يسمى زنك، فتسلمها وأقام بها ومعه جماعة من الأجناد، ومضى عطير إلى صالح بن مرداس، وسأله الشفاعة له إلى نصر الدولة، فشفع فيه، فأعطاه نصف البلد، ودخل عطير إلى نصر الدولة بميافارقين، فأشار أصحاب نصر الدولة بقبضه، فلم يفعل وقال: لا أغدر به وإن كان أفسد، وأرجو أن أكف شره بالوفاء. وتسلم عطير نصف البلد ظاهراً وباطناً، وأقام فيه مع نائب نصر الدولة. ثم إن نائب نصر الدولة عمل طعاماً ودعاه، فأكل وشرب، واستدعى ولداً كان لأحمد الذي قتله عطير، وقال: أتريد أن تأخذ بثأر أبيك؟ قال: نعم! قال: هذا عطير عندي في نفر يسير، فإذا خرج فتعلق به في السوق وقل له: يا ظالم قتلت أبي، فإنه سيجرد سيفه عليك، فإذا فعل فاستنفر الناس عليه واقتله وأنا من ورائك. ففعل ما أمره، وقتل عطيراً ومعه ثلاثة نفر من العرب. فاجتمع بنو نمير وقالوا: هذا فعل زنك، ولا ينبغي لنا أن نسكت عن ثأرنا، ولئن لم نقتله ليخرجنا من بلادنا. فاجتمعت نمير، وكمنوا له بظاهر البلد كميناً، وقصد فريق منهم البلد، فأغاروا على ما يقاربه. فسمع زنك الخبر، فخرج فيمن عنده من العساكر، وطلب القوم، فلما جاوز الكمناء خرجوا عليه، فقاتلهم، فأصابه حجر مقلاع، فسقط وقتل، وكان قتله سنة ثماني عشرة وأربعمائة في أولها، وخلصت المدينة لنصر الدولة.
ثم إن صالح بن مرداس شفع في ابن عطير وابن شبل النميريين ليرد الرها إليهما، فشفعه وسلمها إليهما، وكان فيها برجان أحدهما أكبر من الآخر، فأخذ ابن عطير البرج الكبير، وأخذ ابن شبل البرج الصغير، وأقاما في البلد، إلى أن باعه ابن عطير من الروم، على ما نذكره إن شاء الله تعالى. ذكر غرق الأسطول بجزيرة صقليةفي هذه السنة خرج الروم إلى جزيرة صقلية في جمع كثير، وملكوا ما كان للمسلمين في جزيرة قلورية، وهي مجاورة لجزيرة صقلية، وشرعوا في بناء المساكن ينتظرون وصول مراكبهم وجموعهم مع ابن أخت الملك. فبلغ ذلك المعز بن باديس، فجهز أسطولاً كبيراً: أربعمائة قطعة، وحشد فيها، وجمع خلقاً كثيراً، وتطوع جمع كثير بالجهاد، رغبة في الأجر، فسار الأسطول في كانون الثاني، فلما قرب من جزيرة قوصرة، وهي قريب من بر أفريقية، خرج عليهم ريح شديدة، ونوء عظيم، فغرق أكثرهم، ولم ينج إلا اليسير. ذكر عدة حوادثفي هذه السنة ظهر أمر العيارين ببغداد، وعظم شرهم، فقتلوا النفوس، ونهبوا الأموال، وفعلوا ما أرادوا، وأحرقوا الكرخ، وغلا السعر بها حتى بيع كر الحنطة بمائتي دينار قاسانية. وفيها قبض جلال الدولة على وزيره أبي سعد بن ماكولا، واستوزر ابن عمه أبا علي بن ماكولا. وفيها أرسل القادر بالله القاضي أبا جعفر السمناني إلى قرواش يأمره بإبعاد الوزير أبي القاسم المغربي، وكان عنده، فأبعده، فقصد نصر الدولة بن ميافارقين وقد تقدم السبب فيه. وفيها توفي الوزير أبو منصور محمد بن الحسن بن صالحان، وزير مشرف الدولة أبي الفوارس، وعمره ست وسبعون سنة. وقاضي القضاة أبو الحسن أحمد بن محمد بن أبي الشوارب، ومولده في ذي القعدة سنة تسع عشرة وثلاثمائة، وكان عفيفاً، نزهاً، وقيل توفي سنة سبع عشرة. وبسيل ملك الروم، وملك بعده أخوه قسطنطين. وفيها ورد رسول محمود بن سبكتكين إلى القادر بالله ومعه خلع قد سيرها له الظاهر لإعزاز دين الله العلوي، صاحب مصر، ويقول: أنا الخادم الذي أرى الطاعة فرضاً، ويذكر إرسال هذه الخلع إليه، وأنه سيرها إلى الديوان ليرسم فيها بما يرى، فأحرقت على باب النوبي، فخرج منها ذهب كثير تصدق به على ضعفاء بني هاشم. وفيها توفي سابور بن أردشير، وزير بهاء الدولة، وكان كاتباً سديداً، وعمل دار الكتب ببغداد سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة، وجعل فيها أكثر من عشرة آلاف مجلد، وبقيت إلى أن احترقت عند مجيء طغرلبك إلى بغداد سنة خمسين وأربعمائة. وفيها توفي عثمان الخركوشي، الواعظ النيسابوري، وكان صالحاً، خيراً، وكان إذا دخل على محمود بن سبكتكين يقوم ويلتقيه، وكان محمود قد قسط على نيسابور مالاً يأخذه منهم، فقال له الخركوشي: بلغني أنك تكدي الناس، وضاق صدري، فقال: وكيف؟ قال: بلغني أنك تأخذ أموال الضعفاء، وهذه كدية فترك القسط وأطلقه. وفيها بطل الحج من العراق وخراسان. ثم دخلت سنة سبع عشرة وأربعمائة ذكر الحرب بين علاء الدولة والجوزقان في هذه السنة كانت حرب شديدة بين عساكر علاء الدولة بن كاكويه وبين الأكراد الجوزقان. وكان سببها أن علاء الدولة استعمل أبا جعفر ابن عمه على سابور خواست وتلك النواحي، فضم إليه الأكراد الجوزقان، وجعل معه على الأكراد أبا الفرج البابوني، منسوب إلى بطن منهم، فجرى بين أبي جعفر وأبي الفرج مشاجرة أدت إلى المنافرة، فأصلح بينهما علاء الدولة، وأعادهما إلى عملهما. فلم يزل الحقد يقوى، والشر يتجدد، فضرب أبو جعفر أبا الفرج بلت كان في يده فقتله، فنفر الجوزقان بأسرهم، ونهبوا وأفسدوا، فطلبهم علاء الدولة، وسير عسكراً، واستعمل عليهم أبا منصور ابن عمه أخا أبي جعفر الأكبر، وجعل معه فرهاذ بن مرداويج، وعلي بن عمران.
فلما علم الجوزقان ذلك أرسلوا إلى علي بن عمران يسألونه أن يصلح حالهم مع علاء الدولة، وقصده جماعة منهم، فشرع في الإصلاح، فطالبه أبو جعفر وفرهاذ بالجماعة الذين قصدوه ليسلمهم إليهما، وأرادا أخذهم منه قهراً، فانتقل إلى الجوزقان، واحتمى كل منهم بصاحبه، وجرى بين الطائفتين قتال غير مرة كان في آخره لعلي بن عمران والجوزقان، فانهزم فرهاذ، وأسر أبو منصور وأبو جعفر، ابنا عم علاء الدولة. فأما أبو جعفر فقتل قصاصاً بأبي الفرج، وأما أبو منصور فسجن. فلما قتل أبو جعفر علم علي بن عمران أن الأمر قد فسد مع علاء الدولة، ولا يمكن إصلاحه، فشرع في الاحتياط. ذكر الحرب بين قرواش وبني أسد وخفاجةفي هذه السنة اجتمع دبيس بن علي بن مزيد الأسدي وأبو الفتيان منيع بن حسان، أمير بني خفاجة، وجمع عشائرهما وغيرهم، وانضاف إليهما عسكر بغداد على قتال قرواش بن المقلد العقيلي. وكان سببه أن خفاجة تعرضوا إلى السواد وما بيد قرواش منه، فانحدر من الموصل لدفعهم، فاستعانوا بدبيس، فسار إليهم، واجتمعوا، فأتاهم عسكر بغداد، فالتقوا بظاهر الكوفة، وهي لقرواش، فجرى بين مقدمته ومقدمتهما مناوشة. وعلم قرواش أنه لا طاقة له بهم، فسار ليلاً جريدة في نفر يسير، وعلم أصحابه بذلك، فتبعوه منهزمين، فوصلوا إلى الأنبار، وسارت أسد وخفاجة خلفهم، فلما قاربوا الأنبار فارقها قرواش إلى حلله، فلم يمكنهم الإقدام عليه، واستولوا على الأنبار، ثم تفرقوا. ذكر الفتنة ببغداد وطمع الأتراك والعيارينفي هذه السنة كثر تسلط الأتراك ببغداد، فأكثروا مصادرات الناس، وأخذوا الأموال، حتى إنهم قسطوا على الكرخ خاصة مائة ألف دينار، وعظم الخطب، وزاد الشر، وأحرقت المنازل، والدروب، والأسواق، ودخل في الطمع العامة والعيارون، فكانوا يدخلون على الرجل فيطالبونه بذخائره، كما يفعل السلطان بمن يصادره، فعمل الناس الأبواب على الدروب، فلم تغن شيئاً، ووقعت الحرب بين الجند والعامة، فظفر الجند، ونهبوا الكرخ وغيره، فأخذ منه مال جليل، وهلك أهر الستر والخير. فلما رأى القواد وعقلاء الجند أن الملك أبا كاليجار لا يصل إليهم، وأن البلاد قد خربت، وطمع فيهم المجاورون من العرب والأكراد، راسلوا جلال الدولة في الحضور إلى بغداد، فحضر، على ما نذكره سنة ثماني عشرة وأربعمائة. ذكر إصعاد الأثير إلى الموصل والحرب الواقعة بين بني عقيلفي هذه السنة أصعد الأثير عنبر إلى الموصل من بغداد. وكان سببه أن الأثير كان حاكماً في الدولة البويهية، ماضي الحكم، نافذ الأمر، والجند من أطوع الناس له، وأسمعهم لقوله. فلما كان الآن زال ذلك، وخالفه الجند، فزالت طاعته عنهم، فلم يلتفتوا إليه، فخافهم على نفسه، فسار إلى قرواش، فندم الجند على ذلك، وسألوه أن يعود، فلم يفعل وأصعد إلى الموصل مع قرواش، فأخذ ملكه وإقطاعه بالعراق. ثم إن نجدة الدولة بن قراد ورافع بن الحسين جمعا جمعاً كثيراً من عقيل، وانضم إليهم بدران أخو قرواش، وساروا يريدون حرب قرواش، وكان قرواش لما سمع خبرهم قد اجتمع هو وغريب بن مقن، والأثير عنبر، وأتاه مدد من ابن مروان، فاجتمع في ثلاثة عشر ألف مقاتل، فالتقوا عند بلد واقتتلوا، وثبت بعضهم لبعض، وكثر القتل، ففعل ثروان بن قراد فعلاً جميلاً، وذاك أنه قصد غريباً في وسط المصاف واعتنقه وصالحه، وفعل أبو الفضل بدران بن المقلد بأخيه قرواش كذلك، فاصطلح الجميع، وأعاد قرواش إلى أخيه بدران مدينة نصيبين. ذكر إحراق خفاجة الأنبار وطاعتهم لأبي كاليجارفي هذه السنة سار منيع بن حسان أمير خفاجة إلى الجامعين، وهي لنور الدولة دبيس، فنهبها، فسار دبيس في طلبه إلى الكوفة، ففارقها وقصد الأنبار، وهي لقرواش كان استعادها بعد ما ذكرناه قبل. فلما نازلها منيع قاتله أهلها، فلم يكن لهم بخفاجة طاقة، فدخل خفاجة الأنبار ونهبوها، وأحرقوا أسواقها، فانحدر قرواش إليهم ليمنعهم، وكان مريضاً، ومعه غريب والأثير عنبر، إلى الأنبار ثم تركها ومضى إلى القصر، فاشتد طمع خفاجة، وعادوا إلى الأنبار فأحرقوها مرة ثانية.
وسار قرواش إلى الجامعين، فاجتمع هو ونور الدولة دبيس بن مزيد في عشرة آلاف مقاتل، وكانت خفاجة في ألف، فلم يقدم قرواش في ذلك الجيش العظيم على هذه الألف، وشرع أهل الأنبار في بناء سور على البلد، وأعانهم قرواش وأقام عندهم الشتاء، ثم إن منيع بن حسان سار إلى الملك أبي كاليجار، فأطاعه، فخلع عليه، وأتى منيع الخفاجي إلى الكوفة فخطب فيها لأبي كاليجار، وأزال حكم عقيل عن سقي الفرات. ذكر الصلح بإفريقية بين كتامة وزناتة وبين المعز بن باديس في هذه السنة وردت رسل زناتة وكتامة إلى المعز بن باديس، صاحب إفريقية، يطلبون منه الصلح، وأن يقبل منهم الطاعة والدخول تحت حكمه، وشرطوا أنهم يحفظون الطريق، وأعطوا على ذلك عهودهم، ومواثيقهم، فأجابهم إلى ما سألوا، وجاءت مشيخة زناتة وكتامة إليه، فقبلهم وأنزلهم ووصلهم، وبذل لهم أموالاً جليلة. ذكر وفاة حماد بن المنصور وولاية ابنه القائدفي هذه السنة توفي حماد بن بلكين، عم المعز بن باديس، صاحب إفريقية، وكان خرج من قلعته متنزهاً، فمرض ومات وحمل إلى القلعة فدفن بها، وولي بعده ابنه القائد، وعظم على المعز موته، لأن الأمر بينهما كان قد صلح، واستقامت الأمور للمعز بعده، وأذعن له أولاد عمه حماد بالطاعة. ذكر عدة حوادثفي هذه السنة كان بالعراق برد شديد جمد فيه الماء في دجلة والأنهار الكبيرة، فأما السواقي فإنها جمدت كلها، وتأخر المطر وزيادة دجلة، فلم يزرع في السواد إلا القليل. وفيها بطل الحج من خراسان والعراق. وفيها انقض كوكب عظيم استنارت له الأرض، فسمع له دوي عظيم، كان ذلك في رمضان. وفيها مات أبو سعد بن ماكولا، وزير جلال الدولة، في محبسه، وأبو خازم عمر بن أحمد بن إبراهيم العبدوي النيسابوري الحافظ، وهو من مشايخ خطيب بغداد، وأبو الحسن علي بن أحمد بن عمر الحمامي المقريء، مولده سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة. ثم دخلت سنة ثماني عشرة وأربعمائة ذكر الحرب بين علاء الدولة وأصبهبذ ومن معه وما تبع ذلك من الفتن في هذه السنة، في ربيع الأول، كانت حرب شديدة بين علاء الدولة بن كاكويه وبين الأصبهبذ ومن معه. وكان سببها ما ذكرناه من خروج علي بن عمران عن طاعة علاء الدولة. فلما فارقه اشتد خوفه من علاء الدولة، فكاتب أصبهبذ صاحب طبرستان، وكان مقيماً بالري مع ولكين بن وندرين، وحثه على قصد بلاد الجبل، وكاتب أيضاً منوجهر بن قابوس بن وشمكير، واستمده، وأوهم الجميع أن البلاد في يده لا دافع له عنها. وكان أصبهبذ معادياً لعلاء الدولة، فسار هو وولكين إلى همذان فملكاها وملكا أعمال الجبل، وأجليا عنها عمال علاء الدولة، وأتاهم عسكر منوجهر وعلي بن عمران، فازدادوا قوة، وساروا كلهم إلى أصبهان، فتحصن علاء الدولة بها، وأخرج الأموال، فحصروه، وجرى بينهم قتال استظهر فيه علاء الدولة، وقصده كثير من ذلك العسكر، وهو يبذل لمن يجيء إليه المال الجزيل ويحسن إليهم، فأقاموا أربعة أيام، وضاقت عليهم الميرة، فعادوا عنها. وتبعهم علاء الدولة، واستمال الجوزقان، فمال إليه بعضهم، وتبعهم إلى نهاوند، فالتقوا عندها، واقتتلوا قتالاً كثر فيه القتلى والأسرى، فظفر علاء الدولة، وقتل ابنين لولكين في المعركة، وأسر الأصبهبذ وابنان له ووزيره، ومضى ولكين في نفر يسير إلى جرجان. وقصد علي بن عمران قلعة كنكور فتحصن بها، فسار إليه علاء الدولة، فحصره بها، وبقي أصبهبذ محبوساً عند علاء الدولة إلى أن توفي في رجب سنة تسع عشرة وأربعمائة. ثم إن ولكين بن وندرين سار بعد خلاصه من الوقعة إلى منوجهر بن قابوس، وأطعمه في الري وملكها، وهون عليه أمر البلاد لا سيما مع اشتغال علاء الدولة بمحاصرة علي بن عمران، وانضاف إلى ذلك أن ولد ولكين كان صهر علاء الدولة على ابنته، وقد أقطعه علاء الدولة مدينة قم، فعصى عليه وصار مع أبيه، وأرسل إليه يحثه على قصد البلاد، فسار إليها ومعه عساكره، وعساكر منوجهر، حتى نزلوا على الري، وقاتلوا مجد الدولة بن بويه ومن معه، وجرى بين الفريقين وقائع استظهر فيها أهل الري. فلما رأى علاء الدولة ذلك صالح علي بن عمران.
فلما بلغ ولكين الصلح بين علاء الدولة وعلي بن عمران رحل عن الري من غير بلوغ غرض، فتوجه علاء الدولة إلى الري، وراسل منوجهر، ووبخه وتهدده، وأظهر قصد بلاده، فسمع أن علي بن عمران قد كاتب منوجهر وأطمعه، ووعده النصرة، وحثه على العود إلى الري، فعاد علاء الدولة عن قصد بلاد منوجهر، وتجهز لقصد علي بن عمران، فأرسل ابن عمران إلى منوجهر يستمده، فسير إليه ستمائة فارس وراجل مع قائد من قواده، وتحصن ابن عمران، وجمع عنده الذخائر بكنكور، وقصده علاء الدولة وحصره وضيق عليه، ففني ما عنده، فأرسل يطلب الصلح، فاشترط علاء الدولة أن يسلم قلعة كنكور والذين قتلوا أبا جعفر ابن عمه، والقائد الذي سيره إليه منوجهر، فأجابه إلى ذلك وسيرهم إليه، فقتل قتلة ابن عمه، وسجن القائد، وتسلم القلعة، وأقطع علياً عوضاً عنها مدنية الدينور، وأرسل منوجهر إلى علاء الدولة فصالحه، فأطلق صاحبه. ذكر عصيان البطيحة على أبي كاليجارفي هذه السنة عصى أهل البطيحة على الملك أبي كاليجار، ومقدمهم أبو عبد الله الحسين بن بكر الشرابي، الذي كان قديماً صاحب البطيحة، وقد تقدم خبره. وكان سبب هذا الخلاف أن الملك أبا كاليجار سير وزيره أبا محمد بن بابشاذ إلى البطيحة، فعسف الناس وأخذ أموالهم، وأمر الشرابي فوضع على كل دار بالصليق قسطاً، وكان في صحبته، ففعل ذلك، فتفرقوا في البلاد، وفارقوا أوطانهم، فعزم من بقي على أن يستدعوا من يتقدم عليهم في العصيان على أبي كاليجار، وقتل الشرابي، وكانوا ينسبون كل ما يجري عليهم إلى الشرابي. فعلم الشرابي بذلك، فحضر عندهم، واعتذر إليهم، وبذل من نفسه مساعدتهم على ما يريدونه، فرضوا به، وحلفوا له، وحلف لهم، وأمرهم بكتمان الحال. وعاد إلى الوزير فأشار عليه بإرسال أصحابه إلى جهات ذكرها ليحصلوا الأموال، فقبل منه، ثم أشار عليه بإحدار سفنه إلى مكان ذكره ليصلح ما فسد منها، ففعل. فلما تم له ذلك وثب هو وأهل البطيحة عليه، وأخرجوه من عندهم، وكان عندهم جماعة من عسكر جلال الدولة في الحبس، فأخرجوهم، واستعانوا بهم، واتفقوا معهم، وفتحوا السواقي، وعادوا إلى ما كانوا عليه أيام مهذب الدولة، وقاتلوا كل من قصدهم، وامتنعوا فتم لهم ذلك. ثم قصده ابن المعبراني فاستولى على البطيحة، وفارقها الشرابي إلى دبيس بن مزيد، فأقام عنده مكرماً. ذكر صلح أبي كاليجار مع عمهفي هذه السنة استقر الصلح بين أبي كاليجار وبين عمه أبي الفوارس، صاحب كرمان، وكان أبو كاليجار قد سار إلى كرمان لقتال عمه وأخذ كرمان منه، فاحتمى منه بالجبال، وحمي الحر على أبي كاليجار وعسكره، فكثرت الأمراض، فتراسلا في الصلح، فاصطلحا على أن تكون كرمان لأبي الفوارس، وبلاد فارس لأبي كاليجار، ويحمل إلى عمه كل سنة عشرين ألف دينار. ولما عاد أبو كاليجار إلى الأهواز جعل أمور دولته إلى العادل بن مافنة، فأجابه بعد امتناع، وكان مولد العادل بكازرون سنة ستين وثلاثمائة، وشرط العادل أن لا يعارض في الذي يفعله، فأجيب إلى ذلك. ذكر الخطبة لجلال الدولة ببغداد وإصعاده إليها في هذه السنة، في جمادى الأولى، خطب للملك جلال الدولة أبي طاهر بن بهاء الدولة ببغداد، وأصعد إليها من البصرة فدخلها ثالث شهر رمضان. وكان سبب ذلك أن الأتراك لما رأوا أن البلاد تخرب، وأن العامة والعرب والأكراد قد طمعوا، وأنهم ليس عندهم سلطان يجمع كلمتهم، قصدوا دار الخلافة، وأرسلوا يعتذرون إلى الخليفة من انفرادهم بالخطبة لجلال الدولة أولاً، ثم برده ثانياً، وبالخطبة لأبي كاليجار، ويشكرون الخليفة حيث لم يخالفهم في شيء من ذلك، وقالوا: إن أمير المؤمنين صاحب الأمر، ونحن العبيد، وقد أخطأنا ونسأل العفو، وليس عندنا الآن من يجمع كلمتنا، ونسأل أن ترسل إلى جلال الدولة ليصعد إلى بغداد، ويملك الأمر، ويجمع الكلمة، ويخطب له فيها، ويسألون أن يحلفه الرسول السائر لإحضاره لهم. فأجابهم الخليفة إلى ما سألوا، وراسله هو وقواد الجند في الإصعاد واليمين للخليفة والأتراك، فحلف لهم، وأصعد إلى بغداد، وانحدر الأتراك إليه، فلقوه في الطريق، وأرسل الخليفة إليه القاضي أبا جعفر السمناني، فأعاد تجديد العهد عليه للخليفة والأتراك، ففعل.
ولما وصل إلى بغداد نزل النجمي، فركب الخليفة في الطيار وانحدر يلتقيه، فلما رآه جلال الدولة قبل الأرض بين يديه، وركب في زبزبه، ووقف قائماً، فأمره الخليفة بالجلوس، فخدم وجلس ودخل إلى دار المملكة، بعد أن مضى إلى مشهد موسى بن جعفر فزار، وقصد الدار فدخلها، وأمر بضرب الطبل أوقات الصلوات الخمس، فراسله الخليفة في منعه، فقطعه غضباً، حتى أذن له في إعادته ففعل. وأرسل جلال الدولة مؤيد الملك أبا علي الرخجي إلى الأثير عنبر الخادم، وهو عند قرواش، وقد ذكرنا ذلك، يعرفه اعتضاده به، واعتماده عليه، ومحبته له، ويعتذر إليه عن الأتراك، فعذرهم وقال: هم أولاد وإخوة. ذكر وفاة أبي القاسم بن المغربي وأبي الخطاب أما أبو القاسم بن المغربي فتوفي هذه السنة بميافارقين، وكان عمره ستاً وأربعين سنة، ولما أحس بالموت كتب كتباً عن نفسه إلى كل من يعرفه من الأمراء والرؤساء الذين بينه وبين الكوفة، ويعرفهم أن حظية له توفيت، وأنه قد سير تابوتها إلى مشهد أمير المؤمنين علي، عليه السلام، وخاطبهم في المراعاة لمن في صحبته. وكان قصده أن لا يتعرض أحد لتابوته بمنع، وينطوي خبره. فلما توفي سار به أصحابه، كما أمرهم، وأوصلوا الكتب، فلم يعرض أحد إليه، فدفن بالمشهد، ولم يعلم به أحد إلا بعد دفنه. ولأبي القاسم شعر حسن، فمنه هذه الأبيات: وما ظبية أدماء تحنو على طلاً، ... ترى الإنس وحشاً وهي تأنس بالوحش غدت فارتعت ثم انثنت لرضاعه، ... فلم تلف شيئاً من قوائمه الحمش فطافت بذاك القاع ولهى، فصادفت ... سباع الفلا ينهشنه أيما نهش بأوجع مني يوم ظلت أنامل ... تودعني بالدر من شبك النقش وأجمالهم تحدى وقد خيل الهوى ... كأن مطاياهم على ناظري تمشي وأعجب ما في الأمر أن عشت بعدهم، ... على أنهم ما خلفوا لي من بطش وأما أبو الخطاب حمزة بن إبراهيم فإنه مات بكرخ سامرا مفلوجاً، غريباً، قد زال عنه أمره وجاهه، وكان مولده سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة، ورثاه المرتضى، وكان سبب اتصاله ببهاء الدولة معرفة النجوم، وبلغ منه منزلة لم يبلغها أمثاله، فكان الوزراء يخدمونه، وحمل إليه فخر الملك مائة ألف دينار فاستقلها، وصار أمره إلى ما صار من الضيق والفقر والغربة. ذكر عدة حوادثفي هذه السنة سقط في العراق جميعه برد كبار يكون في الواحدة رطل أو رطلان، وأصغر كالبيضة، فأهلك الغلات، ولم يصح منها إلا القليل. وفيها آخر تشرين الثاني هبت ريح باردة بالعراق جمد منها الماء والخل، وبطل دوران الدواليب على دجلة. وفيها انقطع الحج من خراسان والعراق. وفيها نقضت الدار المعزية، وكان معز الدولة بن بويه بناها وعظمها، وغرم عليها ألف ألف دينار، وأول من شرع في تخريبها بهاء الدولة، فإنه لما عمر داره بسوق الثلاثاء نقل إليها من أنقاضها، وأخذ سقفاً منها وأراد أن ينقله إلى شيراز، فلم يتم ذلك، فبذل فيه من يحك ذهبه ثمانية آلاف دينار، ونقضت الآن، وبيع أنقاضها. وفيها توفي هبة الله بن الحسن بن منصور أبا القاسم اللالكائي الرازي، سمع الحديث الكثير، وتفقه على أبي حامد الأسفراييني، وصنف كتباً، وأبو القاسم طباطبا الشريف العلوي، وله شعر جيد، فمنه أن صديقاً له كتب إليه رقعة على ظهرها هذه الأبيات: وقرأت الذي كتبت، وما زا ... ل نجيي ومؤنسي وسميري وغدا الفأل بامتزاج السطور ... حاكماً بامتزاج ما في الضمير واقتران الكلام لفظاً وخطاً ... شاهداً باقتران ود الصدور وتبركت باجتماع الكلامي ... ن رجاء اجتماعنا في سرور وتفاءلت بالظهور على الوا ... شي، فصارت إجابتي في الصدور ثم دخلت سنة تسع عشرة وأربعمائة ذكر الحرب بين بدران ونصر الدولة
في هذه السنة، في جمادى الأولى، سار بدران بن المقلد العقيلي في جمع من العرب إلى نصيبين وحصرها، وكانت لنصر الدولة بن مروان، فخرج إليه عسكر نصر الدولة الذين بها، وقاتلوه، فهزمهم، واستظهر عليهم، وقتل جماعة من أهل نصيبين والعسكر، فسير نصر الدولة عسكراً آخر نجدة لمن بنصيبين، فأرسل إليهم بدران عسكراً، فلقوهم، فقاتلوهم وهزموهم، وقتلوا أكثرهم. فأزعج ذلك ابن مروان، وأقلقه، فسير عسكراً آخر ثلاثة آلاف فارس، فدخلوا نصيبين، واجتمعوا بمن فيها، وخرجوا إلى بدران فاقتتلوا، فانهزم بدران ومن معه بعد قتال شديد، وقت الظهر، وتبعهم عسكر ابن مروان. ثم عطف عليهم بدران وأصحابه، فلم يثبتوا له، فأكثر فيهم القتل والأسر، وغنم الأموال، فعاد عسكر ابن مروان مفلولين، فدخلوا نصيبين، فاجتمعوا بها واقتتلوا مرة أخرى، وكانوا على السواء، ثم سمع بدران بأن أخاه قروشاً قد وصل إلى الموصل، فرحل خوفاً منه لأنهما كانا مختلفين. ذكر شغب الأتراك ببغداد على جلال الدولةفي هذه السنة ثار الأتراك ببغداد على جلال الدولة، وشغبوا، وطالبوا الوزير أبا علي بن ماكولا بما لهم من العلوفة والادرار، ونهبوا داره ودور كتاب الملك وحواشيه حتى المغنين والمخنثين، ونهبوا صياغات أخرجها جلال الدولة لتضرب دنانير ودراهم، وتفرق فيهم، وحصروا جلال الدولة في داره، ومنعوه الطعام والماء حتى شرب أهله ماء البئر، وأكلوا ثمرة البستان. فسألهم أن يمكنوه من الانحدار، فاستأجروا له ولأهله وأثقاله سفناً، فجعل بين الدار والسفن سرداقاً لتجتاز حرمه فيه، لئلا يراهم العامة والأجناد، فقصد بعض الأتراك السرادق، فظن جلال الدولة أنهم يريدون الحرم، فصاح بهم يقول لهم: بلغ أمركم إلى الحرم! وتقدم إليهم، وبيده طبر، فصاح صغار الغلمان والعامة: جلال الدولة يا منصور، ونزل أحدهم عن فرسه وأركبه إياه، وقبلوا الأرض بين يديه. فلما رأى قواد الأتراك ذلك هربوا إلى خيامهم بالرملة، وخافوا على نفوسهم، وكان في الخزانة سلاح كثير، فأعطاه جلال الدولة أصاغر الغلمان وجعلهم عنده، ثم أرسل إلى الخليفة ليصلح الأمر مع أولئك القواد، فأرسل إليهم الخليفة القادر بالله، فأصلح بينهم وبين جلال الدولة، وحلفوا، فقبلوا الأرض بين يديه، ورجعوا إلى منازلهم، فلم يمض غير أيام حتى عادوا إلى الشغب، فباع جلال الدولة فرشه وثيابه وخيمه وفرق ثمنه فيهم حتى سكنوا. ذكر الاختلاف بين الديلم والأتراك بالبصرةفي هذه السنة ولي النفيس أبو الفتح محمد بن أردشير البصرة، استعمله عليها جلال الدولة، فلما وصل إلى المشان منحدراً إليها وقع بينه وبين الديلم الذين بالمشان وقعة فاستظهر عليهم وقتل منهم. وكانت الفتن بالبصرة بين الأتراك والديلم، وبها الملك العزيز أبو منصور ابن جلال الدولة، فقوي الأتراك بها، فأخرجوا الديلم، فمضوا إلى الأبلة، وصاروا مع بختيار بن علي، فسار إليهم الملك العزيز بالأبلة ليعيدهم ويصلح بينهم وبين الأتراك، فكاشفوه وحملوا عليه، ونادوا بشعار أبي كاليجار، فعاد منهزماً في الماء إلى البصرة، ونهب بختيار نهر الدير والأبلة وغيرهما من السواد، وأعانه الديلم، ونهب الأتراك أيضاً، وارتكبوا المحظور، ونهبوا دار بنت الأوحد بن مكرم زوجة جلال الدولة. ذكر استيلاء أبي كاليجار على البصرةلما بلغ الملك أبا كاليجار ما كان بالبصرة سير جيشاً إلى بختيار، وأمره أن يقصد البصرة فيأخذها. فساروا إليها، وبها الملك العزيز جلال الدولة، فقاتلهم ليمنعهم، فلم يكن له بهم قوة، فانهزم منهم، وفارق البصرة، وكاد يهلك هو ومن معه عطشاً، فمن الله عليهم بمطر جود، فشربوا منه، وأصعدوا إلى واسط. وملك عسكر أبي كاليجار البصرة، ونهب الديلم أسواقها، وسلم منها البعض بمال بذلوه لمن يحميهم، وتتبعوا أموال أصحاب جلال الدولة من الأتراك وغيرهم. فلما بلغ جلال الدولة الخبر أراد الانحدار إلى واسط، فلم يوافقه الجند، وطلبوا منه مالاً يفرق فيهم، فلم يكن عنده، فمد يده في مصادرات الناس وأخذ أموالهم لا سيما أرباب الأموال، فصادر جماعة. ذكر وفاة صاحب كرمان واستيلاء أبي كاليجار عليها
في هذه السنة، في ذي القعدة، توفي قوام الدولة أبو الفوارس بن بهاء الدولة، صاحب كرمان، وكان قد تجهز لقصد بلاد فارس، وجمع عسكراً كثيراً، فأدركه أجله. فلما توفي نادى أصحابه بشعار الملك أبي كاليجار، وأرسلوا إليه يطلبونه إليهم، فسار مجداً، وملك البلاد بغير حرب ولا قتال، وأمن الناس معه، وكانوا يكرهون عمه أبا الفوارس لظلمه وسوء سيرته، وكان إذا شرب ضرب أصحابه، وضرب وزيره يوماً مائتي مقرعة، وحلفه بالطلاق أنه لا يتأوه، ولا يخبر بذلك أحداً، فقيل إنهم سموه فمات. ذكر استيلاء منصور بن الحسين على الجزيرة الدبيسيةكان منصور بن الحسين الأسدي قد ملك الجزيرة الدبيسية، وهي تجاور خوزستان، ونادى بشعار جلال الدولة، وأخرج صاحبها طراد بن دبيس الأسدي سنة ثماني عشرة وأربعمائة، فمات طراد عن قريب، فلما مات طراد سار ابنه أبو الحسين علي إلى بغداد يسأل أن يرسل جلال الدولة معه عسكراً إلى بلده ليخرج منصوراً منه ويسلمه إليه، وكان منصور قد قطع خطبة جلال الدولة وخطب للملك أبي كاليجار، فسير معه جلال الدولة طائفة من الأتراك، فلما وصلوا إلى واسط لم يقف علي بن طراد حتى تجتمع معه طائفة من عسكر واسط، وسار عجلاً. واتفق أن أبا صالح كوركير كان قد هرب من جلال الدولة، وهو يريد اللحاق بأبي كاليجار، فسمع هذا الخبر، فقال لمن معه: المصلحة أننا نعين منصوراً، ولا نمكن عسكر جلال الدولة من إخراجه، ونتخذ بهذا الفعل يداً عند أبي كاليجار. فأجابوه إلى ذلك، فسار إلى منصور واجتمع معه، والتقوا هم وعسكر جلال الدولة الذين مع علي بن طراد ببسبروذ، فاقتتلوا، فانهزم عسكر جلال الدولة، وقتل علي بن طراد وجماعة كثيرة من الأتراك، وهلك كثير من المنهزمين بالعطش، واستقر ملك منصور بها. ذكر عدة حوادثفي هذه السنة سار الدزبري وعساكر مصر إلى الشام، فأوقعوا بصالح بن مرداس وابن الجراح الطائي، فهزمهما، وقتل صالحاً وابنه الأصغر، وملك جميع الشام، وقيل سنة عشرين. وفيها توفيت أم مجد الدولة بن فخر الدولة بن بويه، وهي التي تدبر المملكة وترتب الأمور. وفيها عزل الحسن بن علي بن جعفر أبو علي بن ماكولا من وزارة جلال الدولة، وولي الوزراة بعده أبو طاهر المحسن بن طاهر، ثم عزل بعد أربعين يوماً، وولي بعده أبو سعد بن عبد الرحيم. وفيها توفي قسطنطين ملك الروم، وانتقل الملك إلى بنت له، وقام بتدبير الملك والجيوش زوجها، وهو ابن خالها. وفيها توفي الوزير أبو القاسم جعفر بن محمد بن فسانجس بأربق. وفيها عدمت الأرطاب بالعراق للبرد الذي تقدم في السنة قبلها، وكان يحمل من الأماكن البعيدة الشيء اليسير منه. وفيها انقطع الحج من العراق، فمضى بعض حجاج خراسان إلى كرمان، وركبوا في البحر إلى جدة، وحجوا. وتوفي في هذه السنة محمد بن محمد بن إبراهيم بن مخلد أبو الحسن التاجر، وهو آخر من حدث عن إسماعيل بن محمد الصفار، ومحمد بن عمرو الرزاز، وعمر بن الحسن الشيباني، وكان له مال كثير، فسافر إلى مصر خوف المصادرة، فأقام بها سنة، ثم عاد إلى بغداد، فأخذ ماله في التقسيط على الكرخ الذي ذكرناه سنة ثماني عشرة وأربعمائة، فافتقر، فلما مات لم يوجد له كفن، فأرسل له القادر بالله ما يكفن فيه. ثم دخلت سنة عشرين وأربعمائة ذكر ملك يمين الدولة الري وبلد الجبل في هذه السنة سار يمين الدولة محمود بن سبكتكين نحو الري، فانصرف منوجهر بن قابوس من بين يديه، وهو صاحب جرجان وطبرستان، وحمل إليه أربعمائة ألف دينار وأنزالاً كثيرة. وكان مجد الدولة بن فخر الدولة بن بويه، صاحب الري، قد كاتبه يشكو إليه جنده، وكان متشاغلاً بالنساء، ومطالعة الكتب ونسخها، وكانت والدته تدبر مملكته، فلما توفيت طمع جنده فيه، واختلت أحواله، فحين وصلت كتبه إلى محمود سير إليه جيشاً، وجعل مقدمهم حاجبه، وأمره أن يقبض على مجد الدولة. فلما وصل العسكر إلى الري ركب مجد الدولة يلتقيهم، فقبضوا عليه وعلى أبي دلف ولده.
فلما انتهى الخبر إلى يمين الدولة بالقبض عليه سار إلى الري، فوصلها في ربيع الآخر، ودخلها وأخذ من الأموال ألف ألف دينار، ومن الجواهر ما قيمته خمسمائة ألف دينار، ومن الثياب ستة آلاف ثوب، ومن الآلات وغيرها ما لا يحصى، وأحضر مجد الدولة، وقال له: أما قرأت شاهنامه، وهو تاريخ الفرس، وتاريخ الطبري، وهو تاريخ المسلمين؟ قال: بلى! قال: ما حالك حال من قرأها، أما لعبت بالشطرنج؟ قال: بلى! قال: فهل رأيت شاهاً يدخل على شاه؟ قال: لا. قال: فما حملك على أن سلمت نفسك إلى من هو أقوى منك؟ ثم سيره إلى خراسان مقبوضاً، ثم ملك قزوين وقلاعها، ومدينة ساوة وآبة، ويافت، وقبض على صاحبها ولكين بن وندرين، وسيره إلى خراسان. ولما ملك محمود الري كتب إلى الخليفة القادر بالله يذكر أنه وجد لمجد الدولة من النساء الحرائر ما يزيد على خمسين امرأة، ولدن له نيفاً وثلاثين ولداً، ولما سئل عن ذلك قال: هذه عادة سلفي. وصلب من أصحابه الباطنية خلقاً كثيراً، ونفى المعتزلة إلى خراسان، وأحرق كتب الفلسفة ومذاهب الإعتزال والنجوم، وأخذ من الكتب ما سوى ذلك مائة حمل. وتحصن منه منوجهر بن قابوس بن وشمكير بجبال حصينة، وعرة المسالك، فلم يشعر إلا وقد أطل عليه يمين الدولة، فهرب منه إلى غياض حصينة، وبذلك خمسمائة ألف دينار ليصلحه، فأجابه إلى ذلك، فأرسل المال إليه، فسار عنه إلى نيسابور. ثم توفي منوجهر عقيب ذلك، وولي ابنه أنوشروان، فأقره محمود على ولايته، وقرر عليه خمسمائة ألف دينار أخرى، وخطب لمحمود في أكثر بلاد الجبل إلى حدود أرمينية، وافتتح ابنه مسعود زنجان وأبهر، وخطب له علاء الدولة بأصبهان، وعاد محمود إلى خراسان واستخلف بالري ابنه مسعوداً، فقصد أصبهان، وملكها من علاء الدولة، وعاد عنها، واستخلف بها بعض أصحابه، فثار به أهلها فقتلوه، فعاد إليهم فقتل منهم مقتلة عظيمة نحو خمسة آلاف قتيل، وسار إلى الري فأقام بها. ذكر ما فعله السالار إبراهيم بن المرزبان بعد عود يمين الدولة عن الريهذا السالار هو إبراهيم بن المرزبان بن إسماعيل بن وهسوذان بن محمد ابن مسافر الديلمي، وكان له من بلاد سرجهان، وزنجان، وأبهر، وشهرزور، وغيرها، وهي ما استولى عليها بعد وفاة فخر الدولة بن بويه. فلما ملك يمين الدولة محمود بن سبكتكين الري سير المرزبان بن الحسن بن خراميل، وهو من أولاد ملوك الديلم، وكان قد التجأ إلى يمين الدولة، فسيره إلى بلاد السالار إبراهيم ليملكها، فقصدها واستمال الديلم، فمال إليه بعضهم. واتفق عود يمين الدولة إلى خراسان، فسار السالار إبراهيم إلى قزوين، وبها عسكر يمين الدولة، فقاتلهم، فأكثر القتل فيهم، وهرب الباقون، وأعانه أهل البلد، وسار السالار أيضاً إلى مكان بقرب سرجهان تطيف به الأنهار والجبال فتحصن به. فسمع مسعود بن يمين الدولة، وهو بالري، بما فعل، فسار مجداً إلى السالار فجرى بينهما وقائع كان الاستظهار فيها للسالار. ثم إن مسعوداً راسل طائفة من جند السالار، واستمالهم، وأعطاهم الأموال فمالوا إليه، ودلوه على عورة السالار، وحملوا طائفة من عسكره في طريق غامضة، حتى جعلوه من ورائهم، وكبسوا السالار أول رمضان، وقاتله مسعود من بين يديه، وأولئك من خلفه، فاضطرب السالار ومن معه، وانهزموا وطلب كل إنسان منهم مهرباً، واختفى السالار في مكان، فدلت عليه امرأة سوادية، فأخذه مسعود وحمله إلى سرجهان، وبها ولده، فطلب منه أن يسلمها، فلم يفعل، فعاد عنها وتسلم باقي قلاعه وبلاده، وأخذ أمواله، وقرر على ابنه المقيم بسرجهان مالاً، وعلى كل من جاوره من مقدمي الأكراد، وعاد إلى الري. ذكر ملك أبي كاليجار مدينة واسط ومسير جلال الدولة إلى الأهواز ونهبها وعود واسط إليه في هذه السنة صعد الملك أبو كاليجار إلى مدينة واسط فملكها، وكان ابتداء ذلك أن نور الدولة دبيس بن علي بن مزيد، صاحب الحلة، والنيل، ولم تكن الحلة بنيت ذلك الوقت، وخطب لأبي كاليجار في أعماله. وسببه أن أبا حسان المقلد بن أبي الأغر الحسن بن مزيد كان بينه وبين نور الدولة عداوة، فاجتمع هو ومنيع أمير بني خفاجة، وأرسلا إلى بغداد يبذلان مالاً يتجهز به العسكر لقتال نور الدولة، فاشتد الأمر على نور الدولة، فخطب لأبي كاليجار، وراسله يطمعه في البلاد.
ثم اتفق أنه ملك البصرة، على ما ذكرناه، فقوي طمعه، فسار من الأهواز إلى واسط، وبها الملك العزيز بن جلال الدولة، ومعه جمع من الأتراك، ففارقها العزيز وقصد النعمانية، ففجر عليه نور الدولة البثوق من بلده، فهلك كثير من أثقالهم، وغرق جماعة منهم، وخطب في البطيحة لأبي كاليجار، وورد إليه نور الدولة. وأرسل أبو كاليجار إلى قرواش، صاحب الموصل، وعنده الأثير عنبر، يطلب منه أن ينحدر إلى العراق ليبقى جلال الدولة بين الفريقين، فانحدر إلى الكحيل، فمات به الأثير عنبر، ولم ينحدر معه قرواش، وجمع جلال الدولة عساكره، واستنجد أبا الشوك وغيره، وانحدر إلى واسط، ولم يكن بين العسكرين قتال، وتتابعت الأمطار حتى هلكوا. واشتد الأمر على جلال الدولة لفقره، وقلة الأموال وغيرها عنده، فاستشار أصحابه فيما يفعل، فأشاروا أن يقصدوا الأهواز وينهبها، ويأخذ ما بها من أموال أبي كاليجار وعسكره. فسمع أبو كاليجار ذلك، فاستشار أيضاً أصحابه، فقال بعضهم: ما عدل جلال الدولة عن القتال إلا لضعف فيه، والرأي أن تسير إلى العراق فتأخذ من أموالهم ببغداد أضعاف ما يأخذون منا، فاتفقوا على ذلك، فأتاهم جاسوس من أبي الشوك يخبر بمجيء عساكر محمود بن سبكتكين إلى طخر، وأنهم يريدون العراق، ويشير بالصلح، واجتماع الكلمة على دفعهم عن البلاد. فأنفذ أبو كاليجار الكتاب إلى جلال الدولة، وقد سار إلى الأهواز، وأقام ينتظر الجواب، ظناً منه أن جلال الدولة يعود بالكتاب، فلم يلتفت جلال الدولة، ومضى إلى الأهواز فنهبها، وأخذ من دار الإمارة مائتي ألف دينار، وأخذوا ما لا يحصى، ودخل الأكراد والأعراب وغيرهم إلى البلد، فأهلكوا الناس بالنهب والسبي، وأخذت والدة أبي كاليجار وابنته وأم ولده وزوجته، فماتت أمه وحمل من عداها إلى بغداد. ولما سمع أبو كاليجار الخبر سار ليلقى جلال الدولة، فتخلف عنه دبيس ابن مزيد، خوفاً على أهله وحلله من خفاجة، والتقى أبو كاليجار وجلال الدولة آخر ربيع الأول سنة إحدى وعشرين، فاقتتلوا ثلاثة أيام، وانهزم أبو كاليجار، وقتل من أصحابه ألفا رجل، ووصل إلى الأهواز بأسوأ حال، فأتاه العادل بن مافنة بمال، فحسنت حاله. وأما جلال الدولة فإنه عاد واستولى على واسط، وجعل ابنه العزيز بها، وأصعد إلى بغداد، ومدحه المرتضى ومهيار وغيرهما، وهنأوه بالظفر. ذكر حال دبيس بن مزيد بعد الهزيمةلما عاد دبيس بن مزيد الأسدي، وفارق أبا كاليجار، وصل إلى بلده، وكان قد خالف عليه قوم من بني عمه، ونزلوا الجامعين، وأتاهم وقاتلهم، فظفر بهم، وأسر منهم جماعة منهم شبيب، وسرايا، ووهب، بنو حماد بن مزيد، وأبو عبد الله الحسن بن أبي الغنائم بن مزيد، وحملهم إلى الجوسق. ثم إن المقلد بن أبي الأغر بن مزيد وغيره اجتمعوا معهم عسكر من جلال الدولة، وقصدوا دبيساً وقاتلوه، فانهزم منهم، وأسر من بني عمه خمسة عشر رجلاً، فنزل المعتقلون بالجوسق، وهم شبيب وأصحابه، إلى حلله فحرسوها، وسار دبيس منهزماً إلى السندية، إلى نجدة الدولة أبي منصور كامل بن قراد، فاستصحبه إلى أبي سنان غريب بن مقن، حتى أصلح أمره مع جلال الدولة وعسكره، وتكفل به، وضمن عنه عشرة آلاف دينار سابورية إذا أعيد إلى ولايته، فأجيب إلى ذلك، وخلع عليه. فعرف المقلد الحال ومعه جمع من خفاجة فنهبوا مطيراباذ، والنيل، وسورا، أقبح نهب، واستاقوا مواشيها، وأحرقوا منازلها، وعبر المقلد دجلة إلى أبي الشوك، وأقام عنده إلى أن أحكم أمره. ذكر عصيان زناتة ومحاربتهم بإفريقيةفي هذه السنة تجمعت زناتة وعاودت الخلاف على المعز بإفريقية، فبلغ ذلك المعز، فجمع عساكره وسار إليهم بنفسه، فالتقوا بموضع يعرف بحمديس الصابون، ووقعت الحرب بين الطائفتين، واشتد القتال، فانهزمت زناتة وقتل منهم عدد كثير، أسر مثلهم، وعاد المعز ظافراً غانماً. ذكر ما فعله يمين الدولة وولده بعده بالغزفي هذه السنة أوقع يمين الدولة بالأتراك الغزية، وفرقهم في بلاده، لأنهم كانوا قد أفسدوا فيها، وهؤلاء كانوا أصحاب أرسلان بن سلجوقي التركي، وكانوا بمفازة بخارى، فلما عبر يمين الدولة النهر إلى بخارى هرب علي تكين صاحبها منه، على ما نذكره.
وحضر أرسلان بن سلجوق عند يمين الدولة، فقبض عليه وسجنه ببلاد الهند، وأسرى إلى خركاهاته، فقتل كثيراً من أصحابه، وسلم منهم خلق كثير، فهربوا منه ولحقوا بخراسان فأفسدوا فيها، ونهبوا هذه السنة، فأرسل إليهم جيشاً فسبوهم وأجلوهم عن خراسان، فسار منهم أهل ألفي خركاة، فلحقوا بأصبهان، فكتب يمين الدولة إلى علاء الدولة بإنفاذهم، أو إنفاذ رؤوسهم، فأمر نائبه أن يعمل طعاماً ويدعوهم إليه ويقتلهم، فأرسل إليهم وأعلمهم أنه يريد إثبات أسمائهم ليستخدمهم، وكمن الديلم في البساتين، فحضر جمع كثير منهم، فلقيهم مملوك تركي لعلاء الدولة، فأعلمهم الحال، فعادوا، فأراد نائب علاء الدولة أن يمنعهم من العود، فلم يقبلوا منه، فحمل ديلمي من قواد الديلم على إ | |
|
| |
الشيخ عودة الشيخ عودة
عدد المساهمات : 1748 تاريخ التسجيل : 28/09/2008 العمر : 74
| موضوع: رد: كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير الأحد فبراير 23, 2014 6:16 am | |
| واتفاقه مع الغز وعودهم إلى الخلاف عليه لما فارق الغز الري إلى أذربيجان علم علاء الدولة ذلك، فسار إليها، ودخلها، وهو يظهر طاعة السلطان مسعود بن سبكتكين، فأرسل إلى أبي سهل الحمدوني يطلب منه أن يقرر الذي عليه بمال يؤديه، فامتنع من إجابته مخافة علاء الدولة، فأرسل إلى الغز يستدعيهم ليعطيهم الأقطاع، ويتقوى بهم على الحمدوني، فعاد منهم نحو ألف وخمسمائة، مقدمهم قزل، وسار الباقون إلى أذربيجان. فلما وصل الغز إلى علاء الدولة أحسن إليهم، وتمسك بهم، وأقاموا عنده، ثم ظهر على بعض القواد الخراسانية الذين عنده أنه دعا الغز إلى موافقته على الخروج عليه والعصيان، فأرسل إليه علاء الدولة وأحضره وقبض عليه، وسجنه في قلعة طبرك، فاستوحش الغز لذلك ونفروا، فاجتهد علاء الدولة في تسكينهم، فلم يفعلوا، وعاودوا الفساد والنهب وقطع الطريق، وعاد علاء الدولة فراسل أبا سهل الحمدوني، وهو بطبرستان، وقرر معه أمر الري ليكون في طاعة مسعود، فأجابه إلى ذلك، وسار إلى نيسابور وبقي علاء الدولة بالري. ذكر ما كان من الغز الذين بأذربيجانقد ذكرنا أن طائفة من الغز وصلوا إلى أذربيجان، فأكرمهم وهسوذان، وصاهرهم، رجاء نصرهم وكف شرهم. وكان أسماء مقدميهم: بوقا، وكوكتاش، ومنصور، ودانا، وكان ما أمله بعيداً، فإنهم لم يتركوا الشر والفساد، والقتل والنهب، وساروا إلى مراغة، فدخلوها سنة تسع وعشرين وأحرقوا جامعها، وقتلوا من عوامها مقتلة كثيرة، ومن الأكراد الهذبانية كذلك، وعظم الأمر، واشتد، البلاء. فلما رأى الأكراد ما حل بهم وبأهل البلاد شرعوا في الصلح والإتفاق على دفع شرهم، فاصطلح أبو الهيجاء بن ربيب الدولة ووهسوذان صاحب أذربيجان واتفقت كلمتهما، واجتمع معهما أهل تلك البلاد، فانتصفوا من الغز. فلما رأوا اجتماع أهل البلاد على حربهم انصرفوا عن أذربيجان، وتعذر عليهم المقام بها، ثم إنهم افترقوا، فسار طائفة إلى الذين على الري، ومقدمهم بوقا، وسار طائفة منهم، مقدمهم منصور وكوكتاش، إلى همذان فحصروها، وبها أبو كاليجار بن علاء الدولة بن كاكويه، فاتفق هو وأهل البلاد على قتالهم ودفعهم عن أنفسهم وبلدهم، فقتل بين الفريقين جماعة كثيرة، وطال مقامهم على همذان، فلما رأى أبو كاليجار بن علاء الدولة ذلك، وضعفه عن مقاومتهم، راسل كوكتاش وصالحه وصاهره. وأما الذين قصدوا الري فإنهم حصروها، وبها علاء الدولة بن كاكويه، واجتمع معهم فناخسرو بن مجد الدولة، وكامرو الديلمي، صاحب ساوة، فكثر جمعهم، واشتدت شوكتهم. فلما رأى علاء الدولة أنهم كلما جاء أمرهم ازدادوا قوة، وضعف هو، خاف على نفسه، وفارق البلد في رجب ليلاً، ومضى هارباً إلى أصبهان، وأجفل أهل البلد وتمزقوا، وعدلوا عن القتال إلى الاحتيال للهرب، وغاداهم الغز من الغد للقتال، فلم يثبتوا لهم، ودخلوا البلد، ونهبوا نهباً فاحشاً، وسبوا النساء، وبقوا كذلك خمسة أيام، حتى لجأ الحرم إلى الجامع، وتفرق الناس في كل مذهب ومهرب، وكان السعيد من نجل بنفسه. وكانت هذه الوقعة بعد التي تقدمتها مستأصلة، حتى قيل إن بعض الجمع لم يكن بالجامع إلا خمسون نفساً.
ولما فارق علاء الدولة الري تبعه جمع من الغز فلم يدركوه، فعدلوا إلى كرج فنهبوها، وفعلوا فيها الأفاعيل القبيحة. ومضى طائفة منهم، ومقدمهم ناصغلي، إلى قزوين، فقاتلهم أهلها، ثم صالحوهم على سبعة آلاف دينار، وصاروا في طاعته. وكان بأرمية طائفة منهم، فساروا إلى بلد الأرمن، فأوقعوا بهم، وأثخنوا فيهم، وأكثروا القتل، وغنموا وسبوا، وعادوا إلى أرمية وأعمال أبي الهيجاء الهذباني، فقاتلهم أكرادها لما أنكروه من سوء مجاورتهم، فقتل خلق كثير، ونهب الغز سواد البلاد هناك، وقتلوا من الأكراد كثيراً. ذكر ملك الغز همذانقد ذكرنا حصار الغز همذان وصلحهم مع صاحبها أبي كاليجار بن علاء الدولة بن كاكويه، فلما كان الآن، وملك الغز الري، عاودوا حصار همذان، وساروا إليها من الري، ما عدا قزل وجماعته، واجتمعوا مع من بها من الغز. فلما سمع أبو كاليجار بهم علم أنه لا قدوة له عليهم، فسار عنها ومعه وجوه التجار وأعيان البلد، وتحصن بكنكور. ودخل الغز همذان سنة ثلاثين وأربعمائة، واجتمع عليها من مقدميهم: كوكتاش، وبوقا، وقزل، ومعهم فناخسرو بن مجد الدولة بن بويه في عدة كثيرة من الديلم، فلما دخلوها نهبوها نهباً منكراً لم يفعلوه بغيرها من البلاد، غيظاً منهم، وحنقاً عليهم، حيث قاتلوهم أولاً، وأخذوا الحرم، وضربت سراياهم إلى أسداباذ وقرى الدينور، واستباحوا تلك النواحي وكان الديلم أشدهم. فخرج إليهم أبو الفتح بن أبي الشوك، صاحب الدينور، فواقعهم، واستظهر عليهم، وأسر منهم جماعة، فراسله أمراؤهم في إطلاقهم، فامتنع إلا على صلح وعهود، فأجابوه وصالحوه فأطلقهم. ثم إن الغز بهمذان راسلوا أبا كاليجار بن علاء الدولة وصالحوه، وطلبوا إليه أن ينزل إليهم ليدبر أمرهم، ويصدرون عن رأيه، وأرسلوا إليه زوجته التي تزوجها منهم، فنزل إليهم، فلما صار معهم وثبوا عليه فانهزم، ونهبوا ماله وما كان معه من دواب وغيرها. فسمع أبوه فخرج من أصبهان إلى أعماله بالجبل ليشاهدها، فوقع بطائفة كثيرة من الغز، فظفر بهم، وقتل منهم فأكثر، وأسر مثلهم، ودخل أصبهان منصوراً. ذكر قتل الغز بمدينة تبريز وفراقهم أذربيجان إلى الهكارية في سنة اثنتين وثلاثين قتل وهسوذان بن مهلان جمعاً كثيراً من الغز بمدينة تبريز. وكان سبب ذلك أنه دعا جمعاً كثيراً منهم إلى طعام صنعه لهم، فلما طعموا وشربوا قبض على ثلاثين رجلاً منهم من مقدميهم، فضعف الباقون، فأكثر فيهم القتل، فاجتمع الغز المقيمون بأرمية وساروا نحو بلاد الهكارية من أعمال الموصل، فقاتلهم أكرادها، وقاتلوهم قتالاً عظيماً، فانهزم الأكراد وملك الغز حللهم وأموالهم، ونساءهم وأولادهم، وتعلق الأكراد بالجبال والمضايق، وسار الغز في أثرهم فواقعوهم، فظفر بهم الأكراد، فقتلوا منهم ألفاً وخمسمائة رجل، وأسروا جمعاً فيه سبعة من أمرائهم، ومائة نفس من وجوههم، وغنموا سلاحهم ودوابهم وما معهم من غنيمة استردوها، وسلك الغز طريق الجبال فتمزقوا وتفرقوا. وسمع ابن ربيب الدولة الخبر، فسير في آثراهم من يفني باقيهم، ثم توفي أمير الغز المقيم بالري، وخرج إبراهيم ينال أخو السلطان طغرلبك إلى الري، فلما سمع به الغز المقيمون بها أجفلوا من بين يديه، وفارقوا بلاد الجبل خوفاً منه، وقصدوا ديار بكر والموصل في سنة ثلاث وثلاثين. ذكر دخول الغز ديار بكرفي سنة ثلاث وثلاثين فارق الغز أذربيجان. وسبب ذلك أن إبراهيم ينال، وهو أخو طغرلبك، سار إلى الري، فلما سمع الغز الذين بها خبره أجفلوا من بين يديه، وفارقوا بلاد الجبل خوفاً، وقصدوا أذربيجان، ولم يمكنهم المقام بها لما فعلوا بأهلها، ولأن إبراهيم ينال وراءهم، وكانوا يخافونه لأنهم كانوا له ولأخويه طغرلبك وداود رعية، فأخذوا بعض الأكراد، وعرفهم الطريق، فأخذ بهم في جبال وعرة على الزوزان، وخرجوا إلى جزيرة ابن عمر، فسار بوقا وناصغلي وغيرهما إلى ديار بكر، ونهبوا قردى، وبازبدى، والحسنية، وفيشابور وبقي منصور ابن غرغلي بالجزيرة من الجانب الشرقي.
فراسله سليمان بن نصر الدولة بن مروان المقيم بالجزيرة في المصالحة والمقام بأعمال الجزيرة إلى أن ينكشف الشتاء، ويسير مع باقي الغز إلى الشام، فتصالحا وتحالفا، وأضمر سليمان الغدر به، فعمل له طعاماً احتفل فيه ودعاه، فلما دخل الجزيرة قبض عليه وحبسه، وانصرف أصحابه متفرقين في كل جهة. فلما علم بذلك قرواش سير جيشاً كثيفاً إليهم، واجتمع معهم الأكراد البشنوية، أصحاب فنك، وعسكر نصر الدولة، فتبعوا الغز، فلحقوهم وقاتلوهم، فبذل الغز جميع ما غنموه على أن يؤمنوهم، فلم يفعلوا، فقاتلوا قتال من لا يخاف الموت، فجرحوا من العرب كثيراً، وافترقوا. وكان بعض الغز قد قصد نصيبين وسنجار للغارة، فعادوا إلى الجزيرة وحصروها، وتوجهت العرب إلى العراق ليشتوا به، فأخربت الغز ديار بكر، ونهبوا وقتلوا، فأخذ نصر الدولة منصوراً أمير الغز من ابنه سليمان، وراسل الغز، وبذل لهم مالاً، وإطلاق منصور ليفارقوا عمله، فأجابوه، فأطلق منصوراً، وأرسل بعض المال، فغدروا، وزادوا في الشر، وسار بعضهم إلى نصيبين وسنجار والخابور، فنهبوا وعادوا، وسار بعضهم إلى جهينة وأعمال الفرج فنهبوها، فدخل قرواش الموصل خوفاً منهم. ذكر ملك الغز مدينة الموصللما خرجوا من أذربيجان إلى جزيرة ابن عمر، وهي من أعمال نصر الدولة ابن مروان، سار بعضهم إلى ديار بكر مع أمرائهم المذكورين، وسار الباقون إلى البقعاء، ونزلوا برقعيد، فأرسل إليهم قرواش صاحب الموصل من ينظر فيهم، ويغير عليهم. فلما رأوا ذلك تقدموا إلى الموصل، فأرسل إليهم يستعطفهم ويلين لهم، وبذلك لهم ثلاثة آلاف دينار، فلم يقبلوا، فأعاد مراسلتهم ثانية، فطلبوا خمسة عشر ألف دينار، فالتزمها، وأحضر أهل البلد وأعلمهم الحال. فبينما هو بجمع المال وصل الغز إلى الموصل ونزلوا بالحصباء، فخرج إليهم قرواش وأجناده والعامة، فقاتلوهم عامة نهارهم، وأدركهم الليل فافترقوا، فلما كان الغد عادوا إلى القتال، فانهزمت العرب وأهل البلد، وهرب قرواش في سفينة نزلها من داره، وخرج من جميع ماله إلا الشيء اليسير، ودخل الغز البلد فنهبوا كثيراً منه، ونهبوا جميع ما لقرواش من مال وجوهر وحلي وثياب وأثاث، ونجا قرواش في السفينة ومعه نفر، فوصل إلى السن وأقام بها، وأرسل إلى الملك جلال الدولة يعرفه الحال، ويطلب النجدة، وأرسل إلى دبيس بن مزيد وغيره من أمراء العرب والأكراد يستمدهم ويشكو ما نزل به. وعمل الغز بأهل الموصل الأعمال الشنيعة من الفتك وهتك الحريم ونهب المال، وسلم عدة محال منها سكة أبي نجيح، والجصاصة، وجارسوك، وشاطيء نهر، وباب القصابين على مال ضمنوه، فكفوا عنهم. ذكر وثوب أهل الموصل بالغز وما كان بينهم قد ذكرنا ملك الغز الموصل، فلما استقروا فيها قسطوا على أهلها عشرين ألف دينار وأخذوها، ثم تتبعوا الناس وأخذوا كثيراً من أموالهم بحجة أموال العرب، ثم قسطوا أربعة آلاف دينار أخرى، فحضر جماعة من الغر عند ابن فرغان الموصلي، وطالبوا إنساناً بحضرته، وأساءوا الأدب والقول. وجرى بين بعض الغز وبعض المواصلة مشاجرة، فجرحه الغزي وقطع شعره، وكان للموصلي والدة سليطة، فلطخت وجهها بالدم، وأخذت الشعر بيدها وصاحت: المستغاث بالله وبالمسلمين، قد قتل لي ابن وهذا دمه، وابنة وهذا شعرها! وطافت في الأسواق، فثار الناس وجاؤوا إلى ابن فرغان فقتلوا من عنده من الغز، وقتلوا من ظفروا به منهم، ثم حصروهم في دار، فقاتلوا من بسطحها، فنقب الناس عليهم الدار وقتلوهم جميعهم، غير سبعة أنفس منهم أبو علي ومنصور، فخرج منصور إلى الحصباء، ولحق به من سلم منهم. وكان كوكتاش قد فارق الموصل في جمع كثير، فأرسلوا إليه يعلمونه الحال، فعاد إليهم، ودخل البلد عنوة في الخامس والعشرين من رجب سنة خمس وثلاثين ووضعوا السيف في أهله، وأسروا كثيراً، ونهبوا الأموال، وأقاموا على ذلك اثني عشر يوماً يقتلون وينهبون، وسلمت سكة أبي نجيح، فإن أهلها أحسنوا إلى الأمير منصور، فرعى لهم ذلك، والتجأ من سلم إليها، وبقي القتلى في الطريق، فأنتنوا لعدم من يواريهم، ثم طرحوا بعد ذلك كل جماعة في حفيرة. وكانوا يخطبون للخليفة، ثم لطغرلبك.
ولما طال مقامهم بهذه البلاد، وجرى منهم ما ذكرناه، كتب الملك جلال الدولة بن بويه إلى طغرلبك يعرفه ما يجري منهم، وكتب إلى نصر الدولة بن مروان يشكو منهم، فكتب إلى نصر الدولة يقول له: بلغني أن عبيدنا قصدوا بلادك، وأنك صانعتهم بمال بذلته لهم، وأنت صاحب ثغر ينبغي أن تعطي ما تستعين به على قتال الكفار، ويعده أنه يرسل إليهم يرحلهم من بلده. وكانوا يقصدون بلاد الأرمن وينهبون ويسبون، حتى إن الجارية الحسناء بلغت قيمتها خمسة دنانير، وأما الغلمان فلا يرادون. فأما كتاب طغرلبك إلى جلال الدولة، فيعتذر بأن هؤلاء التركمان كانوا لنا عبيداً، وخدماً، ورعايا، وتبعاً، يمتثلون الأمر، ويخدمون الباب، ولما نهضنا لتدبير خطب آل محمود بن سبكتكين، وانتدبنا لكفاية أمر خوارزم، انحازوا إلى الري فعاثوا فيها وأفسدوا، فزحفنا بجنودنا من خراسان إليهم مقدرين أنهم يلجأون إلى الأمان، ويلوذون بالعفو والغفران، فملكتهم الهيبة، وزحزحتهم الحشمة، ولا بد من أن نردهم إلى راياتنا خاضعين، ونذيقهم من بأسنا جزاء المتمردين، قربوا أم بعدوا، أغاروا أم أنجدوا. ذكر ظفر قرواش صاحب الموصل بالغزقد ذكرنا انحدار قرواش إلى السن، ومراسلته سائر أصحاب الأطراف في طلب النجدة منهم، فأما الملك جلال الدولة فلم ينجده لزوال طاعته عن جنده االأتراك، وأما دبيس بن مزيد فسار إليه، واجتمعت عليه عقيل كافة، وأتته أمداد أبي الشوك وابن ورام وغيرهما، فلم يدركوا الوقعة، فإن قرواشاً لما اجتمعت عقيل ودبيس عنده سار إلى الموصل. وبلغ الخبر إلى الغز، فتأخروا إلى تلعفر، وبومارية، وتلك النواحي، وراسلوا الغز الذين كانوا بديار بكر ومقدمهم ناصغلي وبوقا، وطلبوا منهم المساعدة على العرب، فساروا إليهم. وسمع قرواش بوصولهم، فلم يعلم أصحابه لئلا يفشلوا ويجبنوا، وسار حتى نزل على العجاج، وسارت الغز فنزلوا برأس الأيل من الفرج، وبينهما نحو فرسخين، وقد طمع الغز في العرب، فتقدموا حتى شارفوا حلل العرب ووقعت الحرب في العشرين من شهر رمضان من أول النهار، فاستظهرت الغز، وانهزمت العرب حتى صار القتال عند حللهم، ونساؤهم يشاهدون القتال، فلم يزل الظفر للغز إلى الظهر، ثم أنزل الله نصره على العرب، وانهزمت الغز وأخذهم السيف وتفرقوا، وكثر القتل فيهم، فقتل ثلاثة من مقدميهم، وملك العرب حلل الغز وخركاهاتهم، وغنموا أموالهم، فعمتهم الغنيمة، وأدركهم الليل فحجز بينهم. وسير قرواش رؤوس كثير من القتلى في سفينة إلى بغداد، فلما قاربتها أخذها الأتراك ودفنوها، ولم يتركوها تصل أنفة وحمية للجنس، وكفى الله أهل الموصل شرهم، وتبعهم قرواش إلى نصيبين، وعاد عنهم، فقصدوا ديار بكر فنهبوها، ثم مالوا على الأرمن والروم فنهبوهم، ثم قصدوا بلاد أذربيجان، وكتب قرواش إلى الأطراف يبشر بالظفر بهم، وكتب إلى ابن ربيب الدولة، صاحب أرمية، يذكر له أنه قتل منهم ثلاثة آلاف رجل، فقال للرسول: هذا عجيب! فإن القوم لما اجتازوا ببلادي أقمت على قنطرة لا بد لهم من عبورها من عدهم، فكانوا نيفاً وثلاثين ألفاً مع لفيفهم، فلما عادوا بعد هزيمتهم لم يبلغوا خمسة آلاف رجل، فإما أن يكونوا قتلوا أو هلكوا. ومدح الشعراء قرواشاً بهذا الفتح، وممن مدحه ابن شبل بقصيدة منها: بأبي الذي أرست نزار بيتها ... في شامخ من عزه المتخير وهي طويلة. هذه أخبار الغز العراقيين، وإنما أوردناها لأن دولتهم لم تطل حتى نذكر حوادثها في السنين، وإنما كانت سحابة صيف تقشعت عن قريب. وأما السلجوقية فنحن نذكر حوادثهم في السنين ونذكر ابتداء أمرهم سنة اثنتين وثلاثين إن شاء الله تعالى. ذكر عدة حوادثوفي هذه السنة سير الظاهر جيشاً من مصر، مقدمهم أنوشتكين الزبري، فقتل صالح بن مرداس، وملك نصر بن صالح مدينة حلب، وقد تقدم ذكره في سنة اثنتين وأربعمائة. وفيها سقط في البلاد برد عظيم، وكان أكثره بالعراق، وارتفعت بعده ريح شديدة سوداء، فقلعت كثيراً من الأشجار بالعراق، فقلعت شجراً كباراً من الزيتون من شرقي النهراون وألقته على بعد من غربيها، وقلعت نخلة من أصلها وحملتها إلى دار بينها وبين موضع هذه الشجرة ثلاث دور، وقلعت سقف مسجد الجامع ببعض القرى. وفيها، في ذي القعدة، تولى عبد الله بن ماكولا قضاء القضاة.
وفيها توفي أبو الحسن علي بن عيسى الربعي النحوي عن نيف وتسعين سنة، وأخذ النحو عن أبي علي الفارسي، وأبي سعيد السيرافي، وكان فكهاً، كثير الدعابة، فمن ذلك أنه كان يوماً على شاطيء دجلة ببغداد، والملك جلال الدولة، والمرتضى والرضي كلاهما في سميرية، ومعهما عثمان بن جني النحوي، فناداه الربعي: أيها الملك ما أنت صادق في تشيعك لعلي بن أبي طالب، يكون عثمان إلى جانبك، وعلي، يعني نفسه، هاهنا! فأمر بالسميرية فقربت إلى الشاطيء وحمله معه. وقيل إن هذا القول كان للشريف الرضي وأخيه المرتضى، ومعهما عثمان ابن جني، فقال: ما أعجب أحوال الشريفين! يكون عثمان معهما، وعلي يمشي على الشط. وفيها أيضاً توفي أبو المسك عنبر، الملقب بالأثير، وكان قد أصعد إلى الموصل مغاضباً لجلال الدولة، فلقيه قرواش وأهله، وقبلوا الأرض بين يديه، فأقام عندهم، وكان خصياً لبهاء الدولة بن بويه، وكان قد بلغ مبلغاً عظيماً، لم يخل أمير ولا وزير في دولة بني بويه من تقبيل يده والأرض بين يديه، وكان قد استقر بينه وبين قرواش وأبي كاليجار قاعدة أن يصعد أبو كاليجار من واسط، وينحدر الأثير وقرواش من الموصل لقصد جلال الدولة، وكان الأثير قد انحدر من الموصل، فلما وصل مشهد الكحيل توفي فيه. وفيها انقطع كوكب عظيم، في رجب، أضاءت منه الأرض، وسمع له صوت عظيم كالرعد، وتقطع أربع قطع، وانقض بعده بليلتين كوكب آخر دونه، وانقض بعدهما كوكب أكبر منهما وأكثر ضوءاً. وفيها كانت ببغداد فتناً قوي فيها أمر العيارين واللصوص، فكانوا يأخذون العملات ظاهراً. وفيها قطعت الجمعة من جامع براثا، وسببها أنه كان يخطب فيها إنسان يقول في خطبته: بعد الصلاة على النبي وعلى أخيه أمير المؤمنين على بن أبي طالب، مكلم الجمجمة، ومحييها البشري الإلهي، مكلم الفتية أهل الكهف، إلى غير ذلك من الغلو المبتدع، فأقام الخليفة خطيباً، فرجمه العامة، فانقطعت الصلاة فيه، فاجتمع جماعة من أعيان الكرخ مع المرتضى، واعتذروا إلى الخليفة بأن سفهاء لا يعرفون فعلوا ذلك، وسألوا إعادة الخطبة، فأجيبوا إلى ما طلبوا، وأعيدت الصلاة والخطبة فيه. وفيها توفي ابن أبي الهبيش الزاهد المقيم بالكوفة، وهو من أرباب الطبقات الغالية في الزهد، وقبره يزار إلى الآن وقد زرته. وفيها توفي منوجهر بن قابوس بن وشمكير، وملك ابنه أنوشروان. ثم دخلت سنة إحدى وعشرين وأربعمائة ذكر ملك مسعود بن سبكتكين همذان في هذه السنة سير مسعود بن يمين الدولة محمود جيشاً إلى همذان، فملكوها، وأخرجوا نواب علاء الدولة بن كاكويه عنها، وسار هو إلى أصبهان، فلما قاربها فارقها علاء الدولة، فغنم مسعود ما كان له بها من دواب وسلاح وذخائر، فإن علاء الدولة أعجل عن أخذه، فلم يأخذ إلا بعضه، وسار إلى خوزستان، فبلغ إلى تستر ليطلب من أبي كاليجار نجدة، ومن الملك جلال الدولة، ويعود إلى بلاده يستنقذها، فبقي عند أبي كاليجار مدة، وهو عقيب انهزامه من جلال الدولة ضعيف، ومع هذا فهو يعده النصرة، وتسيير العساكر، إذا اصطلح هو وجلال الدولة. فبينما هو عنده إذ أتاه خبر وفاة يمين الدولة محمود، ومسير مسعود إلى خراسان، فسار علاء الدولة إلى بلاده، على ما نذكره إن شاء الله تعالى. ذكر غزوة للمسلمين إلى الهندفي هذه السنة غزا أحمد بن ينالتكين، النائب عن محمود بن سبكتكين ببلاد الهند، مدينة للهنود هي من أعظم مدنهم، يقال لها نرسى، ومع أحمد نحو مائة ألف فارس وراجل، وشن الغارة على البلاد، ونهب، وسبى، وخرب الأعمال، وأكثر القتل والأسر، فلما وصل إلى المدينة دخل من أحد جوانبها ونهب المسلمون في ذلك الجانب يوماً من بكرة إلى آخر النهار، ولم يفرغوا من نهب سوق العطارين والجوهريين، حسب، وباقي أهل البلد لم يعلموا بذلك، لأن طوله منزل من منازل الهنود، وعرضه مثله، فلما جاء المساء لم يجسر أحد على المبيت فيه لكثرة أهله، فخرج منه ليأمن على نفسه وعسكره. وبلغ من كثرة ما نهب المسلمون أنهم اقتسموا الذهب والفضة كيلاً، ولم يصل إلى هذه المدينة عسكر للمسلمين قبله ولا بعده، فلما فارقه أراد العود إليه، فلم يقدر على ذلك، منعه أهله عنه. ذكر ملك بدران ابن المقلد نصيبين
قد ذكرنا محاصرة بدران نصيبين وأنه رحل عنها خوفاً من قرواش، فلما رحل شرع في إصلاح الحال معه فاصطلحا. ثم جرى بين قرواش ونصر الدولة ابن مروان نفرة كان سببها أن نصر الدولة كان قد تزوج ابنة قرواش ونصر فآثر عليها غيرها، فأرسلت إلى أبيها تشكو منه، فأرسل يطلبها إليه، فسيرها فأقامت بالموصل. ثم إن ولد مستحفظ جزيرة ابن عمر وهي لابن مروان هرب إلى قرواش وأطمعه في الجزيرة فأرسل إلى نصر الدولة يطلب منه صداق ابنته وهو عشرون ألف دينار، ويطلب الجزيرة لنفقتها، ويطلب نصيبين لأخيه بدران ويحتج بما أخرج بسببها عام أول، وترددت الرسل بينهما في ذلك فلم يستقر حال، فسير جيشاً لمحاصرة الجزيرة وجيشاً مع أخيه بدران إلى نصيبين، فحصرها بدران وأتاه قرواش فحصرها معه فلم يملك واحد من البلدين وتفرق من كان معه من العرب والأكراد. فلما رأى بدران تفرق الناس عن أخيه سار إلى نصر الدولة بن مروان بميافارقين يطلب منه نصيبين، فسلمها إليه وأرسل من صداق ابنة قرواش خمسة عشر ألف دينار واصطلحا. ذكر ملك أبي الشوك دقوقاوفيها حصر أبو الشوك دقوقا، وبها مالك بن بدران بن المقلد العقيلي، فطال حصاره، وكان قد أرسل إليه يقول له: إن هذه المدينة كانت لأبي، ولا بد لي منها، والصواب أن تنصرف عنها. فامتنع من تسليمها، فحصره بها، ثم استظهر، وملك البلد، فطلب منه مالك الأمان على نفسه وماله وأصحابه، فأمنه على نفسه حسب، فلما خرج إليه مالك قال له أبو الشوك: قد كنت سألتك أن تسلم البلد طوعاً، وتحقن دماء المسلمين، فلم تفعل. فقال: لو فعلت لعيرتني العرب، وأما الآن فلا عار علي. فقال أبو الشوك: إن من إتمام الصنيعة تسليم مالك وأصحابك إليك، فأعطاه ما كان له أجمع، فأخذه وعاد سالماً. ذكر وفاة محمود بن سبكتكين وملك ولده محمد في هذه السنة، في ربيع الآخر، توفي يمين الدولة أبو القاسم محمود بن سبكتكين، ومولده يوم عاشوراء سنة ستين وثلاثمائة، وقيل إنه توفي أحد عشر صفر، وكان مرضه سوء مزاج وإسهالاً، وبقي كذلك نحو سنتين، وكان قوي النفس لم يضع جنبه في مرضه بل كان يستند إلى مخدته، فأشار عليه الأطباء بالراحة، وكان يجلس للناس بكرة وعشية، فقال: أتريدون أن أعتزل الإمارة؟ فلم يزل كذلك حتى توفي قاعداً. فلما حضره الموت أوصى بالملك لابنه محمد، وهو ببلخ، وكان أصغر من مسعود، إلا أنه كان معرضاً عن مسعود، لأن أمره لم يكن عنده نافذاً، وسعى بينهما أصحاب الأغراض، فزادوا أباه نفوراً عنه، فلما وصى بالملك لولده محمد توفي، فخطب لمحمد من أقاصي الهند إلى نيسابور، وكان لقبه جلال الدولة، وأرسل إليه أعيان دولة أبيه يخبرونه بموت أبيه ووصيته له بالملك، ويستدعونه، ويحثونه على السرعة، ويخوفونه من أخيه مسعود، فحين بلغه الخبر سار إلى غزنة، فوصلها بعد موت أبيه بأربعين يوماً، فاجتمعت العساكر على طاعته، وفرق فيهم الأموال والخلع النفيسة، فأسرف في ذلك. ذكر ملك مسعود وخلع محمدلما توفي يمين الدولة كان ابنه مسعود بأصبهان، فلما بلغه الخبر سار إلى خراسان، واستخلف بأصبهان بعض أصحابه في طائفة من العسكر، فحين فارقها ثار أهلها بالوالي عليهم فقتلوه، وقتلوا من معه من الجند. وأتى مسعوداً الخبر، فعاد إليها، وحصرها، وفتحها عنوة، وقتل فيها فأكثر، ونهب الأموال، واستخلف فيها رجلاً كافياً، وكتب إلى أخيه محمد يعلمه بذلك، وأنه لا يريد من البلاد التي وصى له أبوه بها شيئاً، وأنه يكتفي بما فتحه من بلاد طبرستان، وبلد الجبل، وأصبهان، وغيرها، ويطلب منه الموافقة، وأن يقدمه في الخطبة على نفسه، فأجابه محمد جواب مغالط. وكان مسعود قد وصل إلى الري، فأحسن إلى أهلها، وسار منها إلى نيسابور ففعل مثل ذلك، وأما محمد فإنه أخذ على عسكره العهود والمواثيق على المناصحة له، والشد منه، وسار في عساكره إلى أخيه مسعود محارباً له، وكان بعض عساكره يميل إلى أخيه مسعود لكبره وشجاعته، ولأنه قد اعتاد التقدم على الجيوش، وفتح البلاد، وبعضها يخافه لقوة نفسه.
وكان محمد قد جعل مقدم جيشه عمه يوسف بن سبكتكين، فلما هم بالركوب، في داره بغزنة، ليسير سقطت قلنسونه من رأسه، فتطير الناس من ذلك، وأرسل إليه التونتاش، صاحب خوارزم، وكان من أعيان أصحاب أبيه محمود، يشير عليه بموافقة أخيه وترك مخالفته، فلم يصغ إلى قوله، وسار فوصل إلى تكناباذ أول يوم رمضان، وأقام إلى العيد، فعيد هناك، فلما كان ليلة الثلاثاء، ثالث شوال، ثار به جنده، فأخذوه وقيدوه وحبسوه، وكان مشغولاً بالشراب واللعب عن تدبير المملكة، والنظر في أحوال الجند والرعايا. وكان الذي سعى في خذلانه علي خويشاوند، صاحب أبيه، وأعانه على ذلك عمه يوسف بن سبكتكين. فلما قبضوا عليه نادوا بشعار أخيه مسعود، ورفعوا محمداً إلى قلعة تكناباذ، وكتبوا إلى مسعود بالحال. فلما وصل إلى هراة لقيته العساكر مع الحاجب علي خويشاوند، فلما لقيه الحاجب علي قبض عليه وقتله، وقبض بعد ذلك أيضاً على عمه يوسف، وهذه عاقبة الغدر، وهما سعيا له في رد الملك إليه، وقبض أيضاً على جماعة من أعيان القواد في أوقات متفرقة، وكان اجتماع الملك له واتفاق الكلمة عليه في ذي القعدة، وأخرج الوزير أبا القاسم أحمد بن الحسن الميمندي الذي كان وزير أبيه من محبسه، واستوزره، ورد الأمر إليه، وكان أبوه قد قبض عليه سنة اثنتي عشرة وأربعمائة لأمور أنكرها، وقيل شره في ماله، وأخذ منه لما قبض عليه مالاً وأعراضاً بقيمة خمسة آلاف ألف دينار. وكان وصول مسعود إلى غزنة ثامن جمادى الآخرة من سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة، فلما وصل إليها وثبت ملكه بها أتته رسل الملوك من سائر الأقطار إلى بابه، واجتمع له ملك خراسان، وغزنة، وبلاد الهند والسند، وسجستان، وكرمان، ومكران، والري، وأصبهان، وبلد الجبل، وغير ذلك، وعظم سلطانه وخيف جانبه. ذكر بعض سيرة محمود بن سبكتكينكان يمين الدولة محمود بن سبكتكين عاقلاً، ديناً، خيراً، عنده علم ومعرفة، وصنف له كثير من الكتب في فنون العلوم، وقصده العلماء من أقطار البلاد، وكان يكرمهم، ويقبل عليهم، ويعظمهم، ويحسن إليهم، وكان عادلاً، كثير الإحسان إلى رعيته والرفق بهم، كثير الغزوات، ملازماً للجهاد، وفتوحه مشهورة مذكورة، وقد ذكرنا منها ما وصل إلينا على بعد الدهر، وفيه ما يستدل به على بذل نفسه لله تعالى واهتمامه بالجهاد. ولم يكن فيه ما يعاب إلا أنه كان يتوصل إلى أخذ الأموال بكل طريق، فمن ذلك أنه بلغه أن إنساناً من نيسابور كثير المال، عظيم الغنى، فأحضره إلى غزنة وقال له: بلغنا أنك قرمطي، فقال: لست بقرمطي، ولي مال يؤخذ منه ما يراد وأعفى من هذا الاسم، فأخذ منه مالاً، وكتب معه كتاباً بصحة اعتقاده. وجدد عمارة المشهد بطوس الذي فيه قبر علي بن موسى الرضا، والرشيد، وأحسن عمارته، وكان أبوه سبكتكين أخربه، وكان أهل طوس يؤذون من يزوره، فمنعهم عن ذلك. وكان سبب فعله أنه رأى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، عليه السلام، في المنام وهو يقول له: إلى متى هذا؟ فعلم أنه يريد أمر المشهد، فأمر بعمارته. وكان ربعة مليح اللون، حسن الوجه، صغير العينين، أحمر الشعر، وكان ابنه محمد يشبهه، وكان ابنه مسعود ممتليء البدن، طويلاً. ذكر عودة علاء الدولة إلى أصبهان وغيرها وما كان منهلما مات محمود بن سبكتكين طمع فناخسرو بن مجد الدولة بن بويه في الري، وكان قد هرب منها لما ملكها عسكر يمين الدولة محمود، فقصد قصران، وهي حصينة، فامتنع بها. فلما توفي يمين الدولة وعاد ابنه مسعود إلى خراسان جمع فناخسرو هذا جمعاً من الديلم والأكراد وغيرهم، وقصدوا الريي، فخرج إليه نائب مسعود بها ومن معه من العسكر، فقاتلوه، فانهزم منهم وعاد إلى بلده، وقتل جماعة من عسكره. ثم إن علاء الدولة بن كاكويه، لما بلغه وفاة يمين الدولة، كان بخوستان عند الملك أبي كاليجار، كما ذكرنا، وقد أيس من نصره، وتفرق بعض من عنده من عسكره وأصحابه، والباقون على عزم مفارقته، وخائف من مسعود أن يسير إليه من أصبهان فلا يقوى هو وأبو كاليجار به، فأتاه من الفرج بموت يمين الدولة ما لم يكن في حسابه، فلما سمع الخبر سار إلى أصبهان فملكها، وملك همذان، وغيرهما من البلاد، وسار إلى الري فملكها، وامتد إلى أعمال أنوشروان بن منوجهر بن قابوس، فأخذ منه خوار الري ودنباوند.
فكتب أنوشروان إلى مسعود يهنئه بالملك، وسأله تقرير الذي عليه بمال يحمله، فأجابه إلى ذلك، وسير إليه عسكراً من خراسان، فساروا إلى دنباوند فاستعادوها، وساروا نحو الري، فأتاهم المدد والعسكر، وممن أتاهم علي بن عمران، فكثر جمعهم، فحصروا الري، وبها علاء الدولة، فاشتد القتال في بعض الأيام، فدخل العسكر الري قهراً، والفيلة معهم، فقتل جماعة من أهل الري والديلم، ونهب المدينة، وانهزم علاء الدولة، وتبعه بعض العسكر وجرحه في رأسه وكتفه، فألقى لهم دنانير كانت معه، فاشتغلوا بها عنه، فنجا، وسار إلى قلعة فردجان، على خمسة عشر فرسخاً من همذان، فأقام بها إلى أن برأ من جراحته، وكان من أمره ما نذكر، إن شاء الله تعالى، وخطب بالري وأعمال أنوشروان لمسعود، فعظم شأنه. ذكر الحرب بين عسكر جلال الدولة وأبي كاليجارفي هذه السنة، في شوال، سير جلال الدولة عسكراً إلى المذار، وبها عسكر أبي كاليجار، فالتقوا واقتتلوا، فانهزم عسكر أبي كاليجار، واستولى أصحاب جلال الدولة على المذار، وعملوا بأهلها كل محظور. فلما سمع أبو كاليجار الخبر سير إليهم عسكراً كثيفاً، فاقتتلوا بظاهر البلد، فانهزم عسكر جلال الدولة، وقتل أكثرهم، وثار أهل البلد بغلمانهم فقتلوهم، ونهبوا أموالهم لقبيح سيرتهم معهم، وعاد من سلم من المعركة إلى واسط. ذكر الحرب بين قرواش وغريب بن مقنفي هذه السنة، في جمادى الأولى، اختلف قرواش وغريب بن مقن. وكان سبب ذلك أن غريباً جمع جمعاً كثيراً من العرب والأكراد، واستمد جلال الدولة، فأمده بجملة صالحة من العسكر، فسار إلى تكريت فحصرها، وهي لأبي المسيب رافع بن الحسين، وكان قد توجه إلى الموصل، وسأل قرواشاً النجدة، فجمعا وحشدا وسارا منحدرين فيمن معهما، فبلغا الدكة، وغريب يحاصر تكريت، وقد ضيق على من بها، وأهلها يطلبون منه الأمان، فلم يؤمنهم، فحفظوا نفوسهم وقاتلوا أشد قتال. فلما بلغه وصول قرواش ورافع سار إليهم، فالتقوا بالدكة واقتتلوا، فغدر بغريب بعض من معه، ونهبوا سواده وسواد الأجناد الجلالية، فانهزم، وتبعهم قرواش ورافع، ثم كفوا عنه وعن أصحابه، ولم يتعرضوا إلى حلته وما له فيها، وحفظوا ذلك أجمع، ثم إنهم تراسلوا واصطلحوا وعادوا إلى ما كانوا عليه من الوفاق. ذكر خروج ملك الروم إلى الشام وانهزامهفي هذه السنة خرج ملك الروم من القسطنطينية في ثلاث مائة ألف مقاتل إلى الشام، فلم يزل بعساكره حتى بلغوا قريب حلب، وصاحبها شبل الدولة نصر بن صالح بن مرداس، فنزلوا على يوم منها، فلحقهم عطش شديد، وكان الزمان صيفاً، وكان أصحابه مختلفين عليه، فمنهم من يحسده، ومنهم من يكرهه. وممن كان معه ابن الدوقس، ومن أكابرهم، وكان يريد هلاك الملك ليملك بعده، فقال الملك: الرأي أن نقيم حتى تجيء الأمطار وتكثر المياه. فقبح ابن الدوقس هذا الرأي، وأشار بالإسراع قصداً لشر يتطرق إليه، ولتدبير كان قد دبره عليه. فسار، ففارقه ابن الدوقس، وابن لؤلؤ في عشرة آلاف فارس، وسلكوا طريقاً آخر، فخلا بالملك بعض أصحابه وأعلمه أن ابن الدوقس وابن لؤلؤ قد حالفا أربعين رجلاً، هو أحدهم، على الفتك به، واستشعر من ذلك وخاف، ورحل من يومه راجعاً. ولحقه ابن الدوقس، وسأله عن السبب الذي أوجب عوده، فقال له: قد اجتمعت علينا العرب وقربوا منا، وقبض في الحال على ابن الدوقس وابن لؤلؤ وجماعة معهما، فاضطرب الناس واختلفوا، ورحل الملك، وتبعهم العرب وأهل السواد حتى الأرمن يقتلون وينهبون، وأخذوا من الملك أربعمائة بغل محملة مالاً وثياباً، وهلك كثير من الروم عطشاً، ونجا الملك وحده، ولم يسلم معه من أمواله وخزائنه شيء البتة، وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قوياً عزيزاً. وقيل في عوده غير ذلك، وهو أن جمعاً من العرب ليس بالكثير عبر على عسكره، وظن الروم أنها كبسة، فلم يدروا ما يفعلون، حتى إن ملكهم لبس خفاً أسود، وعادة ملوكهم لبس الخف الأحمر، فتركه ولبس الأسود ليعمى خبره على من يريده، وانهزموا، وغنم المسلمون جميع كان معهم. ذكر مسير أبي علي بن ماكولا إلى البصرة وقتله
لما استولى الملك جلال الدولة على واسط، وجعل ولده فيها، سير وزيره أبا علي بن ماكولا إلى البطائح والبصرة ليملكها، فملك البطائح، وسار إلى البصرة في الماء، وأكثر من السفن والرجال. وكان بالبصرة أبو منصور بختيار بن علي نائباً لأبي كاليجار، فجهز جيشاً في أربعمائة سفينة، وجعل عليهم أبا عبد الله الشرابي الذي كان صاحب البطيحة، وسيره، فالتقى هو والوزير أبو علي، فعند اللقاء والقتال هبت ريح شمال كانت على البصريين ومعونة للوزير، فانهزم البصريون وعادوا إلى البصرة، فعزم بختيار على الهرب إلى عبادان، فمنعه من سلم عنده من عسكره، فأقام متجلداً. وأشار جماعة على الوزير أبي علي أن يعجل الانحدار، ويغتنم الفرصة قبل أن يعود بختيار يجمع. فلما قاربهم، وهو في ألف وثلاثمائة عدد من السفن، سير بختيار ما عنده من السفن، وهي نحو ثلاثين قطعة، وفيها المقاتلة، وكان قد سير عسكراً آخر في البر، وكان له في فم نهر أبي الخصيب نحو خمسمائة قطعة فيها ماله، ولجميع عسكره من المال والأثاث والأهل، فلما تقدمت سفنه صاح من فيها، وأجابه من في السفن التي فيها أهلوهم وأموالهم، وورد عليهم العسكر الذي في البر، فقال الوزير لمن أشار عليه بمعالجة بختيار: ألستم زعمتم أنه في خف من العسكر، وأن معالجته أولى، ورأى الدنيا مملوءة عساكر؟ فهونوا عليه الأمر، فغضب، وأمر بإعادة السفن إلى الشاطيء، إلى الغد، ويعود إلى القتال. فلما أعاد سفنه ظن أصحابه أنه قد انهزم، فصاحوا: الهزيمة؟؟! فكانت هي. وقيل: بل لما أعاد سفنه لحقهم من في سفن بختيار، وصاحوا: الهزيمة! الهزيمة! وأجابهم من في البر من عسكر بختيار، ومن في سفنهم التي فيها أموالهم، فانهزم أبو علي حقاً، وتبعه أصحاب بختيار وأهل السواد، ونزل بختيار في الماء، واستصرخ الناس، وسار في آثارهم يقتل ويأسر، وهم يغرقون، فلم يسلم من السفن كلها أكثر من خمسين قطعة. وسار الوزير أبو علي منهزماً، فأخذ أسيراً، وأحضر عند بختيار، فأكرمه وعظمه، وجلس بين يديه، وقال له: ما الذي تشتهي أن أفعل معك؟ قال: ترسلني إلى الملك أبي كاليجار. فأرسله إليه فأطلقه، فاتفق أن غلاماً له وجارية اجتمعا على فساد، فعلم بهما، وعرفا أنه قد علم حالهما، فقتلاه بعد أسره بنحو من شهر. وكان قد أحدث في ولايته رسوماً جائرة، وسن سنناً سيئة، ومنها جباية سوق الدقيق، ومقالي الباذنجان، وسميريات المشارع، ودلالة ما يباع من الأمتعة، وأجر الحمالين الذين يرفعون التمور إلى السفن، وبما يعطيه الذباحون لليهود، فجرى في ذلك مناوشة بين العامة والجند. ذكر استيلاء جلال الدولة على البصرة وأخذها منهم لما انحدر الوزير أبو علي بن ماكولا إلى البصرة، على ما ذكرناه، لم يستصحب معه الأجناد البصريين الذين مع جلال الدولة، تأنيساً للديلم الذين بالبصرة، فلما أصيب، على ما ذكرنا، تجهز هؤلاء البصريون وانحدروا إلى البصرة، فوصلوا إليها، وقاتلوا من بها من عسكر أبي كاليجار، فانهزم عسكر أبي كاليجار، ودخل عسكر جلال الدولة البصرة في شعبان. واجتمع عسكر أبي كاليجار بالأبلة مع بختيار، فأقاموا بها يستعدون للعود وكتبوا إلى كاليجار يستمدونه، فسير إليهم عسكراً كثيراً مع وزيره ذي السعادات أبي الفرج بن فسانجس، فقدموا إلى الأبلة، واجتمعوا مع بختيار، ووقع الشروع في قتال من بالبصرة من أصحاب جلال الدولة، فسير بختيار جمعاً كثيراً في عدة من سفن، فقاتلوهم، فنصر أصحاب جلال الدولة عليهم وهزموهم، فوبخهم بختيار، وسار من وقته في العدد الكثير، والسفن الكثيرة، فاقتتلوا، واشتد القتال، فانهزم بختيار، وقتل من أصحابه جماعة كثيرة، وأخذ هو فقتل من غير قصد لقتله، وأخذوا كثيراً من سفنه، وعاد كل فريق إلى موضعه.
وعزم الأتراك من أصحاب جلال الدولة على مباكرة الحرب، وإتمام الهزيمة، وطالبوا العامل الذي على البصرة بالمال، فاختلفوا، وتنازعوا في الإقطاعات، فأصعد ابن المعبراني، صاحب البطيحة، فسار إليه جماعة من الأتراك الواسطيين ليردوه، فلم يرجع، فتبعوه، وخاف من بقي بعضهم من بعض أن لا يناصحوهم، ويسلموهم عند الحرب، فتفرقوا، واستأمن بعضهم إلى ذي السعادات، وقد كان خائفاً منهم، فجاءه ما لم يقده من الظفر، ونادى من بقي بالبصرة بشعار أبي كاليجار، فدخلها عسكره، وأرادوا نهبها، فمنعهم ذو السعادات. ذكر غزو فضلون الكردي الخزر وما كان منهكان فضلون الكردي هذا بيده قطعة من أذربيجان قد استولى عليها، وملكها، فاتفق أنه غزا الخزر، هذه السنة، فقتل منهم، وسبى، وغنم شيئاً كثيراً، فلما عاد إلى بلده أبطأ في سيره وأمل الاستظهار في أمره، ظناً منه أنه قد دوخهم وشغلهم بما عمله بهم، فاتبعوه مجدين، وكيسوه، وقتلوا من أصحابه والمطوعة الذين معه أكثر من عشرة آلاف قتيل، واستردوا الغنائم التي أخذت منهم، وغنموا أموال العساكر الإسلامية وعادوا. ذكر البيعة لولي العهدفي هذه السنة مرضض القادر بالله، وأرجف بموته، فجلس جلوساً عاماً وأذن للخاصة والعامة فوصلوا إليه، فلما اجتمعوا قام الصاحب أبو الغنائم فقال: خدم مولانا أمير المؤمنين داعون له بإطالة البقاء، وشاكرون لما بلغهم من نظره لهم وللمسلمين، باختيار الأمير أبي جعفر لولاية العهد. فقال الخليفة للناس: قد أذنا في العهد له، وكان أراد أن يبايع له قبل ذلك، فثناه عنه أبو الحسن بن حاجب النعمان. فلما عهد إليه ألقيت الستارة، وقعد أبو جعفر على السرير الذي كان قائماً عليه، وخدمه الحاضرون وهنأوه، وتقدم أبو الحسن بن حاجب النعمان فقبل يده وهنأه، فقال: " ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيراً، وكفى الله المؤمنين القتال " يعرض له بإفساده رأي الخليفة فيه، فأكب على تقبيل قدمه، وتعفير خده بين يديه والاعتذار. فقبل عذره، ودعي له على المنابر يوم الجمعة لتسع بقين من جمادى الأولى. ذكر عدة حوادثفي هذه السنة استوزر جلال الدولة أبا سعد عبد الرحيم بعد ابن ماكولا، ولقبه عميد الدولة. وفيها توفي أبو الحسن بن حاجب النعمان، ومولده سنة أربعين وثلاثمائة، وكان خصيصاً بالقادر بالله، حاكماً في دولته كلها، وكتب له وللطائع أربعين سنة. وفيها ظهر متلصصة ببغداد من الأكراد، فكانوا يسرقون دواب الأتراك، فنقل الأتراك خيلهم إلى دورهم، ونقل جلال الدولة دوابه إلى بيت في دار المملكة. وفيها توفي أبو الحسن بن عبد الوارث الفسوي، النحوي، بفسا، وهو نسيب أبي علي الفارسي. وفيها توفي أبو محمد الحسن بن يحيى العلوي، النهرسابسي، الملقب بالكافي، وكان موته بالكوفة. وفيها، في رجب، جاء في غزنة سيل عظيم أهلك الزرع والضرع، وغرق كثيراً من الناس لا يحصون، وخرب الجسر الذي بناه عمرو بن الليث، وكان هذا الحادث عظيماً. وفيها، في رمضان تصدق مسعود بن محمود بن سبكتكين، في غزنة، بألف ألف درهم، وأدر على الفقراء من العلماء والرعايا إدرارات كثيرة. ثم دخلت سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة ذكر ملك مسعود بن سبكتكين التيز ومكران في هذه السنة سير السلطان مسعود بن محمود بن سبكتكين عسكراً إلى التيز، فملكها وما جاورها. وسبب ذلك أن صاحبها معدان توفي، وخلف ولدين أبا العساكر وعيسى، فاستبد عيسى بالولاية والمال، فسار أبو العساكر إلى خراسان، وطلب من مسعود النجدة، فسير معه عسكراً، وأمرهم بأخذ البلاد من عيسى، أو الاتفاق مع أخيه على طاعته، فوصلوا إليها، ودعوا عيسى إلى الطاعة والموافقة، فأبى وجمع جمعاً كثيراً بلغوا ثمانية عشر ألفاً، وتقدم إليهم، فالتقوا، فاستأمن كثير من أصحاب عيسى إلى أخيه أبي العساكر، فانهزم عيسى ثم عاد وحمل في نفر من أصحابه، فتوسط المعركة فقتل، واستولى أبو العساكر على البلاد، ونهبها ثلاثة أيام، فأجحف بأهلها. ذكر ملك الروم مدينة الرها
في هذه السنة ملك الروم مدينة الرها، وكان سبب ذلك أن الرها كانت بيد نصر الدولة بن مروان، كما ذكرناه، فلما قتل عطير الذي كان صاحبها، شفع صالح بن مرداس، صاحب حلب، إلى نصر الدولة ليعيد الرها إلى ابن عطير، وإلى ابن شبل، بينهما نصفين، فقبل شفاعته، وسلمها إليهما. وكان له في الرها برجان حصينان أحدهما أكبر من الآخر، فتسلم ابن عطير الكبير، وابن شبل الصغير، وبقيت المدينة معهما إلى هذه السنة، فراسل ابن عطير أرمانوس ملك الروم، وباعه حصته من الرها بعشرين ألف دينار، وعدة قرايا من جملتها قرية تعرف إلى الآن بسن ابن عطير، وتسلموا البرج الذي له، ودخلوا البلد فملكوه، وهرب منه أصحاب ابن شبل، وقتل الروم المسلمين، وخربوا المساجد. وسمع نصر الدولة الخبر، فسير جيشاً إلى الرها، فحصروها وفتحوها عنوة، واعتصم من بها من الروم بالبرجين، واحتمى النصارى بالبيعة التي لهم، وهي من أكبر البيع وأحسنها عمارة، فحصرهم المسلمون بها، وأخرجوهم، وقتلوا أكثرهم، ونهبوا البلد، وبقي الروم في البرجين، وسير إليهم عسكراً نحو عشرة آلاف مقاتل، فانهزم أصحاب ابن مروان من بين أيديهم، ودخلوا البلد وما جاورهم من بلاد المسلمين، وصالحهم ابن وثاب النميري على حران وسروج وحمل إليهم خراجاً. ذكر ملك مسعود كرمان وعود عسكره عنها وفيها سارت عساكر خراسان إلى كرمان فملكوها، وكانت للملك أبي كاليجار، فاحتمى عسكره بمدينة بردسير، وحصرهم الخراسانيون فيها، وجرى بينهم عدة وقائع، وأرسلوا إلى الملك أبي كاليجار يطلبون المدد، فسير إليهم العادل بهرام بن مافنة في عسكر كثيف، ثم إن الذين ببردسير خرجوا إلى الخراسانية فواقعوهم، واشتد القتال، وصبوا لهم، فأجلت الوقعة عن هزيمة الخراسانية، وتبعهم الديلم حتى أبعدوا، ثم عادوا إلى بردسير. ووصل العادل عقيب ذلك إلى جيرفت، وسير عسكره إلى الخراسانية، وهم بأطراف البلاد، فواقعوهم، فانهزم الخراسانية، ودخلوا المفازة عائدين إلى خراسان، وأقام العادل بكرمان إلى أن أصلح أمورها وعاد إلى فارس.ز ذكر وفاة القادر بالله وشيء من سيرته وخلافة القائم بأمر اللهفي هذه السنة، في ذي الحجة، توفي الإمام القادر بالله، أمير المؤمنين، وعمره ست وثمانون سنة وعشرة أشهر، وخلافته إحدى وأربعون سنة وثلاثة أشهر وعشرون يوماً، وكانت الخلافة قبله قد طمع فيها الديلم والأتراك، فلما وليها القادر بالله أعاد جدتها، وجدد ناموسها، وألقى الله هيبته في قلوب الخلق، فأطاعوه أحسن طاعة وأتمها. وكان حليماً، كريماً، خيراً يحب الخير وأهله، ويأمر به، وينهى عن الشر ويبغض أهله، وكان حسن الاعتقاد، صنف فيه كتاباً على مذهب السنة. ولما توفي صلى عليه ابنه القائم بأمر الله، وكان القادر بالله أبيض، حسن الجسم، كث اللحية، طويلها، يخضب، وكان يخرج من داره في زي العامة، ويزور قبور الصالحين، كقبر معروف وغيره، وإذا وصل إليه حال أمر فيه بالحق. قال القاضي الحسين بن هارون: كان بالكرخ ملك ليتيم، وكان له فيه قيمة جيدة، فأرسل إلي ابن حاجب النعمان، وهو حاجب القادر، يأمرني أن أفك عنه الحجر ليشتري بعض أصحابه ذلك الملك، فلم أفعل، فأرسل يستدعيني، فقلت لغلامه: تقدمني حتى ألحقك، وخفته، فقصدت قبر معروف، فدعوت الله أن يكفيني شره، وهناك شيخ، فقال لي: على من تدعو؟ فذكرت له ذلك، ووصلت إلى ابن حاجب النعمان، فأغلظ لي في القول، ولم يقبل عذري، فأتاه خادم برقعة، ففتحها وقرأها وتغير لونه، ونزل من الشدة، فاعتذر إلي ثم قال: كتبت إلى الخليفة قصة؟ فقلت: لا. وعلمت أن ذلك الشيخ كان الخليفة. وقيل: كان يقسم إفطاره كل ليلة ثلاثة أقسام: فقسم كان يتركه بين يديه، وقسم يرسله إلى جامع الرصافة، وقسم يرسله إلى جامع المدينة، يفرق على المقيمين فيهما، فاتفق أن الفراش حمل ليلة الطعام إلى جامع المدينة، ففرقه على الجماعة، فأخذوا، إلا شاباً فإنه رده.
فلما صلوا المغرب خرج الشاب، وتبعه الفراش، فوقف على باب فاستطعم، فأطعموه كسيرات فأخذها وعاد إلى الجامع، فقال له الفراش: ويحك ألا تستحي؟ ينفذ إليك خليفة الله بطعام حلال فترده وتخرج وتأخذ من الأبواب! فقال: والله ما رددته إلا لأنك عرضته علي قبل المغرب، وكنت غير محتاج إليه، فلما احتجت طلبت، فعاد الفراش فأخبر الخليفة بذلك فبكى وقال له: راع مثل هذا، واغتنم أخذه، وأقم إلى وقت الإفطار. وقال أبو الحسن الأبهري: أرسلني بهاء الدولة إلى القادر بالله في رسالة، فسمعته ينشد: سبق القضاء بكل ما هو كائن، ... والله يا هذا لرزقك ضامن تعنى بما يفنى، وتترك ما به ... تغنى، كأنك للحوادث آمن أوما ترى الدنيا ومصرع أهلها، ... فاعمل ليوم فراقها، يا حائن واعلم بأنك لا أبا لك في الذي ... أصبحت تجمعه لغيرك خازن يا عامر الدنيا أتعمر منزلاً ... لم يبق فيه مع المنية ساكن الموت شيء أنت تعلم أنه ... حق، وأنت بذكره متهاون إن المنية لا تؤامر من أتت ... في نفسه يوما | |
|
| |
الشيخ عودة الشيخ عودة
عدد المساهمات : 1748 تاريخ التسجيل : 28/09/2008 العمر : 74
| موضوع: رد: كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير الأحد فبراير 23, 2014 6:18 am | |
| ذكر الفتنة ببغداد في هذه السنة، في ربيع الأول، تجددت الفتنة ببغداد بين السنة والشيعة. وكان سبب ذلك أن الملقب بالمذكور أظهر العزم على الغزاة، واستأذن الخليفة في ذلك، فأذن له، وكتب له منشور من دار الخلافة، وأعطى علماً، فاجتمع له لفيف كثير، فسار واجتاز بباب الشعير، وطاق الحراني، وبين يديه الرجال بالسلاح، فصاحوا بذكر أبي بكر وعمر، رضي الله عنهما، وقالوا: هذا يوم معاوية، فنافرهم أهل الكرخ ورموهم، وثارت الفتنة، ونهبت دور اليهود لأنهم قيل عنهم إنهم أعانوا أهل الكرخ. فلما كان الغد اجتمع السنة من الجانبين، ومعهم كثير من الأتراك، وقصدوا الكرخ، فأحرقوا وهدموا الأسواق، وأشرف أهل الكرخ على خطة عظيمة. وأنكر الخليفة ذلك إنكاراً شديداً، ونسب إليهم تخريق علامته التي مع الغزاة، فركب الوزير، فوقعت في صدره آجرة، فسقطت عمامته،وقتل من أهل الكرخ جماعة، وأحرق وخرب في هذه الفتنة سوق العروس، وسوق الصفارين، وسوق الأنماط، وسوق الدقاقين، وغيرها، واشتد الأمر، فقتل العامة الكلالكي، وكان ينظر في المعونة، وأحرقوه.
ووقع القتال في أصقاع البلد من جانبيه، وقتل أهل الكرخ، ونهر طابق، والقلائين، وباب البصرة، وفي الجانب الشرقي أهل سوق الثلاثاء، وسوق يحيى، وباب الطاق، والأساكفة، والرهادرة، ودرب سليمان، فقطع الجسر ليفرق بين الفريقين، ودخل العيارون البلد، وكثر الاستقفاء بها والعملات ليلاً ونهاراً. وأظهر الجند كراهة الملك جلال الدولة، وأرادوا قطع خطبته، ففرق فيهم مالاً وحلف لهم فسكنوا، ثم عاودوا الشكوى إلى الخليفة منه، وطلبوا أن يأمر بقطع خطبته، فلم يجبهم إلى ذلك، فامتنع حينئذ جلال الدولة من الجلوس، وضربه النوبة أوقات الصلوات، وانصرف الطبالون لانقطاع الجاري لهم، ودامت هذه الحال إلى عيد الفطر، فلم يضرب بوق، ولا طبل، ولا أظهرت الزينة، وزاد الاختلاط. ثم حدث في شوال فتنة بين أصحاب الأكيسة وأصحاب الخلعان، وهما شيعة، وزاد الشر، ودام إلى ذي الحجة، فنودي في الكرخ بإخراج العيارين، فخرجوا، واعترض أهل باب البصرة قوماً من قم أرادوا زيارة مشهد علي والحسين، عليهما السلام، فقتلوا منهم ثلاثة نفر، وامتنعت زيارة مشهد موسى ابن جعفر. ذكر ملك الروم قلعة أفاميةفي هذه السنة ملك الروم قلعة أفامية بالشام. وسبب ملكها أن الظاهر خليفة مصر سير إلى الشام الدزبري، وزيره، فملكه، وقصد حسان بن المفرج الطائي، فألح في طلبه، فهرب منه، ودخل بلد الروم، ولبس خلعة ملكهم، وخرج من عنده وعلى رأسه علم فيه صليب، ومعه عسكر كثير، فسار إلى أفامية فكبسها، وغنم ما فيها، وسبى أهلها، وأسرهم، وسير الدزبري إلى البلاد يستنفر الناس للغزو. ذكر الوحشة بين بارسطغان وجلال الدولةاجتمع أصاغر الغلمان هذه السنة إلى جلال الدولة، وقالوا له: قد هلكنا فقراً وجوعاً، وقد استبد القواد بالدولة والأموال عليك وعلينا، وهذا بارسطغان ويلدرك قد أفقرانا وأفقراك أيضاً. فلما بلغهما ذلك امتنعا من الركوب إلى جلال الدولة، واستوحشا، وأرسل إليهما الغلمان يطالبونهما بمعلومهم، فاعتذرا بضيق أيديهما عن ذلك، وسارا إلى المدائن. فندم الأتراك على ذلك، وأرسل إليهما جلال الدولة إلى أن نهبوا من داره فرشاً، وآلات، ودواب، وغير ذلك، فركب وقت الهاجرة إلى دار الخلافة، ومعه نفر قليل من الركابية والغلمان وجمع كثير من العامة وهو سكران، فانزعج الخليفة من حضوره، فلما علم الحال أرسل إليه يأمره بالعود إلى داره، ويطيب قلبه، فقبل قربوس سرجه، ومسح حائط الدار بيده وأمرها على وجهه، وعاد إلى داره والعامة معه. ذكر عدة حوادثفي هذه السنة قبل قاضي القضاة أبو عبيد الله بن ماكولا شهادة أبي الفضل محمد بن عبد العزيز بن الهادي، والقاضي أبي الطيب الطبري، وأبي الحسين ابن المهتدي، وشهد عنده أبو القاسم بن بشران، وكان قد ترك الشهادة قبل ذلك. وفيها فوض مسعود بن محمود بن سبكتكين إمارة الري، وهمذان، والجبال إلى تاش فراش، وكتب له إلى عامل نيسابور بإنفاق الأموال على حشمه، ففعل ذلك وسار إلى عمله، وأساء السيرة فيه. وفيها، في رجب، أخرج الملك جلال الدولة دوابه من الإصطبل، وهي خمس عشرة دابة، وسيبها في المديان بغير سائس، ولا حافظ، ولا علف، فعل ذلك لسببين: أحدهما عدم العلف، والثاني أن الأتراك كانوا يلتمسون دوابه، ويطلبونها كثيراً، فضجر منهم، فأخرجها وقال: هذه دوابي منها: خمس لمركوبي، والباقي لأصحابي، ثم صرف حواشيه، وفراشيه، وأتباعه، وأغلق باب داره لانقطاع الجاري له، فثارت لذلك فتنة بين العامة والجند، وعظم الأمر، وظهر العيارون. وفيها عزل عميد الدولة وزير جلال الدولة، ووزر بعده أبو الفتح محمد ابن الفضل بن أردشير، فبقي أياماً، ولم يستقم أمره، فعزل، ووزر بعده أبو إسحاق إبراهيم بن أبي الحسين، وهو ابن أخي أبي الحسين السهلي، وزير مأمون صاحب خوارزم، فبقي في الوزارة خمسة وخمسين يوماً وهرب. وفيها توفي عبد الوهاب بن علي بن نصر أبو نصر الفقيه المالكي بمصر، وكان ببغداد، ففارقها إلى مصر عن ضائقة، فأغناه المغاربة. ثم دخلت سنة ثلاث وعشرين وأربعمائة ذكر وثوب الأجناد بجلال الدولة وإخراجه من بغداد
في هذه السنة، في ربيع الأول، تجددت الفتنة بين جلال الدولة وبين الأتراك، فأغلق بابه، فجاءت الأتراك ونهبوا داره، وسلبوا الكتاب وأرباب الديوان ثيابهم، وطلبوا الوزير أبا إسحاق السهلي، فهرب إلى حلة كمال الدولة غريب بن محمد، وخرج جلال الدولة إلى عكبرا في شهر ربيع الآخر، وخطب الأتراك ببغداد للملك أبي كاليجار، وأرسلوا إليه يطلبونه وهو بالأهواز، فمنعه العادل بن مافنة عن الإصعاد إلى أن يحضر بعض قوادهم. فلما رأوا امتناعه من الوصول إليهم، أعادوا خطبة جلال الدولة، وساروا إليه، وسألوه العود إلى بغداد، واعتذروا، فعاد إليها بعد ثلاثة وأربعين يوماً، ووزر له أبو القاسم بن ماكولا، ثم عزل، ووزر بعده عميد الدولة أبو سعد ابن عبد الرحيم، فبقي وزيراً أياماً ثم استتر. وسبب ذلك أن جلال الدولة تقدم إليه بالقبض على أبي المعمر إبراهيم بن الحسين البسامي، طمعاً في ماله، فقبض عليه، وجعله في داره، فثار الأتراك وأرادوا منعه، وقصدوا دار الوزير، وأخذوه وضربوه، وأخرجوه من داره حافياً، ومزقوا ثيابه، وأخذوا عمامته وقطعوها، وأخذوا خواتيمه من يده، فدميت أصابعه، وكان جلال الدولة في الحمام، فخرج مرتاعاً، فركب وظهر لينظر ما الخبر، فأكب الوزير يقبل الأرض، ويذكر ما فعل به، فقال جلال الدولة: أنا ابن بهاء الدولة، وقد فعل بي أكثر من هذا، ثم أخذ من البسامي ألف دينار وأطلقه، واختفى الوزير. ذكر انهزام علاء الدولة بن كاكويه من عسكر مسعود بن محمود بن سبكتكينقد ذكرنا انهزام علاء الدولة أبي جعفر من الري ومسيره عنها، فلما وصل إلى قلعة فردجان أقام بها لتندمل جراحه، ومعه فرهاذ بن مرداويج، وكان قد جاءه مدداً له، وتوجهوا منها إلى بروجرد، فسير تاش فراش مقدم عسكر خراسان إلى علاء الدولة، واستعمل عليهم علي بن عمران، فسار يقص أثر علاء الدولة، فلما قارب بروجرد صعد فرهاذ إلى قلعة سليموه، ومضى أبو جعفر إلى سابور خواست، ونزل عند الأكراد الجوزقان. وملك عسكر خراسان بروجرد، وراسل فرهاذ الأكراد الذي مع علي ابن عمران، واستمالهم، فصاروا معه، وأرادوا أن يفتكوا بعلي، وبلغه الخبر فركب ليلاً في خاصته وسار نحو همذان، ونزل في الطريق بقرية تعرف بكسب، وهي منيعة، فاستراح فيها، فلحقه فرهاذ وعسكره والأكراد الذين صاروا معه وحصروه في القرية، فاستسلم وأيقن بالهلاك، فأرسل الله تعالى ذلك اليوم مطراً وثلجاً، فلم يمكنهم المقام عليه لأنهم كانوا جريدة بغير خيام ولا آلة شتاء، فرحلوا عنه، وراسل علي بن عمران الأمير تاش فراش يستنجده ويطلب العسكر إلى همذان، ثم اجتمع فرهاذ وعلاء الدولة ببروجرد، واتفقا على قصد همذان، وسير علاء الدولة إلى أصبهان، وبها ابن أخيه، يطلبه، وأمره بإحضار السلاح والمال، ففعل وسار. فبلغ خبره علي بن عمران، فسار إليه من همذان جريدة، فكبسه بجرباذقان، وأسره واسر كثيراً من عسكره، وقتل منهم، وغنم ما معه من سلاح ومال غير ذلك. ولما سار علي عن همذان دخلها علاء الدولة، وملكها ظناً منه أن علياً سار منهزماً، وسار علاء الدولة من همذان إلى كرج، فأتاه خبر ابن أخيه ففت في عضده. وكان علي بن عمران قد سار بعد الوقعة إلى أصبهان طامعاً في الاستيلاء عليها، وعلى مال علاء الدولة وأهله، فتعذر عليه ذلك، ومنعه أهلها والعسكر الذي فيها، فعاد عنها، فلقيه علاء الدولة وفرهاذ، فاقتتلوا، فانهزم منهما، واخذا ما معه من الأسرى، إلا أبا منصور ابن أخي علاء الدولة، فإنه كان قد سيره إلى تاش فراش، وسار علي من المعركة منهزماً نحو تاش فراش، فلقيه بكرج فعاتبه على تأخره عنه، واتفقا على المسير إلى علاء الدولة وفرهاذ، وكان قد نزل بجبل عند بروجرد متحصناً فيه، فافترق تاش وعلي وقصداه من جهتين: إحداهما من خلفه، والأخرى من الطريق المستقيم، فلم يشعر إلا وقد خالطه العسكر، فانهزم علاء الدولة وفرهاذ، وقتل كثير من رجالهما، فمضى علاء الدولة إلى أصبهان، وصعد فرهاذ إلى قلعة سليموه فتحصن بها. ذكر عدة حوادثفي هذه السنة توفي قدرخان ملك الترك بمار وراء النهر. وفيها ورد أحمد بن محمد المنكدري الفقيه الشافعي رسولاً من مسعود ابن سبكتكين إلى القائم بأمر الله معزياً له بالقادر بالله.
وفيها نقل تابوت القادر بالله إلى المقبرة بالرصافة، وشهده الخلق العظيم، وحجاج خراسان، وكان يوماً مشهوداً. وفيها كان بالبلاد غلاء شديد، واستسقى الناس فلم يسقوا، وتبعه وباء عظيم، وكان عاماً في جميع البلاد بالعراق، والموصل، والشام، وبلد الجبل، وخراسان، وغزنة، والهند، وغير ذلك، وكثر الموت، فدفن في أصبهان، في عدة أيام، أربعون ألف ميت، وكثر الجدري في الناس، فأحصي بالموصل أنه مات به أربعة آلاف صبي، ولم تخل دار من مصيبة لعموم المصائب، وكثرة الموت، وممن جدر القائم بأمر الله وسلم. وفيها جمع نائب نصر الدولة بن مروان بالجزيرة جمعاً ينيف على عشرة آلاف رجل، وغزا من يقاربه من الأرمن، وأوقع بهم، وأثخن فيهم، وغنم وسبى كثيراً، وعاد ظافراً منصوراً. وفيها كان بن أهل تونس من إفريقية خلف، فسار المعز بن باديس إليهم بنفسه، فأصلح بينهم، وسكن الفتنة وعاد. وفيها اجتمع ناس كثير من الشيعة بإفريقية، وساروا إلى أعمال نفطة، فاستولوا على بلد منها وسكنوه، فجرد إليهم المعز عسكراً، فدخلوا البلاد وحاربوا الشيعة وقتلوهم أجمعين. وفيها خرجت العرب على حاج البصرة ونهبوهم، وحج الناس من سائر البلاد إلا من العراق. وفيها توفي أبو الحسن بن رضوان المصري، النحوي، في رجب. وفيها قتل الملك أبو كاليجار صندلاً الخصي، وكان قد استولى على المملكة، وليس لأبي كاليجار معه غير الاسم. وفيها توفي علي بن أحمد بن الحسن بن محمد بن نعيم أبو الحسن النعيمي البصري، حدث عن جماعة، وكان حافظاً، شاعراً، فقيهاً على مذهب الشافعي. ثم دخلت سنة أربع وعشرين وأربعمائة ذكر عود مسعود إلى غزنة والفتن بالري وبلد الجبل في هذه السنة، في رجب، عاد الملك مسعود بن سبكتكين من نيسابور إلى غزنة وبلاد الهند. وكان سبب ذلك أنه لما كان قد استقر له الملك بعد أبيه أقر بما كان قد فتحه أبوه من الهند نائباً يسمى أحمد ينالتكين، وقد كان أبوه محمد استنابه بها ثقة بجلده ونهضته، فرست قدمه فيها، وظهرت كفايته. ثم إن مسعوداً بعد فراغه من تقرير قواعد الملك، والقبض على عمه يوسف والمخالفين له، سار إلى خراسان عازماً على قصد العراق، فلما أبعد عصى ذلك النائب بالهند، فاضطر مسعود إلى العود، فأرسل إلى علاء الدولة بن كاكويه وأمره على أصبهان بقرار يؤديه كل سنة، وكان علاء الدولة قد أرسل يطلب ذلك، فأجابه إليه، وأقر ابن قابوس بن وشمكير على جرجان وطبرستان على مال يؤديه إليه، وسير أبا سهل الحمدوني إلى الري للنظر في أمور هذه البلاد الجبلية، والقيام بحفظها، وعاد إلى الهند، فأصلح الفاسد، وأعاد المخالف إلى طاعته، وفتح قلعة حصينة تسمى سرستي، على ما نذكره، وقد كان أبوه حصرها غير مرة فلم يتهيأ له فتحها. ولما سار أبو سهل إلى الري أحسن الناس، وأظهر العدل، فأزال الأقساط والمصادرات، وكان تاش فراش قد ملأ البلاد ظلماً وجوراً، حتى تمنى الناس الخلاص منهم ومن دولتهم، وخربت البلاد، وتفرق أهلها، فلما ولي الحمدوني، وأحسن، وعدل، عادت البلاد فعمرت، والرعية أمنت، وكان الإرجاف شديداً بالعراق، لما كان الملك مسعود بنيسابور، فلما عاد سكن الناس واطمأنوا. ذكر ظفر مسعود بصاحب ساوة وقتلهفيها قبض عسكر السلطان مسعود بن محمود على شهريوش بن ولكين، فأمر به مسعود فقتل وصلب على سور ساوة. وكان سبب ذلك أن شهريوش كان صاحب ساوة وقم وتلك النواحي، فلما اشتغل مسعود بأخيه محمد بعد موت والده جمع شهريوش جمعاً وسار إلى الري محاصراً لها، فلم يتم ما أراده، وجاءت العساكر فعاد عنها. ثم في هذه السنة اعترض الحجاج الواردين من خراسان، وعمهم أذاه، وأخذ منهم ما لم تجر عادة، وأساء إليهم، وبلغ ذلك إلى مسعود، فتقدم إلى تاش فراش، وإلى أبي الطيب طاهر بن عبد الله خليفته معه، يطلب شهريوش وقصده أين كان، واستنفاد الوسع في قتاله، فسارت العساكر في أثره، فاحتمى بقلعة تقارب قم تسمى فستق، وهي حصينة، عالية المكان، وثيقة البنيان، فأحاطوا به وأخذوه، وكتبوا إلى مسعود في أمره، فأمرهم بصلبه على سور ساوة. ذكر استيلاء جلال الدولة على البصرة وخروجها عن طاعته في هذه السنة سارت عساكر جلال الدولة مع ولده الملك العزيز فدخلوا البصرة في جمادى الأولى.
وكان سبب ذلك أن بختيار متولي البصرة تولى فقام بعد ظهير الدين أبو القاسم خال ولده لجلد كان فيه، وكفاية، وهو في طاعة الملك أبي كاليجار، ودام كذلك، فقيل لأبي كاليجار: إن أبا القاسم ليس لك من طاعته غير الاسم، ولو رمت عزله لتعذر عليك. وبلغ ذلك ابا القاسم، فاستعد للامتناع، وأرسل أبو كاليجار إليه ليعزله فامتنع، وأظهر طاعة جلال الدولة، وخطب له، وأرسل إلى ابنه، وهو بواسط، يطلبه، فانحدر إليه في عساكر أبيه التي كانت معه بواسط، ودخلوا البصرة مع أبي القاسم إلى أن دخلت سنة خمس وعشرين وليس له معه أمر، والحكم إلى أبي القاسم. ثم إنه أراد القبض على بعض الديلم، فهرب ودخل دار الملك العزيز مستجيراً، فاجتمع الديلم إليه، وشكوا من أبي القاسم، فصادفت شكواهم صدراً موغراً حنقاً عليه لسوء صحبته، فأجابهم إلى ما أرادوه من إخراجه عن البصرة، واجتمعوا، وعلم أبو القاسم بذلك، فامتنع بالأبلة، وجمع أصحابه، وجرى بين الفريقين حروب كثيرة أجلت عن خروج العزيز عن البصرة وعوده إلى واسط، وعود أبي القاسم إلى طاعة أبي كاليجار. ذكر إخراج جلال الدولة من دار المملكة وإعادته إليها في هذه السنة، في رمضان، شغب الجند على جلال الدولة، وقبضوا عليه، ثم أخرجوه من داره، ثم سألوه ليعود إليها فعاد. وسبب ذلك أنه استقدم الوزير أبا القاسم من غير أن يعلموا، فلما قدم ظنوا أنه إنما ورد للتعرض إلى أموالهم ونعمهم، فاستوحشوا واجتمعوا إلى داره وهجموا عليه، وأخرجوه إلى مسجد هناك، فوكلوا به فيه، ثم إنهم أسمعوه ما يكره، ونهبوا بعض ما في داره، فلما وكلوا به جاء بعض القواد في جماعة من الجند، ومن انضاف إليه من العامة والعيارين، فأخرجه من المسجد وأعاده إلى داره، فنقل جلال الدولة ولده وحرمه وما بقي له إلى الجانب الغربي، وعبر هو في الليل إلى الكرخ، فلقيه أهل الكرخ بالدعاء، فنزل بدار المرتضى، وعبر الوزير أبو القاسم معه. ثم إن الجند اختلفوا، فقال بعضهم: نخرجه من بلادنا ونملك غيره. وقال بعضهم: ليس من بني بويه غير وغير أبي كاليجار، وذلك قد عاد إلى بلاده، ولا بد من مداراة هذا. فأرسلوا إليه يقولون له: نريد أن تنحدر عنا إلى واسط، وأنت ملكنا، وتترك عندنا بعض أولادك الأصاغر. فأجابهم إلى ذلك، وأرسل سراً إلى الغلمان الأصاغر فاستمالهم، إلى كل واحد من الأكابر، وقال: إنما أثق بك، وأسكن إليك، واستمالهم أيضاً، فعبروا إليه، وقبلوا الأرض بين يديه، وسألوه العود إلى دار الملك، فعاد، وحلف لهم على إخلاص النية، والإحسان إليهم، وحلفوا له على المناصحة، واستقر في داره. ذكر عدة حوادثفي هذه السنة توفي الوزير أحمد بن الحسن الميمندي، وزير مسعود بن سبكتكين، ووزر بعده أبو نصر أحمد بن علي بن عبد الصمد، وكان وزير هارون التونتاش، صاحب خوارزم، ووزر بعده لهارون ابنه عبد الجبار. وفيها ثار العيارون ببغداد، وأخذوا أموال الناس ظاهراً، وعظم الأمر على أهل البلد، وطمع المفسدون إلى حد أن بعض القواد الكبار أخذ أربعة من العيارين، فجاء عقيدهم وأخذ من اصحاب القائد أربعة، وحضر باب داره ودق عليه الباب، فكلمه من داخل، فقال العقيد: قد أخذت من أصحابك أربعة، فإن أطلقت من عندك أطلقت من عندي، وإلا قتلتهم، وأحرقت دارك! فأطلقهم القائد. وفيها تأخر الحاج من خراسان. وفيها خرج حجاج البصرة بخفير، فغدر بهم ونهبهم.وفيها، في جمادى الأولى، توفي أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن البيضاوي، الفقيه الشافعي، عن نيف وثمانين سنة. وفيها، في شوال، توفي أبو الحسن بن السماك القاضي عن خمس وتسعين سنة. ثم دخلت سنة خمس وعشرين وأربعمائة ذكر فتح قلعة سرستي وغيرها من بلد الهند في هذه السنة فتح السلطان مسعود بن محمود بن سبكتكين قلعة سرستي وما جاورها من بلد الهند. وكان سبب ذلك ما ذكرناه من عصيان نائبه بالهند أحمد ينالتكين عليه ومسيره إليه فلما عاد أحمد إلى طاعته أقام بتلك البلاد طويلاً حتى أمنت واستقرت، وقصد قلعة سرستي، وهي من أمنع حصون الهند وأحصنها، فحصرها، وقد كان أبوه حصرها غير مرة، فلم يتهيأ له فتحها، فلما حصرها مسعود راسله صاحبها، وبذل له مالاً على الصلح، فأجابه إلى ذلك.
وكان فيها قوم من التجار المسلمين، فعزم صاحبها على أخذ أموالهم وحملها إلى مسعود من جملة القرار عليه، فكتب التجار رقعة في نشابة ورموا إليه يعرفونه فيها ضعف الهنود بها، وأنه إن صابرهم ملكهم فرجع عن الصلح إلى الحرب، وطم خندقها بالشجر وقصب السكر وغيره، وفتح الله عليه، وقتل كل من فيها، سبى ذراريهم، وأخذ ما جاورها من البلاد، وكان عازماً على طول المقام والجهاد، فأتاه من خراسان خبر الغز، فعاد، على ما نذكره إن شاء الله تعالى. ذكر حصر قلعة بالهند أيضاً لما ملك مسعود قلعة سرستي رحل عنها إلى قلعة نغسى، فوصل إليها عاشر صفر، وحصرها فرآها عالية لا ترام، يرتد البصر دونها وهو حسير، إلا أنه أقام عليها يحصرها، فخرجت عجوز ساحرة، فتكلمت باللسان الهندي طويلاً، وأخذت مكنسة فبلتها بالماء ورشته منها إلى جهة عسكر المسلمين، فمرض وأصبح ولا يقدر أن يرفع رأسه، وضعفت قوته ضعفاً شديداً، فرحل عن القلعة لشدة المرض، فحين فارقها زال ما كان به، وأقبلت الصحة والعافية إليه، وسار نحو غزنة. ؟؟ ذكر الفتنة بنيسابور لما اشتد أمر الأتراك بخراسان، على ما نذكره، تجمع كثير من المفسدين وأهل العيث والشر، وكان أول من أثار الشر أهل أبيورد وطوس، واجتمع معهم خلق كثير، وساروا إلى نيسابور لينهبوها، وكان الوالي عليها قد سار عنها إلى الملك مسعود، فخافهم خوفاً عظيماً، وأيقنوا بالهلاك. فبينما هم يترقبون البوار والاستئصال، وذهاب الأنفس والأموال، إذ وصل إليهم أمير كرمان في ثلاثمائة فارس، قدم متوجهاً إلى مسعود أيضاً، فاستغاث به المسلمون، وسألوه أن يقيم عندهم ليكف عنهم الأذى، فأقام عليهم، وقاتل معهم، وعظم الأمر، واشتدت الحرب، وكان الظفر له ولأهل نيسابور، فانهزم أهل طوس وأبيورد ومن تبعهم، وأخذتهم السيوف من كل جانب، وعمل بهم أمير كرمان أعمالاً عظيمة، وأثخن فيهم، وأسر كثيراً منهم، وصلبهم على الأشجار وفي الطرق، فقيل إنه عدم من أهل طوس عشرون ألف رجل. ثم إن أمير كرمان أحضر زعماء قرى طوس، وأخذ أولادهم وإخوانهم وغيرهم من أهليهم رهائن، فأودعهم السجون، وقال: إن اعترض منكم واحد إلى أهل نيسابور أو غيرهم، أو قطع طريقاً، فأولادكم، وإخوانكم، ورهائنكم مأخوذون بجناياتكم. فسكن الناس، وفرج الله عن أهل نيسابور بما لم يكن في حسابهم. ذكر الحرب بين علاء الدولة وعسكر خراسانفي هذه السنة اجتمع علاء الدولة بن كاكويه وفرهاذ بن مرداويج، واتفقا على قتال عسكر مسعود بن محمود بن سبكتكين، وكانت العساكر قد خرجت من خراسان مع أبي سهل الحمدوني، فالتقوا واقتتلوا قتالاً شديداً صبر فيه الفريقان، ثم انهزم علاء الدولة، وقتل فرهاذ، واحتمى علاء الدولة بجبال بين أصبهان وجرباذقان، ونزل عسكر مسعود بكرج. وأرسل أبو سهل إلى علاء الدولة يقول له ليبذل المال، ويراجع الطاعة ليقره على ما بقي من البلاد، ويصلح حاله مع مسعود. فترددت الرسل، فلم يستقر بينهم أمر فسار أبو سهل إلى أصبهان فملكها، وانهزم علاء الدولة من بين يديه لما خاف الطلب إلى إيذج، وهي للملك أبي كاليجار. ولما استولى أبو سهل على أصبهان نهب خزائن علاء الدولة وأمواله، وكان أبو علي بن سينا في خدمة علاء الدولة، فأخذت كتبه حملت إلى غزنة فجعلت في خزائن كتبها إلى أن أحرقها عساكر الحسين بن الحسين الغوري، على ما نذكره إن شاء الله تعالى. ذكر الحرب بين نور الدولة دبيس وأخيه ثابتفي هذه السنة كانت حرب شديدة بين دبيس بن علي بن مزيد وأخيه أبي قوام ثابت بن علي بن مزيد. وسبب ذلك أن ثابتاً كان يعتضد بالبساسيري ويتقرب إليه، فلما كان سنة أربع وعشرين وأربعمائة سار البساسيري معه إلى قتال أخيه دبيس، فدخلوا النيل واستولوا عليه وعلى أعمال نور الدولة، فسير نور الدولة إليهم طائفة من أصحابه، فقاتلوهم فانهزموا، فلما رأى دبيس هزيمة أصحابه سار عن بلده، وبقي ثابت فيه إلى الآن، فاجتمع دبيس وأبو المغرا عنازا ابن المغرا، وبنو أسد وخفاجة، وأعانه ابو كامل منصور بن قراد، وساروا جريدة لإعادة دبيس إلى بلده وأعماله، وتركوا حللهم بين خصاوحربى.
فلما ساروا لقيهم ثابت عند جرجرايا، وكانت بينهم حرب قتل فيها جماعة من الفريقين، ثم تراسلوا واصطلحوا ليعود دبيس إلى أعماله، ويقطع أخاه ثابتاً إقطاعاً، وتحالفوا على ذلك، وسار البساسيري نجدة لثابت، فلما وصل إلى النعمانية سمع بصلحهم، فعاد إلى بغداد. ذكر ملك الروم قلعة بركويهذه قلعة متاخمة للأرمن في يد أبي الهيجاء بن ربيب الدولة، ابن أخت وهسوذان بن مملان، فتنافر هو وخاله، فأرسل خاله إلى الروم فأطمعهمم فيها، فسير الملك إليها جمعاً كثيراً فملكوها، فبلغ الخبر إلى الخليفة، فأرسل إلى أبي الهيجاء وخاله من يصلح بينهما ليتفقا على استعادة القلعة، فاصطلحا، ولم يتمكنا من استعادتها، واجتمع إليهما خلق كثير من المتطوعة، فلم يقدروا على ذلك لثبات قدم الروم بها. ذكر عدة حوادثفي هذه السنة استوزر جلال الدولة عميد الدولة أبا سعد بن عبد الرحيم، وهي الوزارة الخامسة، وكان قبله في الوزارة ابن ماكولا، ففارقها وسار إلى عكبرا، فرده جلال الدولة إلى الوزارة، وعزل أبا سعد، فبقي أياماً، ثم فارقها إلى أوانا. وفيها استخلف البساسيري في حماية الجانب الغربي ببغداد لأن العيارين اشتد أمرهم وعظم فسادهم، وعجز عنهم نواب السلطان، فاستعملوا البساسيري لكفايته ونهضته. وفيها توفي أبو سنان غريب بن محمد بن مقن في شهر ربيع الآخر، في كرخ سامرا، وكان يلقب سيف الدولة، وكان قد ضرب دراهم سماها السيفية، وقام بالأمر بعده ابنه أبو الريان، وخلف خمسمائة ألف دينار، وأمر فنودي :قد أحللت كل من لي عنده شيء فحللوني كذلك، فحللوه، وكان عمره سبعين سنة. وفيها توفي بدران بن المقلد، وقصد ولده عمه قرواشاً، فأقر عليه حاله وماله وولاية نصيبين، وكان بنو نمير قد طمعوا فيها وحصروها، فسار إليهم ابن بدران فدفعهم عنها. وفيها توفي أرمانوس ملك الروم، وملك بعده رجل صيرفي ليس من بيت الملك، وإنما بنت قسطنطين اختارته. وفيها كثرت الزلازل بمصر والشام، وكان أكثرها بالرملة، فإن أهلها فارقوا منازلهم عدة أيام، وانهدم منها نحو ثلثها، وهلك تحت الهدم خلق كثير. وفيها كان بإفريقية مجاعة شديدة وغلاء. وفيها قبض قرواش على البرجمي العيار وغرقه، وكان سبب ذلك أن قرواشاً قبض على ابن القلعي عامل عكبرا، فحضر البرجمي العيار عند قرواش مخاطباً في أمره لمودة بينهما، فأخذه قرواش وقبض عليه، فبذل مالاً كثيراً ليطلقه، فلم يفعل وغرقه، وكان هذا البرجمي قد عظم شأنه وزاد شره، وكبس عدة مخازن بالجانب الشرقي، وكبس دار المرتضى، ودار ابن عديسة، وهي مجاورة دار الوزير، وثار العامة بالخطيب يوم الجمعة، وقالوا: إما أن تخطب للبرجمي، وإلا فلا تخطب لسلطان ولا غيره، وأهلك الناس ببغداد، وحكاياته كثيرة، وكان مع هذا فيه فتوة، وله مروءة، لم يعرض إلى امرأة، ولا إلى من يستسلم إليه. وفيها هبت ريح سوداء بنصيبين فقلعت من بساتينها كثيراً من الأشجار، وكان في بعض البساتين قصر مبني بجص وآجر وكلس، فقلعته من أصله. وفيها كثر الموت بالخوانيق في كثير من بلاد العراق، والشام، والموصل، وخوزستان، وغيرها حتى كانت الدار يسد بابها لموت أهلها. وفيها، في ذي القعدة انقض كوكب هال منظره الناس، وبعد بليلتين انقض شهاب آخر أعظم منه كأنه البرق ملاصق الأرض، وغلب على ضوء المشاعل، ومكث طويلاً حتى غاب أثره. وفيها توفي أبو العباس الأيبوردي، الفقيه الشافعي، قاضي البصرة، وأبو بكر محمد بن أحمد بن غالب البرقاني، المحدث، الإمام المشهور، وكانت وفاته في رجب، والحسين بن عبد الله بن يحيى أبو علي البندنيجي، الفقيه الشافعي، وهو من أصحاب أبي حامد الأسفراييني، وعبد الوهاب بن عبد العزيز بن الحارث بن أسد أبو الفرج التميمي الفقيه الحنبلي. ثم دخلت سنة ست وعشرين وأربعمائة | |
|
| |
الشيخ عودة الشيخ عودة
عدد المساهمات : 1748 تاريخ التسجيل : 28/09/2008 العمر : 74
| موضوع: رد: كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير الأحد فبراير 23, 2014 6:20 am | |
| ذكر حال الخلافة والسلطنة ببغداد في هذه السنة انحل أمر الخلافة والسلطنة ببغداد، حتى إن بعض الجند خرجوا إلى قرية يحيى، فلقيهم أكراد، فأخذوا دوابهم، فعادوا إلى قراح الخليفة القائم بأمر الله، فنهبوا شيئاً من ثمرته، وقالوا للعمالين فيه: أنتم عرفتم حال الأكراد ولم تعلمونا.
فسمع الخليفة الحال، فعظم عليه، ولم يقدر جلال الدولة على أخذ أولئك الأكراد لعجزه ووهنه، واجتهد في تسليم الجند إلى نائب الخليفة، فلم يمكنه ذلك، فتقدم الخليفة إلى القضاة بترك القضاء والامتناع عنه، وإلى الشهود بترك الشهادة، وإلى الفقهاء بترك الفتوى. فلما رأى جلال الدولة ذلك سأل أولئك الأجناد ليجيبوه إلى أن يحملهم إلى ديوان الخلافة، ففعلوا، فلما وصلوا إلى دار الخلافة أطلقوا، وعظم أمر العيارين، وصاروا يأخذون الأموال ليلاً ونهاراً، ولا مانع لهم لأن الجند يحمونهم على السلطان ونوابه، والسلطان عاجز عن قهرهم، وانتشر العرب في البلاد فنهبوا النواحي، وقطعوا الطريق، وبلغوا إلى أطراف بغداد، حتى وصلوا إلى جامع المنصور، وأخذوا ثياب النساء في المقابر. ذكر إظهار أحمد ينالتكين العصيان وقتلهفي سنة خمس وعشرين عاد مسعود بن محمود من الهند لقتال الغز، كما ذكرناه، فعاد أحمد ينالتكين إلى إظهار العصيان ببلاد الهند، وجمع الجموع، وقصد البلاد بالأذى، فسير إليه مسعود جيشاً كثيفاً، وكانت ملوك الهند تمنعه من الدخول إلى بلادهم، وسد منافذ هربه. ولما وصل الجيش المنفذ إليه قاتلهم، فانهزم ومضى هارباً إلى الملتان، وقصد بعض ملوك الهند بمدينة بهاطية ومعه جمع كثير من عساكره الذين سلموا، فلم يكن لذلك الملك قدرة على منعه، وطلب منه سفناً ليعبر نهر السند، فأحضره له السفن. وكان في وسط النهر جزيرة ظنها أحمد ومن معه متصلة بالبر من الجانب الآخر، ولم يعلموا أن الماء محيط بها، فتقدم ملك الهند إلى أصحاب السفن بإنزالهم في الجزيرة والعود عنهم، ففعلوا ذلك، وبقي أحمد ومن معه فيها وليس معهم طعام إلا ما معهم، فبقوا بها تسعة أيام، ففني زادهم، وأكلوا دوابهم، وضعفت قواهم، فأرادوا خوض الماء فلم يتمكنوا منه لعمقه وشدة الوحل فيه، فعبر الهند إليهم عسكرهم في السفن، وهم على تلك الحال، فأوقعوا بهم وقتلوا أكثرهم، وأخذوا ولداً لأحمد أسيراً، فلما رآه أحمد على تلك الحال قتل نفسه، واستوعب أصحابه القتل والأسر والغرق. ذكر ملك مسعود جرجان وطبرستانكان الملك مسعود قد أقر دارا بن منوجهر بن قابوس على جرجان وطبرستان وتزوج أيضاً بابنة أبي كاليجار القوهي، مقدم جيش دارا، واقيم بتدبير أمره استمالة. فلما سار إلى الهند منعوا ما كان استقر عليهم من المال، وراسلوا علاء الدولة بن كاكويه وفرهاذ بالاجتماع على العصيان والمخالفة، وقوي عزمهم على ذلك ما بلغهم من خروج الغز بخراسان. فلما عاد مسعود من الهند وأجلى الغز وهزمهم سار إلى جرجان فاستولى عليها وملكها، وسار إلى آمل طبرستان، وقد فارقها أصحابها، واجتمعوا بالغياض والأشجار الملتفة، الضيقة المدخل ، الوعرة المسلك، فسار إليهم واقتحمها عليهم فهزمهم وأسر منهم وقتل، ثم راسله دارا وأبو كاليجار وطلبوا منه العفو وتقرير البلاد عليهم، فأجابهم إلى ذلك، وحملوا من الأموال ما كان عليهم، وعاد إلى خراسان. ذكر مسير ابن وثاب والروم إلى بلد ابن مروانفيها جمع ابن وثاب النميري جمعاً كثيراً من العرب وغيرهم، واستنجد من بالرها من الروم، فسار معه منهم جيش كثيف، وقصد بلد نصر الدولة بن مروان، ونهب وأخرب. فجمع ابن مروان جموعه وعساكره واستمد قرواشاً وغيره، وأتته الجنود من كل ناحية، فلما رأى ابن وثاب ذلك وأنه لا يتم له غرض عاد عن بلاده. وأرسل ابن مروان إلى ملك الروم يعاتبه على نقض الهدنة وفسخ الصلح الذي كان بينهما، وراسل أصحاب الأطراف يستنجدهم للغزاة، فكثر جمعه من الجند والمتطوعة، وعزم على قصد الرها ومحاصرتها، فوردت رسل ملك الروم يعتذر، ويحلف أنه لم يعلم بما كان، وأرسل إلى عسكره الذين بالرها والمقدم عليهم ينكر ذلك، وأهدى إلى نصر الدولة هدية سنية، فترك ما كان عازماً عليه من الغزو، وفرق العساكر المجتمعة عنده. ذكر عدة حوادثفيها خرج أبو سعد، وزير جلال الدولة، إلى أبي الشوك مفارقاً للوزارة، ووزر بعده أبو القاسم، وكثرت مطالبات الجند، فهرب، فأخرج وحمل إلى دار المملكة مكشوف الرأس في قميص خفيف، وكانت وزارته هذه شهرين وثمانية أيام، وعاد أبو سعد بن عبد الرحيم إلى الوزارة.
وفيها، في ذي الحجة، وثب الحسن بن أبي البركات بن ثمال الخفاجي بعمه علي بن ثمال أمير بني خفاجة، فقتله، وقام بإمارة بني خفاجة. وفيها جمعت الروم وسارت إلى ولاية حلب، فخرج إليهم صاحبها شبل الدولة بن صالح بن مرداس، فتصافوا واقتتلوا، فانهزمت الروم، وتبعهم إلى عزاز، وغنم غنائم كثيرة وعاد سالماً. وفيها قصدت خفاجة الكوفة، ومقدمهم الحسن بن أبي البركات بن ثمال، فنهبوها، وأرادوا تخريبها، ومنعوا النخل من الماء فهلك أكثره. وفيها هرب الزكي أبو علي النهرسابسي من محبسه، وكان قرواش قد اعتقله بالموصل، فبقي سنتين إلى الآن، ولم يحج هذه السنة من العراق أحد. وفي هذه السنة توفي أحمد بن كليب، الأديب، الشاعر الأندلسي، وحديثه مع أسلم بن أحمد بن سعيد مشهور، وكان يهواه، فقال فيه: أسلمني في هواه ... أسلم هذا الرشا غزال له مقلة ... يصيب بها من يشا وشى بيننا حاسد ... سيسأل عما وشى ولو شاء أن يرتشي ... على الوصل روحي ارتشى ومات كمداً من هواه. وتوفي في جمادى الأولى منها أحمد بن عبد الملك بن أحمد بن شهيد الأديب الأندلسي، ومن شعره: إن الكريم إذا نالته مخمصة ... أبدى إلى الناس شبعاً، وهو طيان يحني الضلوع على مثل اللظى حرقاً ... والوجه غمر بماء البشر ملآن وله أيضاً: كتبت لها انني عاشق ... على مهرق اللثم بالناظر فردت علي جواب الهوى ... بأحور عن مائه حائر منعمة نطقت بالجفون، ... فدلت على دقة الخاطر كأن فؤادي، إذا أعرضت، ... تعلق في مخلبي طائر وفيها توفي أبو المعالي بن سخطة العلوي النقيب بالبصرة، وأبو محمد بن معية العلوي بها أيضاً، وأبو علي الحسين بن أحمد بن شاذان، المحدث الأشعري مذهباً، وكان مولده ببغداد سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة، وحمزة بن يوسف الجرجاني، وكان من أهل الحديث. ثم دخلت سنة سبع وعشرين وأربعمائة ذكر وثوب الجند بجلال الدولة في هذه السنة ثار الجند ببغداد بجلال الدولة، وأرادوا إخراجه منها، فاستنظرهم ثلاثة أيام، فلم ينظروه، ورموه بالآجر، فأصابه بعضهم، واجتمع الغلمان فردوهم عنه، فخرج من باب لطيف في سميرية متنكراً، وصعد راجلاً منها إلى دار المرتضى بالكرخ، وخرج من دار المرتضى، وسار إلى رافع بن الحسين بن مقن بتكريت، وكسر الأتراك أبواب داره ودخلوها ونهبوها، وقلعوا كثيراً من ساجها وأبوابها، فأرسل الخليفة إليه، وقرر أمر الجند وأعاده إلى بغداد.ز ذكر الحرب بين أبي سهل الحمدوني وعلاء الدولةفي هذه السنة سار طائفة من العساكر الخراسانية التي مع الوزير أبي سهل الحمدوني بأصبهان يطلبون الميرة، فوضع عليهم علاء الدولة من أطعمهم في الامتياز من النواحي القريبة منه، فساروا إليها، ولا يعلمون قربه منهم، فلما أتاه خبرهم خرج إليهم وأوقع بهم وغنم ما معهم. وقوي طمعه بذلك، فجمع جمعاً من الديلم وغيرهم وسار إلى أصبهان، وبها أبو سهل في عساكر مسعود بن سبكتكين، فخرجوا إليه وقاتلوه، فغدر الأتراك بعلاء الدولة، فانهزم ونهب سواده، فسار إلى بروجرد، ومنها إلى الطرم، فلم يقبله ابن السلار، وقال: لا قدرة لي على مباينة الخراسانية، فتركه وسار عنه. ذكر وفاة الظاهر وولاية ابنه المستنصرفي هذه السنة، في منتصف شعبان توفي الظاهر لإعزاز دين الله أبو الحسن علي بن أبي علي المنصور الحاكم، الخليفة العلوي، بمصر، وكان عمره ثلاثاً وثلاثين سنة، وكانت خلافته خمس عشرة سنة وتسعة أشهر وسبعة عشر يوماً، وكان له مصر، والشام، والخطبة له بإفريقية، وكان جميل السيرة، حسن السياسة، منصفاً للرعية، إلا أنه مشتغل بلذاته محب للدعة والراحة، قد فوض الأمور إلى وزيره أبي القاسم علي بن أحمد الجرجرائي لمعرفته بكفايته وأمانته. ولما مات ولي بعده ابنه تميم معد، ولقب المستنصر بالله، ومولده بالقاهرة سنة عشر وأربعمائة، وفي أيامه كانت قصة البساسيري، وخطب له ببغداد سنة خمسين وأربعمائة.
وكان الحاكم في دولته بدر بن عبد الله الجمال الملقب بالأفضل، أمير الجيوش، وكان عادلاً، حسن السيرة. وفي سنة تسع وسبعين وصل الحسن بن الصباح الإسماعيلي في زي تاجر إلى المستنصر بالله، وخاطبه في إقامته الدعوة له بخراسان وبلاد العجم، فأذن له في ذلك، فعاد ودعا إليه سراً، وقال للمستنصر: من إمامي بعدك؟ فقال: ابني نزار. والإسماعيلية يعتقدون إمامة نزار، وسيرد كيف صرف الأمر عنه سنة سبع وثمانين إن شاء الله تعالى. ذكر فتح السويداء وربض الرهافي رجب من هذه السنة اجتمع ابن وثاب وابن عطير، وجمعا، وأمدهما نصر الدولة بن مروان بعسكر كثيف، فساروا جميعهم إلى السويداء، وكان الروم قد أحدثوا عمارتها في ذلك الوقت، واجتمع إليها أهل القرى المجاورة لها، فحصرها المسلمون وفتحوها عنوة، وقتلوا فيها ثلاثة آلاف وخمسمائة رجل، وغنموا ما فيها، وسبوا خلقاً كثيراً، وقصدوا الرها فحصروها، وقطعوا الميرة عنها، حتى بلغ مكوك الحنطة ديناراً، واشتد الأمر، فخرج البطريق الذي فيها متخفياً، ولحق بملك الروم، وعرفه الحال، فسير معه خمسة آلاف فارس، فعاد بهم. فعرف ابن وثاب ومقدم عساكر نصر الدولة الحال، فكمنا لهم، فلما قاربوهم خرج الكمين عليهم، فقتل من الروم خلق كثير، وأسر مثلهم، وأسر البطريق وحمل إلى باب الرها، وقالوا لمن فيها إما أن تفتحوا البلد لنا، وإما قتلنا البطريق والأسرى الذين معه! ففتحوا البلد للعجز عن حفظه، وتحصن أجناد الروم بالقلعة، ودخل المسلمون، وغنموا ما فيها، وامتلأت أيديهم من الغنائم والسبي، وأكثروا القتل، وأرسل ابن وثاب إلى آمد مائة وستين راحلة عليها رؤوس القتلى وأقام محاصراً للقلعة. ثم إن حسان بن الجراح الطائي سار في خمسة آلاف فارس من العرب والروم نجدة لمن بالرها، فسمع ابن وثاب بقربه، فسار إليه مجداً ليلقاه قبل وصوله، فخرج من الرها من الروم إلى حران، فقاتلهم أهلها، وسمع ابن وثاب الخبر فعاد مسرعاً، فوقع على الروم، فقتل منهم كثيراً، وعاد المنهزمون إلى الرها. ذكر غدر السناسنة وأخذ الحاج وإعادة ما أخذوهفي هذه السنة ورد خلق كثير من أذربيجان، وخراسان، وطبرستان، وغيرها من البلاد يريدون الحج، وجعلوا طريقهم على أرمينية وخلاط، فوردوا إلى آني ووسطان، فثار بهم الأرمن من تلك البلاد، وأعانهم السناسنة، وهم من الأرمن أيضاً إلا أنهم لهم حصون منيعة تجاور خلاط، وهم صلح مع صاحب خلاط. ولم تزل هذه الحصون بأيديهم منفردين بها، إلا أنهم متعاهدون إلى سنة ثمانين وخمسمائة، فملكها المسلمون منهم، وأزالوهم عنها، على ما نذكره إن شاء الله تعالى. فلما اتفقوا مع الأرمن من رعية البلاد أخذوا الحاج فقتلوا منهم كثيراً، وأسروا، وسبوا، ونهبوا الأموال، وحملوا ذلك أجمع إلى الروم، وطمع الأرمن في تلك البلاد، فسمع نصر الدولة بن مروان الخبر، فجمع العساكر وعزم على غزوهم، فلما سمعوا ذلك، ورأوا جده فيه، راسله ملك السناسنة، وبذل إعادة جميع ما أخذ أصحابه، وإطلاق الأسرى والسبي، فأجابهم إلى الصلح، وعاد عنهم لحصانة قلاعهم، وكثرة المضايق في بلادهم، ولأنهم بالقرب من الروم، فخاف أن يستنجدوهم ويمتنعوا بهم، فصالحهم. ذكر الحرب بين المعز وزناتةفي هذه السنة اجتمعت زناتة بإفريقية ، وزحفت في خيلها ورجلها يريدون مدينة المنصورة، فلقيهم جيوش المعز بن باديس، صاحبها، بموضع يقال له الجفنة قريب من القيروان، فاقتتلوا قتالاً شديداً، وانهزمت عساكر المعز، ففارقت المعركة، وهم على حامية، ثم عاودوا القتال، وحرض بعضهم بعضاً فصبرت صنهاجة، وانهزمت زناتة هزيمة قبيحة، وقتل منهم عدد كثير، وأسر خلق عظيم، وتعرف هذه الوقعة بوقعة الجفنة، وهي مشهورة لعظمها عندهم. ذكر عدة حوادثفي هذه السنة، في رجب، انقض كوكب عظيم غلب نوره على نور الشمس وشوهد في آخرها مثل التنين يضرب إلى السواد، وبقي ساعة وذهب. وفيها كانت ظلمة عظيمة اشتدت حتى أن إنساناً كان لا يبصر جليسه، وأخذ بأنفاس الخلق، فلو تأخر انكشافها لهلك أكثرهم. وفيها قبض على الوزير أبي سعد بن عبد الرحيم، وزير جلال الدولة، وهي الوزارة السادسة.
وفيها، في رمضان، توفي رافع بن الحسين بن مقن، وكان حازماً شجاعاً، وخلف بتكريت ما يزيد على خمس مائة ألف دينار، فملكها ابن أخيه خميس بن ثعلب، وكان طريداً في أيام عمه، وحمل إلى جلال الدولة ثمانين ألف دينار فأصلح بها الجند، وكانت يده قد قطعت لأن بعض عبيد بني عمه كان يشرب معه، فجرى بينه وبين آخر خصومة، فجردا سيفيهما، فقام رافع ليصلح بينهما، فضرب العبد يده فقطعها غلطاً، ولرافع فيها شعر، ولم تمنعه من قتال فقد عمل له كفاً أخرى يمسك بها العنان ويقاتل، وله شعر جيد، من ذلك قوله: لها ريقة، استغفر الله، إنها ... ألذ وأشهى في النفوس من الخمر وصارم طرف لا يزايل جفنه، ... ولم أر سيفاً قط في جفنه يفري فقلت لها، والعيس تحدج بالضحى: ... أعدي لفقدي ما استطعت من الصبر سأنفق ريعان الشبيبة آنفاً ... على طلب العلياء أو طلب الأجر أليس من الخسران أن ليالياً ... تمر بلا نفع وتحسب من عمري وفيها، في صفر، أمر القائم بأمر الله بترك التعامل بالدنانير المغربية، وأمر الشهود أن لا يشهدوا في كتاب ابتياع ولا غيره يذكر فيه هذا الصنف من الذهب، فعدل الناس إلى القادرية، والسابورية، والقاسانية. ثم دخلت سنة ثمان وعشرين وأربعمائة ذكر الفتنة بين جلال الدولة وبارسطغان في هذه السنة كانت الفتنة بين جلال الدولة وبين بارسطغان، وهو من أكابر الأمراء ويلقب حاجب الحجاب. وكان سبب ذلك أن جلال الدولة نسبه إلى فساد الأتراك، والأتراك نسبوه إلى أخذ الأموال، فخاف على نفسه، فالتجأ إلى دار الخلافة في رجب من السنة الخالية. وترددت الرسل بين جلال الدولة والقائم بأمر الله في أمره، فدافع الخليفة عنه، وبارسطغان يراسل الملك أبا كاليجار، فأرسل أبو كاليجار جيشاً، فوصلوا إلى واسط، واتفق معهم عسكر واسط، وأخرجوا الملك العزيز بن جلال الدولة، فأصعد إلى أبيه، وكشف بارسطغان القناع، فاستتبع أصاغر المماليك ونادوا بشعار أبي كاليجار، وأخرجوا جلال الدولة من بغداد، فسار إلى أوانا ومعه البساسيري، وأخرج بارسطغان الوزير أبا الفضل العباس بن الحسن بن فسانجس، فنظر في الأمور نيابة عن الملك أبي كاليجار، وأرسل بارسطغان إلى الخليفة يطلب الخطبة لأبي كاليجار، فاحتج بعهود جلال الدولة، فأكره الخطباء على الخطبة لأبي كاليجار، ففعلوا. وجرى بين الفريقين مناوشات، وسار الأجناد الواسطيون إلى بارسطغان ببغداد، فكانوا معه، وتنقلت الحال بين جلال الدولة وبارسطغان، فعاد جلال الدولة إلى بغداد، ونزل بالجانب الغربي ومعه قرواش بن المقلد العقيلي، ودبيس بن علي بن مزيد الأسدي، وخطب لجلال الدولة به، وبالجانب الشرقي لأبي كاليجار، وأعان أبو الشوك، وأبو الفوارس منصور بن الحسين بارسطغان على طاعة أبي كاليجار. ثم سار جلال الدولة إلى الأنبار، وسار قرواش إلى الموصل، وقبض بارسطغان على ابن فسانجس، فعاد منصور بن الحسين إلى بلده، وأتى الخبر إلى بارسطغان بعود الملك أبي كاليجار إلى فارس، ففارقه الديلم الذين جاؤوا نجدة له، فضعف أمره، فدفع ماله وحرمه إلى دار الخلافة، وانحدر إلى واسط، وعاد جلال الدولة إلى بغدا، وأرسل البساسيري والمرشد وبني خفاجة في أثره، فتبعهم جلال الدولة ودبيس بن علي بن مزيد، فلحقوه بالخيزرانية، فقاتلوه، فسقط عن فرسه، فأخذ أسيراً وحمل إلى جلال الدولة، فقتله وحمل رأسه، وكان عمره نحو سبعين سنة. وسار جلال الدولة إلى واسط فملكها، وأصعد إلى بغداد، فضعف أمر الأتراك، وطمع فيهم الأعراب، واستولوا على إقطاعاتهم، فلم يقدروا على كف أيديهم عنها، وكانت مدة بارسطغان من حين كاشف جلال الدولة إلى أن قتل ستة أشهر وعشرة أيام. ذكر الصلح بين جلال الدولة وأبي كاليجار والمصاهرة بينهما
في هذه السنة ترددت الرسل بين جلال الدولة وابن أخيه أبي كاليجار، سلطان الدولة، في الصلح والاتفاق، وزوال الخلف، وكان الرسل أقضى القضاة أبا الحسن الماوردي، وأبا عبد الله المردوستي، وغيرهما، فاتفقا على الصلح، وحلف كل واحد من الملكين لصاحبه، وأرسل الخليفة القائم بأمر الله إلى أبي كاليجار الخلع النفيسة، ووقع العقد لأبي منصور بن أبي كاليجار على ابنة جلال الدولة، وكان الصداق خمسين ألف دينار قاسانية. ذكر عدة حوادثفيها توفي أبو القاسم علي بن الحسين بن مكرم، صاحب عمان، وكان جواداً، ممدحاً، وقام ابنه مقامه. وفيها توفي الأمير أبو عبد الله الحسين بن سلامة، أمير تهامة، باليمن، وولي ابنه بعده، فعصى عليه خادم كان لوالده، وأراد أن يملك، فجرى بينهما حروب كثيرة تمادت أيامها، ففارق أهل تهامة أوطانهم إلى غير مملكة ولد الحسين هرباً من الشر وتفاقم الأمر. وفيها توفي مهيار الشاعر، وكان مجوسياً، فأسلم سنة أربع وتسعين وثلاثمائة، وصحب الشريف الرضي، وقال له أبو القاسم بن برهان: يا مهيار قد انتقلت بإسلامك في النار من زاوية إلى زاوية! قال: كيف؟ قال: لأنك كنت مجوسياً، فصرت تسب أصحاب النبي، صلى الله عليه وسلم، في شعرك. وفيها توفي أبو الحسين القدوري الفقيه الحنفي، والحاجب أبو الحسين هبة الله بن الحسين ، المعروف بابن أخت الفاضل، وكان من أهل الأدب وله شعر جيد، وأبو علي بن أبي الريان بمطيراباذ، ومولده سنة أربع وخمسين وثلاثمائة، وقد مدحه الرضي وابن نباتة وغيرهما. وفيها عاود المعز بن باديس حرب زناتة بإفريقية، فهزمهم وأكثر القتل فيهم، وخرب مساكنهم وقصورهم. وفي شعبان توفي أبو علي بن سينا الحكيم، الفيلسوف المشور، صاحب التصانيف السائرة على مذاهب الفلاسفة، وكان موته بأصبهان، وكان يخدم علاء الدولة أبا جعفر بن كاكويه، ولا شك أن أبا جعفر كان فاسد الاعتقاد، فلهذا أقدم ابن سينا على تصانيفه في الإلحاد، والرد على الشرائع في بلده. ثم دخلت سنة تسع وعشرين وأربعمائة ذكر محاصرة الأبخاز تفليس وعودهم عنها في هذه السنة حصر ملك الأبخاز مدينة تفليس، وامتنع أهلها عليه، فأقام عليهم محاصراً ومضيقاً، فنفدت الأقوات، وانقطعت الميرة، فأنفذ أهلها إلى أذربيجان يستنفرون المسلمين، ويسألونهم إعانتهم، فلما وصل الغز إلى أذربيجان، وسمع الأبخاز بقربهم، ومما فعلوا بالأرمن، رحلوا عن تفليس مجفلين خوفاً. ولما رأى وهسوذان صاحب أذربيجان قوة الغز، وأنه لا طاقة له بهم، لاطفهم وصاهرهم واستعان بهم، وقد تقدم ذكر ذلك. ذكر ما فعله طغرلبك بخراسانفي هذه السنة دخل ركن الدين أبو طالب طغرلبك محمد بن ميكائيل بن سلجوق مدينة نيسابور مالكاً لها. وكان سبب ذلك أن الغز السلجقية لما ظهروا بخراسان أفسدوا، ونهبوا، وخربوا البلاد، وسبوا، على ما ذكرناه، وسمع الملك مسعود بن محمود بن سبكتكين الخبر، فسير إليهم حاجبه سباشي في ثلاثين ألف مقاتل، ! فسار إليهم من غزنة، فلما بلغ خراسان ثقل على ما سلم من البلد بالإقامات، فخرب السالم من تخريب الغز، فأقام مدة سنة على المدافعة والمطاولة، لكنه كان يتبع أثرهم إذا بعدوا، ويرجع عنهم إذا أقبلوا استعمالاً للمحاجزة، وإشفاقاً من المحاربة، حتى إذا كان في هذه السنة، وهو بقرية بظاهر سرخس، والغز بظاهر مرو مع طغرلبك، وقد بلغهم خبره، أسروا إليه وقاتلوه يوم وصلوا، فلما جنهم الليل أخذ سباشي ما خف من مال وهرب في خواصه، وترك خيمه ونيرانه على حالها، قيل فعل ذلك مواطأة للغز على الهزيمة، فلما أسفر الصبح عرف الباقون من عسكره خبره، فانهزموا، واستولى الغز على ما وجدوه في معسكرهم من سوادهم، وقتلوا من الهنود الذي تخلفوا مقتلة عظيمة. وأسرى داود أخو طغرلبك، وهو والد السلطان ألب أرسلان، إلى نيسابور، وسمع أبو سهل الحمدوني ومن معه بها، ففارقوها، ووصل داود ومن معه إليها، فدخلوها بغير قتال، ولم يغيروا شيئاً من أمورها، ووصل بعدهم طغرلبك ثم وصلت إليهم رسل الخليفة في ذلك الوقت، وكان قد أرسل إليهم وإلى الذين بالري وهمذان وبلد الجبل ينهاهم عن النهب والقتل والإخراب، ويعظهم، فأكرموا الرسل، وعظموهم، وخدموهم.
وخاطب داود طغرلبك في نهب البلد، فمنعه فامتنع واحتج بشهر رمضان، فلما انسلخ رمضان صمم داود على نهبه، فمنعه طغرلبك، واحتج علهي برسل الخليفة وكتابه، فلم يلتفت داود إليه، وقوي عزمه على النهب، فأخرج طغرلبك سكيناً وقال له: والله لئن نهبت شيئاً لأقتلن نفسي! فكف عن ذلك، وعدل إلى التقسيط، فقسط على أهل نيسابور نحو ثلاثين ألف دينار، وفرقها في أصحابه. وأقام طغرلبك بدار الإمارة، وجلس على سرير الملك مسعود، وصار يقعد للمظالم يومين في الأسبوع على قاعدة ولاة خراسان، وسير أخاه داود إلى سرخس فملكها، ثم استولوا على سائر بلاد خراسان سوى بلغ، وكانوا يخطبون للملك مسعود على سبيل المغالطة. وكانوا ثلاثة أخوة: طغرلبك، وداود، وبيغو، وكان ينال، واسمه إبراهيم، أخا طغرلبك وداود لأمهما، ثم خرج مسعود من غزنة وكان ما نذكره إن شاء الله تعالى. ذكر مخاطبة جلال الدولة بملك الملوكفي هذه السنة سأل جلال الدولة الخليفة القائم بأمر الله ليخاطب بملك الملوك، فامتنع، ثم أجاب إليه إذا أفتى الفقهاء بجوازه، فكتب فتوى إلى الفقهاء في ذلك، فأفتى القاضي أبو الطيب الطبري، والقاضي أبو عبد الله الصيمري، والقاضي ابن البيضاوي، وأبو القاسم الكرخي بجوازه، وامتنع منه قاضي القضاة أبو الحسن الماوردي، وجرى بينه وبين من أفتى بجوازه مراجعات، وخطب لجلال الدولة بملك الملوك. وكان الماوردي من أخص الناس بجلال الدولة، وكان يتردد إلى دار المملكة كل يوم، فلما أفتى بهذه الفتيا انقطع ولزم بيته خائفاً، وأقام منقطعاً من شهر رمضان إلى يوم عيد النحر، فاستدعاه جلال الدولة، فحضر خائفاً، فأدخله وحده وقال له: قد علم كل أحد أنك من أكثر الفقهاء مالاً، وجاهاً، وقرباً منا، وقد خالفتهم فيما خالف هواي، ولم تفعل ذلك إلا لعدم المحاباة منك، واتباع الحق، وقد بان لي موضعك من الدين، ومكانك من العلم، وجعلت جزاء ذلك إكرامك بأن أدخلتك إلي، وجعلت أذن الحاضرين إليك، ليتحققوا عودي إلى ما تحب. فشكره ودعا له، وأذن لكل من حضر بالخدمة والانصراف. ذكر عدة حوادثفي هذه السنة قتل شبل الدولة نصر بن صالح بن مرداس، صاحب حلب، قتله الدزبري وعساكر مصر، وملكوا حلب. وفيها أنكر العلماء على أبي يعلى بن الفراء الحنبلي ما ضمنه كتابه من صفات الله، سبحانه وتعالى، المشعرة بأنه يعتقد التجسم، وحضر أبو الحسن القزويني الزاهد بجامع المنصور، وتكلم في ذلك، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً. وفيها صالح ابن وثاب النميري، صاحب حران، الروم الذين بالرها لعجزه عنهم، وسلم إليهم ربض الرها، وكان تسلمه على ما ذكرناه أولاً، فنزلوا من الحصن الذي للبلد إليه، وكثر الروم بها، وخاف المسلمون على حران منهم، وعمر الروم الرها العمارة الحسنة وحصنوها. وفيها هادن المستنصر بالله الخليفة العلوي، صاحب مصر، ملك الروم، وشرط عليه إطلاق خمسة آلاف أسير، وشرط الروم عليه أن يعمروا بيعة قمامة، فأرسل الملك إليها من عمرها، وأخرج مالاً جليلاً. وفي هذه السنة سارت عساكر المعز بن باديس بإفريقية إلى بلد الزاب، ففتحوا مدينة تسمى بورس، وقتلوا من البربر خلقاً كثيراً، وفتح من بلاد زناتة قلعة تسمى كروم. وفيها توفي إسحاق بن إبراهيم بن مخلد أبو الفضل المعروف بابن الباقرحي في ربيع الآخر. ثم دخلت سنة ثلاثين وأربعمائة ذكر وصول الملك مسعود إلى خراسان وإجلاء السلجقية عنها في صفر من هذه السنة وصل الملك مسعود إلى بلخ من غزنة، وزوج ابنه من ابنة بعض ملوك الخانية، كان يتقي جانبه، وأقطع خوارزم لشاه ملك الجندي، فسار إليها، وبها خوارزمشاه إسماعيل بن التوتناش، فجمع أصحابه، ولقي شاه ملك وقاتله، ودامت الحرب بينهما مدة شهر، وانهزم إسماعيل، والتجأ إلى طغرلبك وأخيه داود السلجقية، وملك شاه ملك خوارزم. وكان مسير مسعود من غزنة أول سنة ثمان وعشرين، وسبب خروجه ما وصل إليه من أخبار الغز، وما فعلوه بالبلاد وأهلها من الإخراب والقتل والسبي والاستيلاء، وأقام ببلخ حتى أراح واستراح، وفرغ من أمر خوارزم والخانية ثم أمد سباشي الحاجب بعسكر ليتقوى بهم ويهتم بأمر الغز واستئصالهم، فلم يكن عنده من الكفاية ما يقهرهم بل أخلد إلى المطاولة التي هي عادته.
وسار مسعود بن سبكتكين من بلخ بنفسه، وقصد سرخس، فتجنب الغز لقاءه، وعدلوا إلى المراوغة والمخاتلة، وأظهروا العزم على دخول المفازة التي بين مرو وخوارزم، فبينما عساكر مسعود تتبعهم وتطلبهم إذ لقوا طائفة منهم، فقاتلوهم وظفروا بهم وقتلوا منهم. ثم إنه واقعهم بنفسه، في شعبان من هذه السنة، وقعة استظهر فيها عليهم، فأبعدوا عنه، ثم عاودوا القرب منه بنواحي مرو، فواقعوهم وقعة أخرى قتل منهم فيها نحو ألف وخمسمائة قتيل، وهرب الباقون فدخلوا البرية التي يحتمون بها. وثار أهل نيسابور بمن عندهم منهم، فقتلوا بعضاً، وانهزم الباقون إلى أصحابهم بالبرية وعدل مسعود إلى هراة ليتأهب في العساكر للمسير خلفهم وطلبهم أين كانوا، فعاد طغرلبك إلى الأطراف النائية عن مسعود، فنهبها وأثخن فيها، وكان الناس قد تراجعوا، فملأوا أيديهم من الغنائم، فحينئذ سار مسعود يطلبه، فلما قاربه انزاح طغرلبك من بين يديه إلى أستوا وأقام بها، وكان الزمان شتاء، ظناً منه أن الثلج والبرد يمنع عنه، فطلبه مسعود إليها، ففارقه طغرلبك وسلك الطريق على طوس، واحتمى بجبال منيعة، ومضايق صعبة المسلك، فسير مسعود في طلبه وزيره أحمد بن محمد بن عبد الصمد في عساكر كثيرة، فطوى المراحل إليه جريدة، فلما رأى طغرلبك قربه منه فارق مكانه إلى نواحي أبيورد. وكان مسعود قد سار ليقطعه عن جهة إن أرادها، فلقي طغرلبك مقدمته، فواقعوهم فانتصروا عليه، واستأمن من أصحابه جماعة كثيرة، ورأى الطلب له من كل جانب، فعاود دخول المفازة إلى خوارزم وأوغل فيها. فلما فارق الغز خراسان قصد مسعود جبلاً من جبال طوس منيعاً لا يرام، وكان أهله قد وافقوا الغز وأفسدوا معهم، فلما فارق الغز تلك البلاد تحصن هؤلاء بجبلهم ثقة منهم بحصانته وامتناعه، فسرى مسعود إليهم جريدة، فلم يرعهم إلا وقد خالطهم، فتركوا أهلهم وأموالهم وصعدوا إلى قلة الجبل واعتصموا بهال وامتنعوا، وغنم عسكر مسعود أموالهم وما ادخروه. ثم أمر مسعود أصحابه أن يزحفوا إليهم في قلة الجبل، وباشر هو القتال بنفسه، فزحف الناس إليهم، وقاتلوهم قتالاً لم يروا مثله، وكان الزمان شتاء، والثلج على الجبل كثيراً، فهلك من العسكر في مخارم الجبل وشعابه كثير، ثم إنهم ظفروا بأهله وأكثروا فيهم القتل والأسر وفرغوا منهم وأراحوا المسلمين من شرهم. وسار مسعود إلى نيسابور في جمادى الأولى سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة، ليريح ويستريح، وينتظر الربيع ليسير خلف الغز، ويطلبهم في المفاوز التي احتموا بها. وكانت هذه الوقعة، وإجلاء الغز عن خراسان، سنة إحدى وثلاثين، على ما نذكره إن شاء الله تعالى. ذكر ملك أبي الشوك مدينة خولنجانكان حسام الدولة أبو الشوك قد فتح قرميسين من أعمال الجبل، وقبض على صاحبها، وهو من الأكراد القوهية، فسار أخوه إلى قلعة أرنبة، فاعتصم بها من أبي الشوك، وجعل أصحابه في مدينة خولنجان يحفظونها منه أيضاً. فلما كان الآن سير أبو الشوك عسكراً إلى خولنجان فحصروها فلم يظفروا منها بشيء، فأمر العسكر فعاد فأمن من في البلد بعود العسكر عنه. ثم جهز عسكراً آخر جريدة لم يعلم بهم أحد، وسيرهم ليومهم، وأمرهم بنهب ربض قلعة أرنبة، وقتل من ظفروا به والإتمام لوقتهم إلى خولنجان ليسبقوا خبرهم إليها، ففعلوا ذلك، ووصلوا إليها ومن بها غير متأهبين، فاقتتلوا شيئاً من قتال، ثم استسلم من بالمدينة إليهم فتسلموها، وتحصن من كان بها من الأجناد في قلعة في وسط البلد، فحصروها أصحاب أبي الشوك، فملكوها في ذي القعدة من هذه السنة. ذكر الخطبة العباسية بحران والرقةفي هذه السنة خطب شبيب بن وثاب النميري، صاحب حران والرقة، للإمام القائم بأمر الله، وقطع خطبة المستنصر بالله العلوي. وكان سببها أن نصر الدولة بن مروان كان قد بلغه عن الدزبري نائب العلويين بالشام أنه يتهدده، ويريد قصد بلاده، فراسل قرواشاً، صاحب الموصل، وطلب منه عسكراً، وراسل شبيباً النميري يدعوه إلى الموافقة، ويحذره من المغاربة، فأجابه إلى ذلك، وقطع الخطبة العلوية، وأقام الخطبة العباسية، فأرسل إليه الدزبري يتهدده، ثم أعاد الخطبة العلوية بحران في ذي الحجة من السنة. ذكر عدة حوادث
فيها توفي الملك أبو علي الحسين بن الحسن الرخجي، وكان وزيراً لملوك بني بويه، ثم ترك الوزارة، وكان في عطلته يتقدم على الوزراء. وفيها أيضاً توفي أبو الفتوح الحسن بن جعفر العلوي أمير مكة. وفيها توفي الوزير أبو القاسم بن ماكولا محبوساً بهيت، وكان مقامه في الحبس سنتين وخمسة أشهر، ومولده سنة خمس وستين وثلاثمائة، وكان وزير جلال الدولة، وهو والد الأمير أبي نصر، مصنف كتاب الإكمال في المؤتلف والمختلف، وكان جلال الدولة سلمه إلى قرواش، فحبسه بهيت. وفيها سقط الثلج ببغداد لست بقين من ربيع الأول، فارتفع على الأرض شبراً، ورماه الناس عن السطوح إلى الشوارع، وجمد الماء ستة أيام متوالية، وكان أول ذلك الثالث والعشرين من كانون الثاني. وتوفي هذه السنة أبو نعيم أحمد بن عبد الله بن أحمد بن إسحاق الأصبهاني الحافظ، وأبو الرضا الفضل بن منصور بن الظريف الفارقي، الأمير الشاعر، له ديوان حسن، وشعر جيد، فمنه: ومخطف الخصر مطبوع على صلف ... عشقته، ودواعي البين تعشقه وكيف أطمع منه في مواصلة، ... وكل يوم لنا شمل يفرقه وقد تسامح قلبي في مواصلتي ... على السلو ولكن من يصدقه أهابه، وهو طلق الوجه مبتسم، ... وكيف يطمعني في السيف رونقه ثم دخلت سنة إحدى وثلاثين وأربعمائةفي هذه السنة فتح الملك مسعود بن محمود بن سبكتكين قلعة بخراسان كانت بيد الغز، وقتل فيها جماعة منهم، وكانت بينه وبينهم وقعات أجلت عن فراقهم خراسان إلى البرية، وقد ذكرناه سنة ثلاثين. ذكر ملك الملك أبي كاليجار البصرةفي هذه السنة سير الملك أبو كاليجار عساكره مع العادل أبي منصور بن مافنة إلى البصرة، فملكها في صفر، وكانت بيد الظهير أبي القاسم، وقد ذكرنا أنه وليها بعد بختيار، وأنه عصى على أبي كاليجار مرة، وصار في طاعة جلال الدولة ، ثم فارق طاعته وعاد إلى طاعة الملك أبي كاليجار، وكان يترك محاقته ومعارضته فيما يفعله، ويضمن الظهير أن يحمل إلى أبي كاليجار كل سنة سبعين ألف دينار، وكثرت أمواله، ودامت أيامه، وثبت قدمه، وطار اسمه. واتفق أنه تعرض إلى أملاك أبي الحسن بن أبي القاسم بن مكرم، صاحب عمان، وأمواله، وكاتب أبو الحسن الملك أبا كاليجار، وبذل له زيادة ثلاثين ألف دينار في ضمان البصرة كل سنة، وجرى الحديث في قصد البصرة، فصادف قلباً موغراً من الظهير، فحصلت الإجابة، وجهز الملك العساكر مع العادل أبي منصور، فسار إليها وحصرها. وسارت العساكر من عمان أيضاً في البحر وحصرت البصرة وملكت، وأخذ الظهير وقبض عليه، وأخذ جميع ماله، وقرر عليه مائة ألف وعشرة آلاف دينار، يحملها في أحد عشر يوماً، بعد تسعين ألف دينار أخذت منه قبلها، ووصل الملك أبي كاليجار إلى البصرة، فأقام بها، ثم عاد إلى الأهواز، وجعل ولده عز الملوك فيها، ومعه الوزير أبو الفرج بن فسانجس، ولما سار أبو كاليجار عن البصرة أخذ معه الظهير إلى الأهواز. ذكر ما جرى بعمان بعد موت أبي القاسم بن مكرملما توفي أبو القاسم بن مكرم خلف أربعة بنين: أبو الجيش، والمهذب، وأبو محمد، وآخر صغير، فولي بعده ابنه أبو الجيش، وأقر علي بن هطال المنوجاني، صاحب جيش أبيه، على قاعدته، وأكرمه، وبالغ في احترامه، فكان إذا جاء إليه قام له، فأنكر هذه الحال عليه أخوه المهذب، فطعن على ابن هطال، وبلغه ذلك، فأضمر له سوءاً، واستأذن أبا الجيش في أن يحضر أخاه المهذب لدعوة عملها له، فأذن له في ذلك، فلما حضر المهذب عنده خدمه، وبالغ في خدمته، فلما أكل وشرب وانتشى، وعمل السكر فيه، قال له ابن هطال: إن أخاك أبا الجيش فيه ضعف، وعجز عن الأمر، والرأي أننا نقوم معك، وتصير أنت الأمير، وخدعه، فمال إلى هذا الحديث، فأخذ ابن هطال خطه بما يفوض إليه، وبما يعطيه من الأعمال إذا عمل معه هذا الأمر. فلما كان الغد حضر ابن هطال عند أبي الجيش، وقال له: إن أخاك كا نقد أفسد كثيراً من أصحابك عليك، وتحدث معي، واستمالني فلم أوافقه، فلهذا كان يذمني، ويقع في، وهذا خطه بما استقر هذه الليلة. فلما رأى خط أخيه أمره بالقبض عليه، ففعل ذلك واعتقله، ثم وضع عليه من خنقه وألقى جثته إلى منخفض من الأرض، وأظهر أنه سقط فمات.
ثم توفي أبو الجيش بعد ذلك بيسير، وأراد ابن هطال أن يأخذ أخاه أبا محمد فيوليه عمان ثم يقتله، فلم تخرجه إليه والدته، وقالت له: أنت تتولى الأمور، وهذا صغير لا يصلح لها. ففعل ذلك، وأساء السيرة، وصادر التجار، وأخذ الأموال. وبلغ ما كان منه مع بني مكرم إلى الملك أبي كاليجار، والعادل أبي منصور ابن مافنة، فأعظما الأمر واستكبراه، وشد العادل في الأمر، وكاتب نائباً كان لأبي القاسم بن مكرم بجبال عمان يقال له المرتضى، وأمره بقصد ابن هطال، وجهز العساكر من البصرة لتسير إلى مساعدة المرتضى، فجمع المرتضى الخلق، وتسارعوا إليه وخرجوا عن طاعة ابن هطال، وضعف أمره، واستولى المرتضى على أكثر البلاد، ثم وضعوا خادماً كان لابن مكرم، وقد التحق بابن هطال، على قتله، وساعده على ذلك فراش كان له، فما سمع العادل بقتله سير إلى عمان من أخرج أبا محمد بن مكرم، ورتبه في الإمارة، وكان قد استقر أن الأمر لأبي محمد في هذه السنة. ذكر الحرب بين أبي الفتح ابن أبي الشوك وبين عمه مهلهلفي هذه السنة كان بين أبي الفتح ابن أبي الشوك وبين عمه مهلهل حرب شديدة. وكان سبب ذلك أن أبا الفتح كان نائباً عن والده في الدينور، وقد عظم محله، وافتتح عدة قلاع، وحمى أعماله من الغز، وقتل فيهم، فأعجب بنفسه، وصار لا يقبل أمر والده. فلما كان هذه السنة، في شعبان، سار إلى قلعة بلوار ليفتحها، وكان فيها زوجة صاحبها، وكان من الأكراد، فعلمت أنها تعجز عن حفظها، فراسلت مهلهل بن محمد بن عناز، وهو بحلله في نواحي الصامغان، واستدعته لتسلم إليه القلعة، فسأل الرسول عن أبي الفتح: هل هو بنفسه على القلعة أم عسكره؟ فأخبره أنه عاد عنها وبقي عسكره، فسار مهلهل إليها، فلما وصل رأى أبا الفتح قد عاد إلى القلعة، فقصد موضعاً يوهم أبا الفتح أنه لم يرد هذه القلعة، ثم رجع عائداً، وتبعه أبا الفتح ولحقه وتراءت الفئتان، فعاد مهلهل إليه، فاقتتلوا، فرأى أبو الفتح من أصحابه تغيراً، فخافهم، فولى منهزماً، وتبعه أصحابه في الهزيمة، وقتل عسكر مهلهل من كان في عسكر أبي الفتح من الرجالة، وساروا في أثر المنهزمين يقتلون ويأسرون، ووقف فرس أبي الفتح به فأسر وأحضر عند عمه مهلهل، فضربه عدة مقارع، وقيده، وحبسه عنده وعاد. ثم إن أبا الشوك جمع عساكره وسار إلى شهرزور وحصرها، وقصد بلاد أخيه ليخلص ابنه أبا الفتح، فطال الأمر ولم يخلص ابنه، وحمل مهلهل اللجاج على أن استدعى علاء الدولة بن كاكويه إلى بلد أبي الفتح، فدخل الدينور وقرميسين، وأساء إلى أهلها وظلمهم وملكها، وكان ذلك سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة. ذكر شغب الأتراك على جلال الدولة ببغدادفي هذه السنة شغب الأتراك على الملك جلال الدولة ببغداد، وأخرجوا خيامهم إلى ظاهر البلد، ثم أوقعوا النهب في عدة مواضع، فخافهم جلال الدولة، فعبر خيامه إلى الجانب الغربي، وترددت الرسل بينهم في الصلح، وأراد الرحيل عن بغداد، فمنعه أصحابه، فراسل دبيس بن مزيد، وقرواشاً، صاحب الموصل، وغيرهما، وجمع عنده العساكر، فاستقرت القواعد بينهم وعاد إلى داره، وطمع الأتراك، وآذوا الناس، ونهبوا وقتلوا، وفسدت الأمور بالكلية إلى حد لا يرجى صلاحه. ذكر عدة حوادثفي هذه السنة، في جمادى الآخرة، ولد للخليفة القائم بأمر الله ولده أبو العباس، وهوذخيرة الدين. وفيها توفي شبيب بن وثاب النميري، صاحب الرقة وسروج وحران. وفيها توفي أبو نصر بن مشكان، كاتب الإنشاد لمحمود بن سبكتكين ولولده مسعود، وكان من الكتاب المفلقين، رأيت له كتابة في غاية الجودة. ثم دخلت سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة ذكر ابتداء الدولة السلجوقية وسياقة أخبارهم متتابعة في هذه السنة اشتد ملك السلطان طغرلبك محمد وأخيه جغري بك داود ابني ميكائيل بن سلجوق بن تقاق، فنذكر أولاً حال آبائه، ثم نذكر حاله كيف تنقلت حتى صار سلطاناً، على أنني قد ذكرت أكثر أخبارهم متقدمة على السنين، وإنما أوردناها هاهنا مجموعة لترد سياقاً واحداً، فهي أحسن، فأقول:
فأما تقاق فمعناه القوس الجديد، وكان شهماً، ذا رأي وتدبير، وكان مقدم الأتراك الغز، ومرجعهم إليه، لا يخالفون له قولاً، ولا يتعدون أمراً. فاتفق يوماً من الأيام أن ملك الترك الذي يقال له بيغو جمع عساكره، وأراد المسير إلى بلاد الإسلام، فنهاه تقاق عن ذلك، وطال الخطاب بينهما فيه فأغلظ له ملك الترك الكلام، فلطمه تقاق فشج رأسه، فأحاط به خدم ملك الترك، وأرادوا أخذه، فمانعهم وقاتلهم، واجتمع معه من أصحابه من منعه، فتفرقوا عنه، ثم صلح الأمر بينهما، واقام تقاق عنده، وولد له سلجوق. وأما سلجوق فإنه لما كبر ظهرت عليه أمارات النجابة، ومخايل التقدم، فقربه ملك الترك وقدمه، ولقبه سباشي، معناه قائد الجيش، وكانت امرأة الملك تخوفه من سلجوق لما ترى من تقدمه، وطاعة الناس له، والانقياد إليه، وأغرته بقتله، وبالغت في ذلك. وسمع سلجوق الخبر، فسار بجماعته كلهم ومن يطيعه من دار الحرب إلى ديار الإسلام، وسعد بالإيمان ومجاورة المسلمين، وازداد حاله علواً، وإمرة، وطاعة، وأقام بنواحي جند، وأدام غزو كفار الترك، وكان ملكهم يأخذ الخراج من المسلمين في تلك الديار، وطرد سلجوق عماله منها وصفت للمسلمين. ثم إن بعض ملوك السامانية كان هارون بن ايلك الخان قد استولى على بعض أطراف بلاده، فأرسل إلى سلجوق يستمده، فأمده بابنه أرسلان في جمع من أصحابه، فقوي بهم الساماني على هارون، واسترد ما أخذه منه، وعاد أرسلان إلى أبيه. وكان لسلجوق من الأولاد: أرسلان، وميكائيل، وموسى، وتوفي سلجوق بجند، وكان عمره مائة سنة وسبع سنين، ودفن هناك، وبقي أولاده، فغزا ميكائيل بعض بلاد الكفار الأتراك، فقاتل، وباشر القتال بنفسه، فاستشهد في سبيل الله، وخلف من الأولاد: بيغو، وطغرلبك محمداً، وجغري بك، داود، فأطاعهم عشائرهم، ووقفوا عند أمرهم ونهيهم، ونزلوا بالقرب من بخارى على عشرين فرسخاً منها، فخافهم أمير بخارى فأساء جوارهم، وأراد إهلاكهم والإيقاع بهم، فالتجأوا إلى بغراجان ملك تركستان، وأقاموا في بلاده، واحتموا به وامتنعوا، واستقر الأمير بين طغرلبك وأخيه داود أنهما لا يجتمعان عند بغراجان، إنما يحضر عنده أحدهما، ويقيم الآخر في أهله خوفاً من مكر يمكره بهم، فبقوا كذلك. ثم إن بغراجان اجتهد في اجتماعهما عنده، فلم يفعلا، فقبض على طغرلبك وأسره، فثار داود في عشائره ومن يتبعه، وقصد بغراجان ليخلص أخاه، فأنفذ إليه بغراجان عسكراً، فاقتتلوا، فانهزم عسكر بغراجان وكثر القتل فيهم، وخلض أخاه من الأسر، وانصرفوا إلى جند، وهي قريب بخارى، فأقاموا هناك. فلما انقرضت دولة السامانية وملك ايلك الخان بخارى عظم محل أرسلان ابن سلجوق عم داود وطغرلبك بما وراء النهر، وكان علي تكين في حبس أرسلان خان، فهرب، وهو أخو ايلك الخان، ولحق ببخارى واستولى عليها، واتفق مع أرسلان بن سلجوق فامتنعا، واستفحل أمرهما، وقصدهما ايلك أخو أرسلان خان، وقاتلهما فهزماه وبقيا ببخارى. وكان علي تكين يكثر معارضة يمين الدولة محمود بن سبكتكين فيما يجاوره في بلاده، ويقطع الطريق على رسله المترددين إلى ملوك الترك، فلما عبر محمود جيحون، على ما ذكرناه، هرب علي تكين من بخارى، وأما أرسلان بن سلجوق وجماعته فإنهم دخلوا المفازة والرمل، فاحتموا من محمود، فرأى محمود قوة السلجوقية، وما لهم من الشوكة وكثرة العدد، فكاتب أرسلان ابن سلجوق واستماله ورغبه، فورد إليه، فقبض يمين الدولة عليه في الحال، ولم يمهله، وسجنه في قلعة، ونهب خركاهاته، واستشار فيما يفعل بأهله وعشيرته، فأشار أرسلان الجاذب، وهو من أكبر خواص محمود، بأن يقطع أباهمهم لئلا يرموا بالنشاب، أو يغرقوا في جيحون، فقال له: ما أنت إلا قاسي القلب! ثم أمر بهم فعبروا نهر جيحون، ففرقهم في نواحي خراسان، ووضع عليهم الخراج، فجار العمال عليهم، وامتدت الأيدي إلى أموالهم وأولاهم، فانفصل منهم أكثر من ألفي رجل، وساروا إلى كرمان، ومنها إلى أصبهان، وجرى بينهم وبين صاحبها علاء الدولة بن كاكويه حرب قد ذكرناها، فساروا من أصبهان إلى أذربيجان، وهؤلاء جماعة أرسلان. | |
|
| |
الشيخ عودة الشيخ عودة
عدد المساهمات : 1748 تاريخ التسجيل : 28/09/2008 العمر : 74
| موضوع: رد: كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير الأحد فبراير 23, 2014 6:21 am | |
| فأما أولاد إخوته فإن علي تكين صاحب بخارى أعمل الحيل في الظفر بهم، فأرسل إلى يوسف بن موسى بن سلجوق، وهو ابن عم طغرلبك محمد وجغري بك داود، ووعده الإحسان، وبالغ في استمالته، وطلب منه الحضور عنده، ففعل، ففوض إليه علي تكين التقدم على جميع الأتراك الذين في ولايته، وأقطعه أقطاعاً كثيرة، ولقب بالأمير اينانج بيغو. وكان الباعث له على ما فعله به أن يستعين به وبعشيرته وأصحابه على طغرلبك وداود ابني عمه، ويفرق كلمتهم، ويضرب بعضهم ببعض، فعلموا مراده، فلم يطعه يوسف إلى شيء مما أراده، منه، فلما رأى علي تكين أن مكره لم يعمل في يوسف، ولم يبلغ به غرضاً، أمر بقتله، فقتل يوسف، تولى قتله أمير من أمراء علي تكين اسمه الف قرا. فلما قتل عظم ذلك على طغرلبك وأخيه داود وجميع عشائرهما، ولبسوا ثياب الحداد، وجمعا من الأتراك من قدرا على جمعه للأخذ بثأره، وجمع علي تكين أيضاً جيوشه، وسيرها إليهم، فانهزم عسكر علي تكين، وكان قد ولد السلطان ألب أرسلان بن داود أول محرم سنة عشرين وأربعمائة قبل الحرب، فتبركوا به، وتيمنوا بطلعته، وقيل في مولده غير ذلك. فلما كان سنة إحدى وعشرين قصد طغرلبك وداود ألب قرا الذي قتل يوسف ابن عمهما، فقتلاه، وأوقعا بطائفة من عسكر علي تكين، فقتلا منها نحو ألف رجل، فجمع علي تكين عسكره وقصدهم هو وأولاده ومن حمل السلاح من أصحابه، وتبعهم من أهل البلاد خلق كثير، فقصدوهم من كل جانب، وأوقعوا بهم وقعة عظيمة قتل فيها كثير من عساكر السلجوقية، وأخذت أموالهم وأولادهم، وسبوا كثيراً من نسائهم وذراريهم، فألجأتهم الضرورة إلى العبور إلى خراسان. فلما عبروا جيحون كتب إليهم خوارزمشاه هارون بن التونتاش يستدعيهم ليتفقوا معه، وتكون أيديهم واحدة. فسار طغرلبك وأخواه داود وبيغو إليه، وخيموا بظاهر خوارزم سنة ست وعشرين ووثقوا به واطمأنوا إليه، فغدر بهم، فوضع عليهم الأمير شاهملك، فكبسهم، ومعه عسكر من هارون، فأكثر القتل فيهم والنهب والسبي، وارتكب من الغدر خطة شنيعة، فساروا عن خوارزم بجموعهم إلى مفازة نسا، قصدوا مرو في هذه السنة أيضاً، ولم يتعرضوا لأحد بشر، وبقي أولادهم وذراريهم في الأسر. وكان الملك مسعود بن محمود بن سبكتكين هذه السنة بطبرستان قد ملكها، كما ذكرناه، فراسلوه وطلبوا منه الأمان، وضمنوا أنهم يقصدون الطائفة التي تفسد في بلاده، ويدفعونهم عنها، ويقاتلونهم، ويكونون من أعظم أعوانه وعلى غيرهم. فقبض على الرسل وجهز عسكراً جراراً إليهممع ايلتغدي حاجبه، وغيرهم من الأمراء الأكابر، فساروا إليهم، والتقوا عند نسا في شعبان من السنة، واقتتلوا، وعظم الأمر، وانهزم السلجوقية، وغنمت أموالهم، فجرى بين عسكر مسعود منازعة في الغنيمة أدت إلى القتال. واتفق في تلك الحال أن السلجوقية لما انهزموا قال لهم داود: إن العسكر الآن قد نزلوا، واطمأنوا، وأمنوا الطلب، والرأي أن نقصدهم لعلنا نبلغ منهم غرضاً. فعادوا فوصلوا إليهم وهم على تلك الحال من الاختلاف، وقتال بعضهم بعضاً، فأوقعوا بهم، وقتلوا منهم وأسروا، واستردوا ما أخذوا من أموالهم ورجالهم، وعاد المنهزمون من العسكر إلى الملك مسعود، وهو بنيسابور، فندم على رده طاعتهم، وعلم أن هيبتهم قد تمكنت من قلوب عساكره، وأنهم قد طمعوا بهذه الهزيمة، وتجرأوا على قتال العساكر السلطانية بعد الخوف الشديد، وخاف من أخوات هذه الحادثة، فأرسل إليهم يتهددهم ويتوعدهم، فقال طغرلبك لإمام صلاته: اكتب إلى السلطان " قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء، بيدك الخير، إنك على كل شيء قدير " ، ولا تزد على هذا.
فكتب ما قال، فلما ورد الكتاب على مسعود أمر فكتب إليهم كتاب مملوء من المواعيد الجميلة، وسير معه الخلع النفيسة، وأمرهم بالرحيل إلى آمل الشط، وهي مدينة على جيحون، ونهاهم عن الشر والفساد، وأقطع دهستان لداود، ونسا لطغرلبك، وفراوة لبيغو، ولقب مل واحد منهم بالدهقان. فاستخفوا بالرسول والخلع، وقالوا للرسول: لو علمنا أن السلطان يبقي علينا، إذا قدر، لأطعناه، ولكنا نعلم أنه متى ظفر بنا أهلكنا لما عملناه وأسلفناه، فنحن لا نطيعه، ولا نثق به. وأفسدوا، ثم كفوا، وتركوا ذلك، فقالوا: إن كان لنا قدرة على الانتصاف من السلطان، وإلا فلا حاجة بنا إلى إهلاك العالم، ونهب أموالهم، وأرسلوا إلى مسعود يخادعونه بإظهار الطاعة له، والكف عن الشر، ويسألونه أن يطلق عمهم أرسلان بن سلجوق من الحبس، فأجابهم إلى ذلك، فأحضره عنده ببلخ، وأمره بمراسلة بني أخيه بيغو، وطغرلبك، وداود يأمرهم بالاستقامة، والكف عن الشر، فأرسل إليهم رسولاً يأمرهم بذلك، وأرسل معه إشفى، وأمره بتسليمه إليهم، فلما وصل الرسول وأدى الرسالة وسلم إليهم الإشفى نفروا واستوحشوا، وعادوا إلى أمرهم الأول في الغارة والشر، فأعاده مسعود إلى محبسه، وسار إلى غزنة، فقصد السلجوقية بلخ ونيسابور وطوس وجوزجان، على ما ذكرناه. وأقام داود بمدينة مرو، وانهزمت عساكر السلطان مسعود منهم مرة بعد مرة، واستولى الرعب على أصحابه، لاسيما مع بعده إلى غزنة، فتوالت كتب نوابه وعماله إليه يستغيثون به، ويشكون إليه، ويذكرون ما يفعل السلجوقية في البلاد، وهو لا يجيبهم، ولا يتوجه إليهم، وأعرض عن خراسان والسلجوقية، واشتغل بأمور بلاد الهند. فلما اشتد أمره بخراسان وعظمت حالهم اجتمع وزراء مسعود وأرباب الرأي في دولته، وقالوا له: إن قلة المبالاة بخراسان من أعظم سعادة السلجوقية، وبها يملكون البلاد، ويستقيم لهم الملك، ونحن نعلم، وكل عاقل، أنهم إذا تركوا على هذه الحال استولوا على خراسان سريعاً، ثم ساروا منها إلى غزنة، وحينئذ لا ينفعنا حركاتنا، ولا نتمكن من البطالة والاشتغال باللعب واللهو والطرب. فاستيقظ من رقدته، وأبصر رشده بعد غفلته، وجهز العساكر الكثيرة مع أكبر أمير عنده يعرف بسباشي، وكان حاجبه، وقد سيره قبل إلى الغز العراقية، وقد تقدم ذكر ذلك، وسير معه أميراً كبيراً اسمه مرداويج ابن بشو. وكان سباشي جباناً، فأقام بهراة ونيسابور، ثم أغار بغتة على مرو، وبها داود، فسار مجداً، فوصل إليها في ثلاثة أيام، فأصاب جيوشه ودوابه التعب والكلال، فانهزم داود بين يديه، ولحقه العسكر، فحمل عليه صاحب جوزجان، فقاتله داود، فقتل صاحب جوزجان وانهزمت عساكره، فعظم قتله على سباشي وكل من معه، ووقعت عليهم الذلة، وقويت نفوس السلجوقية، وزاد طمعهم. وعاد داود إلى مرو، فأحسن السيرة في أهلها، وخطب له فيها أول جمعة في رجب سنة ثمان وعشرين واربعمائة، ولقب في الخطبة بملك الملوك، وسباشي يمادي الأيام، ويرحل من منزل إلى منزل، والسلجوقية يراوغونه مراوغة الثعلب، فقيل إنه كان يفعل ذلك جبناً وخوراً، وقيل بل راسله السلجوقية واستمالوه ورغبوه، فنفس عنهم، وتراخى في تتبعهم، والله أعلم. ولما طال مقام سباشي وعساكره والسلجوقية بخراسان، والبلاد منهوبة، والدماء مسفوكة، قلت الميرة والأقوات على العساكر خاصة. فأما السلجوقية فلا يبالون بذلك لأنهم يقنعون بالقليل، فاضطر سباشي إلى مباشرة الحرب وترك المحاجزة، فسار إلى داود، وتقدم داود إليه، فالتقوا في شعبان سنة ثمان وعشرين على باب سرخس. ولداود منجم يقال له الصومعي، فأشار على داود بالقتال، وضمن له الظفر، وأشهد على نفسه انه إن أخطأ فدمه مباح له، فاقتتل العسكران، فلم يثبت عسكر سباشي وانهزموا أقبح هزيمة، وساروا أخزى مسير إلى هراة، فتبعهم داود وعسكره إلى طوس يأخذونهم باليد، وكفوا عن القتل، وغنموا أموالهم، فكانت هذه الوقعة هي التي ملك السلجوقية بعدها خراسان، ودخلوا قصبات البلاد، فدخل طغرلبك نيسابور، وسكن الشاذياخ، وخطب له فيها في شعبان بالسلطان المعظم، وفرقوا النواب في النواحي.
وسار داود إلى هراة، ففارقها سباشي ومضى إلى غزنة، فعاتبه مسعود وحجبه، وقال له: ضيعت العساكر وطاولت الأيام، حتى قوي أمر العدو وصفا لهم مشربهم، وتمكنوا من البلاد ما أرادوا، فاعتذر بأن القوم تفرقوا ثلاث فرق كلما تبعت فرقة سارت بين يدي، وخلفي الفريقان في البلاد يفعلون ما أرادوا، فاضطر مسعود إلى المسير إلى خراسان، فجمع العساكر وفرق فيهم الأموال العظيمة، وسار عن غزنة في جيوش يضيق بها الفضاء، ومعه من الفيلة عدد كثير، فوصل إلى بلخ وقصده داود إليها أيضاً، ونزل قريباً منها، فدخلها يوماً جريدة في طائفة يسيره على حين غفلة من العساكر، فأخذ الفيل الكبير الذي على باب دار الملك مسعود، وأخذ معه عدة جنائب، فعظم قدره في النفوس، وازداد العسكر هيبة له. ثم سار مسعود من بلخ أول شهر رمضان سنة تسع وعشرين وأربعمائة، ومعه مائة ألف فارس سوى الأتباع، وسار على جوزجان، فأخذ واليها الذي كان بها للسلجوقية، فصلبه وسار منها فوصل إلى مرو الشاهجان، وسار داود إلى سرخس، واجتمع هو وأخوه طغرلبك وبيغو، فأرسل مضمون رسالته: إنا لا نثق بمصالحتك، بعد ما فعلنا هذه الأفعال التي سخطتها كل فعل منها موبق مهلك، وآيسوه من الصلح، فسار مسعود من مرو إلى هراة، وقصد داود مرو، فامتنع أهلها عليه، فحصرها سبعة أشهر، وضيق عليهم، وألح في قتالهم فملكها. فلما سمع مسعود هذا الخبر سقط في يده، وسار من هراة إلى نيسابور، ثم منها إلى سرخس، وكلما تبع السلجوقية إلى مكان ساروا منه إلى غيره، ولم يزل كذلك، فأدركهم الشتاء، فأقاموا بنيسابور ينتظرون الربيع. فلما جاء الربيع كان الملك مسعود مشغولاً بلهوه وشربه، فتقضى الربيع والأمر كذلك، فلما جاء الصيف عاتبه وزراؤه وخواصه على إهماله أمر عدوه، فسار من نيسابور إلى مرو يطلب السلجوقية، فدخلوا البرية، فدخلها وراءهم مرحلتين والعسكر الذي له قد ضجروا من طول سفرهم وبيكارهم، وسئموا الشد والترحل، فإنهم كان لهم في السفر نحو ثلاث سنين، بعضها مع سباشي، وبعضها مع الملك مسعود، فلما دخلوا البرية نزل منزلاً قليل الماء، والحر شديد، فلم يكف الماء للسلطان وحواشيه. وكان داود في معظم السلجوقية بإزائه، وغيره من عشرته مقابل ساقة عساكره، يتخطفون من تخلف منهم. فاتفق لما يريده الله تعالى أن حواشي مسعود اختصموا هم وجمع من العسكر على الماء وازدحموا، وجرى بينهم فتنة، حتى صار بعضهم يقاتل بعضاً، وبعضهم نهب بعضاً، فاستوحش لذلك أمر العسكر، ومشى بعضهم إلى بعض في التخلي عن مسعود، فعلم داود ما هم فيه من الاختلاف، فتقدم إليهم وحمل عليهم، وهم في ذلك التنازع، والقتال، والنهب، فولوا منهزمين لا يلوي أول على آخر، وكثر القتل فيهم، والسلطان مسعود ووزيره يناديانهم، ويأمرانهم بالعود، فلا يرجعون، وتمت الهزيمة على العسكر، وثبت مسعود، فقيل له: ما تنتظر وقد فارقك أصحابك، وأنت في برية مهلكة، وبين يديك عدو، وخلفك عدو، ولا وجه للمقام. فمضى منهزماً ومعه نحو مائة فارس، فتبعه فارس من السلجوقية، فعطف عليه مسعود فقتله، وصار لا يقف على شيء، حتى أتى غرشستان. وأما السلجوقية فإنهم غنموا من العسكر المسعودي ما لا يدخل تحت الإحصاء، وقسمه داود على أصحابه، وآثرهم على نفسه، ونزل في سرادق مسعود، وقعد على كرسيه، ولم ينزل عسكره ثلاثة أيام عن ظهور دوابهم لا يفارقونها إلا لما لا بد لهم منه من مأكول ومشروب وغير ذلك، خوفاً من عود العسكر، وأطلق الأسرى، وأطلق خراج سنة كاملة، وسار طغرلبك إلى نيسابور، فملكها ودخل إليها آخر سنة إحدى وثلاثين وأول سنة اثنتين وثلاثين، ونهب أصحابه الناس، فقيل عنه إنه رأى لوزينجاً فأكله وقال: هذا قطماج طيب، إلا أنه لا ثوم فيه، ورأى الغز الكافور فظنوه ملحاً، وقالوا: هذا ملح مر، ونقل عنهم أشياء من هذا كثير. وكان العيارون قد عظم ضررهم، واشتد أمرهم، وزادت البلية بهم على أهل نيسابور، فهم ينهبون الأموال، ويقتلون النفوس، ويرتكبون الفروج الحرام، ويفعلون كل ما يريدونه لا يردعهم عن ذلك رادع، ولا يزجرهم زاجر، فلما دخل طغرلبك البلد خافه العيارون، وكفوا عما كانوا يفعلونه، وسكن الناس واطمأنوا.
واستولى السلجوقية حينئذ على جميع البلاد، فسار بيغو إلى هراة فدخلها، وسار داود إلى بلخ، وبها التونتاق الحاجب والياً عليها لمسعود، فأرسل إليه داود بطلب منه تسليم البلد إليه، ويعرفه عجز صاحبه عن نصرته، فسجن التونتاق الرسل، فنازله داود، وحصر المدينة، فأرسل التونتاق إلى مسعود وهو بغزنة، يعرفه الحال وما هو فيه من ضيق الحصار، فجهز مسعود العساكر الكثيرة وسيرها، فجاءت طائفة منهم إلى الرخح، وبها جمع من السلجوقية، فقاتلوهم، فانهزم السلجوقية وقتل منهم ثمانمائة رجل، وأسر كثير، وخلا ذلك الصقع منهم. وسار طائفة منهم إلى هراة، وبها بيغو، فقاتلوه ودفعوه عنها، ثم إن مسعوداً سير ولده مودوداً في عسكر كثير مدداً لهذهالعساكر، فقتل مسعود وهو بخراسان، على ما نذكره إن شاء الله تعالى، فساروا عن غزنة سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة، فلما قاربوا بلخ سير داود طائفة من عسكره، فأوقعوا بطلائع مودود، وانهزمت الطلائع، وتبعهم عسكر داود، فلما أحس به معسكر مودود رجعوا إلى ورائهم، وأقاموا، فلما سمع التونتاق صلحب بلخ الخبر أطاع داود، وسلم إليه البلد، ووطيء بساطه. ذكر قبض السلطان مسعود وقتله وملك أخيه محمد قد ذكرنا عود مسعود بن محمود بن سبكتكين إلى غزنة من خراسان، فوصلها في شوال سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة ، وقبض على سباشي وغيره من الأمراء، كما ذكرناه، وأثبت غيرهم، وسير ولده مودوداً إلى خراسان في جيش كثيف ليمنع السلجوقية عنها، فسار مودود إلى بلخ ليرد عنها داود أخا طغرلبك، وجعل أبوه مسعود مع وزيره أبا نصر أحمد بن محمد بن عبد الصمد يدبر الأمور، وكان مسيرهم من غزنة في ربيع الأول سنة اثنتين وثلاثين. وسار مسعود بعدهم بسبعة أيام يريد بلاد الهند ليشتوا بها، على عادة والده، فلما سار أخذ معه أخاه محمداً مسمولاً، واستصحب الخزائن، وكان عازماً على الاستنجاد بالهند على قتال السلجوقية ثقة بعهودهم. فلما عبر سيحون، وهو نهر كبير، نحو دجلة، وعبر بعض الخزائن اجتمع أنوشتكين البلخي وجمع من الغلمان الدارية ونهبوا ما تخلف من الخزانة، وأقاموا أخاه محمداً ثالث عشر ربيع الآخر، وسلموا عليه بالإمارة، فامتنع من قبول ذلك، فتهددوه وأكرهوه، فأجاب وبقي مسعود فيمن معه من العسكر وحفظ نفسه، فالتقى الجمعان منتصف ربيع الآخر، فاقتتلوا، وعظم الخطب على الطائفتين، ثم انهزم عسكر مسعود، وتحصن هو في رباط ماريكلة، فحصره أخوه، فامتنع عليه، فقالت له أمه: إن مكانك لا يعصمك، ولأن تخرج إليهم بعهد خير من أن يأخوك قهراً. فخرج إليهم، فقبضوا عليه، فقال له أخوه محمد: والله لا قابلتك على فعلك بي، ولا عاملتك إلا بالجميل، فانظر أين تريد أن تقيم حتى أحملك إليه ومعك أولادك وحرمك. فاختار قلعة كيكي، فأنفذه إليها محفوظاً، وأمر بإكرامه وصيانته. وأرسل مسعود إلى أخيه يطلب منه مالاً ينفقه، فأنفذ له خمسمائة درهم، فبكى مسعود وقال: كان بالأمس حكمي على ثلاثة آلاف حمل من الخزائن، واليوم لا أملك الدرهم الفرد، فأعطاه الرسول من ماله ألف دينار فقبلها، وكانت سبب سعادة الرسول، لأنه لما ملك مودود بن مسعود بالغ في الإحسان إليه. ثم إن محمداً فوض أمر دولته إلى ولده أحمد، وكان فيه خبط وهوج، فاتفق هو وابن عمه يوسف بن سبكتكين وابن علي خويشاوند على قتل مسعود ليصفو الملك له ولوالده، فدخل إلى أبيه، فطلب خاتمه ليختم به بعض الخزائن، فأعطاه، فسار به إلى القلعة، وأعطوا الخاتم لمستحفظها، وقالوا: معنا رسالة إلى مسعود، فأدخلهم إليه فقتلوه، فلما علم محمد بذلك ساءه، وشق عليه، وأنكره. وقيل إن مسعوداً لما حبس دخل عليه ولدا أخيه محمد، واسم أحدهما عبد الرحمن، والآخر عبد الرحيم، فمد عبد الرحمن يده فأخذ القلنسوة من رأس عمه مسعود، فمد عبد الرحيم يده وأخذ القلنسوة من أخيه، وأنكر عليه ذلك، وسبه، وقبلها، وتركها على رأس عمه، فنجا بذلك عبد الرحيم من القتل والأسر لما ملك مودود بن مسعود، على ما نذكره إن شاء الله تعالى. ثم إن محمداً أغراه ولده أحمد بقتل عمه مسعود، فأمر بذلك، وأرسل إليه من قتله وألقاه في بئر وسد رأسها، وقيل بلى ألقي في بئر حياً وسد رأسها فمات، والله أعلم.
فلما مات كتب محمد إلى ابن أخيه مودود، وهو بخراسان، يقول: إن والدك قتل قصاصاً، قتله أولاد أحمد ينالتكين بلا رضا مني، فأجاب مودود يقول: أطال الله بقاء الأمير العم، ورزق ولده المعتوه أحمد عقلاً يعيش به، فقد ركب أمراً عظيماً، وأقدم على إراقة دم ملك مثل والدي الذي لقبه أمير المؤمنين سيد الملوك والسلاطين، وستعلمون في أي حتف تورطتم، وأي شر تأبطتم " وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون " . نفلق هاماً من رجال أعزة ... علينا، وهم كانوا أعق وأظلما وطمع جند محمد فيه، وزالت عنهم هيبته، فمدوا أيديهم إلى أموال الرعايا فنهبوها، فخربت البلاد، وجلا أهلها، لاسيما مدينة برشاوور فإنها هلك أهلها، ونهبت أموالهم، وكان المملوك بها يباع بدينار، وتباع الخمر كل منا بدينار، ثم رحل محمد عنها لليلتين بقيتا من رجب، وكان ما نذكره إن شاء الله تعالى. وكان السلطان مسعود شجاعاً كريماً، ذا فضائل كثيرة، محباً للعلماء، كثير الإحسان إليهم، والتقرب لهم، صنفوا له التصانيف الكثيرة في فنون العلوم، وكان كثير الصدقة والإحسان إلى أهل الحاجة، تصدق مرة في شهر رمضان بألف ألف درهم، وأكثر الإدرارات والصلاة، وعمر كثيراً من المساجد في ممالكه، وكانت صنائعه ظاهرة مشهورة، تسير بها الركبان مع عفة عن أموال رعاياه، وأجاز الشعراء بجوائز عظيمة، أعطى شامراً على قصيدته ألف دينار، وأعطى آخر بكل بيت ألف درهم، وكان يكتب خطاً حسناً، وكان ملكه عظيماً، فسيحاً، ملك أصبهان والري وهمذان وما يليها من البلاد، وملك طبرستان وجرجان وخراسان وخوارزم وبلاد الروان وكرمان وسجستان والسند والرخج وغزنة، وبلاد الغور والهند، وملك كثيراً منها، وأطاعه أهل البر والبحر، ومناقبه كثيرة، وقد صنفت فيها التصانيف المشهورة، فلا حاجة إلى الإطالة بذكرها. ذكر ملك مودود بن مسعود وقتله عمه محمدا ً لما قتل الملك مسعود وصل الخبر إلى ابنه مودود، وهو بخراسان، فعاد مجداً في عساكره إلى غزنة فتصاف هو وعمه محمد في ثالث شعبان، فانهزم محمد وعسكره وقبض عليه وعلى ولده أحمد، وأنوشتكين الخصي البلخي، وابن علي خويشاوند، فقتلهم، وقتل أولاد عمه جميعهم، إلا عبد الرحيم لإنكاره على أخيه عبد الرحمن ما فعله بعمه مسعود، وبنى موضع الوقعة قرية ورباطاً، وسماها فتح آباذ، وقتل كل من له في القبض على والده صنع، وعاد إلى غزنة فدخلها في ثالث وعشرين شعبان سنة اثنتين وثلاثين، واستوزر أبا نصر وزير أبيه، وأظهر العدل وحسن السيرة، وسلك سيرة جده محمود. وكان داود أخو طغرلبك قد ملك مدينة بلخ، واستباحها، كما ذكرناه، ومودود مقابله، فتجدد قتل مسعود، فعاد ليقضي الله أمراً كان مفعولاً، فلما تجدد هذا الظفر لمودود ثار أهل هراة بمن عندهم من الغز السلجوقية، فأخرجوهم وحفظوها لمودود، واستقر الأمر لمودود بغزنة، ولم يبق له هم إلا أمر أخيه مجدود، فإن أباه قد سيره إلى الهند سنة ست وعشرين، فخاف أن يخالف عليه، فأتاه خبره أنه قصد لهاوور، وملتان، فملكهما، وأخذ الأموال، وجمع بها العساكر، وأظهر الخلاف على أخيه، فندب إليد مودود جيشاً ليمنعوه ويقاتلوه، وعرض مجدود عسكره للمسير، وحضر عيد الأضحى، فبقي بعده ثلاثة أيام، وأصبح ميتاً بلهاوور لا يدري كيف كان موته، وأطاعت البلاد بأسرها مودوداً، ورست قدمه، وثبت ملكه، ولما سمعت الغز السلجوقية ذلك خافوه، واستشعروا منه، وراسله ملك الترك بما وراء النهر بالانقياد والمتابعة. ذكر الخلف بين جلال الدولة وقرواش صاحب الموصلفي هذه السنة اختلف جلال الدولة، ملك العراق، وقرواش بن المقلد العقيلي، صاحب الموصل. وكان سبب ذلك أن قرواشاً كان قد أنفذ عسكراً سنة إحدى وثلاثين فحصروا خميس بن ثعلب بتكريت، وجرى بين الطائفتين حرب شديدة في ذي القعدة منها، فأرسل خميس ولده إلى الملك جلال الدولة، وبذل بذولاً كثيرة ليكف عنه قرواشاً، فأجابه إلى ذلك، وأرسل إلى قرواش يأمره بالكف عنه، فغالط ولم يفعل، وسار بنفسه ونزل عليه يحاصره، فتأثر جلال الدولة منه.
ثم إنه أرسل كتباً إلى الأتراك ببغداد يفسدهم، وأشار عليهم بالشغب على الملك وإثارة الفتنة معه، فوصل خبرها إلى جلال الدولة، وأشياء أخر كانت هذه هي الأصل، فأرسل جلال الدولة أبا الحارث أرسلان البساسيري في صفر من سنة اثنتين وثلاثين ليقبض على نائب قرواش بالسندية، فسار ومعه جماعة من الأتراك، وتبعه جمع من العرب، فرأى في طريقه جمالاً لبني عيسى، فتسرع إليها الأتراك والعرب فأخذوا منها قطعة، وأوغل الأتراك في الطلب. وبلغ الخبر إلى العرب، وركبوا وتبعوا الأتراك، وجرى بين الطائفتين حرب انهزم فيها الأتراك، وأسر منهم جماعة، وعاد المنهزمون فأخبروا البساسيري بكثرة العرب، فعاد ولم يصل إلى مقصده. وسار طائفة من بني عيسى، فكمنوا بين صرصر وبغداد ليفسدوا في السواد، فاتفق أن وصل بعض أكابر القواد الأتراك، فخرجوا عليه فقتلوه وجماعة من أصحابه، وحملوا إلى بغداد، فارتج البلد، واستحكمت الوحشة مع معتمد الدولة قرواش، فجمع جلال الدولة العساكر وسار إلى الأنبار، وهي لقرواش، على عزم أخذها منه، وغيرها من أقطاعه بالعراق، فلما وصلوا إلى الأنبار أغلقت، وقاتلهم أصحاب قرواش، وسار قرواش من تكريت إلى خصة على عزم القتال، فلما نزل الملك جلال الدولة على الأنبار قلت عليهم العلوفة، فسار جماعة من العسكر والعرب إلى الحديثة ليمتاروا منها، فخرج عليهم عندها جمع كثير من العرب، فأوقعوا بهم، فانهزم بعضهم وعادوا إلى العسكر، ونهبت العرب ما معهم من الدواب التي تحمل الميرة، وبقي المرشد أبو الوفاء وهو المقدم على العسكر الذين ساروا لإحضار الميرة وثبت معه جماعة. ووصل الخبر إلى جلال الدولة أن المرشد أبا الوفاء يقاتل، وأخبر سلامته وصبره للعرب، وأنهم يقاتلونه وهو يطلب النجدة، فسار الملك إليه بعسكر، فوصلوا، وقد عجز العرب عن الوصول إليه، وعادوا عنه بعد أن حملوا عليه وعلى من معه عدة حملات صبر لها في قلة من معه. ثم اختلف عقيل على قرواش، فراسل جلال الدولة، وطلب رضاه، وبذل له بذلاً أصلحه به، وعاد إلى طاعته، فتحالفا، وعاد كل إلى مكانه. ذكر ملك أبي الشوك دقوقاكانت دقوقا لأبي الماجد المهلهل بن محمد بن عناز، فسير إليها أخوه حسام الدولة أبو الشوك ولده سعدي، فحصرها، فقاتله من بها. ثم سار أبو الشوك إليها، فجد في حصارها ونقب سورها ودخلها عنوة، ونهب أصحابه بعض البلد، وأخذوا سلاح الأكراد وثيابهم، وأقام حسام الدولة بالبلد ليلة، وعاد خوفاً على البندنيجين وحلوان، فإن أخاه سرخاب ابن محمد بن عناز كان قد أغار على عدة مواضع من ولايته، وحالف أبا الفتح ابن ورام والجاوانية عليه ، فأشفق من ذلك، وأرسل إلى جلالة الدولة يطلبمنه نجدة، فسير إليه عسكراً امتنع بهم. ذكر الحرب بين عسكر مصر والرومفي هذه السنة كانت الوقعة بين عسكر المصريين سيره الدزبري وبين الروم، فظفر المسلمون. وكان سبب ذلك أن ملك الروم قد هادنه المستنصر بالله العلوي، صاحب مصر، على ما ذكرناه. فلما كان الآن شرع يراسل ابن صالح بن مرداس ويستميله، وراسله قبله صالح ليتقوى به على الدزبري، خوفاً أن يأخذ منه الرقة، فبلغ ذلك الدزبري فتهدد ابن صالح فاعتذر وجحد. ثم إن جمعاً من بني جعفر بن كلاب دخلوا ولاية أفامية، فعاثوا فيها، ونهبوا عدة قرى، فخرج عليهم جمع من الروم فقاتلوهم وأوقعوا بهم، ونكلوا فيهم، وأزالوهم عن بلادهم. وبلغ ذلك الناظر بحلب، فأخرج من بها من تجار الفرنج، وأرسل إلى المتولي بأنطاكية يأمره بإخراج من عندهم من تجار المسلمين، فأغلظ للرسول، وأراد قتله، ثم تركه، فأرسل الناظر بحلب إلى الدزبري يعرفه الحال، وأن القوم على التجهز لقصد البلاد، فجهز الدزبري جيشاً وسيره على مقدمته، فاتفق أنهم لقوا جيشاً للروم وقد خرجوا لمثل ما خرج إليه هؤلاء، والتقى الفريقان بين مدينة حماة وأفامية واشتد القتال بينهم، ثم إن الله نصر المسلمين، وأذل الكافرين، فانهزموا وقتل منهم عدة كثيرة، وأسر ابن عم للملك، بذلوا في فدائه مالاً جزيلاً، وعدة وافرة من أسراء المسلمين، وانكف الروم عن الأذى بعدها. ذكر الخلف بين المعز وبني حماد
في هذه السنة خالف أولاد حماد على المعز بن باديس، صاحب إفريقية، وعادوا إلى ما كانوا عليه من العصيان والخلاف عليه، فسار إليه المعز، وجمع العساكر وحشدها، وحصر قلعتهم المعروفة بقلعة حماد، وضيق عليهم، وأقام عليهم نحو سنتين. ذكر صلح أبي الشوك وعلاء الدولةوفيها سار مهلهل أخو أبي الشوك إلى علاء الدولة بن كاكويه، واستصرخه، واستعان به على أخيه أبي الشوك، فسار معه، فلما بلغ قرميسين رجع أبو الشوك إلى حلوان، فعرف علاء الدولة رجوعه، فسار يتبعه، حتى بلغ المرج، وقرب من أبي الشوك، فعزم أبو الشوك على قصد قلعة السيروان والتحصن بها، ثم تجلد، وأرسل إلى علاء الدولة: إنني لم أنصرف من بين يديك إلا مراقبة لك، وإعظاماً لقدرك، واستعطافاً لك، فإذا اضطررتني إلى ما لا أجد بداً منه كان الغدر قائماً لي فيه، فإن ظفرت بك طمع فيك الأعداء، وإن ظفرت بي سلمت قلاعي وبلادي إلى الملك جلال الدولة. فأجابه علاء الدولة إلى الصلح على أن يكون له الدينور، وعاد فلحقه المرض في طريقه وتوفي، على ما نذكره إن شاء الله تعالى. ذكر عدة حوادثفي هذه السنة كان بإفريقية غلاء شديد، وسببه عدم الأمطار، فسميت سنة الغبار، ودام ذلك إلى سنة أربع وثلاثين، فخرج الناس فاستسقوا. وفيها توفي أمير الغز العراقية بالري، ودفن بناحية من أعمالها. وفيها توفي صاعد بن محمد أبو العلاء النيسابوري ثم الاستوائي، قاضي نيسابور، وكان عالماً فقيهاً، حنفياً، انتهت إليه رئاسة الحنفية بخراسان. ثم دخلت سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة ذكر وفاة علاء الدولة بن كاكويه في هذه السنة، في المحرم، توفي علاء الدولة أبو جعفر بن دشمنزيار، المعروف بابن كاكويه، بعد عوده من بلد أبي الشوك، وإنما قيل له كاكويه لأنه ابن خال مجد الدولة بن بويه، والخال بلغتهم كاكويه، وقام بأصبهان ابنه ظهير الدين أبو منصور فرامرز مقامه، وهو أكبر أولاده، وأطاعه الجند بها، فسار ولده أبو كاليجار كرشاسف إلى نهاوند، فأقام بها وحفظها، وضبط أعمال الجبل، وأخذها لنفسه، فأمسك عنه أخوه أبو منصور فرامرز. ثم إن مستحفظاً لعلاء الدولة بقلعة نطنز أرسل أبو منصور إليه يطلب شيئاً مما عنده من الأموال والذخائر، فامتنع وأظهر العصيان، فسار إليه أبو منصور، وأخوه الأصغر أبو حرب، ليأخذ القلعة منه كيف أمكن، فصعد أبو حرب إليها، ووافق المستحفظ على العصيان، فعاد أبو منصور إلى أصبهان، وأرسل أبو حرب إلى الغز السلجوقية بالري يستنجدهم، فسار طائفة منهم إلى قاجان، فدخلوها ونهبوها وسلموها إلى أبي حرب وعادوا إلى الري، فسير إليها أبو منصور عسكراً ليستنقذها من أخيه، فجمع أبو حرب الأكراد وغيرهم، وجعل عليهم صاحباً له وسيرهم إلى أصبهان ليملكوها بزعمه، فسير إليهم أخوه أبو منصور عسكراً، فالتقوا، وانهزم عسكر أبي حرب وأسر جماعة منهم. وتقدم أصحاب أبي منصور فحصروا أبا حرب، فلما رأى الحال، وخاف، نزل منها متخفياً، وسار إلى شيراز إلى الملك أبي كاليجار، صاحب فارس والعراق، فحسن له قصد أصبهان وأخذها من أخيه، فسار الملك إليها وحصرها، وبها الأمير أبو منصور، فامتنع عليه، وجرى بين الفريقين عدة وقائع، وكان آخر الأمر الصلح على أن يبقى أبو منصور بأصبهان، وتقرر عليه مال، وعاد أبو حرب إلى قلعة نطنز واشتد الحصار عليه، فأرسل إلى أخيه يطلب المصالحة، فاصطلحا على أن يعطي أخاه بعض ما في القلعة، ويبقى بها على حاله. ثم إن إبراهيم ينال خرج إلى الري، على ما نذكره، وأرسل إلى أبي منصور فرامرز يطلب منه الموادعة، فلم يجبه، وسار فرامرز إلى همذان وبروجرد فملكهما، ثم اصطلح هو وأخوه كرشاسف، وأقطعه همذان، وخطب لأبي منصور على منابر بلاد كرشاسف، واتفقت كلمتهما، وكان المدبر لأمرهما الكيا أبو الفتح الحسن بن عبد الله، وهو الذي سعى في جمع كلمتهما. ذكر ملك طغرلبك جرجان وطبرستان
في هذه السنة ملك طغرلبك جرجان وطبرستان، وسبب ذلك أن أنوشروان ابن منوجهر بن قابوس بن وشمكير صاحبها قبض على أبي كاليجار بن ويهان القوهي، صاحب جيشه، وزوج أمه بمساعدة أمه عليه، فعلم حينئذ طغرلبك أن البلاد لا مانع له عنها، فسار إليها، وقصد جرجان ومعه مرداويج بن بسو، فلما نازلها فتح له المقيم بها، فدخلها وقرر على أهلها مائة ألف دينار صلحاً، وسلمها إلى مرداويج بن بسو، وقرر عليه خمسين ألف دينار كل سنة عن جميع الأعمال، وعاد إلى نيسابور. وقصد مرداويج أنوشروان بسارية، وكان بها، فاصطلحا على أن ضمن أنوشروان له ثلاثين ألف دينار، وأقيمت الخطبة لطغرلبك في البلاد كلها، وتزوج مرداويج بوالدة أنوشروان، وبقي أنوشروان يتصرف بأمر مرداويجلا يخالفه في شيء البتة. ذكر أحوال ملوك الرومنذكر هاهنا أحوال ملوك الروم من عهد بسيل إلى الآن، فنقول: من عادة ملوك الروم أن يركبوا أيام الأعياد إلى البيعة المخصوصة بذلك العيد، فإذا اجتاز الملك بالأسواق شاهده الناس وبأيديهم المداخن يبخرون فيها، فركب والد بسيل وقسطنطين في بعض الأعياد، وكان لبعض أكابر الروم بنت جميلة، فخرجت تشاهد الملك، فلما مر بها استحسنها، فأمر من يسأل عنها، فلما عرفها خطبها وتزوجها وأحبها، وولدت منه بسيل وقسطنطين، وتوفي وهما صغيران، فتزوجت بعده بمدة طويلة نقفور، فكره كل واحد منهما صاحبه، فعملت على قتله، فراسلت الشمشقيق في ذلك، فقصد قسطنطينية متخفياً، فأدخلته إلى دار الملك، واتفقا وقتلاه ليلاً، وأحضرت البطارقة متفرقين، وأعطتهم الأموال ودعتهم إلى تمليك الشمشقيق، ففعلوا، ولم يصبح، وقد فرغت مما تريد ولم يجر خلف. وتزوجت الشمشقيق وأقامت معه سنة، فخافها، واحتال عليها وأخرجها إلى دير بعيد، وحمل ولديها معها، فأقامت فيه سنة، ثم أحضرت راهباً، ووهبته مالاً، وأمرته بقصد قسطنطينية، والمقام بكنيسة الملك، والاقتصار على قدر القوت، فإذا وثق به الملك، وأراد القربان من يده ليلة العيد، سقاه سماً، ففعل الراهب ذلك، فلما كان ليلة العيد سارت ومعها ولداها، ووصلت قسطنطينية في اليوم الذي توفي فيه الشمشقيق، فملك ولدها بسيل، ودبرت هي الأمر لصغره، فلما كبر بسيل قصد بلد البلغار، وتوفيت، وهو هناك، فبلغه وفاتها، فأمر خادماً له أن يدبر الأمور في غيبته. ودام قتاله لبلغار أربعين سنة، فظفروا به فعاد مهزوماً، وأقام بالقسطنطينية يتجهز للعود، فعاد إليهم، فظفر بهم، وقتل ملكهم، وسبى أهله وأولاده، وملك بلاده، ونقل أهلها إلى الروم، وأسكن البلاد طائفة من الروم، وهؤلاء البلغار غير الطائفة المسلمة، فإن هؤلاء أقرب إلى بلد الروم من المسلمين بنحو شهرين، وكلاهما يسمى بلغار. وكان بسيل عادلاً، حسن السيرة، ودام ملكه نيفاً وسبعين سنة، وتوفي ولم يخلف ولداً، فملك أخوه قسطنطين، وبقي إلى أن توفي، ولم يخلف غير ثلاث بنات، فملكت الكبرى، وتزوجت أرمانوس، وهو من أقارب الملك، وملكته، فبقي مدة، وهو الذي ملك الرها من المسلمين. وكان لأرمانوس صاحب له يخدمه، قبل ملكه، من أولاد بعض الصيارف، اسمه ميخائيل، فلما ملك حكمه في داره، فمالت زوجة قسطنطين إليه، وعملا الحيلة في قتل أرمانوس، فمرض أرمانوس فأدخلاه إلى الحمام كارهاً وخنقاه، وأظهرا أنه مات في الحمام، وملكت زوجته ميخائيل، وتزوجته على كره من الروم.
وعرض لميخائيل صرع لازمه وشوه صورته، فعهد بالملك بعده إلى ابن أخت له اسمه ميخائيل أيضاً، فلما توفي ملك ابن أخته وأحسن السيرة، وقبض على أهل خاله وإخوته، وهم أخواله، وضرب الدنانير في هذه السنة، وهي سنة ثلاث وثلاثين، ثم أحضر زوجته بنت الملك وطلب منها أن تترهب وتنزع نفسها عن الملك، فأبت، فضربها وسيرها إلى جزيرة في البحر، ثم عزم على القبض على البطرك، والاستراحة من تحكمه عليه، فإنه كان لا يقدر على مخالفته، فطلب إليه أن يعمل له طعاماً في دير ذكره بظاهر القسطنطينية ليحضر عنده، فأجابه إلى ذلك، وخرج إلى الدير ليعمل ما قال الملك، فأرسل الملك جماعة من الروس والبلغار، ووافقهم على قتله سراً، فقصدوه ليلاً وحصروه في الدير، فبذل لهم مالاً كثيراً، وخرج متخفياً، وقصد البيعة التي يسكنها، وضرب الناقوس، فاجتمع الروم عليه، ودعاهم إلى عزل الملك، فأجابوه إلى ذلك، وحصروا الملك في دار، فأرسل الملك إلى زوجته وأحضرها من الجزيرة التي نفاها إليها، ورغب في أن ترد عنه، فلم تفعل، وأخرجته إلى البيعة يترهب فيها. ثم إن البطرك والروم نزعوا زوجته من الملك، وملكوا أختاً لها صغيرة، واسمها تذورة، وجعلوا معها خدم أبيها يدبرون الملك، وكحلوا ميخائيل، ووقعت الحرب بالقسطنطينية بين من يتعصب له وبين من يتعصب لتذورة والبطرك، فظفر أصحاب تذورة بهم، ونهبوا أموالهم. ثم إن الروم افتقروا إلى ملك يدبرهم، فكتبوا أسماء جماعة يصلحون للملك في رقاع، ووضعوها في بنادق طين، وأمروا من يخرج منها بندقة، وهو لا يعرف باسم من فيها، فخرج اسم قسطنطين، فملكوه وتزوجته الملكة الكبيرة، واستنزلت أختها الصغيرة تذورة عن الملك بمال بذلته لها، واستقر في الملك سنة أربع وثلاثين، فخرج عليه فيها خارجي من الروم اسمه أرميناس، ودعا إلى نفسه فكثر جماعه حتى زادوا على عشرين ألفاً، فأهم قسطنطين أمره، وسير إليه جيشاً كثيفاً، فظفروا بالخارجي وقتلوه، وحملوا رأسه إلى القسطنطينية، وأسر من أعيان أصحابه مائة رجل، فشهروا في البلد، ثم أطلقوا وأعطوا نفقة، وأمروا بالانصراف إلى أي جهة أرادوا. ذكر فاسد حال الدزبري بالشام وما صار الأمر إليه بالبلادفي هذه السنة فسد أمر أنوشتكين الدزبري، نائب المستنصر بالله، صاحب مصر، بالشام، وقد كان كبيراً على مخدومه بما يراه من تعظم الملوك له، وهيبة الروم منه. وكان الوزير أبو القاسم الجرجرائي يقصده ويحسده، إلا أنه لا يجد طريقاً إلى الوقيعة فيه، ثم اتفق أنه سعي بكاتب للدزبري اسمه أبو سعد، وقيل عنه إنه يستميل صاحبه إلى غير جهة المصريين، فكوتب الدزبري بإبعاده، فلم يفعل، واستوحشوا منه، ووضع الجرجرائي حاجب الدزبري وغيره على مخالفته. ثم إن جماعة من الأجناد قصدوا مصر، وشكوا إلى الجرجرائي منه، فعرفهم سوء رأيه فيه، وأعادهم إلى دمشق، وأمرهم بإفساد الجند عليه ففعلوا ذلك. وأحس الدزبري بما يجري، فأظهر ما في نفسه، وأحضر نائب الجرجرائي عنده، وأمر بإهانته وضربه، ثم إنه أطلق لطائفة من العسكر يلزمون خدمته أرزاقهم، ومنع الباقين، فحرك ما في نفوسهم، وقوى طمعهم فيه، بما كوتبوا به من مصر، فأظهروا الشغب عليه، وقصدوا قصره، وهو بظاهر البلد، وتبعهم من العامة من يريد النهب، فاقتتلوا، فعلم الدزبري ضعفه وعجزه عنهم، ففارق مكانه، واستصحب أربعين غلاماً له، وما أمكنه من الدواب والأثاث والأموال، ونهب الباقي، وسار إلى بعلبك، فمنعه مستحفظها، وأخذ ما أمكنه أخذه من مال الدزبري، وتبعه طائفة من الجند يقفون أثره، وينهبون ما يقدرون عليه. وسار إلى مدينة حماة، فمنع عنها، وقوتل، وكاتب المقلد الكناني الكفرطابي، واستدعاه، فأجابه، وحضر عنده في نحو ألفي رجل من كفرطاب وغيرها، فاحتمى به، وسار إلى حلب، ودخلها، وأقام بها مدة، وتوفي في منتصف جماى الأولى من هذه السنة.
فلما توفي فسد أمر بلاد الشام، وانتشرت الأمور بها، وزال النظام، وطمعت العرب، وخرجوا في نواحيه، فخرج حسان بن المفرج الطائي بفلسطين، وخرج معز الدولة بن صالح الكلابي بحلب، وقصدها وحصرها، وملك المدينة، وامتنع أصحاب الدزبري بالقلعة، وكتبوا إلى مصر يطلبون النجدة، فلم يفعلوا، واشتغل عساكر دمشق ومقدمهم الحسين بن أحمد الذي ولي أمر دمشق، بعد الدزبري، بحرب حسان، ووقع الموت في الذين في القلعة، فسلموها إلى معز الدولة بالأمان. ذكر عدة حوادثفي هذه السنة سير الملك أبو كاليجار من فارس عسكراً في البحر إلى عمان، وكان قد عصى من بها، فوصل العسكر إلى صحار مدينة عمان فملكوها، واستعادوا الخارجين عن الطاعة، واستقرت الأمور بها، وعادت العساكر إلى فارس. وفيها قصد أبو نصر بن الهيثم الصليق من البطائح، فملكها ونهبها، ثم استقر أمرها على مال يؤديه إلى جلال الدولة. وفيها توفي أبو منصور بهرام بن مافنة، وهو الملقب بالعادل، وزير الملك أبي كاليجار، ومولده سنة ست وستين وثلاثمائة، وكان حسن السيرة، وبنى دار الكتب بفيروزاباذ، وجعل فيها سبعة آلاف مجلد فلما مات وزر بعده مهذب الدولة أبو منصور هبة الله بن أحمد الفسوي. وفيها وصل جماعة من البلغار إلى بغداد يريدون الحج، فأقيم لهم من الديوان الإقامات الوافرة، فسئل بعضهم: من أي الأمم هم البلغار؟ فقال: هم قوم تولدوا بين الترك والصقالبة، وبلدهم في أقصى الترك، وكانوا كفاراً، فأسلموا عن قريب، وهم على مذهب أبي حنيفة، رضي الله عنه. وفيها توفي ميخائيل ملك الروم، وملك بعده ابن أخيه ميخائيل أيضاً. وفيها، في جمادى الآخرة، توفي أبو الحسن محمد بن جعفر الجهرمي الشاعر، وهو القائل: يا ويح قلبي من تقلبه ... أبداً يحن إلى معذبه قالوا: كتمت هواه عن جلد ... لو أن لي رمقاً لبحت به بأبي حبيباً غير مكترث ... عني، ويكثر من تعتبه حسبي رضاه من الحياة، وما ... قلقي وموتي من تغضبه وكان بينه وبين المطرز مهاجاة. ثم دخلت سنة أربع وثلاثين وأربعمائة ذكر ملك طغرلبك مدينة خوارزم قد تقدم أن خوارزم كانت من جملة مملكة محمود بن سبكتكين، فلما توفي وملك بعده ابنه مسعود كانت له، وكان فيها التونتاش، حاجب أبيه محمود، وهو من أكابر أمرائه، يتولاها لمحمود، ومسعود بعده، ولما كان مسعود مشغولاً بقصد أخيه محمد لأخذ الملك قصد الأمير علي تكين، صاحب ما وراء النهر، أطراف بلاده وشعثها، فلما فرغ مسعود من أمر أخيه واستقر الملك له كاتب التونتاش في سنة أربع وعشرين بقصد أعمال علي تكين، وأخذ بخارى وسمرقند، وأمده بجيش كثيف، فعبر جيحون، وفتح من بلاد علي تكين ما أراد وانحاز علي تكين من بين يديه. وأقام التونتاش بالبلاد التي فتحها، فرأى دخلها لا يفي بما تحتاج عساكره لأنه كان يريد أن يكون في جمع كثير يمتنع بهم على الترك، فكاتب مسعوداً في ذلك واستأذنه في العود إلى خوارزم، فأذن له، فلما عاد لحقه علي تكين على غرة، وكبسه، فانهزم علي تكين، وصعد إلى قلعة دبوسية، فحصره التونتاش، وكاد يأخذه،! فراسله علي تكين واستعطفه وضرع إليه، فرحل عنه وعاد إلى خوارزم. وأصاب التونتاش في هذه الوقعة جراحة، فلما عاد إلى خوارزم مرض منها وتوفي، وخلف من الأولاد ثلاثة بنين: هارون، ورشيد، وإسماعيل، فلما توفي ضبط البلد وزيره أبو نصر أحمد بن محمد بن عبد الصمد، وحفظ الخزائن وغيرها، وأعلم مسعوداً، فولى ابنه الكبر هارون خوارزم، وسيره إليها وكان عنده. واتفق أن الميمندي، وزير مسعود، توفي، فاستحضر أبا نصر بن محمد ابن عبد الصمد واستوزره، فاستناب أبو نصر عند هارون ابنه عبد الجبار، وجعله وزيره، فجرى بينه وبين هارون منافرة أسرها هارون في نفسه، وحسن له أصحابه القبض على عبد الجبار، والعصيان على مسعود، فأظهر العصيان في شهر رمضان سنة خمس وعشرين، وأراد قتل عبد الجبار، فاختفى منه، فقال أعداء أبيه للملك مسعود: إن أبا نصر واطأ هارون على العصيان، وإنما اختفى ابنه حيلة ومكراً، فاستوحش منه إلا أنه لم يظهر ذلك له.
وعزم مسعود على الخروج من غزنة إلى خوارزم، فسار عن غزنة، والزمان شتاء، فلم يمكنه قصد خوارزم، فسار إلى جرجان طالباً أنوشروان بن منوجهر ليقابله على ما ظهر منه عند اشتغال مسعود بقتال أحمد ينالتكين ببلاد الهند. فلما كان ببلاد جرجان أتاه كتاب عبد الجبار بن أبي نصر بقتل هارون، وإعادة البلد إلى طاعته، وكان عبد الجبار في بدء استتاره يعمل على قتل هارون، ووضع جماعة على الفتك به، فقتلوه عند خروجه إلى الصيد، وقام عبد الجبار بحفظ البلد. فلما وقف مسعود على كتاب عبد الجبار علم أن الذي قيل عن أبيه كان باطلاً، فعاد إلى الثقة به، وبقي عبد الجبار أياماً يسيرة، فوثب به غلمان هارون فقتلوه، وولوا البلد إسماعيل بن التونتاش، وقام بأمره شكر خادم أبيه، وعصوا على مسعود. فكتب مسعود إلى شاهملك بن علي، أحد أصحاب الأطراف بنواحي خوارزم، بقصد خوارزم وأخذها، فسار إليها، فقاتله شكر وإسماعيل، ومنعاه عن البلد، فهزمهما وملك البلد، فسار إلى طغرلبك وداود السلجقيين والتجآ إليهما، وطلبا المعونة منهما، فسار داود معهما إلى خوارزم، فلقيهم شاهملك وقاتلهم فهزمهم، ولما جرى على مسعود من القتل ما جرى وملك مودود دخل شاهملك في طاعته وصافاه، وتمسك كل واحد منهما بصاحبه. ثم إن طغرلبك سار إلى خوارزم فحصرها وملكها واستولى عليها، وانهزم شاهملك بين يديه، واستصحب أمواله وذخائره، ومضى في المفازة إلى دهستان، ثم انتقل عنها إلى طبس، ثم إلى أطراف كرمان، ثم إلى عمال التيز ومكران، فلما وصل إلى هناك علم خلاصه ببعده، وأمن في نفسه، فعرف خبره أرتاش، أخو إبراهيم ينال، وهو ابن عم طغرلبك، فقصده في أربعة آلاف فارس، فأوقع به وأسره وأخذ ما معه، ثم عاد به فسلمه إلى داود، وحصل هو بما غنم من أمواله، وعاد بعد ذلك إلى باذغيس المقاربة لهراة، وأقام على محاصرة هراة، لأنهم إلى هذه الغاية كانوا مقيمين على الامتناع والاعتصام ببلدهم والثبات على طاعة مودود بن مسعود، فقاتلهم أهل هراة، وحفظوا بلدهم مع خراب سوادهم، وإنما حملهم على ذلك، الحرب خوفاً من الغز. ذكر قصد إبراهيم ينال همذان وما كان منهقد ذكرنا خروج إبراهيم ينال من خراسان إلى الري، واستيلاءه عليها. فلما استقر أمرها سار عنها، وملك البلاد المجاورة لها، ثم انتقل إلى بروجرد فملكها، ثم قصد همذان، وكان بها أبو كاليجار كرشاسف بن علاء الدولة صاحبها، ففارقها إلى سابور خواست، ونزل إبراهيم ينال على همذان، وأراد دخولها، فقال له أهلها: إن كنت تريد الطاعة، وما يطلبه السلطان من الرعية، فنحن باذلوه، وداخلون تحته، فاطلب أولاً هذا المخالف عليك الذي كان عندنا، يعنون كرشاسف، فإنا لا نأمن عوده إلينا، فإذا ملكته أو دفعته كنا لك. فكف عنهم وسار إلى كرشاسف، بعد أن أخذ من أهل البلد مالاً، فلما قارب سابور خواست صعد كرشاسف إلى القلعة، فتحصن بها، وحصر إبراهيم البلد، فقاتله أهله خوفاً من الغز، فلم يكن لهم طاقة على دفعهم، فملك البلد قهراً، ونهب الغز أهله، وفعلوا الأفاعيل القبيحة بهم، ثم عادوا بما غنموه إلى الري، فرأوا طغرلبك قد وردها، ولما فارق إبراهيم والغز همذان نزل كرشاسف إليها، فأقام بها إلى أن وصل طغرلبك إلى الري فسار إليه إبراهيم، على ما نذكر إن شاء الله تعالى. ذكر خروج طغرلبك إلى الري | |
|
| |
الشيخ عودة الشيخ عودة
عدد المساهمات : 1748 تاريخ التسجيل : 28/09/2008 العمر : 74
| موضوع: رد: كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير الأحد فبراير 23, 2014 6:30 am | |
| وملك بلد الجبل في هذه السنة خرج طغرلبك من خراسان إلى الري، بعد فراغه من خوارزم، وجرجان، وطبرستان، فلما سمع أخوه إبراهيم ينال بقدومه سار إليه فلقيه، وتسلم طغرلبك الري منه، وتسلم غيرها من بلد الجبل وسار إبراهيم إلى سجستان، وأخذ طغرلبك أيضاً قلعة طبرك من مجد الدولة بن بويه، وأقام عنده مكرماً، وأمر طغرلبك بعمارة الري وكانت قد خربت، فوجد في دار الإمارة مراكب ذهب مجوهرة وبرنيتي صيني مملوءتين جوهراً، ومالاً كثيراً، وغير ذلك. وكان كامرو يهادي طغرلبك، وهو بخراسان، ويخدمه، وخدم أخاه إبراهيم لما كان بالري، فلما حضر عنده أهدى له هدايا كثيرة من أنواع شتى، وهو يظن أن طغرلبك يزيد في إقطاعه، ويرعى له ما تقدم من خدمته له، فخاب ظنه، وقرر على بيده كل سنة سبعة وعشرين ألف دينار.
ثم ساروا إلى قزوين، فامتنع عليه أهلها، فزحف إليهم ورماهم بالسهام والحجارة، فلم يقدروا أن يقفوا على السور، وقتل من أهل البلد برشق، وأخذ ثلاثمائة وخمسين رجلاً، فلما رأى كامرو ومرداويج بن بسو ذلك خافوا أن يملك البلد عنوة وينهب، فمنعوا الناس من القتال، وأصلحوا الحال على ثمانين ألف دينار، وصار صاحبها في طاعته. ثم إنه أرسل إلى كوكتاش وبوقا وغيرهما من أمراء الغز، الذين تقدم خروجهم، يمنيهم، ويدعوهم إلى الحضور في خدمته، فلما وصل رسوله إليهم ساروا حتى نزلوا على نهر بنواحي زنجان، ثم أعادوا رسوله، وقالوا له: قل له قد علمنا أن غرضك أن تجمعنا لتقبض علينا، والخوف منك أبعدنا عنك، وقد نزلنا هاهنا، فإن أردنا قصدنا خراسان، أو الروم، ولا نجتمع بك ابداً. وأرسل طغرلبك إلى ملك الديلم يدعوه إلى الطاعة، ويطلب منه مالاً، ففعل ذلك، وحمل إليه مالاً وعروضاً، وأرسل أيضاً إلى سلار الطرم يدعوه إلى خدمته، ويطالبه بحمل مائتي ألف دينار، فاستقر الحال بينهما على الطاعة وشيء من المال. وأرسل سرية إلى أصبهان، وبها أبو منصور فرامرز بن علاء الدولة، فأغارت على أعمالها وعادت سالمة. وخرج طغرلبك من الري، وأظهر قصد أصبهان، فراسله فرامرز، وصانعه بمال، فعاد عنه وسار إلى همذان فملكها من صاحبها كرشاسف بن علاء الدولة، وكان قد نزل إليه، وهو بالري، بعد أن راسله طغرلبك غير مرة، وسار معه من الري إلى أبهر وزنجان، فأخذ منه همذان، وتفرق أصحابه عنه، وطلب منه طغرلبك تسليم قلعة كنكور، فأرسل إلى من بها بالتسليم، فلم يفعلوا، وقالوا لرسل طغرلبك: قل لصاحبك والله لو قطعته قطعاً ما سلمناها إليك. فقال له طغرلبك: ما امتنعوا إلا بأمرك ورأيك، فاصعد إليهم، وأقم معهم، ولا تفارق موضعك حتى آذن لك. ثم عاد إلى الري، واستناب بهمذان ناصراً العلوي، وكان كرشاسف قد قبض عليه، فأخرجه طغرلبك وولاه الري وأمره بمساعدة من يجعله في البلد، وكان معه مرداويج بن بسو نائبه في جرجان وطبرستان، فمات، وقام ولده جستان مقامه، فسار طغرلبك إلى جرجان، فعزل جستان عنها، واستعمل على جرجان أسفار، وهو من خواص منوجهر بن قابوس، فلما فرغ أمر جرجان وطبرستان سار إلى دهستان فحصرها، وبها صاحبها كاميار، معتصماً بها لحصانتها. ذكر مسير عساكر طغرلبك إلى كرمانوسير طغرلبك طائفة من أصحابه إلى كرمان مع أخيه إبراهيم ينال، بعد أن دخل الري، وقيل إن إبراهيم لم يقصد كرمان، وإنما قصد سجستان، وكان مقدم العساكر التي سارت إلى كرمان غيره، فلما وصلوا إلى أطراف كرمان نهبوا، ولم يقدموا على التوغل فيها، فلم يروا من العساكر من يكفهم، فتوسطوا وملكوا عدة مواضع منها ونهبوها. فبلغ الخبر إلى الملك أبي كاليجار، صاحبها، فسير وزيره مهذب الدولة في العساكر الكثيرة، وأمره بالجد في المسير ليدركهم قبل أن يملكوا جيرفت، وكانوا يحاصرونها، فطوى المراحل حتى قاربهم، فرحلوا عن جيرفت ونزلوا عى ستة فراسخ منها. وجاء مهذب الدولة فنزلها وأرسل ليحمل الميرة إلى العسكر، فخرجت الغز إلى الجمال والبغال والميرة ليأخذوها، وسمع مهذب الدولة ذلك، فسير طائفة من العسكر لمنعهم، فتواقعوا واقتتلوا، وتكاثر الغز، فسمع مهذب الدولة الخبر، فسار في العساكر إلى المعركة، وهم يقتتلون، وقد ثبتت كل طائفة لصاحبتها واشتد القتال إلى حد أن بعض الغز رمى فرس بعض أصحاب أبي كاليجار بسهم، فوقع فيه، وطعنه صاحب الفرس برمح، فأصاب فرس الغزي، وحمل الغزي على صاحب الفرس، فضربه ضربة قطعت يده، وحمل عليه صاحب الفرس وهو على هذه الحالة، فضربه بسيفه فقطعه قطعتين، وسقطا إلى الأرض قتيلين، والفرسان قتيلان، وهذه حالة لم يدون عن مقدمي الشجعان أحسن منها. فلما وصل مهذب الدولة إلى المعركة انهزم الغز وتركوا ما كانوا ينهبونه، ودخلوا المفازة، وتبعهم الديلم إلى رأس الحد، وعادوا إلى كرمان فأصلحوا ما فسد منها. ذكر الوحشة بين القائم بأمر الله أمير المؤمنين وجلال الدولة
في هذه السنة افتتحت الجوالي في المحرم ببغداد، فأنفذ الملك جلال الدولة فأخذ ما تحصل منها، وكانت العادة أن يحمل منها إلى الخلفاء لا تعارضهم فيها الملوك، فلما فعل جلال الدولة ذلك عظم الأمر فيه على القائم بأمر الله واشتد عليه، وأرسل مع أقضى القضاة أبي الحسن الماوردي في ذلك، وتكررت الرسائل، فلم يصغ جلال الدولة لذلك، وأخذ الجوالي، فجمع الخليفة الهاشميين بالدار والرجالة، وتقدم بإصلاح الطيار والزبازب، وأرسل إلى أصحاب الأطراف والقضاة بما عزم عليه، وأظهر العزم على مفارقة بغداد، فلم يتم ذلك، وحدث وحشة من الجهتين، فاقتضت الحال أن الملك يترك معارضة النواب الإمامية فيها في السنة الآتية. ذكر محاصرة شهرزور وغيرهافي هذه السنة سار أبو الشوك إلى شهرزور، فحصرها ونهبها وأحرقها وخرب قراها وسوادها، وحصر قلعة تبرانشاه، فدفعه أبو القاسم بن عياض عنها، ووعده أن يخلص ولده أبا الفتح من أخيه مهلهل، وأن يصلح بينها. وكان مهلهل قد سار من شهرزور لما بلغه أن أخاه أبا الشوك يريد قصدها، وقصد نواحي سندة وغيرها من ولايات أبي الشوك، فنهبها وأحرقها وهلكت الرعية في الجهتين. ثم إن أبا الشوك راسل أبا القاسم بن عياض يستنجزه ما وعده به من تخليص ولده والشروط التي تقررت بينهما، فأجابه بأن مهلهلاً غير مجيب إليه. فعند ذلك سار أبو الشوك من حلوان إلى الصامغان ونهبها، ونهب الولاية التي لمهلهل جميعها، فانزاح مهلهل من بين يديه، وترددت الرسل بينهما، فاصطلحا على دغل ودخل، وعاد أبو الشوك. ذكر خروج سكين بمصرفي هذه السنة، في رجب، خرج بمصر إنسان اسمه سكين، كان يشبه الحاكم صاحب مصر، فادعى أنه الحاكم، وقد رجع بعد موته، فاتبعه جمع ممن يعتقد رجعة الحاكم، فاغتنموا خلو دار الخليفة بمصر من الجند وقصدوها مع سكين نصف النهار، فدخلوا الدهليز، فوثب من هناك من الجند، فقال لهم أصحابه: إنه الحاكم، فارتاعوا لذلك، ثم ارتابوا به، فقبضوا على سكين، ووقع الصوت، واقتتلوا، فتراجع الجند إلى القصر، والحرب قائمة، فقتل من أصحابه جماعة، وأسر الباقون وصلبوا أحياء، ورماهم الجند بالنشاب حتى ماتوا. ذكر عدة حوادثفي هذه السنة كانت زلزلة عظيمة بمدينة تبريز، هدمت قلعتها وسورها ودورها وأسواقها وأكثر دار الإمارة، وسلم الأمير لأنه كان في بعض البساتين، فأحصي من هلك من أهل البلد، وكانوا قريباً من خمسين ألفاً، ولبس الأمير السواد والمسوح لعظم المصيبة، وعزم على الصعود إلى بعض قلاعه، خوفاً من توجه الغز السلجوقية إليه، وأخبر بذلك أبو جعفر بن الرقي العلوي النقيب بالموصل. وفيها قتل قرواش كاتبه أبا الفتح صبراً. وفيها توفي عبد الله بن أحمد أبو ذر الهروي الحافظ، أقام بمكة، وتزوج من العرب، وأقام بالسروات، وكان يحج كل سنة يحدث في الموسم، ويعود إلى أهله، وصحب القاضي أبا بكر البقلاني. وفيها توفي عمر بن إبراهيم بن سعيد الزهري من ولد سعد بن أبي وقاص، وكان فقيهاً شافعياً. ثم دخلت سنة خمس وثلاثين وأربعمائة ذكر إخراج المسلمين والنصارى القسطنطينية في هذه السنة أخرج ملك الروم الغرباء من المسلمين والنصارى وسائر الأنواع من القسطنطينية. وسبب ذلك أنه وقع الخبر بالقسطنطينية أن قسطنطين قتل ابنتي الملك المتقدم اللتين قد صار الملك فيهما الآن، فاجتمع أهل البلد وأثاروا الفتنة، وطمعوا في النهب، فأشرف عليهم قسطنطين، وسألهم عن السبب في ذلك، فقالوا: قتلت الملكتين، وأفسدت الملك، فقال: ما قتلتهما، وأخرجهما حتى رآهما الناس، فسكنوا. ثم إنه سأل عن سبب ذلك، فقيل له: إنه فعل الغرباء، وأشاروا بإبعادهم، وأمر فنودي أن لا يقيم أحد ورد البلد منذ ثلاثين سنة، فمن أقام بعد ثلاثة أيام كحل، فخرج منها أكثر من مائة ألف إنسان، ولم يبق بها أكثر من اثني عشر نفساً، ضمنهم الروم فتركهم. ذكر وفاة جلال الدولة وملك أبي كاليجار
في هذه السنة، في سادس شعبان، توفي الملك جلال الدولة أبو طاهر بن بهاء الدولة بن عضد الدولة بن بويه ببغداد، وكان مرضه ورماً في كبده، وبقي عدة أيام مريضاً وتوفي، وكان مولده سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة، وملكه ببغداد ست عشرة سنة وأحد عشر شهراً، ودفن بداره، ومن علم سيرته، وضعفه، واستيلاء الجند والنواب عليه، ودوام ملكه إلى هذه الغاية، علم أن الله على كل شيء قدير يؤتي الملك من يشاء وينزعه ممن يشاء. وكان يزور الصالحين، ويقرب منهم، وزار مرة مشهدي علي والحسين، عليهما السلام، وكان يمشي حافياً قبل أن يصل إلى كل مشهد منهما، نحو فرسخ، يفعل ذلك تديناً. ولما توفي انتقل الوزير كمال الملك بن عبد الرحيم وأصحاب الملك الأكابر إلى باب المراتب، وحريم دار الخلافة، خوفاً من نهب الأتراك والعامة دورهم، فاجتمع قواد العسكر تحت دار المملكة، ومنعوا الناس من نهبها. ولما توفي كان ولده الأكبر الملك العزيز أبو منصور بواسط، على عادته، فكاتبه الأجناد بالطاعة، وشرطوا عليه تعجيل ما جرت به العادة من حق البيعة، فترددت المراسلات بينهم في مقداره وتأخيره لفقده. وبلغ موته إلى الملك أبي كاليجار بن سلطان الدولة بن بهاء الدولة، فكاتب القواد والأجناد، ورغبهم في المال وكثرته وتعجيله، فمالوا إليه وعدلوا عن الملك العزيز. وأما الملك العزيز فإنه أصعد إلى بغداد لما قرب الملك أبو كاليجار منها، على ما نذكره سنة ست وثلاثين، عازماً على قصد بغداد ومعه عسكره، فلما بلغ النعمانية غدر به عسكره ورجعوا إلى واسط، وخطبوا لأبي كاليجار، فلما رأى ذلك مضى إلى نور الدولة دبيس بن مزيد، لأنه بلغه ميل جند بغداد إلى أبي كاليجار، وسار من عند دبيس إلى قرواش بن المقلد، فاجتمع به بقرية خصة من أعمال بغداد، وسار مع إلى الموصل، ثم فارقه وقصد أبا الشوك لأنه حموه، فلما وصل إلى أبي الشوك غدر به، وألزمه بطلاق ابنته، ففعل، وسار عنه إلى إبراهيم ينال أخي طغرلبك، وتنقلت به الأحوال، حتى قدم بغداد في نفر يسير عازماً على استمالة العسكر وأخذ الملك، فثار به أصحاب الملك أبي كاليجار، فقتل بعض من عنده، وسار هو متخفياً، فقصد نصر الدولة بن مروان فتوفي عنده بميافارقين، وحمل إلى بغداد، ودفن عند أبيه بمقابر قريش، في مشهد باب التبن سنة إحدى وأربعين. وقد ذكر الشيخ أبو الفرج بن الجوزي أنه آخر ملوك بني بويه، وليس كذلك، فإنه ملك بعده أبو كاليجار، ثم الملك الرحيم بن أبي كاليجار، وهو آخرهم على ما تراه. وأما الملك أبو كاليجار فلم تزل الرسل تتردد بينه وبين عسكر بغداد، حتى استقر الأمر له، وحلفوا، وخطبوا له ببغداد في صفر من سنة ست وثلاثين وأربعمائة، على ما نذكره إن شاء الله تعالى. ذكر حال أبي الفتح مودود بن سبكتكينفي هذه السنة سير الملك أبو الفتح مودود بن مسعود بن سبكتكين عسكراً مع حاجب له إلى نواحي خراسان، فأرسل إليهم داود أخو طغرلبك، وهو صاحب خراسان، ولده ألب أرسلان في عسكر، فالتقوا واقتتلوا فكان الظفر للملك ألب أرسلان، وعاد عسكر غزنة منهزماً. وفيها أيضاً، في صفر، سار جمع من الغز إلى نواحي بست، وفعلوا ما عرف منهم من النهب والشر، فسير إليهم أبو الفتح مودود عسكراً، فالتقوا بولاية بست، واقتتلوا قتالاً شديداً انهزم الغز فيه، وظفر عسكر مودود، وأكثروا فيهم القتل والأسر. ذكر ملك مودود عدة حصونفي هذه السنة اجتمع ثلاث ملوك من ملوك الهند، وقصدوا لهاوور وحصروها، فجمع مقدم العساكر الإسلامية بتلك الديار من عنده منهم، وأرسل إلى صاحبه مودود يستنجده، فسير إليه العساكر.
فاتفق أن بعض أولئك الملوك فارقهم وعاد إلى طاعة مودود، فرحل الملكان الآخران إلى بلادهما، فسارت العساكر الإسلامية إلى أحدهما، ويعرف بدوبال هرباته، فانهزم منهم، وصعد إلى قلعة له منيعة هو وعساكره، فاحتموا بها، وكانوا خمسة آلاف فارس وسبعين ألف راجل، وحصرهم المسلمون وضيقوا عليهم، وأكثروا القتل فيهم، فطلب الهنود الأمان على تسليم الحصن، فامتنع المسلمون من إجابتهم إلى ذلك إلا بعد أن يضيفوا إليه باقي حصون ذلك الملك الذي لهم، فحملهم الخوف وعدم الأقوات على إجابتهم إلى ما طلبوا وتسلموا الجميع، وغنم المسلمون الأموال، وأطلقوا ما في الحصون من أسرى المسلمين، وكانوا نحو خمسة آلاف نفر. فلما فرغوا من هذه الناحية قصدوا ولاية الملك الثاني، واسمه تابت، بالري، فتقدم إليهم ولقيهم، فاقتتلوا قتالاً شديداً، وانهزمت الهنود، وأجلت المعركة عن قتل ملكهم وخمسة آلاف قتيل، وجرح وأسر ضعفاهم، وغنم المسلمون أموالهم وسلاحهم ودوابهم. فلما رأى باقي الملوك من الهند ما لقي هؤلاء أذعنوا بالطاعة، وحملوا الأموال، وطللبوا الأمان والإقرار على بلادهم، فأجيبوا إلى ذلك. ذكر الخلف بين الملك أبي كاليجار وفرامرز بن علاء الدولةفي هذه السنة نكث الأمير أبو منصور فرامرز بن علاء الدولة بن كاكويه، صاحب أصبهان، العهد الذي بينه وبين الملك أبي كاليجار، وسير عسكراً إلى نواحي كرمان، فملكوا منها حصنين، وغنموا ما فيهما. فأرسل الملك أبو كاليجار إليه في إعادتهما وإزالة الاعتراض عنهما، فلم يفعل، فتجهز عسكراً وسيره إلى أبرقوة، فحصرها وملكها، فانزعج فرامرز لذلك، وجهز عسكراً كثيراً وسيره إليهم، فسمع الملك أبو كاليجار بذلك، فسير عسكراً ثانياً مدداً لعسكره الأول، والتقى العسكران فاقتتلوا وصبروا، ثم انهزم عسكر أصبهان، وأسر مقدمهم الأمير إسحاق بن ينال، واسترد نواب أبي كاليجار ما كانوا أخذوه من كرمان. ذكر أخبار الترك بما وراء النهرفي هذه السنة، في صفر، أسلم من كفار الترك الذين كانوا يطرقون بلاد الإسلام بنواحي بلاساغون وكاشغر، ويغيرون ويعيثون، عشرة آلاف خركاة، وضحوا يوم عيد الأضحى بعشرين ألف رأس غنم، وكفى الله المسلمين شرهم. وكانوا يصيفون بنواحي بلغار، ويشتون بنواحي بلاساغون، فلما أسلموا تفرقوا في البلاد، فكان في كل ناحية ألف خركاة، وأقل وأكثر لأمنهم، فإنهم إنما كانوا يجتمعون ليحمي بعضهم بعضاً من المسلمين، وبقي من الأتراك من لم يسلم تتر وخطا، وهم بنواحي الصين. وكان صاحب بلاساغون، وبلاد الترك، شرف الدولة، وفيه دين، وقد أقنع من إخوته وأقاربه بالطاعة، وقسم البلاد بينهم، فأعطى أخاه أصلان تكين كثيراً من بلاد الترك، وأعطى أخاه بغراجان طراز وأسبيجاب، وأعطى عمه طغاخان، فرغانة بأسرها، وأعطى ابن علي تكين بخارى وسمرقند وغيرهما وقنع هو ببلاساغون وكاشغر. ذكر أخبار الروم والقسطنطينيةفي هذه السنة، في صفر أيضاً، ورد إلى القسطنطينية عدد كثير من الروس في البحر، وراسلوا قسطنطين ملك الروم بما لم تجر به عادتهم، فاجتمعت الروم على حربهم، وكان بعضهم قد فارق المراكب إلى البر، وبعضهم فيها، فألقى الروم في مراكبهم النار، فلم يهتدوا إلى إطفائها، فهلك كثير منهم بالحرق والغرق، وأما الذين على البر فقاتلوا، وأبلوا، وصبروا، ثم انهزموا، فلم يكن لهم ملجأ، فمن استسلم أولاً استرق وسلم، ومن امتنع، حتى أخذ قهراً، قطع الروم أيمانهم، وطيف بهم في البلد، ولم يسلم منهم إلا اليسير مع ابن ملك الروسية، وكفي الروم شرهم. ذكر طاعة المعز بإفريقية للقائم بأمر اللهفي هذه السنة أظهر المعز ببلاد إفريقية الدعاء للدولة العباسية، وخطب للإمام القائم بأمر الله، أمير المؤمنين، ووردت عليه الخلع والتقليد ببلاد إفريقية وجميع ما يفتحه، وفي أول الكتاب الذي مع الرسل: من عبد الله ووليه أبي جعفر القائم بأمر الله أمير المؤمنين إلى الملك الأوحد، ثقة الإسلام، وشرف الإمام، وعمدة الأنام ناصر دين الله، قاهر أعداء الله، ومؤيد سنة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أبي تميم المعز بن باديس بن المنصور ولي أمير المؤمنين بولاية جميع المغرب، وما افتتحه بسيف أمير المؤمنين، وهو طويل.
وأرسل إليه سيف وفرس وأعلام على طريق القسطنطينية، فوصل ذلك يوم الجمعة، فدخل به إلى الجامع، والخطيب ابن الفاكاة على المنبر يخطب الخطبة الثانية، فدخلت الأعلام، فقال: هذا لواء الحمد يجمعكم. وهذا معز الدين يسمعكم. وأستغفر الله لي ولكم. وقطعت الخطبة للعلويين من ذلك الوقت، وأحرقت أعلامهم. ذكر عدة حوادثفي هذه السنة جرت حرب بين ابن الهيثم، صاحب البطيحة، وبين الأجناد من الغز والديلم، فأحرق الجامدة وغيرها، وخطب الجند للملك أبي كاليجار. وفيها أرسل الخليفة القائم بأمر الله أقضى القضاة أبا الحسن علي بن محمد ابن حبيب الماوردي، الفقيه الشافعي، إلى السلطان طغرلبك قبل وفاة جلال الدولة، وأمره أن يقرر الصلح بين طغرلبك والملك جلال الدولة وأبي كاليجار، فسار إليه وهو بجرجان، فلقيه طغرلبك على أربعة فراسخ إجلالاً لرسالة الخليفة، وعاد الماوردي سنة ست وثلاثين وأخبر عن طاعة طغرلبك للخليفة، وتعظيمه لأوامره ووقوفه عنده. وفيها توفي عبد الله بن أحمد بن عثمان بن الفرج بن الأزهر أبو القاسم ابن أبي الفتح الأزهري الصيرفي المعروف بابن السواري شيخ الخطباء أبي بكر، وكان إماماً في الحديث، ومن تلامذته الخطيب البغدادي. ثم دخلت سنة ست وثلاثين وأربعمائة ذكر قتل الإسماعيلية بما وراء النهر في هذه السنة أوقع بغراخان، صاحب ما وراء النهر، بجمع كثير من الإسماعيلية. وكان سبب ذلك أن نفراً منهم قصدوا ما وراء النهر، ودعوا إلى طاعة المستنصر بالله العلوي، صاحب مصر، فتبعهم جمع كثير وأظهروا مذاهب أنكرها أهل تلك البلاد. وسمع ملكها بغراخان خبرهم، وأراد الإيقاع بهم، فخاف أن يسلم منه بعض من أجابهم من أهل تلك البلاد، فأظهر لبعضهم أنه يميل إليهم، ويريد الدخول في مذاهبهم، وأعلمهم ذلك، وأحضرهم مجالسة، ولم يزل حتى علم جميع من أجابهم إلى مقالتهم، فحينئذ قتل من بحضرته منهم، وكتب إلى سائر البلاد بقتل من فيها، ففعل بهم ما أمر، وسلمت البلاد منهم. ذكر الخطبة للملك أبي كاليجار وإصعاده إلى بغدادقد ذكرنا لما توفي الملك جلال الدولة ما كان من مراسلة الجند الملك أبا كاليجار والخطبة له. فلما استقرت القواعد بينه وبينهم أرسل أموالاً فرقت على الجند ببغداد، وعلى أولادهم، وأرسل عشرة آلاف دينار للخليفة ومعها هدايا كثيرة، فخطب به ببغداد في صفر، وخطب له أيضاً أبو الشوك في بلاده، ودبيس بن مزيد ببلاده، ونصر الدولة بن مروان بديار بكر، ولقبه الخليفة محيي الدين، وسار إلى بغداد في مائة فارس من أصحابه لئلا تخافه الأتراك. فلما وصل إلى النعمانية لقيه دبيس بن مزيد، ومضى إلى زيارة المشهدين بالكوفة وكربلاء، ودخل إلى بغداد في شهر رمضان ومعه وزيره ذو السعادات أبو الفرج محمد بن جعفر بن محمد بن فسانجس، ووعده الخليفة القائم بأمر الله أن يستقبله، فاستعفى من ذلك، وأخرج عميد الدولة أبا سعد بن عبد الرحيم وأخاه كمال الملك وزيري جلال الدولة من بغداد، فمضى أبو سعد إلى تكريت، وزينت بغداد لقدومه، وأمر فخلع على أصحاب الجيوش، وهم: البساسيري، والنشاووري، والهمام أبو اللقاء، وجرى من ولاة العرض تقديم لبعض الجند وتأخير، فشغب بعضهم، وقتلوا واحداً من ولاة العرض بمرأى من الملك أبي كاليجار، فنزل في سميرية بكنكور، وانحدر خوفاً من انخراق الهيبة، وأصعد بفم الصلح. وفي رمضان منها توفي أبو القاسم علي بن أحمد الجرجرائي وزير الظاهر والمستنصر الخليفتين، وكان فيه كفاية، وشهامة، وأمانة، وصلى عليه المستنصر بالله.ز ذكر عدة حوادثفي هذه السنة نزل الأمير أبو كاليجار كرشاسف بن علاء الدولة من كنكور وقصد همذان فملكها وأزاح عنها نواب السلطان طغرلبك، وخطب للملك أبي كاليجار، وصار في طاعته. وفيها أمر الملك أبي كاليجار ببناء سور مدينة شيراز، فبني وأحكم بناؤه، وكان دوره اثني عشر ألف ذراع، وعرضه ثمانية أذرع، وله أحد عشر باباً، وفرغ منه سنة أربعين وأربعمائة. وفيها نقل تابوت جلال الدولة من داره إلى مشهد باب التبن، إلى تربة له هناك.
وفيها استوزر السلطان طغرلبك وزيره أبا القاسم علي بن عبد الله الجويني، وهو أول وزير وزر له، ثم وزر له بعده رئيس الرؤساء أبو عبد الله الحسين ابن علي بن ميكائيل، ثم وزر له بعدهنظام الملك أبو محمد الحسن بن محمد الدهستاني، وهو أول من لقب نظام الملك، ثم وزر له بعده عميد الملك الكندري، وهو أشهرهم، وإنما اشتهر لأن طغرلبك، في أيامه، عظمت دولته، ووصل إلى العراق، وخطب به بالسلطنة، وسيرد من أخباره ما فيه كفاية، فلا حاجة إلى ذكرها هاهنا. وفيها توفي الشريف المرتضى أبو القاسم علي أخر الرضي في آخر ربيع الأول، ومولده سنة خمس وخمسين وثلاثمائة، وولي نقابة العلويين بعده أبو أحمد عدنان ابن أخيه الرضي. وفيها توفي القاضي أبو عبد الله الحسين بن علي بن محمد الصيمري، وهو شيخ أصحاب أبي حنيفة في زمانه، ومن جملة تلامذته القاضي أبو عبد الله الدامغاني، ومولده سنة إحدى وخمسين وثلاثمائة، وولي بعده قضاء الكرخ القاضي أبو الطيب الطبري مضافاً إلى ما كان يتولاه من القضاء بباب الطاق. وفيها توفي القاضي أبو الحسن عبد الوهاب بن منصور بن المشتري قاضي خوزستان وفارس، وكان شافعي المذهب. وفيها توفي أبو الحسين محمد بن علي البصري، المتكلم المعتزلي، صاحب التصانيف المشهورة. ثم دخلت سنة سبع وثلاثين وأربعمائة ذكر وصول إبراهيم ينار إلى همذان في هذه السنة أمر السلطان طغرلبك أخاه إبراهيم ينال بالخروج إلى بلد الجبل وملكها، فسار إليها من كرمان، وقصد همذان، وبها كرشاسف بن علاء الدولة، ففارقها خوفاً، ودخلها ينال فملكها، والتحق كرشاسف بالأكراد الجوزقان. وكان أبو الشوك حينئذ بالدينور، فسار عنها إلى قرميسين خوفاً وإشفاقاً من ينال، فقوي طمع ينال حينئذ في البلاد، وسار الدينور فملكها ورتب أمورها، وسار منها يطلب قرميسين. فلما سمع أبو الشوك به سار إلى حلوان وترك بقرميسين من في عسكره من الديلم، والأكراد الشاذنجان، ليمنعوها ويحفظوها، ووافاهم ينال جريدة، فقاتلوه، فدفعوه عنها، فانصرف عنهم وعاد بخركاهاته وحلله، فقاتلوه، فضعفوا عنه وعجزوا عن منعه، فملك البلد في رجب عنوة وقتل من العساكر جماعة كثيرة، وأخذ أموال من سلم من القتل، وسلاحهم، وطردهم، ولحقوا بأبي الشوك، ونهب البلد وقتل وسبى كثيراً من أهله. ولما سمع أبو الشوك ذلك سير أهله وأمواله وسلاحه من حلوان إلى قلعة السيروان، وأقام جريدة في عسكره، ثم إن ينال سار إلى الصيمرة في شعبان، فملكها ونهبها، وأوقع بالأكراد المجاورين لها من الجوزقان، فانهزموا، وكان كرشاسف بن علاء الدولة نازلاً عندهم، فسار هو وهم إلى بلد شهاب الدولة أبي الفوارس منصور بن الحسين. ثم إن إبراهيم ينال سار إلى حلوان، وقد فارقها أبو الشوك، ولحق بقلعة السيروان، فوصل إليها إبراهيم آخر شعبان، وقد جلا أهلها عنها، وتفرقوا في البلاد، فنهبها وأحرقها، وأحرق دار أيب الشوك، وانصرف بعد أن اجتاحها ودرسها. وتوجه طائفة من الغز إلى خانقين في أثر جماعة من أهل حلوان كانوا ساروا بأهليهم وأولادهم وأموالهم، فأدركوهم وظفروا بهم وغنموا ما معهم، وانتشر الغز في تلك النواحي، فبلغوا مايدشت وما يليها، فنهبوها وأغاروا عليها. فلما سمع الملك أبو كاليجار هذه الأخبار أزعجته وأقلقته، وكان بخوزستان، فعزم على المسير، ودفع ينال ومن معه من الغز عن البلاد، فأمر عساكره بالتجهز للسفر إليهم، فعجزوا عن الحركة لكثرة ما مات من دوابهم، فلما تحقق ذلك سار نحو بلاد فارس، فحمل العسكر أثقالهم على الحمير ذكر عدة حوادثفي هذه السنة، في المحرم، خطب للملك أبي كاليجار بأصبهان وأعمالها، وعاد الأمير أبو منصور بن علاء الدولة إلى طاعته. وكان سبب ذلك أنه لما عصى على الملك أبي كاليجار، وقصد كرمان، على ما ذكرناه، والتجأ إلى طاعة طغرلبك، لم يبلغ ما كان يؤمله من طغرلبك، فلما عاد طغرلبك إلى خراسان خاف أبو منصور من الملك أبي كاليجار فراسله في العود إلى طاعته، فأجابه إلى ذلك واصطلحا.
وفيها اصطلح أبو الشوك وأخوه مهلهل، وكان متقاطعين من حين أسر مهلهل أبا الفتح بن أبي الشوك، وموت أبي الفتح في سجنه. فلما كان الآن وخافا من الغز تراسلا في الصلح، واعتذر مهلهل، وأرسل ولده أبا الغنائم إلى أبي الشوك، وحلف له أن أبا الفتح توفي حتف أنفه من غير قتل، وقال: هذا ولدي تقتله عوضه، فرضي أبو الشوك، وأحسن إلى أبي الغنائم، ورده إلى أبيه، واصطلحا واتفقا. وفيها، في جمادى الأولى، خلع الخليفة على أبي القاسم علي بن الحسن بن المسلمة، واستوزره، ولقبه رئيس الرؤساء، وهو ابتداء حاله. وكان السبب في ذلك أن ذا السعادات بن فسانجس، وزير الملك أبي كاليجار، كان يسيء الرأي في عميد الرؤساء، وزير الخليفة، فطلب من الخليفة أن يعزله، فعزله واستوزر رئيس الرؤساء نيابة، ثم خلع عليه وجلس في الدست. وفيها، في شعبان، سار سرخاب بن محمد بن عناز أخو أبي الشوك إلى البندنيجين وبها سعدي بن أبي الشوك، ففارقها سعدي ولحق بأبيه، ونهب سرخاب بعضها، وكان أبو الشوك قد أخذ بلد سرخاب ما عدا دزديلويه وهما متباينان لذلك. وفيها، في آخر رمضان، توفي أبو الشوك فارس بن محمد بن عناز بقلعة السيروان، وكان مرض لما سار إلى السيروان من حلوان، ولما توفي غدر الأكراد بابنه سعدي، وصاروا مع عمه مهلهل، فعند ذلك مضى سعدي إلى إبراهيم ينال، وأتى بالغز، على ما نذكره إن شاء الله تعالى. وفيها قتل عيسى بن موسى الهذباني صاحب أربل، وكان خرج إلى الصيد، فقتله ابنا أخ له، وساروا إلى قلعة إربل فملكاها، وكان سلار بن موسى، أخو المقتول، نازلاً على قرواش بن المقلد، صاحب الموصل، لنفرة كانت بينه وبين أخيه، فلما قتل سار قرواش مع السلار إلى إربل، فملكها وسلمها إلى السلار، وعاد قرواش إلى الموصل. وفيها كانت ببغداد فتنة بين أهل الكرخ وباب البصرة، وقتال اشتد قتل فيه جماعة. وفيها وقع البلاء والوباء في الخيل، فهلك من عسكر الملك أبي كاليجار اثنا عشر ألف فرس، وعم ذلك البلاء. وفيها توفي علي بن محمد بن نصر أبو الحسن الكاتب بواسط، صاحب الرسائل المشهورة. ثم دخلت سنة ثمان وثلاثين وأربعمائة ذكر ملك مهلهل قرميسين والدينور في هذه السنة ملك مهلهل بن محمد بن عناز مدينة قرميسين والدينور. وسبب ذلك أن إبراهيم ينال كان قد استعمل عند عوده من حلوان على قرميسين بدر بن طاهر بن هلال، فلما ملك مهلهل، بعد موت أخيه أبي الشوك، سار إلى مايدشت، ونزل بها ثم توجه نحو قرميسين، فانصرف عنها بدر فملكها مهلهل، وسير ابنه محمداً إلى الدينور، وبها عساكر ينال، فاقتتلوا، فقتل بين الفريقين جماعة، وانهزم أصحاب ينال، وملك محمد البلد. ذكر اتصال سعدي بن أبي الشوك بإبراهيم ينال وما كان منهفي هذه السنة، في شهر ربيع الأول، فارق سعدي بن أبي الشوك عمه مهلهلاً، ولحق بإبراهيم ينال فصار معه. وسبب ذلك أن عمه تزوج أمه وأهمل جانبه واحتقره، وكذلك أيضاً قصر في مراعاة الأكراد الشاذنجان، فراسل سعدي إبراهيم ينال في اللحاق به، فأذن له في ذلك، ووعده أن يملكه ما كان لأبيه، فسار إليه في جماعة من الأكراد الشاذنجان، فقوي بهم، فأكرمه ينال، وضم إليه جمعاً من الغز وسيره إلى حلوان فملكها، وخطب فيها لإبراهيم ينال في شهر ربيع الأول، وأقام بها أياماً، ورجع إلى مايدشت، فسار عمه مهلهل إلى حلوان فملكها وقطع منها خطبة ينال. فلما سمع سعدي بذلك سار إلى حلوان، ففارقها عمه مهلهل إلى ناحية بلوطة، وملك سعدي حلوان وسار إلى عمه سرخاب فكبسه ونهب ما كان معه، وسير جمعاً إلى البندنيجين، فاستولوا عليها وقبضوا على نائب سرخاب بها، ونهبوا بعضها، وانهزم بعضها، وانهزم سرخاب، فصعد إلى قلعة دزديلويه، ثم عاد سعدي إلى قرميسين، فسير عمه مهلهل ابنه بدراً إلى حلوان فملكها، فجمع سعدي وأكثر وعاد إلى حلوان، ففارقها من كان بها من أصحاب عمه من كان بالقلعة، وملكها سعدي، وكان قد صحبه كثير من الغز، فسار بهم منها إلى عمه مهلهل، وترك بها من يحفظها. فلما علم عمه بقربه منه سار بين يديه إلى قلعة تيرانشاه، بقرب شهرزور، فاحتمى بها، وملك الغز كثيراً من النواحي والمواشي، وغنموا كثيراً من الأموال والدواب.
فلما رأى سعدي تحصن عمه منه خاف على من خلفه بحلوان فعاد عازماً على محاصرة القلعة، فمضى وحصرها، وقاتله من بها من أصحاب عمه، ونهب الغز حلوان، وفتكوا فيها وافتضوا الأبكار، وأحرقوا المساكن، وتفرق الناس،! وفعلوا في تلك النواحي جميعها أقبح فعل. ولما سمع أصحاب الملك أبي كاليجار ووزيره هذه الأخبار ندبوا العساكر إلى الخروج إلى مهلهل ومساعدته على ابن أخيه، ودفعه عن هذه الأعمال، فلم يفعلوا. ثم إن سعدي أقطع أبا الفتح بن ورام البندنيجين، واتفقا، واجتمعا على قصد عمه سرجاب بن محمد بن عناز، وحصره بقلعة دزديلويه، فسارا فيمن معهما من العساكر، فلما قاربوا القلعة دخلوا في مضيق هناك من غير أن يجعلوا لهم طليعة طمعاً فيه وإدلالاً بقوتهم، وكان سرخاب قد جعل على رأس الجبل، على فم المضيق، جمعاً من الأكراد، فلما دخلوا المضيق، فتقطرت بهم خيلهم، فسقطوا عنها ورماهم الأكراد الذين على الجبل، فوهنوا وأسر سعدي وأبو الفتح بن ورام وغيرهما من الرؤوس، وتفرق الغز والأكراد من تلك النواحي، بعد أن كانوا قد توطنوها وملكوها. ذكر حصار طغرلبك أصبهانفي هذه السنة حصر طغرلبك مدينة أصبهان، وبها صاحبها أبو منصور فرامرز ابن علاء الدولة، فضيق عليه، ولم يظفر من البلد بطائل، ثم اصطلحوا على مال يحمله فرامرز بن علاء الدولة لطغرلبك، وخطب له بأصبهان وأعمالها. ذكر عدة حوادثفي هذه السنة خرج من الترك من بلد التبت خلق لا يحصون كثرة، فراسلوا أرسلان خان، صاحب بلاساغون، يشكرونه على حسن سيرته في رعيته، ولم يكن منهم تعرض إلى مملكته، ولكنهم أقاموا بها، وراسلهم ودعاهم إلى الإسلام، فلم يجيبوا، ولم ينفروا منه. وفيها توفي أبو الحسن الخيشي النحوي في ذي الحجة، وله نيف وتسعون سنة. وفيها انحدر علاء الدين أبو الغنائم ابن الوزير ذي السعادات إلى البطائح وحصرها، وبها صاحبها أبو نصر بن الهيثم، وضيق عليه، واجتمع مع جمع كثير. وفيها، في ذي القعدة، توفي عبد الله بن يوسف أبو محمد الجويني، والد إمام الحرمين أبي المعالي، وكان إماماً في الشافعية، تفقه على أبي الطيب سهل ابن محمد الصعلوكي، وكان عالماً بالأدب وغيره من العلوم، وهو من بني سنبس، بطن من طيء. ثم دخلت سنة تسع وثلاثين وأربعمائة | |
|
| |
الشيخ عودة الشيخ عودة
عدد المساهمات : 1748 تاريخ التسجيل : 28/09/2008 العمر : 74
| موضوع: رد: كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير الأحد فبراير 23, 2014 6:32 am | |
| ذكر صلح أبي كاليجار والسلطان طغرلبك في هذه السنة أرسل الملك أبو كاليجار إلى السلطان ركن الدين طغرلبك في الصلح، فأجابه إليه، واصطلحا، وكتب طغرلبك إلى أخيه ينال يأمره بالكف عما وراء ما بيده، واستقر الحال بينهما أن يتزوج طغرلبك بابنة أبي كاليجار، ويتزوج الأمير أبو منصور بن أبي كاليجار بابنة الملك داود أخي طغرلبك، وجرى العقد في شهر ربيع الآخر من هذه السنة. ذكر القبض على سرخاب أخي أبي الشوكفي هذه السنة قبض الأكراد اللرية وجماعة من عسكر سرخاب عليه، لأنه أساء السيرة معهم ووترهم، فقبضوا عليه، وحملوه إلى إبراهيم ينال، فقلع إحدى عينيه، وطالبه بإطلاق سعدي بن أبي الشوك فلم يفعل. وكان أبو العسكر بن سرخاب قد غاضبه لما قبض على سعدي، واعتزله كراهية لفعله، فلما أسر أبوه سرخاب سار إلى القلعة وأخرج سعدي ابن عمه، وفك قيوده، وأحسن إليه وأطلقه، وأخذ عليه بطرح ما مضى، والسعي في خلاص والده سرخاب، فسار سعدي، واجتمع عليه خلق كثير من الأكراد، ووصل إلى إبراهيم ينال، فلن يجد عنده الذي أراد، ففارقه وعاد إلى الدسكرة، وكاتب الخليفة ونواب الملك أبي كاليجار بالعود إلى الطاعة وأقام بها. ذكر ملك إبراهيم ينال قلعة كنكور وغيرها
في هذه السنة سار إبراهيم ينال إلى قلعة كنكور، وبها عكبر بن فارس، صاحب كرشاسف، بن علاء الدولة يحفظها له، فامتنع عكبر بها إلى أن فنيت ذخائره، وكانت قليلة، فلما نفدت الذخائر عمد إلى بيوت الطعام التي في القلعة وملأها ترابا وحجارة، وسد أبوابها، ونثر من داخل الأبواب شيئاً من طعام، وعلى رأس التراب والحجارة كذلك أيضاً، وراسل إبراهيم في تسليم القلعة إليه، على أن يؤمنه على من بها من الرجال، وما بها من الأموال، فأرسل إليه إبراهيم يمتنع عليه من ترك المال، فأخذ عكبر رسول إبراهيم فطوفه على البيوت التي فيها الطعام، وفتح مواضع من المسدود فرآها مملوءة، فظنها طعاماً، وقال له عكبر: ما راسلت صاحبك خوفاً من المطاولة، ولا إشفاقاً من نفاد الميرة، لكنني أحببت الدخول في طاعته، فإن بذل لي الأمان على ما طلبته لي وللأمير كرشاسف وأمواله، ولمن بالقلعة، سلمت إليه وكفيته مؤونة المقام. فلما عاد الرسول إلى إبراهيم وأخبره أجابه إلى ما طلب، ونزل عكبر، وتسلمها إبراهيم، فلما صعد إلى القلعة انكشفت الحيلة، وسار عكبر بمن معه إلى قلعة سرماج، وصعد إليها. ولما ملك ينال كنكور عاد إلى همذان، فسير جيشاً لأخذ قلاع سرخاب، واستعمل عليهم نسيباً له اسمه أحمد، وسلم إليه سرخاباً ليفتح به قلاعه، فسار به إلى قلعة كلكان، فامتنعت عليه، فساروا إلى قلعة دزديلويه فحصروها، وامتدت طائفة منهم إلى البندنيجين فنهبوها في جمادى الآخرة، وفعلوا الأفاعيل القبيحة من النهب والقتل وافتراش النساء والعقوبة على تخليص الأموال، فمات منهم جماعة لشدة الضرب. وسارت طائفة منهم إلى أبي الفتح بن ورام، فانصرف عنهم خوفاً منهم، وترك حلله بحالها، وقصد أن يشتغلوا بنهب حلله، فيعود عليهم، فلم يعرجوا على النهب وتبعوه، فلشدة خوفه أن يظفروا به ويأخذوه قاتلهم، فظفر بهم، وقتل وأسر جماعة منهم، وغنم ما معهم، ورجع الباقون، وأرسل إلى بغداد يطلب نجدة خوفاً من عودهم، فلم ينجدوه لعدم الهيبة وقلة إمساك الأمر، فعبر بنو ورام دجلة إلى الجانب الغربي. ثم إن الغز أسروا إلى سعدي بن أبي الشوك في رجب، وهو نازل على فرسخين من باحسري، وكبسوه، فانهزم هو ومن معه لا يلوي الأخ على أخيه، ولا الوالد على ولده، فقتل منهم خلق كثير، وغنم الغز أموالهم، ونهبوا تلك الأعمال، وكان سعدي قد أنزل مالاً من قلعة السيروان، فوصله تلك الليلة، فغنمه الغز إلا من سلم معه، ونجا سعدي من الوقعة بجريعة الذقن، ونهب الغز الدسكرة، وباجسري، والهارونية، وقصر سابور وجميع تلك الأعمال. ووصل الخبر إلى بغداد بأن إبراهيم ينال عازم على قصد بغداد، فارتاع الناس، واجتمع الأمراء والقواد إلى الأمير أبي منصور ابن الملك أبي كاليجار ليجتمعوا ويسيروا إليه ويمنعوه، واتفقوا على ذلك، فلم يخرج غير خيم الأمير أبي منصور والوزير ونفر يسير، وتخلف الباقون، وهلك من أهل تلك النواحي المنهوبة خلق كثير، فمنهم من قتل، ومنهم من غرق، ومنهم من قتله البر. ووصل سعدي إلى ديالى، ثم سار منها إلى أبي الأغر دبيس بن مزيد فأقام عنده. ثم إن إبراهيم ينال سار إلى السيروان، فحصر القلعة، وضيق على من بها، وأرسل سرية نهبت البلاد، وانتهت إلى مكان بينه وبين تكريت عشرة فراسخ، ودخل بغداد من أهل طريق خراسان خلق كثير، وذكروا من حالهم ما أبكى العيون، ثم سلمها إليه مستحفظاً، بعد أن أمنه على نفسه وماله، وأخذ منها ينال من بقايا ما خلفه سعدي شيئاً كثيراً، ولما فتحها استخلف فيها مقدماً كبيراً من أصحابه يقال له سخت كمان، وانصرف إلى حلوان، وعاد منها إلى همذان ومعه بدر ومالك ابنا مهلهل فأكرمهما. ثم إن صاحب قلعة سرماج توفي، وهو من ولد بدر بن حسنويه، وسلمت القلعة بعده إلى إبراهيم ينال، وسير إبراهيم ينال وزيره إلى شهرزور فأخذها وملكها، فهرب منه مهلهل، فأبعد في الهرب. ثم نزل أحمد على قلعة تيرانشاه وحاصرها، ونقب عليها عدة نقوب، ثم إن مهلهلاً راسل أهل شهرزور يعدهم بالمسير إليهم في جمع كثير، ويأمرهم بالوثوب بمن عندهم من الغز، ففعلوا وقتلوا منهم، وسمع أحمد بن طاهر، فعاد إليهم وأوقع بهم ونهبهم، وقتل كثيراً منهم.
ثم إن الغز المقيمين بالبندنيجين ومن معهم ساروا إلى براز الروز، وتقدموا إلى نهر السليل، فاقتتلوا هم وأبو دلف القاسم بن محمد الجاواني قتالاً شديداً ظفر فيه أبو دلف، وانهزم الغز وأخذ ما معهم. وسار، في ذي الحجة، جمع من الغز إلى بلد علي بن القاسم الكردي، فأغاروا وعاثوا، فأخذ عليهم المضيق وأوقع بهم وقتل كثيراً منهم، وارتجع ما غنموه من بلده. ذكر استيلاء أبي كاليجار على البطيحةفي هذه السنة اشتد الحصار من عسكر الملك أبي كاليجار على أب نصر بن الهيثم، صاحب البطيحة، فجنح إلى الصلح، فاشتط عليه أبو الغنائم ابن الوزير ذي السعادات، ثم استأمن نفر من أصحاب أبي نصر وملاحيه إلى أبي الغنائم، وأخبروه بضعف أبي نصر، وعزمه على الانتقال من مكانه، فحفظ الطرق عليه، فلما كان خامس صفر جرت وقعة كبيرة بين الفريقين، واشتد القتال، فظفر أبو الغنائم، وقتل من البطائحيين جماعة كثيرة وغرق منهم سفن كثيرة، وتفرقوا في الآجام، ومضى ابن الهيثم ناجياً بنفسه في زبزب، وملكت داره ونهب ما فيها. ذكر ظهور الأصفر وأسرهفي هذه السنة ظهر الأصفر التغلبي برأس عين، وادعى أنه من المذكورين في الكتب، واستغوى قوماً بمخاريق وضعها، وجمع جمعاً وغزا نواحي الروم، فظفر وغنم وعاد، وظهر حديثه، وقوي ناموسه، وعاودوا الغزو في عدد أكثر من العدد الأول، ودخل نواحي الروم وأوغل، وغنم أضعاف ما غنمه أولاً، حتى بيعت الجارية الجميلة بالثمن البخس. وتسامع الناس به فقصدوه، وكثر جمعه، واشتدت شوكته، وثقلت على الروم وطأته فأرسل ملك الروم إلى نصر الدولة بن مروان يقول له: إنك عالم بما بيننا من الموادعة، وقد فعل هذا الرجل هذه الأفاعيل، فإن كنت قد رجعت عن المهادنة فعرفنا لندبر أمرنا بحبسه. واتفق، في ذلك الوقت، أن وصل رسول من الأصفر إلى نصر الدولة أيضاً، ينكر عليه ترك الغزو والميل إلى الدعة، فساءه ذلك أيضاً، واستدعى قوماً من بني نمير وقال لهم: إن هذا الرجل قد أثار الروم علينا، ولا قدرة لنا عليهم، وبذل لهم مالاً على الفتك به، فساروا إليه، فقربهم، ولازموه، فركب يوماً غير متحرز، فأبعد وهم معه، فعطفوا عليه وأخذوه وحملوه إلى نصر الدولة بن مروان، فاعتقله، وتلافى أمر الروم. ذكر عدة حوادثفي هذه السنة تجددت الهدنة بين صاحب مصر وبين الروم، وحمل كل واحد منهما لصاحبه هدية عظيمة. وفيها كان ببغداد والموصل، وسائر البلاد العراقية والجزرية، غلاء عظيم، حتى أكل الناس الميتة، وتبعه وباء شديد مات فيه كثير من الناس، حتى خلت الأسواق، وزادت أثمان ما يحتاج إليه المرضى، حتى بيع المن من الشراب بنصف دينار، ومن اللوز بخمسة عشر قيراطاً، والرمانة بقيراطين، والخيارة بقيراط، وأشباه ذلك. وفيها جمع الأمير أبو كاليجار فناخسرو بن مجد الدولة بن بويه جمعاً، وسار إلى آمد، فدخلها، وساعده أهلها، وأوقع بمن كان فيها من أصحاب طغرلبك، فقتل وأسر، وعرف طغرلبك ذلك، فسار عن الري قاصداً إليه، ومتوجهاً إلى قتاله. وفيها توفي عميد الدولة أبو سعد محمد بن الحسين بن عبد الرحيم بجزيرة ابن عمر في ذي القعدة، وله شعر حسن، ووزر لجلال الدولة عدة دفعات. وفيها سير المعز بن باديس صاحب إفريقية أسطولاً إلى جزائر القسطنطينية، فظفر وغنم وعاد. وفيها اقتتلت طوائف من تلكاتة، قاتل بعضهم بعضاً، وكان بينهم حرب صبروا فيها، فقتل منهم خلق كثير. وفيها قبض الملك أبي كاليجار على وزيره محمد بن جعفر بن أبي الفرج الملقب بذي السعادات بن فسانجس، وسجنه، وهرب ولده أبو الغنائم، وبقي الوزير مسجوناً إلى أن مات في شهر رمضان سنة أربعين، وقيل أرسل إليه أبو كاليجار من قتله، وعمره إحدى وخمسون سنة، وللوزير ذي السعادات مكاتبات حسنة، وشعر جيد منه: أودعكم، وإني ذو اكتئاب، ... وأرحل عنكم، والقلب آبي وإن فراقكم في كل حال ... لأوجع من مفارقة الشباب أسير، وما ذممت لكم جواراً، ... ولا ملت منازلكم ركابي وأشكر كلما أوطنت داراً ... ليالينا القصار بلا اجتناب وأذكركم، إذا هبت جنوب، ... فتذكرني غرارات التصابي لكم مني المودة في اغتراب، ... وأنتم إلف نفسي في اقترابي
وهو أطول من هذا. ولما قبض ذو السعادات استوزر أبو كاليجار كمال الملك أبا المعالي بن عبد الرحيم. وفيها توفي أبو القاسم عبد الواحد بن محمد بن يحيى بن أيوب المعروف بالمطرز الشاعر، وله شعر جيد، فمن قوله في الزهد: يا عبد كم لك من ذنب ومعصية، ... إن كنت ناسيها، فالله أحصاها لا بد يا عبد من يوم تقوم به، ... ووقفة لك يدمي القلب ذكراها إذا عرضت على قلبي تذكرها، ... وساء ظني فقلت استغفر اللاها وفيها مات أبو الخطاب الجبلي الشاعر، ومضى إلى الشام، ولقي المعري، وعاد ضريراً، وله شعر منه قوله: ما حكم الحب فهو ممتثل، ... وما جناه الحبيب محتمل تهوى، وتشكو الضنى، وكل هوى ... لا ينحل الجسم، فهو منتحل وفيها توفي أبو محمد الحسن بن محمد بن الحسن الخلال، الحافظ، ومولده سنة اثنتين وخمسين وثلاثمائة، سمع أبا بكر القطيعي وغيره، ومن أصحابه الخطيب أبو بكر الحافظ. وفيها قتل الفقيه أحمد الولوالجي، وهو من أعيان الفقهاء الحنفية، إلا أنه كان يكثر الوقيعة في الأئمة والعلماء، وسلك طريق الرياضة، وفسد دماغه، فقتل بين مرو وسرخس في ذي الحجة. ثم دخلت سنة أربعين وأربعمائة ذكر رحيل عسكر ينال عن تيرانشاه وعود مهلهل إلى شهرزور قد ذكرنا في السنة المتقدمة استيلاء أحمد بن طاهر، وزير ينال، على شهرزور، ومحاصرته قلعة تيرانشاه، ولم يزل يحاصرها إلى الآن، فوقع في عسكره الوباء وكثر الموت، فأرسل إلى صاحبه ينال يستمده، ويطلب إنجاده، ويعرفه كثرة الوباء عنده، فأمره بالرحيل عنها، فسار إلى مايدشت. فلما سمع مهلهل ذلك سير أحد أولاد شهرزور، فملكها وانزعج الغز الذين بالسيروان وخافوا. ثم سار جمع من عسكر بغداد إلى حلوان، وحصروا قلعتها، فلم يظفروا بها، فنهبوا تلك الأعمال، وأتوا على ما تخلف من الغز، فخربت الأعمال بالكلية، وسار مهلهل ومعه أهله وأمواله إلى بغداد، فأنزلهم بباب المراتب، بدار الخلافة، خوفاً من الغز، وعاد إلى حلله، وبينه وبين بغداد ستة فراسخ، وسار جمع من عسكر بغداد إلى البندنيجين، وبها جمع من الغز مع عكبر ابن أحمد بن عياض، فتواقعوا، واقتتلوا، فانهزم عسكر بغداد، وقتل منهم جماعة، وأسر جماعة قتلوا أيضاً صبراً. ذكر غزو إبراهيم ينال الرومفي هذه السنة غزا إبراهيم ينال الروم، فظفر بهم وغنم. وكان سبب ذلك أن خلقاً كثيراً من الغز بما وراء النهر قدموا عليه، فقال لهم: بلادي تضيق عن مقامكم والقيام بما تحتاجون إليه، والرأي أن تمضوا إلى غزو الروم، وتجاهدوا في سبيل الله، وتغنموا، وأنا سائر على أثركم، ومساعد لكم على أمركم. ففعلوا. وساروا بين يديه، وتبعهم، فوصلوا إلى ملازكرد، وأرزن الروم، وقاليقلا، وبلغوا طرابزون وتلك النواحي كلها، ولقيهم عسكر عظيم لروم والأبخاز يبلغون خمسين ألفاً، فاقتتلوا، واشتد القتال بينهم، وكانت بينهم عدة وقائع تارة يظفر هؤلاء وتارة هؤلاء وكان آخر الأمر الظفر للمسلمين، فأكثروا القتل في الروم وهزموهم، وأسروا جماعة كثيرة من بطارقتهم، وممن أسر قاريط ملك الأبخاز، فبذل في نفسه ثلاثمائة ألف دينار، وهدايا بمائة ألف، فلم يجبه إلى ذلك، ولم يجوس تلك البلاد وينهبها إلى انهزموا أن بقي بينه وبين القسطنطينية خمسة عشر يوماً، واستولى المسلمون على تلك النواحي فنهبوها، وغنموا ما فيها، وسبوا أكثر من مائة ألف رأس، وأخذوا من الدواب والبغال والغنائم والأموال ما لا يقع عليه الإحصاء، وقيل إن الغنائم حملت على عشرة آلاف عجلة، وإن في جملة الغنيمة تسعة عشر ألف درع. وكان قد دخل بلد الروم جمع من الغز يقدمهم إنسان نسيب طغرلبك، فلم يؤثر كبير أثر، وقتل من أصحابه جماعة، وعاد، ودخل بعده إبراهيم ينال، ففعل هذا الذي ذكرناه. ذكر موت الملك أبي كاليجار وملك ابنه الملك الرحيمفي هذه السنة توفي الملك أبي كاليجار المرزبان بن سلطان الدولة بن بهاء الدولة بن عضد الدولة بن بويه، رابع جمادى الأولى، بمدينة جناب من كرمان.
وكان سبب مسيره إليها أنه كان قد عول في ولاية كرمان حرباً وخراباً على بهرام بن لشكرستان الديلمي، وقرر عليه مالاً، فتراخى بهرام في تحرير الأمر، وأحاله إلى المغالطة والمدافعة، فشرع حينئذ أبو كاليجار في إعمال الحيلة عليه، وأخذ قلعة بردسير من يده، وهي معقله الذي يحتمي به ويعول عليه، فراسل بعض من بها من الأجناد وأفسدهم، فعلم بهم بهرام فقتلهم، وزاد نفوره واستشعاره، وأظهر ذلك، فسار إليه الملك أبو كاليجار في ربيع الآخر، فبلغ قصر مجاشع، فوجد في حلقه خشونة، فلم يبال بها، وشرب وتصيد وأكل من كبد غزال مشوي، واشتدت علته، ولحقه حمى، وضعف عن الركوب، ولم يمكنه المقام لعدم الميرة بذلك المنزل، فحمل في محفة على أعناق الرجال إلى مدينة جناب، فتوفي بها، وكان عمره أربعين سنة وشهوراً، وكان ملكه بالعراق بعد وفاة جلال الدولة أربع سنين وشهرين ونيفاً وعشرين يوماً. ولما توفي نهب الأتراك من العسكر الخزائن والسلاح والدواب، وانتقل ولده أبو منصور فلاستون إلى مخيم الوزير أبي منصور، وكانت منفردة عن العسكر، فأقام عنده، وأراد الأتراك نهب الوزير والأمير، فمنعهم الديلم، وعادوا إلى شيراز، فملكها الأمير أبو منصور، واستشعر الوزير، فصعد إلى قلعة خرمة فامتنع بها. فلما وصل خبر وفاته إلى بغداد، وبها ولده الملك الرحيم أبو نصر خرة فيروز، أحضر الجند واستحلفهم، وراسل الخليفة القائم بأمر الله في معنى الخطبة له، وتلقيبه بالملك الرحيم، وترددت الرسل بينهم في ذلك إلى أن أجيب إلى ملتمسه سوى الملك الرحيم فإن الخليفة امتنع من إجابته وقال: لا يجوز أن يلقب بأخص صفات الله تعالى. واستقر ملكه بالعراق، وخوزستان، والبصرة، وكان بالبصرة أخوه أبو علي بن أبي كاليجار. وخلف أبو كاليجار من الأولاد: الملك الرحيم، والأمير أبا منصور فلاستون، وأبا طالب كامرو، وأبا المظفر بهرام، وأبا علي كيخسرو، وأبا سعد خسروشاه، وثلاثة بنين أصاغر، فاستولى ابنه أبو منصور على شيراز، فسير إليه الملك الرحيم أخاه أبا سعد في عسكر، فملكوا شيراز، وخطبوا للملك الرحيم، وقبضوا على الأمير أبي منصور والدته، وكان ذلك في شوال. ذكر محاصرة العساكر المصرية مدينة حلبفي جمادى الآخرة وصلت عساكر مصر إلى حلب في جمع كثير فحصروها، وبها معز الدولة أبو علوان ثمال بن صالح الكلابي، فجمع جمعاً كثيراً بلغوا خمسة آلاف فارس وراجل، فلما نزلوا على حلب خرج إليهم ثمال وقاتلهم قتالاً شديداً صرب فيه لهم إلى الليل، ثم دخل البلد، فلما كان الغد اقتتلوا إلى آخر النهار، وصبر أيضاً ثمال، وكذلك أيضاً اليوم الثالث. فلما رأى المصريون صبر ثمال، وكانوا ظنوا أن أحداً لا يقوم بين أيديهم، رحلوا عن البلد، فاتفق أن تلك الليلة جاء مطر عظيم لم ير الناس مثله، جاءت المدود إلى منزلهم، فبلغ الماء ما يقارب قامتين، ولو لم يرحلوا لغرقوا، ثم رحلوا إلى الشام الأعلى. ذكر الخلف بين قرواش والأكراد الحميدية والهذبانيةفي هذه السنة اختلف قرواش والأكراد الحميدية والهذبانية، وكان للحميدية عدة حصون تجاور الموصل منها العقر وما قاربها، وللهذبانية قلعة إربل وأعمالها، وكان صاحب العقر حينئذ أبا الحسن بن عيسكان الحميدي، وصاحب إربل أبو الحسن بن موسك الهذباني، وله أخ اسمه أبو علي بن موسك فأعانه الحميدي على أخذ إربل من أخيه أبي الحسن، فملكها منه، وأخذ صاحبها أبا الحسن أسيراً. وكان قرواش وأخوه زعيم الدولة أبو كامل بالعراق مشغولين، فلما عادا إلى الموصل وقد سخطا هذه الحالة لم يظهراها، وأرسل قرواش يطلب من الحميدي والهذباني نجدة له على نصر الدولة بن مروان. فأما أبو الحسن الحميدي فسار إليه بنفسه، وأما أبو علي الهذباني فأرسل أخاه، واصطلح قرواش ونصر الدولة، وقبض على أبي الحسن الحميدي، ثم صانعه على إطلاق أبي الحسن الهذباني، الذي كان صاحب إربل وأخذ إربل من أخيه أبي علي وتسليمها إليه، فإن امتنع أبو علي كان عوناً عليه، فأجاب إلى ذلك، ورهن عليه أهله وأولاده وثلاث قلاع من حصونه إلى أن يتسلم إربل وأطلق من الحبس.
وكان أخ له قد استولى على قلاعه، فخرج إليها وأخذها منه، وعاد إلى قرواش أخيه زعيم الدولة، فوثقا به، وأطلقا أهله، ثم إنه راسل أبا علي، صاحب إربل، في تسليمها، فأجاب إلى ذلك وحضر بالموصل ليسلم إربل إلى أخيه أبي الحسن، فقال الحميدي لقراوش: إنني قد وفيت بعهدي، فتسلمان إلي حصوني، فسلما إليه قلاعه، وسار هو وأبو الحسن، وأبو علي الهذباني إلى إربل ليسلماها إلى أبي الحسن، فغدرا به في الطريق، وكان قد أحس بالشر، فتخلف عنهما، وسير معهما أصحابه ليتسلموا إربل، فقبضا على أصحابه وطلبوه ليقبضوه، فهرب إلى الموصل، وتأكدت الوحشة حينئذ بين الأكراد وقرواش وأخيه، وتقاطعوا، وأضمر كل منهم الشر لصاحبه. ذكر عدة حوادثفي هذه السنة اسر الملك الرحيم من بغداد إلى خوزستان، فلقيه من بها من الجند وأطاعوه، وفيهم كرشاسف بن علاء الدولة الذي كان صاحب همذان وكنكور، فإنه كان انتقل إلى الملك أبي كاليجار، بعد أن استولى ينال على أعماله، ولما مات أبو كاليجار سار الملك العزيز ابن الملك جلال الدولة إلى البصرة طمعاً في ملكها، فلقيه من بها من الجند وقاتلوه وهزموه، فعاد عنها، وكان قبل ذلك عند قرواش ثم عند ينال، ولما سمع باستقامة الأمور للملك الرحيم انقطع أمله، ولما سار الملك الرحيم عن بغداد كثرت الفتن بها، ودامت بين أهل باب الأزج والأساكفة، وهم السنة، فأحرقوا عقاراً كثيراً. وفيها سار سعدي بن أبي الشوك من حلة دبيس بن مزيد إلى إبراهيم ينال، بعد أن راسله، وتوثق منه، وتقرر بينهما أنه كل ما يملكه سعدي مما ليس بيد ينال ونوابه فهو له، فسار سعدي إلى الدسكرة، وجرى بينه وبين من بها من عسكر بغداد حرب انهزموا فيها منه، وملكها وما يليها، فسير إليها عسكر ثان من بغداد، فقتل مقدمهم وهزمهم، وسار من الدسكرة وتوسط تلك الأعمال بالقرب من بعقوبا، ونهب أصحابه البلاد، وخطبوا لإبراهيم ينال. وفيها كان ابتداء الوحشة بين معتمد الدولة قرواش بن المقلد وبين أخيه زعيم الدولة أبي كامل بن المقلد، فانضاف قريش بن بدران بن المقلد إلى عمه قرواش، وجمع جمعاً، وقاتل عمه أبا كامل، فظفر ونصر وانهزم أبو كامل، ولم يزل قريش يغري قرواشاً بأخيه حتى تأكدت الوحشة، وتفاقم الشر بينهما. وفيها خطب للأمير أبي العباس محمد بن القائم بأمر الله بولاية العهد، ولقب ذخيرة الدين، وولي عهد المسلمين. وفيها، في رمضان، قتل الأمير أقسنقر بهمذان، قتله الباطنية لأنه كان كثير الغزو إليهم، والقتل فيهم، والنهب لأموالهم، والتخريب لبلادهم، فلما كان الآن قصد إنساناً من الزهاد ليزوره، فوثب عليه جماعة من الإسماعيلية فقتلوه. وفيها توفي أبو الحسن محمد بن الحسن بن عيسى بن المقتدر بالله، وكان من الصالحين ورواة الحديث، وأوصى أن يدفن بجوار أحمد بن حنبل، ومولده سنة ثلاث وأربعين وثلاثمائة، وأبو طالب محمد بن محمد بن غيلان البزاز، ومولده سنة سبع وأربعين وثلاثمائة، روى عن أبي بكر الشافعي وغيره، وتوفي في شوال، وهو راوي الأحاديث المعروفة بالغيلانيات التي خرجها الدارقطني له، وهي من أعلى الحديث وأحسنه، وعبيد الله بن عمر أحمد ابن عثمان أبو القاسم الواعظ المعروف بابن شاهين، ومولده سنة إحدى وخمسين وثلاثمائة. وفيها كان الغلاء والوباء عاماً في البلاد جميعها، بمكة، والعراق، والموصل، والجزيرة، والشام، ومصر وغيرها من البلاد. وفيها قبض بمصر على الوزير فخر الملك صدقة بن يوسف وقتل، وكان أول أمره يهودياً فأسلم، واتصل بالدزبري، وخدمه بالشام ثم خافه فعاد إلى مصر، وخدم الجرجرائي الوزير، وأنفق عليه، فلما توفي الجرجرائي استوزره المستنصر إلى الآن، ثم قتله واستوزر القاضي أبا محمد الحسن بن عبد الرحمن اليازوري في ذي القعدة. ثم دخلت سنة إحدى وأربعين وأربعمائة ذكر ظهور الخلف بين قرواش وأخيه أبي كامل وصلحهما
في هذه السنة ظهر الخلف بين معتمد الدولة قرواش وبين أخيه زعيم الدولة أبي كامل ظهوراً آل إلى المحاربة، وقد تقدم سبب ذلك. فلما اشتد الأمر، وفسد الحال فساداً لا يمكن إصلاحه، جمع كل منهما جمعاً لمحاربة صاحبه، وسار قرواش في المحرم، وعبر دجلة بنواحي بلد، وجاءه سليمان بن نصر الدولة بن مروان، وأبو الحسن بن عيسكان الحميدي، وغيرهما من الأكراد، وساروا إلى معلشايا فأخربوا المدينة ونهبوها ونزلوا بالمغيثة، وجاء أبو كامل فيمن معه من العرب وآل المسيب، فنزلوا بمرج بابنيثا، وبين الطائفتين نحو فرسخ، واقتتلوا يوم السبت ثاني عشر المحرم، وافترقوا من غير ظفر، ثم اقتتلوا يوم الأحد كذلك، ولم يلابس الحرب سليمان بن مروان بل كان ناحية، ووافقه أبو الحسن الحميدي، وساروا عن قرواش، وفارقه جمع من العرب، وقصدوا أخاه، فضعف أمر قرواش، وبقي في حلته وليس معه إلا نفر يسير، فركب العرب من أصحابه أبي كامل لقصده، فمنعهم، وأسفر الصبح يوم الاثنين وقد تسرع بعضهم ونهب بعضاً من عرب قرواش، وجاء أبو كامل إلى قرواش واجتمع به ونقله إلى حلته، وأحسن عشرته، ثم أنفذه إلى الموصل محجوراً عليه وجعل معه بعض زوجاته في دار. وكان مما فت في عضد قرواش وأضعف نفسه أنه كان قد قبض على قوم من الصيادين بالأنبار لسوء طريقهم وفسادهم، فهرب الباقون منهم، وبقي بعضهم بالسندية، فلما كان الآن سار جماعة منهم إلى الأنبار، وتسلقوا السور ليلة خامس المحرم من هذه السنة، وقتلوا حارساً، وفتحوا الباب، ونادوا بشعار أبي كامل، فانضاف إليهم أهلوهم وأصدقاؤهم ومن له هوى في أبي كامل، فكثروا، وثار بهم أصحاب قرواش، فاقتتلوا فظفروا وقتلوا من أصحاب معتمد الدولة قرواش جماعة، وهرب الباقون، فبلغه خبر استيلاء أخيه، ولم يبلغه عود أصحابه. ثم إن المسيب وأمراء العرب كلفوا أبا كامل ما يعجز عنه، واشتطوا عليه، فخاف أن يؤول الأمر بهم إلى طاعة قرواش وإعادته إلى مملكته، فبادرهم إليه، وقبل يده وقال له: إنني وإن كنت أخاك فإنني عبدك، وما جرى هذا إلا بسبب من أفسد رأيك في، وأشعرك الوحشة مني، والآن فأنت الأمير، وأنا الطائع لأمرك والتابع لك، فقال له قرواش: بل أنت الأخ، والأمر لك مسلم، وأنت أقوم به مني. وصلح الحال بينهما، وعاد قرواش إلى التصرف على حكم اختياره. وكان أبو كامل قد أقطع بلال بن غريب بن مقن حربى، وأوانا، فلما اصطلح أبو كامل وقرواش أرسلا إلى حربى من منع بلالاً عنها، فتظاهر بلال بالخلاف عليهما، وجمع إلى نفسه جمعاً وقاتل أصحاب قرواش، وأخذ حربى وأوانا بغير اختيارهما، فانحدر قرواش من الموصل إليهما وحصرهما وأخذهما. ذكر مسير الملك الرحيم إلى شيراز وعوده عنهافي هذه السنة، في المحرم، اسر الملك الرحيم من الأهواز إلى بلاد فارس، فوصلها، وخرج عسكر شيراز إلى خدمته، ونزل بالقرب من شيراز ليدخل البلد. ثم إن الأتراك الشيرازيين والبغداديين اختلفوا، وجرى بينهم مناوشة استظهر فيها البغداديون، وعادوا إلى العراق، فاضطر الملك الرحيم إلى المسير معهم، لأنه لم يكن يثق بالأتراك الشيرازية. وكان ديلم بلاد فارس قد مالوا إلى أخيه فولاستون، وهو بقلعة إصطخر، فهو أيضاً منحرف عنهم، فاضطر إلى صحبة البغداديين فعاد، في ربيع الأول من هذه السنة، إلى الأهواز وأقام بها، واستخلف بأرجان أخويه أبا سعد، وأبا طالب، ووقع الخلف بفارس، فإن الأمير أبا منصور، فولاستون، وكان قد خلص وصار بقلعة إصطخر، واجتمع معه جماعة من أعيان العسكر الفارسي، فلما عاد الملك الرحيم إلى الأهواز انبسط في البلاد، وقصده كثير من العساكر، واستولى على بلاد فارس، ثم سار إلى أرجان عازماً على قصد الأهواز وأخذها. ذكر الحرب بين البساسيري وعقيلفي هذه السنة سار جمع من بني عقيل إلى بلد العجم من أعمال العراق وبادوريا، فنهبوهما، وأخذوا من الأموال الكثير، وكانا في إقطاع البساسيري، فسار من بغداد بعد عوده من فارس إليهم، فالتقوا هم وزعيم الدولة أبو كامل ابن المقلد، واقتتلوا قتالاً شديداً أبلى الفريقان فيه بلاء حسناً، وصبرا صبراً جميلاً، وقتل جماعة من الفريقين. ذكر الوحشة بين طغرلبك وأخيه إبراهيم ينال في هذه السنة استوحش إبراهيم ينال من أخيه السلطان طغرلبك.
وكان سبب ذلك أن طغرلبك طلب من إبراهيم ينال أن يسلم إليه مدينة همذان والقلاع التي بيده من بلد الجبل، فامتنع من ذلك، واتهم وزيره أبا علي بالسعي بينهما في الفساد، فقبض عليه، وأمر فضرب بين يديه، وسمل إحدى عينيه، وقطع شفتيه، وسار عن طغرلبك، وجمع جمعاً من عسكره، والتقيا، وكان بين العسكرين قتال شديد انهزم ينال وعاد منهزماً، فسار طغرلبك في أثره، فملك قلاعه وبلاده جميعها. وتحصن إبراهيم ينال بقلعة سرماج، وامتنع على أخيه، فحصره طغرلبك فيها، وكانت عساكره قد بلغت مائة ألف من أنواع العسكر، وقاتله، فملكها في أربعة أيام، وهي من أحصن القلاع وأمنعها، واستنزل ينال منها مقهوراً، وأرسل إلى نصر الدولة بن مروان يطلب منه إقامة الخطبة له في بلاده، فأطاعه وخطب له في سائر ديار بكر، وراسل ملك الروم طغرلبك، وأرسل إليه هدية عظيمة، وطلب منه المعاهدة، فأجابه إلى ذلك. وأرسل ملك الروم إلى ابن مروان يسأله أن يسعى في فداء ملك الأبخاز المقدم ذكره، فأرسل نصر الدولة شيخ الإسلام أبا عبد الله بن مروان في المعنى إلى السلطان طغرلبك، فأطلقه بغير فداء، فعظم ذلك عنده وعند ملك الروم، وأرسل عوضه من الهدايا شيئاً كثيراً، وعمروا مسجد القسطنطينية، وأقاموا فيه الصلاة والخطبة لطغرلبك، ودان حينئذ الناس كلهم له، وعظم شأنه وتمكن ملكه وثبت. ولما نزل ينال إلى طغرلبك أكرمه وأحسن إليه، ورد عليه كثيراً مما أخذ منه، وخيره بين أن يقطعه بلاداً يسير إليها، وبين أن يقيم معه، فاختار المقام معه. ذكر الحرب بين دبيس بن مزيد وعسكر واسطفي هذه السنة كانت حرب شديدة بين نور الدولة دبيس بن مزيد وبين الأتراك الواسطيين. وسبب ذلك أن الملك الرحيم أقطع نور الدولة حماية نهر الصلة، ونهر الفضل، وهما من إقطاع الواسطيين، فسار إليهما ووليهما، فسمع عسكر واسط ذلك فسخطوه، واجتمعوا وساروا إلى نور الدولة ليقاتلوه ويدفعوه عنهما، وأرسلوا إليه يتهددونه، فأعاد الجواب يقول: إن الملك أقطعني هذا، فنرسل إليه أنا وأنتم، فبأي شيء أمر رضينا به. فسبوه، وساروا مجدين إليه، فأرسل إلى طريقهم طائفة من عسكره، فلقوهم، وكمن لهم، فلما التقوا استجرهم العرب إلى أن جاوزوا الكمين، وخرج عليهم الكمين فأوقعوا بهم، وقتلوا منهم جماعة كثيرة، وأسروا كثيراً، وجرح مثلهم، وتمت الهزيمة على الواسطيين، وغنم نور الدولة أموالهم ودوابهم وساروا إلى واسط فنزلوا بالقرب منها. وأرسل الواسطيون إلى بغداد يستنجدون جندها، ويبذلون للبساسيري أن يدفع عنهم نور الدولة، ويأخذ نهر الصلة ونهر الفضل لنفسه. ذكر وفاة مودود بن مسعود وملك عمه عبد الرشيد في هذه السنة، في العشرين من رجب، توفي أبو الفتح مودود بن مسعود ابن محمود بن سبكتكين، صاحب غزنة، وعمره تسع وعشرون سنة، وملكه تسع سنين وعشرة أشهر، وكان موته بغزنة، وكان قد كاتب أصحاب الأطراف في سائر البلاد، ودعاهم إلى نصرته وإمداده بالعساكر، وبذل لهم الأموال الكثيرة، وتفويض أعمال خراسان ونواحيها إليهم على قدر مراتبهم، فأجابوا إلى ذلك منهم أبو كاليجار، صاحب أصبهان، فإنه جمع عساكره وسار في المفازة، فهلك كثير من عسكره، ومرض وعاد. ومنهم خاقان ملك الترك، فإنه سار إلى ترمذ، ونهب وخرب، وصادر أهل تلك الأعمال، وسارت طائفة أخرى مما وراء النهر إلى خوارزم. وسار مودود من غزنة، فلم يسر غير مرحلة واحدة حتى عارضه قولنج اشتد عليه، فعاد إلى غزنة مريضاً، وسير وزيره أبا الفتح عبد الرزاق بن أحمد الميمندي إلى سجستان في جيش كثيف لأخذها من الغز، واشتدت العلة بمودود فتوفي، وقام في الملك بعده ولده، فبقي خمسة أيام ثم عدل الناس عنه إلى عمه علي بن مسعود، وكان مودود لما ملك قبض على عمه عبد الرشيد ابن محمود وسجنه في قلعة ميدين، بطريق بست، فلما توفي كان وزيره قد قارب هذه القلعة، فنزل عبد الرشيد إلى العسكر ودعاهم إلى طاعته، فأجابوه وعادوا معه إلى غزنة، فلما قاربها هرب عنها علي بن مسعود، وملك عبد الرشيد، واستقر الأمر له، ولقب شمس دين الله سيف الدولة، وقيل جمال الدولة، ودفع الله شر مودود عن داود، وهذه السعادة التي تقتل الأعداء بغير سلاح ولا أجناد. ذكر استيلاء البساسيري على الأنبار
في هذه السنة أيضاً، في ذي القعدة، ملك البساسيري الأنبار، ودخلها أصحابه. وكان سبب ملكها أن قرواشاً أساء السيرة في أهلها، ومد يده إلى أموالهم، فسار جماعة من أهلها إلى البساسيري ببغداد، وسألوه أن ينفذ معهم عسكراً يسلمون إليه الأنبار، فأجابهم إلى ذلك، وسير معهم جيشاً، فتسلموا الأنبار، ولحقهم البساسيري وأحسن إلى أهلها وعدل فيهم، ولم يمكن أحداً من أصحابه أن يأخذ رطل الخبز بغير ثمنه، وأقام فيها إلى أن أصلح حالها وقرر قواعدها وعاد إلى بغداد. ذكر انهزام الملك الرحيم من عسكر فارسفي هذه السنة عاد الملك الرحيم من الأهواز إلى رامهرمز في ذي القعدة، فلما وصل إلى وادي الملح لقيه عسكر فارس، واقتتلوا قتالاً شديداً، فغدر بالملك الرحيم بعض عسكره، وانهزم هو وجميع العسكر، ووصل إلى بصنى ومعه أخوه أبو سعد وأبو طالب، وسار منها إلى واسط، وسار عسكر فارس إلى الأهواز، فملكوها وخيموا بظاهرها. ذكر عدة حوادثوفيها وصل عسكر من مصر إلى حلب، وبها صاحبها ثمال بن صالح بن مرداس، فخالفهم لكثرتهم، فانصرف عنها، فملكها المصريون. وفيها، في ذي القعدة، ارتفعت سحابة سوداء مظلمة ليلاً،! فزادت ظلمتها على ظلمة الليل، وظهر في جوانب السماء كالنار المضطرمة، وهبت معها ريح شديدة قلعت رواشن دار الخليفة، وشاهد الناس من ذلك ما أزعجهم وخوفهم، فلزموا الدعاء والتضرع، فانكشفت في باقي الليل. وفيها، في شعبان، سار البساسيري من بغداد إلى طريق خراسان، وقصد ناحية الدزدار وملكها وغنم ما فيها، وكان سعدي بن أبي الشوك قد ملكها، وقد عمل لها سوراً وحصنها، وجعلها معقلاً يتحصن فيه، ويدخر بها كل ما يغنمه، فأخذه البساسيري جميعه. وفيها منع أهل الكرخ من النوح، وفعل ما جرت عادتهم بفعله يوم عاشوراء، فلم يقبلوا وفعلوا ذلك، فجرى بينهم وبين السنة فتنة عظيمة قتل فيها وجرح كثير من الناس، ولم ينفصل الشر بينهم حتى عبر الأتراك وضربوا خيامهم عندهم، فكفوا حينئذ، ثم شرع أهل الكرخ في بناء سور على الكرخ، فلما رآهم السنة من القلائين ومن يجري مجراهم شرعوا في بناء سور على سوق القلائين، وأخرج الطائفتان في العمارة مالاً جليلاً، وجرت بينهما فتن كثيرة، وبطلت الأسواق، وزاد الشر، حتى انتقل كثير من الجانب الغربي إلى الجانب الشرقي فأقاموا به، وتقدم الخليفة إلى أبي محمد بن النسوي بالعبور وإصلاح الحال وكف الشر، فسمع أهل الجانب الغربي ذلك، فاجتمع السنة والشيعة على المنع منه، وأذنوا في القلائين وغيرها بحي على خير العمل، وأذنوا في الكرخ: الصلاة خير من النوم، وأظهروا الترحم على الصحابة، فبطل عبوره. وفيها توفي أبو عبد الله محمد بن علي بن عبد الله الصوري الحافظ، كان إماماً صحب عبد الغني بن سعيد، وتخرج به، ومن تلامذته الخطيب أبو بكر. وفيها توفي الملك العزيز أبو بكر منصور بن جلال الدولة، وقد ذكرنا تنقل الأحوال به فيما تقدم، وله شعر حسن. وفيها توفي أحمد بن محمد بن أحمد أبو الحسن العتيقي، نسب إلى جد له يسمى عتيقاً، ومولده سنة سبع وستين وثلاثمائة. وفيها توفي أبو القاسم عبد الوهاب ابن أقضى القضاة أبي الحسن الماوردي، وكانت شهادته سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة، وقبلها القاضي في بيت النوبة، ولم يفعل ذلك مع غيره، وإنما فعل معه هذا احتراماً لأبيه. ثم دخلت سنة اثنتين وأربعين وأربعمائة ذكر ملك طغرلبك أصبهان كان أبو منصور بن علاء الدولة، صاحب أصبهان، غير ثابت على طريقة واحدة مع السلطان طغرلبك، كان يكثر التلون معه، تارة يطيعه وينحاز إليه، وتارة ينحرف عنه ويطيع الملك الرحيم، فأضمر له طغرلبك سوءاً، فلما عاد هذه الدفعة من خراسان لأخذ البلاد الجبلية من أخيه إبراهيم ينال، واستولى عليها، على ما ذكرناه، عدل إلى أصبهان عازماً على أخذها من أبي منصور، فسمع ذلك، فتحصن ببلده، واحتمى بأسواره، ونازله طغرلبك في المحرم، وأقام على محاصرته نحو سنة، وكثرت الحروب بينهما، إلا أن طغرلبك قد استولى على سواد البلد، وأرسل سرية من عسكره نحو فارس، فبلغوا إلى البيضاء، فأغاروا على السواد هناك وعادوا غانمين.
ولما طال الحصار على أصبهان، وأخرب أعمالها، ضاق الأمر بصاحبها وأهلها، وأرسلوا إليه يبذلون له الطاعة والمال، فلم يجبهم إلى ذلك، ولم يقنع منهم إلا بتسليم البلد، فصبروا حتى نفدت الأقوات، وامتنع الصبر، وانقطعت المواد، واضطر الناس حتى نقضوا الجامع، وأخذوا أخشابه لشدة الحاجة إلى الحطب، فحيث بلغ بهم الحال إلى هذا الحد خضعوا له واستكانوا، وسلموا البلد إليه فدخله وأخرج أجناده منه وأقطعهم في بلاد الجبل، وأحسن إلى الرعية، وأقطع صاحبها أبا منصور ناحيتي يزد وأبرقوية، وتمكن من أصبهان ودخلها في المحرم من سنة ثلاث وأربعين واستطابها، ونقل ما كان له بالري من مال وذخائر وسلاح إليها، وجعلها دار مقامه، وخرب قطعة من سورها، وقال: وإنما يحتاج إلى الأسوار من تضعف قوته، فأما من حصنه عساكره وسيفه فلا حاجة به إليها. ذكر عود عساكر فارس من الأهواز وعود الرحيم إليها في هذه السنة، في المحرم، عادت عساكر فارس التي مع الأمير أبي منصور صاحبها عن الأهواز إلى فارس. وسبب هذا العود أن الأجناد اختلفوا، وشغبوا، واستطالوا وعاد بعضهم إلى فارس بغير أمر صاحبهم، وأقام بعضهم معه، وسار بعضهم إلى الملك الرحيم، وهو بالأهواز، يطلبونه ليعود إليهم، فعاد فيمن عنده من العساكر، وأرسل إلى بغداد يأمر العساكر التي فيها بالحضور عنده ليسير بهم إلى فارس، فلما وصل إلى الأهواز لقيه العساكر مقرين بالطاعة، وأخبروه بطاعة عساكر فارس، وأنهم ينتظرون قدومه، فدخل الأهواز في شهر ربيع الآخر، فتوقف بالأهواز ينتظر عساكر بغداد، ثم سار عنها إلى عسكر مكرم فملكها وأقام بها. ذكر استيلاء زعيم الدولة على مملكة أخيه قرواشفي هذه السنة، في جمادى الأولى، استولى زعيم الدولة أبو كامل بركة ابن المقلد على أخيه قرواش، وحجر عليه، ومنعه من التصرف على اختياره. وسبب ذلك أن قرواشاً كان قد أنف من تحكم أخيه في البلاد، وأنه قد صار لا حكم له، فعمل على الانحدار إلى بغداد ومفارقة أخيه، وسار عن الموصل، فشق ذلك على بركة وعظم عنده. ثم أرسل إليه نفراً من أعيان يشيرون عليه بالعود واجتماع الكلمة، ويحذرونه من الفرقة والاختلاف، فلما بلغوه ذلك امتنع عليهم، فقالوا: أنت ممنوع عن فعلك، والرأي لك القبول والعود ما دامت الرغبة إليك، فعلم حينئذ أنه يمنع قهراً، فأجاب إلى العود على شرط أن يسكن دار الإمارة بالموصل، وسار معهم، فلما قارب حلة أخيه زعيم الدولة لقيه، وأنزله عنده، فهرب أصحابه وأهله خوفاً، فأمنهم زعيم الدولة، وحضر عنده وخدمه وأظهر له الخدمة، وجعل عليه من يمنعه من التصرف على اختياره. ذكر استيلاء الغز على مدينة فساوفيها، في جمادى الأولى، سار الملك ألب أرسلان بن داود أخي طغرلبك من مدينة مرو بخراسان، وقصد بلاد فارس في المفازة، فلم يعلم به أحد، ولا أعلم عمه طغرلبك، فوصل إلى مدينة فسا، فانصرف النائب بها من بين يديه، ودخلها ألب أرسلان فقتل من الديلم بها ألف رجل، وعدداً كثيراً من العامة، ونهبوا ما قدره ألف ألف دينار، وأسروا ثلاثة آلاف إنسان، وكان الأمر عظيماً. فلما فرغوا من ذلك عادوا إلى خراسان، ولم يلبثوا خوفاً من طغرلبك أن يرسل إليهم، ويأخذ ما غنموه منهم. ذكر استيلاء الخوارج على عمانفي هذه السنة استولى الخوارج المقيمون بجبال عمان على مدينة تلك الولاية. وسبب ذلك أن صاحبها الأمير أبا المظفر ابن الملك أبي كاليجار كان مقيماً بها، ومعه خادم له قد استولى على الأمور، وحكم على البلاد، وأساء السيرة في أهلها، فأخذ أموالهم، فنفروا منه وأبغضوه. وعرف إنسان من الخوارج يقال له ابن راشد الحال، فجمع من عنده منهم فقصد المدينة، فخرج إليه الأمير أبو المظفر في عساكره، فالتقوا واقتتلوا، فانهزمت الخوارج وعادوا إلى موضعهم. | |
|
| |
الشيخ عودة الشيخ عودة
عدد المساهمات : 1748 تاريخ التسجيل : 28/09/2008 العمر : 74
| موضوع: رد: كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير الإثنين فبراير 24, 2014 6:34 pm | |
| وأقام ابن راشد مدة يجمع ويحتشد، ثم سار ثانياً، وقاتله الديلم فأعانه أهل البلد لسوء سيرة الديلم فيهم، فانهزم الديلم، وملك ابن راشد البلد وقتل الخادم وكثيراً من الديلم، وقبض على الأمير أبي المظفر وسيره إلى جباله مستظهراً عليه، وسجن معه كل من خط بقلم من الديلم، وأصحاب الأعمال، وأخرب دار الإمارة، وقال: هذه أحق دار بالخراب! وأظهر العدل، وأسقط المكوس، واقتصر على رفع عشر ما يرد إليهم وخطب لنفسه، وتلقب بالراشد بالله، ولبس الصوف، وبنى موضعاً على شكل مسجد، وقد كان هذا الرجل تحرك أيضاً أيام أبي القاسم بن مكرم فسير إليه أبو القاسم من منعه وحصره وأزال طمعه. ذكر دخول العرب إلى إفريقيةفي هذه السنة دخلت العرب إلى إفريقية. وسبب ذلك أن المعز بن باديس كان خطب للقائم بأمر الله الخليفة العباسي وقطع خطبة المستنصر العلوي، صاحب مصر، سنة أربعين وأربعمائة، فلما فعل ذلك كتب إليه المستنصر العلوي يتهدده، فأغلظ المعز في الجواب. ثم إن المستنصر استوزر الحسن بن علي اليازوري، ولم يكن من أهل الوزارة، إنما كان من أهل التبانة والفلاحة، فلم يخاطبه المعز كما كان يخاطب من قبله من الوزراء، كان يخاطبهم بعبده فخاطب اليازوري بصنيعته، فعظم ذلك عليه، فعاتبه فلم يرجع إلى ما يحب، فأكثر الوقيعة في المعز، وأغرى به المستنصر، وشرعوا في إرسال العرب إلى الغرب، فأصلحوا بني زغبة ورياح، وكان بينهم حروب وحقود، وأعطوهم مالاً، وأمروهم بقصد بلاد القيروان، وملكوهم كل ما يفتحونه، ووعدوهم بالمدد والعدد. فدخلت العرب إلى إفريقية، وكتب اليازوري إلى المعز: أما بعد، فقد أرسلنا إليكم خيولاً فحولاً. وحملنا عليها رجالاً كهولاً. ليقضي الله أمراً كان مفعولاً... فلما حلوا أرض برقة وما والاها وجدوا بلاداً كثيرة المرعى خالية من الأهل لأن زناتة كانوا أهلها، فأبادهم المعز، فأقامت العرب بها واستوطنتها، وعاثوا في أطراف البلاد. وبلغ ذلك المعز فاحتقرهم، وكان المعز لما رأى تقاعد صنهاجة عن قتال زناتة اشترى العبيد، وأوسع لهم في العطاء، فاجتمع له ثلاثون ألف مملوك. وكانت عرب زغبة قد ملكت مدينة طرابلس سنة ست وأربعين، فتتابعت رياح والأثبج وبنو عدي إلى إفريقية، وقطعوا السبيل وعاثوا في الأرض، وأرادوا الوصول إلى القيروان، فقال مؤنس بن يحيى المرداسي: ليس المبادرة عندي برأي، فقالوا: كيف تحب أن تصنع؟ فأخذ بساطاً فبسطه، ثم قال لهم: من يدخل إلى وسط البساط من غير أن يمشي عليه؟ قالوا: لا نقدر على ذلك! قال: فهكذا القيروان، خذوا شيئاً فشيئاً حتى لا يبقى إلا القيروان فخذوها حينئذ. فقالوا: إنك لشيخ العرب وأميرها وأنت المقدم علينا، ولسنا نقطع أمراً دونك. ثم قدم أمراء العرب إلى المعز، فأكرمهم وبذل لهم شيئاً كثيراً، فلما خرجوا من عنده لم يجاوزه بما فعل من الإحسان، بل شنوا الغارات، وقطعوا الطريق، وأفسدوا الزروع، وقطعوا الثمار، وحاصروا المدن، فضاق بالناس الأمر، وساءت أحوالهم، وانقطعت أسفارهم، ونزل بإفريقية بلاء لم ينزل بها مثله قط، فحينئذ احتفل المعز، وجمع عساكره، فكانوا ثلاثين ألف فارس، ومثلها رجالة، وسار حتى أتى جندران، وهو جبل بينه وبين القيروان ثلاثة أيام، وكانت عدة العرب ثلاثة آلاف فارس، فلما رأت العرب عساكر صنهاجة والعبيد مع المعز هالهم ذلك، وعظم عليهم، فقال لهم مؤنس بن يحيى: ما هذا يوم فرار، فقالوا: أين نطعن هؤلاء وقد لبسوا الكزاغندات والمغافر؟ قال: في أعينهم، فسمي ذلك اليوم يوم العين. والتحم القتال، واشتدت الحرب، فاتفقت صنهاجة على الهزيمة، وترك المعز مع العبيد حتى يرى فعلهم، ويقتل أكثرهم، فعند ذلك يرجعون على العرب، فانهزمت صنهاجة، وثبت العبيد مع المعز، فكثر القتل فيهم، فقتل منهم خلق كثير، وأرادت صنهاجة الرجوع على العرب، فلم يمكنهم ذلك، واستمرت الهزيمة، وقتل من صنهاجة أمة عظيمة، ودخل المعز القيروان مهزوماً، على كثرة من معه، وأخذت العرب الخيل والخيام وما فيها من مال وغيره، وفيه يقول بعض الشعراء: وإن ابن باديس لأفضل مالك، ... ولكن لعمري ما لديه رجال ثلاثون ألفاً منهم غلبتهم ... ثلاثة ألف إن ذا لمحال
ولما كان يوم النحر من هذه السنة جمع المعز سبعة وعشرين ألف فارس وسار إلى العرب جريدة، وسبق خبره، وهجم عليهم وهم في صلاة العيد، فركبت العرب خيولهم وحملت، فانهزمت صنهاجة، فقتل منهم عالم كثير. ثم جمع المعز وخرج بنفسه في صنهاجة وزناتة في جميع كثير، فلما أشرف على بيوت العرب، وهو قبلي جبل جندران، انتشب القتال، واشتعلت نيران الحرب، وكانت العرب سبعة آلاف فارس، فانهزمت صنهاجة وولى كل رجل منهم إلى منزله، وانهزمت زناتة، وثبت المعز فيمن معه من عبيده ثباتاً عظيماً لم يسمع بمثله، ثم انهزم وعاد إلى المنصورية، وأحصي من قتل من صنهاجة ذلك اليوم، فكانوا ثلاثة آلاف وثلاثمائة. ثم أقبلت العرب حتى نزلت بمصلى القيروان، ووقعت الحرب، فقتل من المنصورية ورقادة خلق كثير، فلما رأى ذلك المعز أباحهم دخول القيروان لما يحتاجون إليه من بيع وشراء، فلما دخلوا استطالت عليهم العامة، ووقعت بينهم حرب كان سببها فتنة بين إنسان عربي وآخر عامي وكانت الغلبة للعرب. وفي سنة أربع وأربعين بني سور زويلة والقيروان، وفي سنة ست وأربعين حاصرت العرب القيروان، وملك مؤنس بن يحيى مدينة باجة، وأشار المعز على الرعية بالانتقال إلى المهدية لعجزه عن حمايتهم من العرب. وشرعت العرب في هدم الحصون والقصور، وقطعوا الثمار، وخربوا الأنهار، وأقام المعز والناس ينتقلون إلى المهدية إلى سنة تسع وأربعين، فعندها انتقل المعز إلى المهدية في شعبان، فتلقاه ابنه تميم، ومشى بين يديه، وكان أبوه قد ولاه المهدية سنة خمس وأربعين، فأقام بها إلى أن قدم أبوه الآن. وفي رمضان من سنة تسع وأربعين نهبت العرب القيروان. وفي سنة خمسين خرج بلكين ومعه العرب لحرب زناتة، فقاتلهم فانهزمت زناتة وقتل منها عدد كثير. وفي سنة ثلاث وخمسين وقعت الحرب بين العرب وهوارة، فانهزمت هوارة وقتل منها الكثير. وفي سنة ثلاث وخمسين قتل أهل تقيوس من العرب مائتين وخمسين رجلاً، وسبب ذلك أن العرب دخلت المدينة متسوقة، فقتل رجل من العرب رجلاً متقدماً من أهل البلد لأنه سمعه يثني على المعز ويدعو له، فلما قتل ثار أهل البلد بالعرب فقتلوه منهم العدد المذكور. وكان ينبغي أن يأتي كل شيء من ذلك في السنة التي حدث فيها، وإنما أوردناه متتابعاً ليكون أحسن لسياقته، فإنه إذا انقطع وتخللته الحوادث في السنين لم يفهم. ذكر عدة حوادثفيها سار المهلهل بن محمد بن عناز أخو أبي الشوك إلى السلطان طغرلبك، فأحسن إليه وأقره على إقطاعه، ومن جملته السيروان، ودقوقا، وشهرزور، والصامغان، وشفعه في أخيه سرخاب بن محمد بن عناز، وكان محبوساً عند طغرلبك، وسار سرخاب إلى قلعة الماهكي، وهي له، وأقطع سعدي بن أبي الشوك الواندين. وفيها قبض المستنصر بمصر على أبي الربركات عم أبي القاسم الجرجرائي، واستوزر القاضي أبا محمد الحسن بن عبد الرحمن اليازوري، ويازور من أعمال الرملة. وفيها توفي محمد بن أحمد بن محمد بن عبد الله بن عبد الصمد بن المهتدي بالله أبو الحسين، ومولده سنة أربع وثمانين وثلاثمائة. وفيها، في شعبان، توفي أبو الحسن علي بن عمر القزويني، الزاهد، وكان من الصالحين، روى الحديث، والحكايات، والأشعار، وروى عن ابن نباتة شيئاً من شعره، فمن ذلك قال ابن نباتة: وإذا عجزت عن العدو فداره، ... وامزج له، إن المزاج وفاق فالنار بالماء هو الذي هو ضدها ... تعطي النضاج وطبعها الإحراق وفيها، في ذي القعدة، توفي أبو القاسم عمر بن ثابت النحوي الضرير، المعروف بالثمانيني. ثم دخلت سنة ثلاث وأربعين وأربعمائةذكر نهب سرّق والحرب الكائنة عندها وملك الرحيم رامهرمزوفيها، في المحرم، اجتمع جمع كثير من العرب والأكراد، وقصدوا سرق من خوزستان، ونهبوها، ونهبوا دورق، ومقدمهم مطارد بن منصور، ومذكور بن نزار، فأرسل إليهم الملك الرحيم جيشاً، ولقوهم بين سرق ودورق، فاقتتلوا، فقتل مطارد وأسر ولده، وكثر القتل فيهم، واستنقذوا ما نهبوه، ونجا الباقون على أقبح صورة من الجراح والنهب، فلما تم هذا الفتح للملك الرحيم انتقل من عسكر مكرم متقدماً إلى قنطرة أربق، ومعه دبيس بن مزيد والبساسيري وغيرهما.
ثم إن الأمير أبا منصور، صاحب فارس، وهزارسب بن بنكير، ومنصور بن الحسين الأسدي، ومن معهما من الديلم والأتراك، ساروا من أرجان يطلبون تستر، فسابقهم الرحيم إليها، وحال بينهم وبينها، والتقت الطلائع، فكان الظفر لعسكر الرحيم. ثم إن الإرجاف وقع في عسكر هزارسب بوفاة الأمير أبي منصور ابن الملك أبي كاليجار بمدينة شيراز، فسقط في أيديهم وعادوا، وقصد كثير منهم الملك الرحيم فصاروا معه، فسير قطعة من الجيش إلى رامهرمز، وبها أصحاب هزارسب، وقد أفسدوا في تلك الأعمال، فلما وصل إليها عسكر الرحيم خرج أولئك إلى قتالهم، فاقتتلوا قتالاً شديداً أكثر فيه القتل والجراح، ثم انهزم أصحاب هزارسب فدخلوا البلد وحصروا فيه، ثم ملك البلد عنوة، ونهب وأسر جماعة من العساكر التي فيه، وهرب كثير منهم إلى هزارسب، وهو بإيذج، وملك الملك الرحيم البلد في ربيع الأول من هذه السنة. ذكر ملك الملك الرحيم إصطخر وشيرازفي هذه السنة سير الملك الرحيم أخاه الأمير أبا سعد في جيش إلى بلاد فارس. وكان سبب ذلك أن المقيم في قلعة إصطخر، وهو أبو نصر بن خسرو، وكان له أخوان قبض عليهما هزارسب بن بنكير بأمر الأمير أبي منصور، فكتب إلى الملك الرحيم يبذل له الطاعة والمساعدة، ويطلب أن يسير إليه أخاه ليملكه بلاد فارس، فسير إليه أخاه أبا سعد في جيش، فوصل إلى دولتاباذ، فأتاه كثير من عساكر فارس الديلم، والترك، والعرب، والأكراد، وسار منها إلى قلعة إصطخر، فنزل إليه صاحبها أبو نصر، فلقيه وأصعده إلى القلعة، وحمل له وللعساكر التي معه الإقامات والخلع وغيرها. ثم ساروا منها إلى قلعة بهندر فحصروها، وأتاه كتب بعض مستحفظي البلاد الفارسية بالطاعة، منها مستحفظ درابجرد وغيرها، ثم سار إلى شيراز فملكها في رمضان، فلما سمع أخوه الأمير أبو منصور، وهزارسب، ومنصور بن الحسين الأسدي ذلك ساروا في عسكرهم إلى الملك الرحيم فهزموه، على ما نذكره إن شاء الله تعالى، وفارق الأهواز إلى واسط، ثم عطفوا من الأهواز إلى شيراز لإجلاء الأمير أبي سعد عنها، فلما قاربوها لقيهم أبو سعد وقاتلهم فهزمهم، فالتجأوا إلى جبل قلعة بهندر، وتكررت الحروب بين الطائفتين إلى منتصف شوال، فتقدمت طائفة من عسكر أبي سعد فاقتتلوا عامة النهار ثم عادوا، فلما كان الغد التقى العسكران جميعاً واقتتلوا، فانهزم عسكر الأمير أبي منصور، وظفر أبو سعد، وقتل منهم خلقاً كثيراً، واستأمن إليه كثير منهم، وصعد أبو منصور إلى قلعة بهندر واحتمى بها، وأقام إلى أن عاد إلى ملكه، على ما نذكره إن شاء الله تعالى. ولما فارق الأمير أبو منصور الأهواز أعيدت الخطبة للملك الرحيم، وأرسل من بها من الجند يستدعونه إليهم. ذكر انهزام الملك الرحيم بالأهوازلما انصرف الأمير ابو منصور، وهزارسب، ومن معهما من منزلهم قريب تستر، على ما ذكرناه، مضوا إلى إيذج وأقاموا فيها، وخافوا الملك الرحيم واستضعفوا نفوسهم عن مقاومته، فاتفق رأيهم على أن راسلوا السلطان طغرلبك، وبذلوا له الطاعة، وطلبوا منه المساعدة، فأرسل إليهم عسكراً كثيراً، وكان قد ملك أصبهان، وفرغ باله منها. وعرف الملك الرحيم ذلك، وقد فارقه كثير من عسكره، منهم: البساسيري ونور الدولة دبيس بن مزيد، والعرب، والأكراد، وبقي في الديلم الأهوازية وطائفة قليلة من الأتراك البغداديين كانوا وصلوا إليه أخيراً، فقرر رأيه على أن عاد من عسكر مكرم إلى الأهواز لأنها أحصن، وينتظر بالمقام فيها وصول العساكر، ورأى أن يرسل أخاه الأمير أبا سعد إلى فارس، حيث طلب إلى إصطخر، على ما ذكرناه، وسير معه جمعاً صالحاً من العساكر، ظناً منه أن أخاه إذا وصل إلى فارس وملكت قلعة إصطخر انزعج الأمير أبو منصور، وهزارسب، ومن معهما، واشتغلوا بتلك النواحي عنه، فازداد قلقاً وضعفاً، فلم يلتفت أولئك إلى الأمير أبي سعد بل ساروا مجدين إلى الأهواز، فوصلوها أواخر ربيع الآخر. ووقعت الحرب بين الفريقين يومين متتابعين كثر فيهما القتال واشتد، فانهزم الملك الرحيم، وسار في نفر قليل إلى واسط، ولقي في طريقه مشقة، وسلم واستقر بواسط فيمن لحق به من المنهزمين، ونهبت الأهواز، وأحرق فيها عدة محال، وفقد في الوقعة الوزير كمال الملك أبو المعالي بن عبد الرحيم، وزير الملك الرحيم، فلم يعرف له خبر.
ذكر الفتنة بين العامة ببغداد وإحراق المشهد على ساكنيه السلام في هذه السنة، في صفر، تجددت الفتنة ببغداد بين السنة والشيعة، وعظمت أضعاف ما كانت قديماً، فكان الاتفاق الذي ذكرناه في السنة الماضية غير مأمون الانتقاض، لما في الصدور من الإحن. وكان سبب هذه الفتنة أن أهل الكرخ شرعوا في عمل باب السماكين، وأهل القلائين في عمل ما بقي من باب مسعود، ففرغ أهل الكرخ، وعملوا أبراجاً كتبوا عليها بالذهب: محمد وعلي خير البشر، وأنكر السنة ذلك وادعوا أن المكتوب: محمد وعلي خير البشر، فمن رضي فقد شكر، ومن أبى فقد كفر، وأنكر أهل الكرخ الزيادة وقالوا: ما تجاوزنا ما جرت به عادتنا فيما نكتبه على مساجدنا. فأرسل الخليفة القائم بأمر الله أبا تمام، نقيب العباسيين ونقيب العلويين، وهو عدنان بن الرضي، لكشف الحال وإنهائه، فكتبا بتصديق قول الكرخيين، فأمر حينئذ الخليفة ونواب الرحيم بكف القتال، فلم يقبلوا، وانتدب ابن المذهب القاضي، والزهيري، وغيرهما من الحنابلة أصحاب عبد الصمد بحمل العامة على الإغراق في الفتنة، فأمسك نواب الملك الرحيم عن كفهم غيظاً من رئيس الرؤساء لميله إلى الحنابلة، ومنع هؤلاء السنة من حمل الماء من دجلة إلى الكرخ، وكان نهر عيسى قد انفتح بثقه، فعظم الأمر عليهم، وانتدب جماعة منهم وقصدوا دجلة وحملوا الماء وجعلوه في الظروف، وصبوا عليه ماء الورد، ونادوا: الماء للسبيل، فأغروا بهم السنة. وتشدد رئيس الرؤساء على الشيعة، فمحوا خير البشر، وكتبوا: عليهما السلام، فقالت السنة: لا نرضى إلا أن يقلع الآجر الذي عليه محمد وعلي وأن لا يؤذن: حي على خير العمل، وامتنع الشيعة من ذلك، ودام القتال إلى ثالث ربيع الأول، وقتل فيه رجل هاشمي من السنة، فحمله أهله على نعش، وطافوا به في الحربية، وباب البصرة، وسائر محال السنة، واستنفروا الناس للأخذ بثأره، ثم دفنوه عند أحمد بن حنبل، وقد اجتمع معهم خلق كثير أضعاف ما تقدم. فلما رجعوا من دفنه قصدوا مشهد باب التبن فأغلق بابه، فنقبوا في سوره وتهددوا البواب، فخافهم وفتح الباب فدخلوا ونهبوا ما في المشهد من قناديل ومحاريب ذهب وفضة وستور وغير ذلك، ونهبوا ما في الترب والدور، وأدركهم الليل فعادوا. فلما اكن الغد كثر الجمع، فقصدوا المشهد، وأحرقوا جميع الترب والآزاج، واحترق ضريح موسى، وضريح ابن ابنه محمد بن علي، والجوار، والقبتان الساج اللتان عليهما، واحترق ما يقابلهما ويجاورهما من قبور ملوك بني بويه، معز الدولة، وجلال الدولة، ومن قبور الوزراء والرؤساء، وقبر جعفر بن أبي جعفر المنصور، وقبر الأمير محمد بن الرشيد، وقبر أمه زبيده، وجرى من الأمر الفظيع ما لم يجر في الدنيا مثله. فلما كان الغد خامس الشهر عادوا وحفروا قبر موسى بن جعفر ومحمد بن علي لينقلوهما إلى مقبرة أحمد بن حنبل، فحال الهدم بينهم وبين معرفة القبر، فجاء الحفر إلى جانبه. وسمع أبو تمام نقيب العباسيين وغيره من الهاشميين السنة الخبر، فجاؤوا ومنعوا عن ذلك، وقصد أهل الكرخ إلى خان الفقهاء الحنفيين فنهبوه، وقتلوا مدرس الحنفية أبا سعد السرخسي، وأحرقوا الخان ودور الفقهاء وتعدت الفتنة إلى الجانب الشرقي، فاقتتل أهل باب الطاق وسوق بج، والأساكفة، وغيرهم. ولما انتهى خبر إحراق المشهد إلى نور الدولة دبيس بن مزيد عظم عليه واشتد وبلغ منه كل مبلغ لأنه وأهل بيته وسائر أعماله من النيل، وتلك الولاية كلهم شيعة، فقطعت في أعماله خطبة الإمام القائم بأمر الله، فروسل في ذلك وعوتب، فاعتذر بأن أهل ولايته شيعة، واتفقوا على ذلك، فلم يمكنه أن يشق عليهم كما أن الخليفة لم يمكنه كف السفهاء الذين فعلوا بالمشهد ما فعلوا، وأعاد الخطبة إلى حالها. ذكر عصيان بني قرة على المستنصر بالله بمصرفي هذه السنة، في شعبان، عصى بنو قرة بمصر على المستنصر بالله الخليفة العلوي.
وكان سبب ذلك أنه أمر عليهم رجلاً منهم يقال له المقرب، وقدمه، فنفروا من ذلك وكرهوه واستعفوا منه، فلم يعزله عنهم، فكاشفوا بالخلاف والعصيان، وأقاموا بالجيزة مقابل مصر، وتظاهروا بالفساد، فعبر إليهم المستنصر بالله جيشاً يقاتلهم ويكفهم، فقاتلهم بنو قرة فانهزم الجيش، وكثر القتل فيهم، فانتقل بنو قرة إلى طرف البر، فعظم الأمر على المستنصر بالله، وجمع العرب من طيء، وكلب، وغيرهما من العساكر، وسيرهم في أثر بني قرة، فأدركوهم بالجيزة، فواقعوهم في ذي القعدة، واشتد القتال، وكثر القتل في بني قرة، وانهزموا وعاد العسكر إلى مصر، وتركوا في مقابل بني قرة طائفة منهم لترد بني قرة إن أرادوا التعرض إلى البلاد، وكفى الله شرهم. ذكر وفاة زعيم الدولة وإمارة قريش بن بدران في هذه السنة، في شهر رمضان، توفي زعيم الدولة أبو كامل بركة بن المقلد بتكريت، وكان انحدر إليها في حلله قاصداً نحو العراق لينازع النواب به عن الملك الرحيم، وينهب البلاد، فلما بلغها انتقض عليه جرح كان أصابه من الغز لما ملكوا الموصل، فتوفي، ودفن بمشهد الخضر بتكريت. واجتمعت العرب من أصحابه على تأمير علم الدين أبي المعالي قريش بن بدران بن المقلد، فعاد بالحلل والعرب إلى الموصل وأرسل إلى عمه قرواش، وهو تحت الاعتقال يعلمه بوفاة زعيم الدولة، وقيامه بالإمارة، وأنه يتصرف على اختياره، ويقوم بالأمر نيابة عنه. فلما وصل قريش إلى الموصل جرى بينه وبين عمه قرواش منازعة ضعف فيها قرواش، وقوي ابن أخيه، ومالت العرب إليه واستقرت الإمارة له، وعاد عمه إلى ما كان عليه من الاعتقال الجميل، والاقتصار به على قليل من الحاشية والنساء والنفقة، ثم نقله إلى قلعة الجراحية من أعمال الموصل، فاعتقل بها. ذكر عدة حوادثظهر ببغداد يوم الأربعاء، سابع صفر وقت العصر، كوكب غلب نوره على نور الشمس، له ذؤابة نحو ذراعين، وسار سيراً بطيئاً ثم انقض، والناس يشاهدونه. وفيها، في رمضان، ورد رسل السلطان طغرلبك إلى الخليفة جواباً عن رسالة الخليفة إليه، وشكر لإنعام الخليفة عليه بالخلع والألقاب، وأرسل معه طغرلبك إلى الخليفة عشرة آلاف دينار عيناً ، وأعلاقاً نفيسة من الجواهر، والثياب، والطيب، وغير ذلك، وأرسل خمسة آلاف دينار للحاشية، وألفي دينار لرئيس الرؤساء، وأنزل الخليفة الرسل بباب المراتب، وأمر بإكرامهم، ولما جاء العيد أظهر أجناد بغداد الزينة الرائقة، والخيول النفيسة، والتجافيف الحسنة، وأرادوا إظهار قوتهم عند الرسل. وفيها عاد الغز أصحاب الملك داود أخي طغرلبك عن كرمان، وسبب ذلك عودهم أن عبد الرشيد بن محمود بن سبكتكين، صاحب غزنة، سار عنها إلى خراسان، فالتقى هو والملك داود، واقتتلوا قتالاً شديداً، فانهزم داود، فاقتضى الحال عود أصحابه عن كرمان. وفيها أيضاً عاد السلطان طغرلبك عن أصبهان إلى الري. وفيها توفي أبو كاليجار كرشاسف بن علاء الدولة بن كاكويه بالأهواز، وكان قد استخلفه بها الأمير أبو منصور عند عوده عنها إلى شيراز، فلما توفي خطب للملك الرحيم بالأهواز. وفيها توفي أبو عبد الله الحسين بن المرتضى الموسوي. وفيها، في ربيع الأول، توفي أبو الحسن محمد بن محمد البصروي الشاعر، وهو منسوب إلى قرية تسمى بصرى قريب عكبرا، وكان صاحب نادرة، قال له رجل: شربت البارحة ماء كثيراً، فاحتجت إلى القيام كل ساعة كأني جدي، فقال له: لم تصغر نفسك؟ ومن شعره: ترى الدنيا، وزينتها، فتصبو، ... وما يخلو من الشهوات قلب فضول العيش أكثرها هموم ... وأكثر ما يضرك ما تحب فلا يغررك زخرف ما تراه، ... وعيش لين الأعطاف رطب إذا ما بلغة جاءتك عفواً، ... فخذها، فالغنى مرعى وشرب إذا اتفق القليل وفيه سليم، ... فلا ترد الكثير وفيه حرب ثم دخلت سنة أربع وأربعين وأربعمائة ذكر قتل عبد الرشيد صاحب غزنة وملك فرخ زاد في هذه السنة قتل عبد الرشيد بن محمود بن سبكتكين صاحب غزنة.
وكان سبب ذلك أن حاجباً لمودود ابن أخيه مسعود، اسمه طغرل، وكان مودود قد قدمه، ونوه باسمه، وزوجه أخته، فلما توفي مودود وملك عبد الرشيد أجرى طغرل على عادته في تقدمه، وجعله حاجب حجابه، فأشار عليه طغرل بقصد الغز وإجلائهم من خراسان، فتوقف استبعاداً لذلك، فألح عليه طغرل، فسيره في ألف فارس، فسار نحو سجستان، وبها أبو الفضل، نائباً عن بيغو، فأقام طغرل على حصار قلعة طاق، وأرسل إلى أبي الفضل يدعوه إلى طاعة عبد الرشيد، فقال له: إنني نائب عن بيغو، وليس من الدين والمروءة خيانته، فاقصده، فإذا فرغت منه سلمت إليك. فقام على حصار طاق أربعين يوماً، فلم يتهيأ له فتحها، وكتب أبو الفضل إلى بيغو يعرفه حال طغرل، فسار إلى سجستان ليمنع عنها طغرل. ثم إن طغرل ضجر من مقامه على حصار طاق، فسار نحو مدينة سجستان، فلما كان على نحو فرسخ منها كمن بحيث لا يراه أحد لعلة يجدها، وفرصة ينتهزها، فسمع أصوات دبادب وبوقات، فخرج وسأل بعض من على الطريق، فأخبره أن بيغو قد وصل، فعاد إلى أصحابه وأخبرهم وقال لهم: ليس لنا إلا أن نلتقي القوم، ونموت تحت السيوف أعزة، فإنه لاسبيل لنا إلى الهرب لكثرتهم وقلتنا. فخرجوا من مكمنهم، فلما رآهم بيغو سأل أبا الفضل عنهم، فأخبره أنه طغرل، فاستقل من معه، وسير طائفة من أصحابه لقتالهم، فلما رآهم طغرل لم يعرج عليهم بل أقحم فرسه نهراً هناك فعبره، وقصد بيغو ومن معه، فقاتلهم، وهزمهم طغرل وغنم ما معهم، ثم عطف على الفريق الآخر، فصنع بهم مثل ذلك، وأم بيغو وأبو الفضل نحو هراة، وتبعهم طغرل نحو فرسخين، وعاد إلى المدينة فملكها، وكتب إلى عبد الرشيد بما كان منه، ويطلب الإمداد ليسير إلى خراسان، فأمده بعدة كثيرة من الفرسان، فوصلوا إليه، فاشتد بهم وأقام مديدة. ثم حدث نفسه بالعود إلى غزنة والاستيلاء عليها، فأعلم أصحابه ذلك، وأحسن إليهم، واستوثق منهم، ورحل إلى غزنة طاوياً للمراحل كاتماً أمره، فلما صار على خمسة فراسخ من غزنة أرسل إلى عبد الرشيد مخادعاً له يعلمه أن العسكر خالفوا عليه وطلبوا الزيادة في العطاء، وأنهم عادوا بقلوب متغيرة مستوحشة. فلما وقف على ذلك جمع أصحابه وأهل ثقته وأعلمهم الخبر، فحذروه منه، وقالوا له: إن الأمر قد أعجل عن الاستعداد، وليس غير الصعود إلى القلعة والتحصن بها. فصعد إلى قلعة غزنة وامتنع بها. ووافى طغرل من الغد إلى البلد، ونزل في دار الإمارة، وراسل المقيمين بالقلعة في تسليم عبد الرشيد، ووعدهم، ورغبهم إن فعلوا، وتهددهم إن امتنعوا. فسلموه إليه، فأخذه طغرل فقتله، واستولى على البلد وتزوج ابنة مسعود كرهاً. وكان في الأعمال الهندية أمير يسمى خرخيز، ومعه عسكر كثير، فلما قتل طغرل عبد الرشيد واستولى على الأمر كتب إليه ودعاه إلى الموافقة والمساعدة على ارتجاع الأعمال من أيدي الغز، ووعده على ذلك، وبذل البذول الكثيرة، فلم يرض فعله، وأنكره وامتعض منه، وأغلظ له في الجواب، وكتب إلى ابنة مسعود بن محمود زوجة طغرل، ووجوه القواد ينكر ذلك عليهم، ويوبخهم على إغضائهم وصبرهم على ما فعله طغرل من قتل ملكهم وابن ملكهم ويحثهم على الأخذ بثأره. فلما وقفوا على كتبه عرفوا غلطتهم ودخل جماعة منهم على طغرل، ووقفوا بين يديه، فضربه أحدهم بسيفه وتبعه الباقون فقتله. وورد خرخيز الحاجب بعد خمسة أيام، وأظهر الحزن على عبد الرشيد، وذم طغرل ومن تابعه على فعله، وجمع وجوه القواد وأعيان أهل البلد وقال لهم: قد عرفتم ما جرى مما خولفت به الديانة والأمانة، وأنا تابع، ولا بد للأمر من سائس، فاذكروا ما عندكم من ذلك! فأشاروا بولاية فرخ زاد بن مسعود بن محمود، وكان محبوساً في بعض القلاع، فأحضر وأجلس بدار الإمارة وأقام خرخيز بين يديه يدبر الأمور، وأخذ من أعان على قتل عبد الرشيد فقتله، فلما سمع داود أخو طغرلبك صاحب خراسان بقتل عبد الرشيد جمع عساكره وسار إلى غزنة، فخرج إليه خرخيز ومنعه وقاتله، فانهزم داود وغنم ما كان معه.
ولما استقر ملك فرخ زاد وثبت قدمه جهز جيشاً جراراً إلى خراسان فاستقبلهم الأمير كلسارغ، وهو من أعظم الأمراء، فقاتلهم، وصبر لهم، فظفروا به، وانهزم أصحابه عنه، وأخذ أسيراً، وأسر معه كثير من عسكر خراسان ووجوههم وأمرائهم. فجمع ألب أرسلان عسكراً كثيراً، وسير والده داود في ذلك العسكر إلى الجيش الذي أسر كلسارغ، فقاتلهم وهزمهم، وأسر جماعة من أعيان العسكر، فأطلق فرخ زاد الأسرى، وخلع على كلسارغ وأطلقه. ذكر وصول الغز إلى فارس وانهزامهم عنها في هذه السنة وصل أصحاب السلطان طغرلبك إلى فارس، وبلغوا إلى شيراز، ونزلوا بالبيضاء، واجتمع معهم العادل أبو منصور الذي كان وزير الأمير أبي منصور الملك أبي كاليجار، ودبر أمرهم، فقبضوا عليه وأخذوا منه ثلاث قلاع، وهي: قلعة كبزة، وقلعة جويم، وقلعة بهندر، فأقاموا بها، وسار من الغز نحو مائتي رجل إلى الأمير أبي سعد، أخي الملك الرحيم، وصاروا معه، وراسل أبو سعد الذي بالقلاع المذكورة، فاستمالهم، فأطاعوه وسلموه القلاع إليه وصاروا في خدمته. واجتمع العسكر الشيرازي، وعليهم الظهير أبو نصر، وأوقعوا بالغز بباب شيراز، فانهزم الغز، وأسر تاج الدين نصر بن هبة الله بن أحمد، وكان من المقدمين عند الغز، فلما انهزم الغز سار العسكر الشرازي إلى فسا، وكان قد تغلب عليها بعض السفل، وقوي أمره لاشتغال العساكر بالغز، فأزالوا المتغلب عليها واستعادوها. ذكر الحرب بين قريش وأخيه المقلدفي هذه السنة جرى خلف بين علم الدين قريش بن بدران وبين أخيه المقلد، وكان قريش قد نقل عمه قرواشاً إلى قلعة الجراحية من أعمال الموصل وسجنه بها وارتحل يطلب العراق، فجرى بينه وبين أخيه المقلد منازعة أدت إلى الاختلاف. فسار المقلد إلى نور الدولة دبيس بن مزيد ملتجئاً إليه، فحمل أخاه الغيظ منه على أن نهب حلته وعاد إلى الموصل، واختلت أحواله، واختلفت العرب إليه، وأخرج نواب الملك الرحيم ببغداد إلى ما كان بيد قريش من العراق بالجانب الشرقي من عكبرا، والعلث، وغيرهما من قبض غلته، وسلم الجانب الغربي من أوانا ونهر بيطر إلى أبي الهندي بلال بن غريب. ثم إن قريشاً استمال العرب وأصلحهم، فأذعنوا له بعد وفاة عمه قرواش، فإنه توفي هذه الأيام، وانحدر إلى العراق ليستعيد ما أخذ منه، فوصل إلى الصالحية، وسير بعض أصحابه إلى ناحية الحظيرة وما والاها، فنهبوا ما هناك وعادوا، فلقوا كامل بن محمد بن المسيب، صاحب الحظيرة، فأوقع بهم وقاتلهم، فأرسلوا إلى قريش يعرفونه الحال، فسر إليهم في عدة كثيرة من العرب والأكراد! فانهزم كامل، وتبعه قريش فلم يلحقه، فقصد حلل بلال بن غريب، وهي خالية من الرجال، فنهبها، وقاتله بلال وأبلى بلاء حسناً فجرح ثم انهزم، وراسل قريش نواب الملك الرحيم يبذل الطاعة، ويطلب تقرير ما كان له عليه، فأجابوه إلى ذلك على كره لقوته وضعفهم، واشتغال الملك الرحيم بخوزستان عنهم، فاستقر أمره وقوي شأنه. ذكر وفاة قرواشفي هذه السنة، مستهل رجب، توفي معتمد الدولة أبو المنيع قرواش ابن المقلد العقيلي، الذي كان صاحب الموصل، محبوساً بقلعة الجراحية، من أعمال الموصل، على ما ذكرناه قبل، وحمل ميتاً إلى الموصل، ودفن بتل توبة من مدينة نينوى، شرقي الموصل. وكان من رجال العرب، وذوي العقل منهم، وله شعر حسن، فمن ذلك ما ذكره أبو الحسن علي بن الحسن الباخرزي في دمية القصر من شعره: لله در النائبات، فإنها ... صدأ النفوس وصيقل الأحرار ما كنت إلا زبرة، فطبعني ... سيفاً، وأطلق شفرتي وغراري وذكر له أيضاً: من كان يحمد، أو يذم مورثاً ... للمال من آبائه وجدوده إني امرؤ الله شكر وحده ... شكراً كثيراً، جالباً لمزيده لي أشقر سمح العنان مغاور، ... يعطيك ما يرضيك من مجهوده ومهند عضب، إذا جردته ... خلت البروق تموج في تجريده ومثقف لدن السنان كأنما ... أم المنايا ركبت في عوده وبذا حويت المال، إلا أنني ... سلطت جود يدي على تبديده
قيل إنه جمع بين أختين في نكاحه، فقيل له: إن الشريعة تحرم هذا، فقال: وأي شيء عندنا تجيزه الشريعة؟ وقال مرة: ما في رقبتي غير خمسة أو ستة من البادية قتلتهم، وأما الحاضرة فلا يعبأ الله بهم. ذكر استيلاء الملك الرحيم على البصرةفي هذه السنة، في شعبان، سير الملك الرحيم جيشاً مع الوزير والبساسيري إلى البصرة، وبها أخوه أبو علي بن أبي كاليجار، فحصروه بها، فأخرج عسكره في السفن لقتالهم، فاقتتلوا عدة أيام، ثم انهزم البصريون في الماء إلى البصرة، واستولى عسكر الرحيم على دجلة والأنهر جميعاً، وسارت العساكر على البر من المنزلة بمطارا إلى البصرة، فلما قاربوها لقيهم رسل مضر وربيعة يطلبون الأمان، فأجابوهم إلى ذلك، وكذلك بذلوا الأمان لسائر أهلها، ودخلها الملك الرحيم، فسر به أهلها، وبذل لهم الإحسان. فلما دخل البصرة وردت إليه رسل الديلم بخوزستان يبذلون الطاعة، ويذكرون أنهم ما زالوا عليها. فشكرهم على ذلك، وأقام بالبصرة ليصلح أمرها. وأما أخوه أبو علي، صاحب البصرة، فإنه مضى إلى شط عثمان فتحصن به، وحفر الخندق، فمضى الملك الرحيم إليه وقاتلهم، فملك الموضع ومضى أبو علي ووالدته إلى عبادان، وركبوا البحر إلى مهروبان، وخرجوا من البحر واكتروا دواب وساروا إلى أرجان عازمين على قصد السلطان طغرلبك، وأخرج الملك الرحيم كل من بالبصرة من الديلم أجناد أخيه وأقام غيرهم. ثم إن الأمير أبا علي وصل إلى السلطان طغرلبك، وهو بأصبهان، فأكرمه وأحسن إليه، وحمل إليه مالاً، وزوجه امرأة من أهله، وأقطعه إقطاعاً من أعمال جرباذقان، وسلم إليه قلعتين من تلك الأعمال أيضاً. وسلم الملك الرحيم البصرة إلى البساسيري ومضى إلى الأهواز، وترددت الرسل بينه وبين منصور بن الحسين وهزارسب، حتى اصطلحوا، وصارت أرجان وتستر للملك الرحيم. ذكر ورود سعدي العراقوفيها، في ذي القعدة، ورد سعدي بن أبي الشوك في جيش من عند السلطان طغرلبك إلى نواحي العراق، فنزل مايدشت، وسار منها جريدة فيمن معه من الغز إلى أبي دلف الجاواني، فنذر به أبو دلف، وانصرف من بين يديه، ولحقه سعدي فنهبه وأخذ ماله، وأفلت أبو دلف بحشاشة نفسه، ونهب أصحاب سعدي البلاد حتى بلغوا النعمانية، فأسرفوا في النهب والغارة، وفتكوا في البلاد، وافتضوا الأبكار، فأخذوا الأموال والأثاث فلم يتركوا شيئاً، وقصد البندنيجين. وبلغ خبره إلى خاله خالد بن عمر، وهو نازل على الزرير ومطر ابني علي بن مقن العقيليين، فأرسل إليه ولده مع أولاد الزرير ومطر يشكون إليه ما عاملهم به عمه مهلهل، وقريش بن بدران، فلحقوه بحلوان وشكوا إليه حالهم، فوعدهم المسير إليهم، والأخذ لهم ممن قصدهم. فعادوا من عنده، فلقيهم نفر من أصحاب مهلهل فواقعوهم، فظفر بهم العقيليون وأسروهم. وبلغ الخبر مهلهلاً، فسار إلى حلل الزرير ومطر في نحو خمسمائة فارس، فأوقع بهم على تل عكبرا ونهبهم، وانهزم الرجال، فلقي خالد ومطر والزرير سعدي بن أبي الشوك على تامرا، فأعلموا الحال وحملوه. على قتال عمه، فتقدم إلى طريقه، والتقى القوم، وكان سعدي في جمع كثير، فظفر بعمه وأسره، وانهزم أصحابه في كل جهة، وأسر أيضاً مالك ابن عمه مهلهل، وأعاد الغنائم التي كانت معهم على أصحابها وعاد إلى حلوان. ووصل الخبر إلى بغداد، فارتج الناس بها وخافوا، وبرز عسكر الملك الرحيم ليقصدوا حلوان لمحاربة سعدي، ووصل إليهم أبو الأغر دبيس بن مزيد الأسدي ولم يصنعوا شيئاً. ذكر عدة حوادثفي هذه السنة قبض عيسى بن خميس بن مقن على أخيه أبي غشام، صاحب تكريت بها، وسجنه في سرداب بالقلعة، واستولى على تكريت. وفيها زلزت خوزستان واجان وإيذج، وغيرها من البلاد، زلازل كثيرة، وكان معظمها بأرجان، فخرب كثير من بلادها وديارها، وانفرج جبل كبير قريب من أرجان وانصدع، فظهر في وسطه درجة مبنية بالآجر والجص قد خفيت في الجبل، فتعجب الناس من ذلك. وكان بخراسان أيضاً زلزلة عظيمة خربت كثيراً، وهلك بسببها كثير، وكان أشدها بمدينة بيهق فأتى الخراب عليها، وخرب سورها ومساجدها، ولم يزل سورها خراباً إلى سنة أربع وستين وأربعمائة، فأمر نظام الملك ببنائه، فبني، ثم خربه أرسلان أرغو، بعد موت السلطان ملكشاه، وقد ذكرناه، ثم عمره مجد الملك البلاساني.
وفيها عمل محضر ببغداد يتضمن القدح في نسب العلويين أصحاب مصر، وأنهم كاذبون في إدعائهم النسب إلى علي، عليه السلام، وعزوهم فيه إلى الديصانية من المجوس، والقداحية من اليهود، وكتب فيه العلويين، والعباسيون، والفقهاء، والقضاة، والشهود، وعمل به عدة نسخ، وسير في البلاد، وشيع بين الحاضر والبادي. وفيها شهد الشيخ أبو نصر عبد السيد بن محمد بم عبد الواحد بن الصباغ، مصنف الشامل، عند قاضي القضاة أبي عبد الله الحسين علي بن ماكولا. وفيها حدثت فتنة بين السنة والشيعة ببغداد، وامتنع الضبط، وانتشر العيارون وتسلطوا، وجبوا الأسواق، وأخذوا ما كان يأخذه أرباب الأعمال، وكان مقدمهم الطقطقي والزيبق، وأعاد الشيعة الأذان بحي على خير العمل، وكتبوا على مساجدهم: محمد وعلي خير البشر، وجرى القتال بينهم، وعظم الشر. وفيها زوج نور الدولة دبيس بن مزيد ابنه بهاء الدولة منصوراً بابنة أبي البركات بن البساسيري. وفيها، في ربيع الأول، توفي القاضي أبو جعفر السمناني بالموصل، وكان إماماً في الفقه على مذهب أبي حنيفة، والأصول على مذهب الأشعري، وروى الحديث عن الدارقطني وغيره. وفي هذا الشهر توفي أيضاً أبو علي الحسن بن علي بن المذهب، الواعظ، وهو راوي مسند أحمد بن حنبل. ثم دخلت سنة خمس وأربعين وأربعمائة ذكر الفتنة بين السنة والشيعة ببغداد في هذه السنة، في المحرم، زادت الفتنة بين أهل الكرخ وغيرهم من السنة، وكان ابتداؤها أواخر سنة أربع وأربعين. فلما كان الآن عظم الشر، واطرحت المراقبة للسلطان، واختلط بالفريقين طوائف من الأتراك، فلما اشتد الأمر اجتمع القواد واتفقوا على الركوب إلى المحال وإقامة السياسة بأهل الشر والفساد، وأخذوا من الكرخ إنساناً علوياً وقتلوه، فثار نساؤه، ونشرن شعورهن واستغثن، فتبعهن العامة من أهل الكرخ، وجرى بينهم وبين القواد ومن معهم من العامة، قتال شديد، وطرح الأتراك النار في أسواق الكرخ، فاحترق كثير منها، وألحقتها بالأرض، وانتقل كثير من الكرخ إلى غيرها من المحال. وندم القواد على ما فعلوه، وأنكر الإمام القائم بأمر الله ذلك، وصلح الحال، وعاد الناس إلى الكرخ، بعد أن استقرت القاعدة بالديوان بكف الأتراك أيديهم عنهم. ذكر استيلاء الملك الرحيم على أرجانفي هذه السنة، في جمادى الأولى، استولى الملك الرحيم على مدينة أرجان، وأطاعه من كان بها من الجند، وكان المقدم عليهم فولاذ بن خسرو الديلمي. وكان قد تغلب على جاورها من البلاد إنسان متغلب يسمى خشنام، فأنفذ إليه فولاذ جيشاً فأوقعوا به وأجلوه عن تلك النواحي واستضافوا إلى طاعة الرحيم. وخاف هزارسب بن بنكير من ذلك لأنه كان مبايناً للملك الرحيم على ما ذكرناه، فأرسل يتضرع ويتقرب، ويسأل التقدم إلى فولاذ بإحسان مجاورته، فأجيب إلى ذلك. ذكر مرض السلطان طغرلبكفي هذه السنة وصل السلطان طغرلبك إلى أصبهان مريضاً، وقوي الإرجاف عليه بالموت، ثم عوفي، ووصل إليه الأمير أبو علي بن الملك أبي كاليجار الذي كان صاحب البصرة، ووصل إليه أيضاً هزارسب بن بنكير بن عياض، صاحب إيذج، فإنه كان قد خاف الملك الرحيم لما استولى على البصرة وأرجان. فأكرمهما طغرلبك، وأحسن ضيافتهما، ووعدهما النصرة والمعونة. ذكر عود سعدي بن أبي الشوك إلى طاعة الرحيمقد ذكرنا سنة أربع وأربعين وصول سعدي إلى العراق، وأرسه عمه، فلما أسره سار ولده بدر بن المهلهل إلى السلطان طغرلبك، وتحدث معه في مراسلة سعدي ليطلق أباه، فسلم إليه طغرلبك ولداً كان لسعدي عنده رهينة، وأرسل معه رسولاً يقول فيه: إن أردت فدية عن أسرك فهذا ولدك قد رددته عليك، وإن أبيت إلا المخالفة ومفارقة الجماعة قابلناك على فعلك. فلما وصل بدر والرسول إلى همذان تخلف بدر، وسار الرسول إليه، فامتعض من قوله، وخالف طغرلبك، وسار إلى حلوان، وأراد أخذها، فلم يمكنه، وتردد بين روشنقباذ والبردان، وكاتب الملك الرحيم، وصار في طاعته، فسار إليه إبراهيم بن إسحاق، وسخت كمان، وهما من أعيان عسكر طغرلبك، في عسكر مع بدر بن المهلهل فأوقعوا به فانهزم هو وأصحابه وعاد الغز عنهم إلى حلوان، وسار بدر إلى شهرزور في طائفة من الغز، ومضى سعدي إلى قلعة روشنقباذ. ذكر عود الأمير أبو منصور إلى شيراز
في هذه السنة، في شوال، عاد الأمير أبو منصور فولاستون ابن الملك أبي كاليجار إلى شيراز مستولياً عليها، وفارقها أخوه الأمير أبو سعد. وكان سبب ذلك أن الأمير أبا سعد كان قد تقدم معه في دولته إنسان يعرف بعميد الدين أبي نصر بن الظهير، فتحكم معه، واطرح الأجناد واستخف بهم، وأوحش أبا نصر بن خسرو، صاحب قلعة إصطخر، الذي كان قد استدعى الأمير أبا سعد وملكه. فلما فعل ذلك اجتمعوا على مخالفته وتألبوا عليه، وأحضر أبو نصر بن خسرو الأمير أبا منصور بن أبي كاليجار إليه! وسعى في اجتماع الكلمة عليه، فأجابه كثير من الأجناد لكراهتهم لعميد الدين، فقبضوا عليه، ونادوا بشعار الأمير أبي منصور، وأظهروا طاعته، وأخرجوا الأمير أبا سعد عنهم فعاد إلى الأهواز في نفر يسير، ودخل الأمير أبو منصور إلى شيراز مالكاً لها، مستولياً عليها، وخطب فيها لطغرلبك، وللملك الرحيم، ولنفسه بعدهما. ذكر إيقاع البساسيري بالأكراد والأعرابوفيها، في شوال، وصل الخبر إلى بغداد بأن جمعاً من الأكراد وجمعاً من الأعراب قد أفسدوا في البلاد، وقطعوا الطريق ونهبوا القرى، طمعاً في السلطنة بسبب الغز، فسار إليهم البساسيري جريدة، وتبعهم إلى البوازيج، فأوقع بطوائف كثيرة منهم، وقتل فيهم، وغنم أموالهم، وانهزم بعضهم فعبروا الزاب عند البوازيج فلم يدركهم، وأراد العبور إليهم، وهم بالجانب الآخر، وكان الماء زائداً، فلم يتمكن من عبوره، فنجوا. ذكر عدة حوادثفي هذه السنة توفي الشريف أبو تمام محمد بن محمد بن علي الزينبي، نقيب النقباء، وقام بعده في النقابة ابنه أبو علي. وفيها توفي أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن أحمد البرمكي، وكان مكثراً من الحديث، سمع ابن مالك القطيعي وغيره، وإنما قيل له البرمكي لأنه سكن محله ببغداد تعرف بالبرامكة، وقيل كان من قرية عند البصرة تعرف بالبرمكية. ثم دخلت سنة ست وأربعين وأربعمائة ذكر فتنة الأتراك ببغداد في هذه السنة، في المحرم كانت فتنة الأتراك ببغداد. وكان سببها أنهم تخلف لهم على الوزير الذي للملك الرحيم مبلغ كثير من رسومهم، فطالبوه، وألحوا عليه، فاختفى في دار الخلافة، فحضر الأتراك بالديوان وطالبوه، وشكوا ما يلقونه منه من المطال بمالهم، فلم يجابوا إلى إظهاره، فعدلوا عن الشكوى منه إلى الشكوى من الديوان، وقالوا: إن أرباب المعاملات قد سكنوا بالحريم، وأخذوا الأموال، وإذا طلبناهم بها يمتنعون بالمقام بالحريم، وانتصب الوزير والخليفة لمنعنا عنهم، وقد هلكنا. فتردد الخطاب منهم، والجواب عنه، فقاموا نافرين، فلما كان الغد ظهر الخبر أنهم على عزم حصر دار الخلافة، فانزعج الناس لذلك، وأخفوا أموالهم، وحضر البساسيري دار الخلافة، وتوصل إلى معرفة خبر الوزير، فلم يظهر له على خبر، فطلب من داره ودور من يتهم به، وكبست الدور، فلم يظهروا له على خبر. وركب جماعة من الأتراك إلى دار الروم فنهبوها، وأحرقوا البيع والقلايات، ونهبوا فيها دار أبي الحسن بن عبيد، وزير البساسيري. وقام أهل نهر المعلى، وباب الأزج، وغيرهما من المحال، في منافذ الدروب لمنع الأتراك، وانخرق الأمر، ونهب الأتراك كل من ورد إلى بغداد، فغلت الأسعار، وعدمت الأقوات، وأرسل إليهم الخليفة ينهاهم، فلم ينتهوا، فأظهر أنه يريد الانتقال عن بغداد، فلم يزجروا. هذا جميعه والبساسيري غير راض بفعلهم، وهو مقيم بدار الخليفة. وتردد الأمر إلى أن ظهر الوزير، وقام لهم الباقي من مالهم من ماله، وأثمان دوابه، وغيرها، ولم يزالوا في خبط وعسف، فعاد طمع الأكراد والأعراب أشد منه أولاً، وعاودوا الغارة والنهب والقتل، فخربت البلاد وتفرق أهلها. وانحدر أصحاب قريش بن بدران من الموصل طامعين، فكبسوا حلل كامل ابن محمد بن المسيب، وهي بالبردان، فنهبوها، وبها دواب، وجمال بخاتي للبساسيري، فأخذوا الجميع ووصل الخبر إلى بغداد، فازداد خوف الناس من العامة والأتراك، وعظم انحلال أمر السلطنة بالكلية، وهذا من ضرر الخلاف. ذكر استيلاء طغرلبك على أذربيجان وغزو الروم
في هذه السنة سار طغرلبك إلى أذربيجان، فقصد تبريز، وصاحبها الأمير أبو منصور وهسوذان بن محمد الروادي، فأطاعه وخطب له وحمل إليه ما أرضاه به، وأعطاه ولده رهينة، فسار طغرلبك عنه إلى الأمير أبي الأسوار، صاحب جنزة، فأطاعه أيضاً وخطب له، وكذلك سائر تلك النواحي أرسلوا إليه يبذلون الطاعة والخطبة. وانقادت العساكر إليه، فأبقى بلادهم عليهم، وأخذ رهائنهم وسار إلى أرمينية، وقصد ملازكرد، وهي للروم، فحصرها وضيق على أهلها، ونهب ما جاورها من البلاد وأخربها، وهي مدينة حصينة، فأرسل إليه نصر الدولة بن مراون، صاحب ديار بكر، الهدايا الكثيرة والعساكر، وقد كان خطب له قبل هذا الوقت وأطاعه، وأثر السلطان طغرلبك، في غزو الروم، آثاراً عظيمة، ونال منهم من النهب والقتل والأسر شيئاً كثيراً. وبلغ في غزوته هذه إلى أرزن الروم، وعاد إلى أذربيجان، لما هجم الشتاء، من غير أن يملك ملازكرد، وأظهر أنه يقيم إلى أن ينقضي الشتاء، ويعود يتم غزاته، ثم توجه إلى الري فأقام بها إلى أن دخلت سنة سبع وأربعين وعاد نحو العراق، على ما نذكره إن شاء الله تعالى. ذكر محاربة بني خفاجة وهزيمتهمفي هذه السنة، في رجب، قصد بنو خفاجة الجامعين، وأعمال نور الدولة دبيس، ونهبوا وفتكوا في أهل تلك الأعمال، وكان نور الدولة شرقي الفرات، وخفاجة غربيها، فأرسل نور الدولة إلى البساسيري يستنجده، فسار إليه، فلما وصل عبر الفرات من ساعته، وقاتل خفاجة وأجلاهم عن الجامعين، فانهزموا منه ودخلوا البر، فلم يتبعهم، وعاد عنهم، فرجعوا إلى الفساد، فاستعد لسلوك البر خلفهم أين قصدوا، وعطف نحوهم قاصداً حربهم، فدخلوا البر أيضاً، فتبعهم فلحقهم بخفان، وهو حصن بالبر، فأوقع بهم، وقتل منهم، ونهب أموالهم وجمالهم وعبيدهم وإماءهم، وشردهم كل مشرد، وحصر خفان ففتحه وخربه، وأراد تخريب القائم به، وهو بناء من آجر وكلس، وصانع عنه صاحبه ربيعة بن مطاع بمال بذله، فتركه وعاد إلى البلاد. وهذا القائم قيل إنه كان علماً يهتدي به السفن، لما كان البحر يجيء إلى النجف، ودخل بغداد ومعه خمسة وعشرون رجلاً من خفاجة، عليهم البرانس، وقد شدهم بالحبال إلى الجمال، وقتل منهم جماعة، وصلب جماعة، وتوجه إلى حربى فحصرها، وقرر، وقرر على أهلها تسعة آلاف دينار وأمنهم. ذكر استيلاء قريش على الأنبار والخطبة لطغرلبك بأعماله في شعبان من هذه السنة حصر الأمير أبو المعالي قريش بن بدران، صاحب الموصل، مدينة الأنبار وفتحها، وخطب لطغرلبك فيها وفي سائر أعماله، ونهب ما كان فيها للبساسيري وغيره، ونهب حلل أصحابه بالخالص،وفتحوا بثوقه، وامتعض البساسيري من ذلك، وجمع جموعاً كثيرة، وقصد الأنبار وحربى فاستعادهما، على ما نذكره إن شاء الله تعالى. ذكر وفاة القائد ابن حماد وما كان من أهله بعده في هذه السنة، في رجب، توفي القائد ابن حماد، وأوصى إلى ولده محسن، وأوصاه بالإحسان إلى عمومته، فلما مات خالف ما أمره به، وأراد عزل جميعهم، فلما سمع عمه يوسف بن حماد بما عزم عليه خالفه، وجمع عظيماً وبنى قلعة في جبل منيع وسماها الطيارة. ثم محسناً قتل من عموممته أربعة، فازداد يوسف نفوراً، وكان ابن عمه بلكين بن محمد في بلده أفريون، فكتب إليه محسن يستدعيه، فسار إليه، فلما قرب منه أمر محسن رجالاً من العرب أن يقتلوه، فلما خرجوا قال لهم أميرهم خليفة بن مكن: إن بلكين لم يزل محسناً إلينا، فكيف نقتله؟ فأعلموه ما أمرهم به محسن، فخاف، فقال له خليفة: لا تخف، وإن كنت تريد قتل محسن فأنا أقتله لك. فاستعد بلكين لقتاله، وسار إليه، فلما علم محسن بذلك وكان قد فارق القلعة عاد هارباً إليها، فأدركه بلكين فقتله، وملك القلعة وولي الأمر، وكان ملكه القلعة سنة سبع وأربعين وأربعمائة. ذكر ابتداء الوحشة بين البساسيري والخليفةفي شهر رمضان من هذه السنة ابتدأت الوحشة بين الخليفة والبساسيري.
وسبب ذلك ذلك أن أبا الغنائم وأبا سعد ابني المحلبان، صاحبي قريش بن بدر | |
|
| |
الشيخ عودة الشيخ عودة
عدد المساهمات : 1748 تاريخ التسجيل : 28/09/2008 العمر : 74
| موضوع: رد: كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير الإثنين فبراير 24, 2014 6:35 pm | |
| ذكر استيلاء الملك الرحيم على شيراز وقطع خطبة طغرلبك فيها
في هذه السنة، في المحرم، سار قائد كبير من الديلم، يسمى فولاذ، وهو صاحب قلعة إصطخر، إلى شيراز، فدخلها وأخرج عنها الأمير أبا منصور فولاستون، ابن الملك أبي كاليجار، فقصد فيروزاباذ وأقام بها. وقطع فولاذ خطبة السلطان طغرلبك في شيراز، وخطب للملك الرحيم، ولأخيه أبي سعد، وكاتبهما يظهر لهما الطاعة، فعلما أنه يخدعهما بذلك، فسار إليه أبو سعد، وكان بأرجان، ومعه عساكر كثيرة، واجتمع هو وأخوه الأمير أبو منصور على قصد شيراز ومحاصرتها على قاعدة استقرت بينهما في طاعة أخيهما الملك الرحيم، فتوجها نحوها فيمن معهما من العساكر، وحصرا فولاذ فيها. وطال الحصار إلى أن عدم القوت فيها، وبلغ السعر سبعة أرطال حنطة بدينار ومات أهلها جوعاً، وكان من بقي فيها نحو ألف إنسان، وتعذر المقام في البلد على فولاذ، فخرج هارباً مع من في صحبته من الديلم إلى نواحي البيضاء وقلعة إصطخر، ودخل الأمير أبو سعد، والأمير أبو منصور شيراز، وعساكرهما، وملكوها، وأقاموا بها. ذكر قتل أبي حرب بن مروان صاحب الجزيرةفي هذه السنة قتل الأمير أبو حرب سليمان بن نصر الدولة بن مروان، وكان والده قد سلم إليه الجزيرة وتلك النواحي ليقيم بها ويحفظها، وكان شجاعاً، مقداماً، فاستبد بالأمر، واستولى عليه، فجرى بينه وبين الأمير موسك ابن المجلى ابن زعيم الأكراد البختية، وله حصون منيعة شرقي الجزيرة، نفرة. ثم راسله أبو حرب واستماله، وسعى أن يزوجه ابنه الأمير أبي طاهر البشنوي، صاحب قلعة فنك وغيرها من الحصون، وكان أبو طاهر هذا ابن أخت نصر الدولة بن مروان، فلم يخالف أبو طاهر، صاحب فنك، أبا حرب في الذي أشار به من تزويج الأمير موسك، فزوجه ابنته ونقلها إليه، فاطمأن حينئذ موسك، وسار إلى سليمان، فغدر به، وقبض عليه وحبسه. ووصل السلطان طغرلبك إلى تلك الأعمال لما توجه إلى غزو الروم، على ما ذكرناه فأرسل إلى نصر الدولة يشفع في موسك، فأظهر أنه توفي، فشق ذلك علي حميه أبي طاهر البشنوي، وأرسل إلى نصر الدولة وابنه سليمان فقال لهما: حيث أردتما قتله، فلم جعلتما ابنتي طريقاً إلى ذلك، وقلدتموني العار؟ وتنكر لهما، وخافه أبو حرب، فوضع عليه من سقاه سماً فقتله. وولي بعده ابنه عبيد الله، فأظهر له أبو حرب المودة استصلاحاً له، وتبرؤاً إليه من كل ما قيل عنه، واستقر الأمر بينهما على الاجتماع وتجديد الأيمان، فنزلوا من فنك، وخرج إليهم أبو حرب من الجزيرة في نفر قليل فقتلوه. وعرف والده ذلك، فأقلقه وأزعجه، وأرسل ابنه نصراً إلى الجزيرة ليحفظ تلك النواحي، ويأخذ بثأر أخيه، وسير معه جيشاً كثيفاً. وكان الأمير قريش بن بدران، صاحب الموصل، لما سمع قتل أبي حرب انتهز الفرصة وسار إلى الجزيرة ليملكها، وكاتب البختية والبشنوية، واستمالهم، فنزلوا إليه واجتمعوا معه على قتال نصر بن مروان، فالتقوا واقتتلوا قتالاً شديداً كثر فيه القتلى، وصبر الفريقان، فكانت الغلبة أخيراً لابن مروان، وجرح قريش جراحة قوية بزوبين رمي به، وعاد عنه، وثبت أمر ابن مروان بالجزيرة، وعاود مراسلة البشنوية والبختية، واستمالهم لعله يجد فيهم طمعاً، فلم يطيعوه. ذكر وثوب الأتراك ببغداد بأهل البساسيري والقبض عليه ونهب دوره وأملاكه وتأكد الوحشة بينه وبين رئيس الرؤساء في هذه السنة ثارت فتنة ببغداد بالجانب الشرقي بين العامة، وثار جماعة من أهل السنة، وأظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحضروا الديوان، وطلبوا أن يؤذن لهم في ذلك، وأن يتقدم إلى أصحاب الديوان بمساعدتهم، فأجيبوا إلى ذلك، وحدث من ذلك شر كثير. ثم إن أبا سعد النصراني، صاحب البساسيري، حمل في سفينة ستمائة جرة خمراً ليحدرها إلى البساسيري بواسط، في ربيع الآخر، فحضر ابن سكرة الهاشمي وغيره من الأعيان في هذا الباب، وتبعهم خلق كثير، وحاجب باب المراتب من قبل الديوان، وقصدوا السفينة، وكسروا جرار الخمر وأراقوها.
وبلغ ذلك البساسيري، فعظم عليه، ونسبه إلى رئيس الرؤساء، وتجددت الوحشة، فكتب فتاوى أخذ فيها خطوط الفقهاء الحنفية بأن الذي فعل من كسر الجرار وإراقة الخمر تعد غير واجب، وهي ملك رجل نصراني، لا يجوز، وتردد القول في هذا المعنى، فتأكدت الوحشة من الجانبين، ووضع رئيس الرؤساء الأتراك البغداديين على ثبل البساسيري والذم له، ونسب كل ما يجري عليهم من نقض إليه، فطمعوا فيه، وسلكوا في هذا المعنى زيادة على ما أراد رئيس الرؤساء، وتمادت الأيام إلى رمضان، فحضروا دار الخليفة، واستأذنوا في قصد دور البساسيري ونهبها، فأذن لهم في ذلك، فقصدوها ونهبوها وأحرقوها، ونكلوا بنسائه وأهله ونوابه، ونهبوا دوابه وجميع ما يملكه ببغداد. وأطلق رئيس الرؤساء لسانه في البساسيري وذمه، ونسبه إلى مكاتبة المستنصر، صاحب مصر، وأفسد الحال مع الخليفة إلى حد لا يرجى صلاحه، وأرسل إلى الملك الرحيم يأمره بإبعاد البساسيري، فأبعده، وكانت هذه الحالة من أعظم الأسباب في ملك السلطان طغرلبك العراق، وقبض الملك الرحيم، وسيرد من ذلك ما تراه إن شاء الله تعالى. ذكر وصول طغرلبك إلى بغداد والخطبة له بها قد ذكرنا قبل مسير طغرلبك إلى الري، بعد عوده من غزو الروم، للنظر في ذلك الطرف، فلما فرغ من الري عاد إلى همذان في المحرم من هذه السنة، وأظهر أنه يريد الحج، وإصلاح طريق مكة، والمسير إلى الشام ومصر، وإزالة المستنصر العلوي صاحبها. وكاتب أصحابه بالدينور وقرميسين وحلوان وغيرها، فأمرهم بإعداد الأقوات والعلوفات. فعظم الإرجاف ببغداد، وفت في أعضاد الناس، وشغب الأتراك ببغداد، وقصدوا ديوان الخلافة. ووصل السلطان طغرلبك إلى حلوان، وانتشر أصحابه في طريق خراسان، فأجفل الناس إلى غربي بغداد، وأخرج الأتراك خيامهم إلى ظاهر بغداد. وسمع الملك الرحيم بقرب طغرلبك من بغداد، فأصعد من واسط إليها، وفارقه البساسيري في الطريق لمراسلة وردت من القائم في معناه إلى الملك الرحيم أن البساسيري خلع الطاعة، وكاتب الأعداء، يعني المصريين، وأن الخليفة له على الملك عهود، وله على الخليفة مثلها، فإن آثره فقد قطع ما بينهما، وإن أبعده وأصعد إلى بغداد تولى الديوان تدبير أمره، فقال الملك الرحيم ومن معه: نحن لأوامر الديوان متبعون، وعنه منفصلون. وكان سبب ذلك ما ذكر. وسار البساسيري إلى بلد نور الدولة دبيس بن مزيد المصاهرة بينهما، وأصعد الملك الرحيم إلى بغداد. وأرسل طغرلبك رسولاً إلى الخليفة يبالغ في إظهار الطاعة والعبودية، وإلى الأتراك البغداديين يعدهم الجميل والإحسان. فأنكر الأتراك ذلك، وراسلوا الخليفة في المعنى، وقالوا: إننا فعلنا بالبساسيري ما فعلناه، وهو كبيرنا، ومقدمنا، بتقدم أمير المؤمنين، ووعدنا أمير المؤمنين بإبعاد هذا الخصم عنا، ونراه قد قرب منا، ولم يمنع من المجيء. وسألوا التقدم عليه في العود، فغولطوا في الجواب، وكان رئيس الرؤساء يؤثر مجيئه، ويختار انقراض الدولة الديلمية. ثم إن الملك الرحيم وصل بغداد منتصف رمضان، وأرسل إلى الخليفة يظهر العبودية، وأنه قد سلم أمره إليه ليفعل ما تقتضيه العواطف معه في تقرير القواعد مع السلطان طغرلبك، وكذلك قال من مع الرحيم من الأمراء، فأجيبوا بأن المصلحة أن يدخل الأجناد خيامهم من ظاهر بغداد، وينصبوها بالحريم، ويرسلوا رسولاً إلى طغرلبك يبذلون له الطاعة والخطبة، فأجابوا إلى ذلك وفعلوه، وأرسلوا رسلاً إليه، فأجابهم إلى ما طلبوا، ووعدهم الإحسان إليهم. وتقدم الخليفة إلى الخطباء بالخطبة لطغرلبك بجوامع بغداد، فخطب له يوم الجمعة لثمان بقين من رمضان من السنة، وأرسل طغرلبك يستأذن الخليفة في دخول بغداد، فأذن له، فوصل إلى النهروان، وخرج الوزير رئيس الرؤساء إلى لقائه في موكب عظيم من القضاة، والنقباء، والأشراف، والشهود، والخدم، وأعيان الدولة، وصحبه أعيان الأمراء من عسكر الرحيم. فلما علم طغرلبك بهم أرسل إلى طريقهم الأمراء، ووزيره أبا نصر الكندري، فلما وصل رئيس الرؤساء إلى السلطان أبلغه رسالة الخليفة، واستخلفه للخليفة، وللملك الرحيم، وأمراء الأجناد، وسار طغرلبك ودخل بغداد يوم الاثنين لخمس بقين من الشهر، ونزل بباب الشماسية، ووصل إليه قريش بن بدران، صاحب الموصل، وكان في طاعته قبل هذا الوقت على ما ذكرناه.
ذكر وثوب العامة ببغداد بعسكر طغرلبك وقبض الملك الرحيم لما وصل السلطان طغرلبك بغداد دخل عسكره البلد للامتيار، وشراء ما يريدونه من أهلها، وأحسنوا معاملتهم، فلما كان الغد، وهو يوم الثلاثاء، جاء بعض العسكر إلى باب الأزج، وأخذ واحداً من أهله ليطلب منه تبناً، وهو لا يفهم ما يريدون، فاستغاث عليهم، وصاح العامة بهم ورجموهم، وهاجموا عليهم. وسمع الناس الصياح، فظنوا أن الملك الرحيم وعسكره قد عزموا على قتال طغرلبك، فارتج البلد من أقطاره، وأقبلوا من كل حدب ينسلون، يقتلون من الغز من وجد في محال بغداد، إلا أهل الكرخ فإنهم لم يتعرضوا إلى الغز، بل جمعوهم وحفظوهم. وبلغ السلطان طغرلبك ما فعله أهل الكرخ من حماية أصحابه، فأمر بإحسان معاملتهم. فأرسل عميد الملك، الوزير، إلى عدنان بن الرضي، نقيب العلويين، يأمره بالحضور، فحضر، فشكره عن السلطان، وترك عنده خيلاً بأمر السلطان تحرسه وتحرس المحلة. وأما عامة بغداد فلم يقنعوا بما عملوا، حتى خرجوا ومعهم جماعة من العسكر إلى ظاهر بغداد، يقصدون العسكر السلطاني، فلو تبعهم الملك الرحيم وعسكره لبلغوا ما أرادوا، لكن تخلفوا، ودخل أعيان أصحابه إلى دار الخلافة، وأقاموا بها نفياً للتهمة عن أنفسهم، ظناً منهم أن ذلك ينفعهم. وأما عسكر طغرلبك فلما رأوا فعل العامة وظهورهم من البلد قاتلوهم فقتل بين الفريقين جمع كثير، وانهزمت العامة، وجرح فيهم وأسر كثير، ونهب الغز درب يحيى، ودرب سليم، وبه دور رئيس الرؤساء ودور أهله، فنهب الجميع، ونهب الرصافة، وترب الخلفاء، وأخذ منها من الأموال ما لا يحصى، لأن أهل تلك الأصقاع نقلوا إليها أموالهم اعتقاداً منهم أنها محترمة. ووصل النهب إلى أطراف نهر المعلى واشتد البلاء على الناس وعظم الخوف، ونقل الناس أموالهم إلى باب النوبي، وباب العامة، وجامع القصر، فتعطلت الجمعات لكثرة الزحمة. وأرسل طغرلبك من الغد إلى الخليفة يعتب، وينسب ما جرى إلى الملك الرحيم وأجناده، ويقول: إن حضروا برئت ساحتهم، وإن تأخروا عن الحضور أيقنت أن ما جرى إنما كان بوضع منهم. وأرسل للملك الرحيم وأعيان أصحابه أماناً لهم، فتقدم إليهم الخليفة بقصده، فركبوا إليه، وأرسل الخليفة معهم رسولاً يبرئهم مما خامر خاطر السلطان، فلما وصلوا إلى خيامه نهبهم الغز، ونهبوا رسل الخليفة معهم، وأخذوا دوابهم وثيابهم. ولما دخل الملك الرحيم إلى خيمة السلطان أمر بالقبض عليه وعلى من معه، فقبضوا كلهم آخر شهر رمضان، وحبسوا، ثم حمل الرحيم إلى قلعو السيروان، وكانت ولاية الملك الرحيم على بغداد ست سنين وعشرة أيام، ونهب أيضاً قريش بن بدران، صاحب الموصل، ومن معه من العرب، ونجا مسلوباً، فاحتمى بخيمة بدر بن المهلهل، فألقوا عليه الزلالي حتى أخفوه بها عن الغز. ثم علم السلطان ذلك، فأرسل إليه، وخلع عليه، وأمره بالعود إلى أصحابه وحلله تسكيناً له. وأرسل الخليفة إلى السلطان ينكر ما جرى من قبض الرحيم وأصحابه، ونهب بغداد، ويقول: إنهم إنما خرجوا إليك بأمري وأماني، فإن أطلقتهم، وإلا فأنا أفارق بغداد، فإني إنما اخترتك واستدعيتك اعتقاداً مني أن تعظيم الأوامر الشريفة يزداد، وحرمه الحريم تعظم، وأرى الأمر بالضد. فأطلق بعضهم، وأخذ جميع إقطاعات عسكر الرحيم، وأمرهم بالسعي في أرزاق يحصلونها لأنفسهم. فتوجه كثير منهم إلى البساسيري ولزموه، فكثر جمعه ونفق سوقه. وأمر طغرلبك بأخذ أموال الأتراك البغداديين، وأرسل إلى نور الدولة دبيس يأمره بإبعاد البساسيري عنه، ففعل، فسار إلى رحبة مالك الشام، على ما نذكره، وكاتب المستنصر، صاحب مصر، بالدخول في طاعته. وخطب نور الدولة طغرلبك في بلاده، وانتشر الغز السلجوقية في سواد بغداد، فنهبوا من الجانب الغربي من تكريت إلى النيل ومن الشرقي إلى النهروان وأسافل الأعمال، وأسرفوا في النهب، حتى بلغ ثمن الثور ببغداد خمسة قراريط إلى عشرة، والحمار بقيراطين إلى خمسة، وخرب السواد، وأجلى أهله عنه.
وضمن السلطان طغرلبك البصرة والأهواز من هزارسب بن بنكير بن عياض بثلاثمائة ألف وستين ألف دينار، وأقطعه أرجان، وأمره أن يخطب لنفسه بالأهواز، دون الأعمال التي ضمنها، وأقطع الأمير أبا علي بن أبي كاليجار الملك قرميسين وأعمالها، وأمر أهل الكرخ أن يؤذنوا في مساجدهم سحراً: الصلاة خير من النوم، وأمر بعمارة دار المملكة، فعمرت، وزيد فيها، وانتقل إليها في شوال. ذكر عدة حوادثفي هذه السنة وقعت الفتنة بين الفقهاء الشافعية والحنابلة ببغداد، ومقدم الحنابلة أبو علي بن الفراء، وابن التميمي، وتبعهم من العامة الجم الغفير، وأنكروا الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم، ومنعوا من الترجيع في الأذان، والقنوت في الفجر، ووصلوا إلى ديوان الخليفة، ولم ينفصل حال، وأتى الحنابلة إلى مسجد بباب الشعير، فنهوا إمامه عن الجهر بالبسملة، فأخرج مصحفاً وقال: أزيلوها من المصحف حتى لا أتلوها. وفيها كان بمكة غلاء شديد، وبلغ الخبز عشرة أرطال بدينار مغربي، ثم تعذر وجوده، فأشرف الناس والحجاج على الهلاك، فأرسل الله تعالى عليهم من الجراد ما ملأ الأرض فتعوض الناس به، ثم عاد الحاج فسهل الأمر على أهل مكة، وكان سبب هذا الغلاء عدم زيادة النيل بمصر عن العادة، فلم يحمل منها الطعام إلى مكة. وفيها ظهر باليمن إنسان يعرف بأبي كامل علي بن محمد الصليحي، واستولى على اليمن، وكان معلماً، فجمع إلى نفسه جمعاً، وانتمى إلى صاحب مصر، وتظاهر بطاعته، فكثر جمعه وتبعه، واستولى على البلاد، وقوي على ابن سادل وابن الكريدي المقيمين بها على طاعة القائم بأمر الله، وكان يتظاهر بمذهب الباطنية. وفيها خطب محمود الخفاجي للمستنصر العلوي، صاحب مصر، بشفاثا والعين، وصار في طاعته. وفيها، في شوال، توفي قاضي القضاة أبو عبد الله الحسين بن علي بن ماكولا، ومولده سنة ثمان وستين وثلاثمائة، وبقي في القضاء سبعاً وعشرين سنة، وكان شافعياً، ورعاً، نزهاً، أميناً، وولي بعده أبو عبد الله محمد بن علي بن الدامغاني الحنفي. وفيها، في ذي القعدة، توفي ذخيرة الدين أبو العباس محمد ابن أمير المؤمنين، ومولده في جمادى الآخرة سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة. وفيها قبض الملك الرحيم قبل وصول طغرلبك إلى بغداد على الوزير أبي عبد الله عبد الرحمن بن الحسين بن عبد الرحيم، وطرح في بئر في دار المملكة، وطم عليه، وكان وزيراً متحكماً في دولته. وفيها، في المحرم، توفي القاضي أبو القاسم علي بن المحسن بن علي التنوخي، ومولده بالبصرة سنة خمس وستين وثلاثمائة، وخلف ولداً صغيراً، وهو أبو الحسن محمد بن علي، ثم توفي في شوال سنة أربع وتسعين وأربعمائة، وانقرض بيته بموته، قال القاضي أبو عبد الله بن الدامغاني: دخلت على أبي القاسم قبل موته بقليل، فأخرج إلي ولده هذا من جاريته وبكى فقلت: تعيش إن شاء الله وتربيه، فقال: هيهات! والله ما يتربى إلا يتيماً، وأنشد: أرى ولد الفنى كلاً عليه، ... لقد سعد الذي أمسى عقيما فإما أن تربيه عدواً، ... وإما أن تخلفه يتيما فتربى يتيماً كما قال. وفي جمادى الأولى توفي أبو محمد الحسن بن رجاء الدهان اللغوي. وفي جمادى الآخرة فيها توفي أبو القاسم منصور بن حمزة بن إبراهيم الكرخي من كرخ جدان، الفقيه الشافعي. وفي رجب توفي أبو نصر أحمد بن محمد الثابتي، الفقيه الشافعي، وهما من شيوخ أصحاب أبي حامد الأسفراييني. وفي شعبان توفي أبو البركات حسين بن علي بن عيسى الربعي النحوي، وكان ينوب عن الوزراء ببغداد. ثم دخلت سنة ثمان وأربعين وأربعمائة ذكر نكاح الخليفة ابنة داود أخي طغرلبك في هذه السنة، في المحرم، جلس أمير المؤمنين القائم بأمر الله جلوساً عاماً، وحضر عميد الملك الكندري، وزير طغرلبك، وجماعة من الأمراء منهم: أبو علي ابن الملك أبي كاليجار، وهزارسب بن بنكير بن عياض الكردي، وابن أبي الشوك، وغيرهم من الأمراء الأتراك من عسكر طغرلبك.
وقام عميد الملك، وزير طغرلبك، وبيده دبوس، ثم خطب رئيس الرؤساء وعقد العقد على أرسلان خاتون، واسمها خديجة ابنة داود أخي السلطان طغرلبك، وقبل الخليفة بنفسه النكاح، وحضر العقد نقيب النقباء أبو علي بن أبي تمام، وعدنان ابن الشريف الرضي، نقيب العلويين، وأقضى القضاة الماوردي، وغيرهم، وأهديت خاتون إلى الخليفة في هذه السنة أيضاً في شعبان، وكانت والدة الخليفة قد سارت ليلاً وتسلمتها وأحضرتها إلى الدار. ذكر الحرب بين عبيد المعز بن باديس وعبيد ابنه تميمفي هذه السنة وقعت الحرب بين عبيد المعز، المقيمين بالمهدية، وعبيد ابنه تميم، بسبب منازعة أدت إلى المقاتلة، فقامت عامة زويلة وسائر من بها من رجال الأسطول مع عبيد تميم، فأخرجوا عبيد المعز، وقتل منهم كثير، ومضى الباقون منهم يريدون المسير إلى القيروان، فوضع عليهم تميم العرب، فقتلوا منهم جمعاً غفيراً، وهذه النوبة هي سبب قتل تميم من قتل من عبيد أبيه لما ملك. ذكر ابتداء دولة الملثمينفي هذه السنة كان ابتداء أمر الملثمين، وهم عدة قبائل ينسبون إلى حمير، أشهرها: لمتونة، ومنها أمير المسلمين علي بن يوسف بن تاشفين، وجدالة ولمطة. وكان أول مسيرهم من اليمن، أيام أبي بكر الصديق، رضي الله عنه، فسيرهم إلى الشام وانتقلوا إلى مصر، ودخلوا المغرب مع موسى بن نصير، وتوجهوا مع طارق إلى طنجة، فأحبوا الانفراد، فدخلوا الصحراء واستوطنوها إلى هذه الغاية. فلما كان هذه السنة توجه رجل منهم، اسمه الجوهر، من قبيلة جدالة إلى إفريقية، طالباً للحج، وكان محباً للدين وأهله، فمر بفقيه بالقيراون، وعنده جماعة يتفقهون، قيل: هو أبو عمران الفاسي في غالب الظن، فأصغى الجوهر إليه، وأعجبه حالهم. فلما انصرف من الحج قال للفقيه: ما عندنا في الصحراء من هذا شيء غير الشهادتين، والصلاة في بعض الخاصة، فابعث معي من يعلمهم شرائع الإسلام! فأرسل معه رجلاً اسمه عبد الله بن ياسين الكزولي، وكان فقيهاً، صالحاً، شهماً، فسار معه حتى أتيا قبيلة لمتونة، فنزل الجوهر عن جمله، وأخذ بزمام جمل عبد الله بن ياسين، تعظيماً لشريعة الإسلام، فأقبلوا إلى الجوهر يهنئونه بالسلامة، وسألوه عن الفقيه فقال: هذا حامل سنة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قد جاء يعلمكم ما يلزم في دين الإسلام. فرحبوا بهما، وأنزلوهما، وقالوا: تذكر لنا شريعة الإسلام، فعرفهم عقائد الإسلام وفرائضه، فقالوا: أما ما ذكرت من الصلاة، والزكاة، فهو قريب، وأما قولك من قتل يقتل، ومن سرق يقطع، ومن زنى يجلد، أو يرجم، فأمر لا نلتزمه، اذهب إلى غيرنا. فرحلا عنهم، فنظر إليهما شيخ كبير فقال: لا بد وأن يكون لهذا الجمل في هذه الصحراء شأن يذكر في العالم. فانتهى الجوهر والفقيه إلى جدالة، قبيل الجوهر، فدعاهم عبد الله بن ياسين والقبائل الذين يجاورونهم إلى حكم الشريعة، فمنهم من أطاع، ومنهم من أعرض وعصى. ثم إن المخالفين لهم تحيزوا، وتجمعوا، فقال ابن ياسين للذين أطاعوا: قد وجب عليكم أن تقاتلوا هؤلاء الذين خالفوا الحق، وأنكروا شرائع الإسلام، واستعدوا لقتالكم، فأقيموا لكم راية، وقدموا عليكم أميراً. فقال الجوهر: أنت الأمير! فقال: لا، إنما أنا حامل أمانة الشريعة، ولكن أنت الأمير. فقال الجوهر: لو فعلت هذا تسلط قبيلي على الناس، ويكون وزر ذلك علي. فقال له ابن ياسين: الرأي أن نولي ذلك أبا بكر بن عمر، رأس لمتونة وكبيرها، وهو رجل سيد، مكشور الطريقة، مطاع في قومه، فهو يستجيب لنا لحب الرئاسة، وتبعه قبيلته، فنتقوى بهم. فأتيا أبا بكر بن عمر، وعرضا ذلك عليه، فأجاب، فعقدوا له البيعة، وسماه ابن ياسين أمير المسلمين، وعادوا إلى جدالة، وجمعوا إليهم من حسن إسلامه، وحرضهم عبد الله بن ياسين على الجهاد في سبيل الله، وسماهم مرابطين، وتجمع عليهم من خالفهم، فلم يقاتلهم المرابطون بل استعان ابن ياسين وأبو بكر بن عمر على أولئك الأشرار بالمصلحين من قبائلهم، فاستمالوهم وقربوهم حتى حصلوا منهم نحو ألفي رجل من أهل البغي والفساد، فتركوهم في مكان، وخندقوا عليهم، وحفظوهم، ثم أخرجوهم قوماً بعد قوم، فقتلوهم، فحينئذ دانت لهم أكثر قبائل الصحراء، وهابوهم، فقويت شوكة المرابطين.
هذا وعبد الله مشتغل بالعلم، وقد صار عنده جماعة من يتفقهون، ولما استبد بالأمر هو وأبو بكر بن عمر عن الجوهر الجدالي وبقي لا حكم له تداخله الحسد، وشرع سراً في فساد الأمر، فعلم بذلك منه وعقد له مجلس، وثبت عليه ما نقل عنه، فحكم عليه بالقتل لأنه نكث البيعة، وشق العصا، وأارد محاربة أهل الحق، فقتل بعد أن صلى ركعتين، وأظهر السرور بالقتل طلباً للقاء الله تعالى. فاجتمعت القبائل على طاعتهم، ومن خالفهم قتلوه. فلما كان سنة خمسين وأربعمائة قحطت بلادهم، فأمر ابن ياسين ضعفاءهم بالخروج إلى السوس وأخذ الزكاة، فخرج منهم نحو تسعمائة رجل، فقدموا سجلماسة، وطلبوا الزكاة، فجمعوا لهم شيئاً له قدر وعادوا. ثم إن الصحراء ضاقت عليهم، وأرادوا إظهار كلمة الحق، والعبور إلى الأندلس ليجاهدوا الكفار، فخرجوا إلى السوس الأقصى، فجمع لهم أهل السوس وقاتلوهم، فانهزم المرابطون، وقتل عبد الله بن ياسين الفقيه، فعاد أبو بكر بن عمر فجمع جيشاً وخرج إلى السوس في ألفي راكب، فاجتمع من بلاد السوس وزناتة اثنا عشر ألف فارس فأرسل إليهم وقال: افتحوا لنا الطريق لنجوز إلى الأندلس ونجاهد أعداء الإسلام، فأبوا ذلك، فصلى أبو بكر، ودعا الله تعالى، وقال: اللهم إن كنا على الحق فانصرنا، وإلا فأرحنا من هذه الدنيا. ثم قاتلهم وصدق هو وأصحابه القتال، فنصرهم الله تعالى، وهزم أهل السوس ومن معهم وأكثر القتل فيهم، وغنم المرابطون أموالهم وأسلابهم، وقويت نفسه ونفوس أصحابه، وساروا إلى سجلماسة فنزلوا عليها، وطلبوا من أهلها الزكاة، فامتنعوا عليهم، وسار إليهم صاحب سجلماسة فقاتلهم فهزموه وقتلوه، ودخلوا سجلماسة واستولوا عليها، وكان ذلك سنة ثلاث وخمسين وأربعمائة. ذكر ولاية يوسف بن تاشفينلما ملك أبو بكر بن عمر سجلماسة استعمل عليها يوسف بن تاشفين اللمتموني، وهو من بني عمه الأقربين، ورجع إلى الصحراء، فأحسن يوسف السيرة في الرعية، ولم يأخذ منهم سوى الزكاة، فأقام بالصحراء مدة، ثم عاد أبو بكر بن عمر إلى سجلماسة، فأقام بها سنة، والخطبة والأمر والنهي له، واستخلف عليها ابن أخيه أبا بكر بن إبراهيم بن عمر، وجهز مع يوسف ابن تاشفين جيشاً من المرابطين إلى السوس ففتح على يديه. وكان يوسف رجل ديناً، خيراً، حازماً، داهية، مجرباً، وبقوا كذلك إلى سنة اثنتين وستين وأربعمائة، وتوفي أبو بكر بن عمر بالصحراء، فاجتمعت طوائف المرابطين على يوسف بن تاشفين، وملكوه عليهم، ولقبوه أمير المسلمين، وكانت الدولة في بلاد المغرب لزناتة الذين ثاروا في أيام الفتن، وهي دولة ردية، مذمومة، سيئة السيرة، لا سياسة ولاديانة، وكان أمير المسلمين وطائفته على نهج السنة، واتباع الشريعة، فاستغاث به أهل المغرب، فسار إليها وافتتحها حصناً حصناً، وبلداً بلداً بأيسر سعي، فأحبه الرعايا، وصلحت أحوالهم. ثم إنه قصد موضع مدينة مراكش، وهو قاع صفصف، لا عمارة فيه، وهو موضع متوسط في بلاد المغرب كالقيراون في أفريقية، ومراكش تحت جبال المصامدة الذين هم أشد أهل المغرب قوة، وأمنعهم معقلاً، فاختط هناك مدينة مراكش ليقوى على قمع أهل تلك الجبال إن هموا بفتنة، واتخذها مقراً، فلم يتحرك أحد بفتنة، وملك البلاد المتصلة بالمجاز مثل سبتة، وطنجة، وسلا، وغيرها، وكثرت عساكره. وخرجت جماعة قبيلة لمتونة وغيرهم، وضيقوا حينئذ لثامهم، وكانوا قبل أن يملكوا يتلثمون في الصحراء من الحر والبرد، كما يفعل العرب، والغالب على ألوانهم السمرة، فلما ملكوا البلاد ضيقوا اللثام. وقيل كان سبب اللثام لهم أن طائفة من لمتونة خرجوا مغيرين على عدو لهم، فخالفهم العدو إلى بيوتهم، ولم يكن بها إلا المشايخ، والصبيان والنساء، فلما تحقق المشايخ أنه العدو أمروا النساء أن يلبسن ثياب الرجال، ويتلثمن، ويضيقنه، حتى لا يعرفن، ويلبسن السلاح. ففعلن ذلك، وتقدم المشايخ والصبيان أمامهن، واستدار النساء بالبيوت، فلما أشرف العدو رأى جمعاً عظيماً، فظنه رجالاً، فقال: هؤلاء عند حرمهم يقاتلون عنهن قتال الموت، والرأي أن نسوق النعم ونمضي، فإن اتبعونا قاتلناهم خارجاً عن حريمهم.
فبينما هم في جميع النعم من المراعي إذ قد أقبل رجال الحي، فبقي العدو بينهم وبين النساء، فقتلوا من العدو فأكثروا، وكان من قتل النساء أكثر، فمن ذلك الوقت جعلوا اللثام سنة يلازمونه، فلا يعرف الشيخ من الشاب، فلا يزيلونه ليلاً ولا نهاراً، ومما قي في اللثام: قوم لهم درك العلى في حمير، ... وإن انتموا صنهاجةً بهم هم لما حووا إحراز كل فضيلة، ... غلب الحياء عليهم فتلثموا ذكر تبييض أبي الغنائم بن المحلبانفي هذه السنة بيض علاء الدين أبو الغنائم بن المحلبان بواسط، وخطب فيها للعلويين المصريين. وكان سبب ذلك أن رئيس الرؤساء سعى له في النطر على واسط وأعمالها، فأجيب إلى ذلك، فانحدر إليها ، فصار عنده جماعة من أعيانها، وجند جماعة عظيمة، وتقوى بالبطائحيين، وحفر على الجانب الغربي من واسط خندقاً، وبنى عليه سوراً، وأخذ ضريبة من سفن أصعدت للخليفة، فسير لحربه عميد العراق أبو نصر، فاقتتلوا، فانهزم ابن المحلبان، وأسر من أصحابه عدد كثير، ووصل أبو نصر إلى السور، فقاتله العامة من على السور. ثم تسلم البلد، وأمر أهله بطم الخندق، وتخريب السور، ثم أصعد إلى بغداد، فلما فارقها عاد إليها ابن فسانجس، ونهب قرية عبد الله، وقتل كل أعمى رآه بواسط، وأعاد خطبة المصريين، وأمر أهل كل محلة بعمارة ما يليهم من السور. ومضى منصور بن الحسين إلى المدار، وأرسل إلى بغداد يطلب المدد، فكتب إليه عميد العراق ورئيس الرؤساء يأمرانه أن يقصد واسطاً هو وابن الهيثم، وأن يحاصرها، فأقبلا إليها فيمن معهما وحصروها في الماء والبر، وكان هذا الحصار سنة تسع وأربعين، فاشتد فيها الغلاء حتى بيع التمر، والخبز، وكروش البقر، كل خمسة أرطال بدينار، وإذا وجد الخبازى باعوه كل عشرين رطلاً بدينار. ثم ضعفوا وضجروا من الحصار، فخرج ابن فسانجس ليقاتل، فلم يثبت، وقتل جماعة من أصحابه، وانهزموا إلى سور البلد، واستأمن جماعة من الواسطيين إلى منصور بن الحسين، وفارق ابن فسانجس واسطاً، ومضى إلى قصر ابن أخضر، وسار إليه طائفة من العسكر ليقاتلوه، فأدركوه بقرب النيل، فأسر هو وأهله، وحمل إلى بغداد، فدخلها في صفر سنة تسع وأربعين وشهر على جمل، وعليه قميص أحمر، وعلى رأسه طرطور بودع، وصلب. ذكر الوقعة بين البساسيري وقريشفي هذه السنة، سلخ شوال، كانت وقعة بين البساسيري ومعه نور الدولة دبيس بن مزيد، وبين قريش بن بدران، صاحب الموصل، ومعه قتلمش، وهو ابن عم السلطان طغرلبك، وهو جد هؤلاء الملوك أولاد قلج أرسلان، ومعه أيضاً سهم الدولة أبو الفتح بن عمرو، وكانت الحرب عند سنجار، فاقتتلوا، فاشتد القتال بينهم، فانهزم قريش وقتلمش، وقتل من أصحابهما الكثير. ولقي قتلمش من أهل سنجار العنت، وبالغوا في أذاه وأذى أصحابه، وجرح بن بدران، وأتى إلى نور الدولة جريحاً، فأعطاه خلعة كانت قد نقذت من مصر، فلبسها وصار في جملتهم، وساروا إلى الموصل، وخطبوا لخليفة مصر بها، وهو المستنصر بالله، وكانوا قد كانبوا الخليفة المصري بطاعتهم، فأرسل إليهم الخلع من مصر للبساسيري، ولنور الدولة دبيس بن مزيد، ولجابر بن ناشب، ولمقبل بن بدران أخي قريش، ولأبي الفتح بن ورام، ونصير بن عمر، وأبي الحسن بن عبد الرحيم، ومحمد بن حماد، وانضاف إليهم قريش بن بدران. ذكر مسير السلطان طغرلبك إلى الموصللما طال مقام السلطان طغرلبك ببغداد، وعم الخلق ضرر عسكره، وضاقت عليهم مساكنهم، فإن العساكر نزلوا فيها، وغلبوهم على أقواتهم، وارتكبوا منهم كل محظور، أمر الخليفة القائم بأمر الله وزيره رئيس الرؤساء أن يكتب إلى عميد الملك الكندري، وزير السلطان طغرلبك، يستحضره، فإذا حضر قال له عن الخليفة ليعرف السلطان ما الناس فيه من الجور والظلم، ويعظه، ويذكره، فإن أزال ذلك، وفعل ما أمر الله به، وإلا فيساعد الخليفة الانتزاح عن بغداد ليبعد عن المنكرات. فكتب رئيس الرؤساء إلى الكندري يستدعيه، فحضر، فأبلغه ما أمر به الخليفة، وخرج توقيع من الخليفة إلى السلطان فيه مواعظ، فمضى إلى السلطان وعرفه الحال، فاعتذر بكثرة العساكر، وعزه عن تهذيبهم وضبطهم، وأمر عميد الملك أن يبكر بالجواب إلى رئيس الرؤساء، ويعتذر بما ذكره.
فلما كان تلك الليلة رأى السلطان في منامه النبي، صلى الله عليه وسلم، عند الكعبة وكأنه يسلم على النبي وهو معرض عنه لم يلتفت إليه، وقال له: يحكمك الله في بلاده وعباده، فلا تراقبه ولا تستحي من جلاله، عز وجل، في سوء معاملتهم ، وتغير بإهماله عند الجوار عليهم! فاستيقظ فزعاً، وأحضر عميد الملك، وحدثه ما رأى، وأرسله إلى الخليفة يعرفه أنه يقابل ما رسم به بالسمع والطاعة، وأخرج الجند من دور العامة، وأمر أن يظهر من كان مختفياً، وأزال التوكيل عمن كان وكل به. فبينما هو على ذلك، وقد عزم على الرحيل عن بغداد للتخفيف عن أهلها، وهو يتردد فيه، إذ أتاه الخبر بهذه الوقعة المتقدمة، فتجهز وسار عن بغداد عاشر ذي القعدة، ومعه خزائن السلاح، والمنجنيقات، وكان مقامه ببغداد ثلاثة عشر شهراً وأياماً لم يلق الخليفة فيها، فلما بلغوا أوانا نهبها العسكر، ونهبوا عكبرا وغيرهما. ووصل إلى تكريت فحصرها، وبها صاحبها نصر بن علي بن خميس فنصب على القلعة علماً أسود، وبذل مالاً، فقبله السلطان، ورحل عنه إلى البوازيج ينتظر جمع العساكر ليسير إلى الموصل، فلما رحل عن تكريت توفي صاحبها، وكانت أمه أميرة بنت غريب بن مقن، فخافت أن يملك البلدة أخوه أبو الغشام، فقتلته وسارت إلى الموصل، فنزلت على دبيس بن مزيد، فتزوجها قريش بن بدران، ولما رحلت عن تكريت استخلفت بها أبا الغنائم ابن المحلبان، فراسل رئيس الرؤساء واستعطفه، فصلح ما بينهما، وسلم تكريت إلى السلطان ورحل إلى بغداد. وأقام السلطان بالبوازيج إلى أن دخلت سنة تسع وأربعين فأتاه أخوه ياقوتي في العساكر، فسار بهم إلى الموصل، وأقطع مدينة بلد هزارسب بن بنكير، فأحفل أهل البلاد إلى بلد، فأراد العسكر نهبهم، فمنعهم السلطان وقال: لا يجوز أن تعرضوا إلى بلد هزارسب، فلجوا وقالوا: نريد الإقامة، فقال السلطان لهزارسب: إن هؤلاء قد احتجوا بالإقامة، فأخرج أهل البلد إلى معسكرك لتحفظ نفوسهم. ففعل ذلك، وأخرجهم إليه، فصار البلد بعد ساعة قفراً، وفرق فيهم هزارسب مالاً، وأركب من يعجز عن المشي، وسيرهم إلى الموصل ليأمنوا. وتوجه السلطان إلى نصيبين، فقال له هزارسب: قد تمادت الأيام وأرى أن أختار من العسكر ألف فارس أسير بهم إلى البرية، فلعلي أنال من العرب غرضاً، فأذن له في ذلك، فسار إليهم، فلما قاربهم كمن لهم كمينين، وتقدم إلى الحلل، فلما رأوه قاتلوه، فصبر لهم ساعة، ثم انزاح بين أيديهم كالمنهزم، فتبعوه، فخرج عليهم الكمينان، فانهزمت العرب، وكثر فيهم القتل وحمل الأسرى إلى السلطان، فلما أحضروا بين يديه قال لهم: هل وطئت لكم أرضاً، وأخذت لكم بلداً؟ قالوا: لا! قال: فلم أتيتم بحربي؟ وأحضر الفيل فقتلهم، إلا صبياً أمرد، فلما امتنع الفيل من قتله عفا عنه السلطان. ذكر عود نور الدولة دبيس بن مزيد وقريش ابن بدران إلى طاعة طغرلبكلما ظفر هزارسب بالعرب وعاد إلى السلطان طغرلبك، أرسل إليه نور الدولة وقريش يسألانه أن يتوسط حالهما عند السلطان، ويصلح أمرهما معه، فسعى في ذلك، واستعطف السلطان عليهما، فقال: أما هما فقد عفوت عنهما، وأما البساسيري فذنبه إلى الخليفة، ونحن متبعون أمر الخليفة فيه، فرحل البساسيري عند ذلك إلى الرحبة، وتبعه الأتراك البغداديون، ومقبل بن المقلد وجماعة من عقيل. وطلب دبيس وقريش أن يرسل طغرلبك إليهما أبا الفتح بن ورام، فأرسله، فعاد من عندهما وأخبر بطاعتهما، وأنهما يطلبان أن يمضي هزارسب إليهما ليحلفهما، فأمره السلطان بالمضي إليهما، فسار واجتمع بهما، وأشار عليهما بالحضور عند السلطان، فخافا وامتنعا، فأنفذ قريش أبا السداد هبة الله بن جعفر، وأنفذ دبيس ابنه بهاء الدولة منصوراً، فأنزلهما السلطان وأكرمهما وكتب لهما بأعمالهما، وكان لقريش نهر الملك، وبادوريا، والأنبار، وهيت، ودجيل، ونهر بيطر، وعكبرا، وأوانا، وتكريت، والموصل، ونصيبين، وأعاد الرسل إلى أصحابهم. ذكر قصد السلطان ديار بكر وما فعله بسنجار
لما فرغ طغرلبك من العرب سار إلى ديار بكر التي هي لابن مروان، وكان ابن مروان يرسل إليه كل يوم الهدايا والثلج، فسار السلطان إلى جزيرة ابن عمر فحصرها، وهي لابن مروان، فأرسل إليه ابن مروان يبذل له مالاً يصلح حاله به، ويذكر له ما هو بصدده من حفظ ثغور المسلمين، وما يعانيه من جهاد الكفار، ولما كان السلطان يحاصر الجزيرة سار جماعة من الجيش إلى عمر أكمن، وفيه أربعمائة راهب، فذبحوا منهم مائة وعشرين راهباً، وافتدى الباقون أنفسهم بستة مكاكيك ذهباً وفضة. ووصل إبراهيم ينال أخو السلطان إليه، فلقيه الأمراء والناس كلهم، وحملوا إليه الهدايا، وقال لعميد الملك الوزير: من هؤلاء العرب حتى تجعلهم نظراء السلطان، وتصلح بينهم؟ فقال: مع حضورك يكون ما تريد، فأنت نائب السلطان. ولما وصل إبراهيم ينال أرسل هزارسب إلى نور الدولة بن مزيد وقريش يعرفهما وصوله، ويحذرهما منه، فسارا من جبل سنجار إلى الرحبة، فلم يلتفت البساسيري إليهما، فانحدر، نور الدولة إلى بلدة بالعراق، وأقام قريش عند البساسيري بالرحبة ومعه ابنه مسلم بن قريش. وشكا قتلمش ابن عم السلطان إليه ما لقي من أهل سنجار في العام الماضي لما انهزم، وأنهم قتلوا رجالاً، فسير العساكر إليهم، فأحاطت بهم، وصعد أهلها على السور وسبوا، وأخرجوا جماجم من كانوا قتلوا، وقلانسهم، وتركوها على رؤوس القصب، ففتحها السلطان عنوة، وقتل أميرها مجلى بن مرجا وخلقاً كثيراً من رجالها، وسبى نساءهم، وخربت، وسأل إبراهيم ينال في الباقين فتركهم، فسلمها هي والموصل والبلاد إلى إبراهيم ينال، ونادى في عسكره: من تعرض لنهب صلبته، فكفوا عنهم. وعاد السلطان إلى بغداد، على ما نذكره، كان ينبغي أن نذكر هذه الحادثة سنة تسع وأربعين وإنما ذكرناها هذه السنة لأن الابتداء بها كان فيها، فأتبعنا بعضها بعضاً، وذكرنا أنها كانت سنة تسع وأربعين. ذكر عدة حوادثفي هذه السنة انقطعت الطرق عن العراق لخوف النهب، فغلت الأسعار، وكثر الغلاء، وتعذرت الأقوات وغيرها من كل شيء، وأكل الناس الميتة، ولحقهم وباء عظيم، فكثر الموت حتى دفن الموتى بغير غسل ولا تكفين، فبيع رطل لحم بقيراط، وأربع دجاجات بدينار، ورطلا شراب بدينار، وسفرجلة بدينار، ورمانة بدينار، وكل شيء كذلك. وكان بمصر أيضاً وباء شديد، فكان يموت في اليوم ألف نفس، ثم عم ذلك سائر البلاد من الشام، والجزيرة، والموصل، والحجاز، واليمن وغيرها. وفيها، في جمادى الأولى، ولدت جارية ذخيرة الدين بن الخليفة، الذي ذكرنا وفاته قبل، ولداً ذكراً، ويسمى عبد الله، وكني أبا القاسم، وهو المقتدي. وفيها، في العشر الثاني من جمادى الآخرة، ظهر وقت السحر في السماء ذؤابة بيضاء طولها نحو عشرة أذرع في رأي العين، وعرضها ذراع، وبقيت كذلك إلى نصف رجب واضمحلت. وفيها أمر الخليفة بأن يؤذن بالكرخ والمشهد وغيرهما: الصلاة خير من النوم، وأن يتركوا: حي على خير العمل، ففعلوا ما أمرهم به خوف السلطنة وقوتها. وفيها توفي علي بن أحمد بن علي أبو الحسن المؤدب المعروف بالفالي، من أهل مدينة فالة بالقرب من إيذج، روى الحديث والأدب، وله شعر حسن، فمنه قوله: تصدر لتدريس كل مهوس ... بليد تسمى بالفقيه المدرس فحق لأهل العلم أن يتمثلوا ... ببيت قديم شاع في كل مجلس لقد هزلت، حتى بدا من هزالها ... كلاها، وحتى سامها كل مفلس وفي هذه السنة توفي محمد بن الحسين بن محمد بن سعدون أبو طاهر البزاز الموصلي، ولد بالموصل، ونشأ ببغداد، وروى عن ابن حبابة، والدارقطني، وابن بطة وغيرهم، وكان موته بمصر، وفيها توفي أميرك الكاتب البيهقي في شوال وكان من رجال الدنيا، ومحمد بن عبد الواحد بن عمر بن الميمون الدارمي الفقيه الشافعي. ثم دخلت سنة تسع وأربعين وأربعمائة ذكر عود السلطان طغرلبك إلى بغداد
لما سلم السلطان طغرلبك الموصل وأعمالها إلى أخيه إبراهيم ينال عاد إلى بغداد، فلما وصل إلى القفص خرج رئيس الرؤساء إلى لقائه، فلما قارب القفص لقيه عميد الملك، وزير السلطان، في جماعة من الأمراء، وجاء رئيس الرؤساء إلى السلطان فأبلغه سلام الخليفة واستيحاشه، فقبل الأرض، وقدم رئيس الرؤساء جاماً من ذهب فيه جواهر وألبسة فرجية جاءت معه من عند الخليفة، ووضع العمامة على مخدته، فخدم السلطان، وقبل الأرض، ووصل إلى بغداد، ولم يمكن أحداً من النزول في دور الناس، وطلب السلطان الاجتماع بالخليفة، فأذن له في ذلك. وجلس الخليفة يوم السبت لخمس بقين من ذي القعدة جلوساً عاماً، وحضر وجوه عسكر السلطان وأعيان بغداد، وحضر السلطان في الماء، وأصحابه حوله في السميريات، فلما خرج من السميرية ركب فرساً من مراكب الخليفة، فحضر عند الخليفة، والخليفة على سرير عال من الأرض نحو سبعة أذرع، وعليه بردة النبي، صلى الله عليه وسلم، وبيده القضيب الخيزران، فقبل السلطان الأرض، وقبل يده، وأجلس على كرسي، فقال الخليفة لرئيس الرؤساء: قل له إن أمير المؤمنين شاكر لسعيك، حامد لفعلك، مستأنس بقربك، وقد ولاك جميع ما ولاه الله من بلاده، ورد عليك مراعاة عباده، فاتق الله فيما ولاك، وأعرف نعمته عليك في ذلك، واجتهد في نشر العدل، وكف الظلم، وإصلاح الرعية. فقبل الأرض، وأمر الخليفة بإفاضة الخلع عليه، فقام إلى موضع لبسها فيه وعاد وقبل يد الخليفة ووضعها على عينيه، وخاطبه الخليفة بملك المشرق والمغرب، وأعطي العهد، وخرج، وأرسل إلى الخليفة خدمة كثيرة منها خمسون ألف دينار، وخمسون مملوكاً أتراكاً من أجود ما يكون، ومعهم خيولهم وسلاحهم، إلى غير ذلك من الثياب وغيرها. ذكر الحرب بين هزارسب وفولاذكان السلطان قد ضمن هزارسب بن بنكير بن عياض البصرة، وأرجان، وخوزستان، وشيراز، فتجرد رسولتكين ابن عم السلطان ومعه فولاذ لهزارسب، وقصدا أرجان ونهباها. وكان هزارسب مع طغرلبك بالموصل والجزيرة، فلما فرغ السلطان من تلك الناحية رد هزارسب إلى بلاده، وأمره بقتال رسولتكين وفولاذ، فسار إلى البصرة وصادر بها تاج الدين بن سخطة العلوي وابن سمحا اليهودي بمائة ألف وعشرين ألف دينار، وسار منها إلى قتال فولاذ ورسولتكين فلقيهما، وقاتلهما قتالاً شديداً، فقتل فولاذ، وأسر رسولتكين ابن عم السلطان، فأبقى عليه هزارسب، فسأل رسولتكين هزارسب ليرسله إلى دار الخلافة ليشفع فيه الخليفة، ففعل ذلك. ووصل بغداد مع أصحاب هزارسب، فاجتاز بدار رئيس الرؤساء، فهجم ودخلها، واستدعى طعاماً إيجازاً للحرمة، فأمر الخليفة بإحضار عميد الملك وإعلامه بحال رسولتكين ليخاطب السلطان في أمره، فلما حضر عميد الملك وقيل له ذلك قال: إن السلطان يقول إن هذا لا حرمة له يستحق بها المراعاة، وقد قابل إحساني بالعصيان، ويجب تسليمه ليتحقق الناس منزلتي، وتتضاعف هيبتي، فاستقر الأمر، بعد مراجعة، على أن يقيده، وخرج توقيع الخليفة: إن منزلة ركن الدين، يعني طغرلبك، عندنا اقتضت ما لم نفعله مع غيره لأنه لم تجر العادة بتقييد أحد في الدار العزيز، ولا بد أن يكون الرضا في جواب ما فعل، فراسله رئيس الرؤساء حتى رضي. وقد كانت دار الخلافة أيام بني بويه ملجأ لكل خائف منهم، من وزير وعميد وغير ذلك، ففي الأيام السلجوقية سلك غير ذلك، وكان أول شيء فعلوه هذا. ذكر القبض على الوزير اليازوري بمصرفي هذه السنة، في ذي الحجة، قبض بمصر على الوزير أبي محمد الحسن بن عبد الرحمن اليازوري، وقرر عليه أموال عظيمة منه ومن أصحابه، ووجد له مكاتبات إلى بغداد. وكان في ابتداء أمره قد حج، فلما قضى حجه أتى المدينة، وزار مسجد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فسقط على منكبيه قطعة من الخلوق الذي على حائط الحجرة، فقال له أحد القوام: أيها الشيخ! إني أبشرك، ولي الحباء والكرامة إذ بلغته، أنك تلي ولاية عظيمة، وهذا الخلوق دليل على ذلك.. فلم يحل عليه الحول حتى ولي الوزارة، وأحسن إلى ذلك الرجل وراعاه. وكان يتفقه على مذهب أبي حنيفة، وكان قاضياً بالرملة، يكرم العلماء، ويحسن إليهم ويجالسهم، وكان ابتداء أمره كابتداء أمر رئيس الرؤساء: الشهادة، والقضاء، وكانت سعادتهما متفقة، ونهايتهما متقاربة. ذكر عدة حوادث
في هذه السنة زاد الغلاء ببغداد والعراق حتى بيعت كارة الدقيق السميد بثلاثة عشر ديناراً، والكارة من الشعير والذرة بثمانية دنانير، وأكل الناس الميتة والكلاب وغيرها، وكثر الوباء حتى عجز الناس عن دفن الموتى، فكانوا يجعلون الجماعة في الحفيرة. وفيها، في ربيع الأول، توفي أبو العلاء أحمد بن عبد الله بن سليمان المعري، الأديب، وله نحو ست وثمانين سنة، وعلمه أشهر من أن يذكر، إلا أن أكثر الناس يرمونه بالزندقة، وفي شعره ما يدل على ذلك، حكي أنه قال يوماً لأبي يوسف القزويني: ما هجوت أحداً، فقال له القزويني: هجوت الأنبياء، فتغير وجهه وقال: ما أخاف أحداً سواك. وحكى عنه القزويني أنه قال: ما رأيت شعراً في مرثية الحسين بن علي يساوي أن يحفظ، فقال القزويني: بلى، قد قال بعض أهل سوادانا: رأس ابن بنت محمد ووصيه ... للمسلمين على قناة يرفع والمسلمون بمنظر وبمسمع، ... لا جازع منهم، ولا متفجع أيقظت أجفاناً وكنت لها كرى، ... وأنمت عيناً لم تكن بك تهجع كحلت بمصرعك العيون عماية، ... وأصم نعيك كل أذن تسمع ما روضة إلا تمنت أنها ... لك مضجع ولخط قبرك موضع وفيها أصلح دبيس بن علي بن مزيد ومحمود بن الأخرم الخفاجي حالهما مع السلطان، فعاد دبيس إلى بلاده فوجدها خراباً لكثرة من مات بها من الوباء الجارف، ليس بها أحد. وفيها كثر الوباء ببخارى حتى قيل إنه مات في يوم واحد ثمانية عشر ألف إنسان من أعمال بخارى، وهلك في هذه الولاية في مدة الوباء ألف ألف وستمائة ألف وخمسون ألفاً، وكان بسمرقند مثل ذلك، ووجد ميت، وقد دخل تركي يأخذ لحافاً عليه، فمات التركي وطرف اللحاف بيده، وبقيت أموال الناس سائبة. وفيها نهبت دار أبي جعفر الطوسي بالكرخ، وهو فقيه الإمامية، وأخذ ما فيها، وكان قد فارقها إلى المشهد الغربي. وفيها، في صفر، توفي أبو عثمان إسماعيل بن عبد الرحمن الصابوني، مقدم أصحاب الحديث بخراسان، وكان فقيهاً، خطيباً، إماماً، في عدة علوم. وفيها، في ربيع الأول، توفي اياز بن ايماق أبو النجم غلام محمود بن سبكتكين، وأخباره معه مشهورة. وفيها مات أبو أحمد عدنان ابن الشريف الرضي نقيب العلويين. وفيها توفي أبو الحسن عبد الوهاب بن أحمد بن هارون الغساني، المعروف بابن الجندي. ثم دخلت سنة خمسين وأربعمائة | |
|
| |
الشيخ عودة الشيخ عودة
عدد المساهمات : 1748 تاريخ التسجيل : 28/09/2008 العمر : 74
| موضوع: رد: كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير الإثنين فبراير 24, 2014 6:37 pm | |
| ذكر مفارقة إبراهيم ينال الموصل واستيلاء البساسيري عليها وأخذها منه في هذه السنة فارق إبراهيم ينال الموصل نحو بلاد الجبل، فنسب السلطان طغرلبك رحيله إلى العصيان، فأرسل إليه رسولاً يستدعيه، وصحبته الفرجية التي خلعها عليه الخليفة، وكتب الخليفة إليه أيضاً كتاباً في المعنى، فرجع إبراهيم إلى السلطان، وهو ببغداد، فخرج الوزير الكندري لاستقباله، وأرسل الخليفة إليه الخلع. ولما فارق إبراهيم الموصل قصدها البساسيري، وقريش بن بدران، وحاصراها، فملكا البلد ليومه، وبقيت القلعة، وبها الخازن، وأردم، وجماعة من العسكر، فحاصراها أربعة أشهر حتى أكل من فيها دوابهم، فخاطب ابن موسك صاحب إربل قريشاً حتى أمنهم فخرجوا، فهدم البساسيري القلعة، وعفى أثرها. وكان السلطان قد فرق عسكره في النوروز، وبقي جريدة في ألفي فارس حين بلغه الخبر، فسار إلى الموصل فلم يجد بها أحداً، وكان قريش والبساسيري قد فارقاها، فسار السلطان إلى نصيبين ليتتبع آثارهم ويخرجهم من البلاد، ففارقه أخوه إبراهيم ينال، وسار نحو همذان، فوصلها في السادس والعشرين من رمضان سنة خمسين، وكان قد قيل إن المصريين كاتبوه والبساسيري قد استماله وأطمعه في السلطنة والبلاد، فلما عاد إلى همذان سار السلطان في أثره. ذكر الخطبة بالعراق للعلوي المصري وما كان إلى قتل البساسيري لما عاد إبراهيم ينال إلى همذان سار طغرلبك خلفه، ورد وزيره عميد الملك الكندري وزوجته إلى بغداد.
وكان مسيره من نصيبين في منتصف شهر رمضان، ووصل إلى همذان، وتحصن بالبلد، وقاتل أهلها بين يديه، وأرسل إلى الخاتون زوجته وعميد الملك الكندري يأمرهما باللحاق به، فمنعهما الخليفة من ذلك تمسكاً بهما، وفرق غلالاً كثيرة في الناس، وسار من كان ببغداد من الأتراك إلى السلطان بهمذان، وسار عميد الملك إلى دبيس بن مزيد فاحترمه وعظمه، ثم سار من عنده إلى هزارسب، وسارت خاتون إلى السلطان بهمذان، فأرسل الخليفة إلى نور الدولة دبيس بن مزيد يأمره بالوصول إلى بغداد، فورد إليها مائة فارس، ونزل في النجمي ثم عبر إلى الأتانين. وقوي الإرجاف بوصول البساسيري، فلما تحقق الخليفة وصوله إلى هيت أمر الناس بالعبور من الجانب الغربي إلى الجانب الشرقي، فأرسل دبيس بن مزيد إلى الخليفة وإلى رئيس الرؤساء يقول: الرأي عندي خروجكما من البلد معي، فإنني أجتمع أنا وهزارسب فإنه بواسط على دفع عدوكما. فأجيب ابن مزيد بأن يقيم حتى يقع الفكر في ذلك، فقال: العرب لا تطيعني على المقام، وأنا أتقدم إلى ديالى! فإذا انحدرتم سرت في خدمتكم. وسار وأقام بديالى ينتظرهما، فلم ير لذلك أثراً، فسار إلى بلاده. ثم إن البساسيري وصل إلى بغداد يوم الأحد ثامن ذي القعدة، ومعه أربعمائة غلام على غاية الضر والفقر، وكان معه أبو الحسن بن عبد الرحيم الوزير، فنزل البساسيري بمشرعة الروايا، ونزل قريش بن بدران، وهو في مائتي فارس، عند مشرعة باب البصرة، وركب عميد العراق، ومعه العسكر والعوام، وأقاموا بإزاء عسكر البساسيري، وعادوا، وخطب البساسيري بجامع المنصور للمستنصر بالله العلوي، صاحب مصر، وأمر فأذن بحي على خير العمل، وعقد الجسر، وعبر عسكره إلى الزاهر وخيموا فيه، وخطب في الجمعة من وصوله بجامع الرصافة للمصري، وجرى بين الطائفتين حروب في أثناء الأسبوع. وكان عميد العراق يشير على رئيس الرؤساء بالتوقف عن المناجزة، ويرى المحاجزة ومطاولة الأيام انتظاراً لما يكون من السلطان، ولما يراه من المصلحة بسبب ميل العامة إلى البساسيري، أما الشيعة فللمذهب، وأما السنة فلما فعل بهم الأتراك. وكان رئيس الرؤساء لقلة معرفته بالحرب ولما عنده من البساسيري يرى المبادرة إلى الحرب، فاتفق أن في بعض الأيام حضر القاضي الهمذاني عند رئيس الرؤساء واستأذنه في الحرب، وضمن به قتل البساسيري، فأذن له من غير علم عميد العراق، فخرج ومعه الخدم، والهاشميون، والعجم، والعوام، إلى الحلبة وأبعدوا، البساسيري يستجرهم، فلما أبعدوا حمل عليهم فعادوا منهزمين، وقتل منهم جماعة، ومات في الزحمة جماعة من الأعيان، ونهب باب الأزج، وكان رئيس الرؤساء واقفاً دون الباب، فدخل الدار، وهرب كل من في الحريم. ولما بلغ عميد العراق فعل رئيس الرؤساء لطم على وجهه كيف استبد برأيه ولا معرفة له بالحرب. ورجع البساسيري إلى معسكره، واستدعى الخليفة عميد العراق، وأمره بالقتال على سور الحريم، فلم يرعهم إلا الزعقات، وقد نهب الحريم، وقد دخلوا بباب النوبي، فركب الخليفة لابساً للسواد، وعلى كتفه البردة، وبيده السيف، وعلى رأسه اللواء، وحوله زمرة من العباسيين والخدم بالسيوف المسلولة، فرأى النهب قد وصل إلى باب الفردوس من داره، فرجع إلى ورائه، ومضى نحو عميد العراق، فوجده قد استأمن إلى قريش، فعاد وصعد المنظرة، صاح رئيس الرؤساء: يا علم الدين! يعني قريشاً، أمير المؤمنين يستدنيك، فدنا منه، فقال له رئيس الرؤساء: قد أنالك الله منزلة لم ينلها أمثالك، وأمير المؤمنين يستذم منك على نفسه، وأهله، وأصحابه بذمام الله، وذمام رسوله، صلى الله عليه وسلم، وذمام العربية. فقال: قد أذم الله تعالى له، فقال: ولي؟ ولمن معه؟ قال: نعم، وخلع قلنسوته فأعطاها الخليفة، وأعطى مخصرته رئيس الرؤساء ذماماً، فنزل إليه الخليفة ورئيس الرؤساء من الباب المقابل لباب الحلبة، وصارا معه.
فأرسل إليه البساسيري: أتخالف ما استقر بيننا، وتنقض ما تعاهدنا عليه؟ فقال قريش: لا، وكانا قد تعاهدا على المشاركة في الذي يحصل لهما، وأن لا يستبد أحدهما دون الآخر بشيء، فاتفقا على أن يسلم قريش رئيس الرؤساء إلى البساسيري لأنه عدوه، ويترك الخليفة عنده، فأرسل قريش رئيس الرؤساء إلى البساسيري، فلما رآه قال: مرحباً بمهلك الدول، ومخرب البلاد! فقال: العفو عند المقدرة. فقال البساسيري: فقد قدرت فما عفوت، وأنت صاحب طيلسان، وركبت الأفعال الشنيعة مع حرمي وأطفالي، فكيف أعفو أنا، وأنا صاحب سيف؟ وأما الخليفة فإنه حمله قريش راكباً إلى معسكره، وعليه السواد والبردة، وبيده السيف، وعلى رأسه اللواء، وأنزله في خيمة، وأخذ أرسلان خاتون زوجة الخليفة، وهي ابنة أخي السلطان طغرلبك، فسلمها إلى أبي عبد الله بن جردة ليقوم بخدمتها. ونهبت دار الخلافة وحريمها أياماً، وسلم قريش الخليفة إلى ابن عمه مهارش بن المجلي، وهو رجل فيه دين، وله مروءة، فحمله في هودج وسار به إلى حديثة عانة فتركه بها، وسار من كان مع الخليفة من خدمه وأصحابه إلى السلطان طغرلبك مستنفرين. فلما وصل الخليفة إلى الأنبار شكا البرد، فأنفذ إلى مقدمها يطلب منه ما يلبسه، فأرسل له جبة فيها قطن ولحافاً. وأما البساسيري فإنه ركب يوم عيد النحر، وعبر إلى المصلى بالجانب الشرقي، وعلى رأسه الألوية المصرية، فأحسن إلى الناس، وأجرى الجرايات على المتفقهة، ولم يتعصب لمذهب، وأفرد لوالدة الخليفة القائم بأمر الله داراً، وكانت قد قاربت تسعين سنة، وأعطاها جاريتين من جواريها للخدمة، وأجرى لها الجراية، وأخرج محمود بن الأخرم إلى الكوفة وسقى الفرات أميراً. وأما رئيس الرؤساء فأخرجه البساسيري، آخر ذي الحجة، من محبسه بالحريم الطاهري مقيداً، وعليه جبة صوف، وطرطور من لبد أحمر، وفي رقبته مخنقة جلود بعير، وهو يقرأ: " قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء " . وبصق أهل الكرخ في وجهه عند اجتيازه بهم، لأنه كان يتعصب عليهم، وشهر إلى حد النجمي، وأعيد إلى معسكر البساسيري، وقد نصبت له خشبة، وأنزل عن الجمل، وألبس جلد ثور وجعلت قرونه على رأسه، وجعل في فكيه كلابان من حديد، وصلب فبقي يضطرب إلى آخر النهار ومات. وكان مولده في شعبان سنة سبعين وثلاثمائة، وكانت شهادته عند ابن ماكولا سنة أربع عشرة وأربعمائة، وكان حسن التلاوة للقرآن، جيد المعرفة بالنحو. وأما عميد العراق فقتله البساسيري، وكان فيه شجاعة، وله فتوة، وهو الذي بنى رباط شيخ الشيوخ. ولما خطب البساسيري للمستنصر العلوي بالعراق أرسل إليه بمصر يعرفه ما فعل، وكان الوزير هناك أبا الفرج ابن أخي أبي القاسم المغربي، وهو ممن هرب من البساسيري وفي نفسه ما فيها، فوقع فيه، وبرد فعله، وخوف عاقبته، فتركت أجوبته مدة، ثم عادت بغير الذي أمله ورجاه. وسار البساسيري من بغداد إلى واسط والبصرة فملكهما، وأراد قصد الأهواز، فأنفذ صاحبها هزارسب بن بنكير إلى دبيس بن مزيد يطلب منه أن يصلح الأمر على مال يحمله إليه، فلم يجب إلى ذلك، وقال: لا بد من الخطبة للمستنصر، والسكة باسمه، فلم يفعل هزارسب ذلك ورأى البساسيري أن طغرلبك يمد هزارسب بالعساكر، فصالحه، وأصعد إلى واسط في مستهل شعبان من سنة إحدى وخمسين، وفارقه صدقة بن منصور بن الحسين الأسدي، ولحق بهزارسب، وكان قد ولي بعد أبيه على ما نذكره.
وأما أحوال السلطان طغرلبك، وإبراهيم ينال، فإن السلطان كان في قلة من العسكر، كما ذكرناه، وكان إبراهيم قد اجتمع معه كثير من الأتراك، وحلف لهم أنه لا يصالح أخاه طغرلبك، ولا يكلفهم المسير إلى العراق، وكانوا يكرهونه لطول مقامهم وكثرة إخراجاتهم، فلم يقو به طغرلبك، وأتى إلى إبراهيم محمد وأحمد ابنا أخيه أرتاش في خلق كثير، فازداد بهم قوة، وازداد طغرلبك ضعفاً، فانزاح من بين يديه إلى الري، وكاتب ألب أرسلان، وياقوتي، وقاروت بك، أولاد أخيه داود، وكان داود قد مات، على ما نذكره سنة إحدة وخمسين إن شاء الله تعالى، وملك خراسان بعده ابنه ألب أرسلان إليهم طغرلبك يستدعيهم إليه، فجاؤوا بالعساكر الكثيرة، فلقي إبراهيم بالقرب من الري، فانهزم إبراهيم ومن معه وأخذ أسيراً هو ومحمد وأحمد ولدا أخيه، فأمر به فخنق بوتر قوسه تاسع جمادى الآخرة سنة إحدى وخمسين، وقتل ولدا أخيه معه. وكان إبراهيم قد خرج على طغرلبك مراراً، فعفا عنه، وإنما قتله في هذه الدفعة لأنه علم أن جميع ما جرى على الخليفة كان بسببه، فلهذا لم يعف عنه، ولما قتل إبراهيم أرسل طغرلبك إلى هزارسب بالأهواز يعرفه ذلك، وعنده عميد الملك الكندري، فسار إلى السلطان، فجهزه هزارسب تجهيز مثله. ذكر عود الخليفة إلى بغدادلما فرغ السلطان من أمر أخيه إبراهيم ينال عاد يطلب العراق، ليس له هم إلا إعادة القائم بأمر الله إلى داره، فأرسل إلى البساسيري وقريش في إعادة الخليفة إلى داره على أن لا يدخل طغرلبك العراق، ويقنع بالخطبة والسكة، فلم يجب البساسيري إلى ذلك، فرحل طغرلبك إلى العراق، فوصلت مقدمته إلى قصر شيرين، فوصل الخبر إلى بغداد، فانحدر حرم البساسيري وأولاده، ورحل أهل الكرخ بنسائهم وأولادهم في دجلة وعلى الظهر، ونهب بنو شيبان الناس، وقتلوا كثيراً منهم، وكان دخول البساسيري وأولاده بغداد سادس ذي القعدة سنة خمسين وخرجوا منها سادس ذي القعدة سنة إحدى وخمسين. وثار أهل باب البصرة إلى الكرخ فنهبوه، وأحرقوا درب الزعفران، وهو من أحسن الدروب وأعمرها، ووصل طغرلبك إلى بغداد، وكان قد أرسل من الطريق الإمام أبا بكر أحمد بن محمد بن أيوب المعروف بابن فورك، إلى قريش بن بدران يشكره على فعله بالخليفة، وحفظه على صيانته ابنة أخيه امرأة الخليفة، ويعرفه أنه قد أرسل أبا بكر بن فورك للقيام بخدمة الخليفة، وإحضاره، وإحضار أرسلان خاتون ابنة أخيه امرأة الخليفة. ولما سمع قريش بقصد طغرلبك العراق أرسل إلى مهارش يقول له: أودعنا الخليفة عندك ثقة بإمانتك، لينكف بلاء الغز عنا، والآن فقد عادوا، وهم عازمون على قصدك، فارحل أنت وأهلك إلى البرية، فإنهم إذا علموا أن الخليفة عندنا في البرية لم يقصدوا العراق، ونحكم عليهم بما نريد. فقال مهارش: كان بيني وبين البساسيري عهود ومواثيق نقضها، وإن الخليفة قد استخلفني بعهود ومواثيق لا مخلص منها. وسار مهارش ومعه الخليفة حادي عشر ذي القعدة سنة إحدى وخمسين وأربعمائة إلى العراق، وجعلا طريقهما على بلد بدر بن مهلهل ليأمنا من يقصدهما، ووصل ابن فورك إلى حلة بدر بن مهلهل، وطلب منه أن يوصله إلى مهارش، فجاء إنسان سوادي إلى بدر وأخبره أنه رأى الخليفة ومهارشاً بتل عكبرا، فسر بذلك بدر ورحل ومعه ابن فورك، وخدماه، وحمل له بدر شيئاً كثيراً، وأوصل إليه ابن فورك رسالة طغرلبك وهدايا كثيرة أرسلها معه. ولما سمع طغرلبك بوصول الخليفة إلى بلد بدر أرسل وزيره الكندري، والأمراء، والحجاب، وأصحبهم الخيام العظيمة، والسرادقات، والتحف من الخيل بالمراكب الذهب وغير ذلك، فوصلوا إلى الخليفة وخدموه ورحلوا، ووصل الخليفة إلى النهروان في الرابع والعشرين من ذي القعدة، وخرج السلطان إلى خدمته، فاجتمع به، وقبل الأرض بين يديه، وهنأه بالسلامة، وأظهر الفرح بسلامته، واعتذر من تأخره بعصيان إبراهيم، وأنه قتله عقوبة لما جرى منه من الوهن على الدولة العباسية، وبوفاة أخيه داود بخراسان، وأنه اضطر إلى التريث حتى يرتب أولاده بعده في المملكة، وقال: أنا أمضي خلف هذا الكلب، يعني البساسيري، وأقصد الشام، وأفعل في حق صاحب مصر ما أجازي به فعله!
وقلده الخليفة بيده سيفاً، وقال: لم يبق مع أمير المؤمنين من داره سواه، وقد تبرك به أمير المؤمنين، فكشف غشاء الخركاة حتى رآه الأمراء، فخدموا وانصرفوا. ولم يبق ببغداد من أعيانها من يستقبل الخليفة غير القاضي أبي عبد الله الدامغاني وثلاثة نفر من الشهود. وتقدم السلطان في المسير، فوصل إلى بغداد، وجلس في باب النوبي مكان الحاجب، ووصل الخليفة فقام طغرلبك وأخذ بلجام بغلته، حتى صار على باب حجرته، وكان وصوله يوم الاثنين لخمس بقين من ذي القعدة سنة إحدى وخمسين وعبر السلطان إلى معسكره، وكانت السنة مجدبة، ولم ير الناس فيها مطراً، فجاء تلك الليلة وهنأ الشعراء الخليفة والسلطان بهذا الأمر، ودام البرد بعد قدوم الخليفة نيفاً وثلاثين يوماً، ومات بالجوع والعقوبة عدد لا يحصى، وكان أبو علي بن شبل ممن هرب من طائفة الغز، فوقع به غيرهم فأخذوا ماله، فقال: خرجنا من قضاء الله خوفاً، ... فكان فرارنا منه إليه وأشقى الناس ذو عزم توالت ... مصائبه عليه، من يديه تضيق عليه طرق العذر منها ... ويقسو قلب راحمه عليه ذكر قتل البساسيريأنفذ السلطان بعد استقرار الخليفة في داره جيشاً عليهم خمارتكين الطغراني في ألفي فارس نحو الكوفة، فأضاف إليهم سرايا بن منيع الخفاجي، وكان قد قال السلطان: أرسل معي هذه العدة حتى أمضي إلى الكوفة وأمنع البساسيري من الإصعاد إلى الشام. وسار السلطان طغرلبك في أثرهم، فلم يشعر دبيس بن مزيد والبساسيري إلا والسرية قد وصلت إليهم ثامن ذي الحجة من طريق الكوفة، بعد أن نهبوها، وأخذ نور الدولة دبيس بن مزيد رحله جميعه وأحدره إلى البطيحة، وجعل أصحاب نور الدولة دبيس يرحلون بأهليهم، فيتبعهم الأتراك، فتقدم نور الدولة ليرد العرب إلى القتال، فلم يرجعوا، فمضى. ووقف البساسيري في جماعته، وحمل عليه الجيش، فأسر من أصحابه أبو الفتح بن ورام، وأسر منصور وبدران وحماد، بنو نور الدولة دبيس، وضرب فرس البساسيري بنشابة، وأراد قطع تجفافه لتسهل عليه النجاة فلم ينقطع، وسقط عن الفرس، ووقع في وجهه ضربة، ودل عليه بعض الجرحى، فأخذه كمشتكين دواتي عميد الملك الكندري وقتله، وحمل رأسه إلى السلطان، ودخل الجند في الظعن، فساقوه جميعه، وأخذت أموال أهل بغداد وأموال البساسيري مع نسائه وأولاده، وهلك من الناس الخلق العظيم، وأمر السلطان بحمل رأس البساسيري إلى دار الخلافة، فحمل إليها، فوصل منتصف ذي الحجة سنة إحدى وخمسين، فنظف وغسل وجعل على قناة وطيف به، وصلب قبالة باب النوبي. وكان في أسر البساسيري جماعة من النساء المتعلقات بدار الخلافة، فأخذن، وأكرمن، وحملن إلى بغداد. ومضى نور الدولة دبيس إلى البطيحة، ومعه زعيم الملك أبو الحسن عبد الرحيم، وكان من حق هذه الحوادث المتأخرة أن تذكر سنة إحدى وخمسين، وإنما ذكرناها هاهنا لأنها كالحادثة الواحدة يتلو بعضها بعضاً. وكان البساسيري مملوكاً تركياً من مماليك بهاء الدولة بن عضد الدولة، تقلبت به الأمور حتى بلغ هذا المقام المشهور، واسمه أرسلان، وكنيته أبو الحارث، وهو منسوب إلى بسا مدينة بفارس، والعرب تجعل عوض الباء فاء فتقول فسا، والنسبة فساوي، ومنها أبو علي الفارسي النحوي، وكان سيد هذا المملوك أولاً من بسا، فقيل به البساسيري لذلك، وجعل العرب الباء فاء فقيل فساسيري. ذكر عدة حوادثفي هذه السنة أقر السلطان طغرلبك مملان بن هسوذان بن مملان على ولاية أبيه بأذربيجان. وفيها مات شهاب الدولة أبو الفوارس منصور بن الحسين الأسدي، صاحب الجزيرة، عند خوزستان، واجتمعت عشيرته على ولده صدقة. وفيها توفي الملك الرحيم، آخر ملوك بني بويه، بقلعة الري، وكان طغرلبك سجنه أولاً بقلعة السيروان، ثم نقله إلى قلعة الري فتوفي بها. وفيها عصى أبو علي بن أبي الجبر بالبطائح، وكان متقدم بعض نواحيها، فأرسل إليه طغرلبك جيشاً مع عميد العراق أبي نصر، فهزمهم أبو علي. وفيها يوم النوروز أرسل السلطان مع وزيره عميد الملك إلى الخليفة عشرة آلاف دينار سوى ما أضيف إليها من الأعلاق النفيسة. وفيها، في صفر، توفي أبو الفتح بن شيطا القاري، الشاهد، وكانت شهادته سنة خمس وأربعين وأربعمائة.
وفيها، في شهر ربيع الأول، توفي القاضي أبو الطيب الطبري، الفقيه الشافعي، وله مائة سنة وسنتان، وكان صحيح السمع والبصر، سليم الأعضاء، يناظر ويفتي ويستدرك على الفقهاء، وحضر عميد الملك جنازته، ودفن عند قبر أحمد، وله شعر حسن. وفي سلخه توفي قاضي القضاة أبو الحسين علي بن محمد بن حبيب الماوردي، الفقيه الشافعي، وكان إماماً، وله تصانيف كثيرة منها: الحاوي وغيره في علوم كثيرة، وكان عمره ستاً وثمانين سنة. وفي آخر هذه السنة توفي أبو عبد الله الحسين بن علي الرفا، الضرير الفرضي، وكان إماماً فيها على مذهب الشافعي. وفيها، في شوال، كانت زلزلة عظيمة بالعراق، والموصل، ووصلت إلى همذان، ولبثت ساعة، فخربت كثيراً من الدور، وهلك فيها الجم الغفير. وفيها توفي أبو محمد عبد الله بن علي بن عياض المعروف بابن أبي عقيل، وكان قد سمع الكثير من الحديث رواه. وتوفي أيضاً القاضي أبو الحسن علي بن هندي قاضي حمص، وكان وافر العلم والأدب. ثم دخلت سنة إحدى وخمسين وأربعمائة ذكر وفاة فرخ زاد صاحب غزنة وملك أخيه إبراهيم في هذه السنة، في صفر، توفي الملك فرخ زاد بن مسعود بن محمود بن سبكتكين، صاحب غزنة، وكان قد ثار به مماليكه سنة خمسين واتفقوا على قتله، فقصدوه وهو في الحمام، وكان معه سيف، فأخذه وقاتلهم، ومنعهم عن نفسه حتى أدركه أصحابه وخلصوه، وقتلوا أولئك الغلمان. وصار بعد أن نجا من هذه الحادثة يكثر ذكر الموت ويحتقر الدنيا ويزدريها، وبقي كذلك إلى هذه السنة، فأصابه قولنج فمات منه، وملك بعده أخوه إبراهيم بن مسعود بن محمود، فأحسن السيرة، فاستعد لجهاد الهند، ففتح حصوناً امتنعت على أبيه وجده، وكان يصوم رجباً وشعبان ورمضان. ذكر الصلح بين الملك إبراهيم وجغري بك داودفي هذه السنة استقر الصلح بين الملك إبراهيم بن مسعود بن محمود بن سبكتكين وبين داود بن ميكائيل بن سلجوق، صاحب خراسان، على أن يكون كل واحد منهما على ما بيده، ويترك منازعة الآخر في ملكه. وكان سبب ذلك أن العقلاء من الجانبين نظروا فرأوا أن كل واحد من الملكين لا يقدر على أخذ ما بيد الآخر، وليس يحصل غير إنفاق الأموال، وإتعاب العساكر، ونهب البلاد، وقتل النفوس، فسعوا في الصلح، فوقع الاتفاق واليمين، وكتبت النسخ بذلك، فاستبشر الناس، وسرهم لما أشرفوا عليه من العافية. ذكر وفاة داود وملك ابنه ألب أرسلانفي هذه السنة، في رجب، توفي جغري بك داود بن ميكائيل بن سلجوق، أخو السلطان طغرلبك، وقيل كان موته في صفر سنة اثنتين وخمسين، وعمره نحو سبعين سنة، وكان صاحب خراسان، وهو مقابل آل سبكتكين ومقاتلهم، ومانعهم عن خراسان، فلما توفي ملك بعده خراسان ابنه السلطان ألب أرسلان، وخلف داود عدة أولاد ذكور منهم: السلطان ألب أرسلان، وياقوتي، وسليمان، وقاروت بك، فتزوج أم سليمان السلطان طغرلبك، بعد أخيه داود، ووصى به بالملك بعده، وكان من أمره ما نذكره. وكان خيراً، عادلاً، حسن السيرة، معترفاً بنعمة الله تعالى عليه، شاكراً عليها، فمن ذلك أنه أرسل إلى أخيه طغرلبك مع عبد الصمد، قاضي سرخس، يقول له: بلغني إخرابك البلاد التي فتحتها وملكتها، وجلا أهلها عنها، وهذا ما لا خفاء به في مخالفة أمر الله تعالى في عباده وبلاده، وأنت تعلم ما فيه من سوء السمعة وإيحاش الرعية. وقد علمت أننا لقينا أعداءنا ونحن ثلاثين رجلاً، وهم ثلاثمائة، فغلبناهم، وكنا في ثلاثمائة، وهم في ثلاثة آلاف، فغلبناهم، وكنا في ثلاثة آلاف، وهم في ثلاثين ألفاً، فدفعناهم، وقاتلنا بالأمس شاه ملك، وهو في أعداد كثيرة متوافرة، فقهرناه، وأخذنا مملكته بخوارزم، وهرب من بين أيدينا إلى خمسمائة فرسخ من موضعه، فظفرنا به وأسرناه وقتلناه، واستولينا على ممالك خراسان وطبرستان وسجستان، وصرنا ملوكاً متبوعين، بعد أن كنا أصاغر تابعين، وما تقتضي نعم الله علينا أن نقابلها هذه المقابلة. فقال طغرلبك: قل له في الجواب: يا أخي أنت ملكت خراسان وهي بلاد عامرة، فخربتها، ووجب عليك مع استقرار قدمك عمارتها، وأنا وردت بلاداً خربها من تقدمني، واجتاحها من كان قبلي، فما أتمكن من عمارتها والأعداء محيطة بها، والضرورة تقود إلى طرقها بالعساكر، ولا يمكن دفع مضرتها عنها.
وله مناقب كثيرة تركناها خوف التطويل. ذكر حريق بغدادفي هذه السنة احترقت بغداد: الكرخ وغيره، وبين السورين، واحترقت فيه خزانة الكتب التي وقفها أردشير الوزير، ونهبت بعض كتبها، وجاء عميد الملك الكندري، فاختار من الكتب خيرها، وكان بها عشرة آلاف مجلد وأربعمائة مجلد من أصناف العلوم منها: مائة مصحف بخطوط بني مقلة، وكان العامة قد نهبوا بعضها لما وقع الحريق، فأزالهم عميد الملك، وقعد يختارها، فنسب ذلك إلى سوء سيرته، وفساد اختياره، وشتان بين فعله وفعل نظام الملك الذي عمر المدارس، ودون العلم في بلاد الإسلام جميعها، ووقف الكتب وغيرها. ذكر انحدار السلطان إلى واسط وما فعل العسكر وإصلاح دبيس في هذه السنة انحدر السلطان طغرلبك إلى واسط بعد فراغه من أمر بغداد، فرآها قد نهبت، وحضر عنده هزارسب بن بنكير، وأصلح معه حال دبيس بن مزيد، وأحضره معه إلى خدمة السلطان، وأصعد في صحبته إلى بغداد، وكذلك صدقة بن منصور بن الحسين، وضمن واسطاً أبو علي بن فضلان بمائتي ألف دينار، وضمن البصرة الأغر أبو سعد سابور بن المظفر، وعبر السلطان إلى الجانب الشرقي من دجلة، وسار إلى قرب البطائح، فنهب العسكر ما بين واسط والبصرة والأهواز. وأصعد السلطان إلى بغداد في صفر سنة اثنتين وخمسين ومعه أبو الفتح بن ورام، وهزارسب بن بنكير بن عياض، ودبيس بن مزيد، وأبو علي ابن الملك أبي كاليجار، وصدقة بن منصور بن الحسين وغيرهم، واجتمع السلطان بالخليفة، وأمر الخليفة بعمل طعام كثير حضره السلطان والأمراء وأصحابهم، وعمل السلطان أيضاً سماطاً أحضر فيه الجماعة، وخلع عليهم، وسار إلى بلاد الجبل في شهر ربيع الأول سنة اثنتين وخمسين، وجعل ببغداد شحنة الأمير برسق، وضمنها أبو الفتح المظفر بن الحسين ثلاث سنين بأربع مائة ألف دينار. ذكر عدة حوادثفي هذه السنة عزل أبو الحسين بن المهتدي من الخطابة بجامع المنصور لأنه خطب للعلوي ببغداد في الفتنة، وأقيم مقامه بهاء الشرف أبو علي الحسن بن عبد الودود بن المهتدي بالله. وفيها توفي علي بن محمود بن إبراهيم الزوزني أبو الحسن، صحب أبا الحسن الجصري، وروى عن أبي عبد الرحمن السلمي، وهو الذي نسب إليه رباط الزوزني المقابل لجامع المنصور. وفيها، في جمادى الأولى، توفي محمد بن علي بن الفتح بن محمد بن علي أبو طالب العشاري، ومولده في المحرم سنة ست وستين وثلاثمائة، وسمع الدارقطني وغيره. ثم دخلت سنة اثنتين وخمسين وأربعمائة ذكر عود ولي العهد إلى بغداد مع أبي الغنائم بن المحلبان في جمادى الآخرة ورد عدة الدين أبو القاسم المقتدي بأمر الله، ولي العهد، ومعه جدته أم الخليفة، وخرج الناس لاستقباله، وجلس في الزبزب على رأسه أبو الغنائم بن المحلبان، وقدم له بباب الغربة فرس، فحمله ابن المحلبان على كتفه وأركبه وسلمه إلى مجلس الخليفة، فشكره، وخرج ابن المحلبان فركب في الزبزب، وانحدر إلى دار أفردت له بباب المراتب، ودخل إلى الخليفة واجتمع به. وكان سبب مصير ولي العهد مع ابن المحلبان أنه دخل داره، فوجد زوجة رئيس الرؤساء وأولاده بها، وهم مطالبون من البساسيري، فعرفوه أن رئيس الرؤساء أمرهم بقصده، فأدخلهم إلى أهله، وأقام لهم من حملهم إلى ميافارقين، فساروا مع قرواش لما أصعد من بغداد، ولم يعلم بهم. ثم لقيه أبو الفضل محمد بن عامر الوكيل، وعرفه ما عليه ولي العهد ومن معه من إيثار الخروج من بغداد، وما هم عليه من تناقض الحال، فبعث ابن المحلبان زوجته، فأتته بهم سراً، فتركهم عنده ثمانية أشهر، وكان يحضر ابن البساسيري وأصحابه، ويعمل لهم الدعوات، وولي العهد ومن معه مستترون عنده، يسمعون ما يقول أولئك فيهم. ثم اكترى لهم، وسار هو في صحبتهم إلى قريب سنجار، ثم حملوا إلى حران، وسار مع صاحبها أبي الزمام منيع بن وثاب النميري، حين قصد الرحبة، وفتح قرقيسيا، وعقد لعدة الدين على بنت منيع، وانحدروا إلى بغداد. ذكر ملك محمود بن شبل الدولة حلب
في هذه السنة، في جمادى الآخرة، حضر محمود بن شبل الدولة بن صالح بن مرداس الكلابي مدينة حلب، وضيق عليها، واجتمع مع جمع كثير من العرب، فأقام عليها، فلم يتسهل له فتحها، فرحل عنها، ثم عاودها فحصرها، فملك المدينة عنوة في جمادى الآخرة، بعد أن حصرها، وامتنعت القلعة عليه. وأرسل من بها إلى المستنصر بالله، صاحب مصر ودمشق، يستنجدونه، فأمر ناصر الدولة أبا محمد الحسين بن الحسن بن حمدان، الأمير بدمشق، أن يسير بمن عنده من العساكر إلى حلب يمنعها من محمود، فسار إلى حلب، فلما سمع محمود بقربه منه خرج من حلب، ودخلها عسكر ناصر الدولة فنهبوها. ثم إن الحرب وقعت بين محمود وناصر الدولة بظاهر حلب، واشتد القتال بينهم، فانهزم ناصر الدولة وعاد مقهوراً إلى مصر، وملك محمود حلب، وقتل عمه معز الدولة، واستقام أمره بها، وهذه الوقعة تعرف بوقعة الفنيدق، وهي مشهورة. ذكر عدة حوادثفي هذه السنة خلع السلطان طغرلبك على محمود بن الأخرم الخفاجي، وردت إليه إمارة بني خفاجة، وولاية الكوفة، وسقي الفرات، وضمن خواص السلطان هناك بأربعة آلاف دينار كل سنة، وصرف عنها رجب بن منيع. وفيها توفي أبو محمد النسوي، صاحب الشرطة ببغداد، وقد جاوز ثمانين سنة. وفيها سد بنو ورام بثق النهروانات، وشرع العميد أبو الفتح في عمارة بثوق الكرخ. وفيها، في ذي القعدة، توفيت خاتون زوجة السلطان طغرلبك بزنجان، فوجد عليها وجداً شديداً، وحمل تابوتها إلى الري فدفنت بها. وفيها، ثالث جمادى الآخرة، انقض كوكب عظيم القدر عند طلوع الفجر من ناحية المغرب إلى ناحية المشرق، فطال لبثه. وفيها، جمع عطية بن صالح بن مرداس جمعاً وحصر الرحبة، وضيق على أهلها، فملكها في صفر من هذه السنة. وفيها توفيت والدة الخليفة القائم بأمر الله، واسمها قطر الندى، وقيل بدر الدجى، وقيل علم، وهي جارية أرمينية. وفيها توفي محمد بن الحسين بن محمد بن الحسن أبو علي المعروف بالجازري النهرواني، وكان مكثراً من الرواية، الجازري بالجيم وبعد الألف زاي ثم راء. وفيها توفي باي أبو منصور الفقيه الجيلي، بالباء الموحدة وبعد الألف ياء تحتها نقطتان، ومحمد بن عبيد بن أحمد بن محمد أبو عمرو بن أبي الفضل، الفقيه المالكي. ثم دخلت سنة ثلاث وخمسين وأربعمائة ذكر وزارة ابن دارست للخليفة لما عاد الخليفة إلى بغداد استخدم أبا تراب الأثيري في الإنهاء، وحضور المواكب، ولقبه حاجب الحجاب، وكان قد خدمه بالحديث، وقرب منه، فخاطب الشيخ أبو منصور بن يوسف في وزارة أبي الفتح منصور بن أحمد بن دارست، وقال إنه يخدم بغير إقطاع، ويحمل مالاً، فأجيب إلى ذلك، فأحضر من الأهواز إلى بغداد، وخلع عليه خلعة الوزارة منتصف ربيع الآخر، وجلس في منصبه، ومدح الشعراء، فممن مدحه وهنأه أبو الحسن الخباز بقصيدة منها: أمن الملك بالأمين أبي الفت ... ح وصدت عن صفوة الأقذاء دولة أصبحت، وأنت ولي ... الرأي فيها، لدولة غراء وهي طويلة. وكان ابن دارست في أول أمره تاجراً للملك أبي كاليجار. ذكر موت المعز بن باديس وولاية ابنه تميم في هذه السنة توفي المعز بن باديس، صاحب إفريقية، من مرض أصابه، وهو ضعف الكبد، وكانت مدة ملكه سبعاً وأربعين سنة، وكان عمره لما ملك إحدى عشرة سنة، وقيل ثماني سنين وستة أشهر. وكان رقيق القلب، خاشعاً، متجنباً لسفك الدماء إلا في حد، حليماً، يتجاوز عن الذنوب العظام، حسن الصحبة مع عبيده وأصحابه، مكرماً لأهل العلم، كثير العطاء لهم، كريماً، وهب مرة ألف دينار للمستنصر الزناتي وكان عنده وقد جاء هذا المال، فاستكثره، فأمر به فأفرغ بين يديه، ثم وهبه له، فقيل له: لم أمرت بإخراجه من أوعيته؟ قال: لئلا يقال لو رآه ام سمحت نفسه به، وكان له شعر حسن. ولما مات رثاه الشعراء، فمنهم أبو الحسن بن رشيق فقال: لكل حي وإن طال المدى هلك ... لا عز مملكة يبقى، ولا ملك ولى المعز على أعقابه فرمى، ... أو كاد ينهد من أركانه الفلك مضى فقيداً، وأبقى في خزائنه ... هام الملوك، وما أدراك ما ملكوا
ما كان إلا حساماً سله قدر ... على الذين بغوا في الأرض وانهمكوا كأنه لم يخض للموت بحر وغىً، ... خضر البحار، إذا قيست به، برك ولم يجد بقناطير مقنطرة ... قد أرخت باسمه إبريزها السكك روح المعز وروح الشمس قد قبضا، ... فانظر بأي ضياء يصعد الفلك ولما توفي ملك بعده ابنه تميم، وكان مولد تميم بالمنصورية التي هي مقره، منتصف رجب سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة، وولاه المهدية في صفر سنة خمس وأربعين، وأقام بها إلى أن وافاه أبوه المعز، لما انتزح عن القيروان من العرب، وقام بخدمة أبيه، وأظهر من طاعته وبره ما بان به كذب ما كان ينسب إليه. ولما استبد بالملك بعد أبيه سلك طريقه في حسن السيرة، ومحبة أهل العلم، إلا أنه كان أصحاب البلاد قد طمعوا بسبب العرب، وزالت الهيبة والطاعة عنهم في أيام المعز، فلما مات ازداد طمعهم، وأظهر كثير منهم الخلاف، فممن أظهر الخلاف القائد حمو بن مليك، صاحب سفاقس، واستعان بالعرب، وقصد المهدية ليحاصرها، فخرج إليه تميم وصافه، فاقتتلوا، فانهزم حموا وأصحابه، وكثر القتل فيهم، ومضى حمو ونجا بنفسه، وتفرقت خيله ورجاله، وكان ذلك سنة خمس وخمسين. ذكر وفاة قريش صاحب الموصل وإمارة ابنه شرفة الدولة في هذه السنة توفي قريش بن بدران صاحب الموصل ونصيبين، أصابه خروج الدم من فيه وأنفه وعينيه وأذنيه، فحمله ابنه شرف الدولة إلى نصيبين، حتى حفظ خزانته بها، وتوفي هناك. وسمع فخر الدولة أبو نصر محمد بن محمد بن جهير حاله، فسارا من دارا إلى نصيبين، وجمع بني عقيل على أن يؤمروا ابنه أبا المكارم مسلم بن قريش عليهم، وكان القائم بأمره جابر بن ناشب، فزوجه فخر الدولة بأخت مسلم، وزوج مسلماً بابنة نصر بن منصور. ذكر وفاة نصر الدولة بن مروانفي هذه السنة توفي نصر الدولة أحمد بن مروان الكردي، صاحب ديار بكر، ولقبه القادر بالله نصر الدولة، وكان عمره نيفاً وثمانين سنة، وإمارته اثنتين وخمسين سنة، واستولى على الأمور ببلاده استيلاء تاماً، وعمر الثغور وضبطها، وتنعم تنعماً لم يسمع بمثله عن أحد من أهل زمانه. وملك من الجواري المغنيات ما اشترى بعضهن بخمسة آلاف دينار، وأكثر من ذلك، وملك خمسمائة سرية سوى توابعهن، وخمسمائة خادم. وكان في مجلسه من الآلات ما تزيد قيمته على مائتي ألف دينار، وتزوج من بنات الملوك جملة، وأرسل طباخين إلى الديار المصرية، وغرم على إرسالهم جملة وافرة حتى تعلموا الطبخ من هناك. وأرسل إلى السلطان طغرلبك هدايا عظيمة، من جملتها الجبل الياقوت الذي كان لبني بويه، اشتراه من المكل العزيز أبي منصور بن جلال الدولة، وأرسل معه مائة ألف دينار سوى ذلك. ووزر له أبو القاسم بن المغربي، وفخر الدولة بن جهير، ورخصت الأسعار في أيامه، وتظاهر الناس بالأموال، ووفد إليه الشعراء، وأقام عنده العلماء والزهاد. وبلغه أن الطيور في الشتاء تخرج من الجبال إلى القرى فتصاد، فأمر أن يطرح لها الحب من الأهراء التي له، فكانت في ضيافته طول عمره. ولما مات اتفق وزيره فخر الدولة بن جهير وابنه نصر، فرتب نصراً في الملك بعد أبيه، وجرى بينه وبين أخيه سعيد حروب شديدة كان الظفر في آخرها لنصر، فاستقر في الإمارة بميافارقين وغيرها، وملك أخوه سعيد آمد. ذكر عدة حوادثفي رجب خلع على الكامل أبي الفوارس طراد بن محمد الزينبي، وقلد نقابة النقباء، ولقب الكامل ذا الشرفين. وفيها تولي شمس الدين أسامة بن أبي عبد الله بن علي نقابة العلويين ببغداد، ولقب المرتضى. وفيها، في جمادى الأولى، انكسفت الشمس جميعها، فظهرت الكواكب، وأظلمت الدنيا، وسقطت الطيور الطائرة. وفيها، في شهر رمضان، توفي شكر العلوي الحسيني، أمير مكة، وله شعر حسن، فمنه: قوض خيامك عن أرض تضام بها، ... وجانب الذل، إن الذل مجتنب وارحل إذا كان في الأوطان منقصة ... فالمندل الرطب في أوطانه حطب وفيها توفي أبو القاسم علي بن محمد بن يحيى الشمشاطي بدمشق، وكان عالماً بالهندسة والرياضيات من علوم الفلاسفة، وإليه ينسب الرباط الذي عند جامع دمشق. ثم دخلت سنة أربع وخمسين وأربعمائة | |
|
| |
الشيخ عودة الشيخ عودة
عدد المساهمات : 1748 تاريخ التسجيل : 28/09/2008 العمر : 74
| موضوع: رد: كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير الإثنين فبراير 24, 2014 6:38 pm | |
| ذكر نكاح السلطان طغرلبك ابنة الخليفة في هذه السنة عقد للسلطان طغرلبك على ابنة الخليفة القائم بأمر الله، وكانت الخطبة تقدمت سنة ثلاث وخمسين مع أبي سعد قاضي الري، فانزعج الخليفة من ذلك، وأرسل في الجواب أبا محمد التميمي، وأمره أن يستعفي، فإن أعفي، وإلا تمم الأمر على أن يحمل السلطان ثلاثمائة ألف دينار، ويسلم واسطاً وأعمالها. فلما وصل إلى السلطان ذكر لعميد الملك الوزير ما ورد فيه من الاستعفاء، فقال: لا يحسن أن يرد الس، وقد سأل وتضرع، ولا يجوز مقابلته أيضاً بطلب الأموال والبلاد، فهو يفعل أضعاف ما طلب منه. فقاتل التميمي: الأمر لك، ومهما فعلته فهو الصواب، فبنى الوزير الأمر على الإجابة، وطالع به الس، فسر به، وجمع الناس وعرفهم أن همته سمت به إلى الاتصال بهذه الجهة النبوية، وبلغ من ذلك ما لم يبلغه سواه من الملوك. وتقدم إلى عميد الملك الوزير أن يسير ومعه أرسلان خاتون، زوجة الخليفة، وأن يصحبها مائة ألف دينار برسم الحمل، وما شاكلها من الجواهر وغيرها، ووجه معه فرامرز بن كاكويه، وغيره من وجوه الأمراء وأعيان الري. فلما وصل إلى الإمام القائم بأمر الله، وأوصل خاتون زوجة الخليفة إلى دارها، وأنهى حضوره وحضور من معه، ذكر حال الوصلة، فامتنع الخليفة من الإجابة إليها وقال: إن أعفينا، وإلا خرجنا من بغداد. فقال عميد الملك: كان الواجب الامتناع من غير اقتراح، وعند الإجابة إلى ما طلب، فالامتناع سعي على دمي، وأخرج خيامه إلى النهروان، فاستوقفه قاضي القضاة، والشيخ أبو منصور بن يوسف، وأنهيا إلى الخليفة عاقبة انصرافه على هذا الوجه، وصنع له ابن دارست وزير الخليفة دعوة، فحضر عنده، فرأى على مسجد مكتوباً: معاوية خال علي، فأمر بحكه. وكتب من الديوان إلى خمارتكين الطغرائي كتاباً يتضمن الشكوى من عميد الملك، فورد الجواب عليه بالرفق، وكتب الخليفة إلى عميد الملك: نحن نرد الأمر إلى رأيك، ونعول على أمانتك ودينك. فحضر يوماً عند الخليفة، ومعه جماعة من الأمراء، والحجاب، والقضاة والشهود، فأخذ المجلس لنفسه، ولم يتكلم سواه، وقال للخليفة: أسأل مولانا أمير المؤمنين التطول بذكر ما شرف به العبد المخلص شاهنشاه، ركن الدين، فيما رغب فيه ليعرفه الجماعة. فغالطه، وقال: قد سطر في المعنى ما فيه كفاية. فانصرف عميد الملك مغظاً، ورحل في السادس والعشرين من جمادى الآخرة وأخذ المال معه إلى همذان، وعرف السلطان أن السبب في اتفاق الحال من خمارتكين الطغرائي. فتغير السلطان عليه، فهرب في ستة غلمان. وكتب السلطان إلى قاضي القضاة والشيخ أبي منصور بن يوسف يعتب ويقول: هذا جزاء من الخليفة الذي قتلت أخي في خدمته، وأنفقت أموالي في نصرته، وأهلكت خواصي في محبته. وأطال العتاب، وعاد الجواب إليه بالاعتذار. وأما الطغرائي فإنه أدرك ببروجرد فقال أولاد إبراهيم ينال للسلطان: إن هذا قتل أبانا، ونسأل أن نمكن من قتله، وأعانهم عميد الملك، فأذن لهم في قتله، فساروا إلى طريقه وقتلوه، وجعل مكانه ساوتكين، وبسط الكندري لسانه. وطلب طغرلبك ابنة أخيه، زوجة الخليفة، لتعاد إليه، وجرى ما كاد يفضي إلى الفساد الكلي. فلما رأى الخليفة شده الأمر أذن في ذلك، وكتب الوكالة باسم عميد الملك، وسيرت الكتب مع أبي الغنائم بن المحلبان، وكان العقد في شعبان سنة أربع وخمسين بظاهر تبريز، وهذا ما لم يجر للخلفاء مثله، فإن بني بويه مع تحكمهم ومخالفتهم لعقائد الخلفاء لم يطمعوا في مثل هذا ولا ساموهم فعله. وحمل السلطان أموالاً كثيرة، وجواهر نفيسة للخليفة، ولولي العهد، وولجهة المطلوبة، ولوالدتها، وغيرهم، وجعل بعقوبا وما كان بالعراق للخاتون زوجة السلطان التي توفيت للسيدة ابنة الخليفة. ذكر عزل ابن دارست ووزارة ابن جهير في هذه السنة عزل أبو الفتح محمد بن منصور بن دارست من وزراة الخليفة. وسببه أنه وصل معه إنسان يهودي يقال له ابن علان، فضمن أعمال الوكلاء التي لخاص الخليفة بستة آلاف كر غلة، ومائة ألف دينار، فصح منها ألفا كر، وثلاون ألف دينار، وانكسر الباقي، فظهر عجز ابن دارست ووهنه، فعزل، وعاد إلى الأهواز، فتوفي بها سنة سبع وستين.
وكان فخر الدولة أبو نصر بن جهير، وزير نصر الدولة بن مروان، قد أرسل يخطب الوزارة، وبذل فيها بذولاً كثيرة، فأجيب إليها، وأرسل كامل طراد الزينبي إلى ميافارقين كأنه رسول، فلما عاد سار معه ابن جهير كالمودع له، فتمم السير معه. وخرج ابن مروان في أثره، فلم يدركه، فلما وصل إلى بغداد خرج الناس إلى استقباله، وخلع عليه خلع الوزارة يوم عرفة، ولقب فخر الدولة، واستقر في الوزارة، ومدحه وهنأه ابن الفضل وغيره من الشعراء. ذكر عدة حوادثفي هذه السنة عم الرخص جميع الأصقاع، فبيع بالبصرة ألف رطل من التمر بثمانية قراريط. وفيها توفي القاضي أبو عبد الله محمد بن سلامة بن جعفر القضاعي بمصر. وفيها سار السلطان طغرلبك إلى قلعة الطرم من بلاد الديلم، وقرر على مسافر ملكها مائة ألف دينار وألف ثوب. وفيها مات أبو علوان ثمالل بن صالح بن مرداس الملقب معز الدولة بحلب، وقام أخوه عطية مقامه. وتوفي الحسن بن علي بن محمد أبو محمد الجوهري، ومولده سنة ثلاث وستين وثلاثمائة، وكان من الأئمة المكثرين من سماع الحديث وروايته، وهو آخر من حدث عن أبي بكر القطيعي، والأبهري، وابن شاذان، وغيرهم. ثم دخلت سنة خمس وخمسين وأربعمائة ذكر ورود السلطان بغداد ودخوله بابنة الخليفة في هذه السنة، في المحرم، توجه السلطان طغرلبك من أرمينية إلى بغداد، وأراد الخليفة أن يستقبله، فاستعفاه من ذلك، وخرج الوزير ابن جهير فاستقبله. وكان مع السلطان من الأمراء: أبو علي ابن الملك أبي كاليجار، وسرخاب بن بدر، وهزارسب، وأبو منصور فرامرز بن كاكويه، فنزل عسكره في الجانب الغربي، فزاد بهم أذى. ووصل عميد الملك إلى الخليفة، وطالب بالجهة، وبات بالدار، فقيل له: خطك موجود بالشرط، وإن المقصود بهذه الوصلة الشرف لا الإجتماع، وإنه إن كانت مشاهدة فتكون في دار الخلافة، فقال السلطان: نفعل هذا، ولكن نفرد له من الدور والمساكن ما يكفيه، ومعه خواصه، وحجابه، ومماليكه، فإنه لا يمكنه مفارقتهم. فحينئذ نقلت إلى دار المملكة في منتصف صفر، فجلست على سرير ملبس بالذهب، ودخل السلطان إليها، وقبل الأرض وخدمها، ولم تكشف الخمار عن وجهها، ولا قامت هي له، وحمل لها شيئاً كثيراً من الجواهر وغيرها، وبقي كذلك يحضر كل يوم يخدم وينصرف. وخلع على عميد الملك وعمل السماط عدة أيام، وخلع على جميع الأمراء، وظهر عليه سرور عظيم، وعقد ضمان بغداد على أبي سعيد القايني بمائة وخمسين ألف دينار، فأعاد ما كان أطلقه رئيس العراقين من المواريث والمكوس، وقبض على الأعرابي سعد، ضامن البصرة، وعقد ضمان واسط على أبي جعفر بن صقالب بمائتي ألف دينار. ذكر وفاة السلطان طغرلبكفي هذه السنة سار السلطان من بغداد، في ربيع الأول، إلى بلد الجبل، فوصل إلى الري واستصحب معه أرسلان خاتون ابنة أخيه، زوجة الخليفة، لأنها شكت اطراح الخليفة لها، فأخذها معه، فمرض، وتوفي يوم الجمعة ثامن شهر رمضان، وكان عمره سبعين سنة تقريباً، وكان عقيماً لم يلد ولداً. وكان وزيره الكندري على سبعين فرسخاً، فأتاه الخبر، فسار، ووصل إليه في يومين وهو بعد لم يدفن فدفنه. وجلس له الوزير فخر الدولة بن جهير ببغداد للعزاء. حكى عنه الكندري أنه قال: رأيت، وأنا بخراسان، في المنام كأنني رفعت إلى السماء، وأنا في ضباب لا أبصر معه شيئاً، غير أني أشم رائحة طيبة، وأنني أنادى: إنك قريب من الباري، جلت قدرته، فاسأل حاجتك لتقضى، فقلت في نفسي: أسأل طول العمر، فقيل: لك سبعون سنة، فقلت: يا رب ما يكفيني، فقيل: لك سبعون سنة، فقلت: يا رب لا يكفيني، فقيل: لك سبعون سنة. فلما مات حسب عميد الملك عمره، على التقريب، فكان سبعين سنة. وكانت مملكته، بحضرة الخلافة، سبع سنين وأحد عشر شهراً واثني عشر يوماً. وأما الأحوال بالعراق، بعد وفاته، فإنه كتب من ديوان الخلافة إلى شرف الدولة مسلم بن قريش، صاحب الموصل، وإلى نور الدولة دبيس بن مزيد، وإلى هزارسب، وإلى بني ورام، وإلى بدر بن المهلهل، بالاستدعاء إلى بغداد، وأرسل لشرف الدولة تشريف، وعمل أبو سعد القايني، ضامن بغداد، سوراً على قصر عيسى، وجمع الغلات. فانحدر إبراهيم بن شرف الدولة إلى أوانا، وتسلم أصحابه الأنبار، وانتشرت البادية في البلاد، وقطعوا الطرقات.
وقدم إلى بغداد دبيس بن مزيد، وخرج الوزير ابن جهير لاستقباله، وقدم أيضاً ورام، وتوفي ببغداد أبو الفتح بن ورام، مقدم الأكراد الجاوانية، فحمل إلى جرجرايا، وفارق شرف الدولة مسلم بغداد، ونهب النواحي، فسار نور الدولة، والأكراد، وبنو خفاجة إلى قتاله. ثم أرسل إليه من ديوان الخلافة رسول معه خلعة له، وكوتب بالرضاء عنه، وانحدر إليه نور الدولة دبيس، فعمل له شرف الدولة سماطاً كثيراً، وكان في الجماعة الأشرف أبو الحسين بن فخر الملك أبي غالب بن خلف، كان قصد شرف الدولة مستجدياً، فمضغ لقمة، فمات من ساعته. وحكى عنه بعض من صحبه أنه سمعه ذلك اليوم يقول: اللهم اقبضني، فقد ضجرت من الإضافة! فلما توفي ورفع من السماط خاف شرف الدولة أن يظن من حضر أنه تناول طعاماً مسموماً قصد به غيره، فقال: يا معشر العرب لا برح منكم أحد، ونهض وجلس مكان ابن فخر الملك المتوفي، وجعل يأكل من الطعام الذي بين يديه، فاستحسن الجماعة فعله، وعادوا عنه وخلع على دبيس وولده منصور وعاد إلى حلته. ولما رأى الناس ببغداد انتشار الأعراب في البلاد ونهبها، حملوا السلاح لقتالهم، وكان ذلك سبباً لكثرة العيارين وانتشار المفسدين. ذكر شيء من سيرتهكان عاقلاً حليماً من أشد الناس احتمالاً، وأكثرهم كتماناً لسره، ظفر بملطفات كتبها بعض خواصه إلى الملك أبي كاليجار، فلم يطلعه على ذلك، ولا تغير عليه، حتى أظهر بعد مدة طويلة لغيره. وحكى عنه أقضى القضاة الماوردي قال: لما أرسلني القائم بأمر الله إليه سنة ثلاث وثلاثين كتبت كتاباً إلى بغداد أذكر فيها سيرته وخراب بلاده، وأطعن عليه بكل وجه، فوقع الكتاب من غلامي، فحمل إليه، فوقف عليه وكتمه، ولم يحدثني فيه بشيء، ولا تغير عما كان عليه من إكرامي. وكان، رحمه الله، يحافظ على الصلوات، ويصوم الاثنين، والخميس، وكان لبسه الثياب البياض، وكان ظلوماً، غشوماً، قاسياً، وكان عسكره يغصبون الناس أموالهم، وأيديهم مطلقة في ذلك نهاراً وليلاً. وكان كريماً، فمن كرمه أن أخاه إبراهيم ينال أسر من الروم، لما غزاهم، بعض ملوكهم فبذل في نفسه أربعمائة ألف دينار، فلم يقبل إبراهيم منه وحمله إلى طغرلبك، فأرسل ملك الروم إلى نصر الدولة بن مروان حتى خاطب طغرلبك في فكاكه، فلما سمع طغرلبك رسالته أرسل الرومي إلى ابن مروان بغير فداء، وسير معه رجلاً علوياً، فأنفذ ملك الروم إلى طغرلبك ما لم يحمل في الزمان المتقدم، وهو ألف ثوب ديباج، وخمسمائة ثوب أصناف، وخمسمائة رأس من الكراع إلى غير ذلك، وأنفذ مائتي ألف دينار، ومائة لبنة فضة، وثلاثمائة شهري، وثلاثمائة حمار مصرية، وألف عنز بيض الشعور، سود العيون والقرون، وأنفذ إلى ابن مروان عشرة أمناء مسكاً، وعمر ملك الروم الجامع الذي بناه مسلمة بن عبد الملك بالقسطنطينية، وعمر منارته، وعلق فيه القناديل، وجعل في محرابه قوساً ونشابة، وأشاع المهادنة. ذكر ملك السلطان ألب أرسلانلما مات السلطان طغرلبك أجلس عميد الملك الكندري في السلطنة سليمان بن داود جغري بك، أخي السلطان طغرلبك، وكان طغرلبك قد عهد إليه بالملك، وكانت والدة سليمان عند طغرلبك، فلما خطب له بالسلطنة اختلف الأمراء، فمضى باغي سيان وأردم إلى قزوين، وخطبا لعضد الدولة ألب أرسلان محمد بن داود جغري بك، وهو حينئذ صاحب خراسان، ومعه نظام الملك وزيره، والناس مائلون إليه. فلما رأى عميد الملك الكندري انعكاس الحال عليه أمر بالخطبة بالري للسلطان ألب أرسلان، وبعده لأخيه سليمان. ذكر خروج حمو عن طاعة تميم بن المعز بإفريقيةفي هذه السنة خالف حمو بن مليك، صاحب مدينة سفاقس بإفريقية، على الأمير تميم بن المعز بن باديس، فجمع أصحابه، واستعان بالعرب، وسار إلى المهدية، فسمع تميم الخبر، فسار إليه بعساكر ومعه أيضاً طائفة من العرب من زغبة، ورياح، ووصل حمو إلى سلقطة، والتقى الفريقان بها، وكانت بينهما حرب شديدة فانهزم حمو ومن معه، وأخذتهم السيوف، فقتل أكثر حماته وأصحابه، ونجا بنفسه، تفرقت رجاله، وعاد تميم مظفراً منصوراً. ثم قصد، بعد هذه الحادثة، مدينة سوسة، وكان أهلها قد خالفوا عليه، فملكها، وعفا عنهم وحقن دماءهم. ذكر عدة حوادثفي هذه السنة، في المحرم، قبض بمصر على الوزير أبي الفرج بن المغربي.
وفيها دخل الصليحي، صاحب اليمن، إلى مكة مالكاً لها، فأحسن السيرة فيها، وجلب إليها الأقوات، ورفع جور من تقدم، وظهرت منه أفعال جميلة. وفيها، في ربيع الآخر، انقض كوكب عظيم، له ضوء كثير. وفيها، في شعبان، كان بالشام زلزلة عظيمة خرب منها كثير من البلاد، وانهدم سور طرابلس. وفيها ملك أمير الجيوش بدر دمشق للمستنصر، صاحب مصر، فوصل إليها في الثالث والعشرين من ربيع الآخر، وأقام بها، واختلف هو والجند، فثاروا به، ووافقهم العامة، فضعف عنهم، ففارقها في رجب سنة ست وخمسين. وفيها توفي سعيد بن نصر الدولة بن مروان، صاحب آمد، من ديار بكر، وزهير بن الحسين بن علي أبو نصر الجذامي، الفقيه الشافعي، تفقه على أبي حامد الأسفراييني، وسمع الحديث الكثير ورواه، وكان موته بسرخس. ثم دخلت سنة ست وخمسين وأربعمائة ذكر القبض على عميد الملك وقتله في هذه السنة قبض السلطان ألب أرسلان على الوزير عميد الملك أبي نصر منصور بن محمد الكندري وزير طغرلبك. وسبب ذلك أن عميد الملك قصد خدمة نظام الملك، وزير ألب أرسلان، وقدم بين يديه خمسمائة دينار، واعتذر، وانصرف من عنده، فسار أكثر الناس معه، فخوف السلطان من غائلة ذلك، فقبض عليه وأنفذه إلى مرو الروذ، وأتت عليه سنة في الاعتقال، ثم نفذ إليه غلامين فدخلا عليه وهو محموم، فقالا له: تب مما أنت عليه، ففعل، ودخل فودع أهله، وخرج إلى مسجد هناك فصلى ركعتين، وأراد الغلامان خنقه، فقال: لست بلص! وخرق خرقة من طرف كمه وعصب عينيه، فضربوه بالسيف، وكان قتله في ذي الحجة، ولف في قميص دبيقي من ملابس الخليفة، وخرقة كانت البردة التي عند الخلفاء فيها، وحملت جثته إلى كندر، فدفن عند أبيه، وكان عمره يوم قتل نيفاً وأربعين سنة. وكان سبب اتصاله بالسلطان طغرلبك أن السلطان لما ورد نيسابور طلب رجلاً يكتب له، ويكون فصيحاً بالعربية، فدل عليه الموفق، والد أبي سهل، وأعطته السعادة، وكان فصيحاً، فاضلاً، وانتشر من شعره ما قاله في غلام تركي صغير السن كان واقفاً على رأسه يقطع بالسكين قصبة، فقال عميد الملك فيه: أنا مشغول بحبه، ... وهو مشغول بلعبه لو أراد الله خيراً، ... وصلاحاً لمحبه نقلت رقة خدي ... ه إلى قسوة قلبه صانه الله فما أك ... ثر إعجابي بعجبه ومن شعره: إن كان بالناس ضيق عن مناقشتي، ... فالموت قد وسع الدنيا على الناس مضيت، والشامت المغبون يتبعني، ... كل لكأس المنايا شارب حاسي وقال أبو الحسن الباخرزي يخاطب ألب أرسلان عند قتل الكندري: وعمك أدناه، وأعلى محله، ... وبوأه من ملكه كنفاً رحبا قضى كل مولى منكما حق عبده ... فخوله الدنيا، وخولته العقبى وكان عميد الملك خصياً، قد خصاه طغرلبك لأنه أرسله يخطب عليه امرأة ليتزوجها فتزوجها هو، وعصى عليه، فظفر به وخصاه، وأقره على خدمته. وقيل بل أعداؤه أشاعوا عنه أنه تزوجها، فخصى نفسه ليخلص من سياسة السلطنة، فقال فيه علي بن الحسن الباخرزي: قالوا: محا السلطان عنه بعزة ... سمة الفحول، وكان قرماً صائلا قلت: اسكتوا، فالآن زاد فحولة ... لما اغتدى عن أنثييه عاطلا فالفحل يأنف أن يسمى بعضه ... أنثى، لذلك جذه مستأصلا يعني بالأنثى واحدة الأنثيين. وكان شديد التعصب على الشافعية، كثير الوقعة في الشافعي، رضي الله عنه، بلغ تعصبه أنه خاطب السلطان في لعن الرافضة على منابر خراسان، فأذن في ذلك، فأمر بلعنهم، وأضاف إليهم الأشعرية، فأنف من ذلك أئمة خراسان، منهم: الإمام أبو القاسم القشيري، والإمام أبو المعالي الجويني، وغيرهما، ففارقوا خراسان، وأقام إمام الحرمين بمكة أربع سنين إلى أن انقضت دولته، يدرس، ويفتي، فلهذا لقب إمام الحرمين، فلما جاءت الدولة النطامية أحضر من انتزح منهم وأكرمهم، وأحسن إليهم، وقيل إنه تاب من الوقيعة في الشافعي، فإن صح فقد أفلح، وإلا فعلى نفسها براقش تجني.
ومن العجب أن ذكره دفن بخوارزم لما خصي، ودمه مسفوح بمرو، وجسده مدفون بكندر، ورأسه ما عدا قحفه مدفون بنيسابور، ونقل قحفه إلى كرمان لأن نظام الملك كان هناك، فاعتبروا يا أولي الأبصار. ولما قرب للقتل قال للقاصد إليه: قل لنظام الملك: بئس ما عودت الأتراك قتل الوزراء، وأصحاب الديوان، ومن حفر قليباً وقع فيه. ولم يخلف عميد الملك غير بنت. ذكر ملك ألب أرسلان ختلان وهراة وصغانيانلما توفي طغرلبك وملك ألب أرسلان عصى عليه أمير ختلان بقلعته، ومنع الخراج، فقصده السلطان، فرأى الحصن منيعاً على شاهق، فأقام عليه وقاتله، فلم يصل منه إلى مراده. ففي بعض الأيام باشر ألب أرسلان القتال بنفسه، وترجل، وصعد في الجبل، فتبعه الخلق، وتقدموا عليه في الموقف، وألحوا في الزحف والقتال، وكان صاحب القلعة على شرفة من سورها يحرض الناس على القتال، فأتته نشابة من العسكر فقتلته، وتسلم ألب أرسلان القلعة وصارت في جملة ممالكه. وكان عمه فخر الملك بيغو بن ميكائيل في هراة، فعصى أيضاً عليه، وطمع في الملك لنفسه، فسار إليه ألب أرسلان في العساكر العظيمة، فحصره وضيق عليه، وأدام القتال ليلاً ونهاراً، فتسلم المدينة، وخرج عمه إليه، فأبقى عليه وأكرمه وأحسن صحبته. وسار من هناك إلى صغانيان، وأميرها اسمه موسى، وكان قد عصى عليه، فلما قاربه ألب أرسلان صعد موسى إلى قلعة على رأس جبل شاهق، ومعه من الرجال الكماة جماعة كثيرة، فوصل السلطان إليه، وباشر الحرب لوقته، فلم ينتصف النهار حتى صعد العسكر الجبل، وملكوا القلعة قهراً، وأخذ موسى أسيراً، فأمر بقتله، فبذل في نفسه أموالاً كثيرة، فقال السلطان: ليس هذا أوان تجارة، واستولى على تلك الولاية بأسرها، وعاد إلى مرو، ثم منها إلى نيسابور. ذكر عود ابنة الخليفة إلى بغداد والخطبة للسلطان ألب أرسلان ببغداد في هذه السنة أمر السلطان ألب أرسلان السيدة ابنة الخليفة بالعود إلى بغداد، وأعلمها أنه لم يقبض على عميد الملك إلا لما اعتمده من نقلها من بغداد إلى الري بغير رضاء الخليفة، وأمر الأمير ايتكين السليماني بالمسير في خدمتها إلى بغداد، والمقام بها شحنة، وأنفذ أبا سهل محمد بن هبة الله، المعروف بابن الموفق، للمسير في الصحبة، وأمره بالمخاطبة في إقامة الخطبة له، فمات في الطريق مجدراً. وهذا أبو سهل من رؤساء أصحاب الشافعي بنيسابور، وكان يحضر طعامه في رمضان، كل ليلة، أربع مائة متفقه، ويصلهم ليلة العيد بكسوة ودنانير تعمهم، فلما سمع بموته أرسل العميد أبا الفتح المظفر بن الحسين فمات أيضاً في الطريق، فألزم السلطان رئيس العراقين بالمسير، فوصلوا بغداد منتصف ربيع الآخر، وخرج عميد الدولة ابن الوزير فخر الدولة بن جهير لتلقيهم، واقترح السلطان أن يخاطب بالولد المؤيد، فأجيب إلى ذلك، ولقب ضياء الدين عضد الدولة. وجلس الخليفة جلوساً عاماً سابع جمادى الأولى، وشافه الرسل بتقليد ألب أرسلان للسلطنة، وسلمت الخلع بمشهد من الخلق، وأرسل إليه من الديوان لأخذ البيعة النقيب طراداً الزينبي، فوصلوا إليه وهو بنقجوان من أذربيجان، فلبس الخلع، وبايع للخليفة. ذكر الحرب بين ألب أرسلان وقتلمشسمع ألب أرسلان أن شهاب الدولة قتلمش، وهو من السلجوقية أيضاً، وهو جد الملوك أصحاب قونية، وقيصرية، وأقصرا، وملطية، يومنا هذا، قد عصى عليه، وجمع جموعاً كثيرة، وقصد الري ليستولي عليها، فجهز ألب أرسلان جيشاً عظيماً وسيرهم على المفازة إلى الري، فسبقوا قتلمش إليها. وسار ألب أرسلان من نيسابور أول المحرم من هذه السنة، فلما وصل إلى دامغان أرسل إلى قتلمش ينكر عليه فعله، وينهاه عن ارتكاب هذا الحال، ويأمره بتركها، فإنه يرعى له القرابة والرحم، فأجاب قتلمش جواب مغتر بمن معه من الجموع، ونهب قرى الري، وأجرى الماء على وادي الملح، وهي سبخة، فتعذر سلوكها، فقال نظام الملك: قد جعلت لك من خراسان جنداً ينصرونك ولا يخذلونك، ويرمون دونك بسهام لاتخطيء، وهم العلماء والزهاد، فقد جعلتهم بالإحسان إليهم من أعظم أعوانك. وقرب السلطان من قتلمش، فلبس الملك السلاح، وعبأ الكتائب، واصطف العسكران.
وكان قتلمش يعلم علم النجوم، فوقف ونظر، فرأى أن طالعه في ذلك اليوم قد قارنه نحوس لا يرى معها ظفراً، فقصد المحاجزة، وجعل السبخة بينه وبين ألب أرسلان ليمتنع من اللقاء. فسلك ألب أرسلان طريقاً في الماء، وخاض غمرته، وتبعه العسكر، فطلع منه سالماً هو وعسكره، فصاروا مع قتلمش واقتتلوا، فلم يثبت عسكر قتلمش لعسكر السلطان، وانهزموا لساعتهم، ومضى منهزماً إلى قلعة كردكوه، وهي من جملة حصونه ومعاقله، واستولى القتل والأسر على عسكره، فأراد السلطان قتل الأسرى، فشفع فيهم نظام الملك فعفا عنهم وأطلقهم. ولما سكن الغبار، ونزل العسكر، وجد قتلمش ميتاً ملقى على الأرض لا يدري كيف كان موته، قيل: إنه مات من الخوف، والله أعلم، فبكى السلطان لموته، وقعد لعزائه، وعظم عليه فقده، فسلاه نظام الملك، ودخل ألب أرسلان إلى مدينة الري آخر المحرم من السنة. ومن العجب أن قتلمش هذا كان يعلم علم النجوم، قد أتقنه، مع أنه تركي، ويعلم غيره من علوم القوم، ثم إن أولاده من بعده لم يزالوا يطلبون هذه العلوم الأولية، ويقربون أهلها، فنالهم بهذا غضاضة في دينهم، وسيرد من أخبارهم ما يعلم منه ذلك وغيره من أحوالهم. ذكر فتح ألب أرسلان مدينة آني وغيرها من بلاد النصرانية ثم سار السلطان من الري أول ربيع الأول، وسار إلى أذربيجان، فوصل إلى مرند عازماً على قتال الروم وغزوهم، فلما كان بمرند أتاه أمير من أمراء التركمان، كان يكثر غزو الروم، اسمه طغدكين، ومعه من عشيرته خلق كثيرر، قد ألفوا الجهاد، وعرفوا تلك البلاد، وحثه على قصد بلادهم، وضمن له سلوك الطريق المستقيم إليها، فسار معه، فسلك بالعساكر في مضايق تلك الأرض ومخارمها، فوصل إلى نقجوان، فأمر بعمل السفن لعبور نهر أرس، فقيل له إن سكان خويّ، وسلماس، من أذربيجان، لم يقوموا بواجب الطاعة، وإنهم قد امتنعوا ببلادهم، فسير إليهم عميد خراسان، ودعاهم إلى الطاعة، وتهددهم إن امتنعوا، فأطاعوا، وصاروا من جملة حزبه وجنده، واجتمع عليه هناك من الملوك والعساكر ما لا يحصى. فلما فرغ من جمع العساكر والسفن سار إلى بلاد الكرج، وجعل مكانه في عسكره ولده ملكشاه، ونظام الملك وزيره، فسار ملكشاه ونظام الملك إلى قلعة فيها جمع كثير من الروم، فنزل أهلها منها، وتخطفوا من العسكر، وقتلوا منهم فئة كثيرة، فنزل نظام الملك وملكشاه، وقاتلوا من بالقلعة، وزحفوا إليهم، فقتل أمير القلعة وملكها المسلمون، وساروا منها إلى قلعة سرماري، وهي قلعة فيها في المياه الجارية والبساتين، فقاتلوها وملكوها، وأنزلوا منها أهلها، وكان بالقرب منها قلعة أخرى، ففتحها ملكشاه، وأراد تخريبها، فنهاه نظام الملك عن ذلك، وقال: هي ثغر للمسلمين، وشحنها بالرجال والذخائر والأموال والسلاح، وسلم هذه القلاع إلى أمير نقجوان. وسار ملكشاه ونظام الملك إلى مدينة مريم نشين، وفيها كثير من الرهبان والقسيسين وملوك النصارى وعامتهم يتقربون إلى أهل هذه البلدة، وهي مدينة حصينة، سورها من الأحجار الكبار الصلبة، المشدودة بالرصاص والحديد، وعندها نهر كبير، فأعد نظام الملك لقتالها ما يحتاج إليه من السفن وغيرها، وقاتلها، وواصل قتالها ليلاً ونهاراً، وجعل العساكر عليها يقاتلون بالنوبة، فضجر الكفار، وأخذهم الإعياء والكلال، فوصل المسلمون إلى سورها، ونصبوا عليه السلاليم، وصعد إلى أعلاه، لأن المعاول كلت عن نقبه لقوة حجره. فلما رأى أهلها المسلمين على السور فت ذلك في أعضادهم، وسقط في أيديهم، ودخل ملكشاه البلد، ونظام الملك، وأحرقوا البيع، وخربوها، وقتلوا كثيراً من أهلها، وأسلم كثير فنجوا من القتل. واستدعى ألب أرسلان إليه ابنه، ونظام الملك، وفرح بما يسره الله من الفتح على يد ولده، وفتح ملكشاه في طريقه عدة من القلاع والحصون، وأسر من النصارى ما لا يحصون كثرة. وساروا إلى سبيذ شهر، فجرى بين أهلها وبين المسلمين حروب شديدة استشهد فيها كثير من المسلمين، ثم إن الله تعالى يسر فتحها فملكها ألب أرسلان.
وسار منها إلى مدينة أعآل لآل، وهي حصينة، عالية الأسوار، شاهقة البنيان، وهي من جهة الشرق والغرب على جبل عال، وعلى الجبل عدة من الحصون، ومن الجانبين الآخرين نهر كبير لا يخاض، فلما رآها المسلمون علموا عجزهم عن فتحها والاستيلاء عليها، وكان ملكها من الكرج، وهكذا ما تقدم من البلاد التي ذكرنا فتحها، وعقد السلطان جسراً على النهر عريضاً، واشتد القتال، وعظم الخطب، فخرج من المدينة رجلان يستغيثان، ويطلبان الأمان، والتمسا من السلطان أن يرسل معهما طائفة من العسكر، فسير جمعاً صالحاً، فلما جاوزوا الفصيل أحاط بهم الكرج من أهل المدينة وقاتلوهم فأكثروا القتل فيهم، ولم يتمكن المسلمون من الهزيمة لضيق المسلك. وخرج الكرج من البلد وقصدوا العسكر، واشتد القتال، وكان السلطان، ذلك الوقت، يصلي، فأتاه الصريخ، فلم يبرح حتى فرغ من صلاته، وركب، وتقدم إلى الكفار، فقاتلهم، وكبر المسلمون عليهم، فولوا منهزمين، فدخلوا البلد والمسلمون معهم، ودخلها السلطان وملكها، واعتصم جماعة من أهلها في برج من أبراج المدينة، فقاتلهم المسلمون، فأمر السلطان بإلقاء الحطب حول البرج وإحراقه، ففعل ذلك، وأحرق البرج ومن فيه، وعاد السلطان إلى خيامه، وغنم المسلمون من المدينة ما لايحد ولا يحصى. ولما جن الليل عصفت ريح شديدة، وكان قد بقي من تلك النار التي أحرق بها البرج بقية كثيرة، فأطارتها الريح، فاحترقت المدينة بأسرها، وذلك في رجب سنة ست وخمسين، وملك السلطان قلعة حصينة كانت إلى جانب تلك المدينة، وأخذها، وسار منها إلى ناحية قرس، ومدينة آني وبالقرب منها ناحيتان يقال لهما سيل ورده، ونورة، فخرج أهلهما مذعنين بالإسلام، وخربوا البيع، وبنوا المساجد. وسار منها إلى مدينة آني فوصل إليها فرآها مدينة حصينة، شديدة الامتناع، لا ترام، ثلاثة أرباعها على نهر أرس، والربع الآخر نهر عميق شديد الجرية، لو طرحت فيه الحجارة الكبار لدحاها وحملها، والطريق إليها على خندق عليه سور من الحجارة الصم، وهي بلدة كبيرة، عامرة، كثيرة الأهل، فيها ام يزيد على خمسمائة بيعة، فحصرها وضيق عليها، إلا أن المسلمين قد أيسوا من فتحها لما رأوا من حصانتها، فعمل السلطان برجاً من خشب، وشحنه بالمقاتلة، ونصب عليه المنجنيق، ورماه النشاب، فكشفوا الروم عن السور، وتقدم المسلمون إليه لينقبوه، فأتاهم من لطف الله ما لم يكن في حسابهم، فانهدم قطعة كبيرة من السور بغير سبب، فدخلوا المدينة وقتلوا من أهلها ما لا يحصى بحيث أن كثيراً من المسلمين عجزوا عن دخول البلد من كثرة القتلى، وأسروا نحواً مما قتلوا. وسارت البشرى بهذه الفتوح في البلاد، فسر المسلمون، وقريء كتاب الفتح ببغداد في دار الخلافة، فبرز خط الخليفة بالثناء على ألب أرسلان والدعاء له. ورتب فيها أميراً في عسكر جرار، وعاد عنها، وقد أرسله ملك الكرج في الهدنة، فصالحه على أداء الجزية كل سنة، فقبل ذلك. ولما رحل السلطان عائداً قصد أصبهان، ثم سار منها إلى كرمان، فاستقبله أخوه قاروت بك بن جغري بك داود، ثم سار منها إلى مرو، فزوج ابنه ملكشاه بابنة خاقان، ملك ما وراء النهر، وزفت إليه في هذا الوقت، وزوج ابنه أرسلانشاه بابنة صاحب غزنة، واتحد البيتان: البيت السلجوقي، والبيت المحمودي، واتفقت الكلمة. ؟؟ | |
|
| |
الشيخ عودة الشيخ عودة
عدد المساهمات : 1748 تاريخ التسجيل : 28/09/2008 العمر : 74
| موضوع: رد: كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير الإثنين فبراير 24, 2014 6:39 pm | |
| ذكر عدة حوادث في هذه السنة، في ربيع الأول، ظهر بالعراق وخوزستان وكثير من البلاد جماعة من الأكراد، خرجوا يتصيدون، فرأوا في البرية خيماً سوداً، وسمعوا منها لطماً شديداً، وعويلاً كثيراً، وقائلاً يقول: قد مات سيدوك ملك الجن، وأي بلد لم يلطم أهله عليه ويعملوا له العزاء قلع أصله، وأهلك أهله، فخرج كثير من النساء في البلاد إلى المقابر يلطمن، وينحن، وينشرن شعورهن، وخرج رجال من سفلة الناس يفعلون ذلك، وكان ذلك ضحكة عظيمة. ولقد جرى في أيامنا نحن في الموصل، وما والاها من البلاد إلى العراق، وغيرها، نحو هذا، وذلك أن الناس سنة ستمائة أصابهم وجع كثير في حلوقهم، ومات منه كثير من الناس، فظهر أن امرأة من الجن يقال لها أم عنقود، مات ابنها عنقود، وكل من لا يعمل له مأتماً أصابه هذا المرض، فكثر فعل ذلك، وكانوا يقولون: يا أم عنقود اعذرينا. قد مات عنقود ما درينا، وكان النساء يلطمن، وكذلك الأوباش.
وفيها ولي أبو الغنائم المعمر بن محمد بن عبيد الله العلوي نابة العلويين ببغداد، وإمارة الموسم، ولقب بالطاهر ذي المناقب، وكان المرتضى أبو الفتح أسامة قد استعفى من النقابة، وصاهر بني خفاجة، وانتقل معهم إلى البرية، وتوفي أسامة بمشهد أمير المؤمنين علي، عليه السلام، في رجب سنة اثنتين وسبعين. وفيها في جمادى الآخرة توفي أبو القاسم عبد الواحد بن علي بن برهان الأسدي النحوي المتكلم، وكان له اختيار في الفقه، وكان عالماً بالنسب، ويمشي في الأسواق مكشوف الرأس، ولم يقبل من أحد شيئاً، وكان موته في جمادى الآخرة، وقد جاوز ثمانين سنة، وكان يميل إلى مذهب مرجئة المعتزلة، ويعتقد أن الكفار لا يخلدون في النار. وفيها انقض كوكب عظيم، وكثر نوره فصار أكثر من نور القمر، وسمع له دوي عظيم، ثم غاب. ثم دخلت سنة سبع وخمسين وأربعمائة؟؟ ذكر الحرب بين بني حماد والعرب في هذه السنة كانت حرب بين الناصر بن علناس بن حماد ومن معه من رجال المغاربة من صنهاجة ومن زناتة ومن العرب: عدي والأثبج، وبين رياح، وزغبة، وسليم، ومع هؤلاء المعز بن زيري الزناتي، على مدينة سبتة. وكان سببها أن حماد بن بلكين جد الناصر كان بينه وبين باديس بن المنصور من الخلف، وموت باديس محاصراً قلعة حماد، ما هو مذكور، ولولا تلك القلعة لأخذ سريعاً، وإنما امتنع هو وأولاده بها بعده، وهي من أمنع الحصون، وكذلك ما استمر بين حماد والمعز بن باديس، ودخول حماد في طاعته ما تقدم ذكره، وكذلك أيضاً ما كان بين القائد بن حماد وبين المعز، وكان القائد يضمر الغدر وخلع طاعة المعز، والعجز يمنعه من ذلك، فلما رأى القائد قوة العرب، وما نال المعز منهم، خلع الطاعة، واستبد بالبلاد، وبعده ولده محسن، وبعده ابن عمه بلكين بن محمد بن حماد، وبعده ابن عمه الناصر بن علناس بن محمد بن حماد، وكل منهم متحصن بالقلعة، وقد جعلوها دار ملكهم. فلما رحل المعز من القيروان وصبرة إلى المهدية تمكنت العرب، ونهبت الناس، وخربت البلاد، فانتقل كثير من أهلها إلى بلاد بني حماد لكونها جبالاً وعرة يمكن الامتناع بها من العرب، فعمرت بلادهم، وكثرت أموالهم، وفي نفوسهم الضغائن والحقود من باديس، ومن بعده من أولادهم، يرثه صغير عن كبير. وولي تميم بن المعز بعد أبيه، فاستبد كل من هو ببلد وقلعة بمكانه وتميم صابر يداري ويتجلد. واتصل بتميم أن الناصر بن علناس يقع فيه في مجلسه ويذمه، وأنه عزم على المسير إليه ليحاصره بالمهدية. وأنه قد حالف بعض صنهاجة، وزناتة، وبني هلال ليعينوه على حصار المهدية. فلما صح ذلك عند أرسل إلى أمراء بني رياح، فأحضرهم إليه وقال: أنتم تعلمون أن المهدية حصن منيع، أكثره في البحر، لا يقاتل منه في البر غير أربعة أبراج يحميها أربعون رجلاً، وإنما جمع الناصر هذه العساكر إليكم. فقالوا له: الذي تقول حق، ونحب منك المعونة، فأعطاهم المال، والسلاح من الرماح والسيوف والدروع والدرق، فجمعوا قومهم، وتحالفوا، واتفقوا على لقاء الناصر. وأرسلوا إلى من مع الناصر من بني هلال يقبحون عندهم مساعدتهم للناصر ويخوفونهم منه إن قوي، وأنه يهلكهم بمن معه من زناتة وصنهاجة، وأنهم إنما يستمر لهم المقام، والاستيلاء على البلاد، إذا تم الخلف وضعف السلطان. فأجابهم بنو هلال إلى الموافقة، وقالوا: اجعلوا أول حملة تحملونها علينا، فنحن ننهزم بالناس، ونعود عليهم، ويكون لنا ثلث الغنيمة. فأجابوهم إلى ذلك، واستقر الأمر.
وأرسل المعز بن زيري الزناتي إلى من مع الناصر من زناتة بنحو ذلك، فوعدوه أيضاً أن ينهزموا، فحينئذ رحلت رياح وزناتة جميعها، وسار إليهم الناصر بصنهاجة، وزناتة، وبني هلال، فالتقت العساكر بمدينة سبتة، فحملت رياح على بني هلال، وحمل المعز على زناتة، فانهزمت الطائفتان، وتبعهم عساكر الناصر منهزمين، ووقع فيهم القتل، فقتل فيمن قتل القاسم بن علناس، أخو الناصر في نفر يسير، وغنمت العرب جميع ما كان في العسكر من مال وسلاح ودواب وغير ذلك، فاقتسموها على ما استقر بينهم، وبهذه الوقعة تم للعرب ملك البلاد، فإنهم قدموها في ضيق وفقر وقلة دواب فاستغنوا، وكثرت دوابهم وسلاحهم، وقل المحامي عن البلاد، وأرسلوا الألوية والطبول وخيم الناصر بدوابها إلى تميم، فردها وقال: يقبح بي أن آخذ سلب ابن عمي! فأرضى العرب بذلك. ذكر بناء مدينة بجايةلما كانت هذه الوقعة بين بني حماد والعرب، وقويت العرب، اهتم تميم بن المعز لذلك، وأصابه حزن شديد، فبلغ ذلك الناصر، وكان له وزير اسمه أبو بكر بن أبي الفتوح، وكان رجلاً جيداً يحب الاتفاق بينهم، ويهوي دولة تميم، فقال للناصر: ألم أشر عليك أن لا تقصد ابن عمك، وأن تتفقا على العرب، فإنكما لو اتفقتما لأخرجتما العرب. فقال الناصر: لقد صدقت، ولكن لا مرد لما قدر، فأصلح ذات بيننا. فأرسل الوزير رسولاً من عنده إلى تميم يعتذر، ويرغب في الإصلاح، فقبل تميم قوله، وأراد أن يرسل رسولاً إلى الناصر، فاستشار أصحابه، فاجتمع رأيهم على محمد بن البعبع، وقالوا له: هذا رجل غريب، وقد أحسنت إليه، وحصل له منك الأموال والأملاك. فأحضره، وأعطاه مالاً ودواب وعبيداً وأرسله، فسار مع الرسول حتى وصل إلى بجاية، وكانت حينئذ منزلاً فيه رعية من البربر، فنظر إليها محمد بن البعبع، وقال في نفسه: إن هذا المكان يصلح أن يكون به مرسى ومدينة، وسار حتى وصل إلى الناصر، فلما أوصل الكتاب وأدى الرسالة قال للناصر: معي وصية إليك، وأحب أن تخلي المجلس، فقال الناصر: أنا لا أخفي عن وزيري شيئاً. فقال: بهذا أمرني الأمير تميم، فقام الوزير أبو بكر وانصرف، فلما خرج قال الرسول: يا مولاي إن الوزير مخامر عليك، هواه مع الأمير تميم، لا يخفي عنه من أمورك شيئاً، وتميم مشغول مع عبيده قد استبد بهم، واطرح صنهاجة وغير هؤلاء، ولو وصلت بعسكرك ما بت إلا فيها لبغض الجند والرعية لتميم، وأنا أشير عليك بما تملك به المهدية وغيرها. وذكر له عمارة بجاية، وأشار عليه أن يتخذها دار ملك، ويقرب من بلاد إفريقية، وقال له: أنا أنتقل إليك بأهلي، وأدبر دولتك، فأجابه الناصر إلى ذلك، وارتاب بوزيره، وسار مع الرسول إلى بجاية، وترك الوزير بالقلعة. فلما وصل الناصر والرسول إلى بجاية أراه موضع الميناء والبلد والدار السلطانية، وغير ذلك، فأمر الناصر من ساعته بالبناء والعمل، وسر بذلك، وشكره، وعاهده على وزارته إذا عاد إليه، ورجعا إلى القلعة، فقال الناصر لوزيره: إن هذا الرسول محب لنا، وقد أشار ببناء بجاية، ويريد الانتقال إلينا، فاكتب له جواب كتبه، ففعل. وسار الرسول، وقد ارتاب به تميم، حيث تجدد بناء بجاية عقيب مسيره إليهم، وحضوره مع الناصر فيها، وكان الرسول قد طلب من الناصر أن يرسل معه بعض ثقاته ليشاهد الأخبار ويعود بها، فأرسل معه رسولاً يثق به، فكتب معه: إنني لما اجتمعت بتميم لم يسألني عن شيء قبل سؤاله عن بناء بجاية، وقد عظم أمرها عليه، واتهمني، فانظر إلى من تثق به من العرب ترسلهم إلى موضع كذا، فإني سائر إليهم مسرعاً، وقد أخذت عهود زويلة وغيرها على طاعتك. وسير الكتاب، فلما قرأه الناصر سلمه إلى الوزير، فاستحسن الوزير ذلك، وشكره وأثنى عليه، وقال: لقد نصح وبالغ في الخدمة، فلا تؤخر عنه إنفاذ العرب ليحضر معهم.
ومضى الوزير إلى داره، وكتب نسخة الكتاب، وأرسل الكتاب بخط الرسول إلى تميم، وكتاباً منه يذكر له الحال من أوله إلى آخره. فلما وقف تميم على الكتاب عجب من ذلك، وبقي يتوقع له سبباً يأخذه به، إلا أنه جعل عليه من يحرسه في الليل والنهار من حيث لا يشعر، فأتى بعض أولئك الحرس إلى تميم، وأخبره أن الرسول صنع طعاماً، وأحضر عنده الشريف الفهري، وكان هذا الشريف من رجال تميم وخواصه، فأحضره تميم، فقال: كنت واصلاً إليك، وحدثه أن ابن البعبع الرسول دعاني، فلما حضرت عنده قال: أنا في ذمامك، أحب أن تعرفني مع من أخرج من المهدية، فمنعته من ذلك وهو خائف، فأوقفه تميم على الكتاب الذي بخطه، وأمره بإحضاره، فأحضره الشريف. فلما وصل إلى باب السلطان لقيه رجل بكتاب العرب الذين سيرهم الناصر، ومعهم كتاب الناصر إليه يأمره بالحضور عنده، فأخذ الكتاب وخرج الأمير تميم، فلما رآه ابن البعبع سقطت الكتب منه، فإذا عنوان أحدها: من الناصر بن علناس إلى فلان، فقال له تميم: من أين هذه الكتب؟ فسكت، فأخذها وقرأها، فقال الرسول ابن البعبع: العفو يا مولانا! فقال: لا عفا الله عنك! وأمر به فقتل وغرقت جثته. ذكر ملك ألب أرسلان جند وصيرانفي هذه السنة عبر ألب أرسلان جيحون، وسار إلى جند وصيران، وهما عند بخارى، وقبر جده سلجوق بجند، فلما عبر النهر استقبله ملك جند وأطاعه، وأهدى له هدايا جليلة، فلم يغير ألب أرسلان عليه شيئاً، وأقره على ما بيده، وعاد عنه بعد أن أحسن إليه وأكرمه، ووصل إلى كركانج خوارزم، وسار منها إلى مرو. ذكر عدة حوادثفي هذه السنة ابتديء بعمارة المدرسة النظامية ببغداد. وفيها انقض كوكب عظيم، وصار له شعاع كثير أكثر من شعاع القمر، وسمع له صوت مفزع. وفيها توفي محمد بن أحمد أبو الحسين بن الآبنوسي، روى عن الدارقطني وغيره. ثم دخلت سنة ثمان وخمسين وأربعمائة ذكر عهد ألب أرسلان بالسلطنة لابنه في هذه السنة سار ألب أرسلان من مرو إلى رايكان، فنزل بظاهرها، ومعه جماعة أمراء دولته، فأخذ عليهم العهود والمواثيق لولده ملكشاه بأنه السلطان بعده، وأركبه، ومشى بين يديه يحمل الغاشية. وخلع السلطان على جميع الأمراء، وأمرهم بالخطبة له في جميع البلاد التي يحكم عليها، ففعل ذلك، وأقطع البلاد، فأقطع مازندران للأمير إينانج بيغو، وبلخ لأخيه سليمان بن دواد جغري بك، وخوارزم لأخيه أرسلان أرغو، ومرو لابنه الآخر أرسلان شاه، وصغانيان وطخارستان لأخيه إلياس، وولاية بغشور ونواحيها لمسعود بن أرتاش، وهو من أقارب السلطان، وولاية أسفرار لمودود بن أرتاش. ذكر استيلاء تميم على مدينة تونسفي هذه السنة سير تميم، صاحب إفريقية، عسكراً كثيفاً إلى مدينة تونس، وبها أحمد بن خراسان قد أظهر عليه الخلاف. وسبب ذلك أن المعز بن باديس، أبا تميم، لما فارق القيروان والمنصورية ورحل إلى المهدية، على ما ذكرناه، استخلف على القيروان وعلى قابس قائد بن ميمون الصنهاجي، وأقام بها ثلاث سنين، ثم غلبته هوارة عليها، فسلمها إليهم وخرج إلى المهدية، فلما ولي الملك تميم بن المعز بعد أبيه رده إليها، وأقام عليها إلى الآن، ثم أظهر الخلاف على تميم والتجأ إلى طاعة الناصر بن علناس بن حماد، فسير إليه تميم الآن عسكراً كثيراً، فلما سمع بهم قائد بن ميمون علم أنه لاطاقة له بهم، فترك القيروان وسار إلى الناصر، فدخل عسكر تميم القيروان، وخربوا دور القائد، وسار العسكر إلى قابس، وبها ابن خراسان، فحصروه بها سنة وشهرين، ثم أطاع ابن خراسان تميماً وصالحه. وأما قائد فإنه أقام عند الناصر، ثم أرسل إلى أمراء العرب، فاشترى منهم إمارة القيراون، فأجابوه إلى ذلك، فعاد إليها فبنى سورها وحصنها. ذكر ملك شرف الدولة الأنبار وهيت وغيرهما في هذه السنة سار شرف الدولة مسلم بن قريش بن بدران، صاحب الموصل، إلى السلطان ألب أرسلان، فأقطعه الأنبار، وهيت، وحربى، والسن، والبوازيج، ووصل إلى بغداد، فخرج الوزير فخر الدولة بن جهير في الموكب، فلقيه: ونزل شرف الدولة بالحريم الطاهري، وخلع عليه الخليفة. ذكر عدة حوادث
في العشر الأول من جمادى الأولى ظهر كوكب كبير، له ذؤابة طويلة، بناحية المشرق، عرضها نحو ثلاث أذرع، وهي ممتدة إلى وسط السماء، وبقي إلى السابع والعشرين من الشهر وغاب، ثم ظهر أيضاً آخر الشهر المذكور، عند غروب الشمس، كوكب قد استدار نوره عليه كالقمر، فارتاع الناس وانزعجوا، ولما أظلم الليل صار له ذوائب نحو الجنوب، وبقي عشرة أيام ثم اضمحل. وفيها، في جمادى الآخرة، كانت بخراسان والجبال زلزلة عظيمة، بقيت تتردد أياماً، تصدعت منها الجبال، وأهلكت خلقاً كثيراً، وانخسف منها عدة قرى، وخرج الناس إلى الصحراء فأقاموا هناك. وفيها، في جمادى الأولى، وقع حريق بنهر معلى، فاحترق من باب الجريد إلى آخر السوق الجديد من الجانبين. وفيها ولدت صبية بباب الأزج ولداً برأسين، ورقبتين، ووجهين، وأربع أيد، على بدن واحد. وفي جمادى الآخرة توفي الإمام أبو بكر أحمد بن الحسين بن علي البيهقي، ومولده سنة سبع وثمانين وثلاثمائة، وكان إماماً في الحديث والفقه على مذهب الشافعي، وله فيه مصنفات أحدها السنن الكبير، وعشرة مجلدات، وغيره من التصانيف الحسنة، وكان عفيفاً، زاهداً، ومات بنيسابور. وفي شهر رمضان منها توفي أبو يعلى محمد بن الحسين بن الفراء الحنبلي، ومولده سنة ثمانين وثلاثمائة، وعنه انتشر مذهب أحمد، رضي الله عنه، وكان إليه قضاء الحريم ببغداد بدار الخلافة، وهو مصنف كتاب الصفات أتى فيه بكل عجيبة، وترتيب أبوابه يدل على التجسيم المحض، تعالى الله عن ذلك، وكان ابن تميمي الحنبلي يقول: لقد خريء أبو يعلى الفراء على الحنابلة خرية لا يغسلها الماء. ثم دخلت سنة تسع وخمسين وأربعمائة ذكر عصيان ملك كرمان على أرسلان وعوده إلى طاعته في هذه السنة عصى ملك كرمان، وهو قرا أرسلان، على السلطان ألب أرسلان. وسبب ذلك أنه كان له وزير جاهل سولت له نفسه الاستبداد بالبلاد عن السلطان، وأن صاحبه، إذا عصى، احتاج إلى التمسك به، فحسن لصاحبه الخلاف على السلطان، فأجاب إلى ذلك، وخلع الطاعة، وقطع الخطبة. فسمع ألب أرسلان، فسار إلى كرمان، فلما قاربها وقعت طليعته على طليعة قرا أرسلان، فانهزمت طليعة قرا أرسلان بعد قتال، فلما سمع قرا أرسلان وعسكره بانهزام طليعتهم، خافوا وتحيروا، فانهزموا لا يلوي أحد على آخر، فدخل قرا أرسلان إلى جيرفت وامتنع بها، وأرسل إلى السلطان ألب أرسلان يظهر الطاعة ويسأل العفو عن زلته، فعفا عنه، وحضر عند السلطان فأكرمه، وبكى وأبكى من عنده، فأعاده إلى مملكته، ولم يغير عليه شيئاً من حاله، فقال للسلطان: إن لي بنات تجهيزهن إليك، وأمورهن إليك، فأجابه إلى ذلك، وأعطى كل واحدة منهن مائة ألف دينار سوى الثياب والإقطاعات. ثم سار منها إلى فارس فوصل إلى إصطخر، وفتح قلعتها، واستنزل واليها، فحمل إليه الوالي هدايا عظيمة جليلة المقدار، من جملتها قدح فيروزج، فيه منوان من المسك، مكتوب عليه اسم جمشيد الملك، وأطاعه جميع حصون فارس، وبقي قلعة يقال لها بهنزاد، فسار نظام الملك إليها، وحصرها تحت جبلها، وأعطى كل من رمى بسهم وأصاب قبضة من الدنانير، ومن رمى حجراً ثوباً نفيساً، ففتح القلعة في اليوم السادس عشر من نزوله، ووصل السلطان إليه بعد الفتح، فعظم محل نظام الملك عنده، فأعلى منزلته، وزاد في تحكيمه. ذكر عدة حوادثفي المحرم منها توفي الأغر أبو سعد، ضامن البصرة، على باب السلطان بالري، وعقدت البصرة وواسط على هزراسب بثلاثمائة ألف دينار. وفي صفر منها وصل إلى بغداد شرف الملك أبو سعد المستوفي، وبنى على مشهد أبي حنيفة، رضي الله عنه، مدرسة لأصحابه، وكتب الشريف أبو جعفر بن البياضي على القبة التي أحدثها: ألم تر أن العلم كان مشتتاً، ... فجمعه هذا المغيب في اللحد كذلك كانت هذه الأرض ميتةً، ... فأنشرها فضل العميد أبي سعد وفيها، في جمادى الأولى، وصلت أرسلان خاتون، أخت السلطان ألب أرسلان، وهي زوجة الخليفة، إلى بغداد، واستقبلها فخر الدولة بن جهير الوزير على فراسخ.
وفيها، في ذي القعدة، احترقت تربة معروف الكرخي، رحمة الله عليه، وسبب حريقها أن قيمها كان مريضاً، فطبخ لنفسه ماء الشعير، فاتصلت النار بخشب وبواري كانت هناك، فأحرقته واتصل الحريق، فأمر الخليفة أبا سعد الصوفي، شيخ الشيوخ، بعمارتها. وفيها، في ذي القعدة، فرغت عمارة المدرسة النظامية، وتقرر التدريس بها للشيخ أبي إسحاق الشيرازي، فلما اجتمع الناس لحضور الدرس، وانتظروا مجيئه، تأخر، فطلب، فلم يوجد. وكان سبب تأخره أنه لقيه صبي، فقال له: كيف تدرس في مكان مغصوب؟ فتغيرت نيته عن التدريس بها، فلما ارتفع النهار، وأيس الناس من حضوره، أشار الشيخ أبو منصور بن يوسف بأبي نصر بن الصباغ، صاحب كتاب الشامل، وقال: لا يجوز أن ينفصل هذا الجمع إلا عن مدرس، ولم يبق ببغداد من لم يحضر غير الوزير، فجلسس أبو نصر للدرس، وظهر الشيخ أبو إسحاق بعد ذلك، ولما بلغ نظام الملك الخبر أقام القيامة على العميد أبي سعد، ولم يزل يرفق بالشيخ أبي إسحاق حتى درس بالمدرسة، وكانت مدة تدريس ابن الصباغ عشرين يوماً. وفيها، في ذي القعدة، قتل الصليحي، أمير اليمن، بمدينة المهجم، قتله أحد أمرائها وأقيمت الدعوة العباسية هناك، وكان قد ملك مكة، على ما ذكرناه سنة خمس وخمسين، وأمن الحجاج في أيامه، فأثنوا عليه خيراً، وكسا البيت بالحرير الأبيض الصيني، ورد حلى البيت إليه، وكان بنو حسن قد أخذوه وحملوه إلى اليمن، فابتاعه الصليحي منهم. وفيها توفي عمر بن إسماعيل بن محمد أبو علي الطوسي، قاضيها، وكان يلقب العراقي لطول مقامه ببغداد، وتفقه على أبي طاهر الأسفراييني الشافعي، وأبي محمد الشاشي وغيرهما. ثم دخلت سنة ستين وأربعمائة ذكر عدة حوادث في هذه السنة كانت حرب بين شرف الدولة بن قريش وبين كلاب بالرحبة، وهم في طاعة العلوي المصري، فكسرهم شرف الدولة، وأخذ أسلابهم، وأرسل أعلاماً كانت معهم، عليها سمات المصري، إلى بغداد، وكسرت، وطيف بها في البلد، وأرسلت الخلع إلى شرف الدولة. وفيها، في جمادى الأولى، كانت بفلسطين ومصر زلزلة شديدة خربت الرملة، وطلع الماء من رؤوس الآبار، وهلك من أهلها خمسة وعشرون ألف نسمة، وانشقت الصخرة بالبيت المقدس، وعادت بإذن الله تعالى، وعاد البحر من الساحل مسيرة يوم، فنزل الناس إلى أرضه يلتقطون منه، فرجع الماء عليهم فأهلك منهم خلقاً كثيراً. وفيها، في رجب، ورد أبو العباس الخوافي بغداد عميداً من جهة السلطان. وفيها عزل فخر الدولة بن جهير من وزارة الخليفة، فخرج من بغداد إلى نور الدولة دبيس بن مزيد بالفلوجة، وأرسل الخليفة إلى أبي يعلى والد الوزير أبي شجاع يستحضره ليوليه الوزارة، وكان يكتب لهزارسب بن بنكير، فسار، فأدركه أجله في الطريق فمات، ثم شفع نور الدولة في فخر الدولة بن جهير، فأعيد إلى الوزارة سنة إحدى وستين في صفر. وفيها كان بمصر غلاء شديد، وانقضت سنة إحدى وستين وأربعمائة. وفيها حاصر الناصر بن علناس مدينة الأربس بإفريقية ففتحها وأمن أهلها. وفيها، في المحرم، توفي الشيخ أبو منصور بن عبد الملك بن يوسف، ورثاه ابن الفضل وغيره من الشعراء، وعم مصابه المسلمين، وكان من أعيان الزمان، فمن أفعاله أنه تسلم المارستان العضدي، وكان قد دثر واستولى عليه الخراب، فجد في عمارته، وجعل فيه ثمانية وعشرين طبيباً، وثلاثة من الخزان، إلى غير ذلك، واشترى له الأملاك النفيسة، بعد أن كان ليس به طبيب ولا دواء، وكان كثير المعروف والصلات والخير، ولم يكن يلقب في زمانه أحد بالشيخ الأجل سواه. وفي المحرم أيضاً توفي أبو جعفر الطوسي، فقيه الإمامية، بمشهد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، عليه السلام. ثم دخلت سنة إحدى وستين وأربعمائة ذكر عدة حوادث في هذه السنة، في صفر، أعيد فخر الدولة بن جهير إلى وزارة الخليفة، على ما ذكرناه، فلما عاد مدحه ابن الفضل فقال: قد رجع الحق إلى نصابه، ... وأنت من كل الورى أولى به ما كنت إلا السيف سلته يد، ... ثم أعادته إلى قرابه وهي طويلة.
وفي شعبان احترق جامع دمشق. وكان سبب احتراقه أنه وقع بدمشق حرب بين المغاربة أصحاب المصريين والمشارقة، فضربوا داراً مجاورة للجامع بالنار، فاحترقت، واتصلت بالجامع، وكانت العامة تعين المغاربة، فتركوا القتال واشتغلوا بإطفاء النار من الجامع، فعظم الخطب واشتد الأمر، وأتى الحريق على الجامع، فدثرت محاسنه، وزال ما كان فيه من الأعمال النفيسة. ثم دخلت سنة اثنتين وستين وأربعمائة ذكر عدة حوادث في هذه السنة أقبل ملك الروم من القسطنطينية في عسكر كثيف إلى الشام، ونزل على مدينة منبج ونهبها وقتل أهلها، وهزم محمود بن صالح بن مرداس، وبني كلاب، وابن حسان الطائي، ومن معهما من جموع العرب، ثم إن ملك الروم ارتحل وعاد إلى بلاده، ولم يمكنه المقام لشدة الجوع. وفيها سار أمير الجيوش بدر من مصر في عساكر كثيرة إلى مدينة صور وحصرها، وكان قد تغلب عليها القاضي عين الدولة بن أبي عقيل، فلما حصره أرسل القاضي إلى الأمير قرلوا، مقدم الأتراك المقيمين بالشام، يستنجده، فسار في اثني عشر ألف فارس، فحصر مدينة صيدا، وهي لأمير الجيوش بدر، فرحل حينئذ بدر، فعاد الأتراك، فعاود بدر حصر صور براً وبحراً سنة، وضيق على أهلها حتى أكلوا الخبز كل رطل بنصف دينار، ولم يبلغ غرضه فرحل عنها. وفيها صارت دار ضرب الدنانير ببغداد في يد وكلاء الخليفة، وسبب ذلك أن البهرج كثر في أيدي الناس على السكك السلطانية، وضرب اسم ولي العهد على الدينار، وسمي الأميري، ومنع من التعامل بسواه. وفيها ورد رسول صاحب مكة محمد بن أبي هاشم، ومعه ولده، إلى السلطان ألب أرسلان، يخبره بإقامة الخطبة للخليفة القائم بأمر الله وللسلطان بمكة، وإسقاط خطبة العلوي، صاحب مصر، وترك الأذان بحي على خير العمل، فأعطاه السلطان ثلاثين ألف دينار، وخلعاً نفيسة، وأجرى له كل سنة عشرة آلاف دينار، وقال: إذا فعل أمير المدينة مهنأ كذلك، أعطيناه عشرين ألف دينار، وكل سنة خمسة آلاف دينار. وفيها تزوج عميد الدولة بن جهير بابنة نظام الملك بالري وعاد إلى بغداد. وفيها، في شهر رمضان، توفي تاج الملوك هزراسب بن بنكير بن عياض بأصبهان وهو عائد من عند السلطان إلى خوزستان، وكان قد علا أمره، وتزوج بأخت السلطان، وبغى على نور الدولة دبيس بن مزيد، وأغرى السلطان به ليأخذ بلاده، فلما مات سار دبيس إلى السلطان، ومعه شرف الدولة مسلم، صاحب الموصل، فخرج نظام الملك فلقيهما، وتزوج شرف الدولة بأخت السلطان التي كانت امرأة هزارسب، وعادا إلى بلادهما من همذان. وفيها كان بمصر غلاء شديد، ومجاعة عظيمة، حتى أكل الناس بعضهم بعضاً، وفارقوا الديار المصرية، فورد بغداد منهم خلق كثير هرباً من الجوع، وورد التجار، ومعهم ثياب صاحب مصر وآلاته، نهبت من الجوع، وكان فيها أشياء كثيرة نهبت من دار الخلافة وقت القبض على الطائع لله سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة، ومما نهب أيضاً في فتنة البساسيري وخرج من خزائنهم ثمانون ألف قطعة بلور كبار، وخمسة وسبعون ألف قطعة من الديباج القديم، وأحد عشر ألف كزاغند، وعشرون ألف سيف محلى، وقال ابن الفضل يمدح القائم بأمر الله، ويذكر الحال بقصيدة فيها: قد علم المصري أن جنوده ... سنو يوسف منها، وطاعون عمواس أقامت به حتى استراب بنفسه، ... وأوجس منه خيفة أي إيجاس في أبيات. وفيها توفي أبو الجوائز الحسن بن علي بن محمد الواسطي، كان أديباً، شاعراً، حسن القول، فمن قوله: واحسرتي من قولها: ... خان عهودي ولها وحق من صيرني ... وقفاً عليها ولها ما خطرت بخاطري، ... إلا كستني ولها وتوفي محمد بن أحمد أبو غالب بن بشران الواسطي الأديب، وانتهت الرحلة إليه في الأدب، وله شعر، فمنه في الزهد: يا شائداً للقصور كهلاً ... أقصر، فقصر الفتى الممات لم يجتمع شمل أهل قصر، ... إلا قصاراهم الشتات وإنما العيش مثل ظل، ... منتقل ما له ثبات وفيها توفي القاضي أبو الحسين محمد بن إبراهيم بن حزم، قاضي دمشق، وأبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي العجائز، الخطيب بدمشق. ثم دخلت سنة ثلاث وستين وأربعمائة
ذكر الخطبة للقائم بأمر الله والسلطان بحلب في هذه السنة خطب محمود بن صالح بن مرداس بحلب لأمير المؤمنين القائم بأمر الله، وللسلطان ألب أرسلان. وسبب ذلك أنه رأى إقبال دولة السلطان، وقوتها، وانتشار دعوتها، فجمع أهل حلب وقال: هذه دولة جديدة، ومملكة شديدة، ونحن تحت الخوف منهم، وهم يستحلون دماءكم لأجل مذاهبكم، والرأي أن نقيم الخطبة قبل أن يأتي وقت لا ينفعنا فيه قول ولا بذل فأجاب المشايخ ذلك، ولبس المؤذنون السواد، وخطبوا للقائم بأمر الله والسلطان، فأخت العامة حصر الجامع، وقالوا: هذه حصر علي بن أبي طالب، فليأت أبو بكر بحصر يصلي عليها الناس. وأرسل الخليفة إلى محمود الخلع مع نقيب النقباء طراد بن محمد الزينبي، فلبسها، ومدحه ابن سنان الخفاجي، وأبو الفتيان بن حيوس، وقال أبو عبد الله بن عطية يمدح القائم بأمر الله، ويذكر الخطبة بحلب ومكة والمدينة: كم طائع لك لم تجلب عليه، ولم ... تعرف لطاعته غير التقى سببا هذا البشير بإذعان الحجاز، وذا ... داعي دمشق وذا المبعوث من حلبا ذكر استيلاء السلطان أرسلان على حلبفي هذه السنة سار السلطان ألب أرسلان إلى حلب، وجعل طريقه على ديار بكر، فخرج إليه صاحبها، نصر بن مروان، وخدمه بمائة ألف، وحمل إليه إقامة عرف السلطان أنه قسطها على البلاد، فأمر بردها. ووصل إلى آمد فرآها ثغراً منيعاً، فتبرك به، وجعل يمر يده على السور ويمسح بها صدره. وسار إلى الرها فحصرها فلم يظفر منها بطائل، فسار إلى حلب وقد وصلها نقيب النقباء أبو الفوراس طراد بالرسالة القائمية، والخلع، فقال له محمود، صاحب حلب: أسألك الخروج إلى السلطان، والاستعفاء لي من الحضور عنده، فخرج نقيب النقباء، وأخبر السلطان بأنه قد لبس الخلع القائمية وخطب فقال: أي شيء تساوي خطبتهم وهم يؤذنون حي على خير العمل؟ ولا بد من الحضور، ودوس بساطي، فامتنع محمود من ذلك. فاشتد الحصار على البلد، وغلت الأسعار، وعظم القتال، وزحف السلطان يوماً وقرب من البلد، فوقع حجر منجنيق في فرسه، فلما عظم الأمر على محمود خرج ليلاً، ومعه والدته منيعة بنت وثاب النميري، فدخلا على السلطان وقالت له: هذا ولدي، فافعل به ما تحب. فتلقاهما بالجميل، وخلع على محمود وأعاده إلى بلده، فأنفذ إلى السلطان مالاً جزيلاً. ذكر خروج ملك الروم إلى خلاطفي هذه السنة خرج أرمانوس ملك الروم في مائتي ألف من الروم، والفرنج، والغرب، والروس، والبجناك، والكرج، وغيرهم، من طوائف تلك البلاد، فجاؤوا في تجمل كثير، وزي عظيم، وقصد بلاد الإسلام، فوصل إلى ملازكرد من أعمال خلاط. فبلغ السلطان ألب أرسلان الخبر، وهو بمدينة خوي من أذربيجان، قد عاد من حلب، وسمع ما هو ملك الروم فيه من كثرة الجموع، فلم يتمكن من جمع العساكر لبعدها وقرب العدو، فسير الأثقال مع زوجته ونظام الملك إلى همذان، وسار هو فيمن عنده من العساكر، وهم خمسة عشر ألف فارس. وجد في السير، وقال لهم: أنني أقاتل محتسباً صابراً، فإن سلمت فنعمة من الله تعالى، وإن كانت الشهادة فإن ابني ملكشاه ولي عهدي، وساروا. فلما قارب العدو جعل له مقدمة، فصادفت مقدمته، عند خلاط، مقدم الروسية في نحو عشرة آلاف من الروم، فاقتتلوا، فانهزمت الروسية، وأسر مقدمهم، وحمل إلى السلطان، فجدع أنفه، وأنفذ بالسلب إلى نظام الملك، وأمره أن يرسله إلى بغداد، فلما تقارب العسكران أرسل السلطان إلى ملك الروم يطلب منه المهادنة، فقال: لا هدنة إلا بالري، فانزعج السلطان لذلك، فقال له إمامه وفقيهه أبو نصر محمد بن عبد الملك البخاري، الحنفي: إنك تقاتل عن دين وعد الله بنصره وإظهاره على سائر الأديان، وأرجو أن يكون الله تعالى قد كتب باسمك هذا الفتح، فالقهم يوم الجمعة، بعد الزوال، في الساعة التي تكون الخطباء على المنابر، فإنهم يدعون للمجاهدين بالنصر، والدعاء مقرون بالإجابة. فلما كانت تلك الساعة صلى بهم، وبكى السلطان، فبكى الناس لبكائه، ودعا ودعوا معه، وقال لهم: من أراد الانصراف فلينصرف، فما هاهنا سلطان يأمر وينهى، وألقى القوس والنشاب، وأخذ السيف والدبوس، وعقد ذنب فرسه بيده، وفعل عسكره مثله، ولبس البياض، وتحنط، وقال: إن قتلت فهذا كفني.
وزحف إلى الروم، وزحفوا إليه، فلما قاربهم ترجل وعفر وجهه على التراب، وبكى، وأكثر الدعاء، ثم ركب وحمل وحملت العساكر معه، فحصل المسلمون في وسطهم وحجز الغبار بينهم، فقتل المسلمون فيهم كيف شاؤوا، وأنزل الله نصره عليهم، فانهزم الروم، وقتل منهم ما لا يحصى، حتى امتلأت الأرض بجثث القتلى، وأسر ملك الروم، أسره بعض غلمان كوهارائين، أراد قتله ولم يعرفه، فقال له خادم مع الملك: لاتقتله، فإنه الملك. وكان هذا الغلام قد عرضه كوهرائين على نظام الملك، فرده استحقاراً له، فأثنى عليه كوهرائين، فقال نظام الملك: عسى أن يأتينا بملك الروم أسيراً، فكان كذلك. فلما أسر الغلام الملك أحضره عند كوهرائين، فقصد السلطان وأخبره بأسر الملك، فأمر بإحضاره، فلما أحضر ضربه السلطان ألب أرسلان ثلاث مقارع بيده وقال له: ألم أرسل إليك في الهدنة فأبيت؟ فقال: دعني من التوبيخ، وافعل ما تريد! فقال الس: ما عزمت أن تفعل بي إن أسرتني؟ فقال: أفعل القبيح. قال له: فما تظن أنني أفعل بك؟ قال: إما أن تقتلني، وإما أن تشهرني في بلاد الإسلام، والأخرى بعيدة، وهي العفو، وقبول الأموال، واصطناعي نائباً عنك. قال: ما عزمت على غير هذا. ففداه بألف ألف دينار وخمس مائة ألف دينار، وأن يرسل إليه عساكر الروم أي وقت طلبها، وأن يطلق كل أسير في بلاد الروم، واستقر الأمر على ذلك، وأنزله في خيمة، وأرسل إليه عشرة آلاف دينار يتجهز بها، فأطلق له جماعة من البطارقة، وخلع عليه من الغد، فقال ملك الروم: أين جهة الخليفة؟ فدل عليها، فقام وكشف رأسه وأومأ إلى الأرض بالخدمة، وهادنه السلطان خمسين سنة، وسيره إلى بلاده، وسير معه عسكراً أوصلوه إلى مأمنه، وشيعه السلطان فرسخاً. وأما الروم فلما بلغهم خبر الوقعة وثب ميخائيل على المملكة فملك البلاد، فلما وصل أرمانوس الملك إلى قلعة دوقية بلغه الخبر، فلبس الصوف وأظهر الزهد، وأرسل إلى ميخائيل يعرفه ما تقرر مع السلطان، وقال: إن شئت أن تفعل ما استقر، وإن شئت أمسكت، فأجابه ميخائيل بإيثار ما استقر، وطلب وساطته، وسؤال السلطان في ذلك. وجمع أرمانوس ما عنده من المال فكان مائتي ألف دينار، فأرسله إلى السلطان، وطبق ذهب عليه جواهر بتسعين ألف دينار، وحلف له أنه لا يقدر على غير ذلك، ثم إن أرمانوس استولى على أعمال الأرمن وبلادهم. ومدح الشعراء السلطان، وذكروا هذا الفتح، فأكثروا. ذكر ملك أتسز الرملة وبيت المقدسفي هذه السنة قصد أتسز بن أوق الخوارزمي، وهو من أمراء السلطان ملكشاه، بلد الشام، فجمع الأتراك وسار إلى فلسطين، ففتح مدينة الرملة، وسار منها إلى البيت المقدس وحصره، وفيه عساكر المصريين، ففتحه، وملك ما يجاورهما من البلاد، ما عدا عسقلان، وقصد دمشق فحصرها، وتابع النهب لأعمالها حتى خربها، وقطع الميرة عنها، فضاق الأمر بالناس، فصبروا، ولم يمكنوه من ملك البلد، فعاد عنه، وأدام قصد أعماله وتخريبها حتى قلت الأقوات عندهم. ذكر عدة حوادثفي هذه السنة توفي أبو القاسم عبد الرحمن بن محمد بن أحمد بن فوران الفوراني، الفقيه الشافعي، مصنف كتاب الإبانة وغيره. وفي هذه السنة، في ذي الحجة، توفي الخطيب أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت البغدادي، صاحب التاريخ والمصنفات الكثيرة ببغداد، وكان إمام الدنيا في زمانه، وممن حمل جنازته الشيخ أبو إسحاق الشيرازي. وتوفي أيضاً فيها، في شهر رمضان، أبو يعلى محمد بن الحسين بن حمزة الجعفري، فقيه الإمامية، وحسان بن سعيد بن حسان بن محمد بن عبد الله المنيعي المخزومي من أهل مرو الروذ، كان كثير الصدقة والمعروف، والعبادة، والقنوع بالقليل من القوت، والإعراض عن زينة الدنيا وبهجتها، وكان السلاطين يزورونه ويتبركون به، وأكثر من بناء المساجد والخانقاهات والقناطر، وغير ذلك من مصالح المسلمين. وتوفيت أيضاً كريمة بنت أحمد بن محمد المروزية، وهي التي تروي صحيح البخاري، توفيت بمكة، وإليها انتهى علو الإسناد للصحيح إلى أن جاء أبو الوقت. ثم دخلت سنة أربع وستين وأربعمائة ذكر ولاية سعد الدولة كوهرائين شحنكية بغداد في ربيع الأول من هذه السنة ورد إيتكين السليماني شحنة بغداد من عند السلطان إلى بغداد، فقصد دار الخلافة، وسأل العفو عنه، وأقام أياماً، فلم يجب إلى ذلك.
وكان سبب غضب الخليفة عليه أنه كان قد استخلف ابنه عند مسيره إلى السلطان، وجعله شحنة ببغداد، فقتل أحد المماليك الدارية، فأنفذ قميصه من الديوان إلى السلطان، ووقع الخطاب في عزله. وكان نظام الملك يعنى بالسليماني، فأضاف إلى إقطاعه تكريت، فكوتب واليها، من ديوان الخلافة، بالتوقف عن تسليمها. فلما رأى نظام الملك والسلطان إصرار الخليفة على الاستقالة من ولايته شحنكية بغداد، سير سعد الدولة كوهرائين إلى بغداد شحنة، وعزل السليماني عنها، اتباعاً لما أمر به الخليفة القائم بأمر الله، ولما ورد سعد الدولة خرج الناس لتلقيه، وجلس له الخليفة. ذكر تزويج ولي العهد بابنة السلطانفي هذه السنة أرسل الإمام القائم بأمر الله عميد الدولة بن جهير، ومعه الخلع للسلطان ولولده ملكشاه، وكان السلطان قد أرسل يطلب من الخليفة أن يأذن في أن يجعل ولده ملكشاه ولي عهده، فأذن، وسيرت له الخلع مع عميد الدولة، وأمر عميد الدولة أن يخطب ابنة السلطان ألب أرسلان من سفري خاتون لولي العهد المقتدي بأمر الله، فلما حضر عند السلطان خطب ابنته، فأجيب إلى ذلك. وعقد النكاح بظاهر نيسابور، وكان عميد الدولة الوكيل في قبول النكاح، ونظام الملك الوكيل من جهة السلطان في العقد، وكان النثار جواهر، وعاد عميد الدولة من عند السلطان إلى ملكشاه، وكان ببلاد فارس، فلقيه بأصبهان، فأفاض عليه الخلع، فلبسها وسار إلى والده، وعاد عميد الدولة إلى بغداد، فدخلها في ذي الحجة. ذكر ولاية أبي الحسن بن عمار طرابلسفي هذه السنة، في رجب، توفي القاضي أبو طالب بن عمار، قاضي طرابلس، وكان قد استولى عليها، واستبد بالأمر فيها، فلما توفي قام مكانه ابن أخيه جلال الملك أبو الحسن بن عمار، فضبط البلد أحسن ضبط، ولم يظهر لفقد عمه أثر لكفايته. ذكر ملك السلطان ألب أرسلان قلعة فضلون بفارسفي هذه السنة سير السلطان ألب أرسلان وزيره نظام الملك في عسكر إلى بلاد فارس، وكان بها حصن من أمنع الحصون والمعاقل، وفيه صاحبه فضلون، وهو لا يعطي الطاعة، فنازله وحصره، ودعاه إلى طاعة السلطان فامتنع، فقاتله فلم يبلغ بقتاله غرضاً لعلو الحصن وارتفاعه، فلم يطل مقامهم عليه حتى نادى أهل القلعة بطلب الأمان ليسلموا الحصن إليه، فعجب الناس من ذلك. وكان السبب فيه أن جميع الآبار التي بالقلعة غارت مياهها في ليلة واحدة فقادتهم ضرورة العطش إلى التسليم، فلما طلبوا الأمان أمنهم نظام الملك، وتسلم الحصن، والتجأ فضلون إلى قلة القلعة، وهي أعلى موضع فيها، وفيه بناء مرتفع، فاحتمى فيها، فسير نظام الملك طائفة من العسكر إلى الموضع الذي فيه أهل فضلون وأقاربه ليحملوهم إليه وينهبوا مالهم، فسمع فضلون الخبر، ففارق موضعه مستخفياً فيمن عنده من الجند، وسار ليمنع عن أهله، فاستقبلته طلائع نظام الملك، فخافهم فتفرق من معه، واختفى في نبات الأرض، فوقع فيه بعض العسكر، فأخذه أسيراً، وحمله إلى نظام الملك، فأخذه وسار به إلى السلطان فأمنه وأطلقه. ذكر عدة حوادثفي هذه السنة توفي القاضي أبو الحسين محمد بن أحمد بن عبد الصمد نب المهتدي بالله الخطيب بجامع المنصور، وكان قد أضر، ومولده سنة أربع وثمانين وثلاثمائة، وكان إليه قضاء واسط، وخليفته عليها أبو محمد السمال. ثم دخلت سنة خمس وستين وأربعمائة ذكر قتل السلطان ألب أرسلان
في أول هذه السنة قصد السلطان ألب أرسلان، واسمه محمد، وإنما غلب عليه ألب أرسلان ما وراء النهر، وصاحبه شمس الملك تكين، فعقد على جيحون جسراً وعبر عليه في نيف وعشرين يوماً، وعسكره يزيد على مائتي ألف فارس، فأتاه أصحابه بمستحفظ قلعة يعرف بيوسف الخوارزمي، في سادس شهر ربيع الأول، وحمل إلى قرب سريره مع غلامين، فتقدم أن تضرب له أربعة أوتاد وتشد أطرافه إليها، فقال له يوسف: يا مخنث! مثلي يقتل هذه القتلة؟ فغضب السلطان ألب أرسلان، وأخذ القوس والنشاب، وقال للغلامين: خلياه! ورماه الس بسهم فأخطأه، ولم يكن يخطيء سهمه، فوثب يوسف يريده، والسلطان على سدة، فلما رأى يوسف يقصده قام عن السدة ونزل عنها، فعثر، فوقع على وجهه، فبرك عليه يوسف وضربه بسكين كانت معه في خاصرته، وكان سعد الدولة واقفاً، فجرحه يوسف أيضاً جراحات، ونهض الس فدخل إلى خيمة أخرى، وضرب بعض الفراشين يوسف بمرزبة على رأسه، فقتله وقطعه الأتراك. وكان أهل سمرقند لما بلغهم عبور السلطان النهر، وما فعل عسكره بتلك البلاد لا سيما بخارى، اجتمعوا، وختموا ختمات، وسألوا الله أن يكفيهم أمره، فاستجاب لهم. ولما جرح السلطان قال: ما من وجه قصدته، وعدو أردته، إلا استعنت بالله عليه، ولما كان أمس صعدت على تل، فارتجت الأرض تحتي من عظم الجيش وكثرة العسكر، فقلت في نفسي: أنا أملك الدنيا، وما يقدر أحد علي، فعجزني الله تعالى بأضعف خلقه، وأنا أستغفر الله تعالى، وأستقيله من ذلك الخاطر. فتوفي عاشر ربيع الأول من السنة، فحمل إلى مرو ودفن عند أبيه. ومولده سنة أربع وعشرين وأربعمائة، وبلغ من العمر أربعين سنة وشهوراً، وقيل كان مولده سنة عشرين وأربعمائة، وكانت مدة ملكه منذ خطب له بالسلطنة إلى أن قتل تسع سنين وستة أشهر وأياماً، ولما وصل خبر موته إلى بغداد جلس الوزير فخر الدولة بن جهير للعزاء به في صحن السلام. ذكر نسب ألب أرسلان وبعض سيرته هو ألب أرسلان محمد بن داود بن جغري بك من ميكائيل بن سلجوق، وكان كريماً، عادلاً، عاقلاً، لا يسمع السعايات، واتسع ملكه جداً، ودان له العالم، وبحق قيل له سلطان العالم. وكان رحيم القلب رفيقاً بالفقراء، كثير الدعاء بدوام ما أنعم الله به عليه. اجتاز يوماً بمرو على فقراء الخرائين، فبكى، وسأل الله تعالى أن يغنيه من فضله. وكان يكثر الصدقة، فيتصدق في رمضان بخمسة عشر ألف دينار، وكان في ديوانه أسماء خلق كثير من الفقراء في جميع ممالكه، عليهم الإدرارات والصلات، ولم يكن في جميع بلاده جناية ولا مصادرة، قد قنع من الرعايا بالخراج الأصلي يؤخذ منهم كل سنة دفعتين رفقاً بهم. وكتب إليه بعض السعاة سعاية في نظام الملك وزيره، وذكر ما له في ممالكه من الرسوم والأموال، وتركت على مصلاه، فأخذها فقرأها، ثم سلمها إلى نظام الملك وقال له: خذ هذا الكتاب، فإن صدقوا في الذي كتبوه فهذب أخلاقك، وأصلح أحوالك، وإن كذبوا فاغفر لهم زلتهم واشغلهم بمهم يشتغلون به عن السعاية بالناس. وهذه حالة لا يذكر عن أحد من الملوك أحسن منها. وكان كثيراً ما يقرأ عليه تواريخ الملوك وآدابهم، وأحكام الشريعة، ولما اشتهر بين الملوك حسن سيرته، ومحافظته على عهوده، أذعنوا له بالطاعة والموافقة بعد الامتناع، وحضروا عنده من أقاصي ما وراء النهر إلى أقصى الشام. وكان شديد العناية بكف الجند عن أموال الرعية، بلغه أن بعض خواص مماليكه سلب من بعض الرستاقية إزاراً، فأخذ المملوك وصلبه، فارتدع الناس عن التعرض إلى مال غيرهم. ومناقبه كثيرة لا يليق بهذا الكتاب أكثر من هذا القدر منها. وخلف ألب أرسلان من الأولاد: ملكشاه، وهو صار السلطان بعده، وإياز، وتكش، وبوري برش، وتتش، وأرسلان أرغو، وسارة، وعائشة، وبنتاً أخرى. ذكر ملك السلطان ملكشاه
لما جرح السلطان ألب أرسلان أوصى لابنه ملكشاه، وكان معه، وأمر أن يحلف له العسكر، فحلفوا جميعهم، وكان المتولي للأمر في ذلك نظام الملك، وأرسل ملكشاه إلى بغداد يطلب الخطبة له، فخطب له على منابرها، وأوصى ألب أرسلان ابنه ملكشاه أيضاً أن يعطي أخاه قاروت بك بن داود أعمال فارس وكرمان، وشيئاً عينه من المال، وأن يزوج بزوجته، وكان قاروت بك بكرمان، وأوصى أن يعطى ابنه إياز بن ألب أرسلان ما كان لأبيه داود، وهو خمسمائة ألف دينار، وقال: كل من لم يرض بما أوصيت له فقاتلوه، واستعينوا بما جعلته له على حربه. وعاد ملكشاه من بلاد ما وراء النهر، فعبر العسكر الذي قطع النهر في نيف وعشرين يوماً في ثلاثة أيام، وقام بوزارة ملكشاه نظام الملك، وزاد الأجناد في معايشهم سبع مائة ألف دينار، وعادوا إلى خراسان، وقصدوا نيسابور، وراسل ملكشاه جماعة الملوك أصحاب الأطراف يدعوهم إلى الخطبة له والانقياد إليه، وأقام إياز أرسلان ببلخ وسار السلطان ملكشاه في عساكره من نيسابور إلى الري. ذكر ملك صاحب سمرقند مدينة ترمذفي هذه السنة، في ربيع الآخر، ملك التكين صاحب سمرقند مدينة ترمذ. وسبب ذلك أنه لما بلغه وفاة ألب أرسلان، وعود ابنه ملكشاه عن خراسان، طمع في البلاد المجاورة له، فقصد ترمذ أول ربيع الآخر، وفتحها، ونقل ما فيها من ذخائر وغيرها إلى سمرقند. وكان إياز بن ألب أرسلان قد سار عن بلخ إلى الجوزجان، فخاف أهل بلخ، فأرسلوا إلى التكين يطلبون منه الأمان، فأمنهم، فخطبوا له فيها، وورد إليها، فنهب عسكره شيئاً من أموالل الناس، وعاد إلى ترمذ، فثار أوباش بلخ بجماعة من أصحابه فقتلوهم، فعاد إليهم وأمر بإحراق المدينة، فخرج إليه أعيان أهلها وسألوه الصفح، واعتذروا، فعفا عنهم، لكنه أخذ أموال التجار فغنم شيئاً عظيماً. فلما وصل الخبر إلى إياز عاد من الجوزجان إلى بلخ، فوصل غرة جمادى الأولى، فأطاعه أهلها، وسار عنها إلى ترمذ في عشرة آلاف فارس في الثالث والعشرين من جمادى الآخرة، فلقيهم عسكر التكين، فانهزم إياز، فغرق من عسكره في جيحون أكثرهم، وقتل كثير منهم، ولم ينج إلا القليل. ذكر قصد صاحب غزنة سكلكندوفي هذه السنة أيضاً، في جمادى الأولى، وردت طائفة كثيرة من عسكر غزنة إلى سكلكند، وبها عثمان عم السلطان ملكشاه، ويلقب بأمير الأمراء، فأخذوه أسيراً، وعادوا به إلى غزنة مع خزائنه وحشمه، فسمع الأمير كمشتين بلكابك، وهو من أكابر الأمراء، فتبع آثارهم، وكان معه أنوشتكين جد ملوك خوارزم في زماننا، فنهبوا مدينة سكلكند. ذكر الحرب بين السلطان ملكشاه وعمه قاورت بكلما بلغ قاورت بك، وهو بكرمان، وفاة أخيه ألب أرسلان سار طالباً للري يريد الاستيلاء على الممالك، فسبقه إليها السلطان ملكشاه ونظام الملك، وسارا منها إليه، فالتقوا بالقرب من همذان في شعبان، وكان العسكر يميلون إلى قاورت بك، فحملت ميسرة قاورت على ميمنة ملكشاه، فهزموها، وحمل شرف الدولة مسلم بن قريش، وبهاء الدولة منصور بن دبيس بن مزيد، وهما مع ملكشاه، ومن معهما من العرب والأكراد، على ميمنة قاورت بك فهزموها، وتمت الهزيمة على أصحاب قاورت بك، ومضى المنهزمون من أصحاب السلطان ملكشاه إلى حلل شرف الدولة، وبهاء الدولة، فنهبوها غيظاً منهم، حيث هزموا عسكر قاورت بك، ونهبوا أيضاً ما كان لنقيب النقباء طراد بن محمد الزينبي رسول الخليفة. وجاء رجل سوادي إلى السلطان ملكشاه، فأخبره أن عمه قاورت بك في بعض القرى، فأرسل من أخذه وأحضره، فأمر سعد الدولة كوهرائين فخنقه، وأقرر كرمان بيد أولاده، وسير إليهم الخلع، وأقطع العرب والأكراد إقطاعات كثيرة لما فعلوه في الوقعة. وكان السبب في حضور شرف الدولة، وبهاء الدولة، عند ملكشاه، أن السلطان ألب أرسلان كان ساخطاً على شرف الدولة، فأرسل الخليفة نقيب النقباء طراد بن محمد الزينبي إلى شرف الدولة بالموصل، فأخذه وسار به إلى ألب أرسلان ليشفع فيه عند الخليفة، فلما بلغ الزاب وقف على ملطفات كتبها وزيره أبو جابر بن صقلاب، فأخذه شرف الدولة فغرقه، وسار مع طراد، فبلغهما الخبر بوفاة ألب أرسلان، ومسير ابنه ملكشاه، فتمما إليه. وأما بهاء الدولة فإنه كان قد سار بمال أرسله به أبوه إلى السلطان، فحضر الحرب بهذا السبب.
ذكر تفويض الأمور إلى نظام الملك ثم إن عسكر ملكشاه بسطوا ومدوا أيديهم في أموال الرعية، وقالوا: ما يمنع السلطان أن يعطينا الأموال إلا نظام الملك، فنال الرعية أذى شديد، فذكر ذلك نظام الملك للسلطان، فبين له ما في هذا الفعل من الوهن، وخراب البلاد، وذهاب السياسة، فقال له: افعل في هذا ما تراه مصلحة! فقال له نظام الملك: ما يمكنني أن أفعل إلا بأمرك. فقال السلطان: قد رددت الأمور كلها كبيرها وصغيرها إليك، فأنت الوالد، وحلف له وأقطعه إقطاعاً زائداً على ما كان، من جملته طوس مدينة نظام الملك، وخلع عليه، ولقبه ألقاباً من جملتها: أتابك، ومعناه الأمير الوالد، فظهر من كفايته، وشجاعته | |
|
| |
الشيخ عودة الشيخ عودة
عدد المساهمات : 1748 تاريخ التسجيل : 28/09/2008 العمر : 74
| موضوع: رد: كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير الإثنين فبراير 24, 2014 6:41 pm | |
| وتجهزت العساكر إليه ليبعدوه، فساروا حتى قربوا منه، وكانوا ثلاث طوائف، فأراد أحد المقدمين أن يفوز بالظفر وحده دون أصحابه، فعبر فيمن معه إلى ناصر الدولة، وحمل عليه فقاتله، فظفر به ناصر الدولة، فأخذه أسيراً، وأكثر القتل في أصحابه، وعبر العسكر الثاني، ولم يشعروا بما جرى على أصحابهم، فحمل ناصر الدولة عليهم، ورفع رؤوس القتلى على الرماح، فوقع الرعب في قلوبهم، فانهزموا وقتل أكثرهم، وقويت نفس ناصر الدولة. وعبر العسكر الثالث، فهزمه وأكثر القتل فيهم، وأسر مقدمهم، وعظم أمره، ونهب الريف فأقطعه، وقطع الميرة عن مصر براً وبحراً، فغلت الأسعار بها، وكثر الموت بالجوع، وامتدت أيدي الجند بالقاهرة إلى النهب والقتل، وعظم الوباء حتى إن أهل البيت الواحد كانوا يموتون كلهم في ليلة واحدة. واشتد الغلاء، حتى حكي أن امرأة أكلت رغيفاً بألف دينار، فاستبعد ذلك، فقيل: إنها باعت عروضاً قيمتها ألف دينار بثلاثمائة دينار، واشترت بها حنطة، وحملها الحمال على ظهره، فنهبت الحنطة في الطريق، فنهبت هي مع الناس، فكان الذي حصل لها ما عملته رغيفاً واحداً. وقطع ناصر الدولة الطريق براً وبحراً، فهلك العالم، ومات أكثر أصحاب المستنصر، وتفرق كثير منهم، فراسل الأتراك من القاهرة ناصر الدولة في الصلح، فاصطلحوا على أن يكون تاج الملوك شاذي نائباً عن ناصر الدولة بالقاهرة، يحمل المال إليه، ولا يبقى معه لأحد حكم. فلما دخل تاج الملوك إلى القاهرة تغير عن القاعدة، واستبد بالأموال دون ناصر الدولة، ولم يرسل إليه منها شيئاً، فسار ناصر الدولة إلى الجيزة، واستدعى إليه شاذي وغيره من مقدمي الأتراك، فخرجوا إليه إلا أقلهم، فقبض عليهم كلهم، ونهب ناحيتي مصر، وأحرق كثيراً منهما، فسير إليه المستنصر عسكراً فكبسوه، فانهزم منهم ومضى هارباً، فجمع جمعاً، وعاد إليهم فقاتلهم فهزمهم، وقطع خطبة المستنصر بالإسكندرية ودمياط، وكانا معه، وكذلك جميع الريف، وأرسل إلى الخليفة ببغداد يطلب خلعاً ليخطب له بمصر. واضمحل أمر المستنصر، وبطل ذكره، وتفرق الناس من القاهرة، وأرسل ناصر الدولة إليه أيضاً يطلب المال، فرآه الرسول جالساً على حصير، وليس حوله غير ثلاثة خدم، ولم ير الرسول شيئاً من آثار المملكة، فلما أدى الرسالة قال: أما يكفي ناصر الدولة أن أجلس في مثل هذا البيت على مثل هذا الحصير؟ فبكى الرسول، وعاد إلى ناصر الدولة فأخبره الخبر، فأجرى له كل يوم مائة دينار، وعاد إلى القاهرة، وحكم فيها، وأذل السلطان وأصحابه. وكان الذي حمله على ذلك أنه كان يظهر التسنن من بين أهله، ويعيب المستنصر، وكان المغاربة كذلك فأعانوه على ما أراد، وقبض على أم المستنصر، وصادرها بخمسين ألف دينار، وتفرق عن المستنصر أولاده وكثير من أهله إلى الغرب، وغيره من البلاد، فمات كثير منهم جوعاً. وانقضت سنة أربع وستين وما قبلها بالفتن. وانحط السعر سنة خمس وستين، ورخصت الأسعار، وبالغ ناصر الدولة في إهانة المستنصر، وفرق عنه عامة أصحابه، وكان يقول لأحدهم: إنني أريد أن أوليك عمل كذا، فيسير إليه، فلا يمكنه من العمل ويمنعه من العود، وكان غرضه بذلك أن يخطب للخليفة القائم بأمر الله، ولا يمكنه مع وجودهم، ففطن لفعله قائد كبير من الأتراك اسمه الدكز، وعلم أنه متى ما تم ما أراد تمكن منه ومن أصحابه، فأطلع على ذلك غيره من قواد الأتراك، فاتفقوا على قتل ناصر الدولة، وكان قد أمن لقوته، وعدم عدوه، فتواعدوا ليلة على ذلك، فلما كان سحر الليلة التي تواعدوا فيها على قتله جاؤوا إلى باب داره، وهي التي تعرف بمنازل العز، وهي على النيل، فدخلوا، من غير استئذان، إلى صحن داره، فخرج إليهم ناصر الدولة في رداء لأنه كان آمناً منهم، فلما دنا منهم ضربوه بالسيوف، فسبهم، وهرب منهم يريد الحرم، فلحقوه فضربوه حتى قتلوه، وأخذوا رأسه.
ومضى رجل منهم، يعرف بكوكب الدولة، إلى فخر العرب، أخي ناصر الدولة، وكان فخر العرب كثير الإحسان إليه، فقال للحاجب: استأذن لي على فخر العرب، وقل صنيعتك فلان على الباب، فاستأذن له، فأذن له وقال: لعله قد دهمه أمر. فلما دخل عليه أسرع نحوه كأنه يريد السلام عليه، وضربه بالسيف على كتفه، فسقط على الأرض، فقطع رأسه، وأخذ سيفه، وكان ذا قيمة وافرة، وأخذ جارية له أردفها خلفه، وتوجه إلى القاهرة، وقتل أخوهما تاج المعالي، وانقطع ذكر الحمدانية بمصر بالكلية. فلما كان سنة ست وستين وأربعمائة ولي بمصر بدر الجمالي، أمير الجيوش، وقتل الدكز والوزير ابن كدينة، وجماعة من المسلحية، وتمكن من الدولة إلى أن مات، وولي بعده ابنه الأفضل، وسيرد ذكرهم إن شاء الله تعالى. ذكر عدة حوادثفي هذه السنة أقيمت الدعوة العباسية بالبيت المقدس. وفيها توفي الأمير ليث بن منصور صدقة بن الحسين بالدامغان، والشريف أبو الغنائم عبد الصمد بن علي بن محمد بن المأمون ببغداد، وكان موته في شوال، ومولده سنة أربع وسبعين وثلاثمائة، وكان عالي الإسناد في الحديث. وفيها، في ذي الحجة، توفي الشريف أبو الحسين محمد بن علي بن عبد الله بن عبد الصمد بن المهتدي بالله، المعروف بابن الغريق، وكان يسمى راهب بني العباس، وهو آخر من حدث عن الدارقطني وابن شاهين وغيرهما، وكان موته ببغداد. وفيها قتل ناصر الدولة أبو علي الحسين بن حمدان بمصر، قتله الدكز التركي، وقد تقدم شرحه مستوفى. وفيها توفي الإمام أبو القاسم عبد الكريم بن هوزان القشيري، النيسابوري، مصنف الرسالة وغيرها، وكان إماماً، فقيهاً، أصولياً، مفسراً، كاتباً، ذا فضائل جمة، وكان له فرس قد أهدي إليه، فركبه نحو عشرين سنة، فلما مات الشيخ لم يأكل الفرس شيئاً فعاش أسبوعاً ومات. وفيها أيضاً توفي علي بن الحسن بن علي بن الفضل أبو منصور، الكاتب المعروف بابن صر بعر، وكان نظام الملك قال له أنت ابن صر در، لا صر بعر، فبقي ذلك عليه، وهو من الشعراء المجيدين، وهجاه ابن البياضي فقال: لئن نبز الناس قدماً أباك، ... فسموه من شعره صر بعرا فإنك تنظم ما صره ... عقوقاً له، وتسميه شعرا وهذا ظلم من ابن البياضي، إنه كان شاعراً محسناً، ومن شعر ابن صر در قوله: تزاورن عن أذرعات يمينا، ... نواشز ليس يطقن البرينا كلفن بنجد، كأن الرياض ... أخذن لنجد عليها يمينا وأقسمن يحملن إلا نحيلا ... إليه، ويبلغن إلا حزينا فلما استمعن زفير المشوق، ... ونوح الحمام، تركن الحنينا إذا جئتما بانة الواديين، ... فأرخو النسوع، وحلوا الوضينا فثم علائق من أجلهن، ... ملاء الدجى والضحى قد طوينا وقد أنبأتهم مياه الجفون ... بأن بقلبك داء دفينا ثم دخلت سنة ست وستين وأربعمائة ذكر تقليد السلطان ملكشاه السلطنة والخلع عليه في هذه السنة، في صفر، ورد كوهرائين، إلى بغداد من عسكر السلطان، وجلس له الخليفة القائم بأمر الله، ووقف على رأسه ولي العهد المقتدي بأمر الله، وسلم الخليفة إلى كوهرائين عهد السلطان ملكشاه بالسلطنة، وقرأ الوزير أوله، وسلم إليه أيضاً لواء عقده الخليفة بيده، ولم يمنع يومئذ أحد من الدخول إلى دار الخلافة، فامتلأ صحن السلام بالعامة، حتى كان الإنسان تهمه نفسه ليتخلص، وهنأ الناس بعضهم بعضاً بالسلامة. ذكر غرق بغدادفي هذه السنة غرق الجانب الشرقي وبعض الغربي من بغداد. وسببه أن دجلة زادت زيادة عظيمة، وانفتح القورج عند المسناة المعزية، وجاء في الليل سيل عظيم، وطفح الماء من البرية مع ريح شديدة، وجاء الماء إلى المنازل من فوق، ونبع من البلاليع والآبار بالجانب الشرقي، وهلك خلق كثير تحت الهدم، وشدت الزواريق تحت التاج خوف الغرق. وقام الخليفة يتضرع ويصلي، وعليه البردة، وبيده القضيب، وأتى ايتكين السليماني من عكبرا، فقال للوزير: إن الملاحين يؤذون الناس في المعابر فأحضرهم، وتهددهم بالقتل، وأمر بأخذ ما جرت به العادة.
وجكع الناس، وأقيمت الخطبة للجمعة في الطيار مرتين، وغرق من الجانب الغربي مقبرة أحمد، ومشهد باب التبن، وتهدم سوره، فأطلق شرف الدولة ألف دينار تصرف في عمارته، ودخل الماء من شبابيك البيمارستان العضدي. ومن عجيب ما يحكى في هذا الغرق أن الناس، في العام الماضي، كانوا قد أنكروا كثرة المغنيات والخمور، فقطع بعضهم أوتار عود مغنية كانت عند جندي، فثار به الجندي الذي كانت عنده، فضربه، فاجتمعت العامة ومعهم كثير من الأئمة منهم أبو إسحاق الشيرازي، واستغاثوا بالخليفة، وطلبوا هدم المواخير والحانات وتبطيلها، فوعدهم أن يكاتب السلطان في ذلك، فسكنوا وتفرقوا. ولازم كثير من الصالحين الدعاء بكشفه، فاتفق أن غرقت بغداد، ونال الخليفة والجند من ذلك أمر عظيم، وعمت مصيبته الناس كافة، فرأى الشريف أبو جعفر بن أبي موسى بعض الحجاب الذين يقولون: نحن نكاتب السلطان، ونسعى في تفريق الناس، ويقول: اسكنوا إلى أن يرد الجواب. فقال له أبو جعفر: قد كتبنا، وكتبتم، فجاء جوابنا قبل جوابكم، يعني أنهم شكوا ما حل بهم إلى الله تعالى، وقد أجابهم بالغرق، قبل ورود جواب السلطان. ذكر ملك السلطان ملكشاه ترمذ والهدنة بينه وبين صاحب سمرقند قد ذكرنا أن خاقان التكين صاحب سمرقند ملك ترمذ بعد قتل السلطان ألب أرسلان، فلما استقامت الأمور للسلطان ملكشاه سار إلى ترمذ وحصرها، وطم العسكر خندقها، ورماها بالمجانيق، فخاف من بها، فطلبوا الأمان فأمنهم، وخرجوا منها وسلموها. وكان بها أخ لخاقان التكين، فأكرمه السلطان، وخلع عليه وأحسن إليه وأطلقه، وسلم قلعة ترمذ إلى الأمير ساوتكين، وأمره بعمارتها وتحصينها وعمارة سورها بالحجر المحكم، وحفر خندقها وتعميقه، ففعل ذلك. وسار السلطان ملكشاه يريد سمرقند، ففارقها صاحبها، وأنفذ يطلب المصالحة، ويضرع إلى نظام الملك في إجابته إلى ذلك، ويعتذر من تعرضه إلى ترمذ، فأجيب إلى ذلك، واصطلحوا، وعاد ملكشاه عنه إلى خراسان، ثم منها إلى الري، وأقطع بلخ وطخارستان لأخيه شهاب الدين تكش. ذكر عدة حوادثفيها توفي زعيم الدولة أبو الحسن بن عبد الرحيم بالنيل فجأة، وله سبعون سنة، وقد تقدم من أخباره ما فيه كفاية. وفيها توفي إياز أخو السلطان ملكشاه، وكفي شره كما كفي شر عمه قاورت بك. وفيها، في ربيع الأول، توفي القاضي أبو الحسين بن أبي جعفر السمناني حمو قاضي القضاة أبي عبد الله الدامغاني، وولي ابنه أبو الحسن ما كان إليه من القضاء بالعراق والموصل، وكان مولده سنة أربع وثمانين وثلاثمائة بسمنان، وكان هو وأبوه من المغالين في مذهب الأشعري، ولأبيه فيه تصانيف كثيرة، وهذا مما يستطرف أن يكون حنفي أشعرياً. وفيها، في جمادى الآخرة، توفي عبد العزيز بن أحمد بن محمد بن علي أبو محمد الكتاني، الدمشقي، الحافظ، وكان مكثراً في الحديث، ثقة، وممن سمع منه الخطيب أبو بكر البغدادي. ثم دخلت سنة سبع وستين وأربعمائة ذكر وفاة القائم بأمر الله وذكر بعض سيرته في هذه السنة، ليلة الخميس ثالث شعبان، توفي القائم بأمر الله أمير المؤمنين، رضي الله عنه، واسمه عبد الله أبو جعفر بن القادر بالله أبي العباس أحمد ابن الأمير إسحاق بن المقتدر بالله أبي الفضل جعفر بن المعتضد بالله أبي العباس أحمد. وكان سبب موته أنه كان قد أصابه شرى، فافتصد، ونام منفرداً، فانفجر فصاده، وخرج منه دم كثير ولم يشعر، فاستيقظ وقد ضعف وسقطت قوته، فأيقن بالموت، فأحضر ولي العهد، ووصاه بوصايا، وأحضر النقيبين وقاضي القضاة وغيرهم مع الوزير ان جهير، وأشهدهم على نفسه أنه جعل ابن ابنه أبا القاسم عبد الله بن محمد بن القائم بأمر الله ولي عهده. ولما توفي غسله الشريف أبو جعفر بن أبي موسى الهاشمي، وصلى عليه المقتدي بأمر الله. وكان عمره ستاً وسبعين سنة وثلاثة أشهر وخمسة أيام، وخلافته أربعاً وأربعين سنة وثمانية أشهر وأياماً، وقيل كان مولده ثامن عشر ذي الحجة سنة إحدى وتسعين وثلاثمائة، وعلى هذا يكون عمره ستاً وسبعين سنة وتسعة أشهر وخمسة وعشرين يوماً. وأمه أم ولد تسمى قطر الندى، أرمينية، وقيل رومية، أدركت خلافته، وقيل اسمها علم، وماتت في رجب سنة اثنتين وخمسين وأربعمائة.
وكان القائم جميلاً، مليح الوجه، أبيض، مشرباً حمرة، حسن الجسم، ورعاً، ديناً، زاهداً، عالماً، قوي اليقين بالله تعالى، كثير الصبر، وكان للقائم عناية بالأدب، ومعرفة حسنة بالكتابة، ولم يكن يرتضي أكثر ما يكتب من الديوان، فكان يصلح فيه أشياء، وكان مؤثراً للعدل والإنصاف يريد قضاء حوائج الناس، لا يرى المنع من شيء يطلب منه. قال محمد بن علي بن عامر الوكيل: دخلت يوماً إلى المخزن، فلن يبق أحد إلا أعطاني قصة، فامتلأت أكمامي منها، فقلت في نفسي: لو كان الخليفة أخي لأعرض عن هذه كلها، فألقيتها في بركة، والقائم ينظر ولا أشعر، فلما دخلت إليه أمر الخدم بإخراج الرقاع من البركة، فأخرجت، ووقف عليها، ووقع فيها بأغراض أصحابها، ثم قال لي: يا عامي! ما حملك على هذا؟ فقلت: خوف الضجر منها، فقال: لا تعد إلى مثلها! فإنا ما أعطيناهم من أموالنا شيئاً، إنما نحن وكلاء. ووزر للقائم أبو طالب محمد بن أيوب، وأبو الفتح بن دارست، ورئيس الرؤساء، وأبو نصر بن جهير، وكان قاضيه ابن ماكولا، وأبو عبد الله الدامغاني. ذكر خلافة المقتدي بأمر اللهلما توفي القائم بأمر الله بويع المقتدي بأمر الله عبد الله بن محمد بن القائم بالخلافة، وحضر مؤيد الملك بن نظام الملك، والوزير فخر الدولة بن جهير وابنه عميد الدولة، والشيخ أبو إسحاق، وأبو نصر بن الصباغ، ونقيب النقباء طراد، والنقيب الطاهر المعمر بن محمد، وقاضي القضاة أبو عبد الله الدامغاني، وغيرهم من الأعيان والأماثل، فبايعوه. وقيل: كان أول من بايعه الشريف أبو جعفر بن أبي موسى الهاشمي، فإنه لما فرغ من غسل القائم بايعه، وأنشده: إذا سيد منا مضى قام سيد ثم ارتج عليه، فقال المقتدي: قؤول بما قال الكرام فعول فلما فرغوا من البيعة صلى بهم العصر. ولم يكن للقائم من أعقابه ذكر سواه، فإن الذخيرة أبا العباس محمد بن القائم توفي أيام أبيه، ولم يكن له غيره، فأيقن الناس بانقراض نسله، وانتقال الخلافة من البيت القادري إلى غيره، ولم يشكوا في اختلال الأحوال بعد القائم، لأن من عدا البيت القادري كانوا يخالطون العامة في البلد، ويجرون مجرى السوقة، فلو اضطر الناس إلى خلافة أحدهم لم يكن له ذلك القبول، ولا تلك الهيبة، فقدر الله تعالى أن الذخيرة أبا العباس كان له جارية اسمها أرجوان، وكان يلم بها، فلما توفي ورأت ما نال القائم من المصيبة واستعظمه من انقراض عقبه، ذكرت أنها حامل، فتعلقت النفوس بذلك، فولدت بعد موت سيدها بستة أشهر المقتدي، فاشتد فرح القائم، وعظم سروره، وبالغ في الإشفاق عليه والمحبة له. فلما كانت حادثة البساسيري كان للمقتدي قريب أربع سنين، فأخفاه أهله، وحمله أبو الغنائم بن المحلبان إلى حران، كما ذكرنا، ولما عاد القائم إلى بغداد أعيد المقتدي إليه. فلما بلغ الحلم جعله ولي عهد، ولما ولي الخلافة أقر فخر الدولة بن جهير على وزارته بوصية من القائم بذلك، وسير عميد الدولة بن فخر الدولة بن جهير إلى السلطان ملكشاه لأخذ البيعة، وكان مسيره في شهر رمضان، وأرسل معه من أنواع الهدايا ما يجل عن الوصف. ذكر عدة حوادثفي هذه السنة، في شوال، وقعت نار ببغداد في دكان خباز بنهر المعلى، فاحترقت من السوق مائة وثمانون دكاناً سوى الدور، ثم وقعت نار في المأمونية، ثم في الظفرية، ثم في درب المطبخ، ثم في دار الخليفة، ثم في حمام السمرقندي، ثم في باب الأزج وذرب خراسان، ثم في الجانب الغربي في نهر طابق، ونهر القلائين، والقطيعة، وباب البصرة، واحتراق ما لا يحصى. وفيها أرسل المستنصر بالله العلوي، صاحب مصر، إلى صاحب مكة ابن أبي هاشم رسالة وهدية جليلة، وطلب منه أن يعيد له الخطبة مكة، حرسها الله تعالى، وقال: إن أيمانك وعهودك كانت للقائم، وللسلطان ألب أرسلان، وقد ماتا، فخطب به بمكة وقطع خطبة المقتدي، وكانت مدة الخطبة العباسية بمكة أربع سنين وخمسة أشهر، ثم أعيدت في ذي الحجة سنة ثمان وستين. وفيها كانت حرب شديدة بين بني رياح وزغبة ببلاد إفريقية، فقويت بنو رياح على زغبة فهزموهم وأخرجوهم عن البلاد.
وفيها جمع نظام الملك، والسلطان ملكشاه، جماعة من أعيان المنجمين، وجعلوا النيروز أول نقطة من الحمل، وكان النيروز قبل ذلك عند حلول الشمس نصف الحوت. وصار ما فعله السلطان مبدأ التقاويم. وفيها أيضاً عمل الرصد للسلطان ملكشاه، واجتمع من أعيان المنجمين في عمله منهم: عمر بن إبراهيم الخيامي، وأبو المظفر الإسفزاري، وميمون ابن النجيب الواسطي، وغيرهم، وخرج عليه من الأموال شيء عظيم، وبقي الرصد دائراً إلى أن مات السلطان سنة خمس وثمانين وأربعمائة، فبطل بعد موته. ثم دخلت سنة ثمان وستين وأربعمائة ذكر ملك أقسيس دمشق قد ذكرنا سنة ثلاث وستين ملك أقسيس الرملة، والبيت المقدس، وحصره مدينة دمشق، فلما عاد عنها جعل يقصد أعمالها كل سنة عند إدراك الغلات فيأخذها، فيقوى هو وعسكره، ويضعف أهل دمشق وجندها، فلما كان رمضان سنة سبع وستين سار إلى دمشق فحصرها، وأميرها المعلى بن حيدرة من قبل الخليفة المستنصر، فلم يقدر عليها، فانصرف عنها في شوال، فهرب أميرها المعلى في ذي الحجة. وكان سبب هربه أنه أساء السيرة مع الجند والرعية وظلمهم، فكثر الدعاء عليه، وثار به العسكر، وأعانهم العامة، فهرب منها إلى بانياس، ثم منها إلى صور، ثم أخذ إلى مصر فحبس بها، فمات محبوساً. فلما هرب من دمشق اجتمعت المصادمة، وولوا عليهم انتصار بن يحيى المصمودي، المعروف برزين الدولة، وغلت الأسعار بها حتى أكل الناس بعضهم بعضاً. ووقع الخلف بين المصامدة وأحداث البلد، وعرف أقسيس ذلك، فعاد إلى دمشق، فنزل عليها في شعبان من هذه السنة، فحصرها، فعدمت الأقوات، فبيعت الغرارة، إذا وجدت، بأكثر من عشرين ديناراً، فسلموها إليه بأمان، وعوض انتصار عنها بقلعة بانياس، ومدينة يافا من الساحل، ودخلها هو وعسكره في ذي القعدة، وخطب بها يوم الجمعة لخمس بقين من ذي القعدة، للمقتدي بأمر الله الخليفة العباسي، وكان آخر ما خطب فيها للعلويين المصريين، وتغلب على أكثر الشام، ومنع الأذان بحي على خير العمل، ففرح أهلها فرحاً عظيماً، وظلم أهلها، وأساء السيرة فيهم. ذكر عدة حوادثفي هذه السنة ملك نصر بن محمود بن مرداس مدينة منبج وأخذها من الروم. وفيها قدم سعد الدولة كوهرائين شحنة إلى بغداد من عسكر السلطان، ومعه العميد أبو نصر ناظراً في أعمال بغداد. وفيها وثب الجند بالبطيحة على أميرها أبي نصر بن الهيثم، وخالفوا عليه، فهرب منهم، وخرج من ملكه والذخائر والأموال التي جمعها في المدة الطويلة، ولم يصحبه من ذلك جميعه شيء، وصار نزيلاً على كوهرائين شحنة العراق. وفيها انفجر البثوق بالفلوجة، وانقطع الماء من النيل وغيره من تلك الأعمال من بلاد دبيس بن مزيد، فجلا أهل البلاد، ووقع الوباء فيهم، ولم يزل كذلك إلى أن سده عميد الدولة بن جهير سنة اثنتين وسبعين. وفي هذه السنة توفي أبو علي الحسن بن القاسم بن محمد المقري، المعروف بغلام الهراس الواسطي، بها، وكان محدثاً علامة في كثير من العلوم. ويف شعبان توفي القاضي أبو الحسين محمد بن محمد البيضاوي الفقيه الشافعي، وكان يدرس الفقه بدرب السلولي بالكرخ، وهو زوج ابنة القاضي أبي الطيب الطبري، وعبد الرحمن بن محمد بن محمد بن المظفر بن محمد بن داود أبو الحسن بن أبي طلحة الداودي، راوي صحيح البخاري، ولد سنة أربع وسبعين وثلاثمائة، وسمع الحديث وتفقه للشافعي على أبي بكر القفال، وأبي حامد الأسفراييني، وصحب أبا علي الدقاق، وأبا عبد الرحمن السلمي، وكان عابداً خيراً، قصده نظام الملك، فجلس بين يديه، فوعظه، وكان في قوله: إن الله تعالى سلطك على عباده، فانظر كيف تجيبه إذا سألك عنهم، فبكى، وكان موته ببوشنج. وفيها توفي أبو الحسن علي بن أحمد بن محمد بن متويه الواحدي المفسر، مصنف الوسيط، والبسيط، والوجيز، في التفسير، وهو نيسابوري، إمام مشهور، وأبو الفتح منصور بن أحمد بن دارست، وزير القائم، توفي بالأهواز، ومحمد بن القاسم بن حبيب بن عبدوس أبو بكر الصفار النيسابوري، الفقيه الشافعي، تفقه على أبي محمد الجويني، وسمع من الحاكم أبي عبد الله وأبي عبد الرحمن السلمي وغيرهما. وفيها توفي مسعود بن عبد العزيز بن المحسن بن الحسن بن عبد الرزاق أبو جعفر البياضي الشاعر، له شعر مطبوع، فمنه قوله:
يا من لبست لبعده ثوب الضنى، ... حتى خفيت به عن العواد وأنست بالسهر الطويل، فأنسيت ... أجفان عيني كيف كان رقادي إن كان يوسف بالجمال مقطع ال ... أيدي، فأنت مفتت الأكباد ثم دخلت سنة تسع وستين وأربعمائة ذكر حصر أقسيس مصر وعوده عنها في هذه السنة سار أقسيس من دمشق إلى مصر، وحصرها، وضيق على أهلها، ولم يبق غير أن يملكها، فاجتمع أهلها مع ابن الجوهري الواعظ في الجامع، وبكوا وتضرعوا ودعوا، فقبل الله دعاءهم، فانهزم أقسيس من غير قتال، وعاد على أقبح صورة بغير سبب، فوصل إلى دمشق وقد تفرق أصحابه، فرأى أهلها قد صانوا مخلفيه وأمواله، فشكرهم، ورفع عنهم الخراج تلك السنة. وأتى البيت المقدس، فرأى أهله قد قبحوا على أصحابه ومخلفيه، وحصروهم في محراب داود، عليه السلام، فلما قارب البلد تحصن أهله منه وسبوه، فقاتلهم، ففتح البلد عنوة ونهبه، وقتل من أهله فأكثر حتى قتل من التجأ إلى المسجد الأقصى، وكف عمن كان عند الصخرة وحدها. هكذا يذكر الشاميون هذا الاسم أقسيس، والصحيح أنه أتسز، وهو اسم تركي، وقد ذكر بعض مؤرخي الشام أن أتسز لما وصل إلى مصر جمع أمير الجيوش بدر العساكر، واستمد العرب وغيرهم من أهل البلاد، فاجتمع معه خلق كثير، واقتتلوا، فانهزم أتسز، وقتل أكثر أصحابه، وقتل أخ له، وقطعت يد أخ آخر، وعاد منهزماً إلى الشام في نفر قليل من عسكره، فوصل إلى الرملة، ثم سار منها إلى دمشق. وحكى لي من أثق به جماعة من فضلاء مصر: أن أتسز لما وصل إلى مصر ونزل بظاهر القاهرة أساء أصحابه السيرة في الناس، وظلموهم، وأخذوا أموالهم، وفعلوا الأفاعيل القبيحة، فأرسل رؤساء القرى ومقدموها إلى الخليفة المستنصر بالله العلوي يشكون إليه ما نزل بهم، فأعاد الجواب بأنه عاجز عن دفع هذا العدو، فقالوا له: نحن نرسل إليك من عندنا من الرجال المقاتلة يكونون معك، ومن ليس له سلاح تعطيه من عندك سلاحاً، وعسكر هذا العدو قد أمنوا، وتفرقوا في البلاد، فنثور بهم في ليلة واحدة ونقتلهم، وتخرج أنت إليه فيمن اجتمع عندك من الرجال، فلا يكون له بك قوة. فأجابهم إلى ذلك. وأرسلوا إليه الرجال، وثاروا كلهم في ليلة واحدة بمن عندهم، فأوقعوا بهم، وقتلوهم عن آخرهم، ولم يسلم منهم إلا من كان عنده في عسكره، وخرج إليه العسكر الذي عند المستنصر بالقاهرة، فلم يقدر على الثبات لهم، فولى منهزماً، وعاد إلى الشام، وكفي أهل مصر شره وظلمه. ذكر عدة حوادثفي هذه السنة ورد بغداد أبو نصر ابن الأستاذ أبي القاسم القشيري حاجاً، وجلس في المدرسة النظامية يعظ الناس، وفي رباط شيخ الشيوخ، وجرى له مع الحنابلة فتن لأنه تكلم على مذهب الأشعري، ونصره، وكثر أتباعه والمتعصبون له، وقصد خصومه من الحنابلة، ومن تبعهم، سوق المدرسة النظامية وقتلوا جماعة. وكان من المتعصبين للقشيري الشيخ أبو إسحاق، وشيخ الشيوخ، وغيرهما من الأعيان، وجرت بين الطائفتين أمور عظيمة. وفيها تزوج الأمير علي بن أبي منصور بن فرامرز بن علاء الدولة أبي جعفر بن كاكويه أرسلان خاتون بنت داود عمة السلطان ملكشاه التي كانت زوجة القائم بأمر الله. وفيها كان بالجزيرة، والعراق، والشام وباء عظيم، وموت كثير، حتى بقي كثير من الغلات ليس لها من يعملها لكثرة الموت في الناس. وفيها مات محمود بن مرداس، صاحب حلب، وملك بعده ابنه نصر، فمدحه ابن حيوس بقصيدة يقول فيها: ثمانية لم تفترق مذ جمعتها، ... فلا افترقت ما ذب عن ناظر شعر ضميرك والتقوى وجودك والغنى ... ولفظك والمعنى وعزمك والنصر وكان لمحمود بن نصر سجية ... وغالب ظني أن سيخلفها نصر فقال: والله لو قال سيضعفها نصر لأضعفتها له. وأمر له بما كان يعطيه أبوه، وهو ألف دينار، في طبق فضة. وكان على بابه جماعة من الشعراء، فقال بعضهم: على بابك المعمور منا عصابة ... مفاليس فانظر في أمور المفاليس وقد قنعت منك العصابة كلها ... بعشر الي أعطيته لابن حيوس وما بيننا هذا التقارب كله، ... ولكن سعيد لا يقاس بمنحوس
فقال لو قال: بمثل الذي أعطيته، لأعطيتهم ذلك، وأمر لهم بمثل نصفه. وفيها توفي اسبهدوست بن محمد بن الحسن أبو منصور الديلمي الشاعر، وكان قد لقي ابن الحجاج، وابن نباتة، وغيرهما، وكان يتشيع، وتركه، وقال في ذلك: وإذا سئلت عن اعتقادي قلت: ما ... كانت عليه مذاهب الأبرار وأقول: خير الناس بعد محمد ... صديقه وأنيسه في الغار وفيها توفي رئيس العراقين أبو أحمد النهاوندي الذي كان عميد بغداد، والشريف أبو جعفر بن أبي موسى الهاشمي الحنبلي، ورزق الله بن محمد بن أحمد بن علي أبو سعد الأنباري الخطيب، الفقيه، الحنفي، سمع الحديث الكثير، وكان ثقة حافظاً، وطاهر بن أحمد بن بابشاذ النحوي، المصري، توفي في رجب، سقط من سطح جامع عمرو بن العاص بمصر فمات لوقته، وعبد الله بن محمد بن عبد الله بن عمر بن أحمد المعروف بابن هزارمرد، الصريفيني، راوية أحاديث علي بن الجعد، وهو آخر من رواها، وكان ثقة، صالحاً، ومن طريقه سمعناها. ثم دخلت سنة سبعين وأربعمائة ذكر عدة حوادث في هذه السنة ورد مؤيد الملك بن نظام الملك إلى بغداد من العسكر. وفيها اصطلح تميم بن المعز بن باديس، صاحب إفريقية، مع الناصر بن علناس، وهو من بني حماد، عم جده، وزوجه تميم ابنته بلارة، وسيرها إليه من المهدية في عسكر، وأصحبها من الحلي والجهاز ما لا يحد، وحمل الناصر ثلاثين ألف دينار، فأخذ منها تميم ديناراً واحداً ورد الباقي. وفيها استعمل تميم ابنه مقلداً على مدينة طرابلس الغرب. وكان ببغداد، في هذه السنة، فتنة بين أهل سوق المدرسة وسوق الثلاثاء بسبب الاعتقاد، فنهب بعضهم بعضاً، وكان مؤيد الملك بن نظام الملك ببغداد بالدار التي عند المدرسة، فأرسل إلى العميد والشحنة فحضرا ومعهما الجند، فضربوا الناس، فقتل بينهم جماعة وانفصلوا. وفي هذه السنة، في ربيع الأول، توفي القاضي أبو عبد الله محمد بن محمد بن محمد بن البيضاوي، الفقيه الشافعي، وكان القاضي أبو الطيب الطبري جده لأمه. وفيها توفي أحمد بن محمد بن أحمد بن عبد الله بن النقور أبو الحسين البزاز في رجب، وكان مكثراً من الحديث، ثقة في الرواية، وأحمد بن عبد الملك بن علي أبو صالح المؤذن النيسابوري، كان يعظ ويؤذن، وكان كثير الرواية، حافظاً، ومولده سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة، وعبد الرحمن بن محمد بن إسحاق بن محمد بن يحيى بن مندة الأصبهاني أبو القاسم بن أبي عبد الله الحافظ، له تصانيف كثيرة، منها: تاريخ أصبهان، وله طائفة ينتمون إليه في الاعتقاد من أهل أصبهان، يقال لهم العبد رحمانية. وفي شوال منها توفيت ابنة نظام الملك زوجة عميد الدولة بن جهير، نفساء بولد مات من يومه، ودفنا بدار الخلافة، ولم تجر بذلك عادة لأحد، فعل ذلك إكراماً لأبيها، وجلس الوزير فخر الدولة بن جهير، وابنه عميد الدولة زوجها، للعزاء في دار بباب العامة ثلاثة أيام. ثم دخلت سنة إحدى وسبعين وأربعمائة ذكر عزل ابن جهير من وزارة الخليفة في هذه السنة عزل فخر الدولة أبو نصر بن جهير من وزارة الخليفة المقتدي بأمر الله، ووزر بعده أبو شجاع محمد بن الحسين. وكان السبب في ذلك أن أبا نصر بن القشيري ورد إلى بغداد، على ما تقدم ذكره، وجرى له الفتن مع الحنابلة، لما ذكر مذهب الأشعرية، ونصره، وعاب من سواهم، وفعلت الحنابلة ومن معهم ما ذكرناه، نسب أصحاب نظام الملك ما جرى إلى الوزير فخر الدولة، وإلى الخدم، وكتب أبو الحسن محمد بن علي بن أبي الصقر الواسطي الفقيه الشافعي إلى نظام الملك: يا نظام الملك قد حل ... ببغداد النظام وابنك القاطن فيها ... مستهان مستضام وبها أودى له قت ... لى غلام، وغلام والذي منهم تبقى ... سالماً فيه سهام يا قوام الدين لم يب ... قرواش ببغداد مقام عظم الخطب، وللحر ... ب اتصال، ودوام فمتى لم تحسم الدا ... ء أياديك الحسام ويكف القوم في بغ ... داد قتل، وانتقام فعلى مدرسة في ... ها، ومن فيها السلام
واعتصام بحريم ... لك، من بعد، حرام فلما سمع نظام الملك ما جرى من الفتن، وقصد مدرسته، والقتل بجوارها، مع أن ابنه مؤيد الملك فيها، عظم عليه، فأعاد كوهرائين إلى شحنكية العراق، وحمله رسالة إلى الخليفة المقتدي بأمر الله تتضمن الشكوى من بني جهير، وسأل عزل فخر الدولة من الوزارة، وأمر كوهرائين بأخذ أصحاب بني جهير، وإيصال بني جهير، وإيصال المكروه إليهم وإلى حواشيهم. فسمع بنو جهير الخبر، فسار عميد الدولة إلى المعسكر يريد نظام الملك ليستعطفه، وتجنب الطريق، وسلك الجبال خوفاً أن يلقاه كوهرائين ويناله فيها أذى، فلما وصل كوهرائين إلى بغداد اجتمع بالخليفة وأبلغه رسالة نظام الملك، فأمر فخر الدولة بلزوم منزله. ووصل عميد الدولة إلى المعسكر السلطاني، ولم يزل يستصلح نظام الملك حتى عاد إلى ما ألفه منه، وزوجه بابنة بنت له، وعاد إلى بغداد في العشرين من جمادى الأولى، فلم يرد الخليفة أباه إلى وزارته، وأمرهما بملازمة منازلهما، واستوزر أبا شجاع محمد بن الحسين. ثم إن نظام الملك الملك راسل الخليفة في إعادة بني جهير إلى الوزارة، وشفع في ذلك، فأعيد عميد الدولة إلى الوزارة، وأذن لأبيه فخر الدولة في فتح بابه، وكان ذلك في صفر سنة اثنتين وسبعين. ذكر استيلاء تتش على دمشقفي هذه السنة ملك تاج الدولة تتش بن ألب أرسلان دمشق. وسبب ذلك أن أخاه السلطان ملكشاه أقطعه الشام، وما يفتحه في تلك النواحي، سنة سبعين وأربعمائة، فأتى حلب وحصرها، ولحق أهلها مجاعة شديدة، وكان معه جمع كثير من التركمان، فأنفذ إليه أقسيس، صاحب دمشق، يستنجده، ويعرفه أن عساكر مصر قد حصرته بدمشق. وكان أمير الجيوش بدر قد سير عسكراً من مصر، ومقدمهم قائد يعرف بنصر الدولة، فحصر دمشق، فأرسل أقسيس إلى تاج الدولة تتش يستنصره، فسار إلى نصرة أقسيس، فلما سمع المصريون بقربه أجفلوا من بين يديه شبه المنهزمين، وخرج أقسيس إليه يلتقيه عند سور البلد، فاغتاظ منه تتش حيث لم يبعد في تلقيه، وعاتبه على ذلك، فاعتذر بأمور لم يقبلها تتش، فقبض عليه في الحال، وقتله من ساعته، وملك البلد، وأحسن السيرة في أهله، وعدل فيهم. قد ذكر ابن الهمذاني وغيره من العراقيين أن ملك تتش دمشق كان هذه السنة، وذكر الحافظ أبو القاسم بن عساكر الدمشقي في كتاب تاريخ دمشق إياها كان سنة اثنتين وسبعين. ذكر عدة حوادثفي هذه السنة ولد الملك بركيارق ابن السلطان ملكشاه. وفيها، في المحرم، وصل سعد الدولة كوهرائين إلى بغداد، وضرب الطبل على باب داره، أوقات الصلوات، وكان قد طلب ذلك من قبل، فلم يجب إليه لأنه لم تجر به عادة. وفيها توفي سيف الدولة أبو النجم بدر بن ورام الكردي، الجاواني، في شهر ربيع الأول، ودفن بطسفونج. وفي رجب توفي أبو علي بن البنا المقري الحنبلي، وله مصنفات كثيرة، وسليم الجوري بناحية جور من دجيل، وكان زاهداً، يعمل، ويأكل من كسبه، ولم يكلف أحداً حاجاً، وأقام بطنزة من ديار بكر، وهي كثيرة الفواكه، فلم يأكل بها فاكهة البتة. ثم دخلت سنة اثنتين وسبعين وأربعمائة ذكر فتوح إبراهيم صاحب غزنة في بلاد الهند في هذه السنة غزا الملك إبراهيم بن مسعود بن محمود بن سبكتكين بلاد الهند، فحصر قلعة أجود، وهي على مائة وعشرين فرسخاً من لهاوور، وهي قلعة حصينة، في غاية الحصانة، كبيرة، تحوي عشرة آلاف رجل من المقاتلة، فقاتلوه، وصبروا تحت الحصر، وزحف إليهم غير مرة، فرأوا من شدة حربه ما ملأ قلوبهم خوفاً ورعباً، فسلموا القلعة إليه في الحادي والعشرين من صفر هذه السنة. وكان في نواحي الهند قلعة يقال لها قلعة روبال، على رأس جبل شاهق، وتحتها غياض أشبة، وخلفها البحر، وليس عليها قتال إلا من مكان ضيق، وهو مملوء بالفيلة المقاتلة، وبها من رجال الحرب ألوف كثيرة، فتابع عليهم الوقائع، وألح عليهم بالقتال بجميع أنواع الحرب، وملك القلعة، واستنزلهم منها.
وفي موضع يقال له دره نوره أقوام من أولاد الخراسانيين الذين جعل أجدادهم فيها أفراسياب التركي من قديم الزمان، ولم يتعرض إليهم أحد من الملوك، فسار إليهم إبراهيم، ودعاهم إلى الإسلام أولاً، فامتنعوا من إجابته، وقاتلوه، فظفر بهم، وأكثر القتل فيهم، وتفرق من سلم في البلاد، وسبى واسترق من النسوان والصبيان مائة ألف. وفي هذه القلعة حوض للماء يكون قطره نحو نصف فرسخ لا يدرك قعره، يشرب منه أهل القلعة ما عندهم من دابة، ولا يظهر فيه نقص. وفي بلاد الهند موضع يقال له وره، وهو بر بين خليجين، فقصده الملك إبراهيم، فوصل إليه في جمادى الأولى، وفي طريقه عقبات كثيرة، وفيها أشجار ملتفة، فأقام هناك ثلاثة أشهر ولقي الناس من الشتاء شدة، ولم يفارق الغزوة حتى أنزل الله نصره على أوليائه، وذله على أعدائه، وعاد إلى غزنة سالماً مظفراً. هذه الغزوات لم أعرف تاريخها، وأما الأولى فكانت هذه السنة، فلهذا أوردتها متتابعة في هذه السنة. ذكر ملك شرف الدولة مسلم مدينة حلبفي هذه السنة ملك شرف الدولة مسلم بن قريش العقيلي، صاحب الموصل، مدينة حلب. وسبب ذلك أن تاج الدولة تتش بن ألب أرسلان حصرها مرة بعد أخرى، فاشتد الحصار بأهلها، وكان شرف الدولة يواصلهم بالغلات وغيرها. ثم إن تتش حصرها هذه السنة، وأقام عليها أياماً ورحل عنها وملك بزاعة والبيرة، وأحرق ربض عزاز، وعاد إلى دمشق. فلما رحل عنها تاج الدولة استدعى أهلها شرف الدولة ليسلموها إليه، فلما قاربها امتنعوا من ذلك، وكان مقدمهم يعرف بابن الحتيتي العباسي، فاتفق أن ولده خرج يتصيد بضيعة له، فأسره أحد التركمان، وهو صاحب حصن بنواحي حلب، وأرسله إلى شرف الدولة، فقرر معه أن يسلم البلد إليه إذا أطلقه، فأجاب إلى ذلك، فأطلقه، فعاد إلى حلب، واجتمع بأبيه، وعرفه ما استقر، فأذعن إلى تسليم البلد، ونادى بشعار شرف الدولة، وسلم البلد إليه، فدخله سنة ثلاث وسبعين، وحصر القلعة، واستنزل منها سابقاً ووثاباً ابني محمود بن مرداس، فلما ملك البلد أرسل ولده، وهو ابن عمة السلطان، إلى السلطان يخبره بملك البلد، وأنفذ معه شهادة فيها خطوط المعدلين بحلب بضمانها، وسأل أن يقرر عليه الضمان، فأجابه السلطان إلى ما طلب، وأقطع ابن عمته مدينة بالس. ذكر مسير ملكشاه إلى كرمانفي أول هذه السنة سار السلطان ملكشاه إلى بلاد كرمان، فلما سمع صاحبها سلطانشاه بن قاورت بك، وهو ابن عم السلطان، بوصوله إليه خرج إلى طريقه ولقيه وحمل له الهدايا الكثيرة، وخدمه، وبالغ في الخدمة، فأقره السلطان على البلاد، وأحسن إليه، وعاد عنه في المحرم سنة ثلاث وسبعين إلى أصبهان. ذكر عدة حوادثفي هذه السنة ولد للخليفة المقتدي بأمر الله أمير المؤمنين ولد سماه موسى، وكناه أبا جعفر، وزينت بغداد سبعة أيام. وفيها وصل السلطان ملكشاه إلى خوزستان متصيداً، فوصل معه خمارتكين وكوهرائين وكانا يسعيان في قتل ابن علان اليهودي، ضامن البصرة، وكان ملتجئاً إلى نظام الملك، وكان بين نظام الملك وبين خمارتكين الشرابي وكوهرائين عداوة، فسعيا باليهودي لذلك، فأمر السلطان بتغريقه فغرق، وانقطع نظام الملك عن الركوب ثلاثة أيام، وأغلق بابه، ثم أشير عليه بالركوب فركب، وعمل للسلطان دعوة عظيمة قدم له فيها أشياء كثيرة، وعاتبه على فعله، فاعتذر إليه. وكان أمر اليهودي قد عظم إلى حد أن زوجته توفيت، فمشى خلف جنازتها كل من في البصرة، إلا القاضي، وكان له نعمة عظيمة، وأموال كثيرة، فأخذ السلطان منه مائة ألف دينار، وضمن خمارتكين البصرة كل سنة بمائة ألف دينار ومائة فرس. وفيها زادت الفرات تسع أذرع، فخربت بعض دواليب هيت، وخربت فوهة نهر عيسى، وزادت تامراً نيفاً وثلاثين ذراعاً، وعلا على قنطرتي طراستان وخانقين الكسرويتين فقطعهما. وفيها، في ذي الحجة، توفي نصر بن مروان، صاحب ديار بكر، وملك بعده ابنه منصور ، ودبر دولته ابن الأنباري. وفيها توفي أبو منصور محمد بن عبد العزيز العكبري، ومولده سنة أربع وثمانين وثلاثمائة، وهو من المحدثين المعروفين، وكان صدوقاً، ومحمد بن هبة الله بن الحسن بن منصور أبو بكر بن أبي القاسم الطبري اللالكائي وولد سنة تسع وأربعمائة، وحدث عن هلال الحفار وغيره، وتوفي في جمادى الأولى.
وفيها توفي أبو الفتيان محمد بن سلطان بن حيوس الشاعر المشهور، وحدث عن جده لأمه القاضي أبي نصر محمد بن هارون بن الجندي. ثم دخلت سنة ثلاث وسبعين وأربعمائة | |
|
| |
الشيخ عودة الشيخ عودة
عدد المساهمات : 1748 تاريخ التسجيل : 28/09/2008 العمر : 74
| موضوع: رد: كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير الإثنين فبراير 24, 2014 6:42 pm | |
| ذكر استيلاء تكش على بعض خراسان وأخذها منه في هذه السنة، في شعبان، سار السلطان ملكشاه إلى الري، وعرض العسكر، فأسقط منهم سبعة آلاف رجل لم يرض حالهم، فمضوا إلى أخيه تكش، وهو ببوشنج، فقوي بهم، وأظهر العصيان على أخيه ملكشاه، واستولى على مرو الروذ، ومرو الشاهجان، وترمذ، وغيرها، وسار إلى نيسابور طامعاً في ملك خراسان. وقيل إن نظام الملك قال للسلطان لما أمر بإسقاطهم: إن هؤلاء ليس فيهم كاتب، ولا تاجر، ولا خياط، ولا من له صنعة غير الجندية، فإذا أسقطوا لا نأمن أن يقيموا منهم رجلاً ويقولوا هذا السلطان، فيكون لنا منهم شغل، ويخرج عن أيدينا أضعاف ما لهم من الجاري إلى أن نظفر بهم. فلم يقبل السلطان قوله، فلما مضوا إلى أخيه وأظهر العصيان ندم على مخالفة وزيره حيث لم ينفع الندم. واتصل خبره بالسلطان ملكشاه، فسار مجداً إلى خراسان، فوصل إلى نيسابور قبل أن يستولي تكش عليها، فلما سمع تكش بقربه منها سار عنها، وتحصن بترمذ، وقصده السلطان، فحصره بها، وكان تكش قد أسر جماعة من أصحاب السلطان، فأطلقهم، واستقر الصلح بينهما، ونزل تكش إلى أخيه السلطان ملكشاه، ونزل عن ترمذ. ذكر عدة حوادثفي هذه السنة تسلم مؤيد الملك بن نظام الملك تكريت من صاحبها المهرباط. وفيها توفي أبو علي بن شبل الشاعر المشهور، ومن شعره في الزهد: أهم بترك الذنب ثم يردني ... طموح شباب بالغرام موكل فمن لي إذا أخرت ذا اليوم توبة ... بأن المنايا لي إلى الشيب تمهل أأعجز ضعفاً عن أدا حق خالقي، ... وأحمل وزراً فوق ما يتحمل وفيها أيضاً توفي العميد أبو منصور بالبصرة. وفيها توفي عبد السلام بن أحمد بن محمد أبو الفتح الصوفي من أهل فارس، سافر الكثير، وسمع الحديث بالعراق، والشام، ومصر، وأصبهان وغيرها، وكانت وفاته بفارس، ويوسف بن الحسن بن محمد بن الحسن أبو الهيثم التفكري، الزنجاني، ولد سنة خمس وتسعين وثلاثمائة، وسمع من أبي نعيم الحافظ وغيره، وتفقه على أبي إسحاق الشيرازي وأدرك أبا الطيب الطبري، وكان من العلماء العاملين، المشتغلين بالعبادة. ثم دخلت سنة أربع وسبعين وأربعمائة ذكر خطبة الخليفة ابنة السلطان ملكشاه في هذه السنة أرسل الخليفة الوزير فخر الدولة أبا نصر بن جهير إلى السلطان يخطب ابنته لنفسه، فسار فخر الدولة إلى أصبهان، إلى السلطان يخطب ابنته، فأمر نظام الملك أن يمضي معه إلى خاتون زوجة السلطان في المعنى، فمضيا إليها فخاطباها، فقالت إن ملك غزنة وملوك الخانية بما وراء النهر طلبوها، وخطبوها لأولادهم، وبذولوا أربع مائة دينار، فإن حمل الخليفة هذا المال فهو أحق منهم. فعرفتها أرسلان خاتون التي كانت زوجت القائم بأمر الله ما يحصل لها من الشرف والفخر بالاتصال بالخليفة، وأن هؤلاء كلهم عبيده وخدمه، ومثل الخليفة لا يطلب منه المال، فأجابت إلى ذلك، وشرطت أن يكون الحمل المعجل خمسين ألف دينار، وأنه لا يبقي له سرية ولا زوجة غيرها، فأجيبت إلى ذلك، فأعطى السلطان يده، وعاد فخر الدولة إلى بغداد. ذكر وفاة نور الدولة بن مزيد وإمارة ولده منصورفي هذه السنة، في شوال، توفي نور الدولة أبو الأغر دبيس بن علي بن مزيد الأسدي بمطيراباذ، وكان عمره ثمانين سنة، وإمارته سبعاً وخمسين سنة، وما زال ممدحاً في كل زمان مذكوراً بالتفضل والإحسان، ورثاه الشعراء فأكثروا، وولي بعده ما كان إليه ابنه أبو كامل منصور، ولقبه بهاء الدولة، فأحسن السيرة، واعتمد الجميل، وسار إلى السلطان ملكشاه في ذي القعدة، واستقر له الأمر، وعاد في صفر سنة خمس وسبعين وخلع الخليفة أيضاً عليه. ذكر محاصرة تميم بن المعز مدينة قابسفي هذه السنة حصر الأمير تميم بن المعز بن باديس، صاحب إفريقية، مدينة قابس حصاراً شديداً، وضيق على أهلها، وعاث عساكره في بساتينها المعروفة بالغابة، فأفسدوها. ذكر عدة حوادث
في هذه السنة سار تتش، بعد عود شرف الدولة عن دمشق، وقصد الساحل الشامي، فافتتح أنطرطوس، وبعضاً من الحصون، وعاد إلى دمشق. وفيها ملك شرف الدولة، صاحب الموصل، مدينة حران، وأخذها من بني وثاب النميريين، وصالحه صاحب الرها، ونقش السكة باسمه. وفيها سد ظفر القائمي بثق نهر عيسى، وكان خراباً منذ ثلاث وعشرين سنة، وسد مراراً، وتخرب إلى أن سده ظفر. وفيها أرسل السلطان إلى بغداد ليخرج الوزير أبو شجاع الذي وزر للخليفة بعد بني جهير، فأرسله الخليفة إلى نظام الملك، وسير معه رسولاً، وكتب معه إلى نظام الملك كتاباً بخطه، يأمره بالرضا عن أبي شجاع، فرضي عنه وأعاده إلى بغداد. وفيها مات ابن السلطان ملكشاه، واسمه داود، فجزع عليه جزعاً شديداً، وحزن حزناً عظيماً، ومنع من أخذه وغسله، حتى تغيرت رائحته، وأراد قتل نفسه مرات، فمنعه خواصه، ولما دفن لم يطق المقام، فخرج يتصيد، وأمر بالنياحة عليه في البلد، ففعل ذلك عدة أيام، وجلس له وزير الخليفة في العزاء ببغداد. وفيها توفي عبد الله بن أحمد بن رضوان أبو القاسم، وهو من أعيان أهل بغداد، وكان مرضه شقيقة، وبقي ثلاث سنين في بيت مظلم لا يقدر يسمع صوتاً ولا يبصر ضوءاً. وفيها، في ذي الحجة، توفي أبو محمد بن أبي عثمان المحدث، وكان صالحاً، يقريء القرآن بمسجده بنهر القلائين. وتوفي علي بن أحمد بن علي بو القاسم البسري البندار، ومولده سنة ست وثمانين وثلاثمائة، سمع المخلص وغيره، وكان ثقة صالحاً. وفيها توفي أبو إسحاق إبراهيم بن عقيل بن حبش القرشي، النحوي. ؟ ثم دخلت سنة خمس وسبعين وأربعمائة ذكر وفاة جمال الملك بن نظام الملك في هذه السنة، في رجب، توفي جمال الملك منصور بن نظام الملك، وورد الخبر بوفاته إلى بغداد في شعبان، فجلس أخوه مؤيد الملك للعزاء، وحضر فخر الدولة بن جهير، وابنه عميد الملك، معزيين، وأرسل الخليفة إليه في اليوم الثالث فأقامه من العزاء. وكان سبب موته أن مسخرة كان للسلطان ملكشاه يعرف بجعفرك يحاكي نظام الملك، ويذكره في خلواته مع السلطان، فبلغ ذلك جمال الملك، وكان يتولى مدينة بلخ وأعمالها، فسار من وقته يطوي المراحل إلى والده والسلطان، وهما بأصبهان، فاستقبله أخواه، فخر الملك ومؤيد الملك، فأغلظ لهما القول في إغضائهما على ما بلغه عن جعفرك، فلما وصل إلى حضرة السلطان في هذا الجمع! فلما خرج من عند السلطان أمر بالقبض على جعفرك، وأمر بإخراج لسانه من قفاه وقطعه فمات. ثم سار مع السلطان وأبيه إلى خراسان، وأقاموا بنيسابور مدة، ثم أرادوا العود إلى أصبهان، وتقدمهم نظام الملك، فأحضر السلطان عميد خراسان، وقال له: أيما أحب لك رأسك أم رأس جمال الملك؟ فقال: بل رأسي. فقال: لئن لم تعمل في قتله لأقتلنك. فاجتمع بخادم يختص بخدمة جمال الملك، وقال له سراً: الأولى أن تحفظوا نعمتكم، ومناصبكم، وتدبر في قتل جمال الملك، فإن الس يريد أن يأخذه ويقتله، ولأن تقتلوه أنتم سراً أصلح لكم من أن يقتله الس ظاهراً. فظن الخادم أن ذلك صحيح، فجعل له سماً في كوز فقاع، فطلب جمال الملك فقاعاً، فأعطاه الخادم ذلك الكوز، فشربه فمات، فلما علم الس بموته سار مجداً، حتى لحق نظام الملك، فأعلمه بموت ابنه، وعزاه، وقال: أنا ابنك، وأنت أولى من صبر واحتسب. ذكر الفتنة ببغداد بين الشافعية والحنابلةورد إلى بغداد، هذه السنة، الشريف أبو القاسم البكري، المغربي، الواعظ، وكان أشعري المذهب، وكان قد قصد نظام الملك، فأحبه ومال إليه، وسيره إلى بغداد، وأجرى عليه الجراية الوافرة، فوعظ بالمدرسة النظامية، وكان يذكر الحنابلة ويعيبهم، ويقول: " وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا " ، والله ما كفر أحمد ولكن أصحابه كفروا. ثم إنه قصد يوماً دار قاضي القضاة أبي عبد الله الدامغاني بنهر القلائين، فجرى بين بعض أصحابه وبين قوم من الحنابلة مشاجرة أدت إلى الفتنة، وكثر جمعه، فكبس دور بني الفراء، وأخذ كتبهم، وأخذ منها كتاب الصفات لأبي يعلى، فكان يقرأ بين يديه وهو جالس على الكرسي للوعظ، فيشنع به عليهم، وجرى له معهم خصومات وفتن. ولقب البكري من الديوان بعلم السنة، ومات ببغداد، ودفن عند قبر أبي الحسن الأشعري. ذكر مسير الشيخ أبي إسحاق إلى السلطان في رسالة
في هذه السنة، في ذي الحجة، أوصل الخليفة المقتدي بأمر الله الشيخ أبا إسحاق الشيرازي إلى حضرته، وحمله رسالة إلى الس ملكشاه، ونظام الملك، تتضمن الشكوى من العميد أبي الفتح بن أبي الليث، عميد العراق، وأمره أن ينهي ما يجري على البلاد من النظار. فسار فكان كلما وصل إلى مدينة من بلاد العجم يخرج أهلها إليه بنسائهم وأولادهم يتمسحون بركابه، ويأخذون تراب بغلته للبركة. وكان في صحبته جماعة من أعيان بغداد منهم الإمام أبو بكر الشاشي وغيره. ولما وصل إلى ساوة خرج جميع أهلها، وسأله فقهاؤها كل منهم أن يدخل بيته، فلم يفعل، ولقيه أصحاب الصناعات، ومعهم ما ينثرونه على محفته، فخرج الخبازون ينثرون الخبز، وهو ينهاهم، فلم ينتهوا، وكذلك أصحاب الفاكهة، والحلواء، وغيرهم، وخرج إليه الأساكفة، وقد عملوا مداسات لطافاً تصلح لأرجل الأطفال، ونثروها، فكانت تسقط على رؤوس الناس، فكان الشيخ يتعجب، ويذكر ذلك لأصحابه بعد رجوعه، ويقول: ما كان حظكم من ذلك النثار؟ فقال له بعضهم: ما كان حظ سيدنا منه. فقال: أما أنا فغطيت بالمحفة، وهو يضحك. فأكرمه الس ونظام الملك. وجرى بينه وبين إمام الحرمين أبي المعالي الجويني مناظرة بحضرة نظام الملك، وأجيب إلى جميع ما التمسه، ولما عاد أهين العميد، وكسر عما كان يعتمده، ورفعت يده عن جميع ما يتعلق بحواشي الخليفة. ولما وصل الشيخ إلى بسطام خرج إليه السهلكي، شيخ الصوفية بها، وهو شيخ كبير، فلما سمع الشيخ أبو إسحاق بوصوله خرج إليه ماشياً، فلما رآه السهلكي ألقى نفسه من دابة كان عليها، وقبل يد الشيخ أبي إسحاق، فقبل أبو إسحاق رجله، وأقعده موضعه، وجلس أبو إسحاق بين يديه، وأظهر كل واحد منهما من تعظيم صاحبه كثيراً، وأعطاه شيئاً من حنطة ذكر أنها من عهد أبي يزيد البسطامي، ففرح بها ابو إسحاق. ذكر حصر شرف الدولة دمشق وعوده عنها في هذه السنة جمع تاج الدولة تتش جمعاً كثيراً، وسار عن بغداد، وقصد بلاد الروم: أنطاكية وما جاورها، فسمع شرف الدولة، صاحب حلب، الخبر، فخافه، فجمع أيضاً العرب من عقيل، والأكراد، وغيرهم، فاجتمع معه جمع كثير، فراسل الخليفة بمصر يطلب منه إرسال نجدة إليه ليحصر دمشق، فوعده ذلك فسار إليها. فلما سمع تتش الخبر عاد إلى دمشق، فوصلها أول المحرم سنة ست وسبعين سنة، ووصل شرف الدولة أواخر المحرم، وحصر المدينة وقاتله أهلها. وفي بعض الأيام خرج إليه عسكر دمشق وقاتلوه، وحمل على عسكره حملة صادقة، فانكشفوا وتضعضعوا، وانهزمت العرب، وثبت شرف الدولة، وأشرف على الأسر، وتراجع إليه أصحابه، فلما رأى شرف الدولة ذلك، ورأى أيضاً أن مصر لم يصل إليه منها عسكر، وأتاه عن بلاده الخبر أن أهل حران عصوا عليه رحل عن دمشق إلى بلاده، وأظهر أنه يريد البلاد بفلسطين، فرحل أولاً إلى مرج الصفر، فارتاع أهل دمشق وتتش واضطربوا، ثم إنه رحل من مرج الصفر مشرقاً في البرية وجد في مسيره، فهلك من المواشي الكثير مع عسكره، ومن الدواب شيء كثير، وانقطع خلق كثير. ذكر عدة حوادثفي هذه السنة قدم مؤيد الملك بن نظام الملك إلى بغداد من أصبهان، فخرج عميد الدولة بن جهير إلى لقائه، ونزل بالمدرسة النظامية، وضرب على بابه الطبول، أوقات الصلوات الثلاث، فأعطي مالاً جليلاً حتى قطعه، وأرسل الطبول إلى تكريت. وفيها توفي أبو عمرو عبد الوهاب بن محمد بن إسحاق بن مندة الأصبهاني، في جمادى الآخرة، بأصبهان، وكان حافظاً فاضلاً، والأمير أبو نصر علي بن الوزير أبي القاسم هبة الله بن علي بن جعفر بن ماكولا، مصنف كتاب الإكمال، ومولده سنة عشرين وأربعمائة، وكان فاضلاً حافظاً، قتله مماليكه الأتراك بكرمان، وأخذوا ماله. ثم دخلت سنة ست وسبعين وأربعمائة ذكر عزل ابن جهير عن وزارة الخليفة ومسير والده فخر الدولة إلى ديار بكر
في هذه السنة، في صفر، عزل عميد الدولة بن جهير عن وزارة الخليفة، ووصل يوم عزل رسول من السلطان، ونظام الملك، إلى الخليفة يطلبان أن يرسل إليهما بنو جهير، فأذن لهما في ذلك، وساروا بجميع أهلهم ونسائهم إلى السلطان، فصادفوا منه، ومن نظام الملك، الإكرام والاحترام، وعقد السلطان على فخر الدولة بن جهير ديار بكر، وخلع عليه، وأعطاه الكوسات، وسير معه العساكر، وأمره أن يقصدها ويأخذها من بني مروان، وأن يخطب لنفسه، ويذكر اسمه على السكة، فسار إليها. ولما فارق بنو جهير بغداد رتب في الديوان أبو الفتح المظفر ابن رئيس الرؤساء، وكان قبل ذلك على أبنية الدار وغيرها. ذكر عصيان أهل حران على شرف الدولة وفتحهافي هذه السنة عصى أهل حران على شرف الدولة مسلم بن قريش، وأطاعوا قاضيهم ابن حلبة، وأرادوا هم وابن عطير النميري تسليم البلد إلى جبنق، أمير التركمان، وكان شرف الدولة على دمشق، يحاصر تاج الدولة تتش بها، فبلغه الخبر، فعاد إلى حران وصالح ابن ملاعب، صاحب حمص، وأعطاه سلمية ورفنية، وبادر بالمسير إلى حران، فحصرها، ورماها بالمنجنيق، فخرب من سورها بدنة، وفتح البلد في جمادى الأولى، وأخذ القاضي ومعه ابنان له، فصلبهم على السور. ذكر وزارة أبي شجاع محمد بن الحسين للخليفةفي هذه السنة عزل الخليفة أبا الفتح ابن رئيس الرؤساء من النيابة في الديوان، واستوزر أبا شجاع محمد بن الحسين، وخلع عليه خلع الوزراة في شعبان، ولقيه ظهير الدين، ومدحه الشعراء فأكثروا، فحسن مدحه وهنأه أبو المظفر محمد بن العباس الآبيوردي بالقصيدة المشهورة التي أولها: ها إنها مقل الظباء العين ... فتكت بسر فؤادي المكنون ومنها: فانهل أسراب الدموع كأنها ... منح يتابعها ظهير الدين ذكر قتل أبي المحاسن بن أبي الرضافي هذه السنة، في شوال، قتل سيد الرؤساء أبو المحاسن بن كمال الملك أبي الرضا، وكان قد قرب من السلطان ملكشاه قرباً عظيماً، كوان أبوه يكتب الطغراء، فقال أبو المحاسن للسلطان: سلم إلي نظام الملك وأصحابه، وأنا أسلم إليك منهم ألف ألف دينار، فإنهم يأكلون الأموال، ويقتطعون الأعمال، وعظم عنده ذخائرهم. فبلغ ذلك نظام الملك، فعمل سماطاً عظيماً، وأقام عليه مماليكه، وهم ألوف من الأتراك، وأقام خيلهم وسلاحهم على حيالهم، فلما حضر السلطان قال له: إنني قد خدمتك، وخدمت أباك وجدك، ولي حق خدمة، وقد بلغك أخذي لعشر أموالك، وصدق هذا، أنا آخذه وأصرفه إلى هؤلاء الغلمان الذين جمعتهم لك، وأصرفه أيضاً إلى الصدقات، والصلات، والوقوف التي أعظم ذكرها، وشكرها، وأجرها لك، وأموالي، وجميع ما أملكه بين يديك، وأنا أقنع بمرقعة وزاوية. فأمر السلطان بالقبض على أبي المحاسن وأن تسمل عيناه، وأنفذه إلى قلعة ساوة. وسمع أبوه كمال الملك الخبر، فاستجار بدار نظام الملك، فسلم، وبذل مائتي ألف دينار، وعزل عن الطغراء، ورتب مكانه مؤيد الملك بن نظام الملك. ذكر استيلاء مالك بن علوي على القيروان وأخذها منهفي هذه السنة جع مالك بن علوي الصخري العرب فأكثر، وسار إلى المهدية فحصرها، فقام الأمير تميم بن المعز قياماً تاماً، ورحله عنها، ولم يظفر منها بشيء، فسار مالك منها إلى القيروان فحصرها وملكها، فجرد إليه تميم العساكر العظيمة، فحصروه بها، فلما رأى مالك أنه لا طاقة له بتميم خرج عنها وتركها، فاستولى عليها عسكر تميم وعادت إلى ملكه كما كانت. ذكر عدة حوادثفي هذه السنة عم الرخص جميع البلاد، فبلغ كر الحنطة الجيدة ببغداد عشرة دنانير. وفيها، في جمادى الآخرة، توفي الشيخ أبو إسحاق الشيرازي، وكان مولده سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة، وأكثر الشعراء مراثيه، فمنهم أبو الحسن الخباز، والبندنيجي، وغيرهما، وكان، رحمة الله عليه، واحد عصره علماً وزهداً وعبادة وسخاء، وصلي عليه في جامع القصر، وجلس أصحابه للعزاء في المدرسة النظامية ثلاثة أيام، ولم يتخلف أحد عن العزاء.
وكان مؤيد الملك بن نظام الملك ببغداد، فرتب في التدريس أبا سعد عبد الرحمن بن المأمون المتولي، فلما بلغ ذلك نظام الملك أنكره، وقال: كان يجب أن تغلق المدرسة بعد الشيخ أبي إسحاق سنة، وصلي عليه بباب الفردوس، وهذا لم يفعل على غيره، وصلى عليه الخليفة المقتدي بأمر الله، وتقدم في الصلاة عليه أبو الفتح ابن رئيس الرؤساء، وهو ينوب في الوزارة، ثم صلي عليه بجامع القصر، ودفن بباب أبرز. ثم دخلت سنة سبع وسبعين وأربعمائة ذكر الحرب بين فخر الدولة بن جهير وابن مروان وشرف الدولة قد تقدم ذكر مسير فخر الدولة بن جهير في العساكر السلطانية إلى ديار بكر، فلما كانت هذه السنة سير السلطان إليه أيضاً جيشاً فيهم الأمير أرتق ابن اكسب، وأمرهم بمساعدته. وكان ابن مروان قد مضى إلى شرف الدولة وسأله نصرته على أن يسلم إليه آمد، وحلف كل واحد لصاحبه، وكل منهما يرى أن صاحبه كاذب لما كان بينهما من العداوة المستحكمة، واجتمعا على حرب فخر الدولة، وسارا إلى آمد، وقد نزل فخر الدولة بنواحيها، فلما رأى فخر الدولة اجتماعهما مال إلى الصلح، وقال: لا أوثر أن يحل بالعرب بلاء على يدي. فعرف التركمان ما عزم عليه، فركبوا ليلاً وأتوا إلى العرب وأحاطوا بهم في ربيع الأول، والتحم القتال واشتد، فانهزمت العرب، ولم يحضر هذه الوقعة الوزير فخر الدولة، ولا أرتق، وغنم التركمان حلل العرب ودوابهم، وانهزم شرف الدولة، وحمى نفسه حتى وصل إلى فصيل آمد، وحصره فخر الدولة ومن معه. فلما رأى شرف الدولة أنه محصور خاف على نفسه، فراسل الأمير أرتق، وبذل له مالاً، وسأله أن يمن عليه بنفسه، ويمكنه من الخروج من آمد، وكان هو على حفظ الطرق والحصار. فلما سمع أرتق ما بذل له شرف الدولة أذن له في الخروج، فخرج منها في الحادي والعشرين من ربيع الأول، وقصد الرقة، وأرسل إلى أرتق بما كان وعده به، وسار ابن جهير إلى ميافارقين، ومعه من الأمراء الأمير بهاء الدولة منصور بن مزيد، وابنه سيف الدولة صدقة، ففارقوه، وعادوا إلى العراق، وسار فخر الدولة إلى خلاط. ولما استولى العسكر السلطاني على حلل العرب، وغنموا أموالهم، وسبوا حريمهم، بذل سيف الدولة صدقة بن منصور بن مزيد الأموال، وافتك أسرى بني عقيل ونساءهم وأولادهم وجهزهم جميعهم وردهم إلى بلادهم، ففعل أمراً عظيماً، وأسدى مكرمة شريفة، ومدحه الشعراء في ذلك فأكثروا، فمنهم محمد بن خليفة السنبسي يذكر ذلك في قصيدة: كما أحرزت شكر بني عقيل ... بآمد يوم كظهم الحذار غداة رمتهم الأتراك طراً ... بشهب في حوافلها ازورار فما جبنوا، ولكن فاض بحر ... عظيم لا تقاومه البحار فحين تنازلوا تحت المنايا، ... وفيهن الرزية والدمار مننت عليهم، وفككت عنهم، ... وفي أثناء حبلهم انتشار ولولا أنت لم ينفك منهم ... أسير، حين أعلقه الإسار في أبيات كثيرة، وذكرها أيضاً البندنيجي فأحسن، ولولا خوف التطويل لذكرت أبياته. ذكر استيلاء عميد الدولة على الموصللما بلغ السلطان أن شرف الدولة انهزم وحصر بآمد لم يشك في أسره، فخلع على عميد الدولة بن جهير، وسيره في جيش كثيف إلى الموصل، وكاتب أمراء التركمان بطاعته، وسير معه من الأمراء آقسنقر، قسيم الدولة، جد ملوكنا أصحاب الموصل، وهو الذي أقطعه السلطان بعد ذلك حلب. وكان الأمير أرتق قد قصد السلطان، فعاد صحبة عميد الدولة من الطريق. فسار عميد الدولة حتى وصل إلى الموصل، فأرسل إلى أهلها يشير عليهم بطاعة السلطان وترك عصيانه، ففتحوا له البلد وسلموه إليه، وسار السلطان بنفسه وعساكره إلى بلاد شرف الدولة ليملكها، فأتاه الخبر بخروج أخيه تكش بخراسان، على ما نذكره.
ورأى شرف الدولة قد خلص من الحصر، فأرسل مؤيد الملك بن نظام الملك إلى شرف الدولة، وهو مقابل الرحبة، فأعطاه العهود والمواثيق، وأحضره عند السلطان، وهو بالبوازيج، فخلع عليه آخر رجب، وكانت أمواله قد ذهبت، فاقترض ما خدم به، وحمل للسلطان خيلاً رائقة، من جملتها فرسه بشار، وهو فرسه المشهور الذي نجا عليه من المعركة، ومن آمد أيضاً، وكان سابقاً لا يجارى، فأمر السلطان بأن يسابق به الخيل، فجاء سابقاً، فقام السلطان قائماً لما تداخله من العجب. وأرسل الخليفة النقيب طراداً الزينبي في لقاء شرف الدولة، فلقيه بالموصل، فزاد أمر شرف الدولة قوة، وصالحه السلطان، وأقره على بلاده، وعاد إلى خراسان لحرب أخيه. ذكر عصيان تكش على السلطان ملكشاهقد تقدم ذكره، وذكر مصالحته للسلطان، فلما كان الآن، ورأى بعد السلطان عنه عاود العصيان، وكان أصحابه يؤثرون الاختلاط، فحسنوا له مفارقة طاعة أخيه، فأجابهم، وسار معهم، فملك مرو الروذ وغيرها إلى قلعة تقارب سرخس وهي لمسعود ابن الأمير ياخز، وقد حصنها جهده، فحصروه بها، ولم يبق غير أخذها منه. فاتفق أبو الفتوح الطوسي، صاحب نظام الملك، وهو بنيسابور، وعميد خراسان، وهو أبو علي، على أن يكتب أبو الفتوح ملطفاً إلى مسعود بن ياخز، وكان خط أبي الفتوح أشبه شيء بخط نظام الملك، يقول فيه: كتبت هذه الرقعة من الري يوم كذا، ونحن سائرون من الغد نحوك، فاحفظ القلعة، ونحن نكبس العدو في ليلة كذا. واستدعيا فيجاً يثقون به، وأعطياه دنانير صالحة، وقالا: سر نحو مسعود، فإذا وصلت إلى المكان الفلاني فأقم به ونم وأخف هذا الملطف في بعض حيطانه، فستأخذك طلائع تكش، فلا تعترف لهم حتى يضربوك، فإذا فعلوا ذلك وبالغوا فأخرجه لهم وقل إنك فارقت السلطان بالري ولك منا الحباء والكرامة. ففعل ذلك، وجرى الأمر على ما وصفا، وأحضر بين يدي تكش وضرب، وعرض على القتل، فأظهر الملطف وسلمه إليهم، وأخبرهم أنه فارق السلطان ونظام الملك بالري في العساكر، وهو سائر، فلما وقفوا على الملطف، وسمعوا كلام الرجل، وساروا من وقتهم، وتركوا خيامهم ودوابهم، والقدور على النار، فلم يصبروا على ما فيها، وعادوا إلى قلعة ونج. وكان هذا من الفرج العجيب. فنزل مسعود وأخذ ما في المعسكر، وورد السلطان إلى خراسان بعد ثلاثة أشهر، ولولا هذا الفعل لنهب تكش إلى باب الري. ولما وصل السلطان قصد تكش وأخذه، وكان قد حلف له بالأيمان أنه لا يؤذيه، ولا يناله منه مكروه، فأفتاه بعض من حضر بأن يجعل الأمر إلى ولده أحمد، ففعل ذلك، فأمر أحمد بكحله، فكحل وسجن. ذكر فتح سليمان بن قتلمش أنطاكيةفي هذه السنة سار سليمان بن قتلمش، صاحب قونية وأقصروا وأعمالها من بلاد الروم، إلى الشم، فملك مدينة أنطاكية من أرض الشام، وكانت بيد الروم من سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة. وسبب ملك سليمان المدينة أن صاحبها الفردوس الرومي كان قد سار عنها إلى بلاد الروم، ورتب بها شحنة، وكان الفردوس مسيئاً إلى أهلها، وإلى جنده أيضاً، حتى إنه حبس ابنه، فاتفق ابنة والشحنة على تسليم البلد إلى سليمان بن قتلمش، وكاتبوه يستدعونه، فركب البحر في ثلاثمائة فارس وكثير من الرجالة، وخرج منه، وسار في جبال وعرة، ومضايق شديدة، حتى وصل إليها للموعد، فنصب السلاليم، باتفاق من الشحنة ومن معه، وصعد السور، واجتمع بالشحنة وأخذ البلد في شعبان، فقاتله أهل البلد، فهزمهم مرة بعد أخرى، وقتل كثيراً من أهلها، ثم عفا عنهم، وتسلم القلعة المعروفة بالقسيان، وأخذ من الأموال ما يجاوز الإحصاء، وأحسن إلى الرعية، وعدل فيهم وأمرهم بعمارة ما خرب، ومنع أصحابه من النزول في دورهم ومخالطتهم. ولما ملك سليمان أنطاكية أرسل إلى السلطان ملكشاه يبشره بذلك، وينسب هذا الفتح إليه لأنه من أهله، وممن يتولى طاعته، فأظهر ملكشاه البشارة به، وهنأه الناس، فممن قال فيه الآبيوردي من قصيدة مطلعها: لمعت كناصية الحصان الأشقر ... نار بمعتلج الكثيب الأعفر وفتحت أنطاكية الروم التي ... نشرت معاقلها على الإسكندر وطئت مناكبها جيادك، فانثنت ... تلقي أجنتها بنات الأصفر وهي طويلة. ذكر قتل شرف الدولة وملك أخيه إبراهيم
قد تقدم ذكر ملك سليمان بن قتلمش مدينة أنطاكية، فلما أرسل إليه شرف الدولة مسلم بن قريش يطلب منه ما كان يحمله إليه الفردوس من المال، ويخوفه معصية السلطان، فأجابه: أما طاعة السلطان، فهي شعاري، ودثاري، والخطبة له، والسكة في بلادي، وقد كاتبته بما فتح الله على يدي بسعادته من هذا البلد، وأعمال الكفار. وأما المال الذي كان يحمله صاحب أنطاكية قبلي، فهو كان كافراً، وكان يحمل جزية رأسه وأصحابه، وأنا بحمد الله مؤمن، ولا أحمل شيئاً. فنهب شرف الدولة بلد أنطاكية، فنهب سليمان أيضاً بلد حلب، فلقيه أهل السواد يشكون إليه نهب عسكره، فقال: أنا كنت أشد كراهية لما يجري، ولكن صاحبكم أحوجني إلى ما فعلت، ولم تجر عادتي بنهب مال مسلم، ولا أخذ ما حرمته الشريعة. وأمر أصحابه بإعادة ما أخذوه منهم فأعاده. ثم إن شرف الدولة جمع الجموع من العرب والتركمان، وكان ممن معه جبق أمير التركمان في أصحابه، وسار إلى أنطاكية ليحصرها. فلما سمع سليمان الخبر جمع عساكره وسار إليه، فالتقيا في الرابع والعشرين من صفر سنة ثمان وسبعين وأربعمائة في طرف من أعمال أنطاكية، واقتتلوا، فمال تركمان جبق إلى سليمان، فانهزمت العرب، تبعهم شرف الدولة منهزماً، فقتل بعد أن صبر، وقتل بين يديه أربعمائة غلام من أحداث حلب، وكان قتله يوم الجمعة الرابع والعشرين من صفر سنة ثمان وسبعين وذكرته هاهنا لتتبع الحادثة بعضها بعضاً. وكان أحول، وكان قد ملك من السندية التي على نهر عيسى إلى منبج من الشام، وما والاها من البلاد، وكان في يده ديار ربيعة ومضر من أرض الجزيرة والموصل وحلب، وما كان لأبيه وعمه قرواش، وكان عادلاً حسن السيرة، والأمن في بلاده عام، والرخص شامل، وكان يسوس بلاده سياسة عظيمة بحيث يسير الراكب والراكبان فلا يخافان شيئاً. وكان له في كل بلد وقرية عامل، وقاض، وصاحب خبر، بحيث لا يتعدى أحد على أحد. ولما قتل قصد بنو عقيل أخاه إبراهيم بن قريش، وهو محبوس، فأخرجوه وملكوه أمرهم، وكان قد مكث في الحبس سنين كثيرة بحيث أنه لم يمكنه المشي والحركة لما أخرج، ولما قتل شرف الدولة سار سليمان بن قتلمش إلى حلب فحصرها مستهل ربيع الأول سنة ثمان وسبعين، فأقام عليها إلى خامس ربيع الآخر من السنة، فلم يبلغ منها غرضاً، فرحل عنها. ذكر عدة حوادثفي هذه السنة، في صفر، انقض كوكب من المشرق إلى المغرب، كان حجمه كالقمر وضوءه كضوئه، وسار مدى بعيداً على مهل وتؤدة، في نحو ساعة، ولم يكن له شبيه من الكواكب. وفيها ولد السلطان سنجر بن ملكشاه في الخامس والعشرين من رجب، بمدينة سنجار من أرض الجزيرة مقارب الموصل بينهما يومان، عند نزول السلطان بها، وسماه أحمد، وإنما قيل له سنجر باسم المدينة التي ولد فيها، وأمه أم ولد. وفي هذه السنة، في جمادى الأولى، توفي الشيخ أبو نصر عبد السيد بن محمد بن عبد الواحد بن الصباغ، الفقيه الشافعي، صاحب الشامل والكامل، وكفاية المسائل وغيرها من التصانيف، بعد أن أضر عدة سنين، وكان مولده سنة أربعمائة، والقاضي أبو عبد الله الحسين بن علي البغداذي المعروف بابن البقال، وهو من شيوخ أصحاب الشافعي، وكان إليه القضاء بباب الأزج، وحج لما انقطع الحج على سبيل التجريد، وإسماعيل بن مسعدة بن إسماعيل بن أحمد بن إبراهيم أبو القاسم الإسماعيلي، الجرجاني، ومولده سنة أربع وأربعمائة، وكان إماماً فقيهاً شافعياً، محدثاً، أدبياً، وداره مجمع العلماء. ثم دخلت سنة ثمان وسبعين وأربعمائة ذكر استيلاء الفرنج على مدينة طليطلة في هذه السنة استولى الفرنج، لعنهم الله، على مدينة طليطلة من بلاد الأندلس، وأخذوها من المسلمين، وهي من أكبر البلاد وأحصنها. وسبب ذلك أن الأذفونش، ملك الفرنج بالأندلس، كان قد قوي شأنه، وعظم ملكه، وكثرت عساكره، مذ تفرقت بلاد الأندلس، وصار كل بلد بيد ملك، فصاروا مثل ملوك الطوائف، فحينئذ طمع الفرنج فيهم، وأخذوا كثيراً من ثغورهم. وكان قد خدم قبل ذلك صاحبها القادر بالله بن المأمون بن يحيى بن ذي النون، وعرف من أين يؤتى البلد، وكيف الطريق إلى ملكه. فلما كان الآن جمع الأذفونش عساكره وسار إلى مدينة طليطلة فحصرها سبع سنين، وأخذها من القادر، فازداد قوة إلى قوته.
وكان المعتمد على الله أبو عبد الله محمد بن عباد أعظم ملوك الأندلس من المسلمين، وكان يملك أكثر البلاد مثل: قرطبة وإشبيلية، وكان يؤدي إلى الأذفونش ضريبة كل سنة. فلما ملك الأذفونش طليطلة أرسل إليه المعتمد الضريبة على عادته، فردها عليه ولم يقبلها منه، فأرسل إليه يتهدده ويتوعده أنه يسير إلى مدينة قرطبة ويتملكها إلا أن يسلم إليه جميع الحصون التي في الجبل، ويبقي السهل للمسلمين، وكان الرسول في جمع كثير كانوا خمسمائة فارس، فأنزله محمد بن عباد، وفرق أصحابه على قواد عسكره، ثم أمر كل من عنده منهم رجل أن يقتله، وأحضر الرسول وصفعه حتى خرجت عيناه، وسلم من الجماعة ثلاثة نفر، فعادوا إلى الأذفونش فأخبروه الخبر، وكان متوجهاً إلى قرطبة ليحاصرها، فلما بلغه الخبر عاد إلى طليطلة ليجمع آلات الحصار، ورحل المعتمد إلى إشبيلية. ذكر استيلاء ابن جهير على آمدفي المحرم من هذه السنة ملك ابن جهير مدينة آمد. وسبب ذلك أن فخر الدولة بن جهير كان قد أنفذ إليها ولده زعيم الرؤساء أبا القاسم، ومعه جناح الدولة، المعروف بالمقدم السالار، وأرادوا قلع كرومها وبساتينها، ولم يطمع مع ذلك في فتحها لحصانتها، فعم أهلها الجوع، وتعذرت الأقوات، وكادوا يهلكون، وهم صابرون على الحصار، غير مكترثين له. فاتفق أن بعض الجند نزل من السور لحاجة لهم، وتركوا أسلحتهم مكانها، فصعد إلى ذلك المكان عدد من العامة تقدمهم رجلمن السواد يعرف بأبي الحسن، فلبس السلاح، ووقف على ذلك المكان، ونادى بشعار السلطان، وفعل من معه كفعله، وطلبوا زعيم الرؤساء، فأتاهم، وملك البلد، واتفق أهل المدينة على نهب بيوت النصارى لما كانوا يلقون من نواب بني مروان من الجور والحكم، وكان أكثرهم نصارى، فانتقموا منهم. ذكر ملكه أيضاً ميافارقين وفي هذه السنة أيضاً، في سادس جمادى الآخرة، ملك فخر الدولة ميافارقين، وكان مقيماً على حصارها، فوصل إليه سعد الدولة كوهرائين في عسكره نجدة له، فجد في القتال فسقط من سورها قطعة، فلما رأى أهلها ذلك نادوا بشعار ملكشاه، وسلموا البلد إلى فخر الدولة وأخذ جميع ما استولى عليه من أموال بني مروان وأنفذه إلى السلطان مع ابنه زعيم الرؤساء، فانحدر هو وكوهرائين إلى بغداد، وسار زعيم الرؤساء منها إلى أصبهان، فوصلها في شوال، وأوصل ما معه إلى السلطان. ذكر ملك جزيرة ابن عمرفي هذه السنة أرسل فخر الدولة جيشاً إلى جزيرة ابن عمر، وهي لبني مروان أيضاً، فحصروها، فثار أهل بيت من أهلها يقال لهم بنو وهبان، وهم من أعيان أهلها، وقصدوا باباً للبلد صغيراً يقال له باب البويبة لا يسلكه إلا الرجالة لأنه يصعد إليه من ظاهر البلد بدرج، فكسروه، وأدخلوا العسكر، فملكه، وانقرضت دولة بني مروان، فسبحان من لا يزول ملكه. وهؤلاء بنو وهبان، إلى يومنا هذا، كلما جاء إلى الجزيرة من يحصرها يخرجون من البلد، ولم يبق منهم من له شوكة، ولا منزلة يفعل بها شيئاً، وإنما بتلك الحركة يؤخذون إلى الآن. ذكر عدة حوادثفي هذه السنة، في ربيع الأول، صار أمير الجيوش في عساكر مصر إلى الشام، فحصر دمشق، وبها صاحبها تاج الدولة تتش، فضيق عليه، وقاتله، فلم يظفر منها بشيء، فرحل عنها عائداً إلى مصر. وفيها كانت الفتنة بين أهل الكرخ وسائر المحال من بغداد، وأحرقوا من نهر الدجاج درب الآجر وما قاربه، وأرسل الوزير أبو شجاع جماعة من الجند، ونهاهم عن سفك الدماء تحرجاً من الإثم، فلم يمكنهم تلافي الخطب فعظم. وفيها كانت زلزلة شديدة بخوزستان وفارس، وكان أشدها بأرجان، فسقطت الدور، وهلك تحتها خلق كثير. وفيها، في ربيع الأول، هاجت ريح عظيمة سوداء بعد العشاء، وكثر الرعد والبرق، وسقط على الأرض رمل أحمر وتراب كثير، وكانت النيران تضطرم في أطراف السماء، وكان أكثرها بالعراق وبلاد الموصل، فألقت النخيل والأشجار وسقط معها صواعق في كثير من البلاد، حتى ظن الناس أن القيامة قد قامت، ثم انجلى ذلك نصف الليل. وفيها، في ربيع الآخر، توفي إمام الحرمين أبو المعالي عبد الملك بن عبد الله بن يوسف الجويني، ومولده سنة سبع عشرة وأربعمائة، وهو الإمام المشهور في الفقه والأصولين وغيرهما من العلوم، وسمع الحديث من أبي محمد الجوهري وغيره.
| |
|
| |
الشيخ عودة الشيخ عودة
عدد المساهمات : 1748 تاريخ التسجيل : 28/09/2008 العمر : 74
| موضوع: رد: كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير الثلاثاء فبراير 25, 2014 11:09 am | |
| وفيها، في ذي الحجة، توفي محمد بن أحمد بن عبد الله بن أحمد بن الوليد أبو علي المتكلم، كان أحد رؤساء المعتزلة وأئمتهم، ولزم بيته خمسين سنة لم يقدر على أن يخرج منه من عامة بغداد، وأخذ الكلام عن أبي الحسين البصري وعبد الجبار الهمذاني القاضي، ومن جملة تلاميذه ابن برهان، وهو أكبر منه. وفي هذه السنة توفي القاضي أبو الحسن هبة الله بن محمد بن السيبي، قاضي الحريم، بنهر معلى، ومولده سنة أربع وتسعين وثلاثمائة، وكان يذاكر الإمام المقتدي بأمر الله، وولي ابنه أبو الفرج عبد الوهاب بين يدي قاضي القضاة ابن الدامغاني. وفيها، في جمادى الأولى، توفي أبو العز بن صدقة، وزير شرف الدولة، ببغداد، وكان قد قبض عليه شرف الدولة وسجنه بالرحبة، فهرب منها إلى بغداد، فمات بعد وصوله إلى مأمنه بأربعة أشهرر، وكان كريماً متواضعاً لم تغيره الولاية عن إخوانه. وفيها، في رجب، توفي قاضي القضاة أبو عبد الله بن الدامغاني، ومولده سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة، ودخل بغداد سنة تسع عشرة وأربعمائة، وكان قد صحب القاضي أبا العلاء بن صاعد، وحضر ببغداد مجلس أبي الحسين القدوري، وولي قضاء القضاة بعده القاضي أبو بكر بن المظفر بن بكران الشامي، وهو من أكبر أصحاب القاضي أبي الطيب الطبري. وفيها توفي عبد الرحمن بن مأمون بن علي أبو سعد المتولي مدرس النظامية، وهو من أصحاب القاضي حسين المروروذي وتمم كتاب الإبانة. ثم دخلت سنة تسع وسبعين وأربعمائة ذكر قتل سليمان بن قتلمش لما قتل سليمان بن قتلمش شرف الدولة مسلم بن قريش على ما ذكرناه، أرسل إلى ابن الحتيتي العباسي، مقدم أهل حلب، يطلب منه تسليمها إليه، فأنفذ إليه، واستمهله إلى أن يكابت السلطان ملكشاه، وأرسل ابن الحتيتي إلى تتش، صاحب دمشق، يعده أن يسلم إليه حلب، فسار تتش طالباً لحلب، فعلم سليمان بذلك، فسار نحوه مجداً، فوصل إلى تتش وقت السحر على غير تعبئة، فلم يعلم به حتى قرب منه، فعبأ أصحابه. وكان الأمير أرتق بن أكسب مع تتش، وكان منصوراً لم يشهد حرباً إلا وكان الظفر له، وقد ذكرنا فيما تقدم حضوره مع ابن جهير على آمد، وإطلاقه شرف الدولة من آمد، فلما فعل ذلك خاف أن ينهي ابن جهير ذلك إلى السلطان، ففارق خدمته، ولحق بتاج الدولة تتش، فأقطعه البيت المقدس، وحضر معه هذه الحرب، فأبلى فيها بلاء حسناً، وحرض العرب على القتال، فانهزم أصحاب سليمان، وثبت وهو في القلب، فلما رأى انهزام عساكره أخرج سكيناً معه فقتل نفسه، وقيل بل قتل في المعركة، واستولى تتش على عسكره. وكان سليمان بن قتلمش، في السنة الماضية، في صفر، قد أنفذ جثة شرف الدولة إلى حلب على بغل ملفوفة في إزار، وطلب من أهلها أن يسلموها إليه. وفي هذه السنة في صفر أرسل تتش جثة سليمان في إزار ليسلموها إليه، فأجابه ابن الحتيتي أنه يكاتب السلطان، ومهما أمره فعل، فحصر تتش البلد، وأقام عليه، وضيق على أهله. وكان ابن الحتيتي قد سلم كل برج من أبراجها إلى رجل من أعيان البلد ليحفظه، وسلم برجاً فيها إلى إنسان يعرف بابن الرعوي. ثم إن ابن الحتيتي أوحشه بكلام أغلظ له فيه، وكان هذا الرجل شديد القوة، ورأى ما الناس فيه من الشدة، فدعاه ذلك إلى أن أرسل إلى تتش يستدعيه،وواعده ليلة يرفع الرجال إلى السورفي الحبال، فأتى تتش للميعاد الذي ذكره، فأصعد الرجال في الحبال والسلاليم، وملك تتش المدينة، واستجار ابن الحتيتي بالأمير أرتق فشفع فيه، وأما القلعة فكان بها سالم بن مالك بن بدران، وهو ابن عم شرف الدولة مسلم بن قريش، فأقام تتش يحصر القلعة سبعة عشر يوماً، فبلغه الخبر بوصول مقدمة أخيه السلطان ملكشاه، فرحل عنها. ذكر ملك السلطان حلب وغيرها
كان ابن الحتيتي قد كاتب السلطان ملكشاه يستدعيه ليسلم إليه حلب، لما خاف تاج الدولة تتش، فسار إليه من أصبهان في جمادى الآخرة، وجعل على مقدمته الأمير برسق، وبوزان، وغيرهما من الأمراء، وجعل طريقه على الموصل، فوصلها في رجب، وسار منها، فلما وصل إلى حران سلمها إليه ابن الشاطر، فأقطعها السلطان لمحمد بن شرف الدولة، وسار إلى الرها، وهي بيد الروم، فحصرها وملكها، وكانوا قد اشتروها من ابن عطير، وتقدم ذكر ذلك، وسار إلى قلعة جعبر، فحصرها يوماً وليلة وملكها، وقتل من بها من بني قشير، وأخذ جعبر من صاحبها، وهو شيخ أعمى، وولدين له، وكانت الأذية بهم عظيمة يقطعون الطرق ويلجأون إليها. ثم عبر الفرات إلى مدينة حلب، فملك في طريقه مدينة منبج، فلما قارب حلب رحل عنها أخوه تتش، وكان قد ملك المدينة، كما ذكرناه، وسار عنها يسلك البرية، ومعه الأمير أرتق، فأشار بكبس عسكر السلطان، وقال: إنهم قد وصلوا، وبهم وبدوابهم من التعب ما ليس عندهم معه امتناع، ولو فعل لظفر بهم. فقال تتش: لا أكسر جاه أخي الذي أنا مستظل بظله، فإنه يعود بالوهن علي أولاً. وسار إلى دمشق، ولما وصل السلطان إلى حلب تسلم المدينة، وسلم إليه سالم بن مالك القلعة على أن يعوضه عنها قلعة جعبر، وكان سالم قد امتنع بها أولاً، فأمر السلطان أن يرمى إليه رشقاً واحداً بالسهام، فرمى الجيش، فكادت الشمس تحتجب لكثرة السهام، فصانع عنها بقلعة جعبر وسلمها، وسلم السلطان إليه قلعة جعبر، فبقيت بيده وبيد أولاده إلى أن أخذها منهم نور الدين محمود بن زنكي، على ما نذكره إن شاء الله تعالى. وأرسل إليه الأمير نصر بن علي بن منقذ الكناني، صاحب شيزر، فدخل في طاعته، وسلم إليه اللاذقية، وكفر طاب، وأفامية، فأجابه إلى المسالمة، وترك قصده، وأقر عليه شيزر. ولما ملك السلطان حلب سلمها إلى قسيم الدولة آقسنقر، فعمرها، وأحسن السيرة فيها. وأما ابن الحتيتي فإنه كان واثقاً بإحسان السلطان ونظام الملك إليه، لأنه استدعاهما، فلما ملك السلطان البلد طلب أهله أن يعفيهم من ابن الحتيتي، فأجابهم إلى ذلك، واستصحبه معه، وأرسله إلى ديار بكر، فافتقر، وتوفي بها على حال شديدة من الفقر، وقتل ولده بأنطاكية، قتله الفرنج لما ملكوها. ذكر وفاة بهاء الدولة منصور بن مزيد وولاية ابنه صدقة في هذه السنة، في ربيع الأول، توفي بهاء الدولة أبو كامل منصور بن دبيس بن علي بن مزيد الأسدي، صاحب الحلة، والنيل، وغيرهما مما يجاورها، ولما سمع نظام الملك خبر وفاته قال: مات أجل صاحب عمامة، وكان فاضلاً قرأ على علي بن برهان، فبرع بذكائه في الذي استفاد منه، وله شعر حسن، فمنه: فإن أنا لم أحمل عظيماً ولم أقد ... لهاماً، ولم أصبر على فعل معظم ولم أجر الجاني، وأمنع حوزه، ... غداة أنادي للفخار وأنتمي وله في صاحب له يكنى أبا مالك يرثيه: فإن كان أودى خدننا، ونديمنا، ... أبو مالك، فالنائبات تنوب فكل ابن أنثى لا محالة ميت، ... وفي كل حي للمنون نصيب ولو رد حزن، أو بكاء لهالك، ... بكيناه ما هبت صباً وجنوب ولما توفي أرسل الخليفة إلى ولده سيف الدولة صدقة نقيب العلويين أبا الغنائم يعزيه، وسار سيف الدولة إلى السلطان ملكشاه، فخلع عليه، وولاه ما كان لأبيه، وأكثر الشعراء مراثي بهاء الدولة. ذكر وقعة الزلاقة بالأندلس وهزيمة الفرنج قد تقدم ملك الفرنج طليطلة، وما فعله المعتمد بن عباد برسول الأذفونش، ملك الفرنج، وعود المعتمد إلى إشبيلية. فلما عاد إليها، وسمع مشايخ قرطبة بما جرى، ورأوا قوة الفرنج، وضعف المسلمين، واستعانة بعض ملوكهم بالفرنج على بعض، اجتمعوا وقالوا: هذه بلاد الأندلس قد غلب عليها الفرنج، ولم يبق منها إلا القليل، وإن استمرت الأحوال على ما نرى عادت نصرانية كما كانت.
وساروا إلى القاضي عبد الله بن محمد بن أدهم، فقالوا له: ألا تنظر إلى ما فيه المسلمون من الصغار والذلة، وعطائهم الجزية بعد أن كانوا يأخذونها، وقد رأينا رأياً نعرضه عليك. قال: ما هو؟ قالوا: نكتب إلى عرب إفريقية ونبذل لهم، فإذا وصلوا إلينا قاسمناهم أموالنا، وخرجنا معهم مجاهدين في سبيل الله. قال: نخاف، إذا وصلوا إلينا يخربون بلادنا، كما فعلوا بإفريقية، ويتركون الفرنج ويبدأون بكم، والمرابطون أصلح منهم وأقرب إلينا. قالوا له: فكاتب أمير المسلمين، وارغب إليه ليعبر إلينا، ويرسل بعض قواده. وقدم عليهم المعتمد بن عباد، وهم في ذلك، فعرض عليه القاضي ابن أدهم ما كانوا فيه، فقال له ابن عباد: أنت رسولي إليه في ذلك، فامتنع، وإنما أراد أن يبريء نفسه من تهمة، فألح عليه المعتمد، فسار إلى أمير المسلمين يوسف بن تاشفين، فأبلغه الرسالة، وأعلمه ما فيه المسلمون من الخوف من الأذفونش. وكان أمير المسلمين بمدينة سبتة، ففي الحال أمر بعبور العساكر إلى الأندلس، وأرسل إلى مراكش في طلب من بقي من عساكره، فأقبلت إليه تتلو بعضها بعضاً، فلما تكاملت عنده عبر البحر وسار، فاجتمع بالمعتمد بن عباد بإشبيلية، وكان قد جمع عساكره أيضاً، وخرج من أهل قرطبة عسكر كثير. وقصده المتطوعة من سائر بلاد الأندلس. ووصلت الأخبار إلى الأذفونش، فجمع فرسانه وسار من طليطلة، وكتب إلى أمير المسلمين كتاباً كتبه به بعض أدباء المسلمين، يغلظ له القول، ويصف ما عنده من القوة والعدد والعُدد، وبالغ الكاتب في الكتاب. فأمر أمير المسلمين أبا بكر بن القصيرة أن يجيبه، وكان كاتباً مفلقاً، فكتب فأجاد، فلما قرأه على أمير المسلمين قال: هذا كتاب طويل، أحضر كتاب الأذفونش واكتب في ظهره الذي يكون ستراً له. فلما عاد الكتاب إلى الأذفونش ارتاع لذلك، وعلم أنه بلي برجل له عزم وحزم، فازداد استعداداً، فرأى في منامه كأنه راكب فيل، وبين يديه طبل صغير، وهو ينقر فيه، فقص رؤياه على القسيسين، فلم يعرفوا تأويلها، فأحضر رجلاً مسلماً، عالماً بتعبير الرؤيا، فقصها عليه، فاستعفاه من تعبيرها، فلم يعفه، فقال: تأويل هذه الرؤيا من كتاب الله العزيز، وهو قوله تعالى: " ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل " السورة، وقوله تعالى: " فإذا نقر في الناقور فذلك يومئذ يوم عسير على الكافرين غير يسير " ، ويقتضي هلاك هذا الجيش الذي تجمعه. فما اجتمع جيشه رأى كثرته فأعجبته، فأحضر ذلك المعبر، وقال له: بهذا الجيش ألقى إله محمد، صاحب كتابكم. فانصرف المعبر، وقال لبعض المسلمين: هذا الملك هالك وكل من معه، وذكر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم " ثلاث مهلكات " الحديث، وفيه: " وإعجاب المرء بنفسه " . وسار أمير المسلمين، والمعتمد بن عباد، حتى أتوا أرضاً يقال لها الزلاقة، من بلد بطليوس، وأتى الأذفونش فنزل موضعاً بينه وبينهم ثمانية عشر ميلاً، فقيل لأمير المسلمين: إن ابن عباد ربما لم ينصح، ولا يبذل نفسه دونك. فأرسل إليه أمير المسلمين يأمره أن يكون في المقدمة، ففعل ذلك، وسار، وقد ضرب الأذفونش خيامه في لحف جبل، والمعتمد في سفح جبل آخر، يتراءون، وينزل أمير المسلمين وراء الجبل الذي عنده المعتمد، وظن الأذفونش أن عساكر المسلمين ليس إلا الذي يراه. وكان الفرنج في خمسين ألفاً، فتيقنوا الغلب، وأرسل الأذفونش إلى المعتمد في ميقات القتال، وقصده الملك، فقال: غداً الجمعة، وبعده الأحد، فيكون اللقاء يوم الاثنين، فقد وصلنا على حال تعب، واستقر الأمر على هذا، وركب ليلة الجمعة سحراً، وصبح بجيشه جيش المعتمد بكرة الجمعة، غدراً، وظناً منه أن ذلك المخيم هو جميع عسكر المسلمين، فوقع القتال بينهم فصبر المسلمون، فأشرفوا على الهزيمة. وكان المعتمد قد أرسل إلى أمير المسلمين يعلمه بمجيء الفرنج للحرب، فقال: احملوني إلى خيام الفرنج، فسار إليها، فبينما هم في القتال وصل أمير المسلمين إلى خيام الفرنج، فنهبها، وقتل من فيها، فلما رأى الفرنج ذلك لم يتمالكوا أن انهزموا، وأخذهم السيف، وتبعهم المعتمد من خلفهم، ولقيهم أمير المسلمين من بين أيديهم، ووضع فيهم السيف، فلم يفلت منهم أحد، ونجا الأذفونش في نفر يسير، وجعل المسلمون من رؤوس القتلى كوماً كثيرةً، فكانوا يؤذنون عليها إلى أن جيفت فأحرقوها.
وكانت الوقعة يوم الجمعة في العشر الأول من شهر رمضان سنة تسع وسبعين، وأصاب المعتمد جراحات في وجهه، وظهرت ذلك اليوم شجاعته. ولم يرجع من الفرنج إلى بلادهم غير ثلاثمائة فارس، وغنم المسلمون كل ما لهم من مال وسلاح ودواب وغير ذلك. وعاد ابن عباد إلى إشبيلية، ورجع أمير المسلمين إلى الجزيرة الخضراء، وعبر إلى سبتة، وسار إلى مراكش، فأقام بها إلى العام المقبل، وعاد إلى الأندلس، وحضر معه المعتمد بن عباد في عسكره، وعبد الله بن بلكين الصنهاجي، صاحب غرناطة، في عسكره، وساروا حتى نزلوا على ليط، وهو حصن منيع بيد الفرنج، فحصروه حصراً شديداً فلم يقدروا على فتحه، فرحلوا عنه بعد مدة، ولم يخرج إليهم أحد من الفرنج لما أصابهم في العام الماضي، فعاد ابن عباد إلى إشبيلية، وعاد أمير المسلمين إلى غرناظة، وهي طريقه، ومعه عبد الله بن بلكين، فغدر به أمير المسلمين، وأخذ غرناطة منه وأخرجه منها، فرأى في قصوره من الأموال والذخائر ما لم يحوه ملك قبله بالأندلس، ومن جملة ما وجده سبحة فيها أربعمائة جوهرة، قومت كل جوهر بمائة دينار، ومن الجواهر ما له قيمة جليلة، إلى غير ذلك من الثياب والعدد وغيرها، وأخذ معه عبد الله، وأخاه تميماً ابني بلكين إلى مراكش، فكانت غرناطة أول ما ملكه من بلاد الأندلس. وقد ذكرنا فيما تقدم سبب دخول صنهاجة إلى الأندلس، وعود من عاد منهم إلى المعز بإفريقية، وكان آخر من بقي منهم بالأندلس عبد الله هذا، وأخذت مدينته، ورحل إلى العدوة. ولما رجع أمير المسلمين إلى مراكش أطاعه من كان لم يطعه من بلاد السوس، وورغة، وقلعة مهدي، وقال له علماء الأندلس إنه ليس طاعته بواجبة حتى يخطب للخليفة، ويأتيه تقليد منه بالبلاد، فأرسل إلى الخليفة المقتدي بأمر الله ببغداد، فأتاه الخلع، والأعلام، والتقليد، ولقب بأمير المسلمين، وناصر الدين. ذكر دخول السلطان إلى بغدادفي هذه السنة دخل السلطان ملكشاه بغداد في ذي الحجة، بعد أن فتح حلب وغيرها من بلاد الشام، والجزيرة، وهي أول قدمة قدمها، ونزل بدار المملكة، وركب من الغد إلى الحلبة، ولعب بالجوكان والكرة، وأرسل إلى الخليفة هدايا كثيرة، فقبلها الخليفة، ومن الغد أرسل نظام الملك إلى الخليفة خدمة كثيرة، فقبلها، وزار السلطان ونظام الملك مشهد موسى بن جعفر، وقبر معروف، وأحمد بن حنبل وأبي حنيفة، وغيرها من القبور المعروفة، فقال ابن زكرويه الواسطي يهنيء نظام الملك بقصيدة منها: زرت المشاهد زورة مشهودة، ... أرضت مضاجع من بها مدفون فكأنك الغيث استهل بتربها، ... وكأنها بك روضة ومعين فازت قداحك بالثواب وأنجحت ... ولك الإله على النجاح ضمين وهي مشهورة. وطلب نظام الملك إلى دار الخلافة ليلاً، فمضى في الزبزب، وعاد من ليلته، ومضى السلطان ونظام الملك إلى الصيد في البرية، فزارا المشهدين: مشهد أمير المؤمنين علي، ومشهد الحسين، عليه السلام، ودخل السلطان البر، فاصطاد شيئاً كثيراً من الغزلان وغيرها، وأمر ببناء منارة القرون بالسبيعي، وعاد السلطان إلى بغداد، ودخل الخليفة، فخلع عليه الخلع السلطانية. ولما خرج من عنده لم يزل نظام الملك قائماً يقدم أميراً أميراً إلى الخليفة، وكلما قدم أميراً يقول: هذا العبد فلان بن فلان، وأقطاعه كذا وكذا، وعدة عسكره كذا وكذا، إلى أن أتى على آخر الأمراء، وفوض الخليفة إلى السلطان أمر البلاد والعباد، وأمره بالعدل فيهم، وطلب السلطان أن يقبل يد الخليفة، فلم يجبه، فسأل أن يقبل خاتمه، فأعطاه إياه فقبله، ووضعه على عينه، وأمره الخليفة بالعود فعاد. وخلع الخليفة أيضاً على نظام الملك، ودخل نظام الملك إلى المدرسة النظامية، وجلس في خزانة الكتب، وطالع فيها كتباً، وسمع الناس عليه بالمدرسة جزء حديث، وأملى جزءاً آخر. وأقام السلطان ببغداد إلى صفر سنة ثمانين، وسار منها إلى أصبهان. ذكر عدة حوادث
في هذه السنة، في المحرم، جرى بين أهل الكرخ وأهل باب البصرة فتنة قتل فيها جماعة، من جملتهم القاضي أبو الحسن ابن القاضي أبي الحسين بن الغريق الهاشمي، الخطيب، أصابه سهم فمات منه، ولما قتل تولى ابنه الشريف أبو تمام ما كان إليه من الخطابة، وكان العميد كمال الملك الدهستاني ببغداد، فسار بخيله ورجله إلى القنطرة العتيقة، وأعان أهل الكرخ، ثم جرت بينهم ثانية في شوال منها، فأعان الحجاج على أهل الكرخ، فانهزموا، وبلغ الناس إلى درب اللؤلؤ، وكاد أهل الكرخ يهلكون، فخرج أبو الحسن بن برغوث العلوي إلى مقدم الأحداث من السنة، فسأله العفو، فعاد عنهم ورد الناس. وفيها زاد الماء بدجلة تاسع عشر حزيران، وجاء المطر يومين ببغداد. وفيها، في ربيع الأول، أرسل العميد كمال الملك إلى الأنبار، فتسلمها من بني عقيل، وخرجت من أيديهم. وفيها، في ربيع الآخر، فرغت المنارة بجامع القصر وأذن فيها. وفيها، في جمادى الأولى، ورد الشريف أبو القاسم علي بن أبي يعلى الحسني الدبوسي إلى بغداد، في تجمل عظيم، لم ير مثله لفقيه، ورتب مدرساً بالنظامية بعد أبي سعد المتولي. وفيها أمر السلطان أن يزاد في إقطاع وكلاء الخليفة نهر برزى من طريق خراسان، وعشرة آلاف دينار من معاملة بغداد. وفيها أقطع السلطان ملكشاه محمد بن شرف الدولة مسلم مدينة الرحبة وأعمالها، وحران، وسروج، والرقة، والخابور، وزوجه بأخته زليخا خاتون، فتسلم البلاد جميعها ما عدا حران، فإن محمد بن الشاطر امتنع من تسليمها، فلما وصل السلطان إلى الشام نزل عنها ابن الشاطر، فسلمها السلطان إلى محمد. وفيها وقع ببغداد صاعقتان، فكسرت إحداهما أسطوانتين، وأحرقت قطناً في صناديق، ولم تحترق الصناديق، وقتلت الثانية رجلاً. وفيها كانت زلازل بالعراق، والجزيرة، والشام، وكثير من البلاد، فخربت كثيراً من البلاد، وفارق الناس مساكنهم إلى الصحراء، فلما سكنت عادوا. وفيها عزل فخر الدولة بن جهير عن ديار بكر، وسلمها السلطان إلى العميد أبي علي البلخي، وجعله عاملاً عليها. وفيها أسقط اسم الخليفة المصري من الحرمين الشريفين، وذكر اسم الخليفة المقتدي بأمر الله. وفيها أسقط السلطان المكوس والاجتيازات بالعراق. وفيها حصر تميم بن المعز بن باديس ،صاحب إفريقية، مدينتي قابس وسفاقس في وقت واحد، وفرق عليهما العساكر. وفيها، في ربيع الأول، توفي أبو الحسن بن فضال المجاشعي، النحوي، المقري. وفي ربيع الآخر توفي شيخ الشيوخ أبو سعد الصوفي، النسابوري، وهو الذي تولى بناء الرباط بنهر المعلى، وبنى وقوفه، وهو رباط شيخ الشيوخ الآن، وبنى وقوف المدرسة النظامية، وكان عالي الهمة، كثير التعصب لمن يلتجيء إليه، وجدد تربة معروف الكرخي بعد أن احترقت، وكانت له منزلة كبيرة عند السلطان، وكان يقال: نحمد الله الذي أخرج رأس أبي سعد من مرقعة، ولو أخرجه من قباء لهلكنا. وفيها توفي أبو علي محمد بن أحمد الشيري، البصري، وكان خيراً، حافظاً للقرآن، ذا مال كثير، وهو آخر من روى سنن أبي داود السجستاني عن أبي عمر الهاشمي. وفيها توفي الشريف أبو نصر الزينبي، العباسي، نقيب الهاشميين، وهو محدث مشهور عالي الإسناد. ثم دخلت سنة ثمانين وأربعمائة ذكر زفاف ابنة السلطان إلى الخليفة في المحرم نقل جهاز ابنة السلطان ملكشاه إلى دار الخلافة على مائة وثلاثين جملاً مجللة بالديباج الرومي، وكان أكثر الأحمال الذهب والفضة وثلاث عماريات، وعلى أربع وسبعين بغلاً مجللة بأنواع الديباج الملكي، وأجراسها وقلائدها من الذهب والفضة، وكان على ستة منها اثنا عشر صندوقاً من فضة لا يقدر ما فيها من الجواهر والحلي، وبين يدي البغال ثلاثة وثلاثون فرساً من الخيل الرائقة، عليها مراكب الذهب مرصعة بأنواع الجوهر، ومهد عظيم كثير الذهب. وسار بين يدي الجهاز سعد الدولة كوهرائين، والأمير برسق، وغيرهما، ونثر أهل نهر معلى عليهم الدنانير والثياب، وكان السلطان قد خرج عن بغداد متصيداً، ثم أرسل الخليفة الوزير أبا شجاع إلى تركان خاتون، زوجة السلطان، وبين يديه نحو ثلاثمائة موكبية، ومثلها مشاعل، ولم يبق في الحريم دكان إلا وقد أشعل فيها الشمعة والاثنتان وأكثر من ذلك.
وأرسل الخليفة مع ظفر خادمه محفة لم ير مثلها حسناً، وقال الوزير لتركان خاتون: سيدنا ومولانا أمير المؤمنين يقول: إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها، وقد أذن في نقل الوديعة إلى داره. فأجابت بالسمع والطاعة، وحضر نظام الملك فمن دونه من أعيان دولة السلطان، وكل منهم معه من الشمع والمشاعل الكثير، وجاء نساء الأمراء الكبار ومن دونهم كل واحدة منهن منفردة في جماعتها وتجملها، وبين أيديهن الشمع الموكبيات والمشاعل يحمل ذلك جميعه الفرسان. ثم جاءت الخاتون ابنة السلطان، بعد الجميع، في محفة مجللة، عليها من الذهب والجواهر أكثر شيء، وقد أحاط بالمحفة مائتا جارية من الأتراك بالمراكب العجيبة، وسارت إلى دار الخلافة، وكانت ليلة مشهودة لم ير ببغداد مثلها. فلما كان الغد أحضر الخليفة أمراء السلطان لسماط أمر بعمله حكي أن فيه أربعين ألف منا من السكر، وخلع عليهم كلهم، وعلى كل من له ذكر في العسكر، وأرسل الخلع إلى الخاتون زوجة السلطان، وإلى جميع الخواتين، وعاد السلطان من الصيد بعد ذلك. ذكر عدة حوادثفي هذه السنة ولد للسلطان ابن من تركان خاتون، وسماه محموداً، وهو الذي خطب له بالمملكة بعد. وفيها سلم السلطان ملكشاه مدينة حلب والقلعة إلى مملوكة آقسنقر، فوليها، وأظهر فيها العدل وحسن السيرة، وكان زوج دادو السلطان ملكشاه، وهي التي تحضنه وتربيه، وماتت بحلب سنة أربع وثمانين. وفيها استبق ساعيان أحدهما للسلطان، فضلي، والآخر للأمير قماج، مرعوشي، فسبق ساعي السلطان، وقد تقدم ذكر الفضلي والمرعوشي أيام معز الدولة بن بويه. وفيها جعل السلطان ولي عهده ولده أبا شجاع أحمد، ولقبه ملك الملوك، عضد الدولة، وتاج الملة، عدة أمير المؤمنين، وأرسل إلى الخليفة بعد مسيره من بغداد، ليخطب له ببغداد بذلك، فخطب له في شعبان، ونثر الذهب على الخطباء. وفيها، في شعبان، انحدر سعد الدولة كوهرائين إلى واسط لمحاربة مهذب الدولة بن أبي الجبر، صاحب البطائح، ولما فارق بغداد كثرت فيها الفتن. وفيها، في ذي القعدة، ولد للخليفة من ابنة السلطان ولد سماه جعفراً، وكناه أبا الفضل، وزين البلد لأجل ذلك. وفيها استولى العميد كمال الملك أبو الفتح الدهستاني، عميد العراق، على مدينة هيت، أخذها صلحاً ومضى إليها، وعاد عنها في ذي القعدة. وفيها وقعت فتنة بين أهل الكرخ وغيرها من المحال، قتل فيها كثير من الناس. وفيها كسفت الشمس كسوفاً كلياً. وفيها توفي الأمير أبو منصور قتلغ أمير الحاج، وحج أميراً اثنتي عشرة سنة، وكانت له في العرب عدة وقعات، وكانوا يخافونه، ولما مات قال نظام الملك: مات اليوم ألف رجل، وولي إمارة الحاج نجم الدولة خمارتكين. وفيها، في جمادى الأولى، توفي إسماعيل بن عبد الله بن موسى بن سعد أبو القاسم الساوي، سمع الحديث الكثير من أبي سعد الصيرفي وغيره، وروى عنه الناس، وكان ثقة، وطاهر بن الحسين أبو الوفا البندنيجي، الهمذاني، كان شاعراً، أديباً، وكان يمدح لا لعرض الدنيا، ومدح نظام الملك بقصيدتين كل واحدة منهما تزيد على أربعين بيتاً، إحداهما ليس فيها نقطة، والأخرى جميع حروفها منقوطة. وفيها توفيت فاطمة بنت علي المؤدب، المعروفة ببنت الأقرع، الكاتبة، كانت من أحسن الناس خطاً على طريقة ابن البواب، وسمعت الحديث وأسمعته. وفيها، في ذي القعدة، توفي غرس النعمة أبو الحسن محمد بن الصابي، صاحب التاريخ، وظهر له مال كثير، وكان له معروف وصدقة. ثم دخلت سنة إحدى وثمانين وأربعمائة؟ ذكر الفتنة ببغداد في هذه السنة، في صفر، شرع أهل باب البصرة في بناء القنطرة الجديدة، ونقلوا الآجر في أطباق الذهب والفضة وبين أيديهم الدبادب، واجتمع إليهم أهل المحال، وكثر عندهم أهلباب الأزج في خلق لا يحصى.
واتفق أن كوهرائين سار في سميرية، وأصحابه يسيرون على شاطيء دجلة بسيره، فوقف أهل باب الأزج على امرأة كانت تسقي الناس من مزملة لها على دجلة، فحملوا عليها، على عادة لهم، وجعلوا يكسرون الجرار، ويقولون: الماء للسبيل! فلما رأت سعد الدولة كوهرائين استغاثت به، فأمر بإبعادهم عنها، فضربهم الأتراك بالمقارع، فسل العامة سيوفهم وضربوا وجه فرس حاجبه سليمان، وهو أخص أصحابه، فسقط عن الفرس، فحمل كوهرائين الحنق على أن خرج من السميرية إليهم راجلاً، فحمل أحدهم عليه، فطعنه بأسفل رمحه، فألقاه في الماء والطين، فحمل أصحابه على العامة، فقاتلوهم، وحرصوا على الظفر بالذي طعنه، فلم يصلوا إليه، وأخذ ثمانية نفرر، فقتل أحدهم، وقطع أعصاب ثلاثة نفر، وأرسل قباءه إلى الديوان وفيه أثر الطعنة والطين يستنفر على أهل باب الأزج. ثم إن أهل الكرخ عقدوا لأنفسهم طاقاً آخر على باب طاق الحراني، وفعلوا كفعل أهل البصرة. ذكر إخراج الأتراك من حريم الخلافةفي هذه السنة، في ربيع الآخر، أمر الخليفة بإخراج الأتراك الذين مع الخاتون زوجته ابنة السلطان من حريم دار الخلافة. وسبب ذلك أن تركياً منهم اشترى من طواف الفاكهة، فتماكسا، فشتم الطواف التركي، فأخذ التركي صنجة من الميزان وضرب بها رأس الطواف فشجه، فاجتمعت العامة، وكاد يكون بينهم وبين الأتراك شر، واستغاثوا، وشنعوا، فأمر الخليفة بإخراج الأتراك، فأخرجوا عن آخرهم، في ساعة واحدة، على أقبح صورة، وقت العشاء الآخرة. ذكر ملك الروم مدينة زويلة وعودهم عنها في هذه السنة فتح الروم مدينة زويلة من إفريقية، وهي بقرب المهدية. وسبب ذلك أن الأمير تميم بن المعز بن باديس، صاحبها، أكثر غزو بلادهم في البحر، فخربها، وشتت أهلها، فاجتمعوا من كل جهة، واتفقوا على إنشاء الشواني لغزو المهدية، ودخل معهم البيشانيون، والجنوبيون، وهما من الفرنج، فأقاموا يعمرون الأسطول أربع سنين، واجتمعوا بجزيرة قوصرة في أربع مائة قطعة، فكتب أهل قوصرة كتاباً على جناح طائر يذكرون وصولهم وعددهم وحكمهم على الجزيرة، فأراد تميم أن يسير عثمان بن سعيد المعروف بالمهر، مقدم الأسطول الذي له، ليمنعهم من النزول، فمنعه من ذلك بعض قواده، واسمه عبد الله بن منكوت، لعداوة بينه وبين المهر، فجاءت الروم، وأرسلوا، وطلعوا إلى البر، ونهبوا، وخربوا، وأحرقوا، ودخلوا زويلة ونهبوها، وكانت عساكر تميم غائبة في قتال الخارجين عن طاعته. ثم صالح تميم الروم على ثلاثين ألف دينار، ورد جميع ما حووه من السبي، وكان تميم يبذل المال الكثير في الغرض الحقير، فكيف في الغرض الكبير، حكي عنه أنه بذل للعرب، لما استولوا على حصن له يسمى قناطة ليس بالعظيم، اثني عشر ألف دينار حتى هدمه، فقيل له: هذا سرف في المال، فقال: هو شرف في الحال. ذكر وفاة الناصر بن علناس وولاية ولده المنصور في هذه السنة مات الناصر بن علناس بن حماد، وولي بعده ابنه المنصور، فاقتفى آثار أبيه في الحزم والعزم والرئاسة، ووصله كتب الملوك ورسلهم بالتعزية بأبيه والتهنئة بالملك، منهم: يوسف بن تاشفين، وتميم بن المعز، وغيرهما. ذكر وفاة إبراهيم ملك غزنة وملك ابنه مسعودفي هذه السنة توفي الملك المؤيد إبراهيم بن مسعود بن محمود بن سبكتكين، صاحب غزنة، وكان عادلاً، كريماً، مجاهداً، وقد ذكرنا من فتوحه ما وصل إلينا، وكان عاقلاً، ذا رأي متين، فمن آرائه أن السلطان ملكشاه بن ألب أرسلان السلجوقي جمع عساكره وسار يريد غزنة، ونزل باسفرار، فكتب إبراهيم بن مسعود كتاباً إلى جماعة من أعيان أمراء ملكشاه يشكرهم، ويعتد لهم بما فعلوا من تحسين قصد ملكشاه بلاده ليتم لنا ما استقر بيننا من الظفر به، وتخليصهم من يده، ويعدهم الإحسان على ذلك، وأمر القاصد بالكتب أن يتعرض لملكشاه في الصيد، ففعل ذلك، فأخذ، وأحضر عند السلطان، فسأله عن حاله، فأنكره، فأمر السلطان بجلده، فجلد، فدفع الكتب إليه بعد جهد ومشقة، فلما وقف ملكشاه عليها تحيل من أمرائه وعاد، ولم يقل لأحد من أمرائه في هذا الأمر شيئاً خوفاً أن يستوحشوا منه.
وكان يكتب بخطه، كل سنة، مصحفاً، ويبعثه مع الصدقات إلى مكة، وكان يقول: لو كنت موضع أبي مسعود، بعد وفاة جدي محمود، لما انفصمت عرى مملكتنا، ولكني الآن عاجز عن أن أسترد ما أخذوه، واستولى عليه ملوك قد اتسعت مملكتهم، وعظمت عساكرهم. ولما توفي ملك بعده ابنه مسعود، ولقبه جلال الدين، وكان قد زوجه أبوه بابنة السلطان ملكشاه، وأخرج نظام الملك في هذا الإملاك والزفاف مائة دينار. ذكر عدة حوادثفي هذه السنة حج الوزير أبو شجاع، وزير الخليفة، واستناب ابنه ربيب الدولة أبا منصور، ونقيب النقباء طراد بن محمد الزينبي. وفيها أسقط السلطان ما كان يؤخذ من الحجاج من الخفارة. وفيها جمع آقسنقر، صاحب حلب، عسكره وسار إلى قلعة شيزر فحصرها، وصاحبها ابن منقذ، وضيق عليها، ونهب ربضها، ثم صالحه صاحبها وعاد إلى حلب. وفيها توفي أبو بكر أحمد بن أبي حاتم عبد الصمد بن أبي الفضل الغورجي، الهروي، والقاضي محمود بن محمد بن القاسم أبو عامر الأزدي، المهلبي، راوياً جامع الترمذي عن أبي محمد الجراحي، رواه عنهما أبو الفتح الكروخي. وتوفي عبد الله بن محمد بن علي بن محمد أبو إسماعيل، الأنصاري، الهروي، شيخ الإسلام، ومولده سنة خمس وتسعين وثلاثمائة، وكان شديد التعصب في المذاهب، ومحمد بن إسحاق بن إبراهيم بن مخلد الباقرحي، ومولده في شعبان، وهو من أهل الحديث والرواية. وفي المحرم توفيت ابنة الغالب بالله بن القادر ودفنت عند قبر أحمد، وكانت ترجع إلى دين، ومعروف كثير، لم يبلغ أحد في فعل الخير ما بلغت. وفي شعبان توفي عبد العزيز الصحراوي الزاهد. وفيها توفي الملك أحمد ابن السلطان ملكشاه بمرو، وكان ولي عهد أبيه في السلطنة، وكان عمره إحدى عشرة سنة، وجلس الناس ببغداد للعزاء سبعة أيام في دار الخلافة، ولم يركب أحد فرساً، وخرج النساء ينحن في الأسواق، واجتمع الخلق الكثير في الكرخ للتفرج والمناحات، وسود أهل الكرخ أبواب عقودهم إظهاراً للحزن عليه. ثم دخلت سنة اثنتين وثمانين وأربعمائة ذكر الفتنة ببغداد بين العامة في هذه السنة، في صفر، كبس أهل باب البصرة الكرخ، فقتلوا رجلاً وجرحوا آخر، فأغلق أهل الكرخ الأسواق، ورفعوا المصاحف، وحملوا ثياب الرجلين وهي بالدم، ومضوا إلى دار العميد كمال الملك أبي الفتح الدهستاني مستغيثين، فأرسل إلى النقيب طراد بن محمد يطلب منه إحضار القاتلين، فقصد طراد دار الأمير بوزان بقصر ابن المأمون، فطالبه بوزان بهم، ووكل به، فأرسل الخليفة إلى بوزان يعرفه حال النقيب طراد، ومحله، ومنزلته، فخلى سبيله واعتذر إليه، فسكن العميد كمال الملك الفتنة، وكف الناس بعضهم عن بعض، ثم سار إلى السلطان، فعاد الناس إلى ما كانوا فيه من الفتنة، ولم ينقض يوم إلا عن قتلى وجرحى. ذكر ملك السلطان ملكشاه ما وراء النهرفي هذه السنة ملك السلطان ملكشاه ما وراء النهر. وسبب ذلك أن سمرقند كان قد ملكها أحمد خان بن خضر خان، أخو شمس الملك، الذي كان قبله، وهو ابن أخي تركان خاتون، زوجة السلطان ملكشاه، وكان صبياً ظالماً، قبيح السيرة، يكثر مصادرة الرعية، فنفروا منه، وكتبوا إلى السلطان سراً يستغيثون به، ويسألونه القدوم عليهم ليملك بلادهم، وحضر الفقيه أبو طاهر بن علك الشافعي عند السلطان شاكياً، وكان يخاف من أحمد خان لكثرة ماله، فأظهر السفر للتجارة والحج، فاجتمع بالسلطان، وشكا إليه، وأطمعه في البلاد. فتحركت دواعي السلطان إلى ملكها، فسار من أصبهان. وكان قد وصل إليه، وهو فيها، رسول ملك الروم، ومعه الخراج المقرر عليه، فأخذه نظام الملك معهم إلى ما وراء النهر، وحضر فتح البلاد، فلما وصل إلى كاشغر أذن له نظام الملك في العود إلى بلاده، وقال: أحب أن يذكر عنا في التواريخ أن ملك الروم حمل الجزية وأوصلها إلى باب كاشغر لينهي إلى صاحبه سعة ملك السلطان ليعظم خوفه منه، ولا يحدث نفسه بخلاف الطاعة. وهذا يدل على همة عالية تعلو على العيوق.
ولما سار السلطان من أصبهان إلى خراسان جمع العساكر من البلاد جميعها، فعبر النهر بجيوش لا يحصرها ديوان، ولا تدخل تحت الإحصاء، فلما قطع النهر قصد بخارى، وأخذ ما على طريقه، ثم سار إليها وملكها وما جاورها من البلاد، وقصد سمرقند ونازلها، وكانت الملطفات قد قدمها إلى أهل البلد يعدهم النصر، والخلاص مما هم فيه من الظلم، وحصر البلد، وضيق عليه، وأعانه أهل البلد بالإقامات، وفرق أحمد خان، صاحب سمرقند، أبراج السور على الأمراء ومن يثق به من أهل البلد، وسلم برجاً يقال به برج العيار إلى رجل علوي كان مختصاً به، فنصح في القتال. فاتفق أن ولداً لهذا العلوي أخذ أسيراً ببخارى، فهدد الأب بقتله، فتراخى عن القتال، فسهل الأمر على السلطان ملكشاه، ورمى من السور عدة ثلم بالمنجنيقات، وأخذ ذلك البرج، فلما صعد عسكر السلطان إلى السور هرب أحمد خان، واختفى في بيوت بعض العامة فغمز عليه وأخذ وحمل إلى السلطان وفي رقبته حبل، فأكرمه السلطان، وأطلقه وأرسله إلى أصبهان، ومعه من يحفظه، ورتب بسمرقند الأمير العميد أبا طاهر عميد خوارزم. وسار السلطان قاصداً كاشغر، فبلغ إلى يوزكند، وهو بلد يجري على بابه نهر، وأرسل منها رسلاً إلى ملك كاشغر يأمره بإقامة الخطبة، وضرب السكة باسمه ويتوعده إن خالف بالمسير إليه. ففعل ذلك وأطاع، وحضر عند السلطان، فأكرمه وعظمه، وتابع الإنعام عليه، وأعاده إلى بلده. ورجع السلطان إلى خراسان، فلما أبعد عن سمرقند لم يتفق أهلها وعسكرها المعروفون بالجكلية مع العميد أبي طاهر، نائب السلطان عندهم، حتى كادوا يثبون عليه، فاحتال حتى خرج من عندهم، ومضى إلى خوارزم. ذكر عصيان سمرقندكان مقدم العسكر المعروف بالجكلية، واسمه عين الدولة، قد خاف السلطان لهذا الحادث، فكاتب يعقوب تكين أخا ملك كاشغر، ومملكته تعرف بآب نباشي، وبيده قلعتها، واستحضره، فحضر عنده بسمرقند، واتفقا، ثم إن يعقوب علم أن أمره لا يستقيم معه، فوضع عليه الرعية الذين كان أساء إليهم، حتى ادعوا عليه دماء قوم كان قتلهم، وأخذ الفتاوى عليه فقتله، واتصلت الأخبار بالسلطان ملكشاه بذلك، فعاد إلى سمرقند. ذكر فتح سمرقند الفتح الثانيلما اتصلت الأخبار بعصيان سمرقند بالسلطان ملكشاه، وقتل عين الدولة، مقدم الجكلية، عاد إلى سمرقند، فلما وصل إلى بخارى هرب يعقوب المستولي على سمرقند، ومضى إلى فرغانة، ولحق بولايته. ووصل جماعة من عسكره إلى السلطان مستأمنين، فلقوه بقرية تعرف بالطواويس، ولما وصل السلطان إلى سمرقند ملكها، ورتب بها الأمير أبر، وسار في أثر يعقوب حتى نزل بيوزكند، وأرسل العساكر إلى سائر الأكناف في طلبه. وأرسل السلطان إلى ملك كاشغر، وهو أخو يعقوب، ليجد في أمره، ويرسله إليه، فاتفق أن عسكر يعقوب شغبوا عليه، ونهبوا خزائنه، واضطروه إلى أن هرب على فرسه، ودخل إلى أخيه بكاشغر مستجيراً به. فسمع السلطان بذلك، فأرسل إلى ملك كاشغر يتوعده، إن لم يرسله إليه، أن يقصد بلاده، ويصير هو العدو، فخاف أن يمنع السلطان، وأنف أن يسلم أخاه بعد أن استجار به وإن كانت بينهما عداوة قديمة، ومنافسة في الملك عظيمة، لما يلزمه فيه العار، فأداه اجتهاده إلى أن قبض على أخيه يعقوب، وأظهر أنه كان في طلبه، فظفر به، وسيره مع ولده، وجماعة من أصحابه، وكلهم بيعقوب، وأرسل معهم هدايا كثيرة للسلطان، وأمر ولده أنه إذا وصل إلى قلعة بقرب السلطان أن يسمل يعقوب ويتركه، فإن رضي السلطان بذلك، وإلا سلمه إليه. فلما وصلوا إلى القلعة عزم ابن ملك كاشغر أن يسمل عمه، وينفذ فيه ما أمره به أبوه، فتقدم بكتفه وإلقائه على الأرض، ففعلوا به ذلك، فبينما هم على تلك الحال، وقد أحموا الميل ليسلموه، إذ سمعوا ضجة عظيمة، فتركوه، وتشاوروا بينهم، وظهر عليهم انكسار، ثم أرادوا بعد ذلك سمله، ومنع منه بعض، فقال لهم يعقوب: أخبروني عن حالكم، وما يفوتكم الذي تريدونه مني، وإذا فعلتم بي شيئاً ربما ندمتم عليه.
فقيل له: إن طغرل بن ينال أسرى من ثمانين فرسخاً في عشرات ألوف من العساكر، وكبس أخاك بكاشغر، فأخذه أسيراً، ونهب عسكره، وعاد إلى بلاده، فقال لهم: هذا الذي تريدون تفعلونه بي ليس مما تتقربون به إلى الله تعالى وإنما تفعلونه اتباعاً لأمر أخي، وقد زال أمره، ووعدهم الإحسان فأطلقوه. فلما رأى السلطان ذلك ورأى طمع طغرل بن ينال، ومسيره إلى كاشغر، وقبض صاحبها، وملكه لها مع قربه منه، خاف أن ينحل بعض أمره وتزول هيبته، وعلم أنه متى قصد طغرل سار من بين يديه، فإن عاد عنه رجع إلى بلاده، وكذلك يعقوب أخو صاحب كاشغر، وأنه لا يمكنه المقام لسعة البلاد وراءه وخوف الموت بها، فوضع تاج الملك على أن يسعى في إصلاح أمر يعقوب معه، ففعل ما أمره به السلطان، فاتفق هو ويعقوب، وعاد إلى خراسان، وجعل يعقوب مقابل طغرل يمنعه من القوة، وملك البلاد، وكل منهما يقوم في وجه الآخر. ذكر عود ابنة السلطان إلى أبيهاوفي هذه السنة أرسل السلطان إلى الخليفة يطلب ابنته طلباً لا بد منه. وسبب ذلك أنها أرسلت تشكو من الخليفة، وتذكر أنه كثير الاطراح لها، والإعراض عنها، فأذن لها في المسير، فسارت في ربيع الأول، وسار معها ابنها من الخليفة أبو الفضل جعفر بن المقتدي بأمر الله، ومعهما سائر أرباب الدولة، ومشى، مع محفتها، سعد الدولة كوهرائين، وخدم دار الخلافة الأكابر، وخرج الوزير وشيعهم إلى النهروان وعاد. وسارت الخاتون إلى أصبهان، فأقامت بها إلى ذي القعدة، وتوفيت، وجلس الوزير ببغداد للعزاء سبعة أيام، وأكثر الشعراء مراثيها ببغداد، وبعسكر السلطان. ذكر فتح عسكر مصر عكا وغيرها من الشام في هذه السنة خرجت عساكر مصر إلى الشام في جماعة من المقدمين، فحصروا مدينة صور، وكان قد تغلب عليها القاضي عين الدولة بن أبي عقيل، وامتنع عليهم، ثم توفي، ووليها أولاده، فحصرهم العسكر المصري فلم يكن لهم من القوة ما يمتنعون بها، فسلموها إليهم. ثم سار العسكر عنها إلى مدينة صيدا، ففعلوا بها كذلك. ثم ساروا إلى مدينة عكا، فحصروها، وضيقوا على أهلها، فافتتحوها. وقصدوا مدينة جبيل، فملكوها أيضاً، وأصلحوا أحوال هذه البلاد، وقرروا قواعدها، وساروا عنها إلى مصر عائدين، واستعمل أمير الجيوش على هذه البلاد الأمراء والعمال. ذكر الفتنة بين أهل بغداد ثانيةوفي هذه السنة، في جمادى الأولى، كثرت الفتن ببغداد بين أهل الكرخ وغيرها من المحال، وقتل بينهم عدد كثير، واستولى أهل المحال على قطعة كبيرة من نهر الدجاج، فنهبوها، وأحرقوها، فنزل شحنة بغداد، وهو خمارتكين النائب عن كوهرائين، على دجلة في خيله ورجله، ليكف الناس عن الفتنة، فلم ينتهوا، وكان أهل الكرخ يجرون عليه وعلى أصحابه الجرايات والإقامات. وفي بعض الأيام وصل أهل باب البصرة إلى سويقة غالب، فخرج من أهل الكرخ من لم تجر عادته بالقتال، فقاتلوهم حتى كشفوهم. فركب خدم الخليفة، والحجاب، والنقباء، وغيرهم من أعيان الحنابلة، كابن عقيل، والكلوذاني، وغيرهما، إلى الشحنة، وساروا معه إلى أهل الكرخ، فقرأ عليهم مثالاً من الخليفة يأمرهم بالكف، ومعاودة السكون، وحضور الجماعة والجمعة، والتدين بمذهب أهل السنة، فأجابوا إلى الطاعة. فبينما هم كذلك أتاهم الصارخ من نهر الدجاج بأن السنة قد قصدوهم، والقتال عندهم، فمضوا مع الشحنة، ومنعوا من الفتنة، وسكن الناس وكتب أهل الكرخ على أبواب مساجدهم: خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي، ومن عند هذا اليوم ثار أهل الكرخ، وقصدوا شارع ابن أبي عوف ونهبوه، وفي جملة ما نهبوا دار أبي الفضل بن خيرون المعدل، فقصد الديوان مستنفراً، ومعه الناس، ورفع العامة الصلبان وهجموا على الوزير في حجرته، وأكثروا من الكلام الشنيع، وقتل ذلك اليوم رجل هاشمي من أهل باب الأزج بسهم أصابه، فثار العامة هناك بعلوي كان مقيماً بينهم، فقتلوه وحرقوه، وجرى من النهب، والقتل، والفساد أمور عظيمة، فأرسل الخليفة إلى سيف الدولة صدقة بن مزيد، فأرسل عسكراً إلى بغداد، فطلبوا المفسدين والعيارين، فهربوا منهم، فهدمت دورهم، وقتل منهم ونفي وسكنت الفتنة، وأمن الناس. ذكر حيلة لأمير المسلمين ظهرت ظهوراً غريباً
كان بالمغرب إنسان اسمه محمد بن إبراهيم الكزولي، سيد قبيلة كزولة ومالك جبلها، وهو جبل شامخ، وهي قبيلة كثيرة، وبينه وبين أمير المسلمين يوسف بن تاشفين مودة واجتماع، فلما كان هذه السنة أرسل يوسف إلى محمد بن إبراهيم يطلب الاجتماع به، فركب إليه محمد، فلما قاربه خافه على نفسه، فعاد إلى جبله، واحتاط لنفسه، فكتب إليه يوسف، وحلف له أنه ما أراد به إلا الخير، ولم يحدث نفسه بغدر. فلم يركن محمد إليه. فدعا يوسف حجاماً، وأعطاه مائة دينار، وضمن له مائة دينار أخرى، إن هو سار إلى محمد بن إبراهيم واحتال على قتله. فسار الحجام، ومعه مشاريط مسمومة، فصعد الجبل، فلما كان الغد خرج ينادي لصناعته بالقرب من مساكن محمد، فسمع محمد الصوت، فقال: هذا الحجام من بلدنا؟ فقيل: إنه غريب، فقال: أراه يكثر الصياح، وقد ارتبت بذلك، ائتوني به. فأحضر عنده، فاستدعى حجاماً آخر وأمره أن يحجمه بمشاريطه التي معه، فامتنع الحجام الغريب، فأمسك وحجم فمات، وتعجب الناس من فطنته. فلما بلغ ذلك يوسف ازداد غيظه، ولج في السعي في أذى يوصله إليه، فاستمال قوماً من أصحاب محمد، فمالوا إليه، فأرسل إليهم جراراً من عسل مسموم، فحضروا عند محمد وقالوا: قد وصل إلينا قوم معهم جرار من عسل أحسن ما يكون، وأردنا إتحافك به، وأحضروها بين يديه، فلما رآه أمر بإحضار خبز، وأمر أولئك الذين أهدوا إليه العسل أن يأكلوا منه، فامتنعوا، واستعفوه من أكله، فلم يقبل منهم، وقال: من لم يأكل قتل بالسيف، فأكلوا، فماتوا عن آخرهم. فكتب إلى يوسف بن تاشفين: إنك قد أردت قتلي بكل وجه، فلم يظفرك الله بذلك، فكف عن شرك، فقد أعطاك الله المغرب بأسره، ولم يعطني غير هذا الجبل، وهو في بلادك كالشامة البيضاء في الثور الأسود، فلم تقنع بما أعطاك الله، عز وجل. فلما رأى يوسف أن سره قد انكشف وأنه لا يمكنه في أمره شيء لحصانة جبله أعرض عنه وتركه. ذكر ملك العرب مدينة سوسة وأخذها منهم في هذه السنة نقض ابن علوي ما بينه وبين تميم بن المعز بن باديس أمير إفريقية من العهد، وسار في جميع من عشيرته العرب، فوصل إلى مدينة سوسة من بلاد إفريقية، وأهلها غارون لم يعلموا به، فدخلها عنوة، وجرى بينه وبين من بها من العسكر والعامة قتال، فقتل من الطائفتين جماعة وكثر القتل في أصحابه والأسر، وعلم أنه لا يتم له مع تميم حال، ففارقها، وخرج منها إلى حلته من الصحراء. وكان بإفريقية هذه السنة غلاء شديد، وبقي كذلك إلى سنة أربع وثمانين، وصلحت أحوال أهلها، وأخصبت البلاد، ورخصت الأسعار، وأكثر أهلها الزرع. ذكر عدة حوادثفي هذه السنة قطعت الحرامية الطريق على قفل كبير بولاية حلب، فركب آقسنقر في جماعة من عسكره وتبعهم، ولم يزل حتى أخذهم وقتلهم، فأمنت الطرق بولايته. وفيها ورد العميد الأغر أبو المحاسن عبد الجليل بن علي الدهستاني إلى بغداد عميداً، وعزل أخوه كمال الملك على ما ذكرناه. وفيها درس الإمام أبو بكر الشاشي في المدرسة التي بناها تاج الملك مستوفي السلطان بباب إبرز من بغداد، وهي المدرسة التاجية المشهورة. وفيها عمرت منارة جامع حلب. وفيها توفي الخطيب أبو عبد الله الحسين بن أحمد بن عبد الواحد بن أبي الحديد السلمي، خطيب دمشق، في ذي الحجة. وفيها توفي أحمد بن محمد بن صاعد بن محمد أبو نصر النيسابوري رئيسها، ومولده سنة عشر وأربعمائة، وكان من العلماء، وعاصم بن الحسن بن محمد بن علي بن عاصم العاصمي البغدادي من أهل الكرخ، كان ظريفاً كيساً، له شعر حسن، فمنه: ماذا على متلون الأخلاق ... لو زارني، فأبثه أشواقي وأبوح بالشكوى إليه تذللاً، ... وأفض ختم الدمع من آماقي فعساه يسمح بالوصال لمدنف ... ذي لوعة، وصبابة، مشتاق أسر الفؤاد، ولم يرق لموثق ... ما ضره لو جاد بالإطلاق إن كان قد لسبت عقارب صدغه ... قلبي، فإن رضابه درياقي وقال أيضاً: فديت من ذبت شوقاً من محبته، ... وصرت من هجره فوق الفراش لقا سمعته يتغنى، وهو مصطبح، ... أفديه مصطبحاً منه، ومغتبقا وأخلفتك ابنة البكري ما وعدت، ... وأصبح الحبل منه واهياً خلقا
والصحيحأنه توفي سنة ثلاث وثمانين. وفيها، في جمادى الآخرة، توفي الشريف أبو القاسم العلوي، الدبوسي، المدرس بالنظامية ببغداد، وكان فاضلاً فصيحاً. ثم دخلت سنة ثلاث وثمانين وأربعمائة ذكر وفاة فخر الدولة ابن جهير في هذه السنة، في المحرم، توفي فخر الدولة أبو نصر محمد بن محمد بن جهير الذي كان وزير الخليفة بمدينة الموصل، ومولده بها سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة، وتزوج إلى أبي العقارب شيخها، ونظر في إملاك جارية قرواش، المعروفة بسرهنك، ثم خدم بركة بن المقلد، حتى قبض على أخيه قرواش وحبسه، ومضى بهدايا إلى ملك الروم، فاجتمع هو ورسول نصر الدولة بن مروان، فتقدم فخر الدولة عليه، فنازعه رسول ابن مروان، فقال فخر الدولة لملك الروم: أنا أستحق التقدم عليه لأن صاحبه يؤدي الخراج إلى صاحبي. فلما عاد إلى قريش بن بدران أراد القبض عليه، فاستجار بأبي الشداد، وكانت عقيل تجير على أمرائها، وسار إلى حلب، فوزر لمعز الدو | |
|
| |
الشيخ عودة الشيخ عودة
عدد المساهمات : 1748 تاريخ التسجيل : 28/09/2008 العمر : 74
| موضوع: رد: كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير الثلاثاء فبراير 25, 2014 11:11 am | |
| ذكر الحرب بين المسلمين والفرنج بجيان في هذه السنة جمع أذفونش عساكره، وجموعه، وغزا بلاد جيان من الأندلس، فلقيه المسلمون وقاتلوه، واشتدت الحرب، فكانت الهزيمة أولاً على المسلمين، إن الله تعالى رد لهم الكرة على الفرنج، فهزموهم، وأكثروا القتل فيهم، ولم ينج إلا الأذفونش في نفر يسير، وكانت هذه الوقعة من أشهر الوقائع، بعد الزلاقة، وأكثر الشعراء ذكرها في أشعارهم. ذكر استيلاء تتش على حمص وغيرها من ساحل الشاملما كان السلطان ببغداد قدم إليه أخوه تاج الدولة تتش من دمشق، وقسيم الدولة آقسنقر من حلب، وبوزان من الرها، فلما أذن لهم السلطان في العود إلى بلادهم أمر قسيم الدولة وبوزان أن يسيرا مع عساكرهما في خدمة أخيه تاج الدولة، حتى يستولي على ما للخليفة المستنصر العلوي، بساحل الشام، من البلاد، ويسير، وهم معه، إلى مصر ليملكها. فساروا أجمعون إلى الشام، ونزل على حمص، وبها ابن ملاعب صاحبها، وكان الضرر به وبأولاده عظيماً على المسلمين، فحصروا البلد، وضيقوا على من به، فملكه تاج الدولة، وأخذ ابن ملاعب وولديه، وسار إلى قلعة عرقة فملكها عنوة، وسار إلى قلعة أفامية فملكها أيضاً، وكان بها خادم للمصري، فنزل بالأمان فأمنه، ثم سار إلى طرابلس فنازلها، فرأى صاحبها جلال الملك ابن عمار جيشاً لا يدفع إلا بحيلة، فأرسل إلى الأمراء الذين مع تاج الدولة، وأطمعهم ليصلحوا حاله، فلم ير فيهم مطمعاً. وكان مع قسيم الدولة آقسنقر وزير له اسمه زرين كمر، فراسله ابن عمار فرأى عنده ليناً، فأتحفه وأعطاه، فسعى مع صاحبها قسيم الدولة في إصلاح حاله ليدفع عنه، وحمل له ثلاثين ألف دينار، وتحفاً بمثلها، وعرض عليه المناشير التي بيده من السلطان بالبلد، والتقدم إلى النواب بتلك البلاد بمساعدته، والشد بيده، فأغلظ له تاج الدولة، وقال: هل أنت تابع لي؟ فقال آقسنقر: أنا أتابعك إلا في معصية السلطان، ورحل من الغد عن موضعه، فاضطر تاج الدولة إلى الرحيل، فرحل غضبان، وعاد بوزان أيضاً إلى بلاده، فانتقض هذا الأمر. ذكر ملك السلطان اليمنوكان ممن حضر أيضاً عند السلطان ببغداد جبق أمير التركمان، وهو صاحب قرميسين وغيرها، فأمره السلطان أن يسير هو ومعه جماعة من أمراء السلطان ذكرهم، إلى الحجاز واليمن، ويكون أمرهم إلى سعد الدولة كوهرائين، ليفتحوا البلاد هناك، فاستعمل عليهم سعد الدولة أميراً اسمه ترشك، فساروا حتى وردوا اليمن، فاستولوا عليها، وأساءوا السيرة في أهلها، ولم يتركوا فاحشة ولا سيئة إلا ارتكبوها، وملكوا عدن، وظهر على ترشك الجدري، فتوفي في سابع يوم من وصوله إليها، وكان عمره سبعين سنة، فعاد أصحابه إلى بغداد، وحملوه، فدفنوه عند قبر أبي حنيفة، رحمة الله عليه. ذكر مقتل نظام الملكفي هذه السنة، عاشر رمضان، قتل نظام الملك أبو علي الحسن بن علي بن إسحاق الوزير بالقرب من نهاوند، وكان هو والسلطان في أصبهان، وقد عاد إلى بغداد، فلما كان بهذا المكان، بعد أن فرغ من إفطاره، وخرج في محفته إلى خيمة حرمه، أتاه صبي ديلمي من الباطنية، في صورة مستميح، أو مستغيث، فضربه بسكين كانت معه، فقضى عليه وهرب، فعثر بطنب خيمة، فأدركوه فقتلوه، وركب السلطان إلى خيمه، فسكن عسكره وأصحابه. وبقي وزير السلطان ثلاثين سنة سوى ما وزر للسلطان ألب أرسلان، صاحب خراسان، أيام عمه طغرلبك، قبل أن يتولى السلطنة، وكان علت سنه، فإنه كان مولده سنة ثمان وأربعمائة.
وكان سبب قتله أن عثمان بن جمال الملك بن نظام الملك كان قد ولاه جده نظام الملك رئاسة مرو، وأرسل السلطان إليها شحنة يقال له قودن، وهو من أكبر مماليكه، ومن أعظم الأمراء في دولته، فجرى بينه وبين عثمان منازعة في شيء، فحملت عثمان حداثة سنه، وتمكنه، وطمعه بجده، على أن قبض عليه، وأخرق به، ثم أطلقه، فقصد السلطان مستغيثاً شاكياً، فأرسل السلطان إلى نظام الملك رسالة مع تاج الدولة ومجد الملك البلاساني وغيرهما من أرباب دولته يقول له: إن كنت شريكي في الملك، ويدك مع يدي في السلطنة، فلذلك حكم، وإن كنت نائبي، وبحكمي، فيجب أن تلزم حد التبعية والنيابة، وهؤلاء أولادك قد استولى كل واحد منهم على كورة عظيمة، وولي ولاية كبيرة، ولم يقنعهم ذلك، حتى تجاوزوا أمر السياسة وطمعوا إلى أن فعلوا كذا وكذا، وأطال القول، وأرسل معهم الأمير يلبرد، وكان من خواصه وثقاته، وقال له: تعرفني ما يقول، فربما كتم هؤلاء شيئاً. فحضروا عند نظام الملك وأوردوا عليه الرسالة، فقال لهم: قولوا للسلطان إن كنت ما علمت أني شريكك في الملك فاعلم، فإنك ما نلت هذا الأمر إلا بتدبيري ورأيي، أما يذكر حين قتل أبوه فقمت بتدبير أمره، وقمعت الخوارج عليه من أهله، وغيرهم، منهم: فلان وفلان، وذكر جماعة من خرج عليه، وهو ذلك الوقت يتمسك بي ويلزمني، ولا يخالفني، فلما قدت الأمور إليه، وجمعت الكلمة عليه، وفتحت له الأمصار القريبة والبعيدة، وأطاعه القاصي والداني، أقبل يتجنى لي الذنوب، ويسمع في السعايات؟ قولوا له عني: إن ثبات تلك القلنسوة معذوق بهذه الدواة، وإن اتفاقهما رباط كل رغيبة وسبب كل غنيمة، ومتى أطبقت هذه زالت تلك، فإن عزم على تغيير فليتزود للاحتياط قبل وقوعه، وليأخذ الحذر من الحادث أمام طروقه، وأطال فيما هذا سبيله، ثم قال لهم: قولوا للسلطان عني مهما أردتم، فقد أهمني ما لحقني من توبيخه وفت في عضدي. فلما خرجوا من عنده اتفقوا على كتمان ما جرى عن السلطان، وأن يقولوا له ما مضمونه العبودية والتنصل، ومضوا إلى منازلهم، وكان الليل قد انتصف، ومضى يلبرد إلى السلطان فأعلمه ما جرى، وبكر الجماعة إلى السلطان، وهو ينتظرهم، فقالوا له من الاعتذار والعبودية ما كانوا اتفقوا عليه، فقال لهم السلطان: إنه لم يقل هذا، وإنما قال كيت وكيت، فأشاروا حينئذ بكتمان ذلك رعاية لحق نظام الملك، وسابقته، فوقع التدبير عليه، حتى تم عليه من القتل ما تم. ومات السلطان بعده بخمسة وثلاثين يوماً، وانحلت الدولة، ووقع السيف، وكان قول نظام الملك شبه الكرامة له، وأكثر الشعراء مراثيه، فمن جيد ما قيل فيه قول شبل الدولة مقاتل بن عطية: كان الوزير نظام الملك لؤلؤة ... يتيمة صاغها الرحمن من شرف عزت، فلم تعرف الأيام قيمتها ... فردها، غيرة منه، إلى الصدف ورأى بعضهم نظام الملك بعد قتله في المنام، فسأله عن حاله، فقال: كان يعرض علي جميع عملي لولا الحديدة التي أصبت بها، يعني القتل. ذكر ابتداء حاله وشيء من أخبارهأما ابتداء حاله، فكان من أبناء الدهاقين بطوس، فزال ما كان لأبيه من مال، وملك، وتوفيت أمه وهو رضيع، فكان أبوه يطوف به على المرضعات فيرضعنه حسبة، حتى شب، وتعلم العربية، وسر الله فيه يدعوه إلى علو الهمة، والاشتغال بالعلم، فتفقه، وصار فاضلاً، وسمع الحديث الكثير، ثم اشتغل بالأعمال السلطانية، ولم يزل الدهر يعلو به ويخفض حضراً وسفراً. وكان يطوف بلاد خراسان، ووصل إلى غزنة في صحبة بعض المتصرفين، ثم لزم أبا علي بن شاذان متولي الأمور ببلخ لداود والد السلطان ألب أرسلان، فحسنت حاله معه، وظهرت كفايته وأمانته، وصار معروفاً عندهم بذلك، فلما حضرت أبا علي بن شاذان الوفاة أوصى الملك ألب أرسلان به، وعرفه حاله، فولاه شغله، ثم صار وزيراً له إلى أن ولي السلطنة بعد عمه طغرلبك، واستمر على الوزارة لأنه ظهرت منه كفاية عظيمة، وآراء سديدة قادت السلطنة إلى ألب أرسلان، فلما توفي ألب أرسلان قام بأمر ابنه ملكشاه، وقد تقدم ذكر هذه الجمل مستوفى مشروحاً.
وقيل إن ابتداء أمره أنه كان يكتب للأمير تاجر، صاحب بلخ، وكان الأمير يصادره في رأس كل سنة، ويأخذ ما معه، ويقول له: قد سمنت يا حسن! ويدفع إليه فرساً ومقرعة ويقول: هذا يكفيك، فلما طال ذلك عليه أخفى ولديه فخر الملك، ومؤيد الملك، وهرب إلى جغري بك داود، والد ألب أرسلان، فوقف فرسه في الطريق، فقال: اللهم إني أسألك فرساً تخلصني عليه! فسار غير بعيد، فلقيه تركماني وتحته فرس جواد، فقال لنظام الملك: انزل عن فرسك، فنزل عنه، فأخذه التركماني وأعطاه فرسه، فركبه وقال له: لا تنسني يا حسن. قال نظام الملك: فقويت نفسي بذلك، وعملت أنه ابتداء سعادة. فسار نظام الملك إلى مرو، ودخل على داود، فلما رآه أخذ بيده، وسلمه إلى والده ألب أرسلان، وقال له: هذا حسن الطوسي، فتسلمه، واتخذه والداً ولا تخالفه. وكان الأمير تاجر لما سمع بهرب نظام الملك سار في أثره إلى مرو، فقال لداود: هذا كاتبي ونائبي قد أخذ أموالي، فقال له داود: حديثك مع محمد، يعني ألب أرسلان، فكان اسمه محمد، فلم يتجاسر تاجر على خطابه، فتركه وعاد. وأما أخباره، فإنه كان عالماً، ديناً، جواداً، عادلاً، حليماً، كثير الصفح عن المذنبين طويل الصمت، كان مجلسه عامراً بالقراء، والفقهاء، وأئمة المسلمين، وأهل الخير والصلاح، أمر ببناء المدارس في سائر الأمصار والبلاد، وأجرى لها الجرايات العظيمة، وأملى الحديث بالبلاد: ببغداد وخراسان وغيرهما، وكان يقول: إني لست من أهل هذا الشأن، لما تولاه، ولكني أحب أن أجعل نفسي على قطار نقلة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان إذا سمع المؤذن أمسك عن كل ما هو فيه وتجنبه، فإذا فرغ لا يبدأ بشيء قبل الصلاة، وكان، إذا غفل المؤذن ودخل الوقت يأمره بالأذان، وهذا غاية حال المنقطعين إلى العبادة في حفظ الأوقات، ولزوم الصلوات. وأسقط المكوس والضرائب، وأزال لعن الأشعرية من المنابر، وكان الوزير عميد الملك الكندري قد حسن للسلطان طغرلبك التقدم بلعن الرافضة، فأمره بذلك، فأضاف إليهم الأشعرية، ولعن الجميع، فلهذا فارق كثير من الأئمة بلادهم، مثل إمام الحرمين، وأبي القاسم القشيري، وغيرهما، فلما ولي ألب أرسلان السلطنة أسقط نظام الملك ذلك جميعه، وأعاد العلماء إلى أوطانهم. وكان نظام الملك إذا دخل عليه الإمام أبو القاسم القشيري، والإمام أبو المعالي الجويني، يقوم لهما، ويجلس في مسنده، كما هو، وإذا دخل أبو علي الفارمذي يقوم إليه، ويجلسه في مكانه، ويجلس هو بين يديه، فقيل له في ذلك، فقال: إن هذين وأمثالهما إذ دخلوا علي يقولون لي: أنت كذا وكذا، يثنون علي بما ليس في، فيزيدني كلامهم عجباً وتيهاً، وهذا الشيخ يذكر لي عيوب نفسي، وما أنا فيه من الظلم، فتنكسر نفسي لذلك، وأرجع عن كثير مما أنا فيه. وقال نظام الملك: كنت أتمنى أن يكون لي قرية خالصة، ومسجد أتفرد فيه لعبادة ربي، ثم بعد ذلك تمنيت أن يكون لي قطعة أرض أتقوت بريعها، ومسجد أعبد الله فيه، وأما الآن فأنا أتمنى أن يكون لي رغيف كل يوم، ومسجد أعبد الله فيه. وقيل: كان ليلة يأكل الطعام، وبجانبه أخوه أبو القاسم، وبالجانب الآخر عميد خراسان، وإلى جانب العميد إنسان فقير، مقطوع اليد، فنظر نظام الملك، فرأى العميد يتجنب الأكل مع المقطوع، فأمره بالانتقال إلى الجانب الآخر، وقرب المقطوع إليه فأكل معه. وكانت عادته أن يحضر الفقراء طعامه، ويقربهم إليه، ويدنيهم. وأخباره مشهورة كثيرة، قد جمعت لها المجاميع السائرة في البلاد. ذكر وفاة السلطان وذكر بعض سيرتهسار السلطان ملكشاه، بعد قتل نظام الملك، إلى بغداد، ودخلها في الرابع والعشرين من شهر رمضان، ولقيه وزير الخليفة عميد الدولة بن جهير، وظهرت من تاج الملك كفاية عظيمة، وكان السلطان قد أمر أن تفصل خلع الوزارة لتاج الملك، وكان هو الذي سعى بنظام الملك، فلما فرغ من الخلع، ولم يبق غير لبسها والجلوس في الدست، اتفق أن السلطان خرج إلى الصيد، وعاد ثالث شوال مريضاً، وأنشب الموت أظفاره فيه، ولم يمنع عنه سعة ملكه، وكثرة عساكره. وكان سبب مرضه أنه أكل لحم صيد فحم وافتصد، ولم يستوف إخراج الدم، فثقل مرضه، وكانت حمى محرقة، فتوفي ليلة الجمعة، النصف من شوال.
ولما ثقل نقل أرباب دولته أموالهم إلى حريم دار الخلافة، ولما توفي سترت زوجته تركان خاتون المعروفة بخاتون الجلالية موته وكتمته، وأعادت جعفر ابن الخليفة من ابنة السلطان إلى أبيه المقتدي بأمر الله، وسارت من بغداد والسلطان معها محمولاً، وبذلت الأموال للأمراء سراً، واستحلفتهم لابنها محمود، وكان تاج الملك يتولى ذلك لها، وأرسلت قوام الدولة كربوقا الذي صار صاحب الموصل إلى أصبهان بخاتم السلطان، فاستنزل مستحفظ القلعة، وتسلمها، وأظهر أن السلطان أمره بذلك، ولم يسمع بسلطان مثله لم يصل عليه أحد، ولم يلطم عليه وجه. وكان مولده سنة سبع وأربعين وأربعمائة، وكان من أحسن الناس صورة ومعنى، وخطب له من حدود الصين إلى آخر الشام، ومن أقاصي بلاد الإسلام في الشمال إلى آخر بلاد اليمن، وحمل إليه ملوك الروم الجزية، ولم يفته مطلب، وانقضت أيامه على أمن عام، وسكون شامل، وعدل مطرد. ومن أفعاله أنه لما خرج عليه أخوه تكش بخراسان اجتاز بمشهد علي بن موسى الرضا بطوس، فزاره، فلما خرج قال لنظام الملك: بأي شيء دعوت؟ قال: دعوت الله أن ينصرك، فقال: أما أنا فلم أدع بهذا بل قلت: اللهم انصر أصلحنا للمسلمين، وأنفعنا للرعية. وحكي عنه أن سوادياً لقيه وهو يبكي، فاستغاث به، وقال: كنت ابتعت بطيخاً بدريهمات لا أملك سواها، فغلبني عليه ثلاثة نفر من الأتراك، فأخذوه مني. فقال السلطان له: اقعد! ثم أحضر فراشاً وقال: قد اشتهيت بطيخاً، وكان ذلك عند أول استوائه، وأمره بطلبه من العسكر، فغاب ثم عاد ومعه البطيخ، فأمره بإحضار من وجده عنده، فأحضره، فسأله السلطان من أين له ذلك البطيخ؟ فقال غلماني جاؤوني به، فأمر أن يجيء بهم إليه، فمضى، وأمرهم بالهرب، وعاد فقال: لم أجدهم، فقال للسوادي: خذ مملوكي هذا فقد وهبته لك عوضاً عن بطيخك، ويحضر الذين أخذوه، والله لئن أطلقته لأضربن عنقك. فأخذه السوادي، فاشترى الغلام نفسه منه بثلاثمائة دينار، فعاد السوادي إلى الس، وقال: قد بعته نفسه بثلاثمائة دينار، فقال: أرضيت بذلك؟ قال: نعم! قال: امض مصاحباً. وقال عبد السميع بن داود العباسي: شاهدت ملكشاه وقد أتاه رجلان من أرض العراق السفلى، من قرية الحدادية، يعرفان بابني غزال، فلقياه، فوقف لهما، فقالا: إن مقطعنا الأمير خماراتكين قد صادرنا بألف وستمائة دينار، وقد كسر ثنيتي أحدنا، وأراهما الس، وقد قصدناك لتقتص لنا منه، فإن أخذت بحقنا كما أوجب الله عليك، وإلا فالله يحكم بيننا. قال فرأيت السلطان وقد نزل عن دابته وقال: ليمسك كل واحد منكما بطرف كمي، واسحباني إلى خواجه حسن، يعني نظام الملك، فامتنعا من ذلك، واعتذرا، وأقسم عليهما إلا فعلا، فأخذ كل واحد منهما بكم من كميه ومشى معهما إلى نظام الملك، فبلغه الخبر، فخرج مسرعاً فلقيه وقبل الأرض، وقال: يا سلطان العالم! ما حملك على هذا؟ فقال: كيف يكون حالي غداً عند الله إذا طولبت بحقوق المسلمين، وقد قلدتك هذا الأمر لتكفيني مثل هذا الموقف، فإن نال الرعية أذى فأنت المطالب، فانظر لي ولنفسك. فقبل الأرض، ومشى في خدمته، وعاد من وقته، وكتب بعزل الأمير خمارتكين عن إقطاعه، ورد المال عليهما، وأعطاهما مائة دينار من عنده، وأمرهما بإثبات البينة أنه قلع ثنيتيه ليقلع ثنيتيه عوضهما، فرضيا وانصرفا. وقيل إنه ورد بغداد ثلاث دفعات، فخافه الناس من غلاء الأسعار، وتعدي الجند، فكانت الأسعار أرخص منها قبل قدومه، وكان الناس يخترقون عساكره ليلاً ونهاراً، فلا يخافون أحداً، ولم يتعد عليهم أحد، وأسقط المكوس والمؤن من جميع البلاد، وعمر الطرق، والقناطر، والربط التي في المفاوز، وحفر الأنهار الخراب، وعمر الجامع ببغداد، وعمل المصانع بطريق مكة، وبنى البلد بأصبهان، وبنى منارة القرون بالسبيعي بطريق مكة، وبنى مثلها بما وراء النهر، واصطاد مرة صيداً كثيراً، فأمره بعده، فكان عشرة آلاف رأس، فأمر بصدقة عشرة آلاف دينار، وقال: إنني خائف من الله تعالى كيف أزهقت أرواح هذه الحيوانات بغير ضرورة ولا مأكلة، وفرق من الثياب والأموال بين أصحابه ما لا يحصى، وصار بعد ذلك كلما صاد شيئاً تصدق بعدده دنانير، وهذا فعل من يحاسب نفسه على حركاته وسكناته، وقد أكثر الشعراء مراثيه أيضاً.
وقيل إن بعض أمراء السلطان كان نازلاً بهراة مع بعض العلماء اسمه عبد الرحمن في داره، فقال يوماً ذلك الأمير للسلطان، وهو سكران: إن عبد الرحمن يشرب الخمر، ويعبد الأصنام من دون الله تعالى، ويحلل الحرام، فلم يجبه ملكشاه، فلما كان الغد صحا ذلك الأمير، فأخذ السلطان السيف، وقال له: اصدقني عن فلان، وإلا قتلتك! فطلب منه الأمان، فأمنه، فقال: إن عبد الرحمن له دار حسناء، وزوجة جميلة، فأردت أن تقتله فأفوز بداره وزوجته، فأبعده السلطان، وشكر الله تعالى على التوقف عن قبول سعايته، وتصدق بأموال جليلة المقدار. ذكر ملك ابنه الملك محمود وما كان من حال ابنه الأكبر بركيارق إلى أن ملك لما مات السلطان ملكشاه كتمت زوجته تركان خاتون موته، كما ذكرناه، وأرسلت إلى الأمراء سراً فأرضتهم، واستحلفتهم لولدها محمود، وعمره أربع سنين وشهور، وأرسلت إلى الخليفة المقتدي في الخطبة لولدها أيضاً، فأجابها، وشرط أن يكون اسم السلطنة لولدها، والخطبة له، ويكون المدبر لزعامة الجيوش، ورعاية البلد، هو الأمير أنر، ويصدر عن رأي تاج الملك، ويكون ترتيب العمال، وجباية الأموال إلى تاج الملك أيضاً، وكان تاج الملك هو الذي يدبر الأمر بين يدي خاتون. فلما جاءت رسالة الخليفة إلى خاتون بذلك امتنعت من قبوله، فقيل لها: إن ولدك صغير، ولا يجيز الشرع ولايته، وكان المخاطب لها في ذلك الغزالي، فأذعنت له، وأجابت إليه، فخطب لولدها، ولقب ناصر الدنيا والدين، وكانت الخطبة يوم الجمعة الثاني والعشرين من شوال من السنة، وخطب له بالحرمين الشريفين. ولما مات السلطان ملكشاه أرسلت تركان خاتون إلى أصبهان في القبض على بركيارق ابن السلطان، وهو أكبر أولاده، خافته أن ينازع ولدها في السلطنة، فقبض عليه، فلما ظهر موت ملكشاه وثب المماليك النظامية على سلاح كان لنظام الملك بأصبهان، فأخذوه وثاروا في البلد، وأخرجوا بركيارق من الحبس، وخطبوا له بأصبهان وملكوه، وكانت والدة بركيارق زبيدة ابنة ياقوتي بن داود، وهي ابنة عم ملكشاه، خائفة على ولدها من خاتون أم محمود، فأتاها الفرج بالمماليك النظامية. وسارت تركان خاتون من بغداد إلى أصبهان، فطالب العسكر تاج الملك بالأموال، فوعدهم، فلما وصلوا إلى قلعة برجين صعد إليها لينزل الأموال منها، فلما استقر فيها عصى على خاتون، ولم ينزل خوفاً من العسكر، فساروا عنه، ونهبوا خزائنه، فلم يجدوا بها شيئاً، فإنه كان قد علم ما جرى، فاستظهر وأخفاه. ولما وصلت تركان خاتون إلى أصبهان لحقها تاج الملك، واعتذر بأن مستحفظ القلعة حبسه، وأنه هرب منه إليها، فقبلت عذره. وأما بركيارق فإنه لما قاربت خاتون وابنها محمود أصبهان خرج منها هو ومن معه من النظامية، وساروا نحو الري، فلقيهم أرغش النظامي في عساكره، ومعه جماعة من الأمراء، وصاروا يداً واحدة، وإنما حمل النظامية على الميل إلى بركيارق كراهتهم لتاج الملك لأنه عدو نظام الملك، والمتهم بقتله، فلما اجتمعوا حصروا قلعة طبرك وأخذوها عنوة، فسيرت خاتون العساكر إلى قتال بركيارق، فالتقى العسكران بالقرب من بروجرد، فانحاز جماعة من الأمراء الذين في عسكر خاتون إلى بركيارق، منهم: الأمير يلبرد، وكمشتكين الجاندار، وغيرهما، فقوي بهم، وجرت الحرب بينهم أواخر ذي الحجة، واشتد القتال، فانهزم عسكر خاتون وعادوا إلى أصبهان، وسار بركيارق في أثرهم فحصرهم بأصبهان. ذكر قتل تاج الملككان تاج الملك مع عسكر خاتون، وشهد الوقعة، فهرب إلى نواحي بروجرد، فأخذ وحمل إلى عسكر بركيارق، وهو يحاصر أصبهان، وكان يعرف كفايته، فأراد أن يستوزره، فشرع تاج الملك في إصلاح كبار النظامية، وفرق فيهم مائتي ألف دينار سوى العروض، فزال ما في قلوبهم. فلما بلغ عثمان نائب نظام الملك الخبر ساءه، فوضع الغلمان الأصاغر على الاستغاثة، وأن لا يقنعوا إلا بقتل قاتل صاحبهم، ففعلوا، فانفسخ ما دبره تاج الملك، وهجم النظامية عليه فقتلوه، وفصلوا أجزاء، وكان قتله في المحرم سنة ست وثمانين، وحملت إلى بغداد إحدى أصابعه.
وكان كثير الفضائل، جم المناقب، وإنما غطى محاسنه ممالأته على قتل نظام الملك، وهو الذي بنى تربة الشيخ أبي إسحاق الشيرازي، وعمل المدرسة التي إلى جانبها، ورتب بها الشيخ أبا بكر الشاسي، وكان عمره حين قتل سبعاً وأربعين سنة. ؟؟ ذكر ما فعله العرب بالحجاج والكوفة سار الحجاج هذه السنة من بغداد، فقدموا الكوفة، ورحلوا منها، فخرجت عليهم خفاجة، وقد طمعوا بموت السلطان، وبعد العسكر، فأوقعوا بهم، وقتلوا أكثر الجند الذين معهم، وانهزم باقيهم، ونهبوا الحجاج، وقصدوا الكوفة فدخلوها، وأغاروا عليها، وقتلوا في أهلها، فرماهم الناس بالنشاب، فخرجوا بعد أن نهبوا، وأخذوا ثياب من لقوه من الرجال والنساء، وفصل الخبر إلى بغداد، فسيرت العساكر منها، فلما سمع بنو خفاجة انهزموا، فأدركهم العسكر، فقتل منهم خلق كثير، ونهبت أموالهم، وضعفت خفاجة بعد هذه الوقعة. ذكر عدة حوادثفيها، في ربيع الأول، عاد السلطان من بغداد إلى أصبهان، وأخذ معه الأمير أبا الفضل جعفر ابن الخليفة المقتدي بأمر الله من ابنة السلطان، وتفرق الأمراء إلى بلادهم، ثم عاد إلى بغداد، فتوفي كما ذكرناه. وفيها، في جمادى الأولى، احترق نهر المعلى، فاحترق عقد الحديد إلى خربة الهراس، إلى باب دار الضرب، واحترق سوق الصاغة والصيارف، والمخلطين، والريحانيين، وكان الحريق من الظهر إلى العصر، فاحترق منها الأمر العظيم في الزمان القليل، واحترق من الناس خلق كثير، ثم ركب عميد الدولة بن جهير، وزير الخليفة، وجمع السقائين، ولم يزل راكباً حتى طفئت النار. وفي هذه السنة توفي عبد الباقي بن محمد بن الحسين بن ناقيا الشاعر البغدادي، سمع الحديث، وكان يتهم بأنه يطعن على الشرائع، فلما مات كانت يده مقبوضة، فلم يطق الغاسل فتحها، فبعد جهد فتحت فإذا فيها مكتوب: نزلت بجار لا يخيب ضيفه، ... أرجي نجاتي من عذاب جهنم وإني على خوفي من الله واثق ... بإنعامه، والله أكرم منعم وفيها توفي هبة الله بن عبد الوارث بن علي بن أحمد أبو القاسم الشيرازي الحافظ، أحد الرحالين في طلب الحديث شرقاً وغرباً، وقدم الموصل من العراق، وهو الذي أظهر سماع الجعديات لأبي محمد الصريفيني، ولم يكن يعرف ذلك. ثم دخلت سنة ست وثمانين وأربعمائة ذكر وزارة ابن نظام الملك لبركيارق كان عز الملك أبو عبد الله الحسين بن نظام الملك مقيماً بخوارزم، حاكماً فيها وفي كل ما يتعلق بها، إليه المرجع في كل أمورها السلطانية، فلما كان قبل أن يقتل أبوه حضر عنده خدمة له وللسلطان، فقتل أبوه، ومات السلطان، فأقام بأصبهان إلى الآن. فلما حصرها بركيارق، وكان أكثر عسكره النظامية، خرج من أصبهان هو وغيره من إخوته، فلما اتصل ببركيارق احترمه، وأكرمه، وفوض أمور دولته إليه، وجعله وزيراً له. ذكر حال تتش بن ألب أرسلانكان تتش بن ألب أرسلان صاحب دمشق وما جاورها من بلاد الشام، فلما كان قبل موت أخيه السلطان ملكشاه، سار من دمشق إليه ببغداد، فلما كان بهيت بلغه موته، فأخذ هيت، واستولى عليها، وعاد إلى دمشق يتجهز لطلب السلطنة، فجمع العساكر، وأخرج الأموال وسار نحو حلب، وبها قسيم الدولة آقسنقر، فرأى قسيم الدولة اختلاف أولاد صاحبه ملكشاه، وصغرهم، فعلم أنه لا يطيق دفع تتش، فصالحه، وصار معه، وأرسل إلى باغي سيان، صاحب أنطاكية، وإلى بوزان، صاحب الرها وحران، يشير عليهما بطاعة تاج الدولة تتش حتى يروا ما يكون من أولاد ملكشاه، ففعلوا، وصاروا معه، وخطبوا له في بلادهم، وقصدوا الرحبة، فحصروها، وملكوها في المحرم من هذه السنة، وخطب لنفسه بالسلطنة. ثم ساروا إلى نصيبين، فحصروها، فسب أهلها تاج الدولة، ففتحها عنوة وقهراً، وقتل من أهلها خلقاً كثيراً، ونهبت الأموال، وفعل فيها الأفعال القبيحة، ثم سلمها إلى الأمير محمد بن شرف الدولة العقيلي، وسار يريد الموصل، وأتاه الكافي بن فخر الدولة بن جهير، وكان في جزيرة ابن عمر، فأكرمه، واستوزره. ذكر وقعة المضيع وأخذ الموصل من العرب
كان إبراهيم بن قريش بن بدران، أمير بني عقيل، قد استدعاه السلطان ملكشاه سنة اثنتين وثمانين وأربعمائة ليحاسبه، فلما حضر عنده اعتقله، وأنفذ فخر الدولة بن جهير إلى البلاد، فملك الموصل وغيرها، وبقي إبراهيم مع ملكشاه، وسار معه إلى سمرقند، وعاد إلى بغداد، فلما مات ملكشاه أطلقته تركان خاتون من الاعتقال، فسار إلى الموصل. وكان ملكشاه قد أقطع عمته صفية مدينة بلد، وكانت زوجة شرف الدولة، ولها منه ابنها علي، وكانت قد تزوجت بعد شرف الدولة بأخيه إبراهيم، فلما مات ملكشاه قصدت الموصل، ومعها ابنها علي، فقصدها محمد بن شرف الدولة، وأراد أخذ الموصل، فافترقت العرب فرقتين: فرقة معه، وأخرى مع صفية وابنها علي، واقتتلوا بالموصل عند الكناسة، فظفر علي، وانهزم محمد، وملك علي الموصل. فلما وصل إبراهيم إلى جهينة، وبينه وبين الموصل أربعة فراسخ، سمع أن الأمير علياً ابن أخيه شرف الدولة قد ملكها، ومعه أمه صفية، عمة ملكشاه، فأقام مكانه، وراسل صفية خاتون، وترددت الرسل، فسلمت البلد إليه، فأقام به. فلما ملك تتش نصيبين أرسل إليه يأمره أن يخطب له بالسلطنة، ويعطيه طريقاً إلى بغداد لينحدر، ويطلب الخطبة بالسلطنة، فامتنع إبراهيم من ذلك، فسار تتش إليه، وتقدم إبراهيم أيضاً نحوه، فالتقوا بالمضيع، من أعمال الموصل، في ربيع الأول، وكان إبراهيم في ثلاثين ألفاً، وكان تتش في عشرة آلاف، وكان آقسنقر على ميمنته، وبوزان على ميسرته، فحمل العرب على بوزان، فانهزم، وحمل آقسنقر على العرب فهزمهم، وتمت الهزيمة على إبراهيم والعرب، وأخذ إبراهيم أسيراً وجماعة من أمراء العرب، فقتلوا صبراً، ونهبت أموال العرب وما معهم من الإبل والغنم والخيل وغير ذلك، وقتل كثير من نساء العرب أنفسهن خوفاً من السبي والفضيحة. وملك تتش بلادهم الموصل وغيرها، واستناب بها علي بن شرف الدولة مسلم، وأمه صفية عمة تتش، وأرسل إلى بغداد يطلب الخطبة، وساعده كوهرائين على ذلك، فقيل لرسوله: إنا ننتظر وصول الرسل من العسكر، فعاد إلى تتش بالجواب. ذكر ملك تتش ديار بكر وأذربيجان وعوده إلى الشام فلما فرغ تاج الدولة تتش من أمر العرب، وملك الموصل وغيرها من بلادهم، سار إلى ديار بكر في ربيع الآخر، فملك ميافارقين وسائر ديار بكر من ابن مروان، وسار منها إلى أذربيجان. فانتهى خبره إلى ابن أخيه ركن الدين بركيارق، وكان قد استولى على كثير من البلاد، منها: الري، وهمذان، وما بينهما، فلما تحقق الحال سار في عساكره ليمنع عمه عن البلاد، فلما تقارب العسكران قال قسيم الدولة آقسنقر لبوزان: إنما أطعنا هذا الرجل لننظر ما يكون من أولاد صاحبنا، والآن فقد ظهر ابنه، ونريد أن نكون معه. فاتفقا على ذلك وفارقا تتش، وصارا مع بركيارق. فلما رأى تاج الدولة تتش ذلك علم أنه لا قوة له بهم، فعاد إلى الشام، واستقامت البلاد لبركيارق، فلما قوي أمره سار كوهرائين إلى العسكر يعتذر من مساعدته لتاج الدولة تتش، وأعانه برسق، وتعصب عليه كمشتكين الجاندار، فأخذ إقطاعه، وأعطي الأمير يلبرد زيادة، وولي شحنكية بغداد عوض كوهرائين، وتفرق عن كوهرائين أصحابه، فكان ما يأتي ذكره إن شاء الله تعالى. ذكر حصر عسكر مصر صور | |
|
| |
الشيخ عودة الشيخ عودة
عدد المساهمات : 1748 تاريخ التسجيل : 28/09/2008 العمر : 74
| موضوع: رد: كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير الثلاثاء فبراير 25, 2014 11:13 am | |
| وملكهم لها في هذه السنة، في جمادى الآخرة، ملك عسكر المستنصر بالله العلوي، صاحب مصر، مدينة صور. وسبب ذلك ما ذكرناه سنة اثنتين وثمانين وأربعمائة: إن أمير الجيوش بدراً، وزير المستنصر، سير العساكر إلى مدينة صور، وغيرها، من ساحل الشام، وكان من بها قد امتنع من طاعتهم، فملكها، وقرر أمورها، وجعل فيها الأمراء. وكان قد ولى مدينة صور الأمير الذي يعرف بمنير الدولة الجيوشي، فعصى على المستنصر وأمير الجيوش، وامتنع بصور، فسيرت العساكر من مصر إليه، وكان أهل صور قد أنكروا على منير الدولة عصيانه على سلطانه، فلما وصل العسكر المصري إلى صور وحصروها وقاتلوها ثار أهلها، ونادوا بشعار المستنصر وأمير الجيوش، وسلموا البلد، وهجم العسكر المصري بغير مانع ولا مدافع، ونهب من البلد شيء كثير، وأسر منير الدولة ومن معه من أصحابه، وحملوا إلى مصر، وقطع على أهل البلد ستون ألف دينار، فأجحفت بهم. ولما وصل منير الدولة إلى مصر ومعه الأسرى قتلوا جميعهم ولم يعف عن واحد منهم.
ذكر قتل إسماعيل بن ياقوتي في هذه السنة، في شعبان، قتل إسماعيل بن ياقوتي بن داود، وهو خال بركيارق، وابن عم ملكشاه. وسبب قتله أنه كان بأذربيجان أميراً عليها، فأرسلت إليه تركان خاتون، زوجة ملكشاه، تطمعه أن تتزوج به، وتدعوه إلى محاربة بركيارق، فأجابها إلى ذلك، وجمع خلقاً كثيراً من التركمان وغيرهم، وصار أصحاب سرهنك ساوتكين في خيله، وأرسلت إليه تركان خاتون كربوقا، وغيره من الأمراء، في عسكر كثير مدداً له، فجمع بركيارق عساكره، وسار إلى حرب خاله إسماعيل، فالتقوا عند الكرج، فانحاز الأمير يلبرد إلى بركيارق، وصار معه، فانهزم إسماعيل وعسكره، وتوجه إلى أصبهان، فأكرمته تركان خاتون، وخطبت له، وضربت اسمه على الدينار بعد ابنها محمود بن ملكشاه. وكاد الأمر في الوصلة يتم بينهما، فامتنع الأمراء من ذلك لا سيما الأمير أنر، وهو مدبر الأمر، وصاحب الجيش، وآثروا خروج إسماعيل عنهم، وخافوه، وخاف هو أيضاً منهم، ففارقهم، وراسل أخته زبيدة والدة بركيارق في اللحاق بهم، فأذنت له في ذلك، فوصل إليهم، وأقام عندهم أياماً يسيرة، فخلا به كمشتكين الجاندار، وآقسنقر، وبوزان، وبسطوه في القول، فأطلعهم على سره، وأنه يريد السلطنة، وقتل بركيارق، فوثبوا عليه فقتلوه، وأعلموا أخته خبره فسكتت عنه. ذكر أخذ الحجاجفي هذه السنة انقطع الحج من العراق لأسباب أوجبت ذلك، وسار الحاج من دمشق مع أمير أقامه تاج الدولة تتش صاحبها، فلما قضوا حجهم وعادوا سائرين سير أمير مكة، وهو محمد بن أبي هاشم، عسكراً فلحقوهم بالقرب من مكة، ونهبوا كثيراً من أموالهم وجمالهم، فعادوا إليها، ولقوه، وسألوه أن يعيد عليهم ما أخذ منهم، وشكوا إليه بعد ديارهم، فأعاد بعض ما أخذ منهم، فلما أيسوا منه ساروا من مكة عائدين على أقبح صورة، فلما أبعدوا عنها ظهر عليهم جموع من العرب في عدة جهات، فصانعوهم على مال أخذوه من الحاج، بعد أن قتل منهم جماعة وافرة، وهلك فيه قوم بالضعف والانقطاع، وعاد السالم على أقبح صورة. ذكر عدة حوادثفي هذه السنة، في جمادى الأولى، قدم إلى بغداد أردشيرين بن منصور أبو الحسين الواعظ، العبادي، وأكثر الوعظ بالمدرسة النظامية، وهو مروزي، وقدم بغداد قاصداً للحج، وكان له قبول عظيم، بحيث أن الغزالي وغيره من الأئمة ومشايخ الصوفية الكبار يحضرون مجلسه، وذرع في بعض المجالس الأرض التي فيها الرجال، فكان طولها مائة وخمس وسبعين ذراعاً، وعرضها مائة وعشرين ذراعاً، وكانوا يزدحمون ازدحاماً كثيراً، وكان النساء أكثر من ذلك، وكان له كرامات ظاهرة، وعبادات كثيرة. وكان سبب منعه من الوعظ أنه نهى أن يتعامل الناس ببيع القراضة بالصحيح، وقال هو ربا، فمنع من الوعظ، وأخرج من البلد. وفيها وقعت الفتنة ببغداد بني العامة، وقصد كل فريق الفريق الآخر، وقطعوا الطرقات بالجانب الغربي، وقتل أهل النصرية مصلحياً، فأرسل كوهرائين فأحرقها، واتصلت الفتنة بين أهل الكرخ وباب البصرة، وكان للعميد الأغر أبي المحاسن الدهستاني في إطفاء هذه الفتنة أثر حسن. وفيها، في شعبان، سار سيف الدولة صدقة بن مزيد إلى السلطان بركيارق، فلقيه بنصيبين، وسار معه إلى بغداد، فوصلها في ذي القعدة ومعه وزيره عز الملك بن نظام الملك، وخرج عميد الدولة والناس إلى لقائه من عقرقوف. وفيها ولد للمستظهر بالله ولد سمي الفضل، وكني أبا منصور، ولقب عمدة الدين، وهو المسترشد بالله. وفيها، في رمضان، قتل الأمير يلبرد، قتله بركيارق، وكان من الأمراء الكبار مع أبيه، فزاده بركيارق إقطاع كوهرائين، وشحنكية بغداد، فلما وصل إلى دقوقا أعيد منها لأنه تكلم، فيما يتعلق بوالدة السلطان بركيارق، بكلام شنيع، فلما وصل إليه أصبح مقتولاً. وفيها، في المحرم، توفي علي بن أحمد بن يوسف أبو الحسن القرشي، الهكاري، المعروف بشيخ الإسلام، وكان فاضلاًن عابداً، كثير السماع، إلا أن الغرائب في حديثه كثيرة لا يدرى ما سببها، والأمير أبو نصر علي بن هبة الله بن علي بن جعفر العجلي، المعروف بابن ماكولا، مصنف كتاب الإكمال، قتله غلمانه الأتراك بكرمان، ومولده سنة اثنتين وأربعمائة، وكان حافظاً.
وفيها، في صفر، توفي أبو محمد عامر الضرير، وكان فقيهاً شافعياً، مقرئاً، نحوياً، وكان يصلي في رمضان بالإمام المقتدي بأمر الله. وفي جمادى الأولى توفي الأمير أبو الفضل جعفر بن المقتدي، وأمه ابنة السلطان ملكشاه، وإليه تنسب الجعفريات. وفي رجب توفي الشيخ أبو سعد عبد الواحد بن أحمد بن المحسن الوكيل بالمخزن، وكان فقيهاً شافعياً، كثير الإحسان إلى أهل العلم، وكان محموداً في ولايته. وفيها توفي كمال الملك الدهستاني الذي كان عميد بغداد. وفي رمضان توفي المشطب بن محمد الحنفي بالكحيل من أرض الموصل، وكان الخليفة قد أرسله إلى بركيارق، وكان بالموصل، ومعه تاج الرؤساء أبو نصر بن الموصلايا، وكان شيخاً كبيراً، عالماً، مكرماً عند الملوك، وحمل إلى العراق، ودفن عند أبي حنيفة. وفيه توفي القاضي أبو علي يعقوب بن إبراهيم المرزباني، قاضي باب الأزج، وولي مكانه القاضي ابو المعالي عزيزي، وكان أبو المعالي شافعياً، أشعرياً، مغالياً، وله مع أهل باب الأزج أقاصيص وحكايات عجيبة. وفيها توفي نصر بن الحسن بن القاسم بن الفضل أبو الليث، وأبو الفتح التنكتي، له كنيتان، سافر في البلاد شرقاً وغرباً، روى صحيح مسلم وغيره، وكان ثقة، ومولده سنة ست وأربعمائة. وفي ذي الحجة منها توفي أبو الفرج عبد الواحد بن محمد بن علي الحنبلي، الفقيه وكان وافر العلم، غزير الدين، حسن الوعظ والسمت. ثم دخلت سنة سبع وثمانين وأربعمائة ذكر الخطبة للسلطان بركيارق في هذه السنة، يوم الجمعة رابع عشر المحرم، خطب ببغداد للسلطان بركيارق بن ملكشاه، وكان قدمها أواخر سنة ست وثمانين، وأرسل إلى الخليفة المقتدي بأمر الله يطلب الخطبة، فأجيب إلى ذلك، وخطب له، ولقب ركن الدين. وحمل الوزير عميد الدولة بن جهير الخلع إلى بركيارق، فلبسها، وعرض التقليد على الخليفة ليعلم عليه، فعلم فيه، وتوفي فجأة على ما نذكره، إن شاء الله تعالى، وولي ابنه الإمام المستظهر بالله الخلافة، فأرسل الخلع والتقليد إلى السلطان بركيارق، فأقام ببغداد إلى ربيع الأول من السنة، وسار عنها إلى الموصل. ذكر وفاة المقتدي بأمر اللهفي هذه السنة، يوم السبت خامس عشر المحرم، توفي الإمام المقتدي بأمر الله أبو القاسم عبد الله بن الذخيرة بن القائم بأمر الله أمير المؤمنين فجأة، وكان قد أحضر عنده تقليد السلطان بركيارق ليعلم فيه، فقرأه، وتدبره، وعلم فيه، ثم قدم إليه طعام، فأكل منه، وغسل يديه، وعنده قهرمانته شمس النهار، فقال لها: ما هذه الأشخاص التي دخلت علي بغير إذن؟ قالت: فالتفت فلم أر شيئاً، ورأيته قد تغيرت حالته، واسترخت يداه ورجلاه، وانحلت قوته، وسقط إلى الأرض، فظننتها غشية قد لاحقته، فحللت أزرار ثوبه، فوجدته وقد ظهرت عليه أمارات الموت، ومات لوقته. قالت: فتماسكت، وقلت لجارية عندي: ليس هذا وقت إظهار الجزع والبكاء، فإن صحت قتلتك، وأحضرت الوزير فأعلمته الحال، فشرعوا في البيعة لولي العهد، وجهزوا المقتدي، وصلى عليه ابنه المستظهر، بالله، ودفنوه، وكان عمره ثمانياً وثلاثين سنة وثمانية أشهر وسبعة أيام، وكانت خلافته تسع عشرة سنة وثمانية أشهر غير يومين، وأمه أم ولد أرمنية تسمى أرجوان، وتدعى قرة العين، أدركت خلافته، وخلافة ابنه المستظهر بالله، وخلافة ابن ابنه المسترشد بالله. ووزر له فخر الدولة أبو نصر بن جهير، ثم أبو شجاع، ثم عميد الدولة أبو منصور بن جهير. وقضاته: أبو عبد الله الدامغاني، ثم أبو بكر الشامي. وكانت أيامه كثيرة الخير، واسعة الرزق، وعظمت الخلافة أكثر مما كان من قبله، وانعمرت ببغداد عدة محال في خلافته منها: البصلية، والقطيعة، والحلبة، والمقتدية، والأجمة، ودرب القيار، وخربة ابن جردة، وخربة الهراس، والخاتونيتين. وأمر بنفي المغنيات والمفسدات من بغداد، وبيع دورهن، فنفين، ومنع الناس أن يدخل أحد الحمام إلا بمئزر، وقلع الهرادي، والأبراج التي للطيور، ومنع من اللعب بها لأجل الاطلاع على حرم الناس، ومنع من إجراء ماء الحمامات إلى دجلة، وألزم أربابها بحفر آبار للمياه، وأمر أن من يغسل السمك المالح يعبر إلى النجمي فيغسله هناك، ومنع الملاحين أن يحملوا الرجال والنساء مجتمعين، وكان قوي النفس، عظيم الهمة من رجال بني العباس.
ذكر خلافة المستظهر بالله لما توفي المقتدي بأمر الله، أحضر ولده أبو العباس أحمد المستظهر بالله، وأعلم بموته، وحضر الوزير فبايعه، وركب إلى السلطان بركيارق، فأعلمه الحال، وأخذ بيعته للمستظهر بالله. فلما كان اليوم الثالث من موت المقتدي أظهر ذلك، وحضر عز الملك ابن نظام الملك وزير بركيارق، وأخوه بهاء الملك، وأمراء السلطان، وجمع أرباب المناصب: النقيبان طراد العباسي، والمعمر العلوي في أصحابهما، وقاضي القضاة، والغزالي، والشاشي، وغيرهما من العلماء، فجلسوا في العزاء، وبايعوا، وكان للمستظهر بالله لما بويع ست عشرة سنة وشهران. ذكر قتل قسيم الدولة آقسنقر وملك تتش حلب والجزيرة وديار بكر وأذربيجان وهمذان والخطبة له ببغداد في هذه السنة، في جمادى الأولى، قتل قسيم الدولة آقسنقر، جد ملوكنا بالموصل الآن، أولاد الشهيد زنكي بن آقسنقر. وسبب قتله أن تاج الدولة تتش لما عاد من أذربيجان منهزماً لم يزل يجمع العساكر، فكثرت جموعه، وعظم حشده، فسار في هذا التاريخ عن دمشق نحو حلب ليطلب السلطنة، فاجتمع قسيم الدولة آقسنقر، وبوزان، وأمدهما ركن الدين بركيارق بالأمير كربوقا الذي صار بعد صاحب الموصل، فلما اجتمعوا ساروا إلى طريقه، فلقوه عند نهر سبعين قريباً من تل السلطان، بينه وبين حلب ستة فراسخ، واقتتلوا، واشتد القتال، فخامر بعض العسكر الذين مع آقسنقر، فانهزموا، وتبعهم الباقون، فتمت الهزيمة، وثبت آقسنقر، فأخذ أسيراً، وأحضر عند تتش، فقال له: لو ظفرت بي ما كنت صنعت؟ قال: كنت أقتلك! فقال له: أنا أحكم عليك بما كنت تحكم علي، فقتله صبراً. وسار نحو حلب، وكان قد دخل إليها كربوقا، وبوزان، فحفظاها منه، وحصرها تتش ولج في قتالها حتى ملكها، سلمها إليه المقيم بقلعة الشريف، ومنها دخل البلد، وأخذهما أسيرين، وأرسل إلى حران والرها ليسلموه من بهما وكانتا لبوزان، فامتنعوا من التسليم غليه، فقتل بوزان، وأرسل رأسه إليهم وتسلم البلدين. وأم كربوقا فإنه أرسله إلى حمص، فسجنه بها إلى أن أخرجه الملك رضوان بعد قتل أبيه تتش. وكان قسيم الدولة أحسن الأمراء سياسة لرعيته، وحفظاً لهم، وكانت بلاده بين رخص عام، وعدل شامل، وأمن واسع، وكان قد شرط على أهل كل قرية من بلاده، متى أخذ عندهم قفل، أو أحد من الناس، غرم أهلها جميع ما يؤخذ من الأموال من قليل وكثير، فكانت السيارة، إذا بلغوا قرية من بلاده، ألقوا رحالهم وناموا، وحرسهم أهل القرية إلى أن يرحلوا، فأمنت الطرق. وأما وفاؤه، وحسن عهده، فيكفيه فخراً أنه قتل في حفظ بيت صاحبه وولي نعمته. فلما ملك تتش حران والرها سار إلى الديار الجزرية فملكها جميعها، ثم ملك ديار بكر وخلاط، وسار إلى أذربيجان فملك بلادها كلها، ثم سار منها إلى همذان فملكها، ورأى بها فخر الملك بن نظام الملك، وكان بخراسان، فسار منها إلى السلطان بركيارق ليخدمه، فوقع عليه الأمير قماج، وهو من عسكر محمود ابن السلطان ملكشاه بأصبهان، فنهب فخر الملك، فهرب منه ونجا بنفسه، فجاء إلى همذان فصادفه تتش بها، فأراد قتله، فشفع فيه باغي سيان، وأشار عليه أن يستوزره لميل الناس إلى بيته، فاستوزره، وأرسل إلى بغداد يطلب الخطبة من الخليفة المستظهر بالله، وكان شحنته ببغداد ايتكين جب، فلازم الخدمة بالديوان، وألح في طلبها، فأجيب إلى ذلك، بعد أن سمعوا أن بركيارق قد انهزم من عسكر عمه تتش، على ما نذكره. ذكر انهزام بركيارق من عمه تتش وملكه أصبهان بعد ذلك في هذه السنة، في شوال، انهزم بركيارق من عسكر عمه تتش. وكان بركيارق بنصيبين، فلما سمع بمسير عمه إلى أذربيجان، سار هو من نصيبين، وعبر دجلة من بلد فوق الموصل، وسار إلى إربل، ومنها إلى بلد سرخاب بن بدر إلى أن لقي بينه وبين عمه تسعة فراسخ، ولم يكن معه غير ألف رجل، وكان عمه في خمسين ألف رجل، فسار الأمير يعقوب بن آبق من عسكر عمه، فكبسه وهزمه، ونهب سواده، ولم يبق معه إلا برسق، وكمشتكين الجاندار، واليارق، وهم من الأمراء الكبار، فسار إلى أصبهان.
وكانت خاتون أم أخيه محمود قد ماتت، على ما نذكره، فمنعه من بها من الدخول إليها، ثم أذنوا له خديعة منهم ليقبضوا عليه، فلما قاربها خرج أخوه الملك محمود فلقيه، ودخل البلد، واحتاطوا عليه، فاتفق أن أخاه محموداً حم وجدر، فأراد الأمراء أن يكحلوا بركيارق، فقال لهم أمين الدولة ابن التلميذ الطبيب: إن الملك محموداً قد جدر، وما كأنه يسلم منه، وأراكم تكرهون أن يليكم، ويملك البلاد تاج الدولة، فلا تعجلوا على بركيارق، فإن مات محمود أقيموه ملكاً، وإن سلم محمود فأنتم تقدرون على كحله. فمات محمود سلخ شوال، فكان هذا من الفرج بعد الشدة، وجلس بركيارق للعزاء بأخيه. وكان مولد محمود في صفر سنة ثمانين وأربعمائة. وقصده مؤيد الملك بن نظام الملك، فاستوزره في ذي الحجة، وكان أخوه عز الملك بن نظام الملك قد مات لما كان مع بركيارق بالموصل، وحمل إلى بغداد، فدفن بالنظامية، وكان أصبح الناس وجهاً، وأحسنهم خلقاً وسيرة، وكان قد أجرى الناس على ما بأيديهم من توقيعات أبيه في الإطلاقات من خاصته، منها ببغداد مائتا كر غلة، وثمانية عشر ألف دينار أميري. ثم إن بركيارق جدر، بعد أخيه، وعوفي وسلم، فلما عوفي كاتب مؤيد الملك وزيره الأمراء العراقيين، والخراسانيين، واستمالهم، فعادوا كلهم إلى بركيارق، فعظم شأنه وكثر عسكره. ذكر وفاة أمير الجيوش بمصرفي هذه السنة، في ذي القعدة، توفي أمير الجيوش بدر الجمالي، صاحب الجيش بمصر، وقد جاوز ثمانين سنة، وكان هو الحاكم في دولة المستنصر، والمرجوع إليه. وكان قد استعمله على الشام سنة خمس وخمسين وأربعمائة، وجرى بينه وبين الرعية والجند بدمشق ما خاف منه عى نفسه، فخرج عنها هارباً، وجمع وحشد، وقدم إلى الشام فاستولى عليه بأسره سنة ست وخمسين، ثم خالفه أهل دمشق مرة أخرى، فهرب منهم سنة ستين، وخرب العامة والجند قرص الإمارة، ثم مضى أمير الجيوش إلى مصر، وتقدم بها، وصار صاحب الأمر. قال علقمة بن عبد الرزاق العليمي: قصدت بدراً الجمالي بمصر، فرأيت أشراف الناس وكبراءهم وشعراءهم على بابه، قد طال مقامهم ولم يصلوا إليه، قال: فبينا أنا كذلك إذ خرج بدر يريد الصيد، فخرج علقمة في أثره، وأقام إلى أن رجع من صيده، فلما قاربه وقف على نشز من الأرض، وأومأ برقعة في يده، وأنشأ يقول: نحن التجا قنا، ... درٌ وجود يمينك المبتاع قلب، وفتشها بسمعك إنما ... هي جوهر تختاره الأسماع كسدت علينا بالشآم، وكلما ... قل النفاق تعطل الصناع فأتاك يحملها إليك تجارها ... ومطيها الآمال والأطماع حتى أناخوها ببابك، والرجا ... من دونك السمسار والبياع فوهبت ما لم يعطه في دهره ... هرم، ولا كعب، ولا القعقاع وسبقت هذا الناس في طلب العلى ... فالناس، بعدك كلهم أتباع يا بدر أقسم لو بك اعتصم الورى، ... ولجوا إليك جميعهم، ما ضاعوا وكان على يد بدر بازي فألقاه وانفرد عن الجيش، وجعل يسترد الأبيات وهو ينشدها إلى أن استقر في مجلسه، ثم قال لجماعة غلمانه وخاصته: من أحبني فليخلع على هذا الشاعر، فخرج من عنده ومعه سبعون بغلاً، يحمل الخلع والتحف، وأمر له بعشرة آلاف درهم، فخرج من عنده وفرق كثيراً من ذلك على الشعراء، ولما مات بدر قام بما كان إليه ابنه الأفضل. ذكر وفاة المستنصر وولاية ابنه المستعليفي هذه السنة، ثامن عشر ذي الحجة، توفي المستنصر بالله أبو تميم معد بن أبي الحسن علي الظاهر لإعزاز دين الله العلوي، صاحب مصر والشام، وكانت خلافته ستين سنة وأربعة أشهر، وكان عمره سبعاً وستين سنة، وهو الذي خطب به البساسيري ببغداد، وقد ذكرنا ذلك. وكان الحسن بن الصباح، رئيس هذه الطائفة الإسماعيلية، قد قصده في زي تاجر، واجتمع به وخاطبه في إقامة الدعوة له ببلاد العجم، فعاد ودعا الناس إليه سراً، ثم أظهرها، وملك القلاع، كما ذكرناه، وقال للمستنصر: من إمامي بعدك؟ فقال: ابني نزار، وهو أكبر أولاده، والإسماعيلية إلى يومنا هذا يقولون بإمامة نزار.
ولقي المستنصر شدائد وأهوالاً، وانفتقت عليه بديار مصر، أخرج فيها أمواله وذخائره إلى أن بقي لا يملك غير سجادته التي يجلس عليها، وهو مع هذا صابر خاشع، وقد أتينا على ذكر هذا سنة سبع وستين وأربعمائة وغيرها. ولما مات ولي بعده ابنه أبو القاسم أحمد المستعلي بالله، ومولده في المحرم سنة سبع وستين وأربعمائة، وكان قد عهد في حياته بالخلافة لابنه نزار، فخلعه الأفضل وبايع المستعلي بالله. وسبب خلعه أن الأفضل ركب مرة، أيام المستنصر، ودخل دهليز القصر من باب الذهب راكباً، ونزار خارج، والمجاز مظلم، فلم يره الأفضل، فصاح به نزار: انزل، يا أرمني، كلب، عن الفرس، ما أقل أدبك! فحقدها عليه، فلما مات المستنصر خلعه خوفاً منه على نفسه، وبايع المستعلي، فهرب نزار إلى الإسكندرية، وبها ناصر الدولة أفتكين، فبايعه أهل الإسكندرية وسموه المصطفى لدين الله، فخطب الناس، ولعن الأفضل، وأعانه أيضاً القاضي جلال الدولة بن عمار، قاضي الإسكندرية، فسار إليه الأفضل، وحاصره بالإسكندرية، فعاد عنه مقهوراً، ثم ازداد عسكراً، وسار إليه، فحصره وأخذه، وأخذ أفتكين فتقله، وتسلم المستعلي نزاراً فبنى عليه حائطاً فمات، وقتل القاضي جلال الدولة بن عمار ومن أعانه. ذكر عدة حوادثفي هذه السنة، في ربيع الآخر، رأى بعض اليهود بالغرب رؤيا أنهم سيطيرون، فأخبر اليهود بذلك، فوهبوا أموالهم وذخائرهم، وجعلوا ينتظرون الطيران، فلم يطيروا، وصاروا ضحكة بين الأمم. وفي هذا الشهر كانت بالشام زلازل كثيرة متتابعة يطول مكثها، إلا أنه لم يكن الهدم كثيراً. وفيها كانت الفتنة بين أهل نهر طابق وأهل باب الأرجا، فاحترقت نهر طابق، وصارت تلولاً، فلما احترقت عبر يمن، صاحب الشرطة، فقتل رجلاً مستوراً، فنفر الناس منه، وعزل في اليوم الثالث. وفيها توفي محمد بن أبي هاشم الحسيني، أمير مكة، وقد جاوز سبعين سنة، ولم يكن له ما يمدح به، وكان قد نهب بعض الحجاج سنة ست وثمانين وقتل منهم خلقاً كثيراً. وفيها، في ربيع الأول، قتل السلطان بركيارق عمه تكش وغرقه، وقتل ولده معه، وكان ملكشاه قد أخذه، لما خرج عليه، وكحله، وحبسه بقلعة تكريت، فلما ملك بركيارق أحضره إليه ببغداد، وسار بمسيره، فظفر بملطفات إليه من أخيه تتش يحثه على اللحاق به، وقيل إنه أراد المسير إلى بلخ لأن أهلها كانوا يريدونه، فقتله، فلما غرق بقي بسر من رأى، فحمل إلى بغداد، فدفن عند قبر أبي حنيفة. وفيها، في جمادى الآخرة، كانت وقعة بين الأمير أنر وتورانشاه، ابن قاورت بك، وكانت تركان خاتون الجلالية، والدة محمود بن ملكشاه، قد أرسلته في عسكر ليأخذ بلاد فارس من تورانشاه، ولم يحسن الأمير أنر تدبير بلاد فارس، فاستوحش منه الأجناد، واجتمعوا مع تورانشاه وهزموا أنر، ومات تورانشاه، بعد الكسرة بشهر، من سهم أصابه فيها. وفيها استولى أصبهبذ بن ساوتكين على مكة، حرسها الله، عنوة، وهرب منها الأمير قاسم بن أبي هاشم العلوي صاحبها، وأقام بها إلى شوال، وجمع الأمير قاسم وكبسه بعسفان، وجرى بينهما حرب في شوال من هذه السنة، فانهزم أصبهبذ، ودخل قاسم إلى مكة، ومضى أصبهبذ إلى الشام وقدم إلى بغداد. وفيها، في رجب، أحرق شحنة بغداد، وهو أيتكين، جب باب البصرة، وسبب ذلك أن النقيب طراداً الزينبي كان له كاتب يعرف بابن سنان، فقتل، فأنفذ النقيب إلى الشحنة يستدعي منه من يقيم السياسة، فأنفذ حاجبه محمداً، فرجمه أهل باب البصرة، وأدموه، فرجع إلى صاحبه فشكا إليه منهم، فأمر أخاه بقصدهم ومعاقبتهم على فعلهم، فسار إليهم في جماعة كثيرة، وتبعهم أهل الكرخ، فأحرقوا ونهبوا، فأرسل الخليفة إلى الشحنة يأمره بالكف عنهم فكف. وفيها، في رمضان، توفيت تركان خاتون الجلالية بأصبهان، وهي ابنة طفغاج خان، وهو من نسل افراسياب التركي، وكانت قد برزت من أصبهان لتسير إلى تاج الدولة تتش لتتصل به، فمرضت وعادت وماتت، وأوصت إلى الأمير أنر وإلى الأمير سرمز شحنة أصبهان بحفظ المملكة على ابنها محمود، ولم يكن بقي بيداها سوى قصبة أصبهان، ومعها عشرة آلاف فارس أتراك. وفيها، في ذي القعدة، توفي أبو الحسين بن الموصلايا، كاتب ديوان الزمام ببغداد. ثم دخلت سنة ثمان وثمانين وأربعمائة ذكر دخول جمع من الترك إفريقية وما كان منهم
في هذه السنة غدر شاهملك التركي بيحيى بن تميم بن المعز بن باديس، وقبض عليه. وكان شاهملك هذا من أولاد بعض الأمراء الأتراك ببلاد الشرق، فناله في بلده أمر اقتضى خروجه منه، فسار إلى مصر في مائة فارس، فأكرمه الأفضل أمير الجيوش، وأعطاه إقطاعاً ومالاً، ثم بلغه عنه أسباب أوجبت إخراجه من مصر، فخرج هو وأصحابه هاربين، فاحتالوا حتى أخذوا سلاحاً وخيلاً وتوجهوا إلى المغرب، فوصلوا إلى طرابلس الغرب، وأهل البلد كارهون لواليها، فأدخلوهم البلد، وأخرجوا الوالي، وصار شاهملك أمير البلد. فسمع تميم الخبر، فأرسل العساكر إليها، فحصروها، وضيقوا على الترك ففتحوها، ووصل شاهملك معهم إلى المهدية، فسر به تميم وبمن معه، قال: ولد لي مائة ولد أنتفع بهم، وكانوا لا يخطيء لهم سهم. فلم تطل الأيام حتى جرى منهم أمر غير تميماً عليهم، فعلم شاهملك ذلك، وكان داهياً، خبيثاً، فخرج يحيى بن تميم إلى الصيد في جماعة من أعيان أصحابه نحو مائة فارس، ومعه شاهملك، وكان أبوه تميم قد تقدم إليه أن لا يقرب شاهملك، فلم يقبل. فلما أبعدوا في طلب الصيد غدر به شاهملك فقبض عليه، وسار به وبمن أخذ معه من أصحابه إلى مدينة سفاقس. وبلغ الخبر تميماً، فركب، وسير العساكر في أثرهم، فلم يدركوهم، ووصل شاهملك بيحيى بن تميم إلى سفاقس، فركب صاحبها، واسمه حمو، وكان قد خالف على تميم، ولقي يحيى، ومشى في ركابه راجلاً، وقبل يده وعظمه، واعترف له بالعبودية، فأقام عنده أياماً، ولم يذكره أبوه بكلمة، وكان قد جعله ولي عهده، فلما أخذ أقام أبوه مقامه ابناً له آخر اسمه المثنى. ثم إن صاحب سفاقس خاف يحيى على نفسه أن يثور معه الجند وأهل البلد ويملكوه عليهم، فأرسل إلى تميم كتاباً يسأله في إنفاذ الأتراك وأولادهم إليه ليرسل ابنه يحيى، ففعل ذلك بعد امتناع، وقدم يحيى، فحجبه أبوه عنه مدة، ثم أعاده إلى حاله، ورضي عنه، ثم جهز تميم عسكراً إلى سفاقس، ويحيى معهم، فساروا إليها وحصروها براً وبحراً، وضيقوا على الأتراك بها، وأقاموا عليها شهرين، واستولوا عليها، وفارقها الأتراك إلى قابس. وكان تميم لما رضي عن ابنه يحيى عظم ذلك على ابنه الآخر المثنى، وداخله الحسد، فلم يملك نفسه، فنقل عنه إلى أبيه ما غير قلبه عليه، فأمر بإخراجه من المهدية بأهله وأصحابه، فركب البحر ومضى إلى سفاقس، فلم يمكنه عامله من الدخول إليها، وقصد مدينة قابس، وبها أمير يقال له مكين بن كامل الدهسماني، فأنزله وأكرمه، فحسن له المثنى الخروج معه إلى سفاقس والمهدية، وأطمعه فيهما، وضمن الإنفاق على الجند من ماله، فجمع مكين من يمكنه جمعه، وسار إلى سفاقس، ومعهما شاهملك التركي وأصحابه، فنزلوا على سفاقس وقاتلوها. وسمع تميم، فجرد إليها جنداً، فلما علم المثنى ومن معه أنهم لا طاقة لهم بها ساروا عنها إلى المهدية، فنزلوا عليها وقاتلوها، وكان الذي يتولى القتال في المهدية يحيى بن تميم، وظهرت منه شهامة، وشجاعة، وحزم، وحسن تدبير، فلم يبلغ أولئك منها غرضاً، فعادوا خائبين، وقد تلف ما كان مع المثنى من مال وغيره، وعظم أمر يحيى، وصار وهو المشار إليه. ذكر قتل أحمد خان صاحب سمرقندفي هذه السنة، في المحرم، قتل أحمد خان، صاحب سمرقند، وكان قد كرهه عسكره واتهموه بفساد الاعتقاد، وقالوا: هو زنديق. وكان سبب ذلك أن السلطان ملكشاه، لما فتح سمرقند وأسر أحمد خان هذا، قد وكل به جماعة من الديلم، فحسنوا له معتقدهم، وأخرجوه إلى الإباحة، فلما عاد إلى سمرقند كان يظهر منه أشياء تدل على انحلاله من الدين، فلما كرهه أصحابه، وعزموا على قتله، قالوا لمستحفظ قلعة كاسان، وهو طغرل ينال بك، ليظهر العصيان ليسير أحمد خان معهم من سمرقند إلى قتاله، فيتمكنوا من قتله، فعصى طغرل ينال بك، فسار أحمد خان والعسكر إلى قتاله، فلما نازل القلعة تمكن العسكر منه، وقبضوا عليه، وعادوا إلى سمرقند، وأحضروا القضاة والفقهاء، وأقاموا خصوصاً ادعوا عليه الزندقة، فجحد، فشهد عليه جماعة بذلك، فأفتى الفقهاء بقتله، فخنقوه، وأجلسوا ابن عمه مسعوداً مكانه وأطاعوه. ذكر ما فعله يوسف بن آبق ببغداد
في هذه السنة، في صفر، سير الملك تتش يوسف بن آبق التركماني شحنة لبغداد، ومعه جمع من التركمان، فمنع من دخول بغداد، وورد إليه صدقة بن مزيد صاحب الحلة وكان يكره تتش، ولم يخطب له في بلاده، فلما سمع ابن آبق بوصوله عاد إلى طريق خراسان ونهب باجسرا، وقاتله العسكر ببعقوبا، فهزمهم ونهبهم أفحش نهب وأكثر معه من التركمان وعاد إلى بغداد. وكان صدقة قد رجع إلى الحلة، فدخل يوسف بن آبق إلى بغداد، وأراد نهبها والإيقاع بأهلها، فمنعه أمير كان معه من ذلك، ثم وصل إليه الخبر بقتل تتش، فرحل عن بغداد إلى الموصل، وسار من هناك إلى حلب. ذكر الحرب بين بركيارق وتتش وقتل تتشفي هذه السنة، في صفر، قتل تتش بن ألب أرسلان. وكان سبب ذلك أنه لما هزم السلطان بركيارق، كما ذكرناه، سار من موضع الوقعة إلى همذان، وقد تحصن بها أمير آخر، فرحل تتش عنها، فتبعه أمير آخر لأجل أثقاله، فعاد عليه تتش فكسره، فعاد إلى همذان، واستأمن إليه، وصار معه. وبلغ تتش مرض بركيارق، فسار إلى أصبهان، فاستأذنه أمير آخر في قصد جرباذقان لإقامة الضيافة وما يحتاج إليه، فأذن له، فسار إليها، ومنها إلى أصبهان، وعرفهم خبر تتش. وعلم تتش خبره، فنهب جرباذقان، وسار إلى الري، وراسل الأمراء الذين بأصبهان يدعوهم إلى طاعته، ويبذل لهم البذول الكثيرة، وكان بركيارق مريضاً بالجدري، فأجابوه يعدونه بالانحياز إليه، وهم ينتظرون ما يكون من بركيارق. فلما عوفي أرسلوا إلى تتش: ليس بيننا غير السيف، وساروا مع بركيارق من أصبهان، وهم في نفر يسير، فلما بلغوا جرباذقان أقبلت إليهم العساكر من كل مكان، حتى صاروا في ثلاثين ألفاً، فالتقوا بموضع قريب من الري، فانهزم عسكر تتش وثبت هو، فقتل، قيل قتله بعض أصحاب آقسنقر، صاحب حلب، أخذاً بثأر صاحبه. وكان قد قبض على فخر الملك بن نظام الملك، وهو معه، فأطلق، واستقام الأمر والسلطنة لبركيارق، وإذا أراد الله أمراً هيأ أسبابه، بالأمس ينهزم من عمه تتش، ويصل إلى أصبهان في نفر يسير، فلا يتبعه أحد، ولو تبعه عشرون فارساً لأخذوه لأنه بقي على باب أصبهان عدة أيام، ثم لما دخلها أراد الأمراء كحله، فاتفق أن أخاه حم ثاني يوم وصوله، وجدر، فمات، فقام في الملك مقامه، ثم جدر هو وأصابه مع سرسام، فعوفي، وبقي مذ كسره عمه إلى أن عوفي وسار عن أصبهان أربعة أشهر لم يتحرك عمه، ولا عمل شيئاً، ولو قصده وهو مريض أو وقت مرض أخيه لملك البلاد: ولله سر في علاك، وإنما ... كلام العدى ضربٌ من الهذيان ذكر حال الملك رضوان وأخيه دقاق بعد قتل أبيهمااكن تاج الدولة تتش قد أوصى أصحابه بطاعة ابن الملك رضوان، وكتب إليه من بلد الجبل، قبل المصاف الذي قتل فيه، يأمره أن يسير إلى العراق، ويقيم بدار المملكة، فسار في عدد كثير منهم: إيلغازي بن أرتق، وكان قد سار إلى تتش، فتركه عند ابنه رضوان، ومنهم: الأمير وثاب بن محمود بن صالح بن مرداس، وغيرهما، فلما قارب هيت بلغه قتل أبيه، فعاد إلى حلب، ومعه والدته، فملكها، وكان بها أبو القاسم الحسن بن علي الخوارزمي، قد سلمها إليه تتش وحكمه في البلد والقلعة. ولحق رضوان زوج أمه جناح الدولة الحسين بن أيتكين، وكان مع تتش، فسلم من المعركة، وكان مع رضوان أيضاً أخواه الصغيران: أبو طالب وبهرام، وكانوا كلهم مع أبي القاسم كالأضياف لتحكمه في البلد، واستمال جناح الدولة المغاربة، وكانوا أكثر جند القلعة، فلما انتصف الليل نادوا بشعار الملك رضوان، واحتاطوا على أبي القاسم، وأرسل إليه رضوان يطيب قلبه، فاعتذر، فبل عذره، وخطب لرضوان على منابر حلب وأعمالها، ولم يكن يخطب له بل كانت الخطبة لأبيه، بعد قتله، نحو شهرين. وسار جناح الدولة في تدبير المملكة سيرة حسنة، وخالف عليهم الأمير باغي بن سيان بن محمد بن ألب التركماني، صاحب أنطاكية، ثم صالحهم، وأشار على الملك رضوان بقصد ديار بكر، لخلوها من وال يحفظها، فساروا جميعاً، وقدم عليهم أمراء الأطراف الذين كان تتش رتبهم فيها، وقصدوا سروج فسبقهم إليها الأمير سقمان بن أرتق جد أصحاب الحصن اليوم، وأخذها، ومنعهم عنها، وأمر أهل البلد فخرجوا إلى رضوان وتظلموا إليه من عساكره وما يفسدون من غلاتهم، ويسألونه الرحيل، فرحل عنهم إلى الرها.
وكان بها رجل من الروم يقال له الفارقليط، وكان يضمن البلد من بوزان، فقاتل المسلمين بمن معه، واحتمى بالقلعة، وشاهدوا من شجاعته ما لم يكونوا يظنونه، ثم ملكها رضوان، وطلب باغي سيان القلعة من رضوان، فوهبها له، فتسلمها وحصنها، ورتب رجالها، وأرسل إليهم أهل حران يطلبونهم ليسلموا إليهم حران، فسمع ذلك قراجة أميرها، فاتهم ابن المفتي، وكان ابن المفتي هذا قد اعتمد عليه تتش في حفظ البلد، فأخذه، وأخذ معه بني أخيه، فصلبهم. ووصل الخبر إلى رضوان، وقد اختلف جناح الدولة وباغي سيان، وأضمر كل واحد منهما الغدر بصاحبه، فهرب جناح الدولة إلى حلب، فدخلها، واجتمع بزوجته أم الملك رضوان، وسار رضوان وباغي سيان، فعبرا الفرات إلى حلب، فسمعا بدخول جناح الدولة إليها، ففارق باغي سيان الملك رضوان، وسار إلى أنطاكية، ومعه أبو القاسم الخوارزمي، وسار رضوان إلى حلب. وأما دقاق بن تتش فإنه كان سيره أبوه إلى عمه السلطان ملكشاه ببغداد، وخطب له ابنة السلطان، وسار بعد وفاة السلطان مع خاتون الجلالية وابنها محمود إلى أصبهان، وخرج إلى السلطان بركيارق سراً، وصار معه، ثم لحق بأبيه، وحضر معه الوقعة التي قتل فيها. فلما قتل أبوه أخذه غلام لأبيه اسمه أيتكين الحلبي، وسار به إلى حلب، وأقام عند أخيه الملك رضوان، فراسله الأمير ساوتكين الخادم الوالي بقلعة دمشق سراً، يدعوه ليملكه دمشق، فهرب من حلب سراً، وجد في السير، فأرسل أخوه رضوان عدة من الخيالة، فلم يدركوه، فلما وصل إلى دمشق فرح به الخادم، وأظهر الاستبشار، ولقيه، فلما دخلها أرسل إليه باغي سيان يشير عليه بالتفرد بملك دمشق عن أخيه رضوان. واتفق وصول معتمد الدولة طغدكين إلى دمشق، ومعه جماعة من خواص تتش وعسكره، وقد سلموا، فإنه كان قد شهد الحرب مع صاحبه، وأسر، فبقي إلى الآن، وخلص من الأسر، فلما وصل إلى دمشق لقيه الملك دقاق وأرباب دولته، وبالغوا في إكرامه، وكان زوج والدة دقاق فمال إليه لذلك، وحكمه في بلاده، وعملوا على قتل الخادم ساوتكين، فقتلوه، وسار إليهم باغي سيان من أنطاكية، ومعه أبو القاسم الخوارزمي، فجعله وزيراً لدقاق، وحكمه في دولته. ذكر وفاة المعتمد بن عبادفي هذه السنة توفي المعتمد بن عباد، الذي كان صاحب الأندلس، مسجوناً بأغمات، من بلد المغرب، وقد ذكرنا كيف أخذت بلاده منه سنة أربع وثمانين وأربعمائة، فبقي مسجوناً إلى الآن، وتوفي، وكان من محاسن الدنيا كرماً، وعلماً، وشجاعة، ورئاسة تامة، وأخباره مشهورة، وآثاره مدونة. وله أشعار حسنة، فمنها ما قاله لما أخذ ملكه وحبس: سلت علي يد الخطوب سيوفها ... فجذذن من جسدي الحصيف الأمتنا ضربت بها أيدي الخطوب، وإنما ... ضربت رقاب الآملين بها المنى يا آملي العادات من نفحاتنا، ... كفوا، فإن الدهر كف أكفنا وله قصيدة يصف القيد في رجله: تعطف في ساقي تعطف أرقم، ... يساورها عضاً بأنياب ضيغم وإني من كان الرجال بسيبه، ... ومن سيفه في جنة وجهنم وقال في يوم عيد: فيما مضى كنت بالأعياد مسرورا، ... فساءك العيد في أغمات، مأسورا قد كان دهرك إن تأمره ممتثلاً، ... فردك الدهر منهياً، ومأمورا من بات بعدك في ملك يسر به، ... فإنما بات بالأحلام مسرورا وكان شاعره أبو بكر بن اللبانة يأتيه وهو مسجون، فيمدحه لا لجدوى ينالها منه، بل رعاية لحقه وإحسانه القديم إليه. فلما توفي أتاه، فوقف على قبره، يوم عيد، والناس عند قبور أهليهم، وأنشد بصوت عال: ملك الملوك أسامع فأنادي، ... أم قد عداك عن الجواب عوادي لما خلت منك القصور، ولم تكن ... فيها، كما قد كنت في الأعياد فمثلت في هذا الثرى لك خاضعاً ... وتخذت قبرك موضع الإنشاد وأخذ في إتمام القصيدة، فاجتمع الناس كلهم عليه يبكون. ولو أخذنا في تفصيل مناقبه ومحاسنه لطال الأمر، فلنقف عند هذا. ذكر وفاة الوزير أبي شجاع
في هذه السنة توفي الوزير أبو شجاع محمد بن الحسين بن عبد الله، وزير الخليفة، في جمادى الآخرة، وأصله من روذراور، وولد بالأهواز، وقرأ الفقه على الشيخ أبي إسحاق الشيرازي، وكان عالماً بالعربية، وله تصانيف منها: ذيل تجارب الأمم، وكان عفيفاً، عادلاً، حسن السيرة، كثير الخير والمعروف، وكان موته بمدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مجاوراً فيها. ولما حضره الموت أمر فحمل إلى مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، فوقف بالحضرة وبكى، وقال: يا رسول الله! قال الله عز وجل: " ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله تواباً رحيماً " ، وقد جئت معترفاً بذنوبي وجرائمي أرجو شفاعتك. وبكى فأكثر، وتوفي من يومه، ودفن عند قبر إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم. ذكر الفتنة بنيسابورفي هذه السنة، في ذي الحجة، جمع أمير كبير من أمراء خراسان جمعاً كثيراً، وسار بهم إلى نيسابور، فحصرها، فاجتمع أهلها وقاتلوه أشد قتال، ولازم حصارهم نحو أربعين يوماً، فلما لم يجد له مطمعاً فيها سار عنها في المحرم سنة تسع وثمانين، فلما فارقها وقعت الفتنة بها بين الكرامية وسائر الطوائف من أهلها، فقتل بينهم قتلى كثيرة. وكان مقدم الشافعية أبا القاسم ابن إمام الحرمين أبي المعالي الجويني، ومقدم الحنفية القاضي محمد بن أحمد بن صاعد، وهما متفقان على الكرامية، ومقدم الكرامية محمشاد، فكان الظفر للشافعية والحنفية على الكرامية، فخربت مدارسهم، وقتل كثير منهم ومن غيرهم، وكانت فتنة عظيمة. ذكر عدة حوادثفي هذه السنة، في ربيع الآخر، شرع الخليفة في عمل سور على الحريم، وأذن الوزير عميد الدولة بن جهير للعامة في التفرج والعمل، فزينوا البلد، وعملوا القباب، وجدوا في عمارته. وفيها، في رمضان، جرح السلطان بركيارق، جرحه إنسان ستري له، من أهل سجستان، في عضده، ثم أخذ الرجل، وأعانه رجلان أيضاً من أهل سجستان، فلما ضرب الرجل الجارح اعترف أن هذين الرجلين وضعاه، واعترفا بذلك، فضربا الضرب الشديد، ليقرا على من أمرهما بذلك، فلم يقرا، فقربا إلى الفيل ليجعلا تحت قوائمه، وقدم أحدهما، فقال: اتركوني أنا أعرفكم، فتركوه، فقال لصاحبه: يا أخي لا بد من هذه القتلة، فلا تفضح أهل سجستان بإفشاء الأسرار، فقتلا. وفيها توجه الإمام أبو حامد الغزالي إلى الشام، وزار القدس، وترك التدريس في النظامية، واستناب أخاه، وتزهد، ولبس الخشن، وأكل الدون، وفي هذه السفرة صنف إحياء علوم الدين، وسمعه منه الخلق الكثير بدمشق، وعاد إلى بغداد بعدما حج في السنة التالية، وسار إلى خراسان. وفيها، في ربيع الأول، خطب لولي العهد أبي الفضل منصور بن المستظهر بالله. وفيها عزل بركيارق وزيره مؤيد الملك بن نظام الملك، واستوزره أخاه فخر الملك، وسبب ذلك أن بركيارق لما هزم عمه تتش، وقتله، أرسل خادماً ليحضر والدته زبيدة خاتون من أصبهان، فاتفق مؤيد الملك مع جماعة من الأمراء، وأشاروا عليه بتركها، فقال: لا أريد الملك إلا لها، وبوجودها عندي، فلما وصلت إليه وعلمت الحال تنكرت على مؤيد الملك، وكان مجد الملك أبو الفضل البلاساني قد صحبها في طريقها، وعلم أنه لا يتم له أمر مع مؤيد الملك، وكان بين مؤيد الملك وأخيه فخر الملك تباعد بسبب جواهر خلفها أبوهم نظام الملك، فلما علم فخر الملك تنكر أم السلطان على أخيه مؤيد الملك أرسل وبذل أموالاً جزيلة في الوزارة، فأجيب إلى ذلك، وعزل أخوه وولي هو. وفي هذه السنة، في جمادى الأولى، توفي أبو محمد رزق الله بن عبد الوهاب التميمي، الفقيه الحنبلي، وكان عارفاً بعدة علوم، وكان قريباً من السلاطين. وفيها، في رجب، توفي أبو الفضل أحمد بن الحسن بن خيرون المعروف بابن الباقلاني، وهو مشهور، ومولده سنة ست وأربعمائة.
وفيها، في شعبان، توفي قاضي القضاة أبو بكر محمد بن المظفر الشامي، وكان من أصحاب أبي الطيب الطبري، ولم يأخذ على القضاء أجراً، وأقر الحق مقره، ولم يحاب أحداً من خلق الله، ادعى عنده بعض الأتراك على رجل شيئاً، فقال: ألك بينة؟ قال: نعم! فلان، والمشطب الفقيه الفرغاني، فقال: لا أقبل شهادة المشطب لأنه يلبس الحرير، فقال التركي: فالسلطان ونظام الملك يلبسان الحرير، فقال: لو شهدا عندي على باقة بقل لم أقبل شهادتهما، وولي القضاء بعده أبو الحسن علي ابن قاضي القضاة أبي عبد الله محمد الدامغاني. وفيها مات القاضي أبو يوسف عبد السلام بن محمد القزويني، ومولده سنة إحدى عشرة وأربعمائة، وكان مغالياً في الاعتزال، وقيل كان زيدي المذهب. وفيها توفي القاضي أبو بكر بن الرطبي، قاضي دجيل، وكان شافعي المذهب، وولي بعده أخوه أبو العباس أحمد بن الحسن بن أحمد أبو الفضل الحداد الأصبهاني، صاحب أبي نعيم الحافظ، روى عنه حلية الأولياء، وهو أكبر من أخيه أبي المعالي، وأبو عبد الله محمد بن أبي نصر فتوح بن عبد الله بن حميد الحميدي الأندلسي، ولد قبل العشرين وأربعمائة، وسمع الحديث ببلده، ومصر، والحجاز، والعراق، وهو مصنف الجمع بين الصحيحين، وكان ثقة فاضلاً، وتوفي في ذي الحجة، ووقف كتبه فانتفع بها الناس. ثم دخلت سنة تسع وثمانين وأربعمائة | |
|
| |
| كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير | |
|