| كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير | |
|
|
|
كاتب الموضوع | رسالة |
---|
الشيخ عودة الشيخ عودة

عدد المساهمات : 1748 تاريخ التسجيل : 28/09/2008 العمر : 72
 | موضوع: رد: كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير الجمعة فبراير 07, 2014 9:04 am | |
| واستعمل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، على من بمكة عتاب بن أسيد. قال جابر: فلما استقبلنا وادي حنين انحدرنا في وادٍ أجوف حطوط، إنما ننحدر فيه انحداراً في عماية الصبح وكان القوم قد سبقونا إلى الوادي فكمنوا لنا في شعابه ومضايقه، قد تهيأوا وأعدوا، فوالله ما راعنا ونحن منحطون إلا الكتائب قد شدت علينا شدة رجل واحد، فانهزم الناس أجمعون لا يلوي أحد على أحد، وانحاز رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ذات اليمين ثم قال: أيها الناس هلموا إلي أنا رسول الله، أنا محمد بن عبد الله، قاله ثلاثاً، ثم احتملت الإبل بعضها فعضاً، إلا أنه قد بقي مع النبي، صلى الله عليه وسلم، نفر من المهاجرين والأنصار وأهل بيته، منهم: أبو بكر وعمر وعلي والعباس وابنه الفضل وأبو سفيان بن الحارث وربيعة بن الحارث وأيمن ابن أم أيمن وأسامة بن زيد. قال: وكان رجل من هوازن على جلم أحمر بيده راية سوداء أمام الناس، فإذا أدرك رجلاً طعنه ثم رفع رايته لمن وراءه فاتبعوه، فحمل عليه علي فقتله. ولما انهزم الناس تكلم رجال من أهل مكة بما في أنفسهم من الضغن، فقال أبو سفيان بن حرب: لا تنتهي هزيمتهم دون البحر، والأزلام معه. وقال كلدة بن النبل، وهو أخو صفوان بن أمية لأمه، وكان صفوان بن أمية يومئذ مشركاً: الآن بطل السحر. فقال له صفوان: اسكت فض الله فاك، فوالله لأن يربني رجل من قريش أحب إلي من أن يربني رجل من هوازن ! وقال شيبة بن عثمان: اليوم أدرك ثأري من محمد، وكان أبوه قتل بأحد، قال: فأدرت به لأقتله، فأقبل شيء حتى تغشى فؤادي فلم أطق ذلك. وكان العباس مع النبي، صلى الله عليه وسلم، آخذاً بحكمة بغلته دلدل وهو عليها، وكان العباس جسيماً شديد الصوت، فقال له رسول الله، صلى الله عليه وسلم: يا عباس اصرخ يا معشر الأنصار، يا أصحاب السمرة ! ففعل، فأجابوه: لبيك لبيك ! فكان الرجل يريد أن يثني بعيره فلا يقدر، فيأخذ سلاحه ثم ينزل عنه ويؤم الصوت، فاجتمع على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، مائة رجل فاستقبل بهم القوم وقاتلهم، فلما رأى النبي، صلى الله عليه وسلم، شدة القتال قال: أنا النبيّ لا كذب ... أنا ابن عبد المطّلب الآن حمي الوطيس؛ وهو أول من قالها. واقتتل الناس قتالاً شديداً، وقال النبي، صلى الله عليه وسلم، لبغلته دلدل: البدي دلدل، فوضعت بطنها على الأرض، فأخذ حفنة من تراب فرمى به في وجوههم، فكانت الهزيمة، فما رجع الناس إلا والأسارى في الحبال عند رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وقيل: بل أقبل شيء أسود من السماء مثل البجاد حتى سقط بين القوم، فإذا نمل أسود مبثوث، فكانت الهزيمة. ولما انهزمت هوازن قتل من ثقيف وبني مالك سبعون رجلاً، فأما الأحلاف من ثقيف فلم يقتل منهم غير رجلين لأنهم انهزموا سريعاً. وقصد بعض المشركين الطائف ومعهم مالك بن عوف، واتبعت خيل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، المشركين فقتلتهم، فأدرك ربيعة بن رفيع السلمي دريد ابن الصمة ولم يعرفه لأنه كان في شجار لكبره، وأناخ بعيره فإذا هو شيخ كبير، فقال له دريد: ماذا تريد ؟ قال: أقتلك. قال: ومن أنت ؟ فانتسب له، ثم ضربه بسيفه فلم يغن شيئاً. فقال دريد: بئس ما سلحتك أمك، خذ سيفي فاضرب به، ثم ارفع عن العظام واخفض عن الدماغ فإني كذلك كنت أقتل الرجال، وإذا أتيت أمك فأخبرها أنك قتلت دريد بن الصمة، فرب يوم قد منعت فيه نساءك. فقتله. فلما أخبر أمه قالت: والله لقد أعتق أمهات لك ثلاثاً. وساتلب أبو طلحة الأنصاري يوم حنين عشرين رجلاً وحده، وقتلهم. فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (مَنْ قتل قتيلاً فله سلبه). وقتل أبو قتادة الأنصاري قتيلاً وأجهضه القتال عن أخذ سلبه فأخذه غيره، فلما قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ذلك قام أبو قتادة فقال: قتلت قتيلاً وأخذ غيري سلبه. فقال الذي أخذ السلب: هو عندي فارضه مني يا رسول الله. فقال أبو بكر: لا والله لا تعمد إلى أسد من أسد الله يقاتل عن الله تقاسمه، فرد عليه السلب. وكان لبعض ثقيف غلامٌ نصراني، فقتل، فبينما رجل من الأنصار يستلب قتلي ثقيف إذ كشف العبد فرآه أغزل، فصرخ بأعلى صوته: يا معشر العرب إن ثقيفاً لا تختتن. فقال له المغيرة بن شعبة: لا تقل هذا، إنما هو غلامٌ نصراني، وأراه قتلى ثقيف مختتنين.
ومر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في الطريق بامرأة مقتولة، فقال: من قتلها ؟ قالوا: خالد بن الوليد. فقال لبعض من معه: أدرك خالداً فقل له إن رسول الله ينهاك أن تقتل امرأة أو وليداً أو عسيفاً. والعسيف الأجير. وكان بعض المشركين بأوطاس فأرسل إليهم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أبا عامر الأشعري، عم أبي موسى، فرمي أبو عامر بسهم، قيل رماه سلمة بن دريد بن الصمة، وقتل أبو موسى سلمة هذا بعمه أبي عامر، وانهزم المشركون بأوطاس، وظفر المسلمون بالغنائم والسبايا، فساقوا في السبي الشيماء ابنة الحارث بن عبد العزى، فقالت لهم: إني والله أخت صاحبكم من الرضاعة، فلم يصدقوها حتى أتوا بها النبي، صلى الله عليه وسلم. فقالت له: إني أختك. قال: وما علامة ذلك ؟ قالت: عضة عضضتنيها في ظهري وأنا متوركتك. فعرفها وبسط لها رداءه وأجلسها عليه خيرها فقال: إن أحببت فعندي مكرمة محببة، وإن أحببت أن أمتعك وترجعي إلى قومك. قالت: بل تمتعني وتردني إلى قومي، ففعل. وأمر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بالسبايا والأموال، فجمعت إلى الجعرانة، وجعل عليها بديل بن ورقاء الخزاعي. واستشهد من المسلمين بحنين أيمن بن أم أيمن، ويزيد بن زمعة بن الأسود بن المطلب بن عبد العزى وغيرهما. ؟ ذكر حصار الطائف لما قدم المنهزمون من ثقيف ومن انضم إليهم من غيرهم إلى الطائف أغلقوا عليهم مدينتهم واستحصروا وجمعوا ما يحتاجون إليه. فسار إليهم النبي، صلى الله عليه وسلم، فلما كان ببحرة الرغاء قبل وصوله إلى الطائف قتل بها رجلاً من بني ليث قصاصاً، كان قد قتل رجلاً من هذيل فأمر بقتله، وهو أول دم أقيد به في الإسلام، وسار إلى ثقيف فحصرهم بالطائف نيفاً وعشرين يوماً ونصب عليهم منجنيقاً أشار به سلمان الفارسي، وقاتلهم قتالاً شديداً، حتى إذا كان يوم الشدخة عند جدار الطائف، فأرسلت عليهم ثقيف سكك الحديد المحماة، فخرجوا من تحتها، فرماهم من بالطائف بالنبل فقتلوا رجالاً. فأمر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بقطع أعناب ثقيف، فقطعت، ونزل إلى رسول الله نفر من رقيق أهل الطائف فأعتقهم، منهم أبو بكرة نفيع بن مسروح وكان للحارث بن كلدة، وإنما قيل له أبو بكرة ببكرة نزل فيها، وغيره. فلما أسلم أهل الطائف تكلمت سادات أولئك العبيد في أن يردهم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إلى الرق فقال: لا أفعل، أولئك عتقاء الله. ثم إن خويلة بنت حكيم السلمية، وهي امرأة عثمان بن مظعون، قالت: يا رسول الله أعطني إن فتح الله عليك الطائف حلي بادية بنت غيلان أو حلي الفارغة بنت عقيل، وكانتا من أكثر النساء حلياً. فقال لها رسول الله، صلى الله عليه وسلم: أرأيت إن كان لم يؤذن لي في ثقيف يا خويلة ؟ فخرجت فذكرت ذلك لعمر بن الخطاب. فدخل عليه عمر وقال: يا رسول الله ما حديث حدثتنيه خويلة أنك قد قلته ؟ قال: قد قلته. قال: أفلا أؤذن بالرحيل يا رسول الله ؟ قال: بلى. فأذن بالرحيل. وقيل: إن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، استشار نوفل بن معاوية الدثلي في المقام عليهم. فقال: يا رسول الله ثعلبٌ في جحر إن أقمت عليه أخذته إن تركته لم يضرك، فأذن بالرحيل. فلما رجع الناس قال رجل: يا رسول الله ادع على ثقيف. قال: اللهم اهد ثقيفاً وأت بهم. فلما رأت ثقيفٌ الناس قد رحلوا عنهم نادى سعيد بن عبيد الثقفي: ألا إن الحي مقيم. فقال عيينة بن حصن: أجل والله مجدةً كراماً. فقال رجل من المسلمين: قاتلك الله يا عيينة أتمدحهم بالامتناع من رسول الله، صلى الله عليه وسلم ؟ قال: إني والله ما جئت لأقاتل معكم ثقيفاً، ولكني أردت أن أصيب من ثقيف جارية لعلها تلد لي رجلاً، فإن ثقيفاً قوم مناكير. واستشهد بالطائف اثنا عشر رجلاً، منهم عبد الله بن أبي أمية المخزومي، وأمه عاتكة بنت عبد المطلب، وعبد الله بن أبي بكر الصديق، رمي بسهم فمات منه بالمدينة بعد وفاة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، والسائب بن الحارث بن عدي، وغيرهم.
وهذه بادية بنت غيلان قال فيها هيت المخنث لعبد الله بن أبي أمية: إن فتح الله عيكم الطائف فسل رسول الله أن ينفلك بادية بنت غيلان فإنها هيفاء شموعٌ نجلاء، إن تكلمت تغنت، وإن قامت تثنت، وإن مشت ارتجت، وإن قعدت تبنت، تقبل بأربع وتدبر بثمان، بثغر كالأقحوان، بين رجليها كالقعب المكفأ. فقال النبي، صلى الله عليه وسلم: لقد علمت الصفة، ومنعه من الدخول إلى نسائه. ذكر قسمة غنائم حنينلما رحل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، من الطائف سار حتى نزل الجعرانة، وأتته وفود هوازن بالجعرانة وقد أسلموا، فقالوا: يا رسول الله إنا أصلٌ وعشيرة، وقد أصابنا ما لم يخف عليك، فامنن علينا من الله عليك. وقام زهير بن صرد من بني سعد بن بكر، وهم الذين أرضعوا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إنما في الحظائر عماتك وخالاتك وحواضنك، ولو أنا أرضعنا الحارث بنأبي شمر الغساني أو النعمان بن المنذر لرجونا عطفه، وأنت خير المكفولين ! ثم قال: امنن علينا رسول الله في كرمٍ ... فإنّك المرء نرجوه وندّخر امنن على نسوةٍ قد عاقها قدرٌ ... ممزّقٌ شملها في دهرها غير في أبيات. فخيرهم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بين أبنائهم ونسائهم وبين أموالهم، فاختاروا أبناءهم ونساءهم، فقال: أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم، فإذا أنا صليت بالناس فقولوا: إنا نستشفع برسول الله إلى المسلمين وبالمسلمين إلى رسول الله في أبنائنا ونسائنا، فسأعطيكم وأسأل فيكم. فلما صلى الظهر فعلوا ما أمرهم به، فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم. وقال المهاجرون والأنصار: ما كان لنا فهو لرسول الله. وقال الأقرع بن حابس: ما كان لي ولبني تميم فلا. وقال عيينة بن حصن: ما كان لي ولفزارة فلا. وقال عباس بن مرداس: ما كان لي ولسليم فلا. فقالت بنو سليم: ما كان لنا فهو لرسول الله. فقال: وهنتموني. فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: من تمسك بحقه من السبي فله بكل إنسان ست فرائض من أول شيء نصيبه، فردوا على الناس أبناءهم ونساءهم. وسأل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عن مالك بن عوف، فقيل: إنه بالطائف. فقال: أخبروه إن أتاني مسلماً رددت عليه أهله وماله وأعطيته مائة بعير. فأخبر مالك بذلك، فخرج من الطائف سراً ولحق برسول الله، صلى الله عليه وسلم، فأسلم وحسن إسلامه، واستعمله رسول الله، صلى الله عليه وسلم، على قومه وعلى من أسلم من تلك القبائل التي حول الطائف، فأعطاه أهله وماله ومائة بعير. وكان يقاتل بمن أسلم معه من ثمالة وفهم وسلمة ثقيفاً، لا يخرج لهم سرح إلا أغار عليه، حتى ضيق عليهم. ولما فرغ رسول الله، صلى الله عليه وسلم، من رد سبايا هوازن ركب واتبعه الناس يقولون: يا رسول الله اقسم علينا فيئنا، حتى ألجؤه إلى شجرة، فاختطف رداؤه، فقال: ردوا علي ردائي أيها الناس، فوالله لو كان لي عدد شجر تهامة نعمٌ لقسمتها عليكم ثم لا تجدوني بخيلاً ولا جباناً ولا كذاباً. ثم رفع وبرة من سنام بعير وقال: ليس لي من فيئكم ولا هذه الوبرة إلا الخمس وهو مردود عليكم. ثم أعطى المؤلفة قلوبهم، وكانوا من أشراف الناس، يتألفهم على الإسلام، فأعطى أبا سفيان وابنه معاوية، وحكيم بن حزام، والعلاء بن جارية الثقفي، والحارث بن هشام، وصفوان بن أمية، وسهيل بن عمرو، وحويطب بن عبد العزى، وعيينة بن حصن، والأقرع بن حابس، ومالك بن عوف النصري، كل واحد منهم مائة بعير، وأعطى دون المائة رجالاً، منهم: مخرمة بن نوفل الزهري، وعمير بن وهب، وهشام بن عمرو، وسعيد بن يربوع، وأعطى العباس بن مرداس أباعر، فسخطها وقال: كانت نهاباً تلافيتها ... بكرّي على المهر في الأجرع وإيقاظي القوم أن يرقدوا ... إذا هجع النّاس لم أهجع فأصبح نهبي ونهب العبي ... د بين عيينة والأقرع وقد كنت في الحرب ذا تدرإٍ ... فلم أعط شيئاً ولم أمنع إلاّ أفائل أعطيتها ... عديد قوائمها الأربع وما كان حصنٌ ولا حابسٌ ... يفوقان مرداس في المجمع وما كنت دون امرءٍ منهما ... ومن تضع اليوم لا يرفع
فأعطاه حتى رضي. وقال رجل من الصحابة: يا رسول الله أعطيت عيينة والأقرع وتركت جعيل بن سراقة. فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: ومن يعدل إذا لم أعدل ؟ فقال عمر بن الخطاب: ألا نقتله ؟ فقال: دعوه، ستكون له شيعة يتعمقون في الدين حتى يخرجوا منه كما يخرج السهم من الرمية ينظر في النصل فلا يوجد شيء، ثم في القدح فلا يوجد شيء ثم في الفوق فلا يوجد شيء سبق الفرث الدم وقيل: إن هذا القول إنما كان في مال بعث به علي من اليمن إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقسمه بين جماعة، منهم: عيينة والأقرع وزيد الخيل. قال أبو سعيد الخدري: لما أعطى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ما أعطى من تلك الغنائم في قريش وقبائل العرب ولم يعط الأنصار شيئاً وجدوا في أنفسهم حتى قال قائلهم: لقي رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قومه. فأخبر سعد بن عبادة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بذلك، فقال له: فأين أنت يا سعد ؟ قال: أنا من قومي. قال: فاجمع قومك لي، فجمعهم. فأتاهم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقال: ما حديث بلغني عنكم ؟ ألم آتكم ضلالاً فهداكم الله بي ؟ وفقراء فأغناكم الله بي ؟ وأعداء فألف الله بين قلوبكم بي ؟ قالوا: بلى والله يا رسول الله، ولله ورسوله المن والفضل. فقال: ألا تجيبوني ؟ قالوا: بماذا نجيبك ؟ فقال: والله لو شئتم لقلتم فصدقتم: أتيتنا مكذباً فصدقناك، ومخذولاً فنصرناك، وطريداً فآويناك، وعائلاً فواسيناك، أوجدتم يا معشر الأنصار في أنفسكم في لعاعة من الدنيا تألفت بها قوماً ليسلموا ووكلتكم إلى إسلامكم، أفلا ترضون أن يذهب الناس بالشاة والبعير وترجعوا برسول الله إلى رحالكم ؟ والذي نفسي بيده لولا الهجرة لكنت أمرأً من الأنصار، ولو سلك الناس شعباً وسلكت الأنصار شعباً لسلكت شعب الأنصار، اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار. قال: فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم وقالوا: رضينا برسول الله قسماً وحظاً. وتفرقوا. ثم اعتمر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، من الجعرانة وعاد إلى المدينة، واستخلف على مكة عتاب بن أسيد، وترك معه معاذ بن جبل يفقه الناس، وحج عتاب بن أسيد بالناس، وحج الناس تلك السنة على ما كانت العرب تحج وعاد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إلى المدينة في ذي القعدة أو ذي الحجة. وفيها بعث رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عمرو بن العاص إلى جيفر وعياذ ابني الجلندى من الأزد بعمان مصدقاً، فأخذ الصدقة من أغنيائهم وردها على فقرائهم، وأخذ الجزية من المجوس، وهم كانوا أهل البلد، وكان العرب حولها، وقيل سنة سبع. وفيها تزوج رسول الله، صلى الله عليه وسلم، الكلابية، واسمها فاطمة بنت الضحاك بن سفيان، فاختارت الدنيا، وقيل: إنها استعاذت منه ففارقها. وفيها ولدت مارية إبراهيم ابن النبي، صلى الله عليه وسلم، في ذي الحجة، فدفعه إلى أم بردة بنت المنذر الأنصارية فكانت ترضعه، وزوجها البراء بن أوس الأنصاري. وكانت قابلتها سلمى مولاة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فأرسلت أبا رافع إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، يبشره بإبراهيم، فوهب له مملوكاً، وغار نساء النبي، صلى الله عليه وسلم، وعظم عليهن حين رزقت مارية منه ولداً. وفيها بعث رسول الله، صلى الله عليه وسلم، كعب بن عمير إلى ذات إطلاح من الشام إلى نفر من قضاعة يدعوهم إلى الإسلام ومعه خمسة عشر رجلاً، فوصل إليهم فدعاهم إلى الاسلام، فلم يجيبوه، وكان رئيس قضاعة رجلاً يقال له سدوس، فقتلوا المسلمين ونجا عمير فتقدم إلى المدينة. وفيها بعث أيضاً عيينة بن حصن الفزاري إلى بني العنبر من تميم، فأغار عليهم وسبى منهم نساء، وكان على عائشة عتق رقبة من بني إسماعيل، فقال لها رسول الله، صلى الله عليه وسلم: هذا سبي بني العنبر يقدم علينا فنعطيك إنساناً فتعتقينه. ثم دخلت سنة تسع ذكر إسلام كعب بن زهير قيل: خرج كعب بن زهير بن أبي سلمى، وأبو سلمى ربيعة المزني، ومعه أخوه بجير حتى أتيا أبرق العزاف، فقال له بجير: اثبت في غنمنا حتى آتي هذا الرجل، يعني رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فأسمع منه. فأقام كعب وسار بجير إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فأسلم، وبلغ ذلك كعباً فقال:
ألا أبلغا عني بجيراً رسالةً ... فهل لك فيما قلت ويحك هل لكا ففارقت أسباب الهدى واتبعته ... على أي شيء ويب غيرك دلكا على خلقٍ لم تلف أمّاً ولا أباً ... عليه ولم تدرك عليه أخاً لكا سقاك بها المأمور كأساً رويّةٍ ... فأنهلك المأمور منها وعلّكا فإن أنت لم تفعل فلست بآسف ... ولا قائل أما عثرت لعالكا فلما بلغ رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قوله غضب وأهدر دمه، فكتب بذلك بجير إلى أخيه بعد عود رسول الله، صلى الله عليه وسلم، من الطائف وقال: النجاء النجاء، وما أدري أن تتفلت، ثم كتب إليه: إذا أتاك كتابي هذا فأسلم وأقبل إليه فإنه لا يأخذ مع الإسلام بما كان قبله. فأسلم كعب وجاء حتى أناخ راحلته بباب المسجد، ورسول الله، صلى الله عليه وسلم، مع أصحابه، قال كعب: فعرفته بالصفة فتخطيت الناس إليه فأسلمت وقلت: الأمان يا رسول الله، هذا مقام العائذ بك. قال: من أنت ؟ فقلت: كعب بن زهير. قال: الذي يقول، ثم التفت إلى أبي بكر فقال: كيف قال ؟ فأنشده أبو بكر الأبيات التي أولها: ألا أبلغا عني بجيراً رسالةً فقال كعب: ما هكذا قلت يا رسول الله، إنما قلت: سقاك أبو بكرٍ بكأسٍ رويّةٍ ... فأنهلك المأمون منها وعلّكا فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، مأمون والله. فتجهمته الأنصار وأغلظت له، ولانت له قريش وأحبت إسلامه، فأنشده قصيدته التي أولها: بانت سعاد فقلبي اليوم متبول ... متيّمٌ عندها لم يفد مكبول فلما انتهى إلى قوله: وقال كلّ خليلٍ كنت آمله ... لا ألهينّك إنّي عنك مشغول نبّئت أنّ رسول الله أوعدني ... والعفو عند رسول الله مأمول في فتيةٍ من قريشٍ قال قائلهم ... ببطن مكّة لما أسلموا زولوا زالوا فما زال أنكاسٌ ولا كشفٌ ... عند اللّقاء ولا ميلٌ معازيل لا يقع الطّعن في نحورهم ... وما لهم عن حياض الموت تهليل نظر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إلى قريش فأومأ إليهم أن اسمعوا، حتى قال: يمشون مشي الجمال الزّهر يعصمهم ... ضربٌ إذا عرّد السّود التّنابيل يعرض بالأنصار لغلظتهم التي كانت عليه، فأنكرت قريش قوله وقالوا: لم تمدحنا إذ هجوتهم، ولم يقبلوا ذلك منه، وعظم على الأنصار هجوه، فشكوه، فقال يمدحهم: من سرّة كرم الحياة فلا يزل ... في مقنبٍ من صالحي الأنصار ورثوا المكارم كاراً عن كابرٍ ... إن الخيار هم بنو الأخيار الباذلين نفوسهم ودماءهم ... يوم الهياج وسطوة الجبّار يتطهّرون يرونه نسكٌ لهم ... بدماء من قتلوا من الكفّار في أبيات. فكساه النبي، صلى الله عليه وسلم، بردةً كانت عليه، فلما كان زمن معاوية أرسل إلى كعب: أن بعنا بردة رسول الله. فقال: ما كنت لأوثر بثوب رسول الله أحداً. فلما مات كعب اشتراها معاوية من أولاده بعشرين ألف درهم، وهي البردة التي عند الخلفاء الآن. وقيل: إنما رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بقتله وقطع لسانه لنه تشبب بأم هانئ بنت أبي طالب. أبو سلمى بضم السين والإمالة، والمأمور بالراء، قال بعض العلماء: إنما كره رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ذلك لن العرب كانت تقول لكل من يتكلم بالشيء من تلقاء نفسه مأمور، بالراء، يريدون أن الذي يقوله تأمره به الجن وإن كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، مأموراً من الله تعالى ولكنه كره لعادتهم، فلما قال: المأمون بالنون، رضي به لأنه مأمون على الوحي. وبجير بالباء الموحدة المضمومة وبالجيم. ذكر غزوة تبوكلما عاد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أقام بالمدينة بعد عوده من الطائف ما بين ذي الحجة إلى رجب، ثم أمر الناس بالتجهز لغزو الروم وأعلم الناس مقصدهم لبعد الطريق وشدة الحر وقوة العدو، وكان قبل ذلك إذا أراد غزوة ورى بغيرها.
وكان سببها أن النبي، صلى الله عليه وسلم، بلغه أن هرقل ملك الروم ومن عنده من متنصرة العرب قد عزموا على قصده، فتجهز هو والمسلمون وساروا إلى الروم. وكان الحر شديداً، والبلاد مجدبة، والناس في عسرة، وكانت الثمار قد طابت، فأحب الناس المقام في ثمارهم فتجهزوا على كره، فكان ذلك الجيش يسمى العسرة. فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، للجد بن قيس، وكان من رؤساء المنافقين: هل لك في جلاد بني الأصفر ؟ فقال: والله لقد عرف قومي حبي للنساء، وأخشى أن لا أصبر على نساء بني الأصفر، فإن رأيت أن تأذن لي ولا تفتني. فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: قد أذنت لك، فأنزل الله تعالى: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لي وَلا تَفْتِنّ) الآية التوبة: 49؛ وقال قائل من المنافين: لا تنفروا في الحر، فنزل قوله تعالى: (وَقَالُوا لا تَنْفِرُوا في الحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أشَدُّ حَرّاً) التوبة: 81. ثم إن النبي، صلى الله عليه وسلم، تجهز وأمر بالنفقة في سبيل الله، وأنفق أهل الغنى، وأنفق أبو بكر جميع ما بقي عنده من ماله، وأنفق عثمان نفقة عظيمة لم ينفق أحد أعظم منها، قيل: كانت ثلاثمائة بعير وألف دينار. ثم إن رجالاً من المسلمين أتوا النبي، صلى الله عليه وسلم، وهم البكاؤون، وكانوا سبعة نفر من الأنصار وغيرهم، وكانوا أهل حاجة، فاستحملوه. فقال: لا أجد ما أحملكم عليه، فتولوا يبكون، فلقيهم يامين بن عمير بن كعب النضري فسألهم عما يبكيهم فأعلموه، فأعطى أبا ليلى عبد الرحمن بن كعب وعبد الله بن مغفل المزني بعيراً، فكانا يعتقبانه مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم. وجاء المعذرون من الأعراب فاعتذروا إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فلم يعذرهم الله، وكان عدة من المسلمين تخلفوا من غير شك، منهم: كعب بن مالك، ومرارة بن الربيع، وهلال بن أمية، وأبو خيثمة. فلما سار رسول الله، صلى الله عليه وسلم، تخلف عنه عبد الله بن أبي المنافق فيمن تبعه من أهل النفاق، واستخلف رسول الله، صلى الله عليه وسلم، على المدينة سباع بن عرفطة، وعلى أهله علي بن أبي طالب، فأجف به المنافقون وقالوا: ما خلفه إلا استثقالاً له. فلما سمع علي ذلك أخذ سلاحه ولحق برسول الله، صلى الله عليه وسلم، فأخبره ما قال المنافقون، فقال: (كذبوا وإنّما خلّفتُك لما ورائي، فارجعْ فاخلفْني في أهلي وأهلك، أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى ؟ إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي). فرجع. فسار رسول الله، صلى الله عليه وسلم. ثم إن أبا خيثمة أقام أياماً، فجاء يوماً إلى أهله، وكانت له امرأتان، وقد رشت كل امرأة منهما عريشها وبردت له ماء وصنعت طعاماً، فلما رآه قال: يكون رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في الحر والريح وأبو خيثمة في الظل البارد والماء البارد مقيم ! ما هذا بالنصف، والله ما أحل عريشاً منهما حتى ألحق برسول الله، صلى الله عليه وسلم. فهيأ زاده وخرج إلى ناضحه فركبه، وطلب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فأدركه بتبوك، فقال الناس: يا رسول الله هذا راكب مقبلٌ. فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: كن أبا خيثمة. فقالوا: هو والله أبو خيثمة. وأتى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فأخبره بخبره، فدعا له. وكان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، حين مر بالحجر، وهو بطريقه، وهو منزل ثمود، قال لأصحابه: لا تشربوا من هذا الماء شيئاً ولا تتوضأوا منه، وما كان من عجين فألقوه واعلفوه الإبل ولا تأكلوا منه شيئاً، ولا يخرج الليلة أحد إلا مع صاحب له. ففعل ذلك الناس ولم يخرج أحدٌ إلا رجلين من بني ساعدة خرج أحدهما لحاجته فأصابه جنون، وأما الذي طلب بعيره فاحتمله الريح إلى جبلي طيء، فأخبر بذلك رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقال: ألم أنهكم أن لا يخرج أحد إلا مع صاحب له ؟ فأما الذي خنق فدعا له فشفي، وأما الذي حملته الريح فأهدته طيء إلى رسول الله بعد عوده إلى المدينة. وأصبح الناس بالحجر ولا ماء معهم، فشكوا ذلك إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، فدعا الله فأرسل سحابةً فأمطرت حتى روي الناس. وكان بعض المنافقين يسير مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فلما جاء المطر قال له بعض المسلمين: هل بعد هذا شيء ؟ قال: سحابة مارة.
وضلت ناقة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في الطريق فقال لأصحابه، وفيهم عمارة بن حزم، وهو عقبي بدري: إن رجلاً قال إن محمداً يخبركم الخبر من السماء وهو لا يدري أين ناقته، وإني والله لا أعلم إلا ما علمني الله عز وجل، وهي في الوادي في شعب كذا قد حبستها شجرة بزمامها، فانطلقوا فأتوه بها، فرجع عمارة إلى أصحابه فخبرهم بما قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عن الناقة تعجباً مما رأى. وكان زيد بن لصيت القينقاعي منافقاً وهو في رحل عمارة قد قال هذه المقالة، فأخبر عمارة بأن زيداً قد قالها، فقام عمارة يطأ عنقه وهو يقول: في رحلي داهية ولا أدري ! اخرج عني يا عدو الله ! فزعم بعض الناس أن زيداً تاب بعد ذلك وحسن إسلامه، وقيل: لم يزل متهماً حتى هلك. ووقف بأبي ذر جمله فتخلف عليه، فقيل: يا رسول الله تخلف أبو ذر. فقال: ذروه فإن يك فيه خير فسيلحقه الله بكم. فكان يقولها لكل من تخلف عنه، فوقف أبو ذر على جمله، فلما أبطأ عليه أخذ رحله عنه وحمله على ظهره وتبع النبي، صلى الله عليه وسلم، ماشياً. فنظر الناس فقالوا: يا رسول الله هذا رجل على الطريق وحده، فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: كن أبا ذر. فلما تأمله الناس قالوا: هو أبو ذر. فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (يرحم الله أبا ذرّ، يمشي وحده، ويموت وحده، ويُبْعَث وحده)، ويشهده عصابة من المؤمنين. فلما نفى عثمان أبا ذر إلى الربذة أصابه بها أجله ولم يكن معه إلا امرأته وغلامه، فأوصاهما أن يغسلاه ويكفناه ثم يضعاه على الطريق، فأول ركب يمر بهما يستعينان بهم على دفنه؛ ففعلا ذلك، فاجتاز بهما عبد الله بن مسعود في رهط من أهل العراق، فأعلمته امرأة أبي ذر بموته. فبكى ابن مسعود وقال: صدق رسول الله، صلى الله عليه وسلم، تمشي وحدك، وتموت وحدك، وتبعث وحدك؛ ثم واروه. وانتهى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إلى تبوك، فأتى يوحنا ابن رؤبة صاحب أيلة فصالحه على الجزية وكتب له كتاباً، فبلغت جزيتهم ثلاثمائة دينار، ثم زاد فيها الخلفاء من بني أمية. فلما كان عمر بن عبد العزيز لم يأخذ منهم غير ثلاثمائة، وصالح أهل أذرح على مائة دينار في كل رجب، وصالح أهل جرباء على الجزية، وصالح أهل مقنا على ربع ثمارهم. وأرسل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، خالد بن الوليد إلى أكيدر بن عبد الملك صاحب دومة الجندل، وكان نصرانياً من كندة، فقال لخالد: إنك تجده يصيد البقر. فخرج خالد بن الوليد حتى إذا كان من حصنه على منظر العين وأكيدر على سطح داره فباتت البقر تحك بقرونها باب الحصن، فقالت امرأته: هل رأيت مثل هذا قط ؟ قال: لا والله، ثم نزل وركب فرسه ومعه نفر من أهل بيته، ثم خرج يطلب البقر، فتلقتهم خيل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأخذته وقتلوا أخاه حساناً، وأخذ خالد من أكيدر قباء ديباج مخوص بالذهب فأرسله إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم فجعل المسلمون يلمسونه ويتعجبون منه. فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: أتعجبون من هذا ؟ لمناديل سعد بن عبادة في الجنة أحسن من هذا. وقدم خالد بأكيدر على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فحقن دمه وصالحه على الجزية وخلى سبيله.
وأقام رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بتبوك بضع عشرة ليلة ولم يجاوزها، ولم يقدم عليه الروم والعرب المتنصرة، فعاد إلى المدينة. وكان في الطريق ماء يخرج من وشل لا يروي إلا الراكب والراكبين بوادٍ يقال له وادي المشقق، فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: من سبقنا فلا يستقين منه شيئاً حتى نأتيه، فسبقه نفر من المنافقين فاستقوا ما فيه، فلما جاءه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أخبروه بفعلهم، فلعنهم ودعا عليهم، ثم نزل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إليه فوضع يده تحته وجعل يصب إليها يسيراً من الماء، فدعا فيه ونضحه في الوشل، فانخرق الماء جرياً شديداً، فشرب الناس واستقوا. وسار رسول الله، صلى الله عليه وسلم، حتى قارب المدينة، فأتاه خبر مسجد الضرار، فأرسل مالك بن الدخشم فحرقه وهدمه وأنزل الله فيه: (وَالَّذِينَ اتَّخّذوُا مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ المُؤمِنِينَ) التوبة: 107 الآيات. وكان الذين بنوه اثني عشر رجلاً، وكان قد أخرج من دار خذام بن خالد من بني عمرو بن عوف. وقدم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وكان قد تخلف عنه رهط من المنافقين، فأتوه يحلفون له ويعتذرون، فصفح عنهم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ولم يعذرهم الله ورسوله، وتخلف أولئك النفر الثلاثة، وهم: كعب بن مالك، وهلال بن أمية، ومرارة بن الربيع، تخلفوا من غير شك ولا نفاق، فنهى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عن كلامهم، فاعتزلهم الناس، فبقوا كذلك خمسين ليلة، ثم أنزل الله توبتهم: (وَعَلى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتّى إذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أنْفُسُهُمْ) الآيات؛ إلى قوله: (صَادِقِينَ) التوبة: 118، وكان قدوم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، المدينة من تبوك في رمضان. يامين النضري بالنون، والضاد المعجمة. وعبد الله بن مغفل بالغين المعجمة، والفاء المشددة المفتوحة. وزيد بن لصيت باللام المضمومة، والصاد المهملة المفتوحة، وآخره تاء مثناة من فوقها. وخذام بن خالد بالخاء المكسورة، والذال المعجمتين. وأكيدر بالهمزة المضمومة، والكاف المفتوحة، والدال المهملة المكسورة، وآخره راء مهملة. ؟ ذكر قدوم عروة بن مسعود الثقفي على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيها قدم عروة بن مسعود الثقفي على النبي، صلى الله عليه وسلم، مسلماً، وقيل: بل أدركه في الطريق مرجعه من الطائف، وسأله أن يرجع إلى قومه بالإسلام، فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: إنهم قاتلوك. فقال: أنا أحب إليهم من أبكارهم، ورجا أن يوافقوه لمنزلته فيهم، فلما رجع إلى الطائف صعد إلى علية له وأشرف منها عليهم وأظهر الإسلام ودعاهم إليهم، فرموه بالنبل، فأصابه سهم فقتله، فقيل له: ما ترى في دمك ؟ فقال: كرامةً أكرمني الله بها وشهادةً ساقها إلي، ليس في إلا ما في الشهداء الذين قتلوا مع رسول الله، فادفنوني معهم. فلما مات دفنوه معهم. وقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فيه: (إنّ مثَله في قومه كمثَل صاحب يس في قومه). ذكر قدوم وفد ثقيفوفي هذه السنة في رمضان قدم وفد ثقيف على رسول الله، صلى الله عليه وسلم. وسبب ذلك أنهم رأوا أن من يحيط بهم من العرب قد نصبوا لهم القتال وشنوا الغارات عليهم، وكان أشدهم في ذلك مالك بن عوف النصري، فلا يخرج منهم مال إلا نهب، ولا إنسان إلا أخذ، فلما رأوا عجزهم اجتمعوا وأرسلوا عبد ياليل بن عمرو بن عمير، والحكم بن عمرو بن وهب، وشرحبيل بن غيلان، وهؤلاء من الأحلاف، وأرسلوا من بني مالك عثمان بن أبي العاص، وأوس بن عوف، ونمير بنخرشة، فخرجوا حتى قدموا على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فأنزلهم في قبة في المسجد، فكان خالد بن سعيد بن العاص يمشي بينهم وبين النبي، صلى الله عليه وسلم، وكان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يرسل إليهم ما يأكلونه مع خالد، وكانوا لا يأكلون طعاماً حتى يأكل خالد منه، حتى أسلموا.
وكان فيما سألوا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أن يدع الطاغية، وهي اللات، لا يهدمها ثلاث سنين، فأبى عليهم، وكان قصدهم بذلك أن يتسلموا بتركها من سفهائهم ونسائهم، فنزلوا إلى شهر فلم يجبهم، وسألوه أن يعفيهم من الصلاة فقال: لا خير في دين لا صلاة فيه، فأجابوا وأسلموا. وأمر عليهم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عثمان بن أبي العاص، وكان أصغرهم، لما رأى من حرصه على الإسلام والتفقه في الدين. ثم رجعوا إلى بلادهم، وأرسل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، معهم المغيرة بن شعبة وأبا سفيان بن حرب ليهدما الطاغية، فتقدم المغيرة فهدمها، وقام قومه من بني شعيب دونه خوفاً أن يرمى بسهم، وخرج نساء ثقيف حسراً يبكين عليها، وأخذ حليها ومالها. وكان أبو مليح بن عروة بن مسعود وقارب بن الأسود بن مسعود قدما على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لما قتل عروة والأسود، فأمرهما رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أن يقضيا منه دين عروة والأسود ابني مسعود، ففعلا، وكان الأسود مات كافراً، فسأل ابنه قارب بن الأسود رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أن يقضي دين أبيه، فقال: إنه كافر. فقال: يصل مسلمٌ ذا قرابته، يعني أنه أسلم فيصل أباه وإن كان مشركاً. ؟ ذكر غزوة طيء وإسلام عدي بن حاتم في هذه السنة في شهر ربيع الآخر أرسل النبي، صلى الله عليه وسلم، علي بن أبي طالب في سرية إلى ديار طيء وأمره أن يهدم صنمهم الفلس، فسار إليهم وأغار عليهم، فغنم وسبى وكسر الصنم، وكان متقلداً سيفين يقال لأحدهما مخذم وللآخر رسوب، فأخذهما علي وحملهما إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وكان الحارث بن أبي شمر أهدى السيفين للصنم، فعلقا عليه، وأسر بنتاً لحاتم الطائي، وحملت إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بالمدينة فأطلقها. وأما إسلام عدي بن حاتم فقال عدي: جاءت خيل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فأخذوا أختي وناساً فأتوا بهم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقالت أختي: يا رسول الله هلك الوالد وغاب الوافد فامنن علي من الله عليك. فقال: ومن وافدك ؟ قالت: عدي بن حاتم. قال: الذي فر من الله ورسوله ! فمن عليها، وإلى جانبه رجل قائم وهو علي بن أبي طالب، قال: سليه حملاناً. فسألته، فأمر لها به وكساها وأعطاها نفقة. قال عدي: وكنت ملك طيء آخذ منهم المرباع وأنا نصراني، فلما قدمت خيل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، هربت إلى الشام من الإسلام وقلت أكون عند أهل ديني، فبينا أنا بالشام إذ جاءت أختي وأخذت تلومني على تركها وهربي بأهلي دونها، ثم قالت لي: أرى أن تلحق بمحمد سريعاً فإن كان نبياً كان للسابق فضله، وإن كان ملكاً كنت في عز وأنت أنت. قال: فقدمت على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فسلمت عليه وعرفته نفسي، فانطلق بي إلى بيته، فلقيته امرأة ضعيفة فاستوقفته، فوقف لها طويلاً تكلمه في حاجتها، فقلت: ما هذا بملكٍ، ثم دخلت بيته فأجلسني على وسادة وجلس على الأرض، فقلت في نفسي: ما هذا ملك. فقال لي: يا عدي إنك تأخذ المرباع وهو لا يحل في دينك، ولعلك إنما يمنعك من الإسلام ما ترى من حاجتنا وكثرة عدونا، والله ليفيضن المال فيهم حتى لا يوجد من يأخذه، ووالله لتسمعن بالمرأة تسير من القادسية على بعيرها حتى تزور هذا البيت لا تخاف إلا الله، ووالله لتسمعن بالقصور البيض من بابل وقد فتحت. قال: فأسلمت، فقد رأيت القصور البيض وقد فتحت، ورأيت المرأة تخرج إلى البيت لا تخاف إلا الله، ووالله لتكونن الثالثة ليفيضن المال حتى لا يقبله أحد. ذكر قدوم الوفود على رسول الله صلى الله عليه وسلم
لما افتتح رسول الله، صلى الله عليه وسلم، مكة وأسلمت ثقيف وفرغ من تبوك ضربت إليه وفودٌ من كل وجه، وإنما كانت العرب تنتظر بإسلامها قريشاً إذ كانوا أمام الناس وأهل الحرم وصريح ولد إسماعيل بن إبراهيم عليه السلام، لا تنكر العرب ذلك، وكانت قريش هي التي نصبت الحرب لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، وخلافه، فلما فتحت مكة وأسلمت قريش عرفت العرب أنها لا طاقة لها بحرب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ولا عداوته، فدخلوا في الدين أفواجاً، كما قال الله تعالى: (إذَا جَاء نَصْرُ اللهِ وَالفَتْحُ وَرَأيْتَ النّاسَ يَدْخُلُونَ في دِينِ اللهِ أفْوَاجاً فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إنّهُ كَانَ تَوّاباَ) النصر: 1 - 3. وقدمت وفودهم في هذه السنة، قدم وفد بني أسد على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وقالوا: أتيناك قبل أن ترسل إلينا رسولاً، فأنزل الله تعالى: (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أنْ أسْلَمُوا)؛ الآية الحجرات: 17. وفيها قدم وفد بلي في شهر ربيع الأول. وفيها قدم وفد الزاريين، وهم عشرة نفر. وفيها قدم على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وفد بني تميم مع عطارد بن حاجب بن زرارة بن عدس، وفيهم الأقرع بن حابس والزبرقان بن بدر وعمرو بن الأهتم وقيس بن عاصم والختات ومعتمر بن زيد في وفد عظيم ومعهم عيينة بن حصن الفزاري، فلما دخلوا المسجد نادوا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، من وراء حجراته أن اخرج إلينا يا محمد، فآذى ذلك رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وخرج إليهم، فقالوا: جئنا نفاخرك فأذن لشاعرنا وخطيبنا، فأذن لهم، فقام عطارد فقال: الحمد لله الذي له علينا الفضل والمن، وهو أهله، الذي جعلنا ملوكاً ووهب لنا أموالاً عظاماً نفعل فيها المعروف وجعلنا أعز أهل المشرق وأكثرهم عدداً، فمن يفاخرنا فليعدد مثل عددنا. فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لثابت بن قيس: أجب الرجل. فقام ثابت فقال: الحمد لله الذي له السماوات والأرض خلقه، قضى فيهن أمره، ووسع كرسيه علمه، ولم يكن شيء قط إلا من فضله، ثم كان من قدرته أن جعلنا ملوكاً، واصطفى من خير خلقه رسولاً، أكرمهم نسباً، وأصدقهم حديثا، وأفضلهم حسباً، فأنزل عليه كتابه، وائتمنه على خلقه، فكان خيرة الله تعالى من العالمين، ثم دعا الناس إلى الإيمان فآمن به المهاجرون من قومه وذوي رحمه، أكرم الناس نسباً وجوهاً وخير الناس فعالاً. ثم كان أول الخلق استجابة لله حين دعاه نحن، فنحن أنصار الله ووزراء رسوله نقاتل الناس حتى يؤمنوا، فمن آمن بالله ورسوله منع ماله ودمه، ومن كفر جاهدناه في الله أبداً، وكان قتله عينا يسيراً، والسلام عليكم. فقالوا: يا رسول الله ائذن لشاعرنا، فأذن له، فقام الزبرقان بن بدر فقال: نحن الكرام فلا حيٌّ يعادلنا ... منّا الملوك وفينا تنصب البيع وكم قسرنا من الأحياء كلّهم ... عند النّهاب وفضل العرب يتّبع ونحن يطعم عند القحط مطعمنا ... من الشّواء إذا لم يؤنس القزع بما ترى النّاس تأتينا سراتهم ... من كلّ أرضٍ هويّاً ثمّ نصطنع فننحر الكوم عبطاً في أرومتنا ... للنّازلين إذا ما أنزلوا شبعوا فلا ترانا إلى حيٍّ نفاخرهم ... إلاّ استقادوا وكاد الرّأس يقتطع إنّا أبينا ولن يأبى لنا أحدٌ ... إنّا كذلك عند الفخر نرتفع فمن يفاخرنا في ذاك يعرفنا ... فيرجع القول والأخبار تستمع قال: وكان حسان بن ثابت غائباً، فدعاه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ليجيب شاعرهم. قال حسان: فلما سمعت قوله قلت على نحوه: إن الذّوائب من فهرٍ وإخوتهم ... قد بيّنوا سنّةً للنّاس تتّبع قومٌ إذا حاربوا ضرّوا عدوّهم ... أو حاولوا النّفع في أشياعهم نفعوا يرضى بها كلّ من كانت سريرته ... تقوى الإله، وكلّ البرّ يصطنع سجيّةٌ تلك منهم غير محدثةٍ ... إنّ الخلائق، فاعلم، شرّها البدع إن كان في النّاس سبّاقون بعدهم ... فكلّ سبقٍ لأدنى سبقهم تبع
لا يرقع النّاس ما أوهت أكفّهم ... عند الدّفاع ولا يوهون ما رقعوا إن سابقوا النّاس يوماً فاز سبقهم ... أو وازنوا أهل مجدٍ بالنّدى متعوا أعفّةٌ ذكرت في الوحي عفّتهم ... لا يطمعون ولا يزري بهم طمع لا يبخلون على جارٍ بفضلهم ... ولا يمسّهم من مطمعٍ طبع إذا نصبنا لحيٍّ لم ندبّ لهم ... كما يدبّ إلى الوحشيّة الذّرع كأنّهم في الوغى والموت مكتنعٌ ... أسدٌ بحلية في أرساغها فدع أكرم بقومٍ رسول الله شيعتهم ... إذا تفرّقت الأهواء والشّيع فإنّهم أفضل الأحياء كلّهم ... إن جدّ بالناس جدّ القول أو شمعوا فلما فرغ حسان قال الأقرع بن حابس: إن هذا الرجل لمؤتىً له، خطيبهم أخطب من خطيبنا، وشاعرهم أشعر من شاعرنا؛ ثم أسلموا وأجازهم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وفيهم أنزل الله تعالى: (إنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاء الحُجُرَاتِ أكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) الآيات الحجرات: 4. الختات بالخاء المعجمة، وتائين كل واحدة منهما معجمة باثنتين من فوق. وعيينة بضم العين المهملة، وبائين كل واحدة منهما مثناة من تحت، ونون. وفيها قدم على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، كتب ملوك حمير مقرين بالإسلام مع رسولهم الحارث بن عبد كلال والنعمان قيل ذي رعين وهمدان، فأرسل إليه زرعة ذو يزن مالك بن مرة الرهاوي بإسلامهم، وكتب إليهم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يأمرهم بما عليهم في الإسلام وينهاهم عما حرم عليهم. وفيها قدم وفد بهراء على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فنزلوا على المقداد بن عمرو. وفيها قدم وفد بني البكاء. وفيها قدم وفد بني فزارة فيهم خارجة بن حصن. وفيها قدم وفد ثعلبة بن منقذ. وفيها قدم وفد سعد بن بكر، وكان وافدهم ضمام بن ثعلبة، فسأل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عن شرائع الإسلام وأسلم، فلما رجع إلى قومه قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: لئن صدق ليدخلن الجنة؛ فلما قدم على قومه اجتمعوا إليه فكان أول ما تكلم به أن قال: بئست اللات والعزى ! فقالوا: اتق البرص والجذام والجنون. فقال: ويحكم إنهما لا يضران ولا ينفعان، وإن الله قد بعث رسولاً وأنزل عليه كتاباً وقد استنقذكم به مما كنتم فيه؛ وأظهر إسلامه، فما أمسى ذلك اليوم في حاضره رجل مشرك ولا امرأة مشركة، فما سمع بوافد قوم كان أفضل من ضمام بن ثعلبة. ذكر حج أبي بكر رضي الله عنهوفيها حج أبو بكر بالناس ومعه عشرون بدنة لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، ولنفسه خمس بدنات، وكان في ثلاثمائة رجل، فلما كان بذي الحليفة أرسل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في أثره علياً وأمره بقراءة سورة براءة على المشركين فأدركه بالعرج، وأخذها منه فعاد أبو بكر وقال: يا رسول الله بأبي أنت وأمي أنزل في شيء ؟ قال: لا، ولكن لا يبلغ عني إلا أنا أو رجل مني، ألا ترضى يا أبا بكر أنك كنت معي في الغار وصاحبي على الحوض ؟ قال: بلى، فسار أبو بكر أميراً على الموسم، فأقام الناس الحج وحجت العرب الكفار على عادتهم في الجاهلية، وعلي يؤذن ببراءة، فنادى يوم الأضحى: لا يحجن بعد العام مشركٌ ولا يطوفن بالبيت عريان، ومن كان بينه وبين رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عهد فأجله إلى مدته فقالوا: نحن نبرأ من عهدك وعهد ابن عمك إلا من الطعن والضرب، ورجع المشركون، فلام بعضهم بعضاً وقالوا: ما تصنعون وقد أسلمت قريش ؟ فأسلموا. وفي هذه السنة فرضت الصدقات، وفرق رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فيها عماله. وفيها في شعبان توفيت أم كلثوم بنت النبي، صلى الله عليه وسلم، وهي زوج عثمان بن عفان وغسلتها أسماء بنت عميس وصفية بنت عبد المطلب، وقيل: غسلتها نسوة من الأنصار، منهن أم عطية، وصلى عليها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ونزل في حفرتها أبو طلحة.
وفيها مات عبد الله بن أبي بن سلول رأس المنافقين، وكان ابتداء مرضه في شوال، فلما توفي جاء ابنه عبد الله إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، فسأله قميصه، فأعطاه، فكفنه فيه، وجاء رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ليصلي عليه، فقام عمر في صدره وقال: يا رسول الله أتصلي عليه وقد قال يوم كذا وكذا وكذا ! يعدد أيامه، ورسول الله، صلى الله عليه وسلم، يتبسم ثم قال: أخر عني عمر، قد خيرت فاخترت، قد قيل لي: (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ، إنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) التوبة: 80؛ ولو علمت أن لو زدت على السبعين غفر لهم لزدت، ثم صلى عليه وقام على قبره حتى فرغ منه، فأنزل الله تعالى: (وَلا تُصَلِّ عَلى أحَدٍ مِنْهُمٍ مَاتَ أبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ) الآية التوبة: 84. وفيها نعى النبي، صلى الله عليه وسلم، النجاشي للمسلمين، وكان موته في رجب سنة تسع، وصلى عليه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وفيها توفي أبو عامر الراهب عند النجاشي. ذكر الأحداث في سنة عشر ذكر وفد نجران مع العاقب والسيد وفيها أرسل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، خالد بن الوليد إلى بني الحارث بن كعب بنجران في شهر ربيع الآخر وأمره أن يدعوهم إلى الإسلام ثلاثاً، فإن أجابوا أقام فيهم وعلمهم شرائع الإسلام، وإن لم يفعوا قاتلهم. فخرج إليهم ودعاهم إلى الإسلام، فأجابوا وأسلموا، فأقام فيهم وكتب إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يعلمه إسلامهم، وعاد خالد ومعه وفدهم فيهم قيس بن الحصين بن يزيد بن قينان ذي الغصة ويزيد بن عبد المدان وغيرهما، فقدموا على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ثم عادوا عنه في بقية شوال أو في ذي الحجة، وأرسل إليهم عمرو بن حزم يعلمهم شرائع الإسلام ويأخذ صدقاتهم، وكتب معه كتاباً، وتوفي رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وعمرو بن حزم على نجران. وأما نصارى نجران فإنهم أرسلوا العاقب والسيد في نفر إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأرادوا مباهلته، فخرج رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ومعه علي وفاطمة والحسن والحسين، فلما رأوهم قالوا: هذه وجوه لو أقسمت على الله أن يزيل الجبال لأزالها، ولم يباهلوه وصالحوه على ألفي حلة ثمن كل حلة أربعون درهماً، وعلى أن يضيفوا رسل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وجعل لهم ذمة الله تعالى وعهده ألا يفتنوا عن دينهم ولا يعشروا، وشرط عيهم أن لا يأكلوا الربا ولا يتع | |
|
 | |
الشيخ عودة الشيخ عودة

عدد المساهمات : 1748 تاريخ التسجيل : 28/09/2008 العمر : 72
 | موضوع: رد: كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير الجمعة فبراير 07, 2014 9:06 am | |
| وفيها قدم على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وفد طيء فيهم زيد الخيل، وهو سيدهم، فأسلموا وحسن إسلامهم. وقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (ما ذُكر لي رجل من العرب بفضلٍ ثمّ جاءني إلاّ رأيتُهُ دون ما يقال فيه إلاّ ما كان من زيد الخيل)، ثم سماه زيد الخير وأقطع له فيد وأرضين معها. فلما رجع أصابته الحمى بقرية من نجد فمات بها. وفيها كتب مسيلمة الكذاب إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يذكر أنه شريكه في النبوة، وأرسل الكتاب مع رسولين، فسألهما رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عنه، فصدقاه. فقال لهما: لولا أن الرسل لا تقتل لقتلتكما. وكان كتاب مسيلمة: من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله، أما بعد فإني قد أشركت معك في الأمر وإن لنا نصف الأرض ولقريش نصفها، ولكن قريشاً قوم يعتدون. فكتب إليه رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (بسم اله الرحمن الرحيم، من محمّد رسول الله إلى مسيلمة الكذّاب، أمّا بعد فالسّلام على مَنِ اتّبع الهُدى، فإنّ الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتّقين). وقيل: إن دعوى مسيلمة وغيره النبوة كانت بعد حجة الوداع ومرضته التي مات فيها. فلما سمع الناس بمرضه وثب الأسود العنسي باليمن، ومسيلمة باليمامة، وطليحة في بني أسد. ذكر إرسال علي إلى اليمن وإسلام همدانفي هذه السنة بعث رسول الله، صلى الله عليه وسلم، علياً إلى اليمن، وقد كان أرسل قبله خالد بن الوليد إليهم يدعوهم إلى الإسلام فلم يجيبوه، فأرسل علياً وأمره أن يعقل خالداً ومن شاء من أصحابه، ففعل، وقرأ علي كتاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، على أهل اليمن، فأسلمت همدان كلها في يوم واحد، فكتب بذلك إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقال: السلام على همدان، يقوله ثلاثاً، ثم تتابع أهل اليمن على الإسلام، وكتب بذلك إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فسجد شكراً لله تعالى. ذكر بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أمراءه على الصدقات وفيها بعث رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أمراءه وعماله على الصدقات، فبعث المهاجرين بن أبي أمية بن المغيرة إلى صنعاء، فخرج عليه العنسي وهو بها، وبعث زياد بن لبيد الأنصاري إلى حضرموت على صدقاتهم، وبعث عدي بن حاتم الطائي على صدقات طيء وأسد، وبعث مالك بن نويرة على صدقات بني حنظلة، وجعل الزبرقان بن بدر وقيس بن عاصم على صدقات سعد بن زيد مناة بن تميم، وبعث العلاء بن الحضرمي إلى البحرين، وبعث علي بن أبي طالب إلى نجران ليجمع صدقاتهم وجزيتهم ويعود، ففعل وعاد، ولقي رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بمكة في حجة الوداع، واستخلف على الجيش الذي معه رجلاً من أصحابه، وسبقهم إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، فلقيه بمكة، فعمد الرجل إلى الجيش فكساهم كل رجل حلة من البز الذي مع علي، فلما دنا الجيش خرج علي ليتلقاهم فرأى عليهم الحلل، فنزعها عنهم، فشكاه الجيش إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقام النبي، صلى الله عليه وسلم، خطيباً فقال: (أيّها النّاس لا تشكو عليّاً فوالله إنه لأخْشَنُ في ذات الله وفي سبيل الله). ذكر حجة الوداعخرج رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إلى الحج لخمس بقين من ذي القعدة لا يذكر الناس إلا الحج، فلما كان بسرف أمر الناس أن يحلوا بعمرة إلا من ساق الهدي، وكان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قد ساق الهدي وناس مع، وكان علي بن أبي طالب قد لقيه محرماً، فقال له النبي، صلى الله عليه وسلم: حل كما حل أصحابك. فقال: إني قد أهللت بما أهل به رسول الله، فبقي على إحرامه، ونحر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، الهدي عنه وعن علي وحج بالناس فأراهم مناسكهم وعلمهم سنن حجهم وخطب خطبته التي بين فيها للنا ما بين، وكان الذي يبلغ عنه بعرفه ربيعة بن أمية بن خلف لكثرة الناس، فقال بعد حمد الله:
أيها الناس اسمعوا قولي فلعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبداً. أيها الناس إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، وكل رباً موضوع كلم رؤوس أموالكم، وإن ربا العباس بن عبد المطلب موضوعٌ كله، وكل دم كان في الجاهلية موضوعٌ، وأول دم أضع دم ابن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، وكان مسترضعاً في بني ليث فقتلته هذيل. أيها الناس إن الشيطان قد يئس أن يعبد بأرضكم هذه أبداً ولكنه يطاع فيما سوى ذلك وقد رضي بما تحقرون من أعمالكم. أيها الناس (إنَّمَا النَّسيءُ زِيَادَةٌ في الكُفْرِ) التوبة: 37، وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، و(إنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً) التوبة: 36. أيها الناس استوصوا بالنساء خيراً. وهي خطبة طويلة. وقال حين وقف بعرفة: هذا الموقف - للجبل الذي هو عليه - وكل عرفة موقف. وقال بالمزدلفة: هذا الموقف وكل مزدلفة موقف. ولما نحر بمنى قال: هذا المنحر وكل منى منحر. فقضى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، الحج، وكانت حجة الوداع وحجة البلاغ، وذلك أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لم يحج بعدها، وأرى الناس مناسكهم وعلمهم حجتهم. ذكر عدد غزواته صلى الله عليه وسلم وسراياه وكان آخر غزوة غزاها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بنفسه غزوة تبوك، وجميع غزواته بنفسه تسع عشرة غزوة. قال الواقدي: هكذا يرويه أهل العراق عن زيد بن أرقم، وهو خطأ لأنه زيداً غزا مؤتة مع عبد الله بن رواحة وهو رديفه على رحله، ولم يغز مع النبي، صلى الله عليه وسلم، غير ثلاث غزوات أو أربع، وقيل: غزا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ستاً وعشرين غزوة، وقيل: سبعاً وعشرين، فمن قال: ستاً وعشرين جعل غزوة خيبر ووادي القرى واحدة لأنه لم يرجع من خيبر إلى منزله، ومن فرق بينهما جعل غزواته سبعاً وعشرين، جعل خيبر غزوة ووادي القرى غزوة. وأول غزوة غزاها ودان، وهي الأبواء، ثم بواط بناحية رضوى، ثم العشيرة، ثم بدر الأولى لطلب كرز بن جابر، ثم بدر التي قتل فيها قريشاً، ثم غزوة بني سليم، ثم غزوة السويق، ثم غزوة غطفان، وهي غزوة ذي أمر، ثم غزوة بحران بالحجاز، ثم غزوة أحد، ثم غزوة حمراء الأسد، ثم غزوة بني النضير، ثم غزوة ذات الرقاع، ثم غزوة بدر الآخرة، ثم غزوة دومة الجندل، ثم غزوة الخندق، ثم غزوة بني قريظة، ثم غزوة بني لحيان من هذيل، ثم غزة ذي قرد، ثم غزوة بني المصطلق، ثم غزوة الحديبية، ثم غزوة خيبر، ثم عمرة القضاء، ثم غزوة فتح مكة، ثم غزوة حنين، ثم غزوة الطائف، ثم غزوة تبوك؛ قاتل منها في تسع غزوات: بدر وأحد والخندق وقريظة والمصطلق وخيبر والفتح وحنين والطائف. واختلف في عدد سراياه، فقيل: كانت خمساً وثلاثين ما بين سرية وبعث، وقيل: ثمانياً وأربعين. وفي هذه السنة قدم جرير بن عبد الله البجلي في رمضان مسلماً، فبعثه إلى ذي الخلصة فهدمها، وكان من حجر أبيض بتبالة، وهو صنم بجيلة وخثعم وأزد السراة، فلما أتى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، خبر هدمه سجد شكراً لله تعالى. وفيها أسلم باذان باليمن وبعث بإسلامه إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم. ذكر عدد حج النبي صلى الله عليه وسلم وعمره قال جابر: حج النبي، صلى الله عليه وسلم، حجتين، حجة قبل أن يهاجر وحجة بعدما هاجر معها عمرة. وقال ابن عمر: اعتمر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ثلاث عمر، وقالت عائشة: أربع عمر، وروي مثل ذلك عن ابن عمر. ذكر صفة النبي صلى الله عليه وسلم وأسمائه وخاتم النبوة قال علي بن أبي طالب: كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ليس بالطويل ولا بالقصير، ضخم الرأس واللحية، شئن الكفين والقدمين، ضخم الكراديس، مشرباً وجهه حمرةً، طويل المسربة، إذا مشى تكفأ تكفؤاً كأنما ينحط من صبب، لم أر قبله ولا بعده مثله، وكان أدعج العينين، سبط الشعر، سهل الخدين، ذا وفرة، كأن عنقه إبريق فضة، وإذا التفت التفت جميعاً، كأن العرق في وجهه اللؤلؤ الرطب لطيب عرقه وريحه.
قال أبو عبيدة وغيره: شئت الكفين والقدمين، يعني أنهما إلى الغلظ أقرب، وقوله: ضخم الكراديس، يعني ألواح الأكتاف، والمسربة الشعر ما بين السرة واللبة، والصبب الانحدار، والدعج في العين السواد، والسبط من الشعر ضد الجعد. وكان بين كتفيه، صلى الله عليه وسلم، خاتم النبوة، وهي بضعة ناشزة حولها شعر. وأما أسماؤه فهي كما قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (أنا محمّد، وأنا أحمد والمقفّي والحاشر ونبّي الرحمة ونبّي التوبة ونبّي الملحمة والعاقب والماحي الذي يمحو الله به الكُفْر. والحاشر الذي يحشر النّاس على قدمه. والعاقب آخر الأنبياء. وأما شعره وشيبه فقال أنس: لم يشنه الله بالشيب، وقيل: كان في مقدم لحيته عشرون شعرة بيضاء ولم يخضب. قال جابر بن سمرة: وكان في مفرق رأسه شعرات بيض إذا دهنه غطاهن الدهن، وأخرجت أم سلمة شعره مخضوباً بالحناء والكتم. وقال أبو رمثة: كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يخضب، وكان شعره يبلغ كتفيه أو منكبيه. وقالت أم هانئ: كان له ضفائر أربع. ذكر شجاعته صلى الله عليه وسلم وجوده قال أنس: كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أشجع الناس، وأسمح الناس، وأحسن الناس، وقع في المدينة فزع فركب فرساً عرياً فسبق الناس إليه فجعل يقول: أيها الناس لم تراعوا. وقال علي بن أبي طالب: كنا إذا اشتد البأس اتقينا برسول الله، صلى الله عليه وسلم، فكان أقربنا إلى العدو، وكفى بهذا شجاعةً أن مثل علي الذي هو هو في شجاعته يقول هذا، وقد تقدم في غزواته ما يستدل به على تمكنه من الشجاعة وأنه لم يقاربه فيها أحدٌ. ذكر عدد أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وسراريه وأولاده قال ابن الكلبي: إن النبي، صلى الله عليه وسلم، تزوج خمس عشرة امرأة، ودخل بثلاث عشرة، وجمع بين إحدى عشرة، وتوفي عن تسع. وأول امرأة تزوجها خديجة بنت خويلد، وكان تزوجها قبله عتيق بن عائذ بن عبد الله بن مخزوم ومات عنها، وتزوجها بعد عتيق أبو هالة بن زرارة بن نباش التميمي، فولدت له هند بن أبي هالة، ثم مات عنها، فتزوجها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فولدت له ثمانية: القاسم والطيب والطاهر وعبد الله وزينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة، فأما الذكور فماتوا وهم صغار، وأما الإناث فبلغن ونكحن وولدن، ولم يتزوج على خديجة في حياتها أحداً وكان موتها قبل الهجرة بثلاث سنين، ولم يولد له ولد من غيرها إلا إبراهيم. فلما توفيت خديجة نكح بعدها سودة بنت زمعة، وقيل عائشة، فأما عائشة فكانت يوم تزوجها صغيرة بنت ست سنين، وأما سودة فكانت امرأة ثيباً، وكانت قبله عند السكران بن علمرو بن شمس أخي سهيل بن عمرو، وكان من مهاجرة الحبشة فتنصر بها ومات، فخلف عليها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وهو بمكة، وكان الذي خطبها عليه خولة بنت حكيم زوجة عثمان بن مظعون، فدخل بسودة بمكة، زوجها منه أبوها زمعة بن قيس، فلما تزوجها كان أخوها عبد بن زمعة غائباً، فلما قدم جعل يحثي التراب على رأسه، فلما أسلم قال: إني سفيهٌ حيث فعلت ذلك، وندم على ما كان منه. وأما عائشة فدخل بها بالمدينة وهي ابنة تسع سنين، ومات عنها وهي ابنة ثماني عشرة سنة، ولم يتزوج بكراً غيرها، ومات سنة ثمان وخمسين. ثم تزوج بعدها حفصة بنت عمر بن الخطاب، وكانت قبله عند خنيس بن حذافة السهمي خنيس بالخاء المعجمة والنون والسين المهملة، وكان بدرياً، ولم يشهد من بني سهم بدراً غيره، ولم تلد له شيئاً، وماتت بالمدينة في خلافة عثمان. ثم تزوج بعدها أم سلمة ابنة أبي أمية زاد الركب المخزومية، وكانت قبله عند أبي سلمة بن عبد الأسد المخزومي، شهد بدراً وأصابته جراحة يوم أحد فمات منها، وتزوجها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قبل الأحزاب، وماتت سنة تسع وخمسين، وقيل: بعد قتل الحسين، رضي الله عنه. ثم تزوج زينب بنت خزيمة من بني عامر بن صعصعة، ويقال لها أم المساكين، وتوفيت في حياته، ولم يمت في حياته غيرها وغير خديجة بنت خويلد، وكانت زينب قبله عند الطفيل بن الحارث بن عبد المطلب. ثم تزوج عام المريسيع جويرية ابنة الحارث بن أبي ضرار الخزاعية من بني المصطلق، وكانت قبله عند مالك بن صفوان المصطلقي، لم تلد له شيئاً.
ثم تزوج أم حبيبة بنت أبي سفيان بن حرب، وكانت عند عبيد الله بن جحش، وكان من مهاجرة الحبشة فتنصر ومات بها، فأرسل النبي، صلى الله عليه وسلم، إلى النجاشي فخطبها عليه وتزوجها وهي بالحبشة، وزوجها منه خالد بن سعيد بن العاص، وقيل: بل خطبها إلى عثمان بن عفان فزوجها منه، وبعث فيها إلى النجاشي فساق منه المهر أربعمائة دينار وأرسلها إليه، وتوفيت في خلافة أخيها معاوية فلم تلد له شيئاً. ثم تزوج زينب بنت جحش، وكانت قبله عند زيد بن حارثة مولاه، فلم تلد له شيئاً، فزوجها الله إياه وبعث في ذلك جبرائيل، وكانت تفخر على نساء النبي، صلى الله عليه وسلم، وتقول: أنا أكرمهن ولياً وسفيراً، وهي أول من توفي من أزواجه، توفيت بعده في خلافة عمر. ثم تزوج عام خيبر صفية بنت حيي بن أخطب، وكانت قبله تحت سلام بن مشكم فتوفي عنها، وخلف عليها كنانة بن الربيع بن أبي الحقيق، فقتله محمد بن مسلمة صبراً بأمر النبي، صلى الله عليه وسلم، ثم أعتقها النبي، صلى الله عليه وسلم، وتزوجها سنة ست، وماتت سنة ست وثلاثين. ثم تزوج ميمونة ابنة الحارث الهلالية، وكانت قبله عند عمير بن عمرو الثقفي، ولم تلد له شيئاً، ثم خلف عليها أبو زهير بن عبد العزى بعد عمير، ثم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بعده، وهي خالة ابن عباس وخالد بن الوليد، وتزوجها في عمرة القضاء بسرف. ثم تزوج امرأة من بني كلاب يقال لها النشا بنت رفاعة، وقيل: هي شنبا ابنة أسماء بن الصلت، وقيل: ابنة الصلت بن حبيب، توفيت قبل أن يدخل بها. ثم تزوج الشنبا ابنة عمرو الغفارية، وقيل الكنانية، فمات إبراهيم ابنه قبل أن يدخل بها، فقالت: لو كان نبياً ما مات ابنه، فطلقها. ثم تزوج غزية ابنة جابر الكلابية، خطبها عليه أبو أسيد، بضم الهمزة، الساعدي، فلما قدمت على النبي، صلى الله عليه وسلم، استعاذت بالله منه ففارقها. ثم تزوج أسماء ابنة النعمان بن الأسود بن شراحل الكندي، فلما دخل بها وجد بها بياضاً فمتعها وردها إلى أهلها، وقيل: بل استعاذت منه أيضاً فردها. والعالية ابنة ظبيان فجمعها ثم فارقها. وقتيلة بنت قيس أخت الأشعث فتوفي عنها قبل أن يدخل بها، فارتدت. وفاطمة ابنة سرع. وقال ابن الكلبي: غزية هي أم شريك. قال: وقيل: إنه تزوج خولة ابنة الهذيل بن هبيرة، وليلى ابنة الخطيم الأنصارية عرضت نفسها عليه فتزوجها، فأخبرت قومها، فقالوا: أنتِ غيور وله نساء فاستقيليه فأقالته ففارقها. وأما من خطب النبي، صلى الله عليه وسلم، من النساء، ولم ينكحها فمنهن أم هانئ بنت أبي طالب خطبها ولم يتزوجها. ومنهن ضباعة بنت عامر من بني قشير. ومنهن صفية بنت بشامة أخت الأعور العنبري. ومنهن أم حبيبة ابنة عمة العباس، فوجد العباس أخاه من الرضاعة فتركها. ومنهن جمرة ابنة الحارث بن أبي حارثة خطبها، فقال أبوها: بها سوء، ولم يكن بها، فرجع إليها فوجدها قد برصت. وأما سراريه فهي مارية ابنة شمعون القبطية، وولدت له إبراهيم؛ وريحانة ابنة زيد القرظية، وقيل: هي من بني النضير. ذكر موالي رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنهم زيد بن حارثة، وابنه أسامة بن زيد، وثوبان، ويكنى أبا عبد الله، أصله من السراة، وسكن حمص بعد موت النبي، صلى الله عليه وسلم، ومات سنة سبع وخمسين، وقيل: سكن الرملة، ولا عقب له. وشقران، وكان من الحبشة، وقيل من الفرس، واسمه صالح بن عيد، واختلف في أمره، فقيل: إن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ورثه من أبيه، وقيل: كان لعبد الرحمن بن عوف فوهبه للنبي، صلى الله عليه وسلم، وأعقب. وأبو رافع، واسمه إبراهيم، وقيلأو يقع، فقيل: كان للعباس فوهبه للنبي، صلى الله عليه وسلم، فأعتقه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وقيل: كان لأبي أحيحة سعيد بن العاص فأعتق ثلاثةٌ من بنيه أنصباءهم منه، وشهد معهم بدراً وهم كفار، وقتلوا يومئذٍ، ووهب خالد بن سعيد نصيبه منه للنبي، صلى الله عليه وسلم، فأعتقه وابنه البهي، واسمه رافع، وأخوه عبيد اله بن أبي رافع، كان يكتب لعلي بن أبي طالب. وسلمان الفارسي، وكنيته أبو عبد الله، من أهل أصبهان، وقيل: من أهل رامهرمز، أصابه سبياً بعض من كلب وبيع من يهودي بوادي القرى، فكاتب اليهودي وأعانه النبي، صلى الله عليه وسلم، حتى عتق.
وسفينة، كان لأم سلمة، فأعتقته وشرطت عليه خدمة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، حياته. قيل: اسمه مهران، وقيل: رباح، وقيل: كان من عجم الفرس. وأنسة يكنى أبا مسروح، وهو من مولدي السراة، وكان يأذن على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وشهد معه بدراً وأحداً والمشاهد كلها، وقيل: كان من الفرس. وأبو كبشة، واسمه سليم، قيل: كان من موالي مكة، وقيل: كان من مولدي أرض دوس، اشتراه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأعتقه، وشهد بدراً والمشاهد كلها، وتوفي يوم استخلف عمر بن الخطاب سنة ثلاث عشرة. ورويقع أبو مويهبة، كان من مولدي مزينة، فاشتراه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأعتقه. ورباح الأسود، كان يأذن على رسول الله، صلى الله عليه وسلم. وفضالة نزل الشام. ومدعم قتل بوادي القرى. وأبو ضميرة، قيل: كان من الفرس من ولد بشتاسب الملك، فأصابه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في بعض وقائعه فأعتقه، وهو جد أبي حسين. ويسار وكان نوبياً، أصابه في بعض غزواته فأعتقه، وهو الذي قتله العرنيون الذين أغاروا على لقاح رسول الله، صلى الله عليه وسلم. ومهران مولاه، حدث عن النبي، صلى الله عليه وسلم. وكان له خصي يقال له مابوز، أهداه له المقوقس مع مارية وشيرين، قيل: إنه الذي قذفت مارية به، فبعث رسول الله، صلى الله عليه وسلم، علياً ليقتله، فرآه خصياً فتركه. وخرج إليه من الطائف وهو محاصرهم أربعة أعبد فأعتقهم، منهم أبو بكرة. ذكر من كان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر أن عثمان بن عفان كان يكتب له أحياناً وعلي بن أبي طالب أحياناً، وخالد بن سعيد، وأبا بن سعيد، والعلاء بن الحضرمي. وأول من كتب له أبي بن كعب، وكتب له زيد بن ثابت، وكتب له عبد الله بن سعد بن أبي سرح، ثم ارتد ورجع إلى الإسلام يوم الفتح. وكتب له معاوية بن أبي سفيان، وحنظلة الأسيدي بضم الهمزة، وتشديد الياء، كذلك يقوله المحدثون، وهو منسوب إلى أسيد بن عمرو بن تميم، بالتشديد إجماعاً. ذكر أسماء خيله صلى الله عليه وسلمقيل: أول فرس ملكه، صلى الله عليه وسلم، فرس اشتراه بالمدينة من أعرابي من فزارة بعشر أواق، وسماه السكب، وأول غزوة غزاها عليه أحد. وفرس لأبي بردة بن نيار اسمه ملاوح. وكان له فرس يدعى المرتجز، وهو الفرس الذي شهد به خزيمة بن ثابت، وكان صاحبه من بني مرة. وكان له ثلاثة أفراس: لزاز والظرب واللحيف، وأما لزاز فأهداه له المقوقس، وأما اللحيف فأهداه له ربيعة بن أبي البراء، وأما الظرب فأهداه له فروة بن عمرو الجذامي. وكان له فرس يقال له الورد، أهداه له تميم الداري، فوهبه النبي، صلى الله عليه وسلم، لعمر بن الخطاب، فحمل عليه في سبيل الله فوجده يباع. وقيل: كان له فرس اسمه اليعسوب. تفسير هذه الأسماء: السكب الكثير الجري، كأنما يصب جريه صباً. واللحيف سمي به لطول ذنبه كأنه يلحف الأرض بذنبه. أي يغطيها. ولزاز سمي به لشدة تلززه. والظرب سمي به لشدة خلقه، سمي بالجبل الصغير. والمرتجز سمي به لحسن صهيله. واليعسوب سمي به لأنه أجود خيله، لأن اليعسوب الرئيس. ؟ ذكر بغاله وحميره وإبله صلى الله عليه وسلم كانت له دلدل، وهي أول بغلة رؤيت في الإسلام، أهداها له المقوقس ومعها حمار اسمه عفير، وبقيت البلغة إلى زمن معاوية، وأهدى له فروة بن عمرة بغلة يقال لها فضة، فوهبها لأبي بكر، وحماره يعفور بقي بعد منصرفه من حجة الوداع. وأما إبله فكانت له القصوى، وهي التي أخذها من أبي بكر بأربعمائة درهم وهاجر عليها، وكانت من نعم بني الحريش، وبقيت مدة، وهي العضباء والجدعاء أيضاً. قال ابن المسيب: كان في طرف أذنها جدع، وقيل: لم يكن بها جدع. وأما لقاحه فكان له عشرون لقحة بالغابة، وهي التي أغار عليها القوم، يأتي لبنها أهله كل ليلة، وكان له لقاح غزار، منهن: الحناء والسمراء والعريس والسعدية والبغوم واليسيرة والريا ومهرة والشقراء. وأما منائحه، فكانت له سبع منائح من الغنم: عجوة وزمزم وسقيا وبركة وورسة وأطلال وأطراف، وسبع أعنز يرعاهن أيمن بن أم أيمن.
تفسير هذه الأسماء: عفير تصغير ترخيم الأعفر، وهو الأبيض بياضاً غير خالص، ومنه أيضاً اسم حماره يعفور، كأخضر ويخضور. البغام صوت الإبل، ومنه البغوم. والباقي لا يحتاج إلى شرح. ذكر أسماء سلاحه صلى الله عليه وسلمكان له ذو الفقار، غنمه يوم بدر، وكان لمنبه بن الحجاج، وقيل لغيره، وغنم من بني قينقاع ثلاثة أسياف: سيفاً قلعياً وسيفاً يدعى بتاراً وسيفاً يدع الحتف، وكان له المخذم ورسوب، وقدم معه المدينة سيفان شهد بأحدهما بدراً يسمى العضب. وكان له ثلاثة أرماح وثلاث قسي، قوس اسمها الروحاء وقوس تدعى البيضاء، وقوس نبع تدعى الصفراء، وكان له درع يقال لها الصعدية، وكان له درع يقال لها فضة، غنمها من بني قينقاع، وكان له درع تسمى ذات الفضول، كانت عليه يوم أحد، يه وفضة. وكان له ترس فيه تمثال رأس كبش، فكرهه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فأصبح وقد أذهبه الله عز وجل. تفسير هذه الأسماء: سمي السيف ذو الفقار لحفر فيهز والسيف المخذم القاطع. والرسوب الذي يمضي في الضربة ويثبت فيها. المجلد الثاني ذكر أحداث سنة إحدى عشرة في المحرم من هذه السنة ضرب النبي، صلى الله عليه وسلم، بعثاً إلى الشام وأميرهم أسامة بن زيد مولاه، وأمره أن يوطىء الخيل تخوم البلقاء والداروم من أرض فلسطين، فتكلم المنافقون في إمارته وقالوا: أمر غلاماً على جلة المهاجرين والأنصار. فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (إن تطعنوا في إمارته فقد طعنتم في إمارة أبيه من قبل، وإنه لخليق للإمارة، وكان أبوه خليقاً لها)، وأوعب مع أسامة المهاجرون الأولون، منهم: أبو بكر وعمر، فبينما الناس على ذلك ابتدىء برسول الله، صلى الله عليه وسلم، مرضه. ذكر مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم ووفاته ابتدىء برسول الله، صلى الله عليه وسلم، مرضه أواخر صفر في بيت زينب بنت جحش، وكان يدور على نسائه حتى اشتد مرضه في بيت ميمونة، فجمع نساءه فاستأذنهن أن يتمرض في بيت عائشة، ووصلت أخبار بظهور الأسود العنسي باليمن، ومسيلمة باليمامة، وطليحة في بني أسد، وعسكر بسميراء، وسيجيء ذكر أخبارهم إن شاء الله تعالى. فتأخر مسير أسامة لمرض رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ولخبر الأسود العنسي ومسيلمة، فخرج النبي، صلى الله عليه وسلم، عاصباً رأساً من الصداع فقال: إني رأيت فيما يرى النائم أن في عضدي سوارين من ذهب فكرهتهما فنفختهما فطارا، فأولتهما بكذاب اليمامة وكذاب صنعاء. وأمر بإنفاذ جيش أسامة وقال: (لعن الله الذين اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد). وخرج أسامة فضرب بالجرف العسكر وتمهل الناس، وثقل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ولم يشغله شدة مرضه على إنفاذ أمر الله، فأرسل إلى نفر من الأنصار في أمر الأسود، فأصيب الأسود في حياة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قبل وفاته بيوم، فأرسل إلى جماعة من الناس يحثهم على جهاد من عنهم من المرتدين. وقال أبو مويهبة مولى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أيقظني رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ليلة وقال: إني قد أمرت أن أستغفر لأهل البقيع، فانطلق معي فانطلقت معه فسلم عليهم ثم قال: ليهنئكم ما أصبحتم فيه، قد أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم. ثم قال: قد أوتيت مفاتيح خزائن الأرض والخلد بها، ثم الجنة، وخيرت بين ذلك وبين لقاء ربي، فاخترت لقاء ربي. ثم استغفر لأهل البقيع ثم انصرف، فبدىء بمرضه الذي قبض فيه. قالت عائشة: فلما رجع من البقيع وجدتي وأنا أجد صداعاً وأنا أقول: وارأساه! قال: بل أنا والله يا عائشة وارأساه! ثم قال: ما ضرك لو مت قبل فقمت عليك وكفنتك وصليت عليك ودفنتك؟ فقلت: كأني بك والله لو فعلت ذلك فرجعت إلى بيتي فعرست ببعض نسائك. فتبسم وتتام به وجعه وتمرض في بيتي.
فخرج منه يوماً بين رجلين أحدهما الفضل بن العباس والآخر علي، قال الفضل: فأخرجته حتى جلس على المنبر فحمد الله، وكان أول ما تكلم به النبي، صلى الله عليه وسلم، أن صلى على أصحاب أحد فأكثر واستغفر لهم، ثم قال: أيها الناس إنه قد دنا مني حقوق من بين أظهركم، فمن كنت جلدت له ظهراً فهذا ظهري فليستقد منه، ومن كنت شتمت له عرضاً فهذا عرضي فليستفد منه، ومن أخذت له مالاً فهذا مالي فليأخذ منه ولا يخش الشحناء من قبلي فإنها ليست من شأني، ألا وإن أحبكم إلي من أخذ مني حقاً إن كان له أو حللني فلقيت ربي وأنا طيب النفس. ثم نزل فصلى الظهر ثم رجع إلى المنبر فعاد لمقالته الأولى. فادعى عليه رجلٌ بثلاثة دراهم، فأعطاه عوضها. ثم قال: أيها الناس من كان عنده شيء فليؤده ولا يقل فضوح الدنيا، ألا وإن فضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة. ثم صلى على أصحاب أحد واستغفر لهم، ثم قال: إن عبداً خيره الله بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ما عنده. فبكى أبو بكر وقال: فديناك بأنفسنا وآبائنا! فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم. لا بيقين في المسجد باب إلا باب أبي بكر فإني لا أعلم أحداً أفضل في الصحبة عندي منه، ولو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن أخوة الإسلام. ثم أوصى بالأنصار فقال: يا معشر المهاجرين أصبحتم تزيدون وأصبحت الأنصار لا تزيد، والأنصار عيبتي التي أويت إليها، فأكرموا كريمهم وتجاوزوا عن مسيئهم. قال ابن مسعود: نعى إلينا نبينا وحبيبنا نفسه قبل موته بشهر. فلما دنا الفراق جمعنا في بيت عائشة فنظر إلينا فشدد ودمعت عيناه وقال: مرحباً بكم، حياكم الله، رحمكم الله، آواكم الله، حفظم الله، رفعكم الله، وفقكم الله، سلمكم الله، قبلكم الله، أوصيكم بتقوى الله، وأوصي الله بكم، وأستخلفه عليكم، وأؤديكم إليه، إني لكم منه نذير وبشير ألا تعلوا على الله في عباده وبلاده، فإنه قال لي ولكم: (تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً، والعاقبة للمتقين) القصص: صلى الله عليه وسلم. قلنا: فمتى أجلك؟ قال: دنا الفراق والمنقلب إلى الله وسدرة المنتهى والرفيق الأعلى وجنة المأوى. فقلنا: من يغسلك؟ قال: أهلي الأدنى فالأدنى. قلنا: فيم نكفنك؟ قال: في ثيابي هذه إن شئتم أو في بياض. قلنا: فمن يصلي عليك؟ قال: مهلاً، غفر الله لكم وجزاكم عن نبيكم خيراً. فبكينا وبكى، ثم قال: إذا غسلمتوني وكفتنتموني فضعوني على سريري على شفير قبري ثم اخرجوا عني ساعةً ليصلي علي جبرائيل وإسرافيل وميكائيل وملك الموت مع الملائكة، ثم ادخلوا علي فوجاً فوجاً فصلوا علي ولا تؤذوني بتزكية ولا رنة وليبدأ بالصلاة علي رجال أهل بيتي ثم نساؤهم ثم أنتم بعد، أقرئوا أنفسكم مني السلام، ومن غاب من أصحاب فاقرئوه مني السلام، وما تابعكم على ديني فاقرئوه السلام. قال ابن عباس: يوم الخميس وما يوم الخميس - ثم جرت دموعه على خديه - اشتد برسول الله، صلى الله عليه وسلم، مرضه ووجعه، فقال: إيتوني بدواة وبيضاء أكتب لكم كتاباً لا تضلون بعدي أبداً. فتنازعوا - ولا ينبغي عند نبي تنازع - فقالوا: إن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يهجر. فجعلوا يعيدون عليه، فقال: دعوني فما أنا فيه خيرٌ مما تدعونني إليه. فأوصى بثلاث: أن يخرج المشركون من جزيرة العرب، وأن يجاز الوفد بنحو مما كان يجيزهم. وسكت عن الثالثة عمداً أو قال: نسيتها. وخرج علي بن أبي طالب من عند رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في مرضه. فقال الناس: كيف أصبح رسول الله؟ قال: أصبح بحمد الله بارئاً. فأخذ بيده العباس فقال: أنت بعد ثلاث عبد العصا، وإن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، سيتوفى في مرضه هذا، وإني لأعرف الموت في وجوه بني عبد المطلب، فاذهب إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فاسأله فيمن يكون هذا الأمر، فإن كان فينا علمناه، وإن كان في غيرنا أمره أوصى بنا. فقال علي: لئن سألناها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فمنعناها لا يعطيناها الناس أبداً، والله لا أسألها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أبداً.
قال: فما اشتد الضحى حتى توفي رسول الله، صلى الله عليه وسلم. قالت عائشة: قالت أسماء بنت عميس: ما وجعه إلا ذات الجنب، فلو لددتموه، ففعلوا. فلما أفاق قال: لم فعلتم هذا؟ قالوا: ظننا أن بك ذات الجنب: قال: لم يكن الله ليسلطها علي. ثم قال: لا تبقن أحداً لددتموه إلا عمي، وكان العباس حاضراً، ففعلوا. قال أسامة: لما ثقل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، هبطت أنا ومن معي إلى المدينة فدخلنا عليه وقد صمت فلا يتكلم، فجعل يرفع يده إلى السماء ثم يضعها علي، فعلمت أنه يدعو لي. قالت عائشة: وكنت أسمع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول كثيراً: إن الله لم يقبض نبياً حتى يخيره. قالت: فلما احتضر كان آخر كلمة سمعتها منه وهو يقول: بل الرفيق الأعلى. قالت: قلت: إذاً والله لا يختارنا، وعلمت أنه تخير. ولما اشتد مرضه أذنه بلال بالصلاة فقال: مروا أبا بكر يصلي بالناس. قالت عائشة: فقلت: إنه رجل رقيق وإنه متى يقوم مقامك لا يطيق ذلك. فقال: مروا أبا بكر فيصلي بالناس. فقلت مثل ذلك، فغضب، وقال: إنكن صواحب يوسف، مروا أبا بكر يصلي بالناس. فتقدم أبو بكر، فلما دخل في الصلاة وجد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، خفة فخرج بين رجلين، فلما دنا من أبي بكر، تأخر أبو بكر، فأشار إليه أن قم مقامك، فقعد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يصلي إلى جنب أبي بكر جالساً، فكان أبو بكر يصلي بصلاة النبي والناس يصلون بصلاة أبي بكر وصلى أبو بكر بالناس سبع عشرة صلاة، وقيل: ثلاثة أيام. ثم إن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، خرج في اليوم الذي توفي فيه إلى الناس في صلاة الصبح، فكاد الناس يفتتنون في صلاتهم فرحاً برسول الله، صلى الله عليه وسلم، وتبسم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فرحاً لما رأى من هيئتهم في الصلاة، ثم رجع وانصرف الناس وهم يظنون أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قد أفاق من وجعه، ورجع أبو بكر إلى منزله بالسنح. قالت عائشة: رأيت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وهو يموت وعنده قدح فيه ماء يدخل يده في القدح ثم يمسح وجهه بالماء ثم يقول: اللهم أعني على سكرات الموت. قال: ثم دخل بعض آل أبي بكر وفي يده سواك، فنظر إليه نظراً عرفت أنه يريده، فأخذت فلينته ثم ناولته إياه، فاستن به ثم وضعه، ثم ثفل في حجري، قالت: فذهبت أنظر في وجهه وإذا بصره قد شخص وهو يقول: بل الرفيق الأعلى، فقبض، قالت: توفي وهو بين سحري ونحري، وحداثة سني أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قبض في حجري، فوضعت رأسه على وسادة وقمت ألتدم مع النساء وأضرب وجهي. ولما اشتد برسول الله، صلى الله عليه وسلم، وجعه ونزل به الموت جعل يأخذ الماء بيده ويجعله على وجهه ويقول: واكرباه! فتقول فاطمة: واكربي لكربك يا أبتي! فيقول رسول الله، صلى الله عليه وسلم. لا كرب على أبيك بعد اليوم، فلما رأى شدة جزعها استدناها وسارها، فبكت، ثم سارها الثانية فضحكت، فلما توفي رسول الله سألتها عائشة عن ذلك، قالت: أخبرني أنه ميت فبكيت، ثم أخبرني أني أول أهله لحوقاً به، فضحكت. وروي عنها أنها قالت: ثم سارني الثاني وأخبرني أني سيدة نساء أهل الجنة، فضحكت. وكان موته يوم الاثنين لثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول، ودفن من الغد نصف النهار، وقيل: مات نصف النهار يوم الاثنين لليلتين بقيتا من ربيع الأول.
ولما توفي كان أبو بكر بمنزله بالسنح، وعمر حاضر، فلما توفي قام عمر فقال: إن رجالاً من المنافقين يزعمون أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، توفي وإنه والله ما مات ولكنه ذهب إلى ربه كما ذهب موسى ابن عمران، والله ليرجعن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم زعموا أنه مات. وأقبل أبو بكر وعمر يكلم الناس، فدخل على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وهو مسجىًّ في ناحية البيت فكشف عن وجهه ثم قبله وقال: بأبي أنت وأمي طبت حياً وميتاً، أما الموتة التي كتب الله عليك فقد ذقتها. ثم رد الثوب على وجهه ثم خرج، وعمر يكلم الناس، فأمره بالسكوت فأبى، فأقبل أبو بكر على الناس، فلما سمع الناس كلامه أقبلوا عليه وتركوا عمر، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، ثم تلا هذه الآية: (وما محمدٌ إلا رسولٌ قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين) آل عمران: النبي، صلى الله عليه وسلم، . قال: فوالله لكأن الناس ما سمعوها إلا منه. قال عمر: فوالله ما هو إلا إذ سمعتها فعقرت حتى وقعت على الأرض ما تحملني رجلاي، وقد علمت أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قد مات. ولما توفي رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ووصل خبره إلى مكة وعامله عليها عتاب بن أسيد بن أبي العاص بن أمية استخفى عتاب وارتجت مكة وكاد أهلها يرتدون، فقام سهيل بن عمرو على باب الكعبة وصاح بهم، فاجتمعوا إليه، فقال: يا أهل مكة لا تكونوا آخر من أسلم وأول من ارتد، والله ليتمن الله هذا الأمر كما ذكر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فلقد ررأيته قائماً مقامي هذا وحده وهو يقول: قولوا معي لا إله إلا الله تدن لكم العرب وتؤد إليكم العجم الجزية، والله لتنفقن كنوز كسرى وقيصر في سبيل الله، فمن بين مستهزىء ومصدق فكان ما رأيتم، والله ليكونن الباقي. فامتنع الناس من الردة. وهذا المقام الذي قاله رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لما أسر سهيل بن عمرو في بدر لعمر بن الخطاب، وقد ذكر هناك. حديث السقيفة وخلافة أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه لما توفي رسول الله، صلى الله عليه وسلم، اجتمع الأنصار في سقيفة بني ساعدة ليبايعوا سعد بن عبادة، فبلغ ذلك أبا بكر فأتاهم ومعه عمر وأبو عبيدة بن الجراح، فقال: ما هذا؟ فقالوا: منا أمير ومنكم أمير. فقال أبو بكر: منا الأمراء ومنكم الوزراء. ثم قال أبو بكر: قد رضيت لكم أحد هذين الرجلين عمر وأبا عبيدة أمين هذه الأمة. فقال عمر: أيكم يطيبب نفساً أن يخلف قدمين قدمهما النبي صلى الله عليه وسلم؟ فبايعه عمر وبايعه الناس. فقالت الأنصار أبو بعض الأنصار: لا نبايع إلا علياً. قال: وتخلف علي وبنو هاشم والزبير وطلحة عن البيعة. وقال الزبير: لا أغمد سيفاً حتى يبايع علي. فقال عمر: خذوا سيفه واضربوا به الحجر، ثم أتاهم عمر فأخذهم للبيعة. وقيل: لما سمع علي بيعة أبي بكر خرج في قميص ما عليه إزار ولا رداء عجلاً حتى بايعه، ثم استدعى إزاره ورداءه فتجلله. والصحيح: أن أمير المؤمنين ما بايع إلا بعد ستة أشهر، والله أعلم. وقيل: لما اجتمع الناس على بيعة أبي بكر أقبل أبو سفيان وهو يقول: إني لأرى عجاجةً لا يطفئها إلا دم، يا آل عبد مناف فيم أبو بكر من أموركم؟ أين المستضعفان؟ أين الأذلان علي والعباس؟ ما بال هذا الأمر في أقل حي من قريش؟ ثم قال لعلي: ابسط يدك أبايعكم، فوالله لئن شئت لأملأنها عليه خيلاً ورجلاً. فأبى علي، رضي الله عنه، فتمثل بشعر المتلمس: ولن يقيم على خسفٍ يراد به ... إلا الأذلان عير الحي والوتد هذا على الخسف مربوط برمته ... وذا يشج فلا يبكي له أحد فزجره علي وقال: والله إنك ما أردت بهذا إلا الفتنة، وإنك والله طالما بغيت للإسلام شراً! لا حاجة لنا في نصيحتك.
وقال ابن عباس: كنت أقرىء عبد الرحمن بن عوف القرآن فحج وحججنا معه، فقال لي عبد الرحمن: شهدت أمير المؤمنين اليوم بمنىً، وقال له رجل: سمعت فلاناً يقول: لو مات عمر لبايعت فلاناً، فقال عمر: إني لقائم العشية في الناس أحذرهم هؤلاء الرهط الذين يريدون أن يغتصبوا الناس أمرهم. قال: فقلت: يا أمير المؤمنين إن الموسم يجمع رعاع الناس وغوغاءهم وهم الذين يغلبون على مجلسك، وأخاف أن تقول مقالةً لا يعوها ولا يحفظوها ويطيروا بها، ولن أمهل حتى تقدم المدينة وتخلص بأصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فتقول ما قلت فيعوا مقاتلك. فقال: والله لأقومن بها أول مقام أقومه بالمدينة. قال: فلما قدمت المدينة هجرت يوم الجمعة لحديث عبد الرحمن، فلما جلس عمر على المنبر حمد الله وأثنى عليه ثم قال بعد أن ذكر الرجم وما نسخ من القرآن فيه: إنه بلغني أن قائلاً منكم يقول: لو مات أمير المؤمنين بايعت فلاناً، فلا يغرن أمراً أن يقول: إن بيعة أبي بكر كانت فتنة، فقد كانت كذلك ولكن الله وقى شرها، وليس منكم من تقطع إليه الأعناق مثل أبي بكر، وإنه كان خيرنا حين توفي رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وإن علياً والزبير ومن تخلفوا عنا في بيت فاطمة وتخلفت عنا الأنصار واجتمع المهاجرون إلى أبي بكر، فقلت له: انطلق بنا إلى إخواننا من الأنصار، فانطلقنا نحوهم فلقينا رجلان صالحان من الأنصار، أحدهما عويم بن ساعدة، والثاني معن بن عدي، فقالا لنا: ارجعوا أقضوا أمركم بينكم. قال: فأتينا الأنصار وهم مجتمعون في سقيفة بني ساعدة وبين أظهرهم رجل مزمل، قلت: من هذا؟ قالوا: سعد بن عبادة وجع، فقام رجل منهم فحمد الله وأثنى عليه وقال: أما بعد فنحن الأنصار وكتيبة الإسلام، وأنتم يا معشر قريش رهط بيننا وقد دفت إلينا دافة من قومكم، فإذا هم يريدون أن يغصبونا الأمر. فلما سكت وكنت قد زورت في نفسي مقالة أقولها بين يدي أبي بكر، فلما أردت أن أتكلم قال أبو بكر: على رسلك! فقام فحمد الله وما ترك شيئاً كنت زورت في نفسي إلا جاء به أو بأحسن منه وقال: يا معشر الأنصار إنكم لا تذكرون فضلاً إلا وأنتم له أهل، وإن العرب لا تعرف هذا الأمر إلا لقريش، هم أوسط العرب داراً ونسباً، وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين. وأخذ بيدي وبيد أبي عبيدة بن الجراح، وإني والله ما كرهت من كلامه كلمة غيرها، إن كنت أقدم فتضرب عنقي فيما لا يقربني إلى إثم أحب إلي من أن أؤمر على قوم فيهم أبو بكر. فلما قضى أبو بكر كلامه قام منهم رجل فقال: أنا جذيلها المحكم وعذيقها المرجب، منا أمير ومنكم أمير. وارتفعت الأصوات واللغط، فلما خفت الاختلاف قلت لأبي بكر: ابسط يدك أبايعك؛ فبسط يده فبايعه وبايعه الناس، ثم نزونا على سعد بن عبادة، فقال قائلهم: قتلتم سعداً. فقلت: قتل الله سعداً، وإنا والله ما وجدنا أمراً هو أقوى من بيعة أبي بكر، خشيت إن فارقت القوم ولم تكن بيعة أن يحدثوا بعدنا بيعة، فإما أن نتابعهم على ما لا نرضى به، وإما أن نخالفهم فيكون فساداً. وقال أبو عمرة الأنصاري: لما قبض النبي، صلى الله عليه وسلم، اجتمعت الأنصار في سقيفة بني ساعدة وأخرجوا سعد بن عبادة ليولوه الأمر، وكان مريضاً، فقال بعد أن حمد الله: يا معشر الأنصار لكم سابقة في الدين وفضيلة في الإسلام ليست لأحد من العرب، إن محمداً، صلى الله عليه وسلم، لبث في قومه بضع عشرة سنة يدعوهم إلى عبادة الرحمن وخلع الأنداد والأوثان فما آمن به إلا القليل، ما كانوا يقدرون على منعه ولا على إعزاز دينه ولا على دفع ضيم، حتى إذا أراد بكم الفضيلة ساق إليكم الكرامة ورزقكم الإيمان به وبرسوله والمنع له ولأصحابه والإعزاز له ولدينه والجهاد لأعدائه فكنتم أشد الناس على عدوه حتى استقامت العرب لأمر الله طوعاً وكرهاً وأعطى البعيد المقادة صاغراً فدانت لرسوله بأسيافكم العرب، وتوفاه الله وهو عنكم راضٍ وبكم قرير العين. استبدوا بهذا الأمر دون الناس، فإنه لكم دونهم.
فأجابوا بأجمعهم: أن قد وفقت وأصبت الرأي ونحن نوليك هذا الأمر فإنك مقنعٌ ورضاً للمؤمنين. ثم إنهم ترادوا الكلام فقالوا: وإن أبى المهاجرون من قريش وقالوا نحن المهاجرون وأصحابه الأولون وعشيرته وأولياؤه! فقالت طائفة منهم: فإنا نقول منا أمير ومنكم أمير ولن نرضى بدون هذا أبداً. فقال سعد: هذا أول الوهن. وسمع عمر الخبر فأتى منزل النبي، صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر فيه، فأرسل إليه أن اخرج إلي. فأرسل إليه. إني مشتغل. فقال عمر: قد حدث أمر لابد لك من حضوره. فخرج إليه فأعلمه الخبر، فمضيا مسرعين نحوهم ومعهما أبو عبيدة. قال عمر: فأتيناهم وقد كنت زورت كلاماً أقوله لهم، فلما دنوت أقول أسكتني أبو بكر وتكلم بكل ما أردت أن أقول، فحمد الله وقال: إن الله قد بعث فينا رسولاً إلى خلقه شهيداً على أمته ليعبدوه ويوحدوه وهم يعبدون من دونه آلهةً شتى من حجر وخشب، فعظم على العرب أن يتركوا دين آبائهم. فخص الله المهاجرين الأولين من قومه بتصديقه والمواساة له والصبر معه على شدة أذى قومهم لهم وتكذيبهم إياهم، وكل الناس لهم مخالفٌ زارٍ عليهم، فلم يستوحشوا لقلة عددهم وشنف الناس لهم، فهم أول من عبد الله في هذه الأرض وآمن بالله وبالرسول، وهم أولياؤه وعشيرته وأحق الناس بهذا الأمر من بعده لا ينازعهم إلا ظالم، وأنتم أولياؤه وعشيرته وأحق الناس بهذا الأمر من بعده لا ينازعهم إلا ظالم، وأنتم يا معشر الأنصار، من لا ينكر فضلهم في الدين ولا سابقتهم في الإسلام، رضيكم الله أنصاراً لدينه ورسوله وجعل إليكم هجرته وفيكم جلة أزواجه وأصحابه فليس بعد المهاجرين الأولين عندنا بمنزلتكم، فنحن الأمراء وأنتم الوزراء، لا تفاوتون بمشورة ولا تقضي دونكم الأمور. فقام حباب بن المنذر بن الجموح فقال: يا معشر الأنصار املكوا عليكم أمركم فإن الناس في ظلكم ولن يجترىء مجترىء على خلافكم ولا يصدروا إلا عن رأيكم، أنتم أهل العز وأولو العدد والمنعة وذوو البأس والنجدة، وإنما ينظر الناس ما تصنعون، ولا تختلفوا فيفسد عليكم أمركم، أبى هؤلاء إلا ما سمعتم، فمنا أمير ومنكم أمير. فقال عمر: هيهات لا يجتمع اثنان في قرن! والله لا ترضى العرب أن تؤمركم ونبينا من غيركم، ولا تمتنع العرب أن تولي أمرها من كانت النبوة فيهم، ولنا بذلك الحجة الظاهرة، من ينازعنا سلطان محمد ونحن أولياؤه وعشيرته! فقال الحباب بن المنذر: يا معشر الأنصار املكوا على أيديكم ولا تسمعوا مقالة هذا وأصحابه فيذهبوا بنصيبكم من هذا الأمر، فإن أبوا عليكم ما سألتموه فأجلوهم عن هذه البلاد وتولوا عليهم هذه الأمور، فأنتم والله أحق بهذا الأمر منهم، فإنه بأسيافكم دان الناس لهذا الدين، أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب! أنا أبو شبل في عرينة الأسد، والله لئن شئتم لنعيدنها جذعةً. فقال عمر: إذاً ليقتلك الله! فقال: بل إياك يقتل. فقال أبو عبيدة: يا معشر الأنصار إنكم أول من نصر فلا تكونوا أول من بدل وغير! فقام بشير بن سعد أبو النعمان بن بشير فقال: يا معشر الأنصار إنا والله وإن كنا أولي فضيلة في جهاد المشركين وسابقة في هذا الدين ما أردنا به إلا رضى ربنا وطاعة نبينا والكدح لأنفسنا، فيما ينبغي أن نستطيل على الناس بذلك ولا نبتغي به الدنيا، ألا إن محمداً، صلى الله عليه وسلم، من قريش وقومه أولى به، وايم الله لا يراني الله أنازعهم هذا الأمر، فاتقوا الله ولا تخالفوهم ولا تنازعوهم. فقال أبو بكر: هذا عمر وأبو عبيدة فإن شئتم فبايعوا. فقالا: والله لا نتولى هذا الأمر عليك وأنت أفضل المهاجرين وخليفة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في الصلاة، وهي أفضل دين المسلمين، ابسط يدك نبايعك. فلما ذهبا يبايعانه سبقهما بشير بن سعد فبايعه، فناداه الحباب بن المنذر: عققت عقاقاً ما أحوجك إلى ما صنعت! أنفست على ابن عمك الإمارة؟ فقال: لا والله ولكني كرهت أن أنازع القوم حقهم. ولما رأت الأوس ما صنع بشير وما تطلب الخزرج من تأمير سعد قال بعضهم لبعض، وفيهم أسيد بن حضير، وكان نقيباً: والله لئن وليتها الخزرج مرة لا زالت لهم عليكم بذلك الفضيلة ولا جعلوا لكم فيها نصيباً أبداً، فقوموا فبايعوا أبا بكر فقاموا إليه فبايعوه، فانكسر على سعد والخزرج ما أجمعوا عليه، وأقبل الناس يبايعون أبا بكر من كل جانب.
ثم تحول سعد بن عبادة إلى داره فبقي أياماً، وأرسل إليه ليبايع فإن الناس قد بايعوا، فقال: لا والله حتى أرميكم بما في كنانتي من نبلي، وأخضب سنان رمحي، وأضرب بسيفي، وأقاتلكم بأهل بيتي ومن أطاعني، ولو اجتمع معكم الجن والإنس ما بايعتكم حتى أعرض على ربي. فقال عمر: لا تدعه حتى يبايع. فقال بشير بن سعد: إنه قد لج وأبى ولا يبايعكم حتى يقتل، وليس بمقتول حتى يقتل معه أهله وطائفة من عشيرته، فاتركوه ولا يضركم تركه، وإنما هو رجل واحد. فتركوه. وجاءت أسلم فبايعت، فقوي أبو بكر بهم، وبايع الناس بعد. قيل إن عمرو بن حريث قال لسعيد بن زيد: متى بويع أبو بكر؟ قال: يوم مات رسول الله، صلى الله عليه وسلم، كرهوا أن يبقوا بعض يوم وليسوا في جماعة. قال الزهري: بقي علي وبنو هاشم والزبير ستة أشهر لم يبايعوا أبا بكر حتى ماتت فاطمة، رضي الله عنها، فبايعوه. فلما كان الغد من بيعة أبي بكر جلس على المنبر وبايعه الناس بيعة عامة، ثم تكلم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني، الصدق أمانة والكذب خيانة، والضعيف فيكم قوي عندي حتى آخذ له حقه، والقوي ضعيف عندي حتى آخذ من الحق إن شاء الله تعالى، لا يدع أحد منكم الجهاد فإنه لا يدعه قوم إلا ضربهم الله بالذل، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم، قوموا إلى صلاتكم رحمكم الله. أسيد بن حضير بضم الهمزة، وبالحاء المهملة المضمومة، وبالضاد المعجمة، وآخره راء. ذكر تجهيز النبي صلى الله عليه وسلم ودفنه | |
|
 | |
الشيخ عودة الشيخ عودة

عدد المساهمات : 1748 تاريخ التسجيل : 28/09/2008 العمر : 72
 | موضوع: رد: كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير الجمعة فبراير 07, 2014 9:08 am | |
| وكان النبي، صلى الله عليه وسلم، قد جمع لباذان حين أسلم وأسلم أهل اليمن عمل اليمن جميعه وأمره على جميع مخاليفه، فلم يزل عاملاً عليه حتى مات. فلما مات باذان فرق رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أمراءه في اليمن، فاستعمل عمرو بن حزم على نجران، وخالد بن سعيد بن العاص على ما بين نجران وزبيد، وعامر بن شهر على همدان، وعلى صنعاء شهر ابن باذان، وعلى عك والأشعريين الطاهر بن أبي هالة، وعلى مأرب أبا موسى، وعلى الجند يعلى بن أمية، وكان معاذ معلماً يتنقل في عمالة كل عامل باليمن وحضرموت، واستعمل على أعمال حضرموت زياد بن لبيد الأنصاري، وعلى السكاسك والسكون عكاشة بن ثور، وعلى بني معاوية ابن كندة عبد الله أو المهاجر، فاشتكى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فلم يذهب حتى وجهه أبو بكر، فمات رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وهؤلاء عماله على اليمن وحضرموت. وكان أول من اعترض الأسود الكاذب شهر وفيروز وداذويه، وكان الأسود العنسي لما عاد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، من حجة الوداع وتمرض من السفر غير مرض موته بلغه ذلك، فادعى النبوة، وكان مشعبذاً يريهم الأعاجيب، فاتبعه مذحج، وكانت ردة الأسود أول ردة في الإسلام على عهد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وغزا نجران فأخرج عنها عمرو ابن حزم وخالد بن سعيد، ووثب قيس بن عبد يغوث بن مكشوح على فروة ابن مسيك، وهو على مراد، فأجلاه ونزل منزله، وسار الأسود عن نجران إلى صنعاء، وخرج إليه شهر بن باذان فلقيه، فقتل شهر لخمس وعشرين ليلة من خروج الأسود، وخرج معاذ هارباً حتى لحق بأبي موسى وهو بمأرب، فلحقا بحضرموت، ولحق بفروة من تم على إسلامه من مذحج. واستتب للأسود ملك اليمن، ولحق أمراء اليمن إلى الطاهر بن أبي هالة إلا عمراً وخالداً، فإنهما رجعا إلى المدينة، والطاهر بجبال عك وجبال صنعاء، وغلب الأسود على ما بين مفازة حضرموت إلى الطائف إلى البحرين والأحساء إلى عدن، واستطار أمره كالحريق، وكان معه سبعمائة فارس يوم لقي شهراً سوى الركبان، واستغلظ أمره، وكان خليفته في مذحج عمرو ابن معدي كرب، وكان خليفته على جنده قيس بن عبد يغوث، وأمر الأبناء إلى فيروز وداذويه. وكان الأسود تزوج امرأة شهر بن باذان بعد قتله، وهي ابنة عم فيروز. وخاف من بحضرموت من المسلمين أن يبعث إليهم جيشاً، أو يظهر بها كذاب مثل الأسود، فتزوج معاذ إلى السكون، فعطفوا عليه. وجاء إليهم وإلى من باليمن من المسلمين كتب النبي، صلى الله عليه وسلم، يأمرهم بقتال الأسود، فقام معاذ في ذلك وقويت نفوس المسلمين، وكان الذي قدم بكتاب النبي، صلى الله عليه وسلم، وبر بن يحنس الأزدي، قال جشنس الديلمي: فجاءتنا كتب النبي، صلى الله عليه وسلم، يأمرنا بقتاله إما مصادمةً أو غيلةً، يعني إليه وإلى فيروز وداذويه، وأن نكاتب من عنده دين. فعملنا في ذلك، فرأينا أمراً كثيفاً، وكان قد تغير لقيس بن عبد يغوث، فقلنا: إن قيساً يخاف على دمه فهو لأول دعوة، فدعوناه وأبلغناه عن النبي، صلى الله عليه وسلم، فكأنما نزلنا عليه من السماء، فأجابنا، وكاتبنا الناس. فأخبره الشيطان شيئاً من ذلك، فدعا قيساً فأخبره أن شيطانه يأمره قبتله لميله إلى عدوه، فحلف قيس: لأنت أعظم في نفسي من أن أحدث نفسي بذلك. ثم أتانا فقال: يا جشنس ويا فيروز ويا داذويه، فأخبرنا بقول الأسود. فبينا نحن معه يحدثنا إذ أرسل إلينا الأسود فتهددنا، فاعتذرنا إليه ونجونا منه ولم نكد وهو مرتاب بنا ونحن نحذره. فبينا نحن على ذلك إذ جاءتنا كتب عامر بن شهر وذي زودٍ مران وذي الكلاع وذي ظليم يبذلون لنا النصر، فكاتبناهم وأمرناهم أن لا يفعلوا شيئاً حتى نبرم أمرنا، وإنما اهتاجوا لذلك حين كاتبهم النبي، صلى الله عليه وسلم، وكتب أيضاً إلى أهل نجران فأجابوه، وبلغ ذلك الأسود وأحس بالهلاك.
قال: فدخلت على آزاد، وهي امرأته التي تزوجها بعد قتل زوجها شهر ابن باذان، فدعوتها إلى ما نحن عليه وذكرتها قتل زوجها شهر وإهلاك عشيرتها وفضيحة النساء. فأجابت وقالت: والله ما خلق الله شخصاً أبغض إلي منه، ما يقوم لله على حق ولا ينتهي عن محرم، فأعلموني أمركم أخبركم بوجه الأمر. قال: فخرجت وأخبرت فيروز وداذويه وقيساً. قال: وإذ قد جاء رجل فدعا قيساً إلى الأسود، فدخل في عشرة من مذحج وهمدن فلم يقدر على قتله معهم وقال له: ألم أخبرك الحق وتخبرني الكذب؟ إنه، يعني شيطانه، يقول لي: إلا تقطع من قيس يده يقطع رقبتك. فقال قيس: إنه ليس من الحق أن أهلك وأنت رسول الله، فمرني بما أحببت أو اقتلني، فموته أهون من موتات. فرق له وتركه، وخرج قيس فمر بنا وقال: اعملوا عملكم. ولم يعقد عندنا. فخرج علينا الأسود في جمع، فقمنا له وبالباب مائة ما بين بقرة وبعير، فنحرها ثم خلاها، ثم قال: أحق ما بلغني عنك يا فيروز؟ - وبوأ له الحربة - لقد هممت أن أنحرك. فقال: اخترتنا لصهرك وفضلتنا على الأبناء، فلو لم تكن نبياً لما بعنا نصيبنا منك بشيء، فكيف وقد اجتمع لنا بك أمر الدنيا والآخرة فإنا بحيث تحب فقال له: اقسم هذه، فقسمها، ولحق به وهو يسمع سعاية رجل بفيروز وهو يقول له: أنا قاتله غداً وأصحابه، ثم التفت فإذا فيروز فأخبره بقسمتها، ودخل الأسود ورجع فيروز فأخبرنا الخبر، فأرسلنا إلى قيس فجاءنا، فاجتمعنا على أن أعود إلى المرأة فأخبرها بعزيمتنا ونأخذ رأيها، فأتيتها فأخبرتها، فقالت: هو متحرز وليس من القصر شيء إلا والحرس محيطون به غير هذا البيت، فإن ظهره إلى مكان كذا وكذا، فإذا أمسيتم فانقبوا عليه فإنكم من دون الحرس وليس دون قتله شيء، وستجدون فيه سراجاً وسلاحاً. فخرجت فتلقاني الأسود خارجاً من بعض منازله فقال: ما أدخلك علي؟ ووجأ رأسي حتى سقطت، وكان شديداً، فصاحت المرأة فأدهشته عني ولولا ذلك لقتلني وقالت: جاءني ابن عمي زائراً ففعلت به هذا؟ فتركني، فأتيت أصحابي فقلت: النجاء! الهرب! وأخبرتهم الخبر. فإنا على ذلك حيارى إذ جاءنا رسولها يقول: لا تدعن ما فارقتك عليه، فلم أزل به حتى اطمأن. فقلنا لفيروز: إيتها فتثبت منها. ففعل، فلما أخبرته قال: ننقب على بيوت مبطنة، فدخل فاقتلع البطانة وجلس عندها كالزائر، فدخل عليها الأسود فأخذته غيرة، فأخبرته برضاع وقرابة منها عنده محرم، فأخرجه. فلما أمسينا عملنا في أمرنا وأعملنا أشياعنا وعجلنا عن مراسلة الهمدانيين والحميريين فنقبنا البيت من خارج ودخلنا، وفيه سراج تحت جفنة، واتقينا بفيروز، كان أشدنا فقلنا: انظر ماذا ترى، فخرج ونحن بينه وبين الحرس. فلما دنا من باب البيت سمع غطيطاً شديداً والمرأة قاعدة، فلما قام على باب البيت أجلسله الشيطان وتكلم على لسانه وقال: ما لي ولك يا فيروز! فخشي إن رجع أن يهلك وتهلك المرأة فعاجله وخالطه وهو مثل الجمل فأخذ برأسه فقتله ودق عنقه ووضع ركبته في ظهره فدقه ثم قام ليخرج، فأخذت المرأة بثوبه وهي ترى أنه لم يقتله. فقال: قد قتلته وأرحتك منه، وخرج فأخبرنا، فدخلنا معه، فخار كما يخور الثور، فقطعت رأسه بالشفرة، وابتدر الحرس المقصورة يقولون: ما هذا؟ فقالت المرأة: النبي يوحى إليه! فخمدوا، وقعدنا نأتمر بيننا، فيروز وداذويه وقس، كيف نخبر أشياعنا، فاجتمعنا على النداء. فلما طلع الفجر نادينا بشعارنا الذي بيننا وبين أصحابنا، ففزع المسلمون والكافرون، ثم نادينا بالأذان فقلت: أشهد أن محمداً رسول الله وأن عيهلة كذاب! وألقينا إليهم رأسه، وأحاط بنا أصحابه وحرسه وشنوا الغارة وأخذوا صبياناً كثيرة وانتهبوا. فنادينا أهل صنعاء من عنده منهم فأمسكه، ففعلوا. فلما خرج أصحابه فقدوا سبعين رجلاً، فراسلونا وراسلناهم على أن يتركوا لنا ما في أيديهم ونترك ما في أيدينا، ففعلنا، ولم يظفروا منا بشيء، وترددوا في ما بين صنعاء ونجران. وتراجع أصحاب النبي، صلى الله عليه وسلم، إلى أعمالهم، وكان يصلي بنا معاذ بن جبل، وتبنا إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بخبره، وذلك في حياته. وأتاه الخبر من ليلته، وقدمت رسلنا، وقد توفي رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فأجابنا أبو بكر.
قال ابن عمر: أتى الخبر من السماء إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، في ليلته التي قتل فيها، فقال: (قتل العنسي، قتله رجل مبارك من أهل بيت مباركين)، قيل: من قتله؟ قال: (قتله فيروز). قيل: كان أول أمر العنسي إلى آخره ثلاثة أشهر، وقيل قريب من أربعة أشهر، وكان قدوم البشير بقتله في آخر ربيع الأول بعد موت النبي، صلى الله عليه وسلم، فكان أول بشارة أتت أبا بكر وهو بالمدينة. قال فيروز: لما قتلنا الأسود عاد أمرنا كما كان، وأرسلنا إلى معاذ بن جبل فصلى بنا ونحن راجون مؤملون لم يبق شيء نكرهه إلا تلك الخيول من أصحاب الأسود، فأتى موت النبي، صلى الله عليه وسلم، فانتقضت الأمور واضطربت الأرض. العنسي بالعين والنون. وفي هذه السنة ماتت فاطمة بنت النبي، صلى الله عليه وسلم، في ليلة الثلاثاء لثلاث خلون من رمضان وهي ابنة تسع وعشين سنة أو نحوها، وقيل: توفيت بعد النبي، صلى الله عليه وسلم، بثلاثة أشهر، وقيل: بستة أشهر، وغسلها علي وأسماء بنت عميس، وصلى عليها العباس بن عبد المطلب، ودخل قبرها العباس وعلي والفضل بن العباس. وفيها توفي عبد الله بن أبي بكر الصديق، وكان أصابه سهم بالطائف وهو مع النبي، صلى الله عليه وسلم، رماه به أبو محجن ثم انتفض عليه فمات في شوال. وفي هذا العام الذي بويع فيه أبو بكر ملك يزدجر بلاد فارس. وفيه، أعني سنة إحدى عشرة، اشترى عمر بن الخطاب مولاه أسلم بمكة من ناس من الأشعريين. ذكر أخبار الردةقال عبد الله بن مسعود: لقد قمنا بعد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، مقاماً كدنا نهلك فيه لولا أن الله من علينا بأبي بكر، أجمعنا على أن لا نقاتل على ابنة مخاض وابنة لبون، وأن نأكل قرى عربية ونعبد الله حتى يأتينا اليقين، فعزم الله لأبي بكر على قتالهم، فوالله ما رضي منهم إلا بالخطة المخزية أو الحرب المجلية، فأما الخطة المخزية فأن يقروا بأن من قتل منهم في النار ومن قتل منا في الجنة، وأن يدوا قتلانا ونغنم ما أخذنا منهم، وأن ما أخذوا منا مردودٌ علينا. وأما الحرب المجلية فأن يخرجوا من ديارهم. وأما أخبار الردة فإنه لما مات النبي، صلى الله عليه وسلم، وسير أبو بكر جيش أسامة ارتدت العرب وتضرمت الأرض ناراً وارتدت كل قبيلة عامة أو خاصة إلا قريشاً وثقيفاً، واستغلظ أمر مسيلمة وطليحة، واجتمع على طليحة عوام طيء وأسد، وارتدت غطفان تبعاً لعيينة بن حصن، فإنه قال: نبي من الحليفين، يعني أسداً وغطفان، أحب إلينا من نبي من قريش، وقد مات محمد وطليحة حي، فاتبعه وتبعته غطفان. وقدمت رسل النبي، صلى الله عليه وسلم، من اليمامة وأسد وغيرهما وقد مات فدفعوا كتبهم لأبي بكر وأخبروه الخبر عن مسيلمة وطليحة، فقال: لا تبرحوا حتى تجيء رسل أمرائكم وغيرهم بأدهى مما وصفتهم، فكان كذلك، وقدمت كتب أمراء النبي، صلى الله عليه وسلم، من كل مكان بانتفاض العرب عامة أو خاصة وتسلطهم على المسلمين، فحاربهم أبو بكر بما كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يحاربهم، بالرسل، فرد رسلهم بأمره وأتبع رسلهم رسلاً وانتظر بمصادمتهم قدوم أسامة، فكان عمال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، على قضاعة وكلب امرؤ القيس بن الأصبغ الكلبي، وعلى القين عمرو بن الحكم، وعلى سعد هذيم معاوية الوالبي، فارتد وديعة الكلبي فيمن تبعه، وبقي امرؤ القيس على دينه، وارتد زميل بن قطبة القيني، وبقي عمرو، وارتد معاوية فيمن اتبعه من سعد هذيم، فكتب أبو بكر إلى امرىء القيس، وهو جد سكينة بنت الحسين، فسار بوديعة إلى عمرو، فأقام لزميل، وإلى معاوية العذري، وتوسطت خيل أسامة ببلاد قضاعة فشن الغارة فيهم، فغنموا وعادوا سالمين. ذكر خبر طليحة الأسدي
وكان طليحة بن خويلد الأسدي من بني أسد بن خزيمة قد تنبأ في حياة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فوجه إليه النبي، صلى الله عليه وسلم، ضرار بن الأزور عاملاً على بني أسد وأمرهم بالقيام على من ارتد، فضعف أمر طليحة حتى لم يبق إلا أخذه، فضربه بسيف، فلم يصنع فيه شيئاً، فظهر بين الناس أن السلاح لا يعمل فيه، فكثر جمعه. ومات النبي، صلى الله عليه وسلم، وهم على ذلك، فكان طليحة يقول: إن جبرائيل يأتيني، وسجع للناس الأكاذيب، وكان يأمرهم بترك السجود في الصلاة ويقول: إن الله لا يصنع بتعفر وجوهم وتقبح أدباركم شيئاً، اذكروا الله أعفة قياماًن إلى غير ذلك، وتبعه كثير من العرب عصبيةً، فلهذا كان أكثر أتباعه من أسد وغطفان وطيء. فسارت فزارة وغطفان إلى جنوب طيبة، وأقامت طيء على حدود أراضيهم وأسد بسميراء، واجتمعت عبس وثعلبة ابن سعد ومرة بالأبرق من الربذة، واجتمع إليهم ناس من بني كنانة، فلم تحملهم البلاد فافترقوا فرقتين، أقامت فرقة بالأبرق، وسارت فرقة إلى ذي القصة، وأمدهم طليحة بأخيه حبال، فكان عليهم وعلى من معهم من الدئل وليث ومدلج، وأرسلوا إلى المدينة يبذلون الصلاة ويمنعون الزكاة، فقال أبو بكر: (والله لو منعوني عقالاً لجاهدتهم عليه). وكان عقل الصدقة على أهل الصدقة وردهم، فرجع وفدهم، فأخبروهم بقلة من في المدينة وأطمعوهم فيها. وجعل أبو بكر بعد مسير الوفد على أنقاب المدينة علياً وطلحة والزبير وابن مسعود، وألزم أهل المدينة بحضور المسجد خوف الغارة من العدو لقربهم، فما لبثوا إلا ثلاثاً حتى طرقوا المدينة غارة مع الليل وخلفوا بعضهم بذي حسى ليكونوا لهم ردءاً، فوافوا ليلاً الأنقاب وعليها المقاتلة فمنعوهم، وأرسلوا إلى أبي بكر بالخبر فأرسل إليهم أبو بكر أن الزموا أماكنكم ففعلوا، فرج إلى أهل المسجد على النواضح، فردوا العدو واتبعوهم حتى بلغوا ذا حسىً، فخرج عليهم الردء بأنحاء قد نفخوها وفيها الحبال، ثم دهدهوها بأرجلهم على الأرض، فنفرت إبل المسلمين وهم عليها ورجعت بهم إلى المدينة ولم يصرع مسلمٌ. وظن الكفار بالمسلمين الوهن، وبعثوا إلى أهل ذي القصة بالخبر، فقدموا عليهم، وبات أبو بكر يعبي الناس، وخرج على تعبية يمشي وعلى ميمنته النعمان بن مقرن وعلى ميسرته عبد الله بن مقرن وعلى أهل الساقة سويد ابن مقرن. فما طلع الفجر إلا وهم والعدو على صعيد واحد، فما شعروا بالمسلمين حتى وضعوا فيهم السيوف، فما ذر قرن الشمس حتى ولوهم الأدبار وغلبوهم على عامة ظهرهم وقتل رجال، واتبعهم أبو بكر حتى نزل بذي القصة، وكان أول الفتح، ووضع بها النعمان بن مقرن في عدد، ورجع إلى المدينة، فذل له المشركون. فوثب بنو عبس وذبيان على من فيهم من المسلمين فقتلوهم، فحلف أبو بكر ليقتلن في المشركين بمن قتلوا من المسلمين وزيادة، وازداد المسلمون قوة وثباتاً. وطرقت المدينة صدقات نفر كانوا على صدقة الناس، بهم صفوان والزبرقان بن بدر وعي بن حاتم، وذلك لتمام ستين يوماً من مخرج أسامة، وقدم أسامة بعد ذلك بأيام، وقيل: كانت غزوته وعوده في أربعين يوماً. فلما قدم أسامة استخلفه أبو بكر على المدينة وجنده معه ليستريحوا ويريحوا ظهرهم، ثم خرج فيمن كان معه، فناشده المسلمون ليقيم، فأبى وقال: لأواسينكم بنفسي. وسار إلى ذي حسىً وذي القصة حتى نزل بالأبرق فقاتل من به، فهزم الله المشركين وأخذ الحطيئة أسيراً، فطارت عبس وبنو بكر، وأقام أبو بكر بالأبرق أياماً، وغلب علي بني ذبيان وبلادهم وحماها لدواب المسلمين وصدقاتهم.
ولما انهزمت عبس وذبيان رجعوا إلى طليحة وهو ببزاخة، وكان رحل من سميراء إليها، فأقام عليها، وعاد أبو بكر إلى المدينة. فلما استراح أسامة وجنده، وكان قد جاءهم صدقات كثيرة تفضل عليهم، قطع أبو بكر البعوث وعقد الألوية، فعقد أحد عشر لواء، عقد لواء لخالد بن الوليد وأمره بطليحة بن خويلد فإذا فرغ سار إلى مالك بن نويرة بالبطاح إن أقام له، وعقد لعكرمة بن أبي جهل وأمره بمسيلمة، وعقد للمهاجر بن أبي أمية وأمره بجنود العنسي ومعونة الأبناء على قيس بن مكشوح ومن أعانه من أهل اليمن عليهم، ثم يمضي إلى كندة بحضرموت، وعقد لخالد بن سعيد وبعثه إلى الحمقتين من مشارف الشام، وعقد لعمرو بن العاص وأرسله إلى قضاعة، وعقد لحذيفة بن محصن الغلفاني وأمره بأهل دبا، وعقد لعرفجة بن هرثمة وأمره بمهرة وأمرهما أن يجتمعا وكل واحد منهما على صاحبه في عمله. وبعث شرحبيل بن حسنة في أثر عكرمة بن أب جهل وقال: إذا فرغ من اليمامة فالحق بقضاعة وأنت على خيلك تقاتل أهل الردة. وعقد لمعن بن حاجز وأمره ببني سليم ومن معهم من هوازن، وعقد لسويد بن مقرن وأمره بتهامة باليمن، وعقد للعلاء بن الحضرمي وأمره بالبحرين، ففصلت الأمراء من ذي القصة ولحق بكل أمير جنده، وعهد إلى كل أمير وكتب إلى جميع المرتدين نسخة واحدة يأمرهم بمراجعة الإسلام ويحذرهم، وسير الكتب إليهم مع رسله. ولما انهزمت عبس وذبيان ورجعوا إلى طليحة ببزاخة أرسل إلى جديلة والغوث من طيء يأمرهم باللحاق به، فتعجل إليه بعضهم وأمروا قومهم باللحاق بهم، فقدموا على طليحة. وكان أبو بكر بعث عدي بن حاتم قبل خالد إلى طيء وأتبعه خالداً وأمره أن يبدأ بطيء ومنهم يسير إلى بزاخة ثم يثلث بالبطاح ولا يبرح إذا فرغ من قوم حتى يأذن له. وأظهر أبو بكر للناس أنه خارج إلى خيبر بجيش حتى يلاقي خالداً، يرهب العدو بذلك. وقدم عدي على طيء فدعاهم وخوفهم، فأجابوه وقالوا له: استقبل الجيش فأخره عنا حتى نستخرج من عند طليحة منا لئلا يقتلهم. فاستقبل عدي خالداً وأخبره بالخبر، فتأخر خالد، وأرسلت طيء إلى إخوانهم عند طليحة فلحقوا بهم، فعادت طيء إلى خالد بإسلامهم، ورحل خالد يريد جديلة، فاستمهله عدي عنهم، ولحق بهم عدي بهم يدعوهم إلى الإسلام، فأجابوه، فعاد إلى خالد بإسلامهم، ولحق بالمسلمين ألف راكب منهم، وكان خير مولود في أرض طيء وأعظمه بركة عليهم. وأرسل خالد بن الوليد عكاشة بن محصن وثابت بن أقرم الأنصاري طليعةً، فلقيهما حبال أخو طليحة فقتلاه، فبلغ خبره طليحة فخرج هو وأخو سلمة، فقتل طليحة عكاشة وقتل أخوه ثابتاً ورجعا. وأقبل خالد بالناس فرأوا عكاشة وثابتاً قتيلين، فجزع لذلك المسلمون، وانصرف بهم خالد نحو طيء، فقالت له طيء: نحن نكفيك قيساً، فإن بني أسد حلفاؤنا. فقال: قاتلوا أي الطائفتين شئتم. فقال عدي بن حاتم: لو نزل هذا على الذين هم أسرتي فالأدنى لجاهدتهم عليه، والله لا أمتنع عن جهاد بني أسد لحلفهم. فقال له خالد: إن جهاد الفريقين جهادٌ، لا تخالف رأي أصحابك وامض بهم إلى القوم الذين هم لقتالهم أنشط؛ ثم تعبى لقتالهم، ثم سار حتى التقيا على بزاخة، وبنو عامر قريباً يتربصون على من تكون الدائرة، قال: فاقتتل الناس على بزاخة. وكان عيينة بن حصن مع طليحة في سبعمائة من بني فزارة، فقاتلوا قتالاً شديداً وطليحة متلفف في كسائه يتنبأ لهم، فلما اشتدت الحر كر عيينة على طليحة وقال له: هل جاءك جبرائيل بعد؟ قال: لا، فرجع فقاتل، ثم كر على طليحة فقال له: لا أبا لك! أجاءك جبرائيل؟ قال: لا. فقال عيينة: حتى متى؟ والله بلغ منا! ثم رجع فقاتل قتالاً شديداً ثم كر على طليحة فقال: هل جاءك جبرائيل؟ قال: نعم. فماذا قال لك؟ قال: قال لي: إن لك رحاً كرحاه، وحديثاً لا تنساه. فقال عيينة: قد علم الله أنه سيكون حديث لا تنساه، انصرفوا يا بني فزارة فإنه كذاب، فانصرفوا وانهزم الناس. وكان طليحة قد أعد فرسه وراحلته لامرأته النوار، فلما غشوه ركب فرسه وحمل امرأته ثم نجا بها وقال: يا معشر فزارة من استطاع أن يفعل هكذا وينجو بامرأته فليفعل. ثم انهزم فلحق بالشام، ثم نزل على كلب فأسلم حين بلغه أن أسداً وغطفان قد أسلموا، ولم يزل مقيماً في كلب حتى مات أبو بكر.
وكان خرج معتمراً في إمارة أبي بكر ومر بجنبات المدينة، فقيل لأبي بكر: هذا طليحة! فقال: ما أصنع به؟ قد أسلم! ثم أتى عمر فبايعه حين استخلف. فقال له: أنت قاتل عكاشة وثابت؟ والله لا أحبك أبداً! فقال: يا أمير المؤمنين ما يهمك من رجلين أكرمهما الله بيدي ولم يهني بأيديهما! فبايعه عمر وقال له: ما بقي من كهانتك؟ فقال: نفخة أو نفختان بالكير. ثم رجع إلى قومه فأقام عندهم حتى خرج إلى العراق. ولما انهزم الناس عن طليحة أسر عيينة بن حصن، فقدم به على أبي بكر، فكان صبيان المدينة يقولون له وهو مكتوف: يا عدو الله أكفرت بعد إيمانك؟ فيقول: والله ما آمنت بالله طرفة عين. فتجاوز عنه أبو بكر وحقن دمه. وأخذ من أصحاب طليحة رجل كان عالماً به، فسأله خالد عما كان يقول، فقال: إن مما أتى به: والحمام واليمام، والصرد الصوام، قد صمن قبلكم بأعوام، ليبلغن ملكنا العراق والشام. قال: ولم يؤخذ منهم سبي لأنهم كانوا قد أحرزوا حريمهم، فلما انهزموا أقروا بالإسلام خشية على عيالاتهم، فآمنهم. حبال بكسر الحاء المهملة، وفتح الباء الموحدة، وبعد الألف لام. وذو القصة بفتح القاف، والصاد المهملة. وذو حسىً بضم الحاء المهملة، والسين المهملة المفتوحة. ودبا بفتح الدال المهملة، وبالباء الموحدة. وبزاخة بضم الباء الموحدة، وبالزاي، والخاء المعجمة. ذكر ردة بني عامر وهوازن وسليموكانت بنو عامر تقدم إلى الردة رجلاً وتؤخر أخرى وتنظر ما تصنع أسد وغطفان. فلما أحيط بهم وبنو عامر على قادتهم وسادتهم كان قرة بن هبيرة في كعب ومن لافها، وعلقمة بن علاثة في كلاب ومن لافها، وكان أسلم ثم ارتد في زمن النبي، صلى الله عليه وسلم، ولحق بالشام بعد فتح الطائف، فلما توفي النبي، صلى الله عليه وسلم، أقبل مسرعاً حتى عسكر في بني كعب. فبلغ ذلك أبا بكر فبعث إليه سرية عليها القعقاع بن عمرو، وقيلك بل قعقاع بن سور، وقال له ليغير على علقمة لعله يقتله أو يستأسره. فخرج حتى أغار على الماء الذي عليه علقمة، وكان لا يبرح إلا مستعداً، فسابقهم على فرسه فسبقهم مراكضة، وأسلم أهله وولده، وأخذه القعقاع وقدم بهم على أبي بكر، فجحدوا أن يكونوا على حال علقمة، ولم يبلغ أبا بكر عنهم أنهم فارقوا دارهم، وقالوا له: ما ذنبنا فيما صنع علقمة؟ فأرسلهم ثم أسلم، فقبل ذلك منه. وأقبلت بنو عامر بعد هزيمة أهل بزاخة يقولون: ندخل فيما خرجنا منه ونؤمن بالله ورسوله، وأتوا خالداً فبايعهم على ما بايع أهل بزاخة وأعطوه بأيديهم على الإسلام، وكانت بيعته: عليكم عهد الله وميثاقه لتؤمنن بالله ورسوله، ولتقيمن الصلاة، ولتؤتن الزكاة، وتبايعون على ذلك أبناءكم ونساءكم، فيقولون: نعم، ولم يقبل من أحد من أسد وغطفان وطيء وسليم وعامر إلا أن يأتوه بالذين حرقوا ومثلوا وعدوا على الإسلام في حال ردتهم، فأتوه بهم، فمثل بهم وحرقهم ورضخهم بالحجارة ورمى بهم من الجبال ونكسهم في الآبار، وأرسل إلى أبي بكر يعلمه ما فعل، وأرسل إليه قرة ابن هبيرة ونفراً معه موثقين وزهيراً أيضاً. وأما أم زمل فاجتمع فلال غطفان وطيء وسليم وهوازن وغيرها إلى أم زمل سلمى بنت مالك بن حذيفة بن بدر، وكانت أمها أم قرفة بنت ربيعة بن بدر، وكانت أم زمل قد سبيت أيام أمها أم قرفة، وقد تقدمت الغزوة، فوقعت لعائشة، فأعتقتها ورجعت إلى قومها وارتدت واجتمع إليها الفل، فأمرتهم بالقتال، وكثف جمعها وعظمت شوكتها. فلما بلغ خالداً أمرها سار إليها، فاقتتلوا قتالاً شديداً أول يوم وهي واقفة على جمل كان لأمها وهي في مثل عزها، فاجتمع على الجمل فوارس فعقروه وقتلوها وقتل حول جملها مائة رجل، وبعث بالفتح إلى أبي بكر.
وأما خبر الفجاءة السلمي، واسمه إياس بن عبد ياليل، فإنه جاء إلى أبي بكر فقال له: أعني بالسلاح أقاتل به أهل الردة. فأعطاه سلاحاً وأمره إمرةً، فخالف إلى المسلمين وخرج حتى نزل بالجواء، وبعث نخبة بن أبي الميثاء من بني الشريد وأمره بالمسلمين، فشن الغارة على كل مسلم في سليم وعامر وهوازن، فبلغ ذلك أبا بكر فأرسل إلى طريفة بن حاجز فأمره أن يجمع له ويسير إليه، وبعث إليه عبد الله بن قيس الحاشي عوناً، فنهضا إليه وطلباه، فلاذ منهما، ثم لقياه على الجواء فاقتتلوا وقتل نخبة وهرب الفجاءة، فلحقه طريفة فأسره ثم بعث به إلى أبي بكر، فلما قدم أمر أبو بكر أن توقد له نار في مصلى المدينة ثم رمي به فيها مقموطاً. وأما خبر أبي شجرة بن عبد العزى السلمي، وهو ابن الخنساء، فإنه كان قد ارتد فيمن ارتد من سليم وثبت بعضهم على الإسلام مع معن بن حاجز، وكان أميراً لأبي بكر. فلما سار خالد إلى طليحة كتب إلى معن أن يلحقه فيمن معه على الإسلام من بني سليم، فسار واستخلف على عمله أخاه طريفة بن حاجز. فقال أبو شجرة حين ارتد: صحا القلب عن ميٍّ هواه وأقصرا ... وطاوع فيها العاذلين فأبصرا ألا أيها المدلي بكثرة قومه ... وحظك منهم أن تضام وتقهرا سل الناس عنا كل يوم كريهةٍ ... إذا ما التقينا دارعين وحسرا ألسنا نعاطي ذا الطماح لجامه ... ونطعن في الهيجا إذا الموت أقفرا فرويت رمحي من كتيبة خالدٍ ... وإني لأرجو بعدها أن أعمرا ثم إن أبا شجرة أسلم، فلما كان زمن عمر قدم المدينة فرأى عمر وهو يقسم في المساكين، فقال: أعطني فإني ذو حاجة، فقال: ومن أنت؟ فقال: أنا أبو شجرة بن عبد العزى السلمي. قال: أي عدو الله لا والله! ألست الذي تقول: فرويت رمحي من كتيبة خالدٍ ... وإني لأرجو بعدها أن أعمرا؟ وجعل يعلوه بالدرة في رأسه حتى سبقه عدواً إلى ناقته فركبها ولحق بقومه وقال: ضن علينا أبو حفصٍ بنائله ... وكل مختبطٍ يوماً له ورق في أبيات. ذكر قدوم عمرو بن العاص من عمانكان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قد أرسل عمرو بن العاص إلى جيفر عند منصرفه من حجه الوداع. فمات رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وعمرو بعمان، فأقبل حتى انتهى إلى البحرين فوجد المنذر بن ساوى في الموت. ثم خرج عنه إلى بلاد بني عامر فنزل بقرة بن هبيرة، وقرة يقدم رجلاً ويؤخر أخرى ومعه عسكر من بني عامر، فذبح له وأكرم مثواه. فلما اراد الرحلة خلا به قرة وقال: يا هذا إن العرب لا تطيب لكم نفساً بالإتاوة، فإن أعفيتموها من أخذ أموالها فستسمع لكم وتطيع، وإن أبيتم فلا تجتمع عليكم. فقال له عمرو: أكفرت يا قرة؟ أتخوفنا بالعرب؟ فوالله لأوطئن عليك الخيل في حفش أمك والحفش: بيت تنفرد فيه النفساء. وقدم على المسلمين بالمدينة فأخبرهم، فأطافوا به يسألونه فأخبرهم أن العساكر معسكرة من دبا إلى المدينة. فتفرقوا وتحلقوا حلقاً، وأقبل عمر يريد التسليم على عمرو فمر على حلقة فيها علي وعثمان وطلحة والزبير وعبد الرحمن وسعد. فلما دنا عمر منهم سكتوا، فقال: فيم أنتم؟ فلم يجيبوه. فقال لهم: إنكم تقولون ما أخوفنا على قريش من العرب! قالوا: صدقت. قال: فلا تخافوهم، أنا والله منكم على العرب أخوف مني من العرب عليكم، والله لو تدخلون، معاش قريش، جحراً لدخلته العرب في آثاركم، فاتقوا الله فيهم. ومضى عمر، فلما قدم بقرة بن هبيرة على أبي بكر أسيراً استشهد بعمرو على إسلامه، فأحضر أبو بكر عمراً فسأله، فأخبره بقول قرة إلى أن وصل إلى ذكر الزكاة فقال قرة: مهلاً يا عمرو! فقال: كلا، والله لأخبرنه بجميعه. فعفا عنه أبو بكر وقبل إسلامه. ذكر بني تميم وسجاح
وأما بنو تميم فإن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فرق فيهم عماله، فكان الزبرقان منهم وسهل بن منجاب وقيس بن عاصم وصفوان بن صفوان وسبرة بن عمرو ووكيع بن مالك ومالك بن نويرة. فلما وقع الخبر بموت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، سار صفوان بن صفوان إلى أبي بكر بصدقات بني عمرو وأقام قيس عاصم ينظر ما الزبرقان صانع ليخالفه، فقال حين أبطأ عليه الزبرقان في عمله: وا ويلتاه من ابن العكلية! والله لقد مزقني ما أدري ما أصنع، لئن أنا بعثت بالصدقة إلى أبي بكر وبايعته لينحرن ما معه في بني سعد فيسودني فيهم، ولئن نحرتها في بني سعد ليأتين أبي بكر فيسودني عنده. فقسمها على المقاعس والبطون، ووافى الزبرقان فاتبع صفوان بن صفوان بصدقات الرباب - وهي ضبة بن أد بن طابخة، وعدي وتيم وعكل وثور بنو عبد مناة بن أد - وبصدقات عوف والأبناء، وهذه بطون من تميم. ثم ندم قيس بعد ذلك، فلما أظله العلاء بن الحضرمي أخرج الصدقة فتلقاه بها، ثم خرج معه وتشاغلت تميم بعضها ببعض. وكان ثمامة بن أثال الحنفي تأتيه أمداد تميم، فلما حدث هذا الحدث أضر ذلك بثمامة، وكان مقاتلاً لمسيلمة الكذاب، حتى قدم عليه عكرمة بن أبي جهل، فبينما الناس ببلاد تميم مسلمهم بإزاء من أراد الردة وارتاب إذ جاءتهم سجاح بنت الحارث بن سويد بن عقفان التميمية قد أقبلت من الجزيرة وادعت النبوة. وكانت ورهطها في أخوالها من تغلب تقود أفناء ربيعة معها الهذيل بن عمران في بني تغلب، وكان نصرانياً، فترك دينه وتبعها، وعقة بن هلال في النمر، وزياد بن فلان في إياد، والسليل بن قيس في شيبان، فأتاهم أمر أعظم مما هم فيه لاختلافهم والتشاغل فيما بينهم. وكان سجاح تريد غزو أبي بكر، فأرسلت إلى مالك بن نويرة تطلب الموادعة، فأجابها وردها عن غزوها وحملها على أحياء من بني تميم، فأجابته وقالت: أنا امرأة من بني يربوع، فإن كان ملك فهو لكم. وهرب منها عطارد بن حاجب وسادة بني مالك وحنظلة إلى بني العنبر، وكرهوا ما صنع وكيع، وكان قد وادعها، وهرب منها أشباههم من بني يربوع وكرهوا ما صنع مالك بن نويرة، واجتمع مالك ووكيع وسجاح فسجعت لهم سجاح وقالت: أعدوا الركاب، واستعدوا للنهاب، ثم أغيروا على الرباب، فليس دونهم حجاب. فساروا إليهم، فلقيهم ضبة وعبد مناة فقتل بينهم قتلى كثيرة وأسر بعضهم من بعض ثم تصالحوا، وقال قيس بن عاصم شعراً ظهر فيه ندمه على تخلفه عن أبي بكر بصدقته. ثم سارت سجاح في جنود الجزيرة حتى بلغت النباج، فأغار عليهم أوس ابن خزيمة الهجيمي في بني عمرو فأسر الهذيل وعقة، ثم اتفقوا على أن يطلق أسرى سجاح ولا يطأ أرض أوس ومن معه. ثم خرجت سجاح في الجنود وقصدت اليمامة وقالت: عليكم باليمامه، ودفوا دفيف الحمامة، فإنها غزوة صرامه، لا يلحقكم بعدها ملامه. فقصدت بني حنيفة، فبلغ ذلك مسيلمة فخاف إن هو شغل بها أن يغلب ثمامة وشرحبيل بن حسنة والقبائل التي حولهم على حجر، وهي اليمامة، فأهدى لها ثم أرسل إليها يستأمنها على نفسه حتى يأتيها، فآمنته، فجاءها في أربعين من بني حنيفة، فقال مسيلمة: لنا نصف الأرض وكان لقريش نصفها لو عدلت، وقد رد الله عليك النصف الذي ردت قريش. وكان مما شرع لهم مسيلمة أن من أصاب ولداً واحداً ذكراً لا يأتي النساء حتى يموت ذلك الولد فيطلب الولد حتى يصيب ابناً ثم يمسك. وقيل: بل تحصن منها، فقالت له: انزل، فقال لها: أبعدي أصحابك. ففعلت، وقد ضرب لها قبة وخمرها لتذكر بطيب الريح الجماع، واجتمع بها، فقالت له: ما أوحى إليك ربك؟ فقال: ألم تر إلى ربك كيف فعل بالحبلى، أخرج منها نسمةً تسعى، بين سفاق وحشىً قالت: وماذا أيضاً؟ قال: إن الله خلق النساء أفراجاً، وجعل الرجال لهن أزواجاً، فتولج فيهن قعساً إيلاجاً، ثم تخرجها إذا تشاء إخراجاً، فينتجن لنا سخالاً إنتاجاً. قالت: أشهد أنك نبي. قال: هل لك أن أتزوجك وآكل بقومي وقومك العرب؟ قالت: نعم. قال: ألا قومي إلى النيك ... فقد هيي لك المضجع فإن شئت ففي البيت ... وإن شئت ففي المخدع وإن شئت سلقناك ... وإن شئت على أربع وإن شئت بثلثيه ... وإن شئت به أجمع
قالت: بل به أجمع فإنه أجمع للشمل. قال: بذلك أوحي إلي. فأقامت عنده ثلاثاً ثم انصرفت إلى قومها، فقالوا لها: ما عندك؟ قالت: كان على الحق فتبعته وتزوجته. قالوا: هل أصدقك شيئاً؟ قالت: لا. قالوا: فارجعي فاطلبي الصداق؛ فرجعت. فلما رآها أغلق باب الحصن وقال: ما لك؟ قالت: أصدقني. قال: من مؤذنك؟ قالت: شبث بن ربعي الرياحي، فدعاه وقال له: ناد في أصحابك أن مسيلمة رسول الله قد وضع عنكم صلاتين مما جاءكم به محمد: صلاة الفجر وصلاة العشاء الآخرة. فانصرفت ومعها أصحابها، منهم: عطارد بن حاجب وعمرو بن الأهتم وغيلان بن خرشة وشبث بن ربعي، فقال عطارد بن حاجب: أمست نبينا أنثى نطوف بها ... وأصبحت أنبياء الناس ذكرانا وصالحها مسيلمة على غلات اليمامة سنة تأخذ النصف وتترك عنده من يأخذ النصف، فأخذت النصف وانصرفت إلى الجزيرة وخلفت الهذيل وعقة وزياداً لأخذ النصف الباقي، فلم يفاجئهم إلا دنو خالد إليهم فارفضوا. فلم تزل سجاح في تغلب حتى نقلهم معاوية عام الجماعة وجاءت معهم وحسن إسلامهم وإسلامها وانتقلت إلى البصرة وماتت بها وصلى عليها سمرة ابن جندب وهو على البصرة لمعاوية قبل قدوم عبيد الله بن زياد من خراسان وولايته البصرة. وقيل: إنها لما قتل مسيلمة سارت إلى أخوالها تغلب بالجزيرة فماتت عندهم ولم يسمع لها بذكر. ذكر مالك بن نويرةلما رجعت سجاح إلى الجزيرة ارعوى مالك بن نويرة وندم وتحير في أمره، وعرف وكيع وسماعة قبح ما أتيا فراجعا رجوعاً حسناً ولم يتجبرا وأخرجا الصدقات فاستقبلا بها خالداً. وسار خالد بعد أن فرغ من فزارة وغطفان وأسد وطيء يريد البطاح، وبها مالك بن نويرة قد تردد عليه أمره، وتخلفت الأنصار عن خالد وقالوا: ما هذا بعهد الخليفة إلينا إن الخليفة عهد إلينا إن نحن فرغنا من بزاخة واستبرأنا بلاد القوم أن نقيم حتى يكتب إلينا. فقال خالد: قد عهد إلي أن أمضي، وأنا الأمير، ولو لم يأتي كتاب ما رأيته فرصةً وكنت إن أعلمته فاتتني لم أعلمه حتى انتهزها، وكذلك لو ابتلينا بأمر ليس فيه منه عهد لم ندع أن نرى أفضل ما يحضرنا ثم نعمل به، فأنا قاصد إلى مالك ومن معي ولست أكرههم. ومضى خالد وندمت الأنصار وقالوا: إن أصاب القوم خيراً حرمتموه، وإن أصيبوا ليجتنبنكم الناس. فلحقوه. ثم سار حتى قدم البطاح، فلم يجد بها أحداً، وكان مالك بن نويرة قد فرقهم ونهاهم عن الاجتماع وقال: يا بني يربوع إنا دعينا إلى هذا الأمر فأبطأنا عنه فلم نفلح، وقد نظرت فيه فرأيت الأمر يتأتى لهم بغير سياسة، وإذا الأمر لا يسوسه الناس، فإياكم ومناوأة قوم صنع لهم، فتفرقوا وادخلوا في هذا الأمر. فتفرقوا على ذلك، ولما قدم خالد البطاح بث السرايا وأمرهم بداعية الإسلام وأن يأتوه بكل من لم يجب وإن امتنع أن يقتلوه، وكان قد أوصاهم أبو بكر أن يؤذنوا إذا نزلوا منزلاً، فإن أذن القوم فكفوا عنهم، وإن لم يؤذنوا فاقتلوا وانهبوا، وإن أجابوكم إلى داعية الإسلام فسائلوهم عن الزكاة، فإن أقروا فاقبلوا منهم، وإن أبوا فقاتلوهم.
قال: فجاءته الخيل بمالك بن نويرة في نفر من بني ثعلبة بن يربوع، فاختلفت السرية فيهم، وكان فيهم أبو قتادة، فكان فيمن شهد أنهم قد أذنوا وأقاموا وصلوا، فلما اختلفوا أمر بهم فحبسوا في ليلة باردة لا يقوم لها شيء، فأمر خالد منادياً فنادى: أدفئوا أسراكم، وهي في لغة كنانة القتل، فظن القوم أنه أراد القتل، ولم يرد إلا الدفء، فقتلوهم، فقتل ضرار بن الأزور مالكاً، وسمع خالد الواعية فخرج وقد فرغوا منهم، فقال: إذا أراد الله أمراً أصابه وقد اختلف القوم فيهم، فقال أبو قتادة: هذا عملك فزبره خالد فغضب ومضى حتى أتى أبا بكر فغضب أبو بكر حتى كلمه عمر فيه فلم يرض إلا أن يرجع إليه فرجع إليه حتى قدم معه المدينة وتزوج خالد أم تميم امرأة مالك. فقال عمر لأبي بكر: إن سيف خالد فيه رهق، وأكثر عليه في ذلك. فقال: هيه يا عمر! تأول فأخطأ، فارفع لسانك عن خالد، فإني لا أشيم سيفاً سله الله على الكافرين. وودى مالكاً وكتب إلى خالد أن يقدم عليه، ففعل، ودخل المسجد وعليه قباء له عليه صدأ الحديد وقد غرز في عمامته أسهماً، فقام إليه عمر فنزعها وحطمها وقال له: أرثاء قتلت أمراً مسلماً ثم نزوت على امرأته، والله لأرجمنك بأحجارك! وخالد لا يكلمه يظن أن رأي أبي بكر مثله، ودخل على أبي بكر فأخبره الخبر واعتذر إليه، فعذره وتجاوز عنه وعنفه في التزويج الذي كانت عليه العرب من كراهة أيام الحرب. فخرج خالد وعمر جالسٌ فقال: هلم إلي يا ابن أم سلمة. فعرف عمر أن أبا بكر قد رضي عنه، فلم يكلمه. وقيل: إن المسلمين لما غشوا مالكاً وأصحابه ليلاً أخذوا السلاح فقالوا: نحن المسلمون. فقال أصحاب مالك: ونحن المسلمون. قالوا لهم: ضعوا السلاح، فوضعوه ثم صلوا، وكان يعتذر في قتله أنه قال: ما إخال صاحبكم إلا قال كذا وكذا. فقال له: أو ما تعده لك صاحباً؟ ثم ضرب عنقه. وقدم متمم بن نويرة على أبي بكر يطلب بدم أخيه ويسأله أن يرد عليهم سبيهم، فأمر أبو بكر برد السبي وودى مالكاً من بيت المال. ولما قدم على عمر قال له: ما بلغ بك الوجد على أخيك؟ قال: بكيته حولاً حتى أسعدت عيني الذاهبة عيني الصحيحة، وما رأيت ناراً قط إلا كدت أنقطع أسفاً عليه لأنه كان يوقد ناره إلى الصبح مخافة أن يأتيه ضيف ولا يعرف مكانه. قال: فصفه لي. قال: كان يركب الفرس الحرون، ويقود الجمل الثقال وهو بين المزادتين النضوختين في الليلة القرة وعليه شملة فلوت، معتقلاً رمحاً خطلاً، فيسري ليلته ثم يصبح وكأن وجهه فلقة قمر. قال: أنشدني بعض ما قلت فيه. فأنشده مرثيته التي يقول فيها: وكنا كندماني جذيمة حقبةً ... من الدهر حتى قيل لن يتصدعا فلما تفرقنا كأني ومالكاً ... لطول اجتماعٍ لم نبت ليلةً معاً فقال عمر: لو كنت أقول الشعر لرثيت أخي زيداً. فقال متمم: ولا سواء يا أمير المؤمنين، لو كان أخي صرع مصرع أخيك لما بكيته. فقال عمر: ما عزاني أحد بأحسن مما عزيتني به. وفي هذه الوقعة قتل الوليد وأبو عبيدة ابنا عمارة بن الوليد، وهما ابنا أخي خالد، لهما صحبة. ذكر مسيلمة وأهل اليمامةقد ذكرنا فيما تقدم مجيء مسيلمة إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، فلما مات النبي، صلى الله عليه وسلم، وبعث أبو بكر السرايا إلى المرتدين، أرسل عكرمة بن أبي جهل في عسكر إلى مسيلمة وأتبعه شرحبيل بن حسنة، فعجل عكرمة ليذهب بصوتها، فواقعهم فنكبوه، وأقام شرحبيل بالطريق حين أدركه الخبر، وكتب عكرمة إلى أبي بكر بالخبر. فكتب إليه أبو بكر: لا أرينك ولا تراني، لا ترجعن فتوهن الناس، امض إلى حذيفة وعرفجة فقاتل أهل عمان ومهرة، ثم تسير أنت وجندك تستبرون الناس حتى تلقى مهاجر بن أبي أمية باليمن وحضرموت. فكتب إلى شرحبيل بالمقام إلى أن يأتي خالد، فإذا فرغوا من مسيلمة تلحق بعمرو بن العاص تعينه على قضاعة.
فلما رجع خالد من البطاح إلى أبي بكر واعتذر إليه قبل عذره ورضي عنه ووجهه إلى مسيلمة وأوعب معه المهاجرين والأنصار، وعلى الأنصار ثابت بن قيس بن شماس، وعلى المهاجرين أبو حذيفة وزيد بن الخطاب، وأقام خالد بالبطاح ينتظر وصول البعث إليه. فلما وصلوا إليه سار إلى اليمامة وبنو حنيفة يومئذٍ كثيرون كانت عدتهم أربعين ألف مقاتل، وعجل شرحبيل ابن حسنة، وبادر خالداً بقتال مسيلمة، فنكب، فلامه خالد، وأمد أبو بكر خالداً بسليط ليكون ردءاً له لئلا يؤتى من خلفه. وكان أبو بكر يقول: لا أستعمل أهل بدر، أدعهم حتى يلقوا الله بصالح أعمالهم، فإن الله يدفع بهم وبالصالحين أكثر مما ينتصر بهم. وكان عمر يرى استعمالهم على الجند وغيره. وكان مع مسيلمة نهارٌ الرجال بن عنفوة، وكان قد هاجر إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، وقرأ القرآن، وفقه في الدين، وبعثه معلماً لأهل اليمامة وليشغب على مسيلمة، فكان أعظم فتنةً على بني حنيفة من مسيلمة، شهد أن محمداً، صلى الله عليه وسلم، يقول: إن مسيلمة قد أشرك معه، فصدقوه واستجابوا له، وكان مسيلمة ينتهي إلى أمره، وكان يؤذن له عبد الله بن النواجة، والذي يقيم له حجير بن عمير، فكان حجير يقول: أشهد أن مسيلمة يزعم أنه رسول الله. فقال له مسيلمة: أفصح حجير، فليس في المجمجمة خير. وهو أول من قالها. وكان مما جاء به وذكر أنه وحي: (يا ضفدع بنت ضفدع نقي ما تنقين، أعلاك في الماء وأسفلك في الطين، لا الشارب تمنعين، ولا الماء تكدرين). وقال أيضاً: (والمبديات زرعاً، والحاصدات حصداً، والذاريات قمحاً، والطاحنات طحناً، والخابزات خبزاً، والثاردات ثرداً، واللاقمات لقماً إهالة وسمناً؛ لقد فضلتم على أهل الوبر، وما سبقكم أهل المذر؛ ريقكم فامنعوه، والمعيي فأووه، والباغي فناوئوه). وأتته امرأة فقالت: إن نخلنا لسحيق، وإن آبارنا لجزرٌ، فادع الله لمائنا ونخلنا كما دعا محمد، صلى الله عليه وسلم، لأهل هزمان. فسأل نهاراً عن ذلك، فذكر أن النبي، صلى الله عليه وسلم، دعا لهم وأخذ من ماء آبارهم فتمضمض منه ومجه في الآبار ففاضت ماء وأنجيت كل نخلة وأطلعت فسيلاً قصيراً مكمماً، ففعل مسيلمة ذلك، فغار ماء الآبار ويبس النخل، وإنما ظهر ذلك بعد مهلكه. وقال له نهار: أمر يدك على أولاد بني حنيفة مثل محمد، ففعل وأمر يده على رؤوسهم وحنكهم فقرع كل صبي مسح رأسه، ولثغ كل صبي حنكه، وإنما استبان ذلك بعد مهلكه. وقيل: جاءه طلحة النمري فسأله عن حاله، فأخبره أنه يأتيه رجل في ظلمة، فقال: أشهد أنك الكاذب، وأن محمداً صادق، ولكن كذاب ربيعة أحب إلينا من صادق مضر. فقتل معه يوم عقرباء كافراً. ولما بلغ مسيلمة دنو خالد ضرب عسكره بعقرباء، وخرج إليه الناس وخرج مجاعة بن مرارة في سرية يطلب ثأراً لهم في بني عامر، فأخذه المسلمون وأصحابه، فقتلهم خالد واستبقاه لشرفه في بني حنيفة، وكانوا ما بين أربعين إلى ستين. وترك مسيلمة الأموال وراء ظهره، فقال شرحبيل بن مسيلمة: يا بني حنيفة قاتلوا فإن اليوم يوم الغيرة، فإن انهزمتم تستردف النساء سبيات، وينكحن غير خطيبات؛ فقاتلوا عن أحسابكم وامنعوا نساءكم. فاقتتلوا بعقرباء وكانت راية المهاجرين مع سالم مولى أبي حذيفة، وكانت قبله مع عبد الله بن حفص بن غانم، فقتل، فقالوا: تشى علينا من نفسك فقال: بئس حامل القرآن أنا إذاً! وكانت راية الأنصار مع ثابت بن قيس بن شماس، وكانت العرب على راياتهم، والتقى الناس، وكان أول من لقي المسلمين نهارٌ الرجال بن عنفوة فقتل، قتله زيد بن الخطاب، واشتد القتال، ولم يلق المسلمون حرباً مثلها قط، وانهزم المسلمون، وخلص بنو حنيفة إلى مجاعة وإلى خالد، فزال خالد عن الفسطاط ودخلوا إلى مجاعة وهو عند امرأة خالد، وكان سلمة إليها، فأرادوا قتلها، فنهاهم مجاعة عن قتلها وقال: أنا لها جار، فتركوها، وقال لهم: عليكم بالرجال، فقطعوا الفسطاط. ثم إن المسلمين تداعوا، فقال ثابت بن قيس: بئس ما عودتم أنفسكم يا معشر المسلمين! اللهم إني أبرأ إليك مما يصنع هؤلاء، يعني أهل اليمامة، وأعتذر إليك مما يصنع هؤلاء، يعني المسلمين، ثم قاتل حتى قتل.
وقال زيد بن الخطاب: لا نحور بعد الرجال، والله لا أتكلم اليوم حتى نهزمهم أو أقتل فأكلمه بحجتي. غضوا أبصاركم وعضوا على أضراسكم أيها الناس، واضربوا في عدوكم وامضوا قدماً. وقال أبو حذيفة: يا أهل القرآن زينوا القرآن بالفعال. وحمل خالد في الناس حتى ردوهم إلى أبعد مما كانوا، واشتد القتال وتذامرت بنو حنيفة وقاتلت قتالاً شديداً، وكانت الحرب يومئذ تارة للمسلمين وتارة للكافرين، وقتل سالم وأبو حذيفة وزيد بن الخطاب وغيرهم من أولي البصائر. فلما رأى خالد ما الناس فيه قال: امتازوا أيها الناس لنعلم بلاء كل حي ولنعلم من أين نؤتى. فامتازوا، وكان أهل البوادي قد جنبوا المهاجرين والأنصار وجنبهم المهاجرون والأنصار. فلما امتازوا قال بعضهم لبعض: اليوم يستحى من الفرار، فما رئيس يوم كان أعظم نكاية من ذلك اليوم، ولم يدر أي الفريقين كان أعظم نكاية، غير أن القتل كان في المهاجرين والأنصار وأهل القرى أكثر منه في أهل البوادي. وثبت مسيلمة فدارت رحاهم عليه، فعرف خالدٌ أنها لا تركد إلا بقتل مسيلمة، ولم تحفل بنو حنيفة بمن قتل منهم. ثم برز خالد ودعا إلى البراز ونادى بشعارهم، وكان شعارهم: يا محمداه! فلم يبرز إليه أحدٌ إلا قتله. ودارت رحا المسلمين، ودعا خالد مسيلمة فأجابه، فعرض عليه أشياء مما يشتهي مسيلمة فكان إذا هم بجوابه أعرض ليستشير شيطانه فينهاه أن يقبل. فأعرض بوجهه مرة وركبه خالد وأرهقه، فأدبر وزال أصحابه، وصاح خالد في الناس فركبوهم، فكانت هزيمتهم، وقال لمسيلمة: أين ما كنت عدنا. فقال: قاتلوا عن أحسابكم. ونادى المحكم: يا بني حنيفة الحديقة الحديقة! فدخلوها وأغلقوا عليهم بابها. وكان البراء بن مالك، وهو أخو أسد بن مالك، إذا حضر الحرب أخذته رعدة حتى يقعد عليه الرجال ثم يبول، فإذا بال ثار كما يثور الأسد، فأصابه ذلك، فلما بال وثب وقال: إلي أيها الناس، أنا البراء بن مالك! إلي إلي! وقاتل قتالاً شديداً، فلما دخلت بنو حنيفة الحديقة قال البراء: يا معشر المسلمين ألقوني عليهم في الحديقة. فقالوا: لا نفعل. فقال: والله لتطرحنني عليهم بها! فاحتمل حتى أشرف على الجدار فاقتحمها عليهم وقاتل على الباب وفتحه للمسلمين ودخلوها عليهم فاقتتلوا أشد قتال، وكثر القتلى في الفريقين لاسيما في بني حنيفة، فلم يزالوا كذلك حتى قتل مسيلمة. واشترك في قتله وحشي مولى جبير بن مطعم ورجل من الأنصار، أما وحشي فدفع عليه حربته، وضربه الأنصاري بسيفه، قال ابن عمر: فصرخ رجل: قتله العبد الأسود، فولت بنو حنيفة عند قتله منهزمةً، وأخذهم السيف من كل جانب، وأخبر خالد بقتل مسيلمة، فخرج بمجاعة يرسف في الحديد ليدله على مسيلمة، فجعل يكشف له القتلى حتى مر بمحكم اليمامة، وكان وسيماً، فقال: هذا صاحبكم؟ فقال مجاعة: لا، هذا والله خير منه وأكرم، هذا محكم اليمامة، ثم دخل الحديقة فإذا رويجلٌ أصيفر أخينس، فقال مجاعة: هذا صاحبكم قد فرغتم منه. وقال خالد: هذا الذي فعل بكم ما فعل. وكان الذي قتل محكم اليمامة عبد الرحمن بن أبي بكر، رماه بسهم في نحره وهو يخطب ويحرض الناس فقتله. وقال مجاعة لخالد: ما جاءك إلا سرعان الناس، وإن الحصون مملوة، فهلم إلى الصلح على ما ورائي، فصالحه على كل شيء دون النفوس، وقال: أنطلق إليهم | |
|
 | |
الشيخ عودة الشيخ عودة

عدد المساهمات : 1748 تاريخ التسجيل : 28/09/2008 العمر : 72
 | موضوع: رد: كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير الجمعة فبراير 07, 2014 9:09 am | |
| ذكر مسير خالد بن الوليد إلى العراق وصلح الحيرة في هذه السنة في المحرم منها أرسل أبو بكر إلى خالد بن الوليد وهو باليمامة يأمره بالمسير إلى العراق، وقيل: بل قدم المدينة من اليمامة فسيره أبو بكر إلى العراق فسار حتى نزل ببانقيا وباروسما وأليس وصالحه أهلها. وكان الذي صالحه عليها ابن صلوبا على عشرة آلاف دينار سوى حرزة كسرى، وكانت على كل رأس أربعة دراهم، وأخذ منهم الجزية. ثم سار حتى نزل الحيرة فخرج إليه أشرافها مع إياس بن قبيصة الطائي، وكان أميراً عليها بعد النعمان بن المنذر، فدعاهم خالد إلى الإسلام أو الجزية أو المحاربة، فاختاروا الجزية، فصالحهم على تسعين ألف درهم، فكانت أول جزية أخذت من الفرس في الإسلام هي والقريات التي صالح عليها.
وقيل: إنما أمره أبو بكر أن يبدأ بالأبلة، وكتب إلى عياض بن غنم أن يقصد العراق ويبدأ بالمصيخ ويدخل العراق من أعلاه ويسير حتى يلقى خالداً، وكان المثنى بن حارثة الشيباني قد استأذن أبا بكر أن يغزو بالعراق فأذن له، فكان يغزوهم قبل قدوم خالد، وأمر أبو بكر خالداً وعياضاً أن يستنفرا من قاتل أهل الردة وأن لا يغزون معهما مرتد، ففعلا وكتبا إليه يستمدانه، فأمد خالداً بالقعقاع بن عمرو التميمي، فقيل له: أتمده برجل واحد؟ فقال: لا يهزم جيش فيهم مثل هذا. وأمد عياضاً بعبد بن غوث الحميري. وكتب أبو بكر إلى المثنى وحرملة ومعذور وسلمى أن يلحقوا بخالد بالأبلة. فقدم خالد ومعه عشرة آلاف مقاتل، وكان مع المثنى وأصحابه ثمانية آلاف. ولما قدم خالد فرق جنده ثلاث فرق ولم يحملهم على طريق واحد، على مقدمته المثنى وبعده عدي بن حاتم وجاء خالد بعدهما، ووعدهما الحفير ليصادموا عدوهم، وكان ذلك الفرج أعظم فروج فارس وأشدها شوكة، فكان صاحبه أسوار اسمه هرمز، فكان يحارب العرب في البر والهند في البحر. فلما سمع هرمز بهم كتب إلى أردشير الملك بالخبر، وتعجل هو إلى الكواظم في سرعان أصحابه ليتلقى خالداً، فسمع أنهم تواعدوا الحفير، فسبقهم إليه ونزل به وجعل على مقدمته قباذ وأنوشجان، وكانا من أولاد أردشير الأكبر، واقترنوا في السلاسل لئلا يفروا، فسمع بهم خالد فمال بالناس إلى كاظمة، فسبقه هرمز إليها، وكان سيء المجاورة للعرب، فكلهم عليه حنقٌ، وكانوا يضربونه مثلاً في الخبث فيقولون: أكفر من هرمز. وقدم خالد فنزل على غير ماء، فقال له أصحاب في ذلك: ما تفعل؟ فقال لهم: لعمري ليصيرن الماء لأصبر الفريقين، فحطوا أثقالهم، وتقدم خالد إلى الفرس فلاقاهم، وأرسل الله سحابة فأإدرت وراء صف المسلمين فقويت قلوبهم، وخرج هرمز ودعا خالداً إلى البراز وأوطأ أصحابه على الغدر بخالد، فبرز إليه خالد ومشى نحوه راجلاً، ونزل هرمز أيضاً وتضاربا، فاحتضنه خالد، وحمل أصحاب هرمز، فما شغله ذلك عن قتله، وحمل القعقاع بن عمرو فأزاحهم، وانهزم أهل فارس وركبهم المسلمون، وسميت الوقعة ذات السلاسل، ونجا قباذ وأنوشجان، وأخذ خالد سلب هرمز، وكانت قلنسوته بمائة ألف لأنه كان قد تم شرفه في الفرس، وكانت هذه عادتهم، إذا تم شرف الإنسان تكون قلنسوته بمائة ألف. وبعث خالد بالفتح والأخماس إلى أبي بكر، وسار حتى نزل بموضع الجسر الأعظم بالبصرة، وبعث المثنى بن حارثة في آثارهم، وأرسل معقل بن مقرن إلى الأبلة ففتحها فجمع الأموال بها والسبي. وهذا القول خلاف ما يعرفه أهل النقل لأن فتح الأبلة كان على يد عتبة ابن غزوان أيام عمر بن الخطاب سنة أربع عشرة. وحاصر المثنى بن حارثة حصن المرأة ففتحه وأسلمت، ولم يعرض خالد وأصحابه إلى الفلاحين لأن أبا بكر أمرهم بذلك. ذكر وقعة الثنيلما وصل كتاب هرمز إلى أردشير بخبر خالد أمده بقارن بن قريانس، فلما انتهى إلى المذار لقيه المنهزمون فاجتمعوا ورجعوا ومعهم قباذ وأنوشجان ونزلوا الثني، وهو النهر، وسار إليهم خالد فلقيهم واقتتلوا، فبرز قارن فقتله معقل بن الأعشى بن النباش، وقتل عاصم أنوشجان، وقتل عدي ابن حاتم قباذ، وكان شرف قارن قد انتهى. ولم يقاتل المسلمون بعده أحداً انتهى شرفه، وقتل من الفرس مقتلة عظيمة يبلغون ثلاثين ألفاً سوى من غرق ومنعت المياه المسلمين من طلبهم. وقسم الفيء وأنفذ الأخماس إلى المدينة وأعطى الأسلاب من سلبها، وكانت الغنيمة عظيمة، وسبى عيالات المقاتلة، وأخذ الجزية من الفلاحين وصاروا ذمةً. وكان في السبي أبو الحسن البصري، وكان نصرانياً، وأمر على الجند سعيد بن النعمان، وعلى الحرز سويد بن مقرن المزني وأمره بنزول الحفير، وأقام بتجسس الأخبار. ذكر وقعة الولجة
ولما فرغ خالد من الثني وأتى الخبر أردشير بعث الأندرزعز، وكان فارساً من مولدي لسواد، وأرسل بهمن جاذويه في أثره في جيش، وحشر إلى الأندرزعز من بين الحيرة وكسكر ومن عرب الضاحية والدهاقين وعسكروا بالولجة. وسمع بهم خالد فسار إليهم من الثني فلقيهم بالولجة وكمن لهم فقاتلهم قتالاً شديداً أشد من الأول حتى ظن الفريقان أن الصبر قد أفرغ. واستبطأ خالد كمينه فخرجوا من ناحيتين، فانهزمت الأعاجم، وأخذ خالد من بين أيديهم والكمين من خلفهم فقتل منهم خلقاً كثيراً، ومضى الأندرزعز منهزماً فمات عطشاً، وأصاب خالد ابناً لجابر بن بجير وابناً لعبد الأسود من بكر بن وائل، وكانت وقعة الولجة في صفر، وبذل الأمان للفلاحين، فعادوا وصاروا ذمةً، وسبى ذراري المقاتلة ومن أعانهم. ذكر وقعة أليس وهو على الفراتلما أصاب خالد يوم الولجة ما أصاب من نصارى بكر بن وائل الذين أعانوا الفرس غضب لهم نصارى قومهم فكاتبوا الفرس واجتمعوا على أليس وعليهم عبد الأسود العجلي، وكان مسلمو بني عجل، منهم: عتيبة بن النهاس وسعيد بن مرة وفرات بن حيان ومذعور بن عدي والمثنى بن لاحق، أشد الناس على أولئك النصارى. وكتب أردشير إلى بهمن جاذويه، وهو بقشيناثا، يأمره بالقدوم على نصارى العرب بأليس، فقدم بهمن جاذويه إلى أردشير ليشاوره فيما يفعل فوجده مريضاً، فتوقف عليه، فاجتمع على جابان نصارى عجل وتيم اللات وضبيعة وجابر بن بجير وعرب الضاحية من أهل الحيرة. وكان خالد لما بلغه تجمع نصارى بكر وغيرهم سار إليهم ولا يشعر بدنو جابان. فلما طلع جابان بأليس قالت العجم له: أنعاجلهم أم نغدي الناس ولا نريهم أنا نحفل بهم ثم نقاتلهم؟ فقال جابان: إن تركوكم فتهاونوا بهم. فعصوه وبسطوا الطعام، وانتهى خالد إليهم وحط الأثقال، فلما وضعت توجه إليهم وطلب مبارزة عبد الأسود وابن أبجر ومالك بن قيس، فبرز إليه مالك من بينهم، فقتله خالد وأعجل الأعاجم عن طعامهم. فقال لهم جابان: ألم اقل لكم والله ما دخلتني من مقدم جيش وحشة إلا هذا؟ وقال لهم: حيث لم تقدروا على الأكل فسموا الطعام فإن ظفرتم فأيسر هالكٍ وإن كانت لهم هلكوا بأكله. فلم يفعلوا، واقتتلوا قتالاً شديداً والمشركون يزيدهم ثبوتاً توقعهم قدوم بهمن جاذويه، فصابروا المسلمين، فقال خالد: اللهم إن هزمتهم فعلي أن لا أستبقي منهم من أقدر عليه حتى أجري من دمائهم نهرهم. فانهزمت فارس فنادى منادي خالد: الأسراء الأسراء إلا من امتنع فاقتلوه. فأقبل لهم المسلمون أسراء ووكل بهم من يضرب أعناقهم يوماً وليلةً. فقال له القعقاع وغيره: لو قتلت أهل الأرض لم تجر دماؤهم، فأرسل عليها الماء تبر يمينك؛ ففعل، وسمي نهر الدم؛ ووقف خالد على الطعام وقال للمسلمين: قد نفلتكموه، فتعشى به المسلمون، ودعل من لم الرقاق يقول: ما هذه الرقاع البيض! وبلغ عدد القتلى سبعين ألفاً، وكانت الوقعة في صفر. فلما فرغ من أليس سار إلى أمغيشيا، وقيل اسمها منيشيا، فأصابوا فيها ما لم يصيبوا مثله لأن أهلها أعجلهم المسلمون أن ينقلوا أموالهم وأثاثهم وكراعهم وغير ذلك، وأرسل إلى أبي بكر بالفتح ومبلغ الغنائم والسبي وأخرب أمغيشيا. فلما بلغ ذلك أبا بكر قال: عجز النساء أن يلدن مثل خالد. ذكر وقعة يوم فرات بادقلى وفتحه الحيرة
ثم سار خالد من أمغيششيا إلى الحيرة وحمل الرحال والأثقال في السفن، فخرج مرزبان الحيرة، وهو الأزاذبه فعسكر عند الغريين وأرسل ابنه فقطع الماء عن السفن فبقيت على الأرض. فسار خالد في خيل نحو ابن الأزاذبه فلقيه على فرات بادقلى فضربه وقتله وقتل أصحابه وسار نحو الحيرة، فهرب منه الأزاذبه، وكان قد بلغه موت أردشير وقتل ابنه، فهرب بغير قتال، ونزل المسلمون عند الغريين، وتحصن أهل الحيرة فحصرهم في قصورهم. وكان ضرار بن الأزور محاصراً القصر الأبيض وفيه إياس بن قبيصة الطائي، وكان ضرار بن الخطاب محاصراً قصر الغريين وفيه عدي بن عدي المقتول، وكان ضرار بن مقرن المزني عاشر عشرة إخوة محاصراً قصر ابن مازن وفيه ابن أكال، وكان المثنى محاصراً قصر ابن بقيلة وفيه عمرو بن عبد المسيح بن بقيلة، فدعوهم جميعاً وأجلوهم يوماً وليلة، فأبى أهل الحيرة، وقاتلهم المسلمون فافتتحوا الدور والديرات وأكثروا القتل. فنادى القسيسون والرهبان: يا أهل القصور ما يقتلنا غيركم! فنادى أهل القصور المسلمين: قد قبلنا واحدة من ثلاث، وهي: إما الإسلام أو الجزية أو المحاربة، فكفوا عنهم، وخرج إليهم إياس بن قبيصة وعمرو بن عبد المسيح بن قيس بن حيان بن الحارث، وهو بقيلة، وإنما سمي بقيلة لأنه خرج على قومه في بردين أخضرين، فقالوا: ما أنت إلا بقيلة خضراء، فأرسلوهم إلى خالد، فكان الذي يتكلم عنهم عمرو بن عبد المسيح، فقال له خالد: كم أتى عليك؟ قال: مئو سنين. قال: فما أعجب ما رأيت؟ قال: رأيت القرى منظومة ما بين دمشق والحيرة تخرج المرأة من الحيرة فلا تتزود إلا رغيفاً. فتبسم خالد وقال لأهل الحيرة: ألم يبلغني أنكم خبثة خدعة، فما بالكم تتناولون حوائجكم بخرفٍ لا يدري من أين جاء؟ فأحب عمرو أن يريه من نفسه ما يعرف به عقله وصحة ما حدثه به، قال: وحقك إني لأعرف من أين جئت! قال: فمن أين خرجت؟ قال: من بطن أمي. قال: فأين تريد؟ قال: أمامي. قال: وما هو؟ قال: الآخرة. قال: فمن أين أقصى أثرك؟ قال: من صلب أبي. قال: ففيم أنت؟ قال: في ثيابي. قال: أتعقل؟ قال: إي والله وأقيد. قال خالد: إنما أسألك! قال: فأنا أجيبك. قال: أسلمٌ أنت أم حربٌ؟ قال: بل سلمٌ. قال: فما هذه الحصون؟ قال: بنيناها للسفيه نحبسه حتى ينهاه الحليم. قال خالد: قتلت أرضٌ جاهلها وقتل أرضاً عالمها، القوم أعلم بما فيهم. وكان مع ابن بقيلة خادم معه كيس فيه سم، فأخذه خالد ونثره في يده وقال: لم تستصحب هذا؟ قال: خشيت أن تكونوا على غير ما رأيت فكان الموت أحب إلي من مكروه أدخله على قومي. فقال خالد: إنها لن تموت نفس حتى تأتي على أجلها، وقال: (باسم الله خير الأسماء، رب الأرض والسماء، الذي لا يضر مع اسمه داء، الرحمن الرحيم)، وابتلع السم. فقال ابن بقيلة: والله لتبلغن ما اردتم ما دام أحد منكم هكذا. وأبى خالد أن يصالحهم إلا على تسليم كرامة بنت عبد المسيح إلى شويل، فأبوا، فقالت لهم: هونوا عليهم وأسلموني فإني سأفتدي. ففعلوا، فأخذها شويل، فافتدت منه بألف درهم، فلامه الناس، فقال: ما كانت أظن أن عدداً أكثر من هذا. وكان سبب تسليمها إليه أن النبي، صلى الله عليه وسلم، لما ذكر استيلاء أمته على ملك فارس والحيرة سأله شويل أن يعطى كرامة ابنة عبد المسيح، وكان رآها شابة فمال إليها، فوعده النبي، صلى الله عليه وسلم، ذلك، فلما فتحت الحيرة طلبها وشهد له شهود بوعد النبي، صلى الله عليه وسلم، أن يسلمها إليه، فسلمها إليه خالد. وصالحهم على مائة ألف وتسعين ألفاً، وقيل: على مائتي ألف وتسعين ألفاً، وأهدوا له هدايا. فبعث بالفتح والهدايا إلى أبي بكر، فقبلها أبو بكر من الجزاء وكتب إلى خالد أن يأخذ منهم بقية الجزية ويحسب لهم الهدية. وكان فتح الحيرة في شهر ربيع الأول سنة اثنتي عشرة، وكتب لهم خالد كتاباً، فلما كفر أهل السواد بعد موت أبي بكر ضيعوا الكتاب، فلما افتتحه المثنى ثانية عاد بشرط آخر، فلما عادوا كفروا، وافتتحها سعد بن أبي وقاص ووضع عليهم أربعمائة ألف. قال خالد: ما لقيت قوماً كأهل فارس، وما لقيت من أهل فارس كأهل أليس. ذكر ما بعد الحيرة
قيل: كان الدهاقين يتربصون بخالد وينظرون ما يصنع أهل الحيرة، فلما صالحهم واستقاموا له أتته الدهاقين من تلك النواحي، أتاه دهقان فرات سريا وصلوبا ابن نسطونا ونسطونا، فصالحوه على ما بين الفلاليج إلى هرمزجرد على ألفي ألف، وقيل: ألف ألف سوى ما كان لآل كسرى، وبعث خالد عماله ومسالحه، وبعث ضرار بن الأزور وضرار بن الخطاب والقعقاع بن عمرو والمثنى بن حارث وعتيبة بن النهاس فنزلوا على السيب، وهم كانوا أمراء الثغور مع خالد، وأمرهم بالغارة، فمخروا ما وراء ذلك إلى شاطىء دجلة، وكتب خالد إلى أهل فارس يدعوهم إلى الإسلام أو الجزية فإن أجابوا وإلا حاربهم، فكان العجم مختلفين بموت أردشير إلا أنهم قد أنزلوا بهمن جاذويه بهرسير ومعه غيره كأنه مقدمة لهم، وجبى خالد الخراج في خمسين ليلة وأعطاه المسلمين، ولم يبق لأهل فارس فيما بين الحيرة ودجلة أمرٌ لاختلافهم بموت أردشير إلا أنهم مجمعون على حرب خالد وخالد مقيم بالحيرة يصعد ويصوب سنةً قبل خروجه إلى الشام، والفرس يخلعون ويملكون ليس إلا الدفع عن بهرسير، وذلك أن شيرى بن كسرى قتل كل من كان يناسبه إلى أنوشروان، وقتل أهل فارس بعده وبعد أردشير ابنه من كان بين أنوشروان وبين بهرام جور، فبقوا لم يقدروا على من يملكونه ممن يجتمعون عليه. فلما وصلهم كتب خالد تكلم نساء آل كسرى فولي الفرخزاد بن النبذوان إلى أن يجتمع آل كسرى على من يملكونه إن وجدوه. ووصل جرير بن عبد الله البجلي إلى خالد بعد فتح الحيرة، وكان سبب وصوله إليه أنه كان مع خالد بن سعيد بن العاص بالشام فاستأذنه في المصير إلى أبي بكر ليكلمه في قومه ليجمعهم له، وكانوا أوزاعاً متفرقين في العرب، فأذن له، فقدم على أبي بكر فذكر له ذلك وأن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وعده به وشهد له شهود، فغضب أبو بكر وقال: ترى شغلنا وما نحن فيه بغوث المسلمي ممن بإزائهم من فارس والروم ثم أنت تكلفني ما لا يغني! وأمره بالمسير إلى خالد بن الوليد، فسار حتى قدم عليه بعد فتح الحيرة ولم يشهد شيئاً مما قبلها بالعراق ولا شيئاً مما كان خالد فيه من قتل أهل الردة. عتيبة بالتاء المثناة من فوقها، وبالياء المثناة من تحتها، وبالباء الموحدة. ذكر فتح الأنبارثم سار خالد على تعبيته التي خرج فيها من الحيرة إلى الأنبار، وإنما سمي الأنبار لأن أهراء الطعام كانت بها أنابير، وعلى مقدمته الأقرع بن حابس. فلما بلغها أطاف بها وأنشب القتال، وكان قليل الصبر عنه، وتقدم إلى رماته وأوصاهم أن يقصدوا عيونهم فرموا رشقاً واحداً ثم تابعوا فأصابوا ألف عين، فسميت تلك الوقعة ذات العيون. وكان على من بها من الجند شيرزاد صاحب ساباط، فلما رأى ذلك أرسل يطلب الصلح على أمر لم يرضه خالد، فرد رسله ونحر من إبل العسكر كل ضعيف وألقاه في خندقهم، ثم عبره، فاجتمع المسلمون والكفار في الخندق، فأرسل شيرزاد إلى خالد وبذل له ما أراد، فصالحه على أن يلحقه بمأمنه في جريدة ليس معهم من متاع شيء، وخرج شيرزاد إلى بهمن جاذويه، ثم صالح خالد من حول الأنبار وأهل كلواذى. ذكر فتح عين التمرولما فرغ خالد من الأنبار استخلف عليها الزبرقان بن بدر وسار إلى عين التمر وبها مهران بن بهرام جوبين، في جمع عظيم من العجم، وعقة ابن أبي عقة في جمع عظيم من العرب منا النمر وتغلب وإياد وغيرهم، فلما سمعوا بخالد قال عقة لمهران: إن العرب أعلم بقتال العرب فدعنا وخالداً. قال: صدقت فأنتم أعلم بقتال العرب، وإنكم لمثلنا في قتال العجم. فخدعه واتقى به وقال: إن احتجتم إلينا أعناكم. فلامه أصحابه من الفرس على هذا القول، فقال لهم: إنه قد جاءكم من قتل ملوككم أمر عظيم وفل حدكم فاتقيته بهم، فإن كانت لكم على خالد فهي لكم، وإن كانت الأخرى لم تبلغوا منهم حتى يهنوا فنقاتلهم ونحن أقوياء. فاعرفوا له، وسار عقة إلى خالد فالتقوا، فحمل خالد بنفسه على عقة وهو يقيم صفوفه، فاحتضنه وأخذه أسيراً وانهزم عسكره من غير قتال فأسر أكثرهم.
فلما بلغ الخبر مهران هرب في جنده وتركوا الحصن، فلما انتهى المنهزمون إليه تحصنوا به، فنازلهم خالد، فطلبوا منه الأمان، فأبى، فنزلوا على حكمه، فأخذهم أسرى وقتل عقة ثم قتلهم أجمعين وسبى كل من في الحصن وغنم ما فيه، ووجد في بيعتهم أربعين غلاماً يتعلمون الإنجيل، فأخذهم فقسمهم في أهل البلاء، منهم: سيرين أبو محمد، ونصير أبو موسى، وحمران مولى عثمان. وأرسل إلى أبي بكر بالخبر والخمس. وفي عين التمر قتل عمير بن رئاب السهمي، وكان من مهاجرة الحبشة، ومات بها بشير بن سعد الأنصاري والد النعمان فدفن بها إلى جانب عمير. ذكر خبر دومة الجندلولما فرغ خالد من عين التمر أتاه كتاب عياض بن غنم يستمده على من بإزائه من المشركين، فسار خالد إليه، فكان بإزائه بهراء وكلب وغسان وتنوخ والضجاعم، وكانت دومة على رئيسين: أكيدر بن عبد الملك والجودي ابن ربيعة، فأما أكيدر فلم ير قتال خالد وأشار بصلحه خوفاً، فلم يقبلوا منه، فخرج عنهم، وسمع خالد بمسيره فأرسل إلى طريقه عاصم بن عمرو معارضاً له فأخذه أسيراً فقتله وأخذ ما كان معه وسار حتى نزل على أهل دومة الجندل فجعلها بينه وبين عياض. فلما اطمأن خالد خرج إليه الجودي في جمع ممن عنده من العرب لقتاله وأخرج طائفة أخرى إلى عياض، فقاتلهم عياض فهزمهم، فهزم خالد من يليه، وأخذ الجودي أسيراً وانهزموا إلى الحصن، فلما امتلأ أغلقوا الباب دون أصحابهم فبقوا حوله، فأخذهم خالد فقتلهم حتى سد باب الحصن، وقتل الجودي وقتل الأسرى إلا أسرى كلب، فإن بني تميم قالوا لخالد: قد أمناهم، وكانوا حلفاءهم، فتركهم. ثم أخذ الحصن قهراً فقتل المقاتلة وسبى الذرية والسرح فباعهم، واشترى خالد ابنة الجودي، وكانت موصوفةً. وأقام خالد بدومة الجندل، فطمع الأعاجم، وكاتبهم عرب الجزيرة غضباً لعقة، فخرج زرمهر وروزبه يريدان الأنبار واتعدا حصيداً والخنافس، فسمع القعقاع بن عمرو، وهو خليفة خالد على الحيرة، فأرسل أعبد بن فدكي وأمره بالحصيد وأرسل عروة بن الجعد البارقي إلى الخنافس، فخرجا فحالا بينهما وبين الريف، ورجع خالد إلى الحيرة، فبلغه ذلك، وكان عازماً على مصادمة أهل المدائن، فمنعه من ذلك كراهية مخالفة أبي بكر، فعجل القعقاع بن عمرو وأبا ليلى بن فدكي إلى روزبه وزرمهر فسبقاه إلى عين القمر، ووصل إلى خالد كتاب امرىء القيس الكلبي أن الهذيل بن عمران قد عسكر بالمصيخ، ونزل ربيعة بن بجير بالثني وبالبشر غضباً لعقة يريدان زرمهر وروزبه، فخرج خالج وسار إلى القعقاع وأبي ليلى فاجتمع بهما بالعين، فبعث القعقاع إلى حصيد، وبعث أبا ليلى إلى الخنافس. ذكر وقعة حصيد والخنافسفسار القعقاع نحو حصيد، وقد اجتمع بها روزبه وزرمهر، فالتقوا بحصيد، فقتل من العجم مقتلة عظيمة، فقتل القعقاع زرمهر، وقتل عصمة ابن عبد الله أحد بني الحارث بن طريف الضبي روزبه، وكان عصمة من البررة، وهم كل فخذ هاجرت بأسرها، والخيرة كل قوم هاجروا من بطن، وغنم المسلمون ما في حصيد وانهزمت الأعاجم إلى الخنافس، وسار أبو ليلى بمن معه إلى الخنافس وبها المهبوذان على العسكر، فلما أحس المهبوذان بهم هرب إلى المصيخ إلى الهذيل بن عمران. ذكر وقعة مصيخ بني البرشاءولما انتهى الخبر إلى خالد بمصاب أهل الحصيد وهرب أهل الخنافس كتب إلى القعقاع وأبي ليلى وأعبد وعروة وواعدهم ليلة وساعة يجتمعون فيها إلى المصيخ، وخرج خالد من العين قاصداً إليهم. فلما كان تلك الساعة من ليلة الموعد اتفقوا جميعاً بالمصيخ فأغاروا على الهذيل ومن معه وهم نائمون من ثلاثة أوجٍ فقتلوهم، وأفلت الهذيل في ناس قليل وكثر فيهم القتل، وكان مع الهذيل عبد العزى بن أبي رهم أخو أوس مناة ولبيد بن جرير، وكانا قد أسلما ومعهما كتاب أبي بكر بإسلامهما، فقتلا في المعركة، فبلغ ذلك أبا بكر وقول عبد العزى: أقول إذ طرق الصباح بغارةٍ ... سبحانك اللهم رب محمد سبحان ربي لا إله غيره ... رب البلاد ورب من يتورد
فواداهما وأوصى بأولادهما، فكان عمر يعتد بقتلهما وقتل مالك بن نويرة على خالد، فيقول أبو بكر: كذلك يلقى من نازل أهل الشرك. وقد كان حرقوص بن النعمان بن النمر قد نصحهم فلم يقبلوا منه، فجلس مع زوجته وأولاده يشربون، فقال لهم: اشربوا شراب مودعٍ، هذا خالد بالعين وجنوده بالحصيد؛ ثم قال: ألا سقياني قبل خيل أبي بكر ... لعل منايانا قريبٌ وما ندري فضرب رأسه، فإذا هو في جفنة فيها الخمر، وقتلوا أولاده وأخذوا بناته. وقيل: إن قتل حرقوص وهذه الوقعة ووقعة الثني كان في مسير خالد ابن الوليد من العراق إلى الشام، وسيذكر إن شاء الله تعالى. ذكر وقعة الثني والزميلوكان ربيعة بن بجير التغلبي بالثني والبشر، وهو الزميل، وهما شرقي الرصافة، قد خرج غضباً لعقة وواعد روزبه وزرمهر والهذيل، ولما أصاب خالد أهل المصيخ واعد القعقاع وأبا ليلى ليلة، وأمرهما بالمسير ليغيروا عليهم، فسار خالد من المصيخ، فاجتمع هو وأصحابه بالثني فبيتهم من ثلاثة أوجهٍ كما فعل بأهل المصيخ وجردوا فيهم السيوف، فلم يفلت منهم مخبر، وغنم وسبى وبعث بالخبر والخمس مع النعمان بن عوف إلى أبي بكر، فاشترى علي بن أبي طالب، كرم الله وجهه، بنت ربيعة بن بجير التغلبي، فاتخذها فولدت له عمر ورقية. ولما انهزم الهذيل بالمصيخ لحق بعتاب بن فلان، وهو بالبشر، في عسكر ضخم، فبينهم خالد بغارة شعواء من ثلاثة أوجهٍ قبل أن يصل إليهم خبر ربيعة، فقتل منهم مقتلة عظيمة لم يقتلوا مثلها وقسم الغنائم، وبعث الخمس إلى أبي بكر، وسار خالد من البشر إلى الرضاب، وبها هلال بن عقة، فتفرق عنه أصحابه، وسار هلال عنها فلم يلق خالد بها كيداً. ذكر وقعة الفراضثم سار خالد من الرضاب إلى الفراض، وهي تخوم الشام والعراق والجزيرة، وأفطر بها رمضان لاتصال الغزوات، وحميت الروم واستعانوا بمنم يليهم من مسالح الفرس فأعانوهم، واجتمع معهم تغلب وإياد والنمر وساروا إلى خالد. فلما بلغوا الفرات قالوا له: إما أن تعبروا إلينا وإما أن نعبر إليكم. قال خالد: اعبروا. قالوا له: تنح عن طريقنا حتى نعبر. قال: لا أفعل، ولكن اعبروا أسفل منا وذلك للنصف من ذي القعدة سنة ثنتي عشرة فعبروا أسفل من خالد، وعظم في أعينهم، وقالت الروم: امتازوا حتى نعرف اليوم من يثبت ممن يولي. ففعلوا، فاقتتلوا قتالاً عظيماً وانهزمت الروم ومن معهم، وأمر خالد المسلمين أن لا يرفعوا عنهم، فقتل في المعركة وفي الطلب مائة ألف، وأقام خالد على الفراض عشراً، ثم أذن بالرجوع إلى الحيرة لخمس بقين من ذي القعدة وأمر عاصم بن عمرو أن يسير بهم، وجعل شجر بن الأعز على الساقة، وأظهر خالد أنه في الساقة. ذكر حجة خالدثم خرج خالد حاجاً من الفراض سراً ومعه عدة أصحابه يعسف البلاد، فأتى مكة وحج ورجع، فما توافى جنده بالخبر حتى وافاهم مع صاحب الساقة فقدما معاً وخالد وأصحابه محلقون، ولم يعلم بحجة إلا من أعلمه به، ولم يعلم أبو بكر بذلك إلا بعد رجوعه، فعتب عليه، وكانت عقوبته إياه أن صرفه إلى الشام من العراق ممداً جموع المسلمين باليرموك، وكان أهل العراق أيام علي إذا بلغهم عن معاوية شيء يقولون: نحن أصحاب ذات السلاسل، ويسمون ما بينها وبين الفراض ولا يذكرون ما بعد الفراض احتقاراً للذي كان بعدها. وأغار خالد بن الوليد على سوق بغداد ووجه المثنى فأغار على سوق فيها جمعٌ لقضاعة وبكر، وأغار أيضاً على مسكن وقطريل وتل عقرقوف وبادوريا؛ قال الشاعر: وللمثنيى بالعال معركةٌ ... شاهدها من قبيله بشر كتيبةٌ أفزعت بوقعتها ... كسرى وكاد الإيوان ينفطر وشجع المسلمين إذ حذروا ... وفي صروف التجارب العبر سهل نهج السبيل فافترقوا ... آثاره والأمور تقتفر يعني بالعال الأنبار ومسكن وقطربل وبادوريا.
وفيها تزوج عمر عاتكة بنت زيد. وفيها مات أبو العاص بن الربيع في ذي الحجة وأوصى إلى الزبير، وتزوج علي، رضي الله عنه، ابنته أمامة، وأمها زينب نبت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وفيها اشترى عمر أسلم مولاه في قول. وحج بالناس هذه السنة أبو بكر، واستخلف على المدينة عثمان بن عفان، وقيل: حج بالناس عمر بن الخطاب أو عبد الرحمن بن عوف. وفيها مات أبو مرثد الغنوي، وهو بدري، وكان ابنه مرثد بن أبي مرثد قد قتل بالرجيع، وهو بدري أيضاً. ثم دخلت سنة ثلاث عشرة ذكر فتوح الشام قيل: في سنة ثلاث عشرة وجه أبو بكر الجنود إلى الشام بعد عوده من الحج، فبعث خالد بن سعيد بن العاص، وقيل: إنما سيره لما سير خالد بن الوليد إلى العراق، وكان أول لواء عقده إلى الشام لواء خالد، ثم عزله قبل أن يسير. وكان سبب عزله أنه تربص ببيعة أبي بكر شهرين ولقي علي بن أبي طالب وعثمان بن عفان فقال: يا أبا الحسن، يا بني عبد مناف، أغلبتم عليها؟ فقال علي: أمغالبةً ترى أم خلافة. فأما أبو بكر فلم يحدقها عليه وأما عمر فاضطغنها عليه، فلما ولاه أبو بكر لم يزل به عمر به حتى عزله من الإمارة وجعله ردءاً للمسلمين بتيماء وأمره أن لا يفارقها إلا بأمره وأن يدعو من حوله من العرب غلا من ارتد وأن لا يقاتل إلا من قاتله. فاجتمع إليه جموع كثيرة، وبلغ خبره الروم فضربوا البعث على العرب الضاحية بالشام من بهراء وسليح وغسان وكلب ولخم وجذام، فكتب خالد بن سعيد إلى بكر بذلك، فكتب إليه أبو بكر: أقدم ولا تقتحمن. فسار إليهم، فلما دنا منهم تفرقوا، فنزل منزلهم وكتب إلى أبي بكر بذلك، فأمره بالإقدام بحيث لا يؤتى من خلفه. فسار حتى جازه قليلاً ونزل، فسار إليه بطريق من بطارقة الروم يدعى باهان، فقاتله فهزمه وقتل من جنده، فكتب خالد إلى أبي بكر يستمده، وكان قد قدم على أبي بكر أوائل مستنفري اليمن وفيهم ذو الكلاع، وقدم عكرمة بن أبي جهل فيمن معه من تهام وعمان والبحرين والسرو، فكتب لهم أبو بكر إلى أمراء الصدقات أن يبدلوا من استبدل، فكلهم استبدل، فسمي جيش البدال، وقدموا على خالد بن سعيد. وعندها اهتم أبو كبر بالشام وعناه أمره، وكان أبو بكر قد رد عمرو ابن العاص إلى عمله الذي كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ولاه إياه من صدقات سعد هذيم وعذرة وغيرهم قبل ذهابه إلى عمان ووعده أن يعيده إلى عمله بعد عوده من عمان، فأنجز له أبو بكر عدة رسول الله، صلى الله عليه وسلم. فلما عزم على قصد الشام كتب له: إني كنت قد رددتك على العمل الذي ولاك رسول الله، صلى الله عليه وسلم، مرة ووعدك به أخرى إنجازاً لمواعيد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وقد وليته، وقد أحببت أن أفرغك لما هو خير لك في الدنيا والآخرة، إلا أن يكون الذي أنت فيه أحب إليك. فكتب إليه عمرو: إني سهم من سهام الإسلام، وأنت بعد الله الرامي بها والجامع لها، فانظر أشدها وأخشاها وأفضلها فارم به. فأمره وأمر الوليد ابن عقبة، وكان على بعض صدقات قضاعة، أن يجمعا العرب، ففعلا، وأرسل أبو بكر إلى عمرو بعض من اجتمع إليه وأمره بطريق سماها له إلى فلسطين، وأمر الوليد بالأردن وأمده ببعضهم، وأمر يزيد بن أبي سفيان على جيش عظيم هو جمهور من انتدب إليه، فيهم سهيل بن عمرو في أمثاله من أهل مكة، وشيعه ماشياً، وأوصاه وغيره من الأمراء، فكان مما قال ليزيد:
(إني قد وليتك لأبلوك وأجربك وأخرجك، فإن أحسنت رددتك إلى عملك وزدتك، وإن أسأت عزلتك، فعليك بتقوى الله فإنه يرى من باطنك مثل الذي من ظاهرك، وإن أولى الناس بالله أشدهم تولياً له، وأقرب الناس من الله أشدهم تقرباً إليه بعمله، وقد وليتك عمل خالد فإياك وعبية الجاهلية، فإن الله يبغضها ويبغض أهلها، وإذا قدمت على جندك فأحسن صحبتهم وابدأهم بالخير وعدهم إياه، وإذا وعظتهم فأوجز فإن كثير الكلام ينسي بعضه بعضاً، وأصلح نفسك يصلح لك الناس، وصل الصوات لأوقاتها بإتمام ركوعها وسجودها والتخشع فيها، وإذا قدم عليك رسل عدوك فأكرمهم وأقلل لبثهم حتى يخرجوا من عسكرك وهم جاهلون به ولا ترينهم فيروا خللك ويعلموا علمك، وأنزلهم في ثروة عسكرك، وامنع من قبلك من محادثتهم، وكن أنت المتولي لكلامهم، ولا تجعل سرك لعلانيتك فيخلط أمرك، وإذا استشرت فاصدق الحديث تصدق المشورة، ولا تخزن عن المشير خبرك فتؤتى من قبل نفسك، واسمر بالليل في أصحابك تأتك الأخبار وتنكشف عندك الأستار، وأكثر حرسك وبددهم في عسكرك، وأكثر مفاجأتهم في محارسهم بغير علم منهم بك، فمن وجدته غفل عن محرسه فأحسن أدبه وعاقبه في غير إفراط، وأعقب بينهم بالليل، واجعل النوبة الأولى أطول من الأخيرة فإنها أيسرهما لقربها من النهار، ولا تخف من عقوبة المستحق، ولا تلجن فيها، ولا تسرع إليها، ولا تخذلها مدفعاً، ولا تغفل عن أهل عسكرك فتفسده، ولا تجسس عليهم فتفضحهم، ولا تكشف الناس عن أسرارهم، واكتف بعلانيتهم، ولا تجالس العباثين، وجالس أهل الصدق والوفاء، واصدق اللقاء، ولا تجبن فيجبن الناس، واجتنب الغلول فإنه يقرب الفقر ويدفع النصر، وستجدون أقواماً حبسوا أنفسهم في الصوامع فدعهم وما حبسوا أنفسهم له). وهذه من أحسن الوصايا وأكثرها نفعاً لولاة الأمر. ثم إن أبا بكر استعمل أبا عبيدة بن الجراح على من اجتمع وأمره بحمص، وسار أبو عبيدة على باب من البلقاء فقاتله أهله ثم صالحوه، فكان أول صلح في الشام. واجتمع للروم جمع بالعربة من أرض فلسطين، فوجه إليهم يزيد بن أبي سفيان أبا أمامة الباهلي فهزمهم، فكان أول قتال بالشام بعد سرية أسامة بن زيد. ثم أتوا الدائن فهزمهم أبو أمامة أيضاً، ثم مرج الصفر استشهد فيها ابن الخالد بن سعيد، وقيل: استشهد فيها خالد أيضاً، وقيل: بل سلم وانهزم على ما نذكره، وذلك أنه لما سمع توجيه الأمراء بالجنود بادر لقتال الروم فاستطرد له باهان فاتبعه خالد ومعه ذو الكلاع وعكرمة والوليد فنزل مرج الصفر، فاجتمعت عليه مسالح باهان وأخذوا الطرق، وخرج باهان فرأى ابن خالد بن سعيد فقتله ومن معه، فسمع خالد فانهزم، فوصل في هزيمته إلى ذي المروة قريب المدينة، فأمره أبو بكر بالمقام بها، وبقي عكرمة في الناس ردءاً للمسلمين يمنع من يطلبهم. وكان قد قدم شرحبيل بن حسنة من عند خالد بن الوليد إلى أبي بكر وافداً، فأمره أبو بكر بالشام وندب معه الناس واستعمله على عمل الوليد ابن عقبة. فأتى شرحبيل على خالد بن سعيد ففصل عنه ببعض أصحابه، واجتمع إلى أبي بكر ناس فأرسلهم مع معاوية بن أبي سفيان وأمره باللحاق بأخيه يزيد، فلما مر بخالد فصل عنه بباقي أصحابه. فأذن أبو بكر لخالد بدخول المدينة. فلما وصل الأمراء إلى الشام نزل أبو عبيدة الجابية، ونزل يزيد البلقاء، ونزل شرحبيل الأردن، وقيل بصرى، ونزل عمرو بن العاص العربة. فبلغ الروم ذلك فكتبوا إلى هرقل، وكان بالقدس، فقال: أرى أن تصالحوا المسلمين، فوالله لأن تصالحوهم على نصف ما يحصل من الشام ويبقى لكم نصفه مع بلاد الروم أحب إليكم من أن يغلبوكم على الشام ونصف بلاد الروم. فتفرقوا عنه وعصوه، فجمعهم وسار بهم إلى حمص، فنزلها وأعد الجنود والعساكر، وأرا إشغال كل طائفة من المسلمين بطائفة من عسكره لكثرة جنده لتضعف كل فرقة من المسلمين عمن بإزائه، فأرسل تذارق أخاه لأبيه وأمه في تسعين ألفاً إلى عمرو، وأرسل جرجة بن توذر إلى يزيد بن أبي سفيان، وبعث القيقار بن نسطوس في ستين ألفاً إلى أبي عبيدة ابن الجراح، وبعث الدراقص نحو شرحبيل، فهابهم المسلمون وكاتبوا عمراً ما الرأي، فأجابهم: إن الرأي لمثلنا الاجتماع، فإن مثلنا إذا اجتمعنا لا نغلب من قلة، فإن تفرقنا لا يقوم كل فرقة له بمن استقبلها لكثرة عدونا.
وكتبوا إلى أبي بكر فأجابهم مثل جواب عمرو وقال: إن مثلكم لا يؤتى من قلة وإنما يؤتى العشرة آلاف من الذنوب، فاحترسوا منها، فاجتمعوا باليرموك متساندين وليصل كل واحد منكم بأصحابه. فاجتمع المسلمون باليرموك والروم أيضاً وعليهم التذارق وعلى المقدمة جرجة وعلى المجنبة باهان، ولم يكن وصل بعد إليهم، والدراقص على الأخرى وعلى الحرب القيقار، فنزل الروم وصار الوادي خندقاً لهم، وإنما أرادوا أن يتأنس الروم بالمسلمين لترجع إليهم قلوبهم، ونزل المسلمون على طريقهم ليس للروم طريقٍ إلا عليهم، فقال عمرو: أبشروا! حصرت الروم وقل ما جاء محصورٌ بخير. وأقاموا صفراً عليهم وشهري ربيع لا يقدرون منهم على شيء من الوادي والخندق ولا يخرج الروم خرجة إلا أديل عليهم المسلمون. ذكر مسير خالد بن الوليد من العراق إلى الشام لما رأى المسلمون مطاولة الروم استمدوا أبا بكر، فكتب إلى خالد بن الوليد يأمره بالمسير إليهم وبالحث وأن يأخذ نصف الناس ويستخلف على النصف الآخر المثنى بن حارثة الشيباني، ولا يأخذن من فيه نجدة إلا ويترك عند المثنى مثله، وإذا فتح الله عليهم رجع خالد وأصحابه إلى العراق. فاستأثر خالد بأصحاب النبي، صلى الله عليه وسلم، على المثنى وترك للمثنى عدادهم من أهل القناعة من ليس له صحبة، ثم قسم الجند نصفين، فقال المثنى: والله لا أقيم إلا على إنفاذ أمر أبي بكر، وبالله ما أرجو النصر إلا بأصحاب النبي، صلى الله عليه وسلم. فلما رأى خالد ذلك أرضاه ومضى لوجهه وشيعه المثنى إلى قراقر ثم رجع إلى الحيرة في المحرم. وقيل: سار من العراق في ثمانمائة، وقيل: في ستمائة، وقيل: في خمسمائة، وقيل: في تسعة آلاف، وقيل: في ستة آلاف، وقيل: إنما أمره أبو بكر أن يأخذ أهل القوة والنجدة، فأتى حدوداء فقاتله أهلها فظفر بهم، وأتى المصيخ وبه جمع من تغلب فقاتلهم وظفر بهم وسبى وغنم. وكان من السبي الصهباء بنت حبيب بن بجير، وهي أم عمر بن علي ابن أبي طالب، وقيل في أمرها ما تقدم. وقيل: سار خالد فلما وصل إلى قراقر، وهو ماء لكلب، أغار على أهلها وأراد أن يسير منهم فوزاً إلى سوى، وهو ماء لبهراء بينهما خمس ليال، فالتمس دليلاً، فدل على رافع بن عميرة الطائي، فقال له في ذلك، فقال له رافع: إنك لن تطيق ذلك بالخيل والأثقال، فوالله إن الراكب المفرد يخافه على نفسه. فقال: إنه لابد لي من ذلك لأخرج من وراء جموع الروم لئلا يحبسني عن غياث المسلمين. فأمر صاحب كل جماعة أن يأخذ الماء للشعبة لخمس وأن يعطش من الإبل الشرف ما يكتفي به ثم يسقوها عللاً بعد نهل، والعلل الشربة الثانية، والنهل الأولى، ثم يصروا آذان الإبل ويشدوا مشافرها لئلا تجتر. ثم ركبوا من قراقر، فلما ساروا يوماً وليلة شقوا لعدة من الخيل بطون عشرة من الإبل فمزجوا ماء في كروشها بما كان من الألبان وسقوا الخيل، ففعلوا ذلك أربعة أيام. فلما دنا من العلمين قال للناس: انظروا هل ترون شجرة عوسج كقعدة الرجل؟ فقالوا: ما نراها. فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، هلكتم والله وهلكت معكم! وكان أرمد. فقال لهم: انظروا ويحكم! فنظروا فرأوها قد قطعت وبقي منها بقية. فلما رأوها كبروا، فقال رافع: احفروا في أصلها. فحفروا واستخرجوا عيناً فشربوا حتى روي الناس. فقال رافع: والله ما وردت هذا الماء قط إلا مرة واحدة مع أبي وأنا غلام. فقال شاعر من المسلمين: لله عينا رافعٍ أنى اهتدى ... فوز من قراقرٍ إلى سوى خمساً إذا ما ساره الجيش بكى ... ما سارها قبلك إنسيٌّ يرى فلما انتهى خالد إلى سوى أغار على أهلها وهم بهراء وهم يشربون الخمر في جفنة قد اجتمعوا عليها ومغنيهم يقول: ألا عللاني قبل جيش أبي بكر ... لعل منايانا قريبٌ ولا ندري ألا عللاني بالزجاج وكرروا ... علي كميت اللون صافيةً تجري ألا عللاني من سلافة قهوةٍ ... تسلي هموم النفس من جيد الخمر أظن خيول المسلمين وخالداً ... ستطرقكم قبل الصباح مع النسر فهل لكم في السير قبل قتالكم ... وقبل خروج المعصرات من الخدر
فقتل المسلمون مغنيهم وسال دمه في تلك الجفنة وأخذوا أموالهم وقتل حرقوص بن النعمان البهراني. ثم أتى أرك فصالحوه، ثم أتى تدمر فتحصن أهله ثم صالحوه، ثم أتى القريتين فقاتلهم فظفر بهم وغنم، وأتى حوارين فقاتل أهلها فهزمهم وقتل وسبى، وأتى قصم فصالحه بنو مشجعة من قضاعة، وسار فوصل إلى ثنية العقاب عند دمشق ناشراً رايته، وهي راية سوداء، وكانت لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، تسمى العقاب، وقيل: كانت رايته تسمى العقاب فسميت الثنية بها، وقيل: سميت بعقاب من الطير سقطت عليها، والأول أصح. ثم سار فأتى مرج راهط فأغار على غسان في يوم فصحهم فقتل وسبى، وأرسل سرية إلى كنيسة بالغوطة فقتلوا الرجال وسبوا النساء وساقوا العيال إلى خالد. ثم سار حتى وصل إلى بصرى فقاتل من بها فظفر بهم وصالحهم، فكانت بصرى أول مدينة فتحت بالشام على يد خالدوأهل العراق. وبعث بالأخماس إلى أبي بكر. ثم سار فطلع على المسلمين في ربيع الآخر، وطلع باهان على الروم ومعه الشمامسة والقسيسون والرهبان يحرضون الروم على القتال، وخرج باهان كالمعتذر، فولي خالد قتاله، وقاتل الأمراء من بإزائهم، ورجع باهان والروم إلى خندقهم وقد نال منهم المسلمون. عميرة بفتح العين المهملة وكسر الميم. ذكر وقعة اليرموك فلما تكامل جمع المسلمين باليرموك، وكانوا سبعة وعشرين ألفاً، قدم خالد في تسعة آلاف فصاروا ستة وثلاثين ألفاً سوى عكرمة فإنه كان ردءاً لهم، وقيل: بل كانوا سبعة وعشرين ألفاً وثلاثة آلاف من فلال خالد ابن سعيد، وعشرة آلاف مع خالد بن الوليد، فصاروا أربعين ألفاً سوى ستة آلاف مع عكرمة بن أبي جهل، وقيل في عددهم غير ذلك، والله أعلم. وكان فيهم ألف صحابي، منهم نحو مائة ممن شهد بدراً. وكان الروم في مائتي ألف وأربعين ألف مقاتل، منهم ثمانون ألف مقيد وأربعون ألف مسلسل للموت وأربعون ألفاً مربطون بالعمائم لئلا يفروا وثمانون ألف راجل، وقيل: كانوا مائة ألف، وكان قتال المسلمين لهم على تساند، كل أمير على أصحابه لا يجمعهم أحد، حتى قدم خالد بن الوليد من العراق، وكان القسيسون والرهبان يحرضون الروم شهراً، ثم خرجوا إلى القتال الذي لم يكن بعده قتال في جمادى الآخرة. فلما أحس المسلمون بخروجهم أرادوا الخروج متساندين، فسار فيهم خالد بن الوليد فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن هذا يوم من أيام الله لا ينبغي فيه الفخر ولا البغي، أخلصوا جهادكم وأريدوا الله بعملكم، فإن هذا يوم له ما بعده، ولا تقاتلوا قوماً على نظام وتعبية وأنتم متساندون فإن ذلك لا يحل ولا ينبغي، وإن من وراءكم لو يعلم علمكم حال بينكم وبين هذا، فاعملوا فيما لم تؤمروا به بالذي ترون أنه رأي من وإليكم ومحبته. قالوا: هات فما الرأي؟ قال: إن أبا بكر لم يبعثنا إلا وهو يرى أنا سنتياسر، ولو علم بالذي كان ويكون لقد جمعكم، إن الذي أنتم فيه أشد على المسلمين مما قد غشيهم وأنفع للمشركين من أمدادهم، ولقد علمت أن الدنيا فرقت بينكم، فالله الله! فقد أفرد كل رجل منكم ببلد لا ينتقصه منه إن دان لأحد من الأمراء ولا يزيده عليه إن دانوا له. إن تأمير بعضكم لا ينتقصكم عند الله ولا عند خليفة رسول الله، صلى الله عليه وسلم. هلموا فإن هؤلاء قد تهيأوا، وإن هذا يوم له ما بعده، إن رددناهم إلى خندقهم اليوم لم نزل نردهم وإن هزمونا لم نفلح بعدها. فهلموا فلنتعاور الإمارة فليكن بعضنا اليوم والآخر غداً والآخر بعد غد حتى تتأمروا كلكم، ودعوني أتأمر اليوم. فأمروه وهم يرون أنها كخرجاتهم وأن الأمر لا يطول. فخرجت الروم في تعبية لم ير الراؤون مثلها قط، وخرج خالد في تعبية لم تعبها العرب قبل ذلك، فخرج في ستة وثلاثين كردوساً إلى الأربعين، وقال: إن عدوكم كثير وليس تعبية أكثر في رأي العين من الكراديس، فجعل القلب كراديس وأقام فيه أبا عبيدة، وجعل الميمنة كراديس وعليها عمرو بن العاص وشرحبيل بن حسنة، وجعل الميسرة كراديس وعليها يزيد بن أبي سفيان، وكان على كردوسٍ القعقاع بن عمرو، وجعل على كل كردوس رجلاً من الشجعان، وكان القاضي أبو الدرداء، وكان القاص أبو سفيان بن حرب، وعلى الطلائع قباث بن أشيم، وعلى الأقباض عبد الله ابن مسعود.
قال رجل لخالد: ما أكثر الروم وأقل المسلمين! فقال خالد: ما أكثر المسلمين وأقل الروم، وإنما تكثر الجنود بالنصر وتقل بالخذلان، والله لوددت أن الأشقر، يعني فرسه، براء من توجيه وأنهم أضعفوا في العدد، وكان قد حفي في مسيره. فأمر خالدٌ عكرمة بن أبي جهل والقعقاع بن عمرو فأنشبا القتال. والتحم الناس وتطارد الفرسان وتقاتلوا، فإنهم على ذلك قدم البريد من المدينة واسمه محمية بن زنيم، فسألوه الخبر، فأخبرهم بسلامة وأمداد؛ وإنما جاء بموت أبي بكر وتأمير أبي عبيدة، فبلغوه خالداً، فأخبره خبر أبي بكر سراً. وخرج جرجة إلى بين الصفين وطلب خالداً، فخرج إليه، فآمن كل واحد منهما صاحبه، فقال جرجة: يا خالد اصدقني ولا تكذبني، فإن الحر لا يكذب، ولا تخادعني، فإن الكريم لا يخادع المسترسل، هل أنزل الله نبيكم سيفاً من السماء فأعطاكه فلا تسله على قوم إلا هزمتهم؟ قال: لا. قال: ففيم سميت سيف الله؟ فقال له: إن الله بعث فينا نبيه، صلى الله عليه وسلم، فكنت فيمن كذبه وقاتله، ثم إن الله هداني فتابعته، فقال: (أنت سيف الله سله على المشركين)! ودعا لي بالنصر. قال: فأخبرني إلى ما تدعوني. قال خالد: إلى الإسلام أو الجزية أو الحرب. قال: فما منزلة من الذي يجيبكم ويدخل فيكم؟ قال: منزلتنا واحدة. قال: فهل له مثلكم من الأجر والذخر؟ قال: نعم وأفضل لأننا اتبعنا نبينا وهو حي يخبرنا بالغيب ونرى منه العجائب والآيات، وحق لمن رأى ما رأينا وسمع ما سمعنا أن يسلم، وأنتم لم تروا مثلنا ولم تسمعوا مثلنا، فمن دخل بنية وصدقٍ كان أفضل منا. فقلب جرجة ترسه ومال مع خالد وأسلم وعلمه الإسلام واغتسل وصلى ركعتين ثم خرج مع خالد فقاتل الروم. وحملت الروم حملة أزالوا المسلمين عن مواقفهم إلا المحامية، عليهم عكرمة وعمه الحارث بن هشام، فقال عكرمة: قاتلت النبي، صلى الله عليه وسلم، في كل موطن ثم أفر اليوم! ثم نادى: من يبايع على الموت؟ فبايعه الحارث بن هشام وضرار بن الأزور في أربعمائة من وجوه المسلمين وفرسانهم، فقاتلوا قدام فسطاط خالد حتى أثبتوا جميعاً جراحاً، فمنهم من برأ ومنهم من قتل. وقاتل خالد وجرجة قتالاً شديداً، فقتل جرجة عند آخر النهار وصلى الناس الأولى والعصر إيماء وتضعضع الروم ونهد خالد بالقلب حتى كان بين خيلهم ورجلهم، فانهزم الفرسان وتركوا الرجالة. ولما رأى المسلمون خيل الروم قد توجهت للمهرب أفرجوا لها، فتفرقت وقتل الرجالة واقتحموا في خندقهم، فاقتحمه عليهم، فعمدوا إلى الواقوصة حتى هوى فيها المقترنون وغيرهم، ثمانون ألفاً من المقترنين وأربعون ألف مطلق سوى من قتل في المعركة، وتجلل الفيقار وجماعة من أشراف الروم برانسهم وجلسوا فقتلوا متزملين. ودخل خالد الخندق ونزل في رواق تذارق. فلما أصبحوا أتى خالد بعكرمة بن أبي جهل جريحاً فوضع رأسه على فخذه، وبعمرو بن عكرمة فجعل رأسه على ساقه ومسح وجوههما وقطر في حلوقهما الماء وقال: زعم ابن حنتمة، يعني عمر، أنا لا نستشهد! وقاتل النساء ذلك اليوم وأبلين. قال عبد الله بن الزبير: كنت مع أبي باليرموك وأنا صبي لا أقاتل، فلما اقتتل الناس نظرت إلى ناسٍ على تل لا يقاتلون، فركبت وذهبت إليهم وإذا أبو سفيان بن حرب ومشيخة من قريش من مهاجرة الفتح فرأوني حدثاً فلم يتقوني، قال: فجعلوا والله إذا مال المسلمون وركبتهم الروم يقولون: إيه بني الأصفر! فإذا مالت الروم وركبهم المسلمون: قال: ويح بني الأصفر! فلما هزم الله الروم أخبرت أبي فضحك فقال: قاتلهم الله! أبوا إلا ضغناً، لنحن خير لهم من الروم! وفي اليرموك أصيبت عين أبي سفيان بن حرب. ولما انهزمت الروم كان هرقل بحمص، فنادى بالرحيل عنها قريباً وجعلها بينه وبين المسلمين وأمر عليها أميراً كما أمر على دمشق. وكان من أصيب من المسلمين ثلاثة آلاف، منهم عكرمة وابنه عمرو وسلمة بن هشام وعمرو ابن سعيد وأبان بن سعيد وجندب بن عمرو والطفيل بن عمرو وطليب بن عمير وهشام بن العاص وعياش بن أبي ربيعة، في قول بعضهم. عياش بالياء المثناة والشين المعجمة.
وفيها قتل سعيد بن الحرب بن قيس بن عدي السهمي، وهو من مهاجرة الحبشة. وفيها قتل نعيم بن عبد الله النحام العدوي عدي قريش، وكان إسلامه قبل عمر. وفيها قتل النضير بن الحارث بن علقمة، وهو قديم الإسلام والهجرة، وهو أخو النضر الذي قتل ببدر كافراً. وقتل فيها أبو الروم بن عمير بن هاشم العبدري أخو مصعب بن عمير، وهو من مهاجرة الحبشة، شهد أحداً. وقيل قتلوا يوم أجنادين، والله أعلم. ذكر حال المثنى بن حارثة بالعراق وأما المثنى بن حارثة الشيباني فإنه لما ودع خالد بن الوليد، وسار خالد إلى الشام فيمن معه بالجند، أقام بالحيرة ووضع المسلحة وأذكى العيون، واستقام أمر فارس بعد مسير خالد من الحيرة بقليل، وذلك سنة ثلاث عشرة، على شهربراز ابن أردشير بن شهريار سابور، فوجه إلى المثنى جنداً عظيماً عليهم هرمز جاذويه في عشرة آلاف، فخرج المثنى من الحيرة نحوه وعلى مجنبتيه المعنى ومسعود أخواه، فأقام ببابل وأقبل هرمز نحوه، وكتب كسرى شهربراز إلى المثنى كتاباً: (إني قد بعثت إليكم جنداً من وحش أهل فارس، إنما هم رعاء الدجاج والخنازير ولست أقاتلك إلا بهم). فكتب إليه المثنى: (إنما أنت أحد رجلين: إما باغٍ فذلك شر لك وخير لنا، وإما كاذبٌ فأعظم الكاذبين فضيحة عند الله وفي الناس الملوك، وأما الذي يدلنا عليه الرأي فإنكم إنما أضررتم إليهم، فالحمد لله الذي رد كيدهم إلى رعاة الدجاج والخنازير). فجزع الفرس من كتابه فالتقى المثنى وهرمز ببابل فاقتتلوا قتالاً شديدا | |
|
 | |
الشيخ عودة الشيخ عودة

عدد المساهمات : 1748 تاريخ التسجيل : 28/09/2008 العمر : 72
 | موضوع: رد: كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير الجمعة فبراير 07, 2014 9:11 am | |
| وشهد بدراً وأحداً والخندق وغير ذلك من المشاهد مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأعتقد سبعة نفر كلهم يعذب في الله تعالى، منهم بلال وعامربن فهيرة وزنيرة والنهدية وابنها وجارية بني مؤمل وأم عبيس وأسلم. وله أربعون ألفاً أنفقها في الله مع ما كسب في التجارة. ولما ولي الخلافة وارتدت العرب خرج شاهراً سيفه إلى ذي القصة، فجاءه علي وأخذ بزمام راحلته وقال له: أين يا خليفة رسول الله، صلى الله عليه وسلم! أقول لك ما قال لك رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يوم أحد: شم سيفك لا تفجعنا بنفسك، فوالله لئن أصبنا بك لا يكون للإسلام نظام؛ فرجع وأمضى الجيش. وكانت له بيت مال بالسنح، وكان يسكنه إلى أن انتقل إلى المدينة، فقيل له: ألا نجعل عليه من يحرسه؟ قال: لا. فكان ينفق جميع ما فيه على المسلمين فلا يبقى فيه شيء، فلما انتقل إلى المدينة جعل بيت المال معه في داره. وفي خلافته انفتح معدن بني سليم، وكان يسوي في قسمته بين السابقين الأولين والمتأخرين في الإسلام وبين الحر والعبد والذكر والأنثى، فقيل له: لتقدم أهل السبق على قدر منازلهم، فقال: إنما أسلموا لله ووجب أجرهم عليه يوفيهم ذلك في الآخرة، وإنما هذه الدنيا بلاغٌ. وكان يشتري الأكسية ويفرقها في الأرامل في الشتاء. ولما توفي أبو بكر جمع عمر الأمناء وفتح بيت المال فلم يجدوا فيه شيئاً غير دينار سقط من غرارة، فترحموا عليه.
قال أبو صالح الغفاري: كان عمر يتعهد امرأةً عمياء في المدينة بالليل فيقوم بأمرها فكان إذا جاءها وجد غيره قد سبقه إليها ففعل ما أرادت، فرصده عمر فإذا هو أبو بكر كان يأتيها ويقضي أشغالها سراً وهو خليفة، فقال له: أنت هو لعمري! قال أبو بكر بن حفص بن عمر: لما حضرت أبا بكر الوفاة حضرته عائشة وهو يعالج الموت فتمثلت: لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى ... إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر فنظر إليها كالغضبان ثم قال: ليس كذلك ولكن (جاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد) ق:!رضي الله عنه، إني قد كنت نحلتك حائط كذا وفي نفسي منه شيء فرديه على الميراث، فردته، فقال: إنما هما أخواك وأختك. قالت: من الثانية؟ إنما هي أسماء. قال: ذات بطن بنت خارجة، يعني زوجته، وكانت حاملاً فولدت أم كلثوم بعد موته. وقال لها: أما إنا منذ ولينا أمر المسلمين لم نأكل لهم ديناراً ولا درهماً ولكنا قد أكلنا من جريش طعامهم ولبسنا من خشن ثيابهم وليس عندنا من فيء المسليمن قليل ولا كثير إلا هذا العبد وهذا البعير وهذه القطيفة، فإذا مت فابعثي بالجميع إلى عمر. فلما مات بعثته إلى عمر، فلما رآه بكى حتى سالت دموعه إلى الأرض وجعل يقول: رحم الله أبا بكر! لقد أتعب من بعده، ويكرر ذلك، وأمر برفعه. فقال عبد الرحمن ابن عوف: سبحان الله! تسلب عيال أبي بكر عبداً وناضحاً وسحق قطيفة ثمنها خمسة دراهم، فلو أمرت بردها إليهم. فقال: لا والذي بعث محمداً، صلى الله عليه وسلم، بالحق لا يكون هذا في ولايتي ولا خرج أبو بكر منه وأتقلده أنا. وأمر أبو بكر أن يرد جميع ما أخذ من بيت المال لنفقته بعد وفاته. وقيل: إن زوجته اشتهت حلواً فقال: ليس لنا ما نشتري به. فقالت: أنا أستفضل من نفقتنا في عدة أيام ما نشتري به. قال: افعلي. ففعلت ذلك، فاجتمع لها في أيام كثيرة شيء يسير، فلما عرفته ذلك ليشتري به حلواً أخذه فرده إلى بيت المال وقال: هذا يفضل عن قوتنا، وأسقط من نفقته بمقدار ما نقصت كل يوم وغرمه لبيت المال من ملك كان له. هذا والله هو التقوى الذي لا مزيد عليه وبحق قدمه الناس، رضي الله عنه وأرضاه. وكان منزل أبي بكر بالسنح عند زوجته حبيبة بنت خارجة، فأقام هنالك ستة أشهر بعد ما بويع له، وكان يغدو على رجليه إلى المدينة، وربما ركب فرسه، فيصلي بالناس، فإذا صلى العشاء رجع إلى السنح، وكان إذا غاب صلى بالناس عمر. وكان يغدو كل يوم إلى السوق فيبيع ويبتاع، وكانت له قطعة غنم تروح عليه، وربما خرج هو بنفسه فيها، وربما رعيت له، وكان يحلب للحي أغنامهم، فلما بويع بالخلافة قالت جارية منهم: الآن لا يحلب لنا منائح دارنا، فسمعها فقال: بلى لعمري لأحلبنها لكم، وإني لأرجو أن لا يغير بي ما دخلت فيه. فكان يحلب لهم. ثم تحول إلى المدينة بعد ستة أشهر من خلافته وقال: ما تصلح أمور الناس مع التجارة، وما يصلح إلا التفرغ لهم والنظر في شأنهم، فترك التجارة، وأنفق من مال المسلمين ما يصلحه وعياله يوماً بيوم ويحج ويعتمر، فكان الذي فرضوا له في كل سنة ستة آلاف درهم، وقيل: فرضوا له ما يكفيه، فلما حضرته الوفاة أوصى أن تباع أرض له ويصرف ثمنها عوض ما أخذه من مال المسلمين. وكان أول والٍ فرض له رعيته نفقته، وأول خليفة ولي وأبوه حي، وأول من سمى مصحف القرآن مصحفاً، وأول من سمي خليفة. زنيرة بكسر الزاي، والنون المشددة. وعبيس بضم العين المهملة، وبالباء الموحدة المفتوحة، ثم بالياء المثناة من تحت، وبالسين المهملة. ومنية بالنون الساكنة، والياء تحتها نقطتان. ذكر استخلافه عمر بن الخطابلما نزل بأبي بكر، رضي الله عنه، الموت دعا عبد الرحمن بن عوف فقال: أخبرني عن عمر. فقال: إنه أفضل من رأيك إلا أنه فيه غلظة. فقال أبو بكر: ذلك لأنه يراني رقيقاً، ولو أفضى الأمر إليه لترك كثيراً مما هو عليه، وقد رمقته فكنت إذا غضبت على رجل أراني الرضاء عنه، وإذا لنت له أراين الشدة عليه. ودعا عثمان بن عفان وقال له: أخبرني عن عمر. فقال: سريرته خير من علانيته، وليس فينا مثله. فقال أبو بكر لهما: لا تذكرا مما قلت لكما شيئاً، ولو تركته ما عدوت عثمان، والخيرة له أن لا يلي من أموركم شيئاً، ولوددت أني كنت من أموركم خلواً وكنت فيمن مضى من سلفكم.
ودخل طلحة بن عبيد الله على أبي بكر فقال: استخلفت على الناس عمر وقد رأيت ما يلقى الناس منه وأنت معه، وكيف به إذا خلا بهم وأنت لاقٍ ربك فسائلك عن رعيتك! فقال أبو بكر: أجلسوني، فأجلسوه، فقال: أبالله تخوفني! إذا لقيت ربي فسألني قلت: استخلفت على أهلك خير أهلك. ثم إن أبا بكر أحضر عثمان بن عفان خالياً ليكتب عهد عمر، فقال له: اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما عهد أبو بكر بن أبي قحافة إلى المسلمين، أما بعد. ثم أغمي عليه، فكتب عثمان: أما بعد فإني قد استخلفت عليكم عمر بن الخطاب ولم آلكم خيراً. ثم أفاق أبو بكر فقال: اقرأ علي. فقرأ عليه، فكبر أبو بكر وقال: اراك خفت أن يختلف الناس إن مت في غشيتي. قال: نعم. قال: جزاك الله خيراً عن الإسلام وأهله. فلما كتب العهد أمر به أن يقرأ على الناس، فجمعهم وأرسل الكتاب مع مولى له ومعه عمر، فكان عمر يقول للناس: أنصتوا واسمعوا لخليفة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فإنه لم يألكم نصحاً. فسكن الناس، فلما قرىء عليهم الكتاب سمعوا وأطاعوا، وكان أبو بكر أشرف على الناس وقال: أترضون بمن استخلفت عليكم؟ فإني ما استخلفت عليكم ذا قرابة، وإني قد استخلفت عليكم عمر فاسمعوا له وأطيعوا، فإني والله ما ألوت من جهد الرأي. فقالوا: سمعنا وأطعنا. ثم أحضر أبو بكر عمر فقال له: إني قد استخلفتك على أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأوصاه بتقوى الله ثم قال: يا عمر إن لله حقاً بالليل لا يقبله في النهار، وحقاً في النهار لا يقبله بالليل، وإنه لا يقبل نافلة حتى تؤدي الفريضة، ألم تر يا عمر أنما ثقلت موازين من ثقلت موازينه يوم القيامة باتباعهم الحق وثقله عليهم، وحق لميزان لا يوضع فيه غداً إلا حق أن يكون ثقيلاً. ألم تر يا عمر أنما خفت موازين من خفت موازينه يوم القيامة باتباعهم الباطل وخفته عليهم، وحق لميزان أن يوضع فيه غداً إلا باطل أن يكون خفيفاً. ألم تر يا عمر أنما نزلت آية الرخاء مع آية الشدة وآية الشدة مع آية الرخاء ليكون المؤمن راغباً راهباً، لا يرغب رغبة يتمنى فيها على الله ما ليس له، ولا يرهب رهبةً يلقي فيها بيديه. أو لم تر يا عمر أنما ذكر أهل النار بأسوإ أعمالهم فإذا ذكرتهم قلت إني لأرجو أن لا أكون منهم، وأنه إنما ذكر أهل الجنة بأحسن أعمالهم لأنه يجاوز لهم ما كان من سيء فإذا ذكرتهم قلت أين عملي من أعمالهم؟ فإن حفظت وصيتي فلا يكونن غائب أحب إليك من حاضر من الموت، ولست بمعجزه. وتوفي أبو بكر فلما دفن صعد عمر بن الخطاب فخطب الناس ثم قال: (إنما مثل العرب مثل جمل آنف اتبع قائده فلينظر قائده حيث يقوده، وأما أنا فورب الكعبة لأحملنكم على الطريق)! وكان أول كتاب كتبه إلى أبي عبيدة بن الجراح بتولية جند خالد وبعزل خالد لأنه كان عليه ساخطاً في خلافة أبي بكر كلها لوقعته بابن نويرة وما كان يعمل في حربه، وأول ما تكلم به عزل خالد وقال: لا يلي لي عملاً أبداً، وكتب إلى أبي عبيدة: إن أكذب خالد نفسه فهو الأمير على ما كان عليه، وإن لم يكذب نفسه فأنت الأمير على ما هو عليه، وانزع عمامته عن رأسه وقاسمه ماله. فذكر ذلك لخالد، فاستشار أخته فاطمة، وكانت عند الحارث بن هشام، فقالت له: والله لا يحبك عمر أبداً وما يريد إلا أن تكذب نفسك ثم ينزعك. فقبل رأسها وقال: صدقت؛ فأبى أن يكذب نفسه، فأمر أبو عبيدة فنزع عمامة خالد وقاسمه ماله، ثم قدم خالد على عمر بالمدينة، وقيل: بل هو أقام بالشام مع المسلمين، وهو أصح. ذكر فتح دمشققيل: ولما هزم أهل اليرموك استخلف أبو عبيدة على اليرموك بشير ابن كعب الحميري، وسار حتى نزل بالصفر، فأتاه الخبر أن المنهزمين اجتمعوا بفحل، وأتاه الخبر أيضاً بأن المدد قد أتى أهل دمشق من حمص، فكتب إلى عمر في ذلك، فأجابه عمر يأمره بأن يبدأ بدمشق فإنها حصن الشام وبيت ملكهم، وأن يشغل أهل فحل بخيل تكون بإزائهم، وإذا فتح دمشق سار إلى فحل، فإذا فتحت عليهم سار هو وخالد إلى حمص وترك شرحبيل ابن حسنة وعمراً بالأردن وفلسطين. فأرسل أبو عبيدة إلى فحل طائفة من المسلمين فنزلوا قريباً منها، وبثق الروم الماء حول فحل فوحلت الأرض، فنزل عليها المسلمون، فكان أول محصور بالشام أهل فحل ثم أهل دمشق.
وبعث أبو عبيدة جنداً فنزلوا بين حمص ودمشق، وأرسل جنداً آخر فكانوا بين دمشق وفلسطين، وسار أبو عبيدة وخالد فقدموا على دمشق وعليها نسطاس، فنزل أبو عبيدة على ناحية وخالد على ناحية وعمرو على ناحية، وكان هرقل قريب حمص، فحصرهم المسلمون سبعين ليلة حصاراً شديداً وقاتلوهم بالزحف والمجانيق وهم معتصمون بالمدينة يرجعون الغياث، وجاءت خيول هرقل مغيثة دمشق فمنعتها خيول المسلمين التي عند حمص، فخذل أهل دمشق وطمع فيهم المسلمون. وولد للبطريق الذي على أهلها مولود فصنع طعاماً فأكل القوم وشربوا وتركوا مواقفهم، ولا يعلم بذلك أحد من المسلمين إلا ما كان من خالد، فإنه كان لا ينام ولا ينيم ولا يخفى عليه من أمورهم شيء عيونه ذكية، وهو معني بما يليه، وكان قد اتخذ حبالاً كهيئة السلاليم وأوهاقاً، فلما أمسى ذلك اليوم نهد هو ومن معه من جنده الذين قدم عليهم وتقدمهم هو والقعقاع بن عمرو ومذعور بن عدي وأمثاله وقالوا: إذا سمعتم تكبيراً على السور فارقوا إلينا واقصدوا الباب. فلما وصل هو وأصحابه إلى السور ألقوا الحبال فعلق بالشرف منها حبلان، فصعد فيهما القعقاع ومذعور وأثبتا الحبال بالشرف، وكان ذلك المكان أحصن موضع بدمشق وأكثره ماء وأشده مدخلاً، فصعد المسلمون ثم انحدر خالد وأصحابه وترك بذلك المكان من يحميه وأمرهم بالتكبير، فكبروا، فأتاهم المسلمون إلى الباب وإلى الحبال، وانتهى خالد إلى من يليه فقتلهم وقصد الباب فقتل البوابين، وثار أهل المدينة لا يدرون ما الحال، وتشاغل أهل كل ناحية بما يليهم، وفتح خالد الباب وقتل كل من عنده من الروم. فلما رأى الروم ذلك قصدوا أبا عبيدة وبذلوا له الصلح، فقبل منهم وفتحوا له الباب وقالوا له: ادخل وامنعنا من أهل ذلك الجانب، ودخل أهل كل باب بصلح مما يليهم. ودخل خالد عنوةً، فالتقى خالد والقواد في وسطها، هذا قتلاً ونهباً وهذا صفحاً وتسكيناً، فأجروا ناحية خالد مجرى الصلح، وكان صلحهم على المقاسمة، وقسموا معهم للجنود التي عند فحل وعند حمص وغيرهم ممن هو ردء للمسلمين. وأرسل أبو عبيدة إلى عمر بالفتح، فوصل كتاب عمر إلى أبي عبيدة يأمره بإرسال جند العراق نحو العراق إلى سعد بن أبي وقاص، فأرسلهم وأمر عليهم هاشم بن عتبة المرقال، وكانوا قد قتل منهم، فأرسل أبو عبيدة عوض من قتل، وكان ممن ارسل الأشتر وغيره، وسار أبو عبيدة إلى فحل. ذكر غزوة فحلفلما فتحت دمشق سار أبو عبيدة إلى فحل واستخلف على دمشق يزيد ابن أبي سفيان، وبعث خالداً على المقدمة، وعلى الناس شرحبيل بن حسنة، وكان على المجنبتين أبو عبيدة وعمرو بن العاص، وعلى الخيل ضرار بن الأزور، وعلى الرجال عياض بن غنم، وكان أهل فحل قد قصدوا بيسان، فهم بها، فنزل شرحبيل بالناس فحلاً، وبينهم وبين الروم تلك المياه والأوحال، وكتبوا إلى عمر، وكانت العرب تسمي تلك الغزاة ذات الردغة وبيسان وفحل. وأقام الناس ينتظرون كتاب عمر، فاغترهم الروم فخرجوا وعليهم سقلار بن مخراق، فأتوهم والمسلمون حذرون، وكان شرحبيل لا يبيت ولا يصبح إلا على تعبية. فلما هجموا على المسلمين لم يناظروهم فاقتتلوا أشد قتال كان لهم ليلتهم ويومهم إلى الليل، وأظلم الليل عليهم وقد حاروا، فانهزم الروم وهم حيارى وقد أصيب رئيسهم سقلار والذي يليه فيهم نسطورس، وظفر المسلمون بهم وركبوهم، ولم تعرف الروم مأخذهم، فانتهت بهم الهزيمة إلى الوحل فركبوه، ولحقهم المسلمون فأخذوهم ولا يمنعون يدلامس فوخزوهم بالرماح، فكانت الهزيمة بفحل والقتل بالرداغ، فأصيب الروم وهم ثمانون ألفاً لم يفلت منهم إلا الشريد، وقد كان الله يصنع للمسلمين وهم كارهون، كرهوا البثوق والوهل، فكانت عوناً لهم على عدوهم وغنموا أموالهم فاقتسموها. وانصرف أبو عبيدة بخالد ومن معه إلى حمص. وممن قتل في هذه الحرب السائب بن الحارث بن قيس بن عدي السهمي، له صحبة. فحل بكسر الفاء، وسكون الحاء المهملة، وآخره لام. ذكر فتح بلاد ساحل دمشق
لما استخلف أبو عبيدة يزيد بن أبي سفيان على دمشق وسار إلى فحل سار يزيد إلى مدينة صيدا وعرقة وجبيل وبيروت، وهي سواحل دمشق، على مقدمته أخوه معاوية، ففتحها فتحاً يسيراً وجلا كثيرٌ من أهلها؛ وتولى فتح عرقة معاوية بنفسه في ولاية يزيد. ثم إن الروم غلبوا على بعض هذه السواحل في آخر خلافة عمر وأول خلافة عثمان، فقصدهم معاوية ففتحها ثم رمها وشحنها بالمقاتلة وأعطاهم القطائع. ولما ولي عثمان الخلافة وجمع لمعاوية الشام وجه معاوية سفيان بن مجيب الأزدي إلى طرابسل، وهي ثلاث مدن مجتمعة، ثم بنى في مرج على أميال منها حصناً سمي حصن سفيان وقطع المادة عن أهلها من البر والبحر وحاصرهم. فلما اشتد عليهم الحصار اجتمعوا في أحد الحصون الثلاثة وكتبوا إلى ملك الروم يسألونه أن يمدهم أو يبعث إليهم بمراكب يهربون فيها إلى بلاد الروم، فوجه إليهم بمراكب كثيرة ركبوا فيها ليلاً وهربوا. فلما أصبح سفيان، وكان يبيت هو والمسلمون في حصنه ثم يغدو على العدو، وجد الحصن خالياً فدخله وكتب بالفتح إلى معاوية، فأسكنه معاوية جماعة كثيرة من اليهود، وهو الذي فيه المينا اليوم، ثم بناه عبد الملك بن مروان وحصنه، ثم نقض أهله أيام عبد الملك ففتحه ابنه الوليد في زمانه. ذكر فتح بيسان وطبريةلما قصد أبو عبيدة حمص من قحل أرسل شرحبيل ومن معه إلى بيسان فقاتلوا أهلها، فقتلوا منهم خلقاً كثيراً، ثم صالحهم من بقي على صلح دمشق فقبل ذلك منهم. وكان أبو عبيدة قد بعث بالأعور إلى طربية يحاصرها، فصالحه أهلها على صلح دمشق أيضاً وأن يشاطروا المسلمين المنازل، فنزلها القواد وخيولها وكتبوا بالفتح إلى عمر. قال أبو جعفر: وقد اختلفوا في أي هذه الغزوات كان قبل الأخرى، فقيل ما ذكرنا، وقيل: إن المسلمين لما فرغوا من أجنادين اجتمع المنهزمون بفحل فقصدها المسلمون فظفروا بها. ثم لحق المنهزمون من فحل بدمشق فقصدها المسلمون فحاصروها وفتحوها، وقدم كتاب عمر بن الخطاب بعزل خالد وولاية أبي عبيدة وهم محاصرون دمشق، فلم يعرفه أبو عبيدة ذلك حتى فرغوا من صلح دمشق وكتب الكتاب باسم خالد وأظهر أبو عبيدة بعد ذلك عزله، وكانت فحل في ذي القعدة سنة ثلاث عشرة، وفتح دمشق في رجب سنة أربع عشرة، وقيل: إن وقعة اليرموك كانت سنة خمس عشرة، ولم تكن للروم بعدها وقعة، وإنما اختلفوا لقرب بعض ذلك من بعض. ذكر خبر المثنى بن حارثة وأبي عبيد بن مسعود قد ذكرنا قدوم المثنى بن حارثة الشيباني من العراق على أبي بكر، ووصية أبي بكر عمر بالمبادرة إلى إرسال الجيوش مع؛ فلما أصبح عمر من الليلة التي مات فيها أبو بكر كان أول ما عمل أن ندب الناس مع المثنى بن حارثة الشبياني إلى أهل فارس، ثم بايع الناس، ثم ندب الناس وهو يبايعهم ثلاثاً ولا ينتدب أحد إلى فارس، وكانوا أثقل الوجوه على المسلمين وأكرهها إليهم لشدة سلطانهم وشوكتهم وقهرهم الأمم، فلما كان اليوم الرابع ندب الناس إلى العراق، فكان أول منتدب أبو عبيد بن مسعود الثقفي، وهو والد المختار، وسعد بن عبيد الأنصاري، وسليط بن قيس، وهو ممن شهد بدراً، وتتابع الناس.
وتكلم المثنى بن حارثة فقال: أيها الناس لا يعظمن عليكم هذا الوجه، فإنا قد فتحنا ريف فارس وغلبناهم على خير شقي السواد ونلنا منهم واجترأنا عليهم، ولنا إن شاء الله ما بعدها. فاجتمع الناس، فقيل لعمر: أمر عليهم رجلاً من السابقين من المهاجرين أو الأنصار. قال: لا والله لا أفعل، إنما رفعهم الله تعالى بسبقهم ومسارعتهم إلى العدو، فإذا فعل فعلهم قوم وتثاقلوا كان الذين ينفرون خفافاً وثقالاً ويسبقون إلى الرفع أولى بالرئاسة منهم، والله لا أؤمر عليهم إلا أولهم انتداباً! ثم دعا أبا عبيد، وسعداً وسليطاً، وقال لهما: لو سبقتماه لوليتكما ولأدركتما بها إلى ما لكما من السابقة، فأمر ابا عبيد على الجيش وقال له: اسمع من أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأشركهم في الأمر ولا تجتهد مسرعاً حتى تتبين، ولم يمنعني أن أؤمر سليطاً إلا سرعته إلى الحرب، وفي التسرع إلى الحرب ضياع إلا عن بيان، فإنه لا يصلحها إلا المكيث. وأوصاه بجنده. فكان بعث أبي عبيد أول جيش سيره عمر، ثم بعده سير يعلى بن منية إلى اليمن وأمره بإجلاء أهل نجران بوصية رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأن لا يجتمع بجزيرة العرب دينان. ذكر خبر النمارقفسار أبو عبيدة الثقفي وسعد بن عبيد وسليط بن قيس الأنصاريان والمثنى بن حارثة الشيباني أحد بني هند من المدينة، وأمر عمر المثنى بالتقدم إلى أن يقدم عليه أصحابه، وأمرهم باستنفار من حسن إسلامه من أهل الردة. ففعلوا ذلك، وسار المثنى فقدم الحيرة، وكانت الفرس تشاغلت عن المسلمين بموت شهربراز حتى اصطلحوا على سابور بن شهريار بن أردشير، فثارت به آزرميدخت فقتلته وقتلت الفرخزاد وملكت بوران، وكانت عدلاً بين الناس حتى يصطلحوا، فأرسلت إلى رستم بن الفرخزاد بالخبر وتحثه على السير، وكان على فرج خراسان، فأقبل لا يلقى جيشاً لآزرميدخت إلا هزمه حتى دخل المدائن، فاقتتلوا، وهزم سياوخش وحصره وآزرميدخت بالمدائن. ثم افتتحها رستم وقتل سياوخش وفقأ عين آزرميدخت، ونصب بوران على أن تملكه عشر سنين ثم يكون الملك في آل كسرى إن وجدوا من غلمانهم أحداً وإلا ففي نسائهم، ودعت مرازبة فارس وأمرتهم أن يسمعوا له ويطيعوا، وتوجته، فدانت له فارس قبل قدوم أبي عبيد. وكان منجماً حسن المعرفة به وبالحوادث، فقال له بعضهم: ما حملك على هذا الأمر وأنت ترى ما ترى؟ قال: حب الشرف والطمع. ثم قدم المثنى إلى الحيرة في عشر، وقدم أبو عبيد بعده بشهر. فكتب رستم إلى الدهاقين أن يثوروا بالمسلمين، وبعث في كل رستاق رجلاً يثور بأهله، فبعث جابان إلى فرات بادقلي، وبعث نرسي إلى كسكر ووعدهم يوماً، وبعث جنداً لمصادمة المثنى. وبلغ المثنى الخبر فحذر فضم إليه مسالحه، وعجل جابان ونزل النمارق، وثاروا وتوالوا على الخروج، وخرج أهل الرساتيق من أعلى الفرات إلى أسفله، وخرج المثنى من الحيرة فنزل خفان لئلا يؤتى من خلفه بشيء يكرهه، وأقام حتى قدم عليه أبو عبيد. فلما قدم لبث أياماً يستريح هو وأصحابه، واجتمع إلى جابان بشر كثير، فنزل النمارق، وسار إليه أبو عبيد فجعل المثنى على الخيل، وكان على مجنبتي جابان جشنس ماه ومردانشاه، فاقتتلوا بالنمارق قتالاً شديداً، فهزم الله أهل فارس وأسر جابان، أسره مطر بن فضة التيمي، وأسر مردانشاه، وأسره أكتل بن شماخ العكلي فقتله. وأما جابان فإنه خدع مطراً وقال له: هل لك أن تؤمنني وأعطيك غلامين أمردين خفيفين في عملك وكذا وكذا؟ ففعل، فخلى عنه، فأخذه المسلمون وأتوا به أبا عبيد وأخبروه أنه جابان وأشاروا عليه بقتله. فقال: إني أخاف الله أن أقتله وقد آمنه رجل مسلم والمسلمون كالجسد الواحد، ما لزم بعضهم فقد لزم كلهم، وتركوه. وأرسل في طلب المنهزمين حتى أدخلوهم عسكر نرسي وقتلوا منهم. أكتل بفتح الهمزة، وسكون الكاف، وفتح التاء المثناة باثنتين من فوقها، وفي آخره لام. ذكر وقعة السقاطية بكسكر
ولحق المنهزمون نحو كسكر وبها نرسي، وهو ابن خالة الملك، وكان له النرسيان، وهو نوع من التمر يحميه، لا يأكله إلا ملك الفرس أو من أكرموه بشيء منه، ولا يغرسه غيرهم، واجتمع إلى النرسي الفالة، وهو في عسكره، فسار أبو عبيد إليهم من النمارق فنزل على نرسي بكسكر، وكان المثنى في تعبيته التي قاتل فيها بالنمارق، وكان على مجنبتي نرسي بندويه وتيرويه ابنا بسطام خال الملك، ومعه أهل باروسما والزوابي. ولما بلغ الخبر بوران ورستم بهزيمة جابان بعثا الجالينوس إلى نرسي فلحقه قبل الحرب، فعاجلهم أبو عبيد، فالتقوا أسفل من كسكر بمكان يدعى السقاطية، فاقتتلوا قتالاً شديداً ثم انهزمت فارس وهرب نرسي وغلب المسلمون على عسكره وأرضه وجمعوا الغنائم، فرأى أبو عبيد من الأطعمة شيئاً كثيراً فنفله من حوله من العرب، وأخذوا النرسيان فأطعموه الفلاحين وبعثوا بخمسه إلى عمر وكتبوا إليه: (إن الله أطعمنا مطاعم كانت الأكاسرة تحميها وأحببنا أن تروها لتشكروا إنعام الله وإفضاله). وأقام أبو عبيد وبعث المثنى إلى باروسما، وبعث والقاً إلى الزوابي، وعاصماً إلى نهر جوبر، فهزموا من كان تجمع وأخربوا وسبوا أهل زندورد وغيرها، وبذل لهم فروخ وفراونداد عن أهل باروسما والزوابي وكسكر الجزاء معجلاً، فأجابوا إلى ذلك وصاروا صلحاً، وجاء فروخ وفراوندد إلى أبي عبيد بأنواع الطعام والأخبصة وغيرها، فقال: هل أكرمتم الجند بمثلها؟ فقالوا: لم يتيسر ونحن فاعلون، وكانوا يتربصون قدوم الجالينوس. فقال أبو عبيد: لا حاجة لنا فيه، بئس المرء أبو عبيد إن صحب قوماً من بلادهم استأثر عليهم بشيء، ولا والله لا آكل ما أتيتم به ولا مما أفاء الله إلا مثل ما يأكل أوساطهم. فلما هزم الجالينوس أتوه بالأطعمة أيضاً، فقال: ما آكل هذا دون المسلمين. فقالوا له: ليس من أصحابك أحد إلا وقد أتي بمثل هذا؛ فأكل حينئذٍ. ذكر وقعة الجالينوسولما بعث رستم الجالينوس أمره أن يبدأ بنرسي ثم يقاتل أبا عبيد، فبادره أبو عبيد إلى نرسي فهزمه، وجاء الجالينوس فنزل بباقسياثا من باروسما، فسار إليه أبو عبيد، وهو على تعبيته، فالتقوا بها، فهزمهم المسلمون وهرب الجالينوس وغلب أبو عبيد على تلك البلاد، ثم ارتحل حتى قدم الحيرة، وكان عمر قد قال له: إنك تقدم على أرض المكر والخديعة والخيانة والجبرية، تقدم على قوم تجرأوا على الشر فعلموه وتناسوا الخير فجهلوه، فانظر كيف تكون، واحرز لسانك ولا تفشين سرك، فإن صاحب السر ما يضبطه متحصن ولا يؤتى من وجه يكرهه، وإذا ضيعه كان بمضيعة. ذكر وقعة قس الناطف ويقال لها الجسر ويقال المروحةوقتل أبي عبيد بن مسعود ولما رجع الجالينوس إلى رستم منهزماً ومن معه من جنده قال رستم: أي العجم أشد على العرب؟ قال: بهمن جاذويه المعروف بذي الحاجب، وإنما قيل له ذو الحاجب لأنه كان يعصب حاجبيه بعصابة ليرفعهما كبراً. فوجهه ومعه فيلة ورد الجالينوس معه وقال لبهمن: إن انهزم الجالينوس ثانيةً فاضرب عنقه. فأقبل بهمن جاذويه ومعه درفش كابيان راية كسرى، وكانت من جلود النمر، عرض ثمانية أذرع، وطول اثني عشر ذراعاً، فنزل بقس الناطف. وأقبل أبو عبيد فنزل بالمروحة، فرأت دومة، امرأته أم المختار ابنه، أن رجلاً نزل من الساء بإناء فيه شراب، فشرب أبو عبيد ومعه نفر، فأخبرت بها أبا عبيد فقال: لهذه إن شاء الله الشهادة! وعهد إلى الناس فقال: إن قتلت فعلى الناس فلان، فإن قتل فعليهم فلان، حتى أمر الذين شربوا من الإناء، ثم قال: فإن قتل فعلى الناس المثنى.
وبعث إليه بهمن جاذويه: إما أن تعبر إلينا وندعكم والعبور، وإما أن تدعونا نعبر إليكم. فنهاه الناس عن العبور، ونها سليط أيضاً، فلج وترك الرأي وقال: لا يكونوا أجرأ على الموت منا. فعبر إليهم على جسر عقده ابن صلوبا للفريقين، وضاقت الأرض بأهلها واقتتلوا، فلما نظرت الخيول إلى الفيلة والخيل عليها التجافيف رأت شيئاً منكراً لم تكن رأت مثله، فجعل المسلمون إذا حملوا عليهم لم تقدم عليهم خيولهم، وإذا حملت الفرس على المسلمين بالفيلة والجلاجل فرقت خيولهم وكراديسهم ورموهم بالنشاب. واشتد الأمر بالمسلمين، فترجل أبو عبيد والناس ثم مشوا إليهم ثم صافحوهم بالسيوف، فجعلت الفيلة لا تحمل على جماعة إلا دفعتهم، فنادى أبو عبيد: احتوشوا الفيلة واقطعوا بطانها واقلبوا عنها أهلها، ووثب هو على الفيل الأبيض فقطع بطانه ووقع الذين عليه، وفعل القوم مثل ذلك فما تركوا فيلاً إلا حطوا رحله وقتلوا أصحابه. وأهوى الفيل لأبي عبيد فضربه أبو عبيد بالسيف وخبطه الفيل بيده فوقع فوطئه الفيل وقام عليه. فلما بصر به الناس تحت الفيل خشعت أنفس بعضهم، ثم أخذ اللواء الذي كان أمره بعده فقاتل الفيل حتى تنحى عن أبي عبيد، فأخذه المسلمون فأحرزوه، ثم قتل الفيل الأمير الذي بعد أبي عبيد وتتابع سبعة أنفس من ثقيف كلهم يأخذ اللواء ويقاتل حتى يموت، ثم أخذ اللواء المثنى فهرب عنه الناس. فلما رأى عبد الله بن مرثد الثقفي ما لقي أبو عبيد وخلفاؤه وما يصنع الناس بادرهم إلى الجسر فقطعه وقال: يا أيها الناس موتوا على ما مات عليه أمراؤكم أو تظفروا! وحاز المشركون المسلمين إلى الجسر، فتواثب بعضهم إلى الفرات فغرق من لم يصبر وأسرعوا فيمن صبر، وحمى المثنى وفرسان من المسلمين الناس وقال: إنا دونكم فاعبروا على هينتكم ولا تدهشوا فإنا لن نزايل حتى نراكم من ذلك الجانب ولا تغرقوا نفوسكم فعبروا الجسر. وقاتل عروة بن زيد الخيل قتالاً شديداً وأبو محجن الثقفي، وقاتل أبو زبيد الطائي حمية للعربية، وكان نصرانياً قدم الحيرة لبعض أمره، ونادى المثنى: من عبر نجا. فجاءه العلوج فعقدوا الجس وعبر الناس. وكان آخر من قتل عند الجسر سليط بن قيس، وعبر المثنى وحمى جانبه، فلما عبر ارفض عنه أهل المدينة وبقي المثنى في قلة، وكان قد جرح وأثبت فيه حلق من درعه. وأخبر عمر عمن سار في البلاد من الهزيمة استحياء، فاشتد عليه وقال: اللهم إن كل مسلم في حل مني، أنا فئة كل مسلم، يرحم الله أبا عبيد! لو كان انحاز إلي لكنت له فئة. وهلك من المسلمين أربعة آلاف بين قتيل وغريق، وهرب الفان وبقي ثلاثة آلاف، وقتل من الفرس ستة آلاف. وأراد بهمن جاذويه العبور خلف المسلمين فأتاه الخبر باختلاف الفرس وأنهم قد ثاروا برستم ونقضوا الذي بينهم وبينه وصاروا فريقين: الفهلوج على رستم، وأهل فارس على الفيرزان، فرجع إلى المدائن. وكانت هذه الوقعة في شعبان. وكان فيمن قتل بالجسر عقبة وعبد الله ابنا قبطي بن قيس، وكانا شهدا أحداً، وقتل معهما أخوهما عباد ولم يشهد معهما أحداً، وقتل أيضاً قيس ابن السكن بن قيس أبو زيد الأنصاري، وهو بدري لا عقب له، وقتل يزيد بن قيس بن الحطيم الأنصاري، شهد أحداً، وفيها قتل أبو أمية الفزاري، له صحبة، والحكم بن مسعود أخو أبي عبيد، وابنه جبر بن الحكم ابن مسعود. ذكر خبر أليس الصغرىلما عاد ذو الحاجب لم يشعر جابان ومردانشاه بما جاءه من الخبر، فخرجا حتى أخذا بالطريق، وبلغ المثنى فعلهما فاستخلف على الناس عاصم بن عمرو وخرج في جريدة خيل يريدهما، فظنا أنه هارب فاعترضاه، فأخذهما أسيرين، وخرج أهل أليس على أصحابهما فأتوه بهم أسرى، وعقد لهم بها ذمة وقتلهما وقتل الأسرى. وهرب أبو محجن من أليس ولم يرجع مع المثنى بن حارثة. ذكر وقعة البويب
لما بلغ عمر خبر وقعة أبي عبيد بالجسر ندب الناس إلى المثنى، وكان فيمن ندب بجيلة، وأمرهم إلى جرير بن عبد الله لأنه كان قد جمعهم من القبائل وكانوا متفرقين فيها، فسأل النبي، صلى الله عليه وسلم، أن يجمعهم فوعده ذلك، فلما ولي أبو بكر تقاضاه بما وعده النبي، صلى الله عليه وسلم، فلم يفعل، فلما ولي عمر طلب منه ذلك دعاه بالبينة فأقامها فكتب إلى عماله: إنه من كان ينسب إلى بجيلة في الجاهلية وثبت عليه في الإسلام فأخرجوه إلى جرير، ففعلوا ذلك، فلما اجتمعوا أمرهم عمر بالعراق، وأبوا إلا الشام، فعزم عمر على العراق وينفلهم ربع الخمس، فأجابوا، وسيرهم إلى المثنى بن حارثة، وبعث عصمة بن عبد الله الضبي فيمن تبعه إلى المثنى، وكتب إلى أهل الردة فلم يأته أحد إلا رمى به المثنى، وبعث المثنى الرسل فيمن يليه من العرب فتوافوا إليه في جمع عظيم. وكان فيمن جاءه أنس بن هلال النمري في جمع عظيم من النمر نصارى وقالوا: نقاتل مع قومنا. وبلغ الخبر رستم والفيرزان فبعثا مهران الهمذاني إلى الحيرة، فسمع المثنى ذلك وهو بين القادسية وخفان فاستبطن فرات بادقلى وكتب إلى جرير وعصمة وكل من أتاه ممداً له يعلمهم الخبر ويأمرهم بقصد البويب فهو الموعد، فانتهوا إلى المثنى وهو بالبويب ومهران بإزائه من وراء الفرات، فاجتمع المسلمون بالبويب مما يلي الكوفة اليوم، وأرسل مهران إلى المثنى يقول: إما أن تعبر إلينا وإما أن نعبر إليك. فقال المثنى: اعبروا. فعبر مهران فنزل على شاطىء الفرات، وعبى المثنى أصحابه، وكان في رمضان، فأمرهم بالإفطار ليقووا على عدوهم، فأفطروا. وكان على مجنبتي المثنى بشير بن الخصاصية وبسر بن أبي رهم، وعلى مجردته المعنى أخوه، وعلى الرجل مسعود أخوه، وعلى الردء مذعور، وكان على مجنبتي مهران بن الازاذبه مرزبان الحيرة ومردانشاه. وأقبل الفرس في ثلاثة صفوف مع كل صف فيل ورجلهم أمام فيلهم ولهم زجلٌ، فقال المثنى للمسلمين: إن الذي تسمعون فشل فالزموا الصمت. ودنوا من المسلمين وطاف المثنى في صفوفه يعهد إليهم وهو على فرسه الشموس، وإنما سمي بذلك للينه، وكان لا يركبه إلا إذا قاتل، فوقف على الرايات يحرضهم ويهزهم، ولكلههم يقول: إني لعامتكم. فيجيبونه بمثل ذلك، وأنصفهم من نفسه في القول والفعل، وخلط الناس في المحبوب والمكروه فلم يقدر أحد أن يعيب له قولاً ولا فعلاً وقال: إني مكبر ثلاثاً فتهيأوا ثم احملوا في الرابعة. فلما كبر أول تكبيرة أعجلتهم فارس وخالطوهم وركدت خيلهم وحربهم ملياً، فرأى المثنى خللاً في بني عجل فجعل يمد لحيته لما يرى منهم وأرسل إليهم يقول: الأمير يقرأ عليكم السلام ويقول: لا تفضحوا المسلمين اليوم. فقالوا: نعم؛ واعتدلوا. فضحك فرحاً. فلما طال القتال واشتد قال المثنى لأنس بن هلال النمري: إنك امرؤ عربي وإن لم تكن على ديننا، فإذا حملت على مهران فاحمل معي، فأجابه، فحمل المثنى على مهران فأزاله حتى دخل في ميمنته، ثم خالطوهم واجتمع القلبان وارتفع الغبار والمجنبات تقتل لا يستطيعون أن يفرغوا لنصر أميرهم لا المسلمون ولا المشركون، وارتث مسعود أخو المثنى يومئذٍ وجماعة من أعيان المسلمين، فلما أصيب مسعود تضعضع من معه، فقال: يا معشر بكر ارفعوا رايتكم رفعكم الله ولا يهولنكم مصرعي! وكان المثنى قال لهم: إذا رأيتمونا أصبنا فلا تدعوا ما أنتم فيه فإن الجيش ينكشف ثم ينصرف الزموا مصافكم وأغنوا غناء من يليكم. وأوجع قلب المسلمين في قلب المشركين، وقتل غلام نصراني من تغلب مهران واستوى على فرسه ثم انتمى، أنا الغلام التغلبي، أنا قتلت المرزبان فجعل المثنى سلبه لصاحب خيله، وكان التغلبي قد جلب خيلاً هو وجماعة من تغلب، فلما رأوا القتال قاتلوا مع العرب، قال: وأفنى المثنى قلب المشركين والمجنبات بعضها يقاتل بعضاً. فلما رأوا قد أزال القلب وأفنى أهله وثب مجنبات المسلمين على مجنبات المشركين وجعلوا يردون الأعاجم على أدبارهم، وجعل المثنى والمسلمون في القلب يدعون لهم بالنصر ويرسل إليهم من يذمرهم ويقول لهم: عاداتكم في أمثالهم، انصروا الله ينصركم، حتى هزموا الفرس، وسبقهم المثنى إلى الجسر وأخذ طريق الأعاجم، فافترقوا مصعدين ومنحدرين، وأخذتهم خيول المسلمين حتى قتلوهم وجعلوهم جثاً.
فما كانت بين المسلمين والفرس وقعة أبقى رمة منها، بقيت عظام القتلى دهراً طويلاً، وكانوا يحرزون القتلى مائة ألف، وسمي ذلك اليوم الأعشار، أحصي مائة رجل قتل كل رجل منهم عشرة. وكان عروة بن زيد الخيل من أصحاب التسعة، وغالب الكناني وعرفجة الأزدي من أصحاب التسعة. وقتل المشركون فيما بين السكون اليوم وضفة الفرات وتبعهم المسلمون إلى الليل ومن الغد إلى الليل. وندم المثنى على أخذه بالجسر وقال: عجزت عجزة وقى الله شرها بمسابقتي إياهم إلى الجسر حتى أحرجتهم، فلا تعودوا أيها الناس إلى مثلها فإنها كانت زلة فلا ينبغي إحراج من لا يقوى على امتناع. ومات أناس من الجرحى، منهم: مسعود أخو المثنى، وخالد بن هلال، فصلى عليهم المثنى وقال: والله إنه ليهون وجدي أن صبروا وهدوا البويب ولم ينكلوا. وكان قد أصاب المسلمون غنماً ودقيقاً وبقراً فبعثوا به إلى عيال من قدم من المدينة وهم بالقوادس. وأرسل المثنى الخيل في طلب العجم فبلغوا السيب وغنموا من البقر والسبي وسائر الغنائم شيئاً كثيراً، فقسمه فيهم ونفل أهل البلاد وأعطى بجيلة ربع الخمس، وأرسل الذين تبعوا المنهزمين إلى المثنى يعرفونه سلامتهم وأنه لا مانع دون القوم ويستأذنوه في الإقدام، فأذن لهم، فأغاروا حتى بلغوا ساباط، وتحصن أهله منهم واستباحوا القرى ثم مخروا السواد فيما بينهم وبين دجلة لا يخافون كيداً ولا يلقون مانعاً، ورجعت مسالح العجم إليهم، وسرهم أن يرتكوا ما وراء دجلة. بسر بن أبر رهم بضم الباء الموحدة، وسكون السين المهملة. ذكر خبر الخنافس وسوق بغدادثم خلف المثنى بالحيرة بشير بن الخصاصية، وسار يمخر السواد، وأرسل إلى ميسن ودستميسان وأذكى المسالح ونزل أليس، قرية من قرى الأنبار، وهذه الغزوة تدعى غزوة الأنبار الآخرة وغزوة أليس الآخرة. وجاء إلى المثنى رجلان أحدهما أنباري فدله على سوق الخنافس، والثاني حيري دله على بغداذ قال المثنى: أيتهما قبل صاحبتها. فقال: بينهما مسيرة أيام. قال: أيهما أعجل؟ قالا: سوق الخنافس يجتمع بها تجار مدائن كسرى والسواد وربيعة وقضاعة يخفرونهم. فركب المثنى وأغار على الخنافس يوم سوقها وبها خيلان من ربيعة وقضاعة، وعلى قضاعة رومانس بن وبرة، وعلى ربيعة السليل بن قيس وهم الخفراء، فانتسف السوق وما فيها وسلب الخفراء. ثم رجع فأتى الأنبار فتحصن أهلها منه، فلما عرفوه نزلوا إليه وأتوا بالأعلاف والزاد، وأخذ منهم الأدلاء على سوق بغداذ وأظهر لدهقان الأنبار أنه يريد المدائن، وسار منها إلى بغداذ ليلاً وعبر إليهم وصبحهم في أسواقهم فوضع السيف فيهم وأخذ ما شاء. وقال المثنى: لا تأخذوا إلا الذهب والفضة والحر من كل شيء. ثم عاد راجعاً حتى نزل بنهر السالحين بالأنبار، فسمع أصحابه يقولون: ما أسرع القوم في طلبنا، فخطبهم وقال: احمدوا الله وسلوه العافية وتناجوا بالبر والتقوى ولا تتناجوا بالإثم والعدوان، انظروا في الأمور وقدروها ثم تكلموا. إنه لم يبلغ النذير مدينتهم بعد، ولو بلغهم لحال الرعب بينهم وبين طلبكم. إن للغارات روعات تضعف القلوب يوماً إلى الليل، ولو طلبكم المحامون من رأي العين ما أدركوكم وأنتم على العراب حتى نتتهوا إلى عسكركم، ولو أدركوكم لقاتلتهم التماس الأجر ورجاء النصر، فثقوا بالله وأحسنوا به الظن، فقد نصركم في مواطن كثيرة. ثم سار بهم إلى الأنبار، وكان من خلفه من المسلمين يمخرون السواد ويشنون الغارات ما بين أسفل كسكر وأسفل الفرات، وجسوا مثقباً إلى عين التمر وفي أرض الفلاليج، والمثنى بالأنبار.
ولما رجع المثنى من بغداذ إلى الأنبار بعث المضارب العجلي في جمع إلى الكباث وعليه فارس العناب التغلبي، ثم لحقهم المثنى فسار معهم، فوجدوا الكباث قد سار من كان به عنه ومعهم فارس العناب، فسار المسلمون خلفه فلحقوه وقد رحل من الكباث، فقتلوا في أخريات أصحابه وأكثروا القتل. فلما رجعوا إلى الأنبار سرح فرات بن حيان التغلبي وعتيبة بن النهاس وأمرهما بالغارة على أحياء من تغلب والنمر بصفين ثم اتبعهما المثنى واستخلف على الناس عمرو بن أبي سلمى الهجيمي. فلما دنوا من صفين فر من بها وعبروا الفرات إلى الجزيرة، وفني الزاد الذي مع المثنى وأصحابه، فأكلوا رواحلهم إلا ما لابد منه حتى جلودها، ثم أدركوا عيراً من أهل دبا وحوران فقتلوا من بها وأخذوا ثلاثة نفر من تغلب كانوا خفراء وأخذوا العير، فقال لهم: دلوني. فقال أحدهم: آمنوني على أهلي ومالي وأدلكم على حي من تغلب غدوت من عندهم اليوم. فآمنه المثنى وسار معهم يومه، فهجم العشي على القوم والنعم صادرة عن الماء وأصحابه جلوس بأفنية البيوت، فقتل المقاتلة وسبى الذرية واستاق الأموال، وكان التغلبيون بين ذي الرويحلة، فاشترى من كان مع الثنى من ربيعة السبايا بنصيبه من الفيء وأعتقوهم؛ وكانت ربيعة لا تسابي إذ العرب يتسابون في جاهليتهم. وأخبر المثنى أن جمهور من سلك البلاد قد انتجع شاطىء دجلة، فخرج المثنى وعلى مجنبتيه النعمان بن عوف ومطر الشيبانيان، وعلى مقدمته حذيفة بن محصن الغلفاني، فساروا في طلبهم فأدركوهم بتكريت، فأصابوا ما شاؤوا من النعم، وعاد إلى الأنبار. ومضى عتيبة وفرات ومن معهما حتى أغاروا على صفين وبها النمر وتغلب متساندين، فأغاروا عليهم حتى رموا طائفة منهم في الماء، فجعلوا ينادونهم: الغرق الغرق! وجعل عتيبة وفرات يذمران الناس ويناديانهم: تغريق بتحريق! يذكرانهم يوماً من أيام الجاهلية أحرقوا فيه قوماً من بكر بن وائل في غيضة من الغياض. ثم رجعوا إلى المثنى وقد غرقوهم، وقد بلغ الخبر عمر فبعث إلى عتيبة وفرات فاستدعاهما فسألهما عن قولهما، فأخبراه أنهما لم يفعلا ذلك على وجه طلب ذحل إنما هو مثلٌ فاستحلفهما فحلفا أنهما ما أرادا بذلك إلا المثل واعزاز الإسلام فصدقهما وردهما إلى المثنى. عتيبة بن النهاس، بالتاء المثناة من فوقها، والياء المثناة من تحتها، والباء الموحدة. ذكر الخبر عن الذي هيج أمر القادسية وملك يزدجردلما رأى أهل فارس ما يفعل المسلمون بالسواد قالوا لرستم والفيرزان، وهما على أهل فارس: لم يبرح بكما الاختلاف حتى وهنتما أهل فارس وأطمعتما فيهم عدوهم، ولم يبلغ من أمركما أن نقركما على هذا الرأي أن تعرضاها للهلكة؛ ما بعد بغداذ وساباط وتكريت إلا المدائن، والله لتجتمعان أو لنبدأن بكما قبل أن يشمت بنا شامت ثم نهلك وقد اشتفينا منكما. فقال الفيرزان ورستم لبوران ابنة كسرى: اكتبي لنا نساء كسرى وسرارية ونساء آل كسرى وسراريهم، ففعلت، فأحضروهن جميعهن وأخذوهن بالعذاب يستدلونهن على ذكر من أبناء كسرى، فلم يوجد عند واحدة منهن أحد، وقال بعضهن: لم يبق إلا غلام يدعى يزدجرد من ولد شهريار بن كسرى وأمه من أهل بادوريا. فأرسلوا إليها وطلبوه منها، وكانت قد أنزلته أيام شيري حين جمعهن فقتل الذكور، وأرسلته إلى أخواله، فلما سألوها عنه دلتهم عليه، فجاؤوا به فملكوه وهو ابن إحدى وعشرين سنة واجتمعوا عليه، فاطمأنت فارس واستوثقوا وتبارى المرازبة في طاعة ومعونته فسمى الجنود لكل مسلحة وثغر، فسمى جند الحيرة والأبلة والأنبار وغير ذلك.
وبلغ ذلك من أمرهم واجتماعهم على يزدجرد المثنى والمسلمين، فكتبوا إلى عمر بن الخطاب بما ينتظرون من أهل السواد، فلم يصل الكتاب إلى عمر حتى كفر أهل السواد من كان له عهد ومن لم يكن له عهد، فخرج المثنى حتى نزل بذي قار ونزل الناس بالطف في عسكر واحد. ولما وصل كتاب المثنى إلى عمر قال: والله لأضربن ملوك العجم بملوك العرب! فلم يدع رئيساً ولا ذا رأي وذا شرف وبسطة ولا خطيباً ولا شاعراً إلا رماهم به، فرماهم بوجوه الناس وغررهم. وكتب عمر إلى المثنى ومن معه يأمرهم بالخروج من بين العجم والتفرق في المياه التي تلي العجم على حدود أرضكم وأرضهم وأن لا يدعوا في ربيعة ومضر وحلفائهم أحداً من أهل النجدات ولا فارساً إلا أحضروه إما طوعاً أو كرهاً. ونزل الناس بالجل وشراف إلى غضى، وهو حيال البصرة، وبسلمان، وبعضهم ينظر إلى بعض ويغيث بعضهم بعضاً، وذلك في ذي القعدة سنة ثلاث عشرة. وأرسل عمر في ذي الحجة من السنة مخرجه إلى الحج إلى عماله على العرب أن لا يدعوا من له نجدة أو فرس أو سلاح أو رأي إلا وجهوه إليه، فأما من كان على النصف ما بين المدينة والعراق فجاء إليه بالمدينة لما عاد من الحج، وأما من كان أقرب إلى العراق فانضم إلى المثنى بن حارثة، وجاءت أمداد العرب إلى عمر. وحج في هذه السنة عمر بن الخطاب بالناس وحج سنيه كلها. وكان عامل عمر على مكة هذه السنة عتاب بن أسيد فيما قال بعضهم، وعلى الطائف عثمان بن أبي العاص، وعلى اليمن يعلى بن منية، وعلى عمان واليمامة حذيفة بن محصن، وعلى البحرين العلاء بن الحضرمي، وعلى الشام أبو عبيدة بن الجراح، وعلى فرج الكوفة وما فتح من أرضها المثنى ابن حارثة، وكان على القضاء فيما ذكر علي بن أبي طالب. وفي هذه السنة مات أبو كبشة مولى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وقيل بعد ذلك. وفي خلافة أبي بكر مات سهل بن عمرو أخو سهيل، وهو من مسلمة الفتح. وفي خلافته مات الصعب بن جثامة الليثي. وفي أول خلافته مات ابنه عبد الله بن أبي بكر، وكان قد جرح في حصار الطائف ثم انتقض عليه جرحه فمات. وفي هذه السنة توفي الأرقم بن أبي الأرقم يوم مات أبو بكر، وهو الذي كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، مستخفياً بداره بمكة أول ما أرسل. ثم دخلت سنة أربع عشرة ذكر ابتداء أمر القادسية لما اجتمع الناس إلى عمر خرج من المدينة حتى نزل على ماء يدعى صراراً، فعسكر به ولا يدري الناس ما يريد أيسير أم يقيم، وكانوا إذا أرادوا أن يسألوه عن شيء رموه بعثمان أو بعبد الرحمن بن عوف، فإن لم يقدر هذان على علم شيء مما يريد ثلثوا بالعباس بن عبد المطلب، فسأله عثمان عن سبب حركته، فأحضر الناس فأعلمهم الخبر واستشارهم في المسير إلى العراق، فقال العامة: سر وسر بنا معك. فدخل معهم في رأيهم وقال: اغدوا واستعدوا فإني سائر إلا أن يجيء رأي هو أمثل من هذا. ثم جمع وجوه أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأرسل إلى علي، وكان استخلفه على المدينة، فأتاه، إلى طلحة، وكان على المقدمة، فرجع إليه، وإلى الزبير وعبد الرحمن، وكانا على المجنبتين، فحضرا، ثم استشارهم فاجتمعوا على أن يبعث رجلاً من أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ويرميه بالجنود، فإن كان الذي يشتهي فهو الفتح وإلا أعاد رجلاً وبعث آخر ففي ذلك غيظ العدو. فجمع عمر الناس وقال لهم: إني كنت عزمت على المسير حتى صرفني ذوو الرأي منكم، وقد رأيت أن أقيم وأبعث رجلاً فأشيروا علي برجل.
وكان سعد بن أبي وقاص على صدقات هوازن، فكتب إليه عمر بانتخاب ذوي الرأي والنجدة والسلاح فجاءه كتاب سعد، وعمر يستشير الناس فيمن يبعثه، يقول: قد انتخبت لك ألف فارس كلهم له نجدة ورأي وصاحب حيطة يحوط حريم قومه، إليهم انتهت أحسابهم ورأيهم. فلما وصل كتابه قالوا لعمر: قد وجدته. قال: من هو؟ قالوا؟ الأسد عادياً سعد بن مالك، فانتهى إلى قولهم وأحضره وأمره على حرب العراق ووصاه وقال: لا يغرنك من الله أن قيل خال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وصاحب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فإن الله لا يمحو السيء بالسيء ولكنه يمحو السيء بالحسن، وليس بين الله وبين أحد نسب إلا طاعته، فالناس في ذات الله سواء، الله ربهم وهم عباده يتفاضلون بالعافية ويدركون ما عنده بالطاعة، فانظر الأمر الذي رأيت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يلزمه فالزمه. ووصاه بالصبر وسرحه فيمن اجتمع إليه من نفر المسلمين، وهم أربعة آلاف، فيهم حميضة بن النعمان بن حميضة على بارق، وعمرو بن معدي كرب، وأبو سبرة بن ذؤيب على مذحج، ويزيد بن الحارث الصدائي على صداء، وحبيب ومسلية وبشر بن عبد الله الهلالي في قيس عيلان. وخرج إليهم عمر فمر بفتية من السكون مع حصين بن نمير ومعاوية ابن حديج دلمٍ سباطٍ فأعرض عنهم، فقيل له: ما لك وهؤلاء؟ فقال: ما مر بي قوم من العرب أكره إلي منهم. ثم أمضاهم فكان بعد يذكرهم بالكراهة، فكان منهم سودان بن حمران قتل عثمان، وابن ملجم قتل علياً، ومعاوية حديج جرد السيف في المسلمين يظهر الأخذ بثأر عثمان، وحصين بن نمير كان أشد الناس في قتال علي. ثم إن عمر أخذ بوصيتهم وبعظتهم ثم سيرهم، وأمد عمر سعداً بعد خروجه بألفي يماني وألفي نجدي، وكان المثنى بن حارثة في ثمانية آلاف، وسار سعد والمثنى ينتظر قدومه، فمات المثنى قبل قدوم سعد من جراحة انتقضت عليه، واستخلف على الناس بشير بن الخصاصية وسعد يومئذٍ بزرود وقد اجتمع معه ثمانية آلاف، وأمر عمر بني أسد أن ينزلوا على حد أرضهم بين ال | |
|
 | |
الشيخ عودة الشيخ عودة

عدد المساهمات : 1748 تاريخ التسجيل : 28/09/2008 العمر : 72
 | موضوع: رد: كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير الجمعة فبراير 07, 2014 9:13 am | |
| فاستغاث أهل السواد إلى يزدجرد وأعلموه أن العرب قد نزلوا القادسية ولا يبقى على فعلهم شيء وقد أخربوا ما بينهم وبين الفرات ونهبوا الدواب والأطعمة، وإن أبطأ الغياث أعطيناهم بأيدينا، وكتب إليه بذلك الذي لهم الضياع بالطف وهيجوه على إرسال الجنود. فأرسل يزدجرد إلى رستم، فدخل عليه فقال: (إني أريد أن أوجهك في هذا الوجه وإنما يعد للأمور على قدرها، فأنت رجل فارس اليوم وقد ترى ما حل بالفرس مما لم يأتهم مثله)، فأظهر له الإجابة ثم قال له: دعني فإن العرب لا تزال تهاب العجم ما لم تضربهم بي، ولعل الدولة أن تثبت بي إذا لم أحضر الحرب فيكون الله قد كفى ونكون قد أصبنا المكيدة، والرأي في الحرب أنفع من بعض الظفر، والأناة خير من العجلة، وقتال جيش بعد جيش أمثل من هزيمة بمرة وأشد على عدونا. فأبى عليه، وأعاد رستم كلامه وقال: قد اضطرني تضييع الرأي إلى إعظام نفسي وتزكيتها، ولو أجد من ذلك بداً لم أتكلم به، فأنشدك الله في نفسك وملكك دعني أقم بعسكري وأسرح الجالينوس، فإن تكن لنا فذلك وإلا بعثنا غيره حتى إذا لم نجد بداً صبرنا لهم وقد وهناهم ونحن حامون، فإني لا أزال مرجواً في أهل فارس ما لم أهزم. فأبى إلا أن يسير، فخرج حتى ضرب عسكره بساباط وأرسل إلى الملك ليعفيه فأبى. وجاءت الأخبار إلى سعد بذلك، فكتب إلى عمر، فكتب إليه عمر: (لا يكربنك ما يأتيك عنهم واستعن بالله وتوكل عليه وابعث إليه رجالاً من أهل المناظرة والرأي والجلد يدعونه، فإن الله جاعلٌ دعاءهم توهيناً لهم). فأرسل سعد نفراً، منهم: النعمان بن مقرن، وبسر بن أبي رهم، وحملة بن حوية، وحنظلة بن الربيع، وفرات بن حيان، وعدي بن سهيل، وعطارد بن حاجب، والمغيرة بن زرارة بن النباش الأسدي، والأشعث بن قيس، والحارث بن حسان، وعاصم بن عمرو، وعمرو بن معدي كرب، والمغيرة بن شعبة، والمعنى بن حارثة إلى يزدجرد دعاة، فخرجوا من العسكر فقدموا على يزدجرد وطووا رستم واستأذنوا على يزدجرد فحبسوا، وأحضر وزراءه ورستم معهم واستشارهم فيما يصنع ويقول لهم. واجتمع الناس ينظرون إليهم وتحتهم خيول كلها صهال، وعليهم البرود وبأيديهم السياط، فأذن لهم وأحضر الترجمان وقال له: سلهم ما جاء بكم وما دعاكم إلى غزونا والولوع ببلادنا؟ أمن أجل أننا تشاغلنا عنكم اجترأتم علينا؟ فقال النعمان بن مقرن لأصحابه: إن شئتم تكلمت عنكم، ومن شاء آثرته. فقالوا: بل تكلم. فقال: : (إن الله رحمنا فأرسل إلينا رسولاً يأمرنا بالخير وينهانا عن الشر، ووعدنا على إجابته خير الدنيا والآخرة، فلم يدع قبيلة غلا وقاربه منها فرقة وتباعد عنه بها فرقة، ثم أمر أن ينبذ إلى من خالفه من العرب، فبدأ بهم، فدخلوا معه على وجهين: مكره عليه فاغتبط، وطائع فازداد، فعرفنا جميعاً فضل ما جاء به على الذي كنا عليه من العداوة والضيق، ثم أمرنا أن نبدأ بمن يلينا من الأمم فندعوهم إلى الإنصاف، فنحن ندعوكم إلى ديننا وهو دين حسن الحسن وقبح القبيح كله، فإن أبيتم فأمرٌ من الشر هو أهون من آخر شر منه الجزية، فإن أبيتم فالمناجزة، فإن أجبتم إلى ديننا خلفنا فيكم كتاب الله وأقمنا على أن تحكموا بأحكامه ونرجع عنكم وشأنكم وبلادكم، وإن بذلتم الجزاء قبلنا ومنعناكم، وإلا قاتلناكم). فتكلم يزدجرد فقال: (إني لا أعلم في الأرض أمة كانت أشقى ولا أقل عدداً ولا أسوأ ذات بينٍ منكم، قد كنا نوكل بكم قرى الضواحي فيكفوننا أمركم لا تغزوكم فارس، ولا تطمعوا أن تقوموا لفارس، فإن كان غرر لحقكم فلا يغرنكم منا، وإن كان لجهد دعاكم فرضنا لكم قوتاً إلى خصبكم وأكرمنا وجوهكم وكسوناكم وملكنا عليكم ملكاً يرفق بكم. فأسكت القوم، فقام المغيرة بن زرارة فقال. أيها الملك إن هؤلاء رؤوس العرب ووجوههم وهم أشراف يستحيون من الأشراف، وإنما يكرم الأشراف ويعظم حقهم الأشراف، وليس كل ما أرسلوا به قالوه، ولا كل ما تكلمت به أجابوك عليه، فجاوبني لأكون الذي أبلغك وهم يشهدون على ذلك لي؛ فأما ما ذكرت من سوء الحال فهي على ما وصفت وأشد؛ ثم ذكر من سوء عيش العرب وإرسال الله النبي، صلى الله عليه وسلم، إليهم نحو قول النعمان وقتال من خالفهم أو الجزية، ثم قال له: اختر إن شئت الجزية عن يدٍ وأنت صاغر، وإن شئت فالسيف أو تسلم فتنجي نفسك.
فقال: لولا أن الرسل لا تقتل لقتلتكم! لا شيء لكم عندي. ثم استدعى بوقر من تراب فقال: احملوه على أشرف هؤلاء ثم سوقوه حتى يخرج من باب المدائن. ارجعوا إلى صاحبكم فأعلموه أني مرسل إليه رستم حتى يدفنه ويدفنكم معه في خندق القادسية ثم أورده بلادكم حتى أشغلكم بأنفسكم بأشد مما نالكم من سابور. فقام عاصم بن عمرو ليأخذ التراب وقال: أنا أشرفهم، أنا سيد هؤلاء، فحمله على عنقه وخرج إلى راحلته فركبها وأخذ التراب وقال لسعد: (أبشر فوالله لقد أعطانا الله أقاليد ملكهم). واشتد ذلك على جلساء الملك. وقال الملك لرستم، وقد حضر عنده من ساباط: ما كنت أرى أن في العرب مثل هؤلاء، ما أنتم بأحسن جواباً منهم، ولقد صدقني القوم، لقد وعدوا أمراً ليدركنه أو ليموتن عليه، على أني وجدت أفضلهم أحمقهم حيث حمل التراب على رأسه. فقال رستم: (أيها الملك إنه أعقلهم، وتطير إلى ذلك وأبصرها دون أصحابه). وخرج رستم من عند الملك غضبان كئيباً وبعث في أثر الوفد وقال لثقته: (إن أدركهم الرسول تلافينا أرضنا، وإن أعجزه سلبكم الله أرضكم). فرجع الرسول من الحيرة بفواتهم، فقال: ذهب القوم بأرضكم من غير شك؛ وكان منجماً كاهناً. وأغار سواد بن مالك التميمي بعد مسير الوفد إلى يزدجرد على النجاف والفراض، فاستقا ثلاثمائة دابة من بين بغل وحمار وثور وأوقرها سمكاً، وصبح العسكر، فقسمه سعد بين الناس، وهذا يوم الحيتان، وكانت السرايا تسري لطلب اللحوم، فإن الطعام كان كثيراً عندهم، فكانوا يسمون الأيام بها: يوم الأباقر ويوم الحيتان. وبعث سعد سرية أخرى فأغاروا فأصابوا إبلاً لبني تغلب والنمر واستاقوها ومن فيها، فنحر سعد الإبل وقسمها في الناس فأخصبوا. وأغار عمرو بن الحارث على النهرين فاستاق مواشي كثيرة وعاد. وسار رستم من ساباط وجمع آلة الحرب وبعث على مقدمته الجالينوس في أربعين ألفاً، وخرج هو في ستين ألفاً، وفي ساقته عشرون ألفاً، وجعل في ميمنته الهرمزان، وعلى الميسرة مهران بن بهرام الرازي وعلى ساقته البيرزان، وقال رستم للملك يشجعه بذلك: (إن فتح الله علينا القوم فتوجهنا إلى ملكهم في دارهم حتى نشغلهم في أصلهم وبلادهم إلى أن يقبلوا المسالمة). وكان خروج رستم من المدائن في ستين ألف متبوع، ومسيره عن ساباط في مائة ألف وعشرين ألف متبوع، وقيل غير ذلك. ولما فصل رستم عن ساباط كتب إلى أخيه البنذوان: أما بعد فرموا حصونكم وأعدوا واستعدوا، فكأنكم بالعرب قد وردوا بلادكم وقارعوكم عن أرضكم وأبنائكم، وقد كان من رأيي مدافعتهم ومطاولتهم حتى تعود سعودهم نحوساً، فإن السمكة قد كدرت الماء، وإن النعائم قد حسنت، والزهرة قد حسنت، واعتدل الميزان، وذهب بهرام ولا أرى هؤلاء القوم إلا سيظهرون علينا ويستولون على ما يلينا، وإن أشد ما رأيت أن الملك قال: لتسيرن إليهم أو لأسيرن بنفسي. ولقي جابان رستم على قنطرة ساباط، وكانا منجمين، فشكا إليه وقال له: ألا ترى ما أرى؟ فقال له رستم: (أما أنا فأقاد بخشاش وزمام ولا أجد بداً من الانقياد). ثم سار فنزل بكوثى، فأتي برجل من العرب، فقال له: ما جاء بكم وماذا تطلبون؟ فقال: جئنا نطلب موعود الله بملك أرضكم وأبنائكم إن أبيتم أن تسلموا. قال رستم: فإن قتلتم قبل ذلك! قال: من قتل منا دخل الجنة، ومن بقي منا أنجزه الله ما وعده، فنحن على يقين. فقال رستم: قد وضعنا إذن في أيديكم! فقال: أعمالكم وضعتكم فأسلمكم الله بها، فلا يغرنك من ترى حولك، فإنك لست تجاول الإنس إنما تجاول القضاء والقدر. فضرب عنقه ثم سار فنزل البرس، فغضب أصحابه الناس أبناءهم وأموالهم ووقعوا على النساء وشربوا الخمور، فضج أهلها إلى رستم وشكوا إليه ما يلقون فقام إليهم فقال: يا معشر فارس والله لقد صدق العربي، والله ما أسلمنا إلا أعمالنا، والله إن العرب مع هؤلاء وهم لهم حرب أحسن سيرةً منكم، إن الله كان ينصركم على العدو ويمكن لكم في البلاد بحسن السيرة وكف الظلم والوفاء والإحسان، فإذا تغيرتم فلا أرى الله إلا مغيراً ما بكم، وما أنا بآمن من أن ينزع الله سلطانه منكم. وأتي ببعض من يشكى منه فضرب عنقه. ثم سار حتى نزل الحيرة ودعا أهلها وتهددهم وهم بهم، فقال له ابن بقيلة: لا تجمع علينا: أن تعجز عن نصرتنا وتلومنا على الدفع عن أنفسنا.
ولما نزل رستم بالنجف رأى كأن ملكاً نزل من السماء ومعه النبي، صلى الله عليه وسلم، وعمر، فأخذ الملك سلاح أهل فارس فختمه ثم دفعه إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، فدفعه النبي، صلى الله عليه وسلم، إلى عمر، فأصبح رستم حزيناً. وأرسل سعد السرايا ورستم بالنجف والجالينوس بين النجف والسيلحين، فطافت في السواد، فبعث سواداً وحميضة في مائة مائة، فأغاروا على النهرين، وبلغ رستم الخبر فأرسل إليهم خيلاً، وسمع سعدٌ أن خيله قد وغلت فأرسل عاصم بن عمرو وجابراً الأسدي في آثارهم، فلقيهم عاصم وخيل فارس تحوشهم ليخلصوا ما بأيديهم، فلما رأته الفرس هربوا ورجع المسلمون بالغنائم. وأرسل سعدٌ عمرو بن معدي كرب وطليحة الأسدي طليعة، فسارا في عشرة، فلم يسيروا إلا فرسخاً وبعض آخر حتى رأوا مسالحهم وسرحهم على الطفوف قد ملأوها، فرجع عمرو ومن معه، وأبى طليحة إلا التقدم، فقالوا له: أنت رجل في نفسك غدر ولن تفلح بعد قتل عكاشة بن محصن، فارجع معنا. فأبى، فرجعوا إلى سعد فأخبروه بقرب القوم. مضى طليحة حتى دخل عسكر رستم وبات فيه يجوسه ويتوسم، فهتك أطناب بيت رجل عليه واقتاد فرسه، ثم هتك على آخر بيته وحل فرسه، ثم فعل بآخر كذلك، ثم خرج يعدو به فرسه، ونذر به الناس فركبوا في طلبه، فأصبح وقد لحقه فارس من الجند فقتله طليحة ثم آخر فقتله ثم لحق به ثالث فرأى مصرع صاحبيه، وهما ابنا عمه، فازداد حنقاً، فلحق طليحة فكر عليه طليحة وأسره ولحقه الناس، فرأوا فارسي الجند قد قتلا وأسر الثالث وقد شارف طليحة عسكره، فأحجموا عنه، ودخل طليحة على سعد ومعه الفارسي وأخبره الخبر، فسأل الترجمان الفارسي، فطلب الأمان، فآمنه سعد، قال: أخبركم عن صاحبكم هذا قبل أن أخبركم عمن قبلي، باشرت الحروب منذ أنا غلام إلى الآن وسمعت بالأبطال ولم أسمع بمثل هذا أن رجلاً قطع فرسخين إلى عسكر فيه سبعون ألفاً يخدم الرجل منهم الخمسة والعشرة فلم يرض أن يخرج كما دخل حتى سلب فرسان الجند وهتك عليهم البيوت، فلما أدركناه قتل الأول وهو يعد بألف فارس، ثم الثاني وهو نظيره فقتله، ثم أدركته أنا ولا أظن أنني خلفت من بعدي من يعدلني وأنا الثائر بالقتيلين فرأيت الموت واستؤسرت. ثم أخبره عن الفرس واسلم ولزم طليحة، وكان من أهل البلاء بالقادسية، وسماه سعد مسلماً. ثم سار رستم وقدم الجالينوس وذا الحاجب، فنزل الجالينوس بحيال زهرة من دون القنطرة، ونزل ذو الحاجب بطيزناباذ، ونزل رستم بالخرارة، ثم سار رستم فنزل بالقادسية؛ وكان بين مسيره من المدائن ووصوله القادسية أربعة أشهر لا يقدم رجاء أن يضجروا بمكانهم فينصرفوا، وخاف أن يلقي ما لقي من قبله، وطاولهم لولا ما جعل الملك يستعجله وينهضه ويقدمه، حتى أقحمه. وكان عمر قد كتب إلى سعد يأمره بالصبر والمطاولة أيضاً، فأعد للمطاولة. فلما وصل رستم القادسية وقف على العتيق بحيال عسكر سعد ونزل الناس، فما زالوا يتلاحقون حتى أعتموا من كثرتهم والمسلمون ممسكون عنهم. وكان مع رستم ثلاثة وثلاثون فيلاً، منها فيل سابور الأبيض، وكانت الفيلة تألفه، فجعل في القلب ثمانية عشر فيلاً، وفي المجنبتين خمسة عشر فيلاً. فلما أصبح رستم من تلك الليلة ركب وساير العتيق نحو خفان حتى أتى على منقطع عسكر المسلمين، ثم صعد حتى انتهى إلى القنطرة، فتأمل المسلمين ووقف على موضع يشرف منه عليهم ووقف على القنطرة، وأرسل إلى زهرة فوافقه، فأراده على أن يصالحه ويجعل له جعلاً على أن ينصرفوا عنه من غير أن يصرح له بذلك بل يقول له: (كنتم جيراننا وكنا نحسن إليكم ونحفظكم، ويخبره عن صنيعهم مع العرب). فقال له زهرة: (ليس أمرنا أمر أولئك، إنا لم نأتكم لطلب الدنيا إنما طلبتنا وهمتنا الآخرة، وقد كنا كما ذكرت إلى أن بعث الله فينا رسولاً فدعانا إلى ربه فأجبناه، فقال لرسوله: إني سلطت هذه الطائفة على من لم يدن بديني، فأنا منتقم به منهم وأجعل لهم الغلبة ما داموا مقرين به، وهو دين الحق لا يرغب عنه أحد إلا ذل، ولا يعتصم به أحد إلا عز).
فقال له رستم: ما هو؟ قال: (أما عموده الذي لا يصلح إلا به فشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله). قال: وأي شيء أيضاً؟ قال: وإخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة الله، والناس بنو آدم وحواء إخوة لأب وأم. قال: ما أحسن هذا! ثم قال رستم: أرأيت إن أجبت إلى هذا ومعي قومي كيف يكون أمركم، أترجعون؟ قال: إي والله. قال: صدقتني، أما إن أهل فارس منذ ولي أردشير لم يدعوا أحداً يخرج من عمله من السفلة، كانوا يقولون إذا خرجوا من أعمالهم: تعدوا طورهم وعادوا أشرافهم. فقال زهرة: (نحن خير الناس للناس، فلا نستطيع أن نكون كما تقولون بل نطيع الله في السفلة ولا يضرنا من عصى الله فينا). فانصرف عنه ودعا رجال فارس فذاكرهم هذا فأنفوا فقال: أبعدكم الله وأسحقكم أخزى الله أخرعنا وأجبتا. فأرسل إلى سعد: أن ابعث إلينا رجلاً نكلمه ويكلمنا. فدعا سعدٌ جماعة ليرسلهم إليهم. فقال له ربيع بن عامر: إن الأعاجم لهم أراء وأداب ومتى نأتهم جميعاً يروا أنا قد احتفلنا بهم فلا تزدهم على رجل فمالئوه جميعاً على ذلك. فأرسله وحده، فسار إليهم، فحبسوه على القنطرة. وأعلم رستم بمجيئه فأظهر زينته وجلس على سرير من ذهب وبسط البسط والنمارق والوسائد المنسوجة بالذهب، وأقبل ربعي على فرسه وسيفه في خرقة ورمحه مشدود بعصب وقد، فلما انتهى إلى البسط قيل له: انزل، فحمل فرسه عليها ونزل وربطها بوسادتين شقهما وأدخل الحبل فيهما، فلم ينهوه وأروه التهاون وعرف ما أرادوا، وعليه درع، وأخذ عباءة بعيره فتدرعها وشدها على وسطه. فقالوا: ضع سلاحك. فقال: لم آتكم فأضع سلاحي بأمركم، أنتم دعوتموني فإن أبيتم أن آتيكم إلا كما أريد وإلا رجعت. فأخبروا رستم، فقال: ائذنوا له، فأقبل يتوكأ على رمحه ويقارب خطوه، فلم يدع لهم نمرقاً ولابساطاً إلا أفسده وهتكه. فلما دنا من رستم جلس على الأرض وركز رمحه على البسط، فقيل له: ما حملك على هذا؟ قال: إنا لا نستحب القعود على زينتكم. فقال له ترجمان رستم، واسمه عبود من أهل الحيرة: ما جاء بكم؟ قال: الله جاء بنا، وهو بعثنا لنخرج من يشاء من عباده من ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، فأرسلنا بدينه إلى خلقه، لندعوهم إليه، فمن قبله قبلنا منه ورجعنا عنه وتركناه وأرضه دوننا، ومن أبى قاتلناه حتى نفضي إلى الجنة أو الظفر. فقال رستم: قد سمعنا قولكم فهل لكم أن تؤخروا هذا الأمر حتى ننظر فيه؟ قال: نعم، وإن مما سن لنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أن لا نمكن الأعداء أكثر من ثلاث، فنحن مترددون عنكم ثلاثاً، فانظر في أمرك واختر واحدة من ثلاث بعد الأجل: إما الإسلام وندعك وأرضك، أو الجزاء فنقبل ونكف عنك وإن احتجت إلينا نصرناك، أو المنابذة في اليوم الرابع ولسنا نبدأك فيما بيننا وبين اليوم الرابع إلا أن تبدأ بنا، أنا كفيل بذلك عن أصحابي. قال: أسيدهم أنت؟ قال: لا ولكن المسلمين كالجسد الوحد بعضهم من بعض يجيز أدناهم على أعلاهم. فخلا رستم برؤساء قومه فقال: هل رأيتم كلاماً قط أعز وأوضح من كلام هذا الرجل؟ فقالوا: معاذ الله أن نميل إلى دين هذا الكلب! أما ترى إلى ثيابه؟ فقال: ويحكم! لا تنظروا إلى الثياب ولكن انظروا إلى الرأي والكلام والسيرة، إن العرب تستخف باللباس وتصون الأحساب، ليسوا مثلكم. فلما كان من الغد أرسل رستم إلى سعد: أن ابعث إلينا ذلك الرجل. فبعث إليهم حذيفة بن محصن، فأقبل في نحو من ذلك الزي ولم ينزل عن فرسه ووقف على رستم راكباً. قال له: انزل. قال: لا أفعل. فقال له: ما جاء بك ولم يجىء الأول؟ قال له: إن أميرنا يحب أن يعدل بيننا في الشدة والرخاء، وهذه نوبتي. فقال: ما جاء بكم؟ فأجابه مثل الأول. فقال رستم: أو الموادعة إلى يوم ما؟ قال: نعم، ثلاثاً من أمس. فرده وأقبل على أصحابه وقال: ويحكم أما ترون ما أرى؟ جاءنا الأول بالأمس فغلبنا على أرضنا وحقر ما نعظم وأقام فرسه على زبرجنا، وجاء هذا اليوم فوقف علينا وهو في يمن الطائر يقوم على أرضنا دوننا.
فلما كان الغد أرسل: ابعثوا إلينا رجلاً. فبعث المغيرة بن شعبة، فأقبل إليهم وعليهم التيجان والثياب المنسوجة بالذهب وبسطهم على غلوة لا يوصل إلى صاحبهم حتى يمشى عليها، فأقبل المغيرة حتى جلس مع رستم على سريره، فوثبوا عليه وأنزلوه ومعكوه، وقال: قد كانت تبلغنا عنكم الأحلام ولا أرى قوماً أسفه منكم، إنا معشر العرب لا نستعبد بعضنا بعضاً، فظننت أنكم تواسون قومكم كما نتواسى، فكان أحسن من الذي صنعتم أن تخبروني أن بعضكم أرباب بعضٍ، فإن هذا الأمر لا يستقيم فيكم ولا يصنعه أحدٌ، وإني لم آتكم ولكم دعوتموني اليوم، علمت أنكم مغلبون وأن ملكاً لا يقوم على هذه السيرة ولا على هذه العقول. فقالت السفلة: صدق والله العربي. وقالت الدهاقين: والله لقد رمى بكلام لا تزال عبيدنا ينزعون إليه، قاتل الله أولينا ما كان أحمقهم حين كانوا يصغرون أمر هذه الأمة! ثم تكلم رستم فحمد قومه وعظم أمرهم وقال: لم نزل متمكنين في البلاد ظاهرين على الأعداء أشرافاً في الأمم، فليس لأحد مثل عزنا وسلطاننا، ننصر عليهم ولا ينصرون علينا إلا اليوم واليومين والشهر للذنوب، فإذا انتقم الله منا ورضي علينا رد لنا الكرة على عدونا، ولم يكن في الأمم أمة أصغر عندنا أمراً منكم، كنتم أهل قشفٍ ومعيشةٍ لا نراكم شيئاً، وكنتم تقصدوننا إذا قحطت بلادكم فنأمر لكم بشيء من التمر والشعير ثم نردكم، وقد علمت أنه لم يحملكم على ما صنعتم إلا الجهد في بلادكم، فأنا آمر لأميركم بكسوة وبغل وألف درهم، وآمر لكل منكم بوقر تمر وتنصرفون عنا، فإني لست أشتهي أن أقتلكم. فتكلم المغيرة فحمد الله وأثنى عليه وقال: إن الله خالق كل شيء ورازقه، فمن صنع شيئاً فإنما هو يصنعه، وأما الذي ذكرت به نفسك وأهل بلادك من الظهور على الأعداء والتمكن في البلاد فنحن نعرفه، فالله صنعه بكم ووضعه فيكم وهو له دونكم، وأما الذي ذكرت فينا من سوء الحال والضيق والاختلاف فنحن نعرفه ولسنا ننكره، والله ابتلانا به والدنيا دولٌ، ولم يزل أهل الشدائد يتوقعون الرخاء حتى يصيروا إليه، ولم يزل أهل الرخاء يتوقعون الشدائد حتى تنزل بهم، ولو شكرتم ما آتاتتكم الله لكان شكركم يقصر عما أوتيتم، وأسلمكم ضعف الشكر إلى تغير الحال، ولو كنا فيما باتلينا به أهل كفر لكان عظيم ما بتلينا به مستجلباً من الله رحمةً يرفه بها عنا؛ إن الله تبارك وتعالى بعث فينا رسولاً. ثم ذكر مثل ما تقدم من ذكر الإسلام والجزية والقتال، وقال له: وإن عيالنا قد ذاقوا طعام بلادكم، فقالوا: لا صبر لنا عنه. فقال رستم: إذاً تموتون دونها. فقال المغيرة: يدخل منقتل منا الجنة ومن قتل منكم النار، ويظفر من بقي منا بمن بقي منكم. فاستشاط رستم غضباً ثم حلف بالشمس أن لا يرتفع الصبح غداً حتى نقتلكم أجمعين. وانصرف المغيرة وخلص رستم بأهل فارس وقال: أين هؤلاء منكم! هؤلاء والله الرجال، صادقين كانوا أم كاذبين، والله لئن كان بلغ من عقلهم وصونهم لسرهم أن لا يختلفوا فما قوم أبلغ لما ارادوا منهم، ولئن كانوا صادقين فيما يقوم لهؤلاء شيء! فلجوا وتجلدوا. وقال: والله إني لأعلم أنكم تصغون إلى ما أقول لكم، وإن هذا منكم رثاء. فازدادوا لجاجة. فأرسل رستم رسولاً خلف المغيرة وقال له: إذا قطع القنطرة فأعلمه أن عينه تفقأ غداً، فأعلمه الرسول ذلك، فقال المغيرة: بشرتني بخير وأجر، ولولا أن أجاهد بعد هذا اليوم أشباهكم من المشركين لتمنيت أن الأخرى ذهبت. فرجع إلى رستم فأخبره. فقال: أطيعوني يا أهل فارس، إني لأرى لله فيكم نقمة لا تستطيعون ردها عن أنفسكم. ثم أرسل إليه سعدٌ بقية ذوي الرأي فساروا وكانوا ثلاثة إلى رستم، فقالوا له: إن أميرنا يدعوك إلى ما هو خيرٌ لنا ولك، العافية أن تقبل ما دعاك إليه ونرجع إلى أرضنا وترجع إلى أرضك وداركم لكم وأمركم فيكم وما أصبتم كان زيادة لكم دوننا وكنا عوناً لكم على أحد إن أرادكم أو قوي عليكم، فاتق الله ولا يكونن هلاك قومك على يدك، وليس بينك وبين أن تغبط بهذا الأمر إلا أن تدخل فيه وتطرد به الشيطان عنك.
فقال لهم: إن الأمثال أوضح من كثير من الكلام وسأضرب لكم مثلكم تبصروا: إنكم كنتم أهل جهد وقشفٍ لا تنتصفون ولا تمتنعون فلم نسىء جواركم وكنا نميركم ونحسن إليكم، فلما طعمتم طعامنا وشربتم شرابنا وصفتم لقومكم ذلك ودعوتموهم ثم أتيتمونا، وإنما مثلكم ومثلنا كمثل رجل كان له كرم فرأى فيه ثعلباً فقال: وما ثعلب! فانطلق الثعلب فدعا الثعالب إلى ذلك الكرم، فلما اجتمعوا إليه سد صاحب الكرم النقب الذي كن يدخلن منه فقتلهن؛ فقد علمت أن الذي حملكم على هذا الحرص والجهد، فارجعوا عنا عامكم هذا ونحن نميركم، فإني لا أشتهي أن أقتلكم، ومثلكم أيضاً كالذباب يرى العسل فيقول: من يوصلني إليه وله درهمان؟ فإذا دخله غرق ونشب، فيقول: من يخرجني وله أربعة دراهم؟ وقال أيضاً: إن رجلاً وضع سلة وجعل طعاماً فيها فأتى الجرذان فخرقن السلة فدخلن فيها، فأراد سدها فقيل له: لا تفعل إذن يخرقنه، لكن انقب بحياله ثم اجعل فيها قصبة مجوفة فإذا دخلها الجرذان وخرجن منها فاقتل كل ما خرج منها؛ وقد سددت عليكم فإياكم أن تقتحموا القصبة فلا يخرج منها أحدٌ إلا قتل، فما دعاكم إلى ما صنعتم ولا أرى عدداً ولا عدة! قال: فتكلم القوم وذكروا سوء حالهم وما من الله به عليهم من إرسال رسوله واختلافهم أولاً ثم اجتماعهم على الإسلام، وما أمرهم به من الجهاد، وقالوا: وأما ما ضربت لنا من الأمثال فليس كذلك ولكن سنضرب مثلكم إنما مثلكم كمثل رجل غرس أرضاً واختار لها الشجر وأجرى إليها الأنهار وزينها بالقصور وأقام فيها فلاحين يسكنون قصورها ويقومون على جناتها، فخلا الفلاحون في القصور على ما لا يحب فأطال إمهالهم فلم يستحيوا، فدعا إليها غيرهم وأخرجهم منها، فإن ذهبوا عنها تخطفهم الناس وإن أقاموا فيها صاروا خولاً لهؤلاء فيسومونهم الخسف أبداً؛ والله لو لم يكن ما نقول حقاً ولم يكن إلا الدنيا لما صبرنا على الذي نحن فيه من لذيذ عيشكم ورأينا من زبرجكم ولقارعناكم حتى نغلبكم عليه! فقال رستم: أتعبرون إلينا أم نعبر إليكم؟ فقالوا: بل اعبروا إلينا. ورجعوا من عنده عشياً، وأرسل سعد إلى الناس أن يقفوا مواقفهم، وأرسل إليهم، شأنكم والعبور، فأرادوا القنطرة فقال: لا ولا كرامة! أما شيء غلبناكم عليه فلن نرده عليكم. فباتوا يسكرون العتيق حتى الصباح بالتراب والقصب والبراذع حتى جعلوه طريقاً، واستتم بعدما ارتفع النهار. ورأى رستم من الليل كأن ملكاً نزل من السماء فأخذ قسي أصحابه فختم عليها ثم صعد بها إلى السماء، فاستيقظ مهموماً واستدعى خاصته فقصها عليهم وقال: إن الله ليعظنا لو اتعظنا. ولما ركب رستم ليعبر كان عليه درعان ومغفر، وأخذ سلاحه ووثب فإذا هو على فرسه لم يضع رجله في الركاب، وقال: غداً ندقهم دقاً! فقال له رجل: إن شاء الله. فقال: وإن لم يشأ! ثم قال: إما ضغا الثعلب حين مات الأسد - يعني كسرى - وإني أخشى أن تكون هذه سنة القرود! فإنما قال هذه الأشياء توهيناً للمسلمين عند الفرس، وإلا فالمشهور عنه الخوف من المسلمين، وقد أظهر ذلك إلى من يثق به. ذكر يوم أرماثلما عبر الفرس العتيق جلس رستم على سريره وضرب عليه طيارة وعبى في القلب ثمانية عشر فيلاً عليها صناديق ورجال وفي المجنبتين ثمانية وسبعة، وأقام لجالينوس بينه وبين ميمنته، والفيرزان بينه وبين ميسرته وبقيت القنطرة بين خيلين من خيول المسلمين وخيول المشركين، وكان يزدجرد قد وضع بينه وبين رستم رجالاً على كل دعوة رجلاً، أولهم على باب إيوانه وآخرهم مع رستم، فكلما فعل رستم شيئاً قال الذي معه للذي يليه: كان كذا وكذا، ثم يقول الثاني ذلك للذي يليه، وهكذا إلى أن ينتهي إلى يزدجرد في أسرع وقت. وأخذ المسلمون مصافهم. وكان بسعد دماميل وعرق النسا فلا يستطيع الجلوس، وإنما هو مكب على وجهه في صدره وسادة على سطح القصر يشرف على الناس والصف في أصل حائطه، لو أعراه الصف فواق ناقةٍ لأخذ برمته، فما كرثه هول تلك الأيام شجاعة، وذكر ذلك الناس، وعابه بعضهم بذلك فقال: نقاتل حتى أنزل الله نصره ... وسعدٌ بباب القادسية معصم فأبنا وقد آمت نساءٌ كثيرةٌ ... ونسوة سعدٍ ليس فيهن أيم
فبلغت أبياته سعداً فقال: اللهم إن كان هذا كاذباً وقال الذي قاله رياء وسمعةً فاقطع عني لسانه! إنه لواقفٌ في الصف يومئذ أتاه سهم غرب فأصاب لسانه فما تكلم بكلمة حتى لحق بالله تعالى. فقال جرير بن عبد الله نحو ذلك أيضاً، وكذلك غيره، ونزل سعدٌ إلى الناس فاعتذر إليهم وأراهم ما به من القروح في فخذيه وأليتيه، فعذره الناس وعلموا حاله، ولما عجز عن الركوب استخلف خالد عرفطة على الناس، فاختلف عليه فأخذ نفراً ممن شغب عليه فحبسهم في القصر، منهم: أبو محجن الثقفي، وقيدهم، وقيل: بل كان حبس أبي محجن بسبب الخمر، وأعلم الناس أنه قد استخلف خالداً وإنما يأمرهم خالد، فسمعوا وأطاعوا، وخطب الناس يومئذٍ، وهو يوم الاثنين من المحرم سنة أربع عشرة، وحثهم على الجهاد وذكرهم ما وعدهم الله من فتح البلاد وما نال من كان قبلهم من المسلمين من الفرس، وكذلك فعل أمير كل قوم، وأرسل سعد نفراً من ذوي الرأي والنجدة، منهم: المغيرة وحذيفة وعاصم وطليحة وقيس الأسدي وغالب وعمرو ابن معدي كرب وأمثالهم، ومن الشعراء: الشماخ والحطيئة وأوس بن مغراء وعبدة بن الطبيب وغيرهم، وأمرهم بتحريض الناس على القتال، ففعلوا. وكان صف المشركين على شفير العتيق، وكان صف المسلمين مع حائط قديس والخندق، فكان المسلمون والمشركون بين الخندق والعتيق، ومع الفرس ثلاثون ألف مسلسل وثلاثون فيلاً تقاتل، وأمر سعد الناس بقراءة سورة الجهاد، وهي الأنفال، فلما قرئت هشت قلوب الناس وعيونهم وعرفوا السكينة مع قراءتها. فلما فرغ القراء منها قال سعد: الزموا مواقفكم حتى تصلوا الظهر، فإذا صليتم فإني مكبر تكبيرة فكبروا واستعدوا، فإذا سمعتم الثانية فكبروا والبسوا عدتكم. ثم إذا كبرت الثالثة فكبروا ولينشط فرسانكم الناس، فإذا كبرت الرابعة فازحفوا جميعاً حتى تخالطوا عدوكم وقولوا لا حول ولا قوة إلا بالله. فلما كبر سعد الثالثة برز أهل النجدات فأنشبوا القتال، وخرج إليهم من الفرس أمثالهم، فاعتوروا الطعن والضرب، وقال غالب بن عبد الله الأسدي: قد علمت واردة المشائح ... ذات اللبان والبيان الواضح أني سمام البطل المسالح ... وفارج الأمر المهم الفادح فخرج إليه هرمز، وكام من ملوك الباب والأبواب، وكان متوجاً، فأسره غالب، فجاء به سعداً ورجع وخرج عاصم وهو يقول: قد علمت بيضاء صفراء اللبب ... مثل اللجين إذ تغشاه الذهب أني امرؤٌ لا من يعيبه السبب ... مثلي على مثلك يغريه العتب فطارد فارسياً فانهزم، فاتبعه عاصم حتى خالط صفهم، فحموه، فأخذ عاصم رجلاً على بغل وعاد به، وإذا هو خباز الملك معه من طعام الملك وخبيصٌ، فأتى به سعداً فنفه أهل موقفه. وخرج فارسي فطلب البراز، فبرز إليه عمرو بن معدي كرب، فأخذه وجلد به الأرض، فذبحه وأخذ سواريه ومنطقته. وحملت الفيلة عليهم ففرقت بين الكتائب، فنفرت الخيل، وكانت الفرس قد قصدت بجيلة بسبعة عشر فيلاً، فنفرت خيل بجيلة، فكادت بجيلة تهلك لنفار خيلها عنها وعمن معها، وأرسل سعد إلى بني أسد أن دافعوا عن بجيلة وعمن معها من الناس. فخرج طليحة بن خويلد وحمال بن مالك قفي كتائبهما فباشروا الفيلة حتى عدلها ركبانها. وخرج إلى طليحة عظيم منهم، فقتله طليحة، وقام الأشعث بن قيس في كندة حين استصرخهم سعد فقال: يا معشر كندة لله در بني أسد أي فري يفرون واي هذٍّ يهذون عن موقفهم، أغنى كل قوم ما يليهم، وأنتم تنتظرون من يكفيكم، أشهد ما أحسنتم أسوة قومكم من العرب. فنهد ونهدوا معه، فأزالوا الذين بأزائهم. فلما رأى الفرس ما يلقى الناس والفيلة من أسد رموهم بحدهم وحملوا عليهم وفيهم ذو الحاجب والجالينوس، والمسلمون ينتظرون التكبيرة الرابعة من سعد، فاجتمعت حلبة فارس على أسد ومعهم تلك الفيلة فثبتوا لهم، وكبر سعد الرابعة وزحف إليهم المسلمون ورحا الحرب تدور على أسد، وحملت الفيول على الميمنة والميسرة فكانت الخيول تحيد عنها.
فأرسل سعد إلى عاصم بن عمرو التميمي: يا معشر بني تميم، أما عندكم لهذه الفيلة من حيلة؟ قالوا: بلى والله! ثم نادى في رجال من قومه رماة وآخرين لهم ثقافة فقال: يا معشر الرماة، ذبوا ركبان الفيلة عنهم بالنبل. وقال: يا معشر أهل الثقافة، استدبروا الفيلة فقطعوا وضنها، وخرج يحميهم ورحا الحرب تدور على أسد وقد جالت الميمنة والميسرة غير بعيد، وأقبل أصحاب عاصم على الفيلة فأخذوا بأذناب توابيتها فقطعوا وضنها وارتفع عواؤهم فما بقي لهم فيل إلا أوى وقتل أصحابها ونفس عن أسد وردوا فارساً عنهم إلى مواقفهم واقتتلوا حتى غربت الشمس ثم حتى ذهبت هدأة من الليل، ثم رجع هؤلاء وهؤلاء، وأصيب من أسد تلك العشية خمسمائة، وكانوا ردءاً للناس، وكان عاصم حامية للناس، وهذا اليوم الأول، وهو يوم أرماث؛ فقال عمرو بن شأس الأسدي: جلبنا الخيل من أكناف نيقٍ ... إلى كسرى فوافقها رعالا تركن لهم على الأقسام شجواً ... وبالحقوبين أياماً طوالا قتلنا رستماً وبنيه قسراً ... تثير الخيل فوقهم الهيالا الأبيات. وكان سعد قد تزوج سلمى امرأة المثنى بن حارثة الشيباني بعده بشراف، فلما جال الناس يوم أرماث، وكان سعد لا يطيق الجلوس، جعل سعد يتململ جزعاً فوق القصر، فلما رأت سلمى ما يصنع الفرس قالت: وامثنياه! ولا مثنى للخيل اليوم! قالت ذلك عند رجل ضجر مما يرى في أصحابه ونفسه، فلطم وجهها وقال: أين المثنى عن هذه الكتيبة التي تدور عليها الرحا! يعني أسداً وعاصماً. فقالت: أغيرةً وجبناً؟ فقال: والله لا يعذرني اليوم أحد إن لم تعذريني وأنت ترين ما بي! فتعلقها الناس لم يبق شاعر إلا اعتد بها عليه، وكان غير جبان ولا ملوم. ذكر يوم أغواثولما أصبح القوم وكل سعد بالقتلى والجرحى من ينقلهم إلى العذيب، فسلم الجرحى إلى النساء ليقمن عليهم، وأما القتلى فدفنوا هنالك على مشرق، وهو وادٍ بين العذيب وعين الشمس. فلما نقل سعد القتلى والجرحى طلعت نواصي الخيل من الشام، وكان فتح دمشق قبل القادسية بشهر، فلما قدم كتاب عمر على أبي عبيدة بن الجراح بإرسال أهل العراق سيرهم وعليهم هاشم بن عتبة بن أبي وقاص، وعلى مقدمته القعقاع بن عمرو التميمي، فتعجل القعقاع فقدم على الناس صبيحة هذا اليوم، وهو يوم أغواث، وقد عهد إلى أصحابه أن يتقطعوا أعشاراً، وهم ألفٌ، كلما بلغ عشرة مدى البصر سرحوا عشرة، فقدم أصحابه في عشرة، فأتى الناس فسلم عليهم وبشرهم بالجنود وحرضهم على القتال وقال: اصنعوا كما أصنع، وطلب البراز فقالوا فيه بقول أبي بكر: (لا يهزم جيش فيهم مثل هذا). فخرج إليه ذو الحاجب، فعرفه القعقاع فنادى: يا لثارات أبي عبيد وسليط وأصحاب يوم الجسر! وتضاربا، فقتله القعقاع وجعلت خيله ترد إلى الليل وتنشط الناس، وكأن لم يكن بالأمس مصيبة، وفرحوا بقتل ذي الحاجب، وانكسرت الأعاجم بذلك. وطلب القعقاع البراز فخرج إليه الفيرزان والبنذوان، فانضم إلى القعقاع الحارث بن ظبيان بن الحارث أحد بيني تيم اللات فتبارزوا، فقتل القعقاع الفيرزان وقتل الحارث البنذوان، ونادى القعقاع: يا معشر المسلمين، باشروهم بالسيوف فإنما يحصد الناس بها! فاقتتلوا حتى المساء، فلم ير أهل فارس في هذا اليوم شيئاً مما يعجبهم، وأكثر المسلمون فيهم القتل، ولم يقاتلوا في هذا اليوم على فيل، كانت وابيتها تكسرت بالأمس، فاستأنفوا عملها فلم يفرغوا منها حتى كان الغد. وجعل القعقاع كلما طلعت قطعة من أصحابه كبر وكبر المسلمون ويحمل ويحملون، وحمل بنو عم للقعقاع عشرةً عشرة على إبل قد ألبسوها وهي مجللة مبرقعة، وأطاف بهم خيولهم تحميهم، وأمرهم القعقاع أن يحملوها على خيل الفرس يتشبهون بالفيلة، ففعلوا بهم هذا اليوم، وهو يوم أغواث، كما فعلت فارس يوم أرماث، فجعلت خيل الفرس تفر منها وركبتها خيول المسلمين. فلما رأى الناس ذلك استنوا بهم، فلقي الفرس من الإبل يوم أغواث أعظم مما لقي المسلمون من الفيلة يوم أرماث.
وحمل رجل من تميم على رستم يريد قتله فقتل دونه. وخرج رجل من فارس يبارز، فبرز إليه الأعرف بن الأعلم العقيلي فقتله، ثم برز إليه آخر فقتله، وأحاطت به فوارس منهم فصرعوه وأخذوا سلاحه، فغبر في وجوههم التراب حتى رجع إلى أصحابه. وحمل القعقاع بن عمرو يومئذٍ ثلاثين حملة، كلما طلعت قطعة حمل حملة وأصاب فيها وقتل، فكان آخرهم بزرجمهر الهمذاني. وبارز الأعور بن قطبة شهريار سجستان فقتل كل واحد منهما صاحبه، وقاتلت الفرسان إلى انتصاف النهار. فلما اعتدل النهار تزاحف الناس فاقتتلوا حتى انتصف الليل. فكانت ليلة أرماث تدعى الهدأة، وليلة أغواث تدعى السواد، ولم يزل المسلمون يرون يوم أغواث الظفر، وقتلوا فيه عامة أعلامهم، وجالت فيه خيل القلب وثبت رجلهم، فلولا أن خيلهم عادت أخذ رستم أخذاً. وبات الناس على ما بات عليه القوم ليلة أرماث، ولم يزل المسلمون ينتمون. فلما سمع سعد ذلك قال لبعض من عنده: إن تم الناس على الانتماء فلا توقظني فإنهم أقوياء، وإن سكتوا ولم ينتم الأخرون فلا توقظني فإنهم على السواء، فإن سمعتهم ينتمون فأيقظني فإن انتماءهم عن السوء. ولما اشتد القتال، وكان أبو محجن قد حبس وقيد فهو في القصر فصعد حين أمسى إلى سعد يستعفيه ويستقيله فزبره ورده فنزل، فأتى فقال لسلمى زوج سعد: هل لك أن تخلي عني وتعيريني البلقاء؟ فلله علي إن سلمني الله أن أرجع إليك حتى أضع رجلي في قيدي. فقال: كفى حزناً أن تردي الخيل بالقنا ... وأترك مشدوداً علي وثاقيا إذا قمت عناني الحديد وأغلقت ... مصاريع دوني قد تصم المناديا وقد كنت ذا مالٍ كثيرٍ وإخوةٍ ... فقد تركوني واحداً لا أخا ليا ولله عهدٌ لا أخيس بعهده ... لئن فرجت أن لا أزور الحوانيا فرقت له سلمى وأطلقته وأعطته البلقاء فرس سعد، فركبها حتى إذا كان بحيال الميمنة كبر ثم حمل على ميسرة الفرس ثم رجع خلف المسلمين وحمل على ميمنتهم، وكان يقصف الناس قصفاً منكراًن وتعجب الناس منه وهم لا يعرفونه، فقال بعضهم: هو من أصحاب هاشم أو هاشم نفسه، وكان سعد يقول: لولا محبس أبي محجن لقلت هذا أبو محجن وهذه البلقاء. وقال بعض الناس: هذا الخضر. وقال بعضهم: لولا أن الملائكة لا تباشر الحرب لقلنا إنه ملك. فلما انتصف الليل وتراجع المسلمون والفرس عن القتال أقبل أبو محجن فدخل القصر وأعاد رجليه في القيد وقال: لقد علمت ثقيفٌ غير فخرٍ ... بأنا نحن أكرمهم سيوفا وأكثرهم دروعاً سابغاتٍ ... وأصبرهم إذا كرهوا الوقوفا وأنا وفدهم في كل يومٍ ... فإن عموا فسل بهم عريفا وليلة قادسٍ لم يشعروا بي ... ولم أشعر بمخرجي الزحوفا فإن أحبس فذلكم بلائي ... وإن أترك أذيقهم الحتوفا فقالت له سلمى: في أي شيء حبسك؟ فقال: والله ما حبسني بحرام أكلته ولا شربته ولكنني كنت صاحب شرابٍ في الجاهلية، وأنا امرؤ شاعر يدب الشعر على لساني، فقلت: إذا مت فادفني إلى أصل كرمةٍ ... تروي عظامي بعد موتي عروقها ولا تدفنني بالفلاة فإنني ... أخاف إذا ما مت أن لا أذوقها فلذلك حبسني. فلما أصبحت أتت سعداً فصالحته، وكانت مغاضبة له، وأخبرته بخبر أبي محجن، فأطلقه فقال: اذهب فما أنا مؤاخذك بشيء تقوله حتى تفعله. قال: لا جرم، والله لا أجيب لساني إلى صفة قبيح أبداً! ذكر يوم عماس
ثم أصبحوا اليوم الثالث وهم على مواقفهم، وبين الصفين من قتلى المسلمين ألفان من جريحٍ وميتٍ، ومن المشركين عشرة آلاف، فجعل المسلمون ينقلون قتلاهم إلى المقابر والجرحى إلى النساء، وكان النساء والصبيان يحفرون القبور، وكان على الشهداء حاجب بن زيد. وأما قتلى المشركين فبين الصفين لم ينقلوا، وكان ذلك مما قوى المسلمين، وبات القعقاع تلك الليلة يسرب أصحابه إلى المكان الذي فارقهم فيه من الأمس وقال: إذا طلعت الشمس فأقبلوا مائةً مائة، فإن جاء هاشم فذاك وإلا جددتم للناس رجاء وجداً ففعلوا ولا يشعر به أحد. وأصبح الناس على مواقفهم، فلما ذر قرن الشمس أقبل أصحاب القعقاع، فحين رآهم كبر وكبر المسلمون وتقدموا وتكتبت الكتائب واختلفوا الضرب والطعن والمدد متتابع، فما جاء آخر أصحاب القعقاع حتى انتهى إليهم هاشم فأخبر بما صنع القعقاع، فعبى أصحابه سبعين سبعين، وكان فيهم قيس بن هبيرة ابن عبد يغوث المعروف بقيس بن المكشوح المرادي، ولم يكن من أهل الأيام إنما كان باليرموك، فانتدب مع هاشم حتى إذا خالط القلب كبر وكبر المسلمون وقال: أول قتال المطاردة ثم المراماة؛ ثم حمل على المشركين يقاتلهم حتى خرق صفهم إلى العتيق ثم عاد. وكان المشركون قد باتوا يعملون توابيتهم حتى أعادوها وأصبحوا على مواقفهم، وأقبلت الرجالة مع الفيلة يحمونها أن تقطع وضنها، ومع الرجالة فرسان يحمونهم، فلم تنفر الخيل منهم كما كانت بالأمس لأن الفيل إذا كان وحده كان أوحش وإذا أطافوا به كان آنس، وكان يوم عماس من أوله إلى آخره شديداً، العرب والعجم فيه سواء، ولا تكون بينهم نقطة إلا أبلغوها يزدجر بالأصوات، فيبعث إليهم أهل النجدات ممن عنده، فلولا أن الله ألهم القعقاع ما فعل في اليومين وإلا كسر ذلك المسلمين. وقاتل قيس بن المكشوح، وكان قد قدم مع هاشم، قتالاً شددياً وحرض أصحابه، وقال عمرو بن معدي كرب: إني حاملٌ على الفيل ومن حوله، لفيل بإزائه، فلا تدعوني أكثر من جزر جزور، فإن تأخرتم عني فقدتم أبا ثور، يعني نفسه، وأين لكم مثل أبي ثور! فحمل وضرب فيهم حتى ستره الغبار وحمل أصحابه فأفرج المشركون عنه بعدما صرعوه، وإن سيفه لفي يده يصارمهم، وقد طعن فرسه، فأخذ برجل فرس أعجمي فلم يطق الجري، فنزل عنه صاحبه إلى أصحابه وركب عمرو. وبرز فارسي فبرز إليه رجل من المسلمين يقال له شبر بن علقمة، وكان قصيراً، فترجل الفارسي إليه فاحتمله وجلس على صدره ثم أخذ سيفه ليذبحه ومقود فرسه مشدود في منطقته، فلما سل سيفه نفر الفرس فجذبه المقود فقلبه عنه وتبعه المسلم فقتله وأخذ سلبه فباعه باثني عشر ألفاً. فلما رأى سعد الفيول قد فرقت بين الكتائب وعادت لفعلها أرسل إلى القعقاع وعاصم ابني عمرو: اكفياني الأبيض، وكانت كلها آلفة له، وكان بإزائهما، وقال لحمال والزبيل: اكفياني الأجرب، وكان بإزائهما، فأخذ القعقاع وعاصم رمحين وتقدما في خيل ورجل، وفعل حمال والزبيل مثل فعلهما، فحمل القعقاع وعاصم فوضعا رمحيهما في عين الفيل الأبيض فنفض رأسه فطرح سائسه ودلى مشفره، فضربه القعقاع فرمى به ووقع لجنبه وقتلوا من كان عليه، وحمل حمال والزبيل الأسديان على الفيل الآخر فطعنه حمال في عينه فأقعى ثم استوى، وضربه الزبيل فأبان مشفره، وبصر به سائسه فبقر أنفه وجبينه بالطبرزين، فأفلت الزبيل جريحاً، فبقي الفيل جريحاً متحيراً بين الصفين كلما جاء صف المسلمين وخزوه وإذا أتى صف المشركين نخسوه. وولى الفيل، وكان يدعى الأجرب، وقد عور حمالٌ عينيه، فألقى نفسه في العتيق، فاتبعته الفيلة فخرقت صف الأعاجم فعبرت في أثره فأتت المدائن في توابيتها، وهلك من فيها. فلما ذهبت الفيلة وخلص المسلمون والفرس ومال الظل تزاحف المسلمون فاجتلدوا حتى أمسوا وهم على السواء. فلما أمسى الناس اشتد القتال وصبر الفريقان فخرجا على السواء. ذكر ليلة الهرير وقتل رستمقيل: إنما سميت بذلك لتركهم الكلام إنما كانوا يهرون هريراً. وأرسل سعد طليحة وعمراً ليلة الهرير إلى مخاضة أسفل العسكر ليقوموا عليها خشية أن يأتيه القوم منها. فلما أتياها قال طليحة: لو خضنا وأتينا الأعاجم من خلفهم. قال عمرو: بل نعبر أسفل. فافترقا وأخذ طليحة وراء العسكر وكبر ثلاث تكبيرات ثم ذهب وقد ارتاع أهل فارس وتعجب المسلمون، وطلبه الأعاجم فلم يدركوه.
وأما عمرو فإنه أغار أسفل المخاضة ورجع، وخرج مسعود بن مالك الأسدي وعاصم بن عمرو وابن ذي البردين الهلالي وابن ذي السهمين وقيس ابن هبيرة الأسدي وأشباههم فطاردوا القوم، فإذا هم لا يشدون ولا يريدون غير الزحف، فقدموا صفوفهم وزاحفهم الناس بغير إذن سعد، وكان أول من زاحفهم القعقاع، وقال سعد: اللهم اغفرها له وانصره فقد أذنت له إن لم يستأذني. ثم قال: أرى الأمر ما فيه هذا، فإذا كبرت ثلاثاً فاحملوا، وكبر واحدةً فلحقهم أسد، فقال: اللهم اغفرها لهم وانصرهم. ثم حملت النع فقال: اللهم اغفرها لهم وانصرهم. ثم حملت بجيلة فقال: اللهم اغفرها لهم وانصرهم. ثم حملت كندة فقال: اللهم اغفرها لهم وانصرهم. ثم زحف الرؤساء ورحا الحرب تدور على القعقاع، وتقدم حنظلة بن الربيع وأمراء الأعشار وطليحة وغالب وحمال وأهل النجدات، ولما كبر الثالثة لحق الناس بعضهم بعضاً وخالطوا القوم واستقبلوا الليل استقبالاً بعد ما صلوا العشاء، وكان صليل الحديد فيها كصوت القيون ليلتهم إلى الصباح، وأفرغ الله الصبر عليهم إفراغاً، وبات سعد بليلة لم يبت بمثلها، ورأى العرب والعجم أمراً لم يروا مثله قط، وانقطعت الأخبار والأصوات عن سعد ورستم، وأقبل سعد على الدعاء، فلما كان عند الصبح انتمى الناس فاستدل بذلك على أنهم الأعلون، وكان أول شيء سمعه نصف الليل الباقي صوت القعقاع بن عمرو وهو يقول: نحن قتلنا معشراً وزائداً ... أربعةً وخمسةً وواحدا نحسب فوق اللبد الأساودا ... حتى إذا ماتوا دعوت جاهدا الله ربي واحترزت عامدا وقتلت كندة تركاً الطبري، وكان مقدماً فيهم. وأصبح الناس ليلة الهرير - وتسمى ليلة القادسية من بين تلك الليالي - وهم حسرى لم يغمضوا ليلتهم كلها. فسار القعقاع في الناس فقال: إن الدائرة بعد ساعة لمن بدأ القوم، فاصبروا ساعة واحملوا، فإن النصر مع الصبر فأثروا الصبر على الجزع. فاجتمع إليه جماعة من الرؤساء وصمدوا لرستم حتى خالطوا الذين دونه مع الصبح فلما رأت ذلك القبائل قام فيها رؤساؤهم وقالوا: لا يكونن هؤلاء أجد في أمر الله منكم، ولا هؤلاء، يعني الفرس، أجرأ على الموت منكم. فحملوا فيما يليهم وخالطوا من بإزائهم فاقتتلوا حتى قام قائم الظهيرة، فكان أول من زال الفيرزان والهرمزان فتأخرا وثبتا حيث انتهيا، وانفرج القلب وركد عليهم النقع وهبت ريح عاصف فقلعت طيارة رستم عن سريره فهوت في العتيق، وهي دبور، ومال الغبار عليهم، وانتهى القعقاع ومن معه إلى السرير فعثروا به وقد قام رستم عنه حين أطارت الريح الطيارة إلى بغال قد قدمت عليه بمال فهي واقفة، فاستظل في ظل بغل وحمله، وضرب هلال بن علقمة الحمل الذي تحته رستم فقطع حباله ووقع عليه أحد العدلين، ولا يراه هلال ولا يشعر به، فأزال عن ظهره فقاراً، وضربه هلال ضربة فنفحت مسكاً. ومضى رستم نحو العتيق فرمى بنفسه فيه، واقتحمه هلال عليه وأخذ برجليه ثم خرج به فضرب جبينه بالسيف حتى قتله، ثم ألقاه بين أرجل البغال ثم صعد السرير وقال: قتلت رستم ورب الكعبة! إلي إلي! فأطافوا به وكبروا، فنفله سعد سلبه، وكان قد أصابه الماء ولم يظفر بقلنسوته، ولو ظفر فها لكانت قيمتها مائة ألف. وقيل: إن هلالاً لما قصد رستم رماه رستم بنشابة أثبت قدمه بالركاب، فحمل عليه هلال فضربه فقتله ثم احتز وعلقه ونادى: قتلت رستم! فانهزم قلب المشركين. وقام الجالينوس على الردم ونادى الفرس إلى العبور، وأما المقترنون فإنهم جشعوا فتهافتوا في العتيق، فوخزهم المسلمون برماحهم فما أفلت منهم مخبر، وهم ثلاثون ألفاً، وأخذ ضرار بن الخطاب درفش كابيان، وهو العلم الأكبر الذي كان للفرس، فعوض منه ثلاثين ألفاً، وكانت قيمته ألف ألف ومائتي ألف. وقتلوا في المعركة عشرة آلاف سوى من قتلوا في الأيام قبله، وقتل من المسلمين قبل ليلة الهرير ألفان وخمسمائة، وقتل ليلة الهرير ويوم القادسية ستة آلاف فدفنوا في الخندق حيال مشرق، ودفن ما كان قبل ليلة الهرير على مشرق، وجمعت الأسلاب والأموال فجمع منها شيء لم يجمع قبله ولا بعده مثله.
وأرسل سعد إلى هلال فسأله عن رستم، فأحضره، فقال: جرده إلا ما شئت. فأخذ سلبه فلم يدع عليه شيئاً. وأمر القعقاع وشرحبيل باتباعهم حتى بلغا مقدار الخرارة من القادسية، وخرج زهرة بن الحوية التميمي في آثارهم في ثلاثمائة فارس، ثم أدركه الناس فلحق المنهزمين والجالينوس يجمعهم، فقتله زهرة وأخذ سلبه، وقتلوا ما بين الخرارة إلى السيلحين إلى النجف، وعادوا من أثر المنهزمين ومعهم الأسرى، فرؤي شاب من النخع وهو يسوق ثمانين رجلاً أسرى من الفرس. واستكثر سعدٌ سلب الجالينوس فكتب فيه إلى عمر. فكتب عمر إلى سعد: تعمد إلى مثل زهرة وقد صلي بمثل ما صلى به وقد بقي عليك من حربك ما بقي تفسد قلبه، امض له سلبه وفضله على أصحابه عند عطائه بخمسمائة. ولما اتبع المسلمون الفرس كان الرجل يشير إلى الفارسي فيأتيه فيقتله، وربما أخذ | |
|
 | |
الشيخ عودة الشيخ عودة

عدد المساهمات : 1748 تاريخ التسجيل : 28/09/2008 العمر : 72
 | موضوع: رد: كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير الجمعة فبراير 07, 2014 9:15 am | |
| ذكر ولاية عتبة بن غزوان البصرةقيل: في هذه السنة بعث عمر عتبة بن غزوان إلى البصرة، وكان بها قطبة بن قتادة السدوسي يغير بتلك الناحية كما كان يغير المثنى بناحية الحيرة، فكتب إلى عمر يعلمه مكانه وأ،ه لو كان معه عددٌ يسيرٌ ظفر بمن كان قبله من العجم فنفاهم عن بلادهم. فكتب إليه عمر يأمره بالمقام والحذر، ووجه إليه شريح بن عامر أحد بني سعد بن بكر، فأقبل إلى البصرة وترك بها قطبة ومضى إلى الأهواز حتى انتهى إلى دارس، وفيها مسلحة الأعاجم، فقتلوه، فبعث عمر عتبة بن غزوان، قال له حين وجهه: يا عتبة، إني قد استعملتك على أرض الهند، وهي حومة من حومة العدو، وأرجو أن يكفيك الله ما حولها ويعينك عليها، وقد كتبت إلى العلاء بن الحضرمي أن يمدك بعرفجة بن هرثمة، وهو ذو مجاهدة ومكايدة للعدو، فإذا قدم عليك فاستشره وقربه وادع إلى الله، فمن أجابك فاقبل منه ومن أبي فالجزية وإلا فالسيف في غير هوادة، واتق الله فيما وليت، وإياك أن تنازعك نفسك إلى كبر مما يفسد عليك إخوتك، وقد صحبت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فعززت به بعد الذلة، وقويت به بعد الضعف، حتى صرت أميراً مسلطاً وملكاً مطاعاً، تقول فيسمع منك، وتأمر فيطاع أمرك، فيا لها نعمة إن لم ترفعك فوق قدرك وتبطرك على من دونك، واحتفظ من النعمة احتفاظك من المعصية، ولهي أخوفهما عندي عليك أن تستدرجك وتخدعك فتسقط سقطة تصير بها إلى جهنم، أعيذك بالله ونفسي من ذلك. إن الناس أسرعوا إلى الله حتى رفعت لهم الدنيا فأرادوها، فأرد الله ولا ترد الدنيا، واتق مصارع الظالمين. انطلق أنت ومن معك حتى إذا كنت في أقصى البر من أرض العرب وأدنى أرض الريف من أرض العجم فأقيموا. فسار عتبة ومن معه حتى إذا كانوا بالمربد تقدموا حتى بلغوا حيال الجسر الصغير فنزلوا. فبلغ صاحب الفرات خبرهم فأقبل في أربعة آلاف فالتقوا، فقاتلهم عتبة بعد الزوال، وكان في خمسمائة، فقتلهم أجمعين ولم يبق إلا صاحب الفرات فأخذه أسيراً، ثم خطب عتبة أصحابه وقال: إن الدنيا قد تصرمت وولت حذاء ولم يبق منها إلا صبابة كصبابة الإناء، ألا وإنكم منتقلون منها إلى دار القرار، فانتقلوا بخير ما بحضرتكم، وقد ذكر لي: لو أن صخرة ألقيت من شفير جهنم لهوت سبعين خريفاً ولتملأنه؛ وعجبتم! ولقد ذكر لي: أن ما بين مصراعين من مصارع الجنة مسيرة أربعين خريفاً وليأتين عليه يومٌ وهو كظيظ، ولقد رأيتني وأنا سابع سبعة مع النبي، صلى الله عليه وسلم، ما لنا طعام إلا ورق السمر حتى تقرحت أشداقنا، والتقطت بردة فشققتها بيني وبين سعد، فما منا أولئك السبعة من أحد إلا وهو أمير مصر من الأمصار، وسيجربون الناس بعدنا. وكان نزوله البصرة في ربيع الأول أو الآخر سنة أربع عشرة. وقيل: إن البصرة مصرت سنة ستة عشرة بعد جلولاء وتكريت والحصنين، أرسله سعد إليها بأمر عمر. وإن عتبة لما نزل البصرة أقام نحو شهر فخرج إليه أهل الأبلة، وكان بها خمسمائة أسوار يحمونها، وكانت مرفأ السفن من الصين، فقاتلهم عتبة فهزمهم حتى دخلوا المدينة، ورجع عتبة إلى عسكره، وألقى الله الرعب في قلوب الفرس فخرجوا عن المدينة وحملوا ما خف وعبروا الماء وأخلوا المدينة ودخلها المسلمون فأصابوا متاعاً وسلاحاً وسبياً فاقتسموه وأخرج الخمس منه، وكان المسلمون ثلاثمائة. وكان فتحها في رجب أو في شعبان. ثم نزل موضع مدينة الرزق وخط موضع المسجد وبناه بالقصب.
وكان أول مولود بها عبد الرحمن بن أبي بكرة، فلما ولد ذبح أبوه جزوراً فكفتهم لقلة الناس. وجمع لهم أهل دستميسان فلقيهم عتبة فهزمهم وأخذ مرزبانها أسيراً وأخذ قتادة منطقته فبعث بها مع أنس بن حجنة إلى عمر، فقال له عمر: كيف الناس؟ فقال: انثالت عليهم الدنيا فهم يهيلون الذهب والفضة. فرغب الناس في البصرة فأتوها. واستعمل عتبة مجاشع بن مسعود على جماعة وسيرهم إلى الفرات، واستخلف المغيرة بن شعبة على الصلاة إلى أن يقدم مجاشع بن مسعود، فإذا قدم فهو الأمير، وسار عتبة إلى عمر. فظفر مجاشع بأهل الفرات وجمع الفليكان، عظيم من الفرس، للمسلمين، فخرج إليه المغيرة بن شعبة فلقيهم بالمرغاب فاقتتلوا. فقال نساء المسلمين: لو لحقنا بهم فكنا معهم، فاتخذن من خمرهن رايات وسرن إلى المسلمين. فلما رأى المشركون الرايات ظنوا أن مدداً للمسلمين قد أقبل فانهزموا وظفر بهم المسلمون. وكتب إلى عمر بالفتح، فقال عمر لعتبة: من استعملت على البصرة؟ فقال: مجاشع بن مسعود. قال: أتستعمل رجلاً من أهل الوبر على أهل المدر؟ وأخبره بما كان من المغيرة، وأمره أن يرجع إلى عمله، فمات في الطريق، وقيل في موته غير ذلك، وسيرد ذكره سنة سبع عشرة. وكان من سبي ميسان يسار أبو الحسن البصري، وأرطبان جد عبد الله بن عون بن أرطبان. وقيل: إن إمارة عتبة البصرة كانت سنة خمس عشرة، وقيل: ست عشرة، والأول أصح، فكانت إمارته عليها ستة أشهر. واستعمل عمر على البصرة المغيرة بن شعبة، فبقي سنتين ثم رمي بما رمي، واستعمل أبا موسى، وقيل: استعمل بعد عتبة أبا موسى وبعده المغيرة. وفيها، أعني سنة أربع عشرة، ضرب عمر ابنه عبيد الله وأصحابه في شراب شربوه وأبا محجن. وفيها أمر عمر بالقيام في شهر رمضان في المساجد بالمدينة وجمعهم على أبي بن كعب وكتب إلى الأمصار بذلك. وحج بالناس في هذه السنة عمر بن الخطاب. وكان على مكة عتاب بن أسيد في قوله، وعلى اليمن يعلى بن منية، وعلى الكوفة سعد، وعلى الشام أبو عبيدة بن الجراح، وعلى البحرين عثمان بن أبي العاص، وقيل العلاء بن الحضرمي، وعلى عمان حذيفة بن محصن. وفي هذه السنة مات أبو قحافة والد أبي بكر الصديق بعد موت ابنه. وفيها مات سعد بن عبادة الأنصاري، وقيل: سنة إحدى عشرة، وقيل: سنة خمس عشرة. وفيها قتل سليط بن عمرو بن عامر بن لؤي. وفيها ماتت هند بنت عتبة بن ربيعة أم معاوية، وكان إسلامها يوم الفتح. ثم دخلت سنة خمس عشرةوقيل: إن الكوفة مصرها سعد بن أبي وقاص في هذه السنة، دلهم على موضعها ابن بقيلة، قال لسعد: أدلك على أرض لله ارتفعت من البق وانحدرت عن الفلاة! فدله على موضعها، وقيل غير ذلك، ويأتي ذكره. ذكر الوقعة بمرج الرومفي هذه السنة كانت الوقعة بمرج الروم، وكان من ذلك أن أبا عبيدة وخالد بن الوليد سارا بمن معهما من فحل قاصدين حمص، فنزلا على ذي الكلاع، وبلغ الخبر هرقل فبعث توذر البطريق حتى نزل بمرج الروم غرب دمشق، ونزل أبو عبيدة بمرج الروم أيضاً، ونازله يوم نزوله شنش الرومي في مثل خيل توذر إمداداً لتوذر وردءاً وردءاً لأهل حمص. فلما نزل أصبحت الأرض من توذر بلاقع، وكان خالد بإزائه وأبو عبيدة بإزاء شنش، وسار توذر يطلب دمشق، فسار خالد وراءه وراءه في جريدة، وبلغ يزيد بن أبي سفيان فعل توذر فاستقبله فاقتتلوا، ولحق بهم خالد وهم يقتتلون فأخذهم من خلفهم ولم يفلت منهم إلا الشريد، وغنم المسلمون ما معهم، فقسمه يزيد في أصحابه وأصحاب خالد، وعاد يزيد إلى دمشق ورجع خالد إلى عبيدة وقد قتل توذر. وقاتل أبو عبيدة بعد مسير خالد شنش فاقتتلوا بمرج الروم، فقتلت الروم مقتلة عظيمة، وقتل شنش، وتبعهم المسلمون إلى حمص، فلما بلغ هرقل ذلك أمر بطريق حمص بالمسير إليها، وسار هو إلى الرهاء، وسار أبو عبيدة إلى حمص. ذكر فتح حمص وبعلبك وغيرهما
فلما فرغ أبو عبيدة من دمشق سار إلى حمص فسلك طريق بعلبك فحصرها، فطلب أهلها الأمان فآمنهم وصالحهم وسار عنهم فنزل على حمص ومعه خالد، وقيل: غنما سار المسلمون إلى حمص من مرج الروم، وقد تقدم ذكره. فلما نزلوها قاتلوا أهلها فكانوا يغادونهم القتال ويراوحونهم في كل يوم بارد، ولقي المسلمون برداً شديداً والروم حصاراً طويلاً، فصبر المسلمون والروم، وكان هرقل قد أرسل إلى أهل حمص يعدهم المدد وأمر أهل الجزيرة جميعها بالتجهز إلى حمص، فساروا نحو الشام ليمنعوا حمص عن المسلمين. فسير سعد بن أبي وقاص السرايا من العراق إلى هيت وحصروها، وسار بعضهم إلى قرقيسيا، فتفرق أهل الجزيرة وعادوا عن نجدة أهل حمص، فكان أهلها يقولون: تمسكوا بمدينتكم فإنهم حفاة، فإذا أصابهم البرد تقطعت أقدامهم. فكانت أقدام الروم تسقط ولا يسقط للمسلمين إصبع. فلما خرج الشتاء قام شيخ من الروم فدعاهم إلى مصالحة المسلمين فلم يجيبوه، وقام آخر فلم يجيبوه، فناهدهم المسلمون فكبروا تكبيرة فانهدم كثير من دور حمص وزلزلت حيطانهم فتصدعت، فكبروا ثانية فأصابهم أعظم من ذلك، فخرج أهلها إليهم يطلبون الصلح ولا يعلم المسلمون بما حدث فيهم، فأجابوهم وصالحوهم على صلح دمشق، وأنزلها أبو عبيدة السمط بن الأسود الكندي في بني معاوية، والأشعث بن ميناس في السكون، والمقداد في بلي، وأنزلها غيرهم، وبعث بالأخماس إلى عمر مع عبد الله بن مسعود، وكتب عمر إلى أبي عبيدة: أن أقم بمدينتك وادع أهل القوة من عرب الشام فإني غير تارك البعثة إليك. ثم استخلف أبو عبيدة على حمص عبادة بن الصامت، وسار إلى حماة، فتلقاه أهلها مذعنين، فصالحهم أبو عبيدة على الجزية لرؤوسهم والخراج على أرضهم، ومضى نحو شيزر، فخرجوا إليه يسألون الصلح على ما صالح عليه أهل حماة، وسار أبو عبيدة إلى عبيدة إلى معرة حمص، وهي معرة النعمان، نسبت بعد إلى النعمان بن بشير الأنصاري، فأذعنوا له بالصلح على ما صالح عليه أهل حمص. ثم أتى اللاذقية فقاتله أهلها، وكان لها باب عظيم يفتحه جمعٌ من الناس، فعسكر المسلمون على بعد منها، ثم أمر فحفر حائر عظيمة تستر الحفرة منها الفارس راكباً، ثم أظهروا أنهم عائدون عنها ورحلوا، فلما جنهم الليل عادوا واستتروا في تلك الحفائر، وأصبح أهل اللاذقية وهم يرون أن المسلمين قد انصرفوا عنهم فأخرجوا سرحهم وانتشروا بظاهر البلد، فلم يرعهم إلا والمسلمون يصيحون بهم ودخلوا معهم المدينة وملكت عنوةً وهرب قوم من النصارى إلى اليسيد ثم طلبوا الأمان على أن يرجعوا إلى أرضهم، فقوطعوا على خراج يؤدونه قلوا أو كثروا وتركت لهم كنيستهم، وبنى المسلمون بها مسجداً جامعاً، بناه عبادة بن الصامت، ثم وسع فيه بعد. ولما فتح المسلمون اللاذقية جلا أهل جبلة من الروم عنها، فلما كان زمن معاوية بنى حصناً خارج الحصن الرومي وشحنه بالرجال. وفتح المسلمون مع عبادة بن الصامت أنطرطوس، وكان حصيناً، فجلا عنه أهله، فبنى معاوية مدينة أنطرطوس ومصرها وأقطع بها القطائع للمقاتلة، وكذلك فعل ببانياس. وفتحت سلمية أيضاً، وقيل: إنما سميت سلمية لأنه كان بقربها مدينة تدعى المؤتفكة انقلبت بأهلها ولم يسلم منهم غير مائة نفس فبنوا لهم مائة منزل وسميت سلم مائة، ثم حرف الناس اسمها فقالوا: سلمية، وهذا يتمشى لقائله لو كان أهلها عرباً ولسانهم عربياً، وأما إذ كان لسانهم أعجمياً فلا يسوغ هذا القول. ثم إن صالح بن علي بن عبد الله بن عباس اتخذها داراً وبنى ولده فيها ومصروها ونزلها من نزلها من ولده، فهي وأرضوها لهم. ذكر فتح قنسرين ودخول هرقل القسطنطينية
ثم أرسل أبو عبيدة خالد بن الوليد إلى قنسرين. فلما نزل الحاضر زحف إليهم الروم وعليهم ميناس، وكان من أعظم الروم بعد هرقل، فاقتتلوا فقتل ميناس ومن معه مقتلة عظيمة لم يقتلوا مثلها، فماتوا على دمٍ واحد. وسار خالد حتى نزل على قنسرين فتحصنوا منه، فقالوا: لو كنتم في السحاب لحملنا الله إليكم أو لأنزلكم إلينا. فنظروا في أمرهم ورأوا ما لقي أهل حمص فصالحوهم على صلح حمص، فأبى خالد إلا على إخراب المدينة فأخربها. فعند ذلك دخل هرقل القسطنطينية؛ وسببه: أن خالداً وعياضاً أدربا إلى هرقل من الشام، وأدرب عمرو بن مالك من الكوفة، فخرج من ناحية قرقيسيا، وأدرب عبد الله بن المعتم من ناحية الموصل ثم رجعوا، فعندها دخل هرقل القسطنطينية، وكانت هذه أول مدربة في الإسلام سنة خمس عشرة، وقيل ستة عشرة. فلما بلغ عمر صنيع خالد قال: أمر خالد نفسه، يرحم الله أبو بكر هو كان أعلم بالرجال مني! وقد كان عزله والمثنى بن حارثة وقال: إني لم أعزلهما عن ريبة ولكن الناس عظموهما فخشيت أن يوكلوا إليهما. فأما المثنى فإنه رجع عن رأيه فيه لما قام بعد أبي عبيد ورجع عن خالد بعد قنسرين. وأما هرقل فإنه خرج من الرهاء؛ وكان أول من أنبح كلابها ونفر دجاجها من المسلمين زياد بن حنظلة، وكان من الصحابة، وسار هرقل فنزل بشمشاط، ثم أدرب منها نحو القسطنطينية. فلما أراد المسير منها علا على نشزٍ ثم التفت إلى الشام فقال: السلام عليك يا سورية، سلام لا اجتماع بعده، ولا يعود إليك رومي أبداً إلا خائفاً حتى يولد المولود المشؤوم، ويا ليته لا يولد! فما أحلى فعله وأمر فتنته على الروم. ثم سار فدخل القسطنطينية، وأخذ أهل الحصون التي بين إسكندرية وطرسوس معه لئلا يسير المسلمون في عمارة ما بين أنطاكية وبلاد الروم، وشعث الحصون، فكان المسلمون لا يجدون بها أحداً، وربما كمن عندها الروم فأصابوا غرة المتخلفين، فاحتاط المسلمون لذلك. ذكر فتح حلب وأنطاكية وغيرهما من العواصم لما فرغ عبيدة من قنسرين سار إلى حلب، فبلغه أن أهل قنسرين نقضوا وغدروا، فوجه إليهم السمط ابن الأسود الكندي فحصرهم وفتحها وأصاب فيها بقراً وغنماً فقسم بعضه في جيشه وجعل بقيته في المغنم. ووصل أبو عبيدة إلى حاضر حلب وهو قريب منها فجمع أصنافاً من العرب، فصالحهم أبو عبيدة على الجزية ثم أسلموا بعد ذلك إلا من شذ عن جماعتهم، وأتى حلب وعلى مقدمته عياض بن غنم الفهري، فتحصن أهلها وحصرهم المسلمون فلم يلبثوا أن طلبوا الصلح والأمان على أنفسهم وأولادهم ومدينتهم وكنائسهم وحصنهم، فأعطوا ذلك واستثني عليهم موضع المسجد، وكان الذي صالحهم عياض، فأجاز أبو عبيدة ذلك. وقيل: صولحوا على أن يقاسموا منازلهم وكنائسهم. وقيل: إن أبا عبيدة لم يصادف بحلب أحداً لأ انتقلوا إلى أنطاكية وراسلوا في الصلح، فلما تم ذلك رجعوا إليها. وسار أبو عبيدة من حلب إلى أنطاكية وقد تحصن بها كثير من الخلق من قنسرين وغيرها. فلما فارقها لقيه جمع العدو فهزمهم فألجأهم إلى المدينة وحاصرها من جميع نواحيها، ثم إنهم صالحوه على الجلاء أو الجزية، فجلا بعض وأقام بعض فآمنهم، ثم نقضوا فوجه أبو عبيدة إليهم عياض بن غنم وحبيب بن مسلمة، ففتحاها على الصلح الأول. وكانت أنطاكية عظيمة الذكر عند المسلمين، فلما فتحت كتب عمر إلى عبيدة أن رتب بأنطاكية جماعة من المسلمين واجعلهم بها مرابطة ولا تحبس عنهم العطاء. وبلغ أبا عبيدة أن جمعاً من الروم بين معرة مصرين وحلب، فسار إليهم فلقيهم فهزمهم وقتل عدة بطارقة وسبى وغنم وفتح معرة مصرين على مثل صلح حلب وجالت خيوله فبلغت بوقا وفتحت قرى الجومة وسرمين ومرتحوان وتيزين وغلبوا على جميع أرض قنسرين وأنطاكية، ثم أتى أبو عبيدة حلب وقد التاث أهلها، فلم يزل بهم حتى أذعنوا وفتحوا المدينة. وسار أبو عبيدة يريد قورس وعلى مقدمته عياض، فلقيه راهب من رهبانها يسأله الصلح، فبعث به إلى أبي عبيدة فصالحه على صلح أنطاكية، وبث خيله فغلب على جميع أرض قورس وفتح تل عزاز، وكان سلمان بن ربيعة الباهلي في جيش أبي عبيدة فنزل في حصن بقورس فنسب إليه يعرف بحصن سلمان.
ثم سار أبو عبيدة إلى منبج وعلى مقدمته عياض، فلحقه وقد صالح أهلها على مثل صلح أنطاكية، وسير عياضاً إلى ناحية دلوك ورعبان فصالحه أهلها على مثل صلح منبج، واشترط عليهم أن يخبروا المسلمين بخبر الروم. وولي أبو عبيدة كل كورة فتحها عاملاً وضم إليه جماعة وشحن النواحي المخوفة، وسار إلى بالس، وبعث جيشاً مع حبيب بن مسلمة إلى قاصرين فصالحهم أهلها على الجزية أو الجلاء، فجلا أكثرهم إلى بلد الروم وأرض الجزيرة وقرية جسر منبج، ولم يكن الجسر يومئذٍ، وإنما اتخذ في خلافة عثمان للصوائف، وقيل: بل كان له رسم قديم. واستولى المسلمون على الشام من هذه الناحية إلى الفرات، وعاد أبو عبيد إلى فلسطين. وكان بجبل اللكام مدينة يقال لها جرجرومة وأهلها يقال لهم الجراجمة، فسار حبيب بن مسلمة إليها من أنطاكية فافتتحها صلحاً على أن يكونوا أعواناً للمسلمين. وفيها سير أبو عبيدة بن الجراح جيشاً مع ميسرة بن مسروق العبسي، فسلكوا درب بغراس من أعمال أنطاكية إلى بلاد الروم، وهو أول من سلك ذلك الدرب، فلقي جمعاً للروم معهم عرب من غسان وتنوخ وإياد يريدون اللحاق بهرقل، فأوقع بهم وقتل منهم مقتلة عظيمة، ثم لحق به مالك الأشتر النخعي مدداً من قبل أبي عبيدة وهو بأنطاكية، فسلموا وعادوا. وسير جيشاً آخر إلى مرعش مع خالد بن الوليد ففتحها على إجلاء أهلها بالأمان وأخربها. وسير جيشاً آخر مع حبيب بن مسلمة إلى حصن الحدث، وإنما سمي الحدث لأن المسلمين لقوا عليه غلاماً حدثاً فقاتلهم في أصحابه، فقيل درب الحدث، وقيل: لأن المسلمين أصيبوا به فقيل درب الحدث، وكان بنو أمية يسمونه درب السلامة لهذا المعنى. ذكر فتح قيسارية وحصر غزةفي هذه السنة فتحت قيسارية، وقيل: سنة تسع عشرة، وقيل: سنة عشرين. وكان سببها: أن عمر كتب إلى يزيد بن أبي سفيان أن يرسل معاوية إلى قيسارية؛ وكتب عمر إلى معاوية يأمره بذلك، فسار معاوية إليها فحصر أهلها، فجعلوا يزاحفونه وهو يهزمهم ويردهم إلى حصنهم. ثم زاحفوه آخر ذلك مستميتين، وبلغت قتلاهم في المعركة ثمانين ألفاً وكملها في هزيمتهم مائة ألف وفتحها، وكان علقمة بن مجزز قد حصر القيقار بغزة وجعل يراسله، فلم يشفه أحد بما يريد، فأتاه كأنه رسول علقمة، فأمر القيقار رجلاً أن يقعد له في الطريق فإذا مر به قتله، ففطن علقمة فقال: إن معي نفراً يشركونني في الرأي فأنطلق فآتيك بهم، فبعث القيقار إلى ذلك الرجل أن لا يعرض له، فخرج علقمة من عنده فلم يعد وفعل كما فعل عمرو بالأرطبون. مجزز بجيم وزايين الأولى مكسورة. ذكر فتح بيسان ووقعة أجنادينولما انصرف أبو عبيدة وخالد إلى حمص نزل عمرو وشرحبيل على أهل بيسان فافتتحاها وصالحا أهل الأردن، واجتمع عسكر الروم بغزة وأجنادين وبيسان، وسار عمرو وشرحبيل إلى الأرطبون ومن معه وهو بأجنادين، واستخلف على الأردن أبا الأعور، فنزل بالأرطبون ومعه الروم. وكان الأرطبون أدهى الروم وأبعدها غوراً، وكان قد وضع بالرملة جنداً عظيماً، وبإيلياء جنداً عظيماً. فلما بغل عمر بن الخطاب الخبر قال: قد رمينا أرطبون الروم بأرطبون العرب فانظروا عم تنفرج. وكان معاوية قد شغل أهل قيسارية عن عمرو، وكان عمرو قد جعل علقمة بن حكيم الفراسي ومسروق بن فلان العكي على قتال أهل إيلياء، فشغلوا من به عنه، وجعل أيضاً أبا أيوب المالكي على من بالرملة من الروم فشغلهم عنه، وتتابعت الأمداد من عند عمر إلى عمرو، وأقام عمرو على أجنادين لا يقدر من الأرطبون على شيء ولا تشفيه الرسل، فسار إليه بنفسه فدخل عليه كأنه رسول، ففطن به الأرطبون وقال: لاشك أن هذا هو الأمير أو من يأخذ الأمير برأيه، فأمر إنساناً أن يقعد على طريقه ليقتله إذا مر به، وفطن عمرو لفعله فقال له: قد سمعت مني وسمعت منك، وقد وقع قولك مني موقعاً وأنا واحد من عشرة بعثنا عمر إلى هذا الوالي لنكانفه فأرجع فآتيك بهم الآن رأوا الذي عرضت علي الآن فقد رآه الأمير وأهل العسكر، وإن لم يروه رددتهم إلى مأمنهم وكنت على رأس أمرك. فقال: نعم، ورد الرجل الذي أمر بقتله. فخرج عمرو من عنده وعلم الرومي أنها خدعة اختدعه بها فقال: هذا أدهى الخلق!
وبلغت خديعته عمر بن الخطاب فقال: لله در عمرو! وعرف عمرو مأخذه فلقيه فاقتتلوا بأجنادين قتالاً شديداً كقتال اليرموك حتى كثرت القتلى بينهم، وانهزم أرطبون إلى إيلياء، ونزل عمرو أجنادين، وأفرج المسلمون الذين يحصرون بيت المقدس لأرطبون، فدخل إيلياء وأزاح المسلمين عنه إلى عمرو. وقد تقدم وقعة أجنادين على قول من يجعلها قبل اليرموك، وسياقها على غير هذه السياقة، فلهذا ذكرناها هنالك وها هنا. ذكر فتح بيت المقدس وهو إيلياءفي هذه السنة فتح بيت المقدس، وقيل: سنة ست عشرة في ربيع الأول. وسبب ذلك أنه لما دخل أرطبون إيلياء فتح عمرو غزة، وقيل: كان فتحها في خلافة أبي بكر، ثم فتح سبسطية، وفيها قبر يحيى بن زكرياء، عليه السلام، وفتح نابلس بأمان على الجزية، وفتح مدينة لد، ثم فتح يبنى وعمواس وبيت جبرين، وفتح يافا، وقيل: فتحها معاوية، وفتح عمرو مرج عيون، فلما تم له ذلك أرسل إلى أرطبون رجلاً يتكلم بالرومية وقال له: اسمع ما يقول، وكتب معه كتاباً، فوصل الرسول ودفع الكتاب إلى أرطبون وعنده وزراؤه، فقال أرطبون: لا يفتح والله عمرو شيئاً من فلسطين بعد أجنادين. فقالوا له: من أين علمت هذا؟ فقال: صاحبها رجل صفته كذا وكذا، وذكر صفة عمر. فرجع الرسول إلى عمرو فأخبره الخبر، فكتب إلى عمر بن الخطاب يقول: إني أعالج عدواً شديداً وبلاداً قد ادخرت لك، فرأيك. فعلم عمر أن عمراً لم يقل ذلك إلا بشيء سمعه، فسار عمر عن المدينة. وقيل: كان سبب قدوم عمر إلى الشام أن أبا عبيدة حصر بيت المقدس، فطلب أهله منه أن يصالحهم على صلح أهل مدن الشام وأن يكون المتولي للعقد عمر بن الخطاب، فكتب إليه ذلك، فسار عن المدينة واستخلف عليها علي ابن أبي طالب، فقال له علي: أين تخرج بنفسك؟ إنك تريد عدواً كلباً. فقال عمر: أبادر بالجهاد قبل موت العباس، إنكم لو فقدتم العباس لانتفض بكم الشر كما ينتقض الحبل. فمات العباس لست سنين من خلافة عثمان، فانتقض بالناس الشر. وسار عمر فقدم الجابية على فرس، وجميع ما قدم الشام أربع مرات: الأولى على فرس، الثانية على بعير، والثالثة على بغل، رجع لأجل الطاعون، والرابعة على حمار. وكتب إلى أمراء الأجناد أن يوافوه بالجابية ليوم سماه لهم في المجردة ويستخلفوا على أعمالهم، فلقوه حيث رفعت لهم الجابية، فكان أول من لقيه يزيد وأبو عبيدة ثم خالد على الخيول عليهم الديباج والحرير، فنزل وأخذ الحجارة ورماهم بها وقال: ما أسرع ما رجعتم عن رأيكم! إياي تستقبلون في هذا الزي وإنما شبعتم مذ سنتين! وبالله لو فعلتم هذا على رأس المائتين لاستبدلت بكم غيركم. فقالوا: يا أمير المؤمنين، إنها يلامقة، وإن علينا السلاح. قال: فنعم إذن. وركب حتى دخل الجابية وعمرو وشرحبيل بأجنادين كأنهما لم يتحركا من مكانهما. فلما قدم عمر الجابية قال له رجل من اليهود يا أمير المؤمنين، إنك لا ترجع إلى بلادك حتى يفتح الله عليك إيلياء، وكانوا قد شجوا عمراً وأشجاهم ولم يقدر عليها ولا على الرملة. فبينما عمر معسكر بالجابية فزع الناس إلى السلاح، فقال: ما شأنكم؟ فقالوا: ألا ترى إلى الخيل والسيوف؟ فنظر فإذا كردوس يلمعون بالسيوف. فقال عمر: مستأمنة فلا تراعوا، فأمنوهم، وإذا أهل إيلياء وحيزها، فصالحهم على الجزية وفتحوها له؛ وكان الذي صالحه العوام من أهل إيلياء والرملة لأن أرطبون والتذارق دخلا مصر لما وصل عمر إلى الشام وأخذا كتابه على إيلياء وحيزها والرملة وحيزها، فشهد ذلك اليهودي الصلح. فسأله عمر عن الدجال، وكان كثير السؤال عنه. فقال له: وما مسألتك عنه يا أمير المؤمنين؟ أنتم والله تقتلونه دون باب لد ببضع عشرة ذراعاً. وأرسل عمر إليهم بالأمان وجعل علقمة بن حكيم على نصف فلسطين وأسكنه الرملة، وجعل علقمة بن مجزز على نصفها الآخر وأسكنه إيلياء. وضم عمراً وشرحبيل إليه بالجابية، فلقياه راكباً فقبلا ركبتيه، وضم عمر كل واحد منهما محتضنهما. ثم سار إلى بيت المقدس من الجابية فركب فرسه فرأى به عرجاً، فنزل عنه وأتي ببرذون فركبه، فجعل يتجلجل به، فنزل وضرب وجهه وقال: لا أعلم من علمك هذه الخيلاء! ثم لم يركب برذوناً قبله ولا بعده.
وفتحت إيلياء وأهلها على يديه. وقيل: كان فتحها سنة ست عشرة، ولحق أرطبون ومن أبى الصلح من الروم بمصر، فلما ملك المسلمون مصر قتل، وقيل: بل لحق بالروم، فكان يكون على صوائفهم، والتقى هو وصاحب صائفة المسلمين، ومع المسلمين رجل من قيس يقال له ضريس، فقطع يد القيسي وقتله القيسي، فقال فيه: فإن يكن أرطبون الروم أفسدها ... فإن فيها بحمد الله منتفعا وإن يكن أرطبون الروم قطعها ... فقد تركت بها أوصاله قطعا بنانتان وجرموز أقيم به ... صدر القناة إذا ما آنسوا فزعا ذكر فرض العطاء وعمل الديوانوفي سنة خمس عشرة فرض عمر للمسلمين الفروض، ودون الدواوين، وأعطى العطايا على السابقة، وأعطى صفوان بن أمية والحارث بن هشام وسهيل ابن عمرو في أهل الفتح أقل ما أخذ من قبلهم، فامتنعوا من أخذه وقالوا: لا نعترف أن يكون أحد أكرم منا. فقال: إني أعطيتكم على السابقة في الإسلام لا على الأحساب. قالوا: فنعم إذاً، وأخذوا، وخرج الحارث وسهيل بأهليهما نحو الشام فلم يزالا مجاهدين حتى أصيبا في بعض تلك الدروب، وقيل: ماتا في طاعون عمواس. ولما أراد عمر وضع الديوان قال له علي وعبد الرحمن بن عوف: ابدأ بنفسك. قال: لا بل أبدأ بعم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ثم الأقرب فالأقرب؛ ففرض للعباس وبدأ به، ثم فرض لأهل بدر خمسة آلاف خمسة آلاف، ثم فرض لمن بعد بدر إلى الحديبية أربعة آلاف أربعة آلاف، ثم فرض لمن بعد الحديبية إلى أن أقلع أبو بكر عن أهل الردة ثلاثة آلاف ثلاثة آلاف؛ في ذلك من شهد الفتح وقاتل عن أبي بكر ومن ولي الأيام قبل القادسية، كل هؤلاء ثلاثة آلاف ثلاثة آلاف، ثم فرض لأهل القادسية وأهل الشام ألفين ألفين، وفرض لأهل البلاء النازع منهم ألفين وخمسمائة ألفين وخمسمائة. فقيل له: لو ألحقت أهل القادسية بأهل الأيام، فقال: لم أكن لألحقهم بدرجة من لم يدركوا. وقيل له: قد سويت من بعدت داره بمن قربت داره وقاتلهم عن فنائه. فقال: من قربت داره بالزيادة لأنهم كانوا ردءاً للحتوف وشجىً للعدو، قال المهاجرون مثل قولكم حين سوينا بين السابقتين منهم والأنصار! فقد كانت نصرة الأنصار بفنائهم وهاجر إليهم المهاجرون من بعد. وفرض لمن بعد القادسية واليرموك ألفاً ألفاً، ثم فرض للروادف المثنى خمسمائة خمسمائة، ثم للروادف الثليث بعدهم ثلاثمائة ثلاثمائة، سوى كل طبقة في العطاء قويهم وضعيفهم، عربهم وعجمهم، وفرض للروداف الربيع على مائتين وخمسين، وفرض لمن بعدهم، وهم أهل هجر والعباد، على مائتين، وألحق أهل بدر أربعة من غير أهلها: الحسن والحسين وأبا ذر وسلمان. وكان فرض للعباس خمسة وعشرين ألفاً، وقيل: اثني عشر الفاً، وأعطى نساء النبي، صلى الله عليه وسلم، عشرة آلاف عشرة آلاف، إلا من جرى عليها الملك. فقال نسوة رسول الله، صلى الله عليه وسلم: ما كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يفضلنا عليهن في القسمة، فسو بيننا؛ ففعل وفضل عائشة بألفين لمحبة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إياها، فلم تأخذ. وجعل نساء أهل بدر في خمسمائة خمسمائة، ونساء من بعدهم إلى الحديبية على أربعمائة، ونساء من بعد ذلك إلى الأيام ثلاثمائة ثلاثمائة، ونساء أهل القادسية مائتين مائتين، ثم سوى بين النساء بعد ذلك وجعل الصبيان سواء على مائة مائة، ثم جمع ستين مسكيناً وأطعمهم الخبز، فأحصوا ما أكلوا فوجدوه يخرج من جريبتين، ففرض لكل إنسان منهم ولعياله جريبتين في الشهر. وقال عمر قبل موته: لقد هممت أن أجعل العطاء أربعة آلاف أربعة آلاف، ألفاً يجعلها الرجل في أهله، والفاً يزودها معه، وألفاً يتجهز بها، وألفاً يترفق بها. فمات قبل أن يفعل. وقال له قائل عند فرض العطاء: يا أمير المؤمنين لو شركت في بيوت الأموال عدة لكونٍ إن كان. فقال: كلمة ألقاها الشيطان على فيك وقاني الله شرها، وهي فتنة لمن بعدي، بل أعد لهم ما أعد الله ورسوله طاعة لله ورسوله، هما عدتنا التي بها أفضينا إلى ما ترون، فإذا كان المال ثمن دين أحدكم هلكتم.
وقال عمر للمسلمين: إني كنت أمرأً تاجراً يغني الله عيالي بتجارتي، وقد شغلتموني بأمركم هذا، فما ترون أنه يحل لي في هذا المال؟ وعليٌّ ساكت. فأكثر القوم، فقال: ما تقول يا علي؟ فقال: ما أصلحك وعيالك بالمعروف ليس لك غيره. فقال القوم: ما قال علي. فأخذ قوته واشتدت حاجة عمر، فاجتمع نفر من الصحابة منهم عثمان وعلي وطلحة والزبير فقالوا: لو قلنا لعمر في زيادة نزيده إياها في رزقه. فقال عثمان: هلموا فلنستبرىء ما عنده من وراء وراء، فأتوا حفصة ابنته فأعلموها الحال واستكتموها أن لا تخبر بهم عمر. فلقيت عمر في ذلك، فغضب وقال: من هؤلاء لأسوءهم؟ قالت: لا سبيل إلى علمهم. قال: أنت بيني وبينهم، ما أفضل ما اقتنى رضي الله عنه، في بيتك الملبس؟ قالت: ثوبين ممشقين كان يلبسهما للوفد والجمع. قال: فأي الطعام ناله عندك أرفع؟ قالت: حرفاً من خبز شعير فصببنا عليه وهو حار أسفل عكة لنا فجعلتها دسمة حلوة فأكل منها. قال: وأي مبسط كان يبسط عندك كان أوطأ؟ قالت: كساء ثخين كنا نربعه في الصيف، فإا كان الشتاء بسطنا نصفه وتدثرنا بنصفه. قال: يا حفصة فأبلغيهم أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قدر فوضع الفضول مواضعها وتبلغ بالتزجية، فوالله لأضعن الفضول مواضعها ولأتبلغن بالتزجية، وإنما مثلي ومثل صاحبي كثلاثة سلكوا طريقاً، فمضى الأول وقد تزود فبلغ المنزل، ثم اتبعه الآخر فسلك طريقه فأفضى إليه، ثم اتبعه الثالث فإن لزم طريقهما ورضي بزادهما ألحق بهما، وإن سلك غير طريقهما لم يجامعهما. ذكر الحروب إلى آخر السنة فمن ذلك يوم برس وبابل وكوثىلما فرغ سعد من أمر القادسية أقام بها بعد الفتح شهرين وكاتب عمر فيما يفعل، فكتب إليه عمر يأمره بالمسير إلى المدائن وأن يخلف النساء والعيال بالعتيق وأن يجعل معهم جنداً كثيفاً وأن يشركهم في كل مغنم ما داموا يخلفون المسلمين في عيالاتهم. ففعل ذلك وسار من القادسية لأيام بقين من شوال، وكل الناس مؤدٍ مذ نقل الله إليهم ما كان في عسكر الفرس من سلاح وكراع ومال. فلما وصلت مقدمة المسلمين برس وعليهم عبد الله بن المعتم وزهرة بن حوية وشرحبيل ابن السمط لقيهم بها بصبهرا في جمع من الفرس، فهزمه المسلمون ومن معه إلى بابل وبها فالة القادسية وبقايا رؤسائهم النخيرخان ومهران الرازي والهرمزان وأشباههم وقد استعملوا عليهم الفيرزان، وقدم بصبهرا منهزماً من برس فوقع في النهر ومات من طعنة كان طعنه زهرة، ولما هزم بصبهرا أقبل بسطام دهقان برس فصالح زهرة وعقد له الجسور وأخبره بمن اجتمع ببابل، فأرسل زهرة إلى سعد يعرفه ذلك. فقدم عليه سعد ببرس وسيره في المقدمة وأتبعه عبد الله وشرحبيل وهاشماً المرقال واتبعهم فنزلوا على الفيرزان ببابل وقد قالوا: نقاتلهم قبل أن نفترق، فاقتتلوا فهزمهم المسلمون، فانطلقوا على وجهين، فسار الهرمزان نحو الأهواز فأخذها فأكلها، وخرج الفيرزان نحو نهاوند فأخذها بأكلها وبها كنوز كسرى، وأكل الماهين، وسار النخيرخان ومهران إلى المدائن وقطعا الجسر.
وأقام سعد ببابل أياماً وبلغه أن النخيرجان قد خلف شهريار دهقاناً من دهاقين الباب بكوثى في جمع، فقدم زهرة بين يديه بكير بن عبد الله الليثي وكثير ابن شهاب السعدي حتى عبرا الصراة فلحقا بأخريات القوم وفيهم فيومان والفرخان، فقتل بكير الفرخان وقتل كثير فيومان بسوراء، وجاء زهرة فجاز سوراء ونزل، وجاء سعد وهاشم والناس ونزلوا عليه، وتقدم زهرة نحو الفرس، وكانوا قد نزلوا بين الدير وكوثى، وقد استخلف النخيرخان ومهران على جنودهما شهريار دهقان الباب، فنازلهم زهرة، فبرزوا إلى قتاله، وخرج شهريار يطلب المبارزة، فأخرج زهرة إليه أبا نباتة نائل بن جعشم الأعرجي، وكان من شجعان بني تميم، وكلاهما وثيق الخلق. فلما رأى شهريار نائلاً ألقى الرمح لعتنقه، وألقى أبو نباتة رمحه ليعتنقه أيضاً، وانتضيا الخنجر وأراد حل أزرار درعه، فوقعت إصبعه في في نائل فكسر عظمها، ورأى منه فتوراً فبادره وجلد به الأرض ثم قعد على صدره وأخذ خنجره وكشف درعه عن بطنه وطعن به بطنه وجنبه حتى مات، وأخذ فرسه وسواريه وسلبه، وانهزم أصحابه فذهبوا إلى البلاد، وأقام زهرة بكوثى حتى قدم عليه سعد، فقدم إليه نائلاً والبسه سلاح شهريار وسواريه وأركبه برذونه وغنمه الجميع، فكان أول أعرجي سور بالعراق، وقام بها سعد أياماً وزار مجلس إبراهيم الخليل، عليه السلام. نائل بالنون، وبعد الألف ياء تحتها نقطتان، وآخره لام. ذكر بهرسير وهي المدينة العتيقة وهي المدائن الدنيا من الغربثم إن سعداً قدم زهرة إلى بهرسير فمضى في المقدمات، فتلقاه شيرزاد دهقان ساباط بالصلح فأرسله إلى سعد، فصالحه على تأدية الجزية، ولقي زهرة كتيبة بنت كسرى التي تدعى بوران، وكانوا يحلفون كل يوم أن لا يزول ملك فارس ما عشنا، فهزمهم وقتل هاشم بن عتبة، وهو ابن أخي سعد، المقرط، وهو أسد كان لكسرى قد ألفه، فقبل سعد رأس هاشم، وقبل هاشم قدم سعد، وأرسله سعد في المقدمة إلى بهرسير، فنزل إلى المظلم، وقرأ: (أولم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال) إبراهيم: النبي، صلى الله عليه وسلمالنبي، صلى الله عليه وسلم؛ ثم ارتحل فنزل على بهرسير، ووصلها سعد والمسلمون فرأوا الإيوان، فقال ضرار بن الخطاب. الله أكبر! أبيض كسرى! هذا ما وعد الله ورسوله. وكبر وكبر الناس معه، فكانوا كلما وصلت طائفة كبروا ثم نزلوا على المدينة، وكان نزولهم في ذي الحجة. وحج بالناس في هذه السنة عمر بن الخطاب. وكان عامله فيها على مكة عتاب بن أسيد في قول، وعلى الطائف يعلى بن منية، وعلى اليمامة والبحرين عثمان بن أبي العاص، وعلى عمان حذيفة بن محصن، وعلى الشام أبو عبيدة بن الجراح، وعلى الكوفة وأرضها سعد بن أبي وقاص وعلى قضائها: أبو فروة، وعلى البصرة المغيرة بن شعبة. وفيها مات سعد بن عبادة الأنصاري، وقيل: توفي في خلافة أبي بكر. ونوفل بن الحارث بن عبد المطلب، وكان أسن من أسلم من بني هاشم. ثم دخلت سنة ست عشرة ذكر فتح المدائن الغربية وهي بهرسير في هذه السنة في صفر دخل المسلمون بهرسير، وكان سعد محاصراً لها، وأرسل الخيول فأغارت على من ليس له عهد، فأصابوا مائة ألف فلاح، فأصاب كل واحد منهم فلاحاً لأن كل المسلمين كان فارساً، فأرسل سعد إلى عمر يستأذنه، فأجابه: إن من جاءكم من الفلاحين ممن لم يعينوا عليكم فهو أمانهم، ومن هرب فأدركتموه فشأنكم به. فخلى سعد عنهم وأرسل إلى الدهاقين ودعاهم إلى الإسلام أو الجزية ولهم الذمة، فتراجعوا ولم يدخل في ذلك ما كان لآل كسرى، فلم يبق في غربي دجلة إلى أرض العرب سوادي إلا أمن واغتبط الإسلام.
وأقاموا على بهرسير شهرين يرمونهم بالمجانيق ويدبون إليهم بالدبابات ويقاتلوهم بكل عدة، ونصبوا عليها عشرين منجنيقاً فشغلوهم بها، وربما خرج العجم فقاتلوهم فلا يقومون لهم، وكان آخر ما خرجوا متجردين للحرب وتبايعوا على الصبر، فقاتلهم المسلمون. وكان على زهرة بن الحوية درع مفصومة، فقيل له: لو أمرت بهذا الفصم فسرد. فقال لههم: إني على الله لكريم أن ترك سهم فارس الجند كلهم أن لا يؤمنني من هذا الفصم حيث يثبت في! فكان أول رجل أصيب من المسلمين يومئذٍ هو بنشابة من ذلك الفصم. فقال بعضهم: انزعوها. فقال: دعوني فإن نفسي معي ما دامت في، لعلي أن أصيب منهم بطعنة أو ضربة. فمضى نحو العدو فضرب بسيفه شهريار من أهل إصطخر فقتله، وأحيط به فقتل وما انكشفوا. وقيل: إن زهرة عاش إلى أيام الحجاج فقتله شبيب الخارجي، وسيرد ذكره. واشتد الحصار بأهل المدائن الغربية حتى أكلوا السنانير والكلاب وصبروا من شدة الحصار على أمر عظيم، فبينا هم يحاصرونهم إذا أشرف عليهم رسول الملك، فقال: الملك يقول لكم: هل لكم إلى المصالحة على أن لنا ما يلينا من دجلة إلى جبلنا ولكم ما يليكم من دجلة إلى جبلكم؟ أما شبعتم لا أشبع الله بطونكم! فقال لهم أبو مفرز الأسود بن قطبة، وقد أنطقه الله تعالى بما لا يدري ما هو ولا من معه. فرجع الرجل فقطعوا دجلة إلى المدائن الشرقية التي فيها الإيوان، فقال له من معه: يا أبا مفرز ما قلت له؟ قال: والذي بعث محمداً بالحق ما أدري وأنا أرجو أن أكون قد نطقت بالذي هو خيرٌ. وسأله سعد والناس عما قال فلم يعلم. فنادى سعد في الناس، فنهدوا إليهم فما ظهر على المدينة أحد ولا خرج رجل إلا رجل ينادي بالأمان، فآمنوه، فقال لهم: ما بقي بالمدينة من يمنعكم. فدخلوا فما وجدوا فيها شيئاً ولا أحداً إلا أسارى وذلك الرجل، فأسألوه لأي شيء هربوا؟ فقال: بعث الملك غليكم يعرض عليكم الصلح فأجبتموه أنه لا يكون بيننا وبينكم صلح أبداً حتى نأكل عسل أفريدون بأترج كوثى. فقال الملك: يا ويلتيه! إن الملائكة تتكلم على ألسنتهم ترد علينا. فساروا إلى المدينة القصوى. فلما دخلها المسلمون أنزلهم سعد المنازل، وأرادوا العبور إلى المدائن فوجدوا المعابر قد أخذوها ما بين المدائن وتكريت. ذكر فتح المدائن التي فيها إيوان كسرىوكان فتحها في صفر أيضاً سنة ست عشرة، قيل: وأقام سعد ببهرسير أياماً من صفر، فأتاه علجٌ فدله على مخاضة تخاض إلى صلب الفرس، فأبى وتردد عن ذلك، وقحمهم المد، وكانت السنة كثيرة المدود ودجلة تقذف بالزبد، فأتاه علجٌ فقال: ما يقيمك؟ لا يأتي عليك ثلاثة حتى يذهب يزدجرد بكل شيء في المدائن. فهيجه ذلك على العبور، ورأوا رؤيا: أن خيول المسلمين اقتحمت دجلة فعبرت، فعزم سعد لتأويل الرؤيا، فجمع الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: (إن عدوكم قد اعتصم منكم بهذا البحر فلا تخلصون إليه معه ويخلصون إليكم إذا شاؤوا في سفنهم فيناوشونكم وليس وراءكم شيء تخافون أن تؤتوا منه، قد كفاكم أهل الأيام وعطلوا ثغورهم، وقد رأيت من الرأي أن تجاهدوا العدو قبل أن تحصدكم الدنيا، ألا إني قد عزمت على قطع هذا البحر إليهم. فقالوا جميعاً: عزم الله لنا ولك على الرشد فافعل. فندب الناس إلى العبور وقال: من يبدأ ويحمي لنا الفراض حتى تتلاحق به الناس لكيلا يمنعوهم من العبور؟ فانتدب له عاصم بن عمرو ذو البأس في ستمائة من أهل النجدات، فاستعمل عليهم عاصماً، فقدمهم عاصم في ستين فارساً وجعلهم على خيل ذكور وإناث ليكون أسلس لسباحة الخيل، ثم اقتحموا دجلة. فلما رآهم الأعاجم وما صنعوا أخرجوا للخيل التي تقدمت مثلها فاقتحموا عليهم دجلة، فلقوا عاصماً وقد دنا من الفراض. فقال عاصم: الرماح الرماح! أشرعوها وتوخوا العيون. فالتقوا فاطعنوا، وتوخى المسلمون عيونهم فولوا، ولحقهم المسلمون فقتلوا أكثرهم، ومن نجا منهم صار أعور من الطعن، وتلاحق الستمائة بالستين غير متعتين.
ولما رأى سعد عاصماً على الفراض قد منعها أذن للناس في الاقتحام وقال: قولوا نستعين بالله ونتوكل عليه، حسبنا الله ونعم الوكيل، والله لينصرن الله وليه وليظهرن دينه وليهزمن عدوه، لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وتلاحق الناس في دجلة وإنهم يتحدثون كما يتحدثون في البر، وطبقوا دجلة حتى ما يرى من الشاطىء شيء. وكان الذي يساير سعداً في الماء سلمان الفارسي، فعامت بهم خيولهم، وسعد يقول: حسبنا الله ونعم الوكيل، والله لينصرن الله وليه وليظهرن دينه وليهزمن عدوه إن لم يكن في الجيش بغي أو ذنوب تغلب الحسنات. فقال له سلمان: الإسلام جديد، ذللت لهم والله البحور كما ذلل لهم البر، أما والذي نفس سلمان بيده ليخرجن منه أفواجاً كما دخلوا فيه أفواجاً. فخرجوا منه كما قال سلمان لم يفقدوا شيئاً، ولم يغرق منهم أحد إلا أن مالك بن عامر العنبري سقط منه قدح فذهبت به جرية الماء فقال له الذي يسايره معيراً له: أصابه القدر فطاح. فقال: والله إني لعلى حالة ما كان الله ليسلبني قدحي من بين العسكرين. فلما عبروا ألقته الريح إلى الشاطىء فتناوله بعض الناس وعرفه صاحبه فأخذه. ولم يغرق منهم أحد غير أن رجلاً من بارق يدعى غرقدة زال عن ظهر فرس له أشقر، فثنى القعقاع عنان فرسه إليه فأخذ بيده فأخرجه سالماً فقال البارقي وكان من أشد الناس: أعجز الأخوات أن يلدن مثلك يا قعقاع وكان للقعقاع فيهم خؤولة. وخرج الناس سالمين وخيلهم تنفض أعرافها. فلما رأى الفرس ذلك وأتاهم أمر لم يكن في حسابهم خرجوا هاربين نحو حلوان، وكان يزدجرد قد قدم عياله إلى حلوان قبل ذلك وخلف مهران الرازي والنخيرخان، وكان على بيت المال بالنهروان، وخرجوا معهم بما قدروا عليه من خير متاعهم وخفيفه وما قدروا عليه من بيت المال وبالنساء والذراري وتركوا في الخزائن من الثياب والمتاع والآنية والفصوص والألطاف والأدهان ما لا يدرى قيمته، وخلفوا ما كانوا أعدوا للحصار من البقر والغنم والأطعمة. وكان في بيت المال ثلاثة آلاف ألف الف ألف، ثلاث مرات، أخذ منها رستم عند مسيره إلى القادسية النصف وبقي النصف. وكان أول من دخل المدائن كتيبة الأهوال، وهي كتيبة عاصم بن عمرو، ثم كتيبة الخرساء، وهي كتيبة القعقاع بن عمرو، فأخذوا في سككها لا يلقون فيها أحداً يخشونه إلا من كان في القصر الأبيض، فأحاطوا بهم ودعوهم فاستجابوا على تأدية الجزية والذمة، فتراجع إليهم أهل المدائن على مثل عهدهم ليس في ذلك ما كان لآل كسرى. ونزل سعد القصر الأبيض، وسرح سعد زهرة في آثارهم إلى النهروان، ومقدار ذلك من كل جهة. وكان سلمان الفارسي رائد المسلمين وداعيتهم، دعا أهل بهرسير ثلاثاً وأهل القصر الأبيض ثلاثاً، واتخذ سعد إيوان كسرى مصلى ولم يغير ما فيه من التماثيل. ولم يكن بالمدائن أعجب من عبور الماء، وكان يدعى يوم الجراثيم، لا يبغي أحد إلا اشمخرت له جرثومة من الأرض يستريح عليها ما يبلغ الماء حزام فرسه، ولذلك يقول أبو بجيد نافع بن الأسود: وأسلنا على المدائن خيلاً ... بحرها مثل برهن أريضا فانتثلنا خزائن المرء كسرى ... يوم ولوا وخاض منها جريضا ولما دخل سعد الإيوان قرأ: (كم تركوا من جناتٍ وعيونٍ وزروعٍ) إلى قوله: (قوماً آخرين) ؛ وصلى فيه صلاة الفتح ثماني ركعات لا يفصل بينهن ولا يصلي جماعة، وأتم الصلاة لأنه نوى الإقامة، وكانت أول جمعة بالعراق، وجمعت بالمدائن في صفر سنة ست عشرة. ولما سار المسلمون وراءهم أدرك رجل من المسلمين فارسياً يحمي أصحابه فضرب فرسه ليقدم على المسلم، فأحجم وأراد الفرار فتقاعس، فأدركه المسلم فقتله وأخذ سلبه؛ وأدرك رجلٌ آخر من المسلمين جماعةً من الفرس يتلاومون وقد نصبوا لأحدهم كرةً وهو يرميها لا يخطئها، فرجعوا فلقيهم المسلم، فتقدم إليه ذلك الفارسي فرماه بأقرب مما كانت الكرة فلم يصبه، فوصل المسلم إليه فقتله وهرب أصحابه. أبو بجيد بضم الباء الموحدة، وفتح الجيم، وبعدها ياء تحتها نقطتان، ودال مهملة. ذكر ما جمع من غنائم أهل المدائن وقسمتها
كان سعد قد جعل على الأقباض عمرو بن عمرو بن مقرن، وعلى القسمة سلمان بن ربيعة الباهلي، فجمع ما في القصر والإيوان والدور وأحصى ما يأتيه به الطلب، وكان أهل المدائن قد نهبوها عند الهزيمة وهربوا في كل وجه، فما أفلت أحد منهم بشيء إلا أدركهم الطلب فأخذوا ما معهم، ورأوا بالمدائن قباباً تركية مملوة سلالاً مختومة برصاص فحسبوها طعاماً، فإذا فيها آنية الذهب والفضة، وكان الرجل يطوف ليبيع الذهب بالفضة متماثلين. ورأوا كافوراً كثيراً فحسبوه ملحاً، فعجنوا به فوجدوه مراً. وأدرك الطلب مع زهرة جماعة من الفرس على جسر النهروان فازدحموا عليه، فوقع منهم بغل في الماء فعجلوا وكبوا عليه، فقال بعض المسلمين: إن لهذا البغل لشأناً، فجالدهم المسلمون عليه حتى أخذوه وفيه حلية كسرى، ثيابه وخرزاته ووشاحه ودرعه التي فيها الجوهر، وكان يجلس فيها للمباهاة. ولحق الكلج بغلين معهما فارسيان فقتلهما وأخذ البغلين فأبلغهما صاحب الأقباض، وهو يكتب ما يأتيه به الرجال، فقال له: قف حتى ننظر ما معك. فحط عنهما فإذا سفطان فيهما تاج كسرى مرصعاً، وكان لا يحمله إلا أسطوانتان وفيه الجوهر، وعلى البغل الآخر سفطان فيهما ثياب كسرى التي كان يلبس من الديباج المنسوج بالذهب المنظوم بالجوهر وغير الديباج منسوجاً منظوماً. وأدرك القعقاع بن عمرو فارسياً فقتله وأخذ منه عيبتين وغلافين في إحداهما خمسة أسياف وفي الأخرى ستة أسياف وأدراع، منها درع كسرى ومغافره ودرع هرقل ودرع خاقان ملك الترك ودرع داهر ملك الهند ودرع بهرام جوبين ودرع سياوخش ودرع النعمان استلبها الفرس أيام غزاهم خاقان وهرقل وداهر، وأما النعمان وجوبين فحين هربا من كسرى، وفي أحد الغلافين سيوف من سيوف كسرى وهرمز وقباذ وفيروز وهرقل وخاقان وداهر وبهرام وسياوخش والنعمان؛ فأحضر القعقاع الجميع عند سعد، فخيره بين الأسياف فاختار سيف هرقل، وأعطاه درع بهرام ونفل سائرها في الخرساء، إلا سيف كسرى والنعمان، بعث بهما إلى عمر بن الخطاب لتسمع العرب بذلك وحسبوهما في الأخماس، وبعثوا بتاج كسرى وحليته وثيابه إلى عمر ليراه المسلمون. وأدرك عصمة بن خالد الضبي رجلين معهما حماران فقتل أحدهما وهرب الآخر، وأخذ الحمارين فأتى بهما صاحب الأقباض فإذا على أحدهما سفطان في أحدهما فرس من ذهب بسرج من فضة وعلى ثفره ولباته الياقوت والزمرد المنظوم على الفضة، ولجام كذلك، وفارس من فضة مكلل بالجوهر، وفي الآخر ناقة من فضة عليها شليل من ذهب وبطان من ذهب ولها زمام من ذهب، وكل ذلك منظوم بالياقوت، وعليها رجل من ذهب مكلل بالجواهر، كان كسرى يضعهما على أسطوانتي التاج. وأقبل رجل بحق إلى صاحب الأقباض فقال هو والذين معه: ما رأينا مثل هذا قط، ما يعدله ما عندنا ولا يقاربه. فقالوا: هل أخذت منه شيئاً؟ فقال: والله لولا الله ما أتيتكم به. فقالوا: من أنت؟ فقال: والله لا أخبركم فتحمدوني ولكني أحمد الله وأرضى بثوابه. فأتبعوه رجلاً، فسأل عنه فإذا عنه فإذا هو عامر ابن عبد قيس. وقال سعد: والله إن الجيش لذو أمانة، ولولا ما سبق لأهل بدر لقلت إنهم على فضل أهل بدر، لقد تت | |
|
 | |
الشيخ عودة الشيخ عودة

عدد المساهمات : 1748 تاريخ التسجيل : 28/09/2008 العمر : 72
 | موضوع: رد: كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير الثلاثاء فبراير 11, 2014 2:56 am | |
| ذكر فتح تكريت والموصل وفي هذه السنة فتحت تكريت في جمادى. وسبب ذلك أن الأنطاق سار من الموصل إلى تكريت وخندق عليه ليحمي أرضه ومعه الروم وإياد وتغلب والنمر والشهارجة، فبلغ ذلك سعداً فكتب إلى عمر، فكتب إليه عمر: أن سرح إليه عبد الله بن المعتم واستعمل على مقدمته ربغي بن الأفكل، وعلى ميمنته الحارث بن حسان الذهلي وعلى ميسرته فرات بن حيان العجلي وعلى ساقته هانىء بن قيس وعلى الخيل عرفجة بن هرثمة. فسار عبد الله إلى تكريت ونزل على الأنطاق فحصره ومن معه أربعين يوماً، فتزاحفوا أربعة وعشرين زحفاً، وكانوا أهون شوكة من أهل جلولاء، وأرسل عبد الله بن المعتم إلى العرب الذين مع الأنطاق يدعوهم إلى نصرته، وكانوا لا يخفون عليه شيئاً. ولما رأت الروم المسلمين ظاهرين عليهم تركوا أمراءهم ونقلوا متاعهم إلى السفن، فأرسلت تغلب وإياد والنمر إلى عبد الله بن المعتم بالخبر وسألوه الأمان وأعلموه أنهم معه، فأرسل إليهم: إن كنتم صادقين فأسلموا. فأجابوه وأسلموا. فأرسل إليهم عبد الله: إذا سمعتم تكبيرنا فاعلموا أنا أخذنا أبواب الخندق فخذوا الأبواب التي تلي دجلة وكبروا واقتلوا من قدرتم عليه. ونهد عبد الله والمسلمون وكبروا وكبرت تغلب وإياد والنمر وأخذوا الأبواب، فظن الروم أن المسلمين قد أتوهم من خلفهم مما يلي دجلة، فقصدوا الأبواب التي عليها المسلمون، فأخذتهم سيوف المسلمين وسيوف الربعيين الذين أسلموا تلك الليلة، فلم يفلت من أهل الخندق إلا من أسلم من تغلب وإياد والنمر. وأرسل عبد الله بن المعتم ربعي بن الأفكل إلى الحصنين، وهما نينوى والموصل، تسمى نينوى الحصن الشرقي وتسمى الموصل الحصن الغربي، وقال: اسبق الخبر وسر ما دون القيل واحيي الليل، وسرح معه تغلب وإياد والنمر. فقدمهم ابن الأفكل إلى الحصنين، فسبقوا الخبر وأظهروا الظفر والغنيمة وبشروهم ووقفوا بالأبواب، وأقبل ابن الأفكل فاقتحم عليهم الحصنين وكلبوا أبوابهما، فنادوا بالإجابة إلى الصلح وصاروا ذمة. وقسموا الغنيمة فكان سهم الفارس ثلاثة آلاف درهم، وسهم الراجل ألف درهم، وبعثوا بالأخماس مع فرات بن حيان وبالفتح مع الحارث بن حسان إلى عمر؛ وولى حرب الموصل ربعي ابن الأفكل، والخراج عرفجة بن هرثمة. وقيل: إن عمر بن الخطاب استعمل عتبة بن فرقد على قصد الموصل، وفتحها سنة عشرين، فأتاها فقاتله أهل نينوى، فأخذ حصنها، وهو الشرقي، عنوةً، وعبر دجلة، فصالحه أهل الحصن الغربي، وهو الموصل، على الجزية، ثم فتح المرج وبانهذار وباعذرا وحبتون وداسن وجميع معاقل الأكراد وقردى وبازبدى وجميع أعمال الموصل فصارت للمسلمين. وقيل: إن عياض بن غنم لما فتح بلداً، على ما نذكره، أتى الموصل ففتح أحد الحصنين وبعث عتبة بن فرقد إلى الحصن الآخر ففتحه على الجزية والخراج، والله أعلم. المعتم بضم الميم، وسكون العين المهملة، وآخره ميم مشددة. ذكر فتح ماسبذانولما رجع هاشم من جلولاء إلى المدائن بلغ سعداً أن آذين بن الهرمذان قد جمع جمعاً وخرج بهم إلى السهل، فكتب بذلك إلى عمر، فكتب إليه عمر ابعث إليهم ضرار بن الخطاب في جند واجعل على مقدمته ابن الهذيل الأسدي وعلى مجنبتيه عبد الله بن وهب الراسي والمضارب بن فلان العجلي فأرسل إليهم ضرار بن الخطاب في جيش، فالتقوا بسهل ماسبذان فاقتتلوا، فأسرع المسلمون في المشركين، وأخذ ضرار آذين أسيراً فضرب رقبته. ثم خرج في الطلب حتى انتهى إلى السيروان، فأخذ ماسبذان عنوةً، فهرب أهلها في الجبال، فدعاهم فاستجابوا له، وأقام بها حتى تحول سعد إلى الكوفة، فأرسل إليه فنزل الكوفة واستخلف على ما سبذان ابن الهذيل الأسدي، فكانت أحد فروج الكوفة. وقيل: إن فتحها كان بعد وقعة نهاوند. ذكر فتح قرقيسيا
ولما رجع هاشم بن عتبة من جلولاء إلى المدائن وقد اجتمعت جموع أهل الجزيرة فأمدوا هرقل على أهل حمص وبعثوا جنداً إلى أهل هيت كتب بذلك سعد إلى عمر، فكتب إليه عمر أن ابعث إليهم عمر بن مالك في جند... وعلى جنبتيه ربعي بن عامر ومالك بن حبيب، أرسل سعد عمر ابن مالك بن عتبة بن نوفل بن عبد مناف في جند وجعل على مقدمته الحارث ابن يزيد العامري، فخرج عمر بن مالك في جنده نحو هيت فنازل من بها وقد خندقوا عليهم، فلما رأى عمر بن مالك اعتصامهم بخندقهم ترك الأخبية على حالها وخلف عليهم الحارث بن يزيد يحاصرهم وخرج في نصف الناس فجاء قرقيسيا على غرة فأخذها عنوةً، فأجابوا إلى الجزية، وكتب إلى الحارث ابن يزيد: إن هم استجابوا فخل عنهم فليخرجوا وإلا فخندق على خندقهم خندقاً بأبوابه مما يليك حتى أرى رأيي. فراسلهم الحارث، فأجابوا إلى العود إلى بلادهم، فتركهم وسار الحارث إلى عمر بن مالك. وفيها غرب عمر بن الخطاب أبا محجن الثقفي إلى ناصع. وفيها تزوج ابن عمر صفية بنت أبي عبيد أخت المختار. وفيها حمى عمر الربذة لخيل المسلمين. وفيها ماتت مارية أم إبراهيم ابن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وصلى عليها عمر ودفنها بالبقيع في المحرم. وفيها كتب عمر التاريخ بمشورة علي بن أبي طالب. وحج بالناس في هذه السنة عمر بن الخطاب، واستخلف على المدينة زيد ابن ثابت. وكان عماله على البلاد الذين كانوا في السنة قبلها، وكان على حرب الموصل ربعي بن الأفكل، وعلى خراجها عرفجة بن هرثمة، وقيل: كان على الحرب والخراج بها عتبة بن فرقد، وقيل: كان ذلك كله إلى عبد الله بن المعتم. وعلى الجزيرة عياض بن غنم. ثم دخلت سنة سبع عشرة ذكر بناء الكوفة والبصرة في هذه السنة اختطت الكوفة وتحول سعد إليها من المدائن. وكان سبب ذلك أن سعداً ارسل وفداً إلى عمر بهذه الفتوح المذكورة، فلما رآهم عمر سألهم عن تغير ألوانهم وحالهم، فقالوا: وخومة البلاد غيرتنا. فأمرهم عمر أن يرتادوا منزلاً ينزله الناس، وكان قد حضر مع الوفد نفر من بني تغلب ليعاقدوا عمر على قومهم، فقال لهم عمر: أعاقدهم على أن من أسلم منكم كان له ما للمسلمين وعليه ما عليهم، ومن أبى فعليه الجزية. فقالوا: إذن يهربون ويصيرون عجماً، وبذلوا له الصدقة، فأبى، فجعلوا جزيتهم مثل صدقة المسلم، فأجابهم على أن لا ينصروا وليداً، فهاجر هؤلاء التغلبيون ومن أطاعهم من النمر وإياد إلى سعد بالمدائن ونزلوا بالمدائن ونزلوا معه بعد بالكوفة. وقيل: بل كتب حذيفة إلى عمر: إن العرب قد رقت بطونها وجفت أعضادها وتغيرت ألوانها. وكان مع سعد فكتب عمر إلى سعد: أخبرني ما الذي غير ألوان العرب ولحومهم؟ فكتب إليه سعد: إن الذي غيرهم وخومة البلاد، وإن العرب لا يوافقها إلا ما وافق إبلها من البلدان. فكتب إليه عمر: أن ابعث سلمان وحذيفة رائدين فليرتادا منزلاً برياً بحرياً ليس بيني وبينكم فيه بحر ولا جسر. فأرسلهما سعد، فخرج سلمان حتى يأتي الأنبار فسار في غربي الفرات لا يرضى شيئاً حتى أتى الكوفة، وسار حذيفة في شرقي الفرات لا يرضى شيئاً حتى أتى الكوفة، وكل رمل وحصباء وخصاص خلال ذلك، فأعجبتهما البقعة فنزلا فصليا ودعوا الله تعالى أن يجعلها منزل الثبات. فلما رجعا إلى سعد بالخبر وقدم كتاب عمر إليه أيضاً كتب سعد إلى القعقاع بن عمرو وعبد الله بن المعتم أن يستخلفا على جندهما ويحضرا عنده، ففعلا. فارتحل سعد من المدائن حتى نزل الكوفة في المحرم سنة سبع عشرة؛ وكان بين نزول الكوفة ووقعة القادسية سنة وشهران، وكان فيما بين قيام عمر واختطاط الكوفة ثلاث سنين وثمانية أشهر؛ ولما نزلها سعد كتب إلى عمر: (إني نزلت بالكوفة منزلاً فيما بين الحيرة والفرات برياً وبحرياً ينبت الحلفاء والنصي، وخيرت المسلمين بينها وبين المدائن فمن أعجبه المقام بالمدائن تركته فيها كالمسلحة. ولما استقروا بها عرفوا أنفسهم ورجع إليهم ما كانوا فقدوا من قوتهم، واستأذن أهل الكوفة في بنيان القصب، واستأذن فيه أهل البصرة أيضاً، واستقر منزلهم فيها في الشهر الذي نزل أهل الكوفة بعد ثلاث نزلات قبلها. فكتب إليهم: إن العسكر أشد لحربكم وأذكر لكم، وما أحب أن أخالفكم.
فابتنى أهل المصرين بالقصب، ثم إن الحريق وقع في الكوفة والبصرة، وكانت الكوفة أشد حريقاً في شوال، فبعث سعد نفراً منهم إلى عمر يستأذنونه في البنيان باللبن، فقدموا عليه بخبر الحريق واستئذانه أيضاً، فقال: افعلوا ولا يزيدن أحدكم على ثلاثة أبيات، ولا تطاولوا في البنيان، والزموا السنة تلزمكم الدولة. فرجع القوم إلى الكوفة بذلك، وكتب عمر إلى عتبة وأهل البصرة بمثل ذلك. وكان على تنزيل أهل الكوفة أبو هياج بن مالك، وعلى تنزيل أهل البصرة عاصم ابن دلف أبو الجرباء، وقدر المناهج أربعين ذراعاً، وما بين ذلك عشرين ذراعاً، والأزقة سبع أذرع، والقطائع ستين ذراعاً إلى الذي لبني ضبة، وأول شيء خط فيهما وبني مسجداهما، وقام في وسطهما رجل شديد النزع، فرمى في كل جهة بسهم وأمر أن يبنى ما وراء ذلك، وبنى ظلة في مقدمة مسجد الكوفة على أساطين رخام من بناء الأكاسرة في الحيرة، وجعلوا على الصحن خندقاً لئلا يقتحمه أحد ببنيان، وبنوا لسعد داراً بحياله، وهي قصر الكوفة اليوم، بناه روزبه من آجر بنيان الأكاسرة بالحيرة، وجعل الأسواق على شبه المساجد من سبق إلى مقعدٍ فهو له حتى يقوم منه إلى بيته أو يفرغ من بيعه. وبلغ عمر أن سعداً قال وقد سمع أصوات الناس من الأسواق: سكنوا عني الصويت؛ وأن الناس يسمونه قصر سعدٍ، فبعث محمد بن مسلمة إلى الكوفة وأمره أن يحرق باب القصر ثم يرجع، ففعل، فبلغ سعداً ذلك فقال: هذا رسول أرسل لهذا، فاستدعاه سعد، فأبى أن يدخل إليه، فخرج إليه سعد وعرض عليه نفقة، فلم يأخذ وأبلغه كتاب عمر إليه: (وبلغني أنك اتخذت قصراً جعلته حصناً، ويسمى قصر سعد، بينك وبين الناس باب، فليس بقصرك ولكنه قصر الخبال، انزل منه منزلاً مما يلي بيوت الأموال وأغلقه ولا نجعل على القصر باباً يمنع الناس من دخوله وتنفيهم به عن حقوقهم ليوافقوا مجلسك ومخرجك من دارك إذا خرجت. فحلف له سعد ما قال الذي قالوا، فرجع محمد فأبلغ عمر قول سعدٍ، فصدقه. وكانت ثغور الكوفة أربعة: حلوان وعليها القعقاع، وماسبذان وعليها ضرار ابن الخطاب، وفرقيسيا وعليها عمر بن مالك، أو عمرو بن عتبة بن نوفل، والموصل وعليها عبد الله بن المعتم، وكان بخا خلفاؤهم إذا غابوا عنها؛ وولي سعد الكوفة بعد ما اختطت ثلاث سنين ونصفاً سوى ما كان بالمدائن قبلها. ذكر خبر حمص حين قصد هرقل من بها من المسلمينوفي هذه السنة قصد الروم أبا عبيدة بن الجراح ومن معه من المسلمين بحمص، وكان المهيج للروم أهل الجزيرة، فإنهم أرسلوا إلى ملكهم وبعثوه على إرسال الجنود إلى الشام ووعدوا من أنفسهم المعاونة، ففعل ذلك. فلما سمع المسلمون باجتماعهم ضم أبو عبيدة إليه مسالحهم وعسكر بفناء مدينة حمص، وأقبل خالد من قنسرين إليهم، فاستشارهم أبو عبيدة في المناجزة أو التحصين إلى مجيء الغياث، فأشار خالد بالمناجزة، وأشار سائرهم بالتحصين ومكاتبة عمر، فأطاعهم وكتب إلى عمر بذلك، وكان عمر قد اتخذ في كل مصر خيولاً على قدره من فضول أموال المسلمين عدة لكون إن كان، فكان بالكوفة من ذلك أربعة آلاف فرس، وكان القيم عليها سلمان بن ربيعة الباهلي ونفر من أهل الكوفة، وفي كل مصر من الأمصار الثمانية على قدره، فإن تأتهم آتية ركبها الناس وساروا إلى أن يتجهز الناس. فلما سمع عمر الخبر كتب إلى سعد: أن اندب الناس مع القعقاع بن عمرو وسرحهم من يومهم الذي يأتيك فيه كتابي إلى حمص، فإن أبا عبيدة قد أحيط به. وكتب إليه أيضاً: سرح سهيل بن عدي إلى الرقة فإن أهل الجزيرة هم الذين استثاروا الروم على أهل حمص، وأمره أن يسرح عبد الله بن عتبان إلى نصيبين، ثم ليقصد حران والرهاء، وأن يسرح الوليد بن عقبة على عزب الجزيرة من ربيعة وتنوخ، وأن يسرح عياض بن غنم، فإن كان قتال فأمرهم إلى عياض. فمضى القعقاع في أربعة آلاف من يومهم إلى حمص، وخرج عياض ابن غنم وأمراء الجزيرة وأخذوا طريق الجزيرة، وتوجه كل أمير إلى الكورة التي أمر عليها، وخرج عمر من المدينة فأتى الجابية لأبي عبيدة مغيثاً يريد حمص.
ولما بلغ أهل الجزيرة الذين أعانوا الروم على أهل حمص، وهم معهم، خبر الجنود الإسلامية تفرقوا إلى بلادهم وفارقوا الروم، فلما فارقوهم استشار أبو عبيدة خالداً في الخروج إلى الروم، فأشار به، فخرج إليهم فقاتلهم، ففتح الله عليه، وقدم القعقاع بن عمرو بعد الوقعة بثلاثة أيام، فكتبوا إلى عمر بالفتح وبقدوم المدد عليهم والحكم في ذلك، فكتب إليهم: أن اشركوهم فإنهم نفروا إليكم وانفرق لهم عدوكم، وقال: جزى الله أهل الكوفة خيراً، يكفون حوزتهم ويمدون أهل الأمصار. فلما فرغوا رجعوا. ذكر فتح الجزيرة وأرمينيةوفي هذه السنة فتحت الجزيرة. قد ذكرنا إرسال سعد العساكر إلى الجزيرة، فخرج عياض بن غنم ومن معه فأرسل سهيل بن عدي إلى الرقة وقد ارفض أهل الجزيرة عن حمص إلى كورهم حين سمعوا بأهل الكوفة، فنزل عليهم فأقام يحاصرهم حتى صالحوه، فبعثوا في ذلك إلى عياض وهو في منزل وسط بين الجزيرة، فقبل منهم وصالحهم، وصاروا ذمةً، وخرج عبد الله بن عبد الله بن عتبان على الموصل إلى نصيبين، فلقوه بالصلح وصنعوا كصنع أهل الرقة، فكتبوا إلى عياض فقبل منهم وعقد لهم. وخرج الوليد بن عقبة فقدم على عرب الجزيرة، فنهض معه مسلمهم وكافرهم إلا إياد بن نزار فإنهم دخلوا أرض الروم، فكتب الوليد بذلك إلى عمر. ولما أخذوا الرقة ونصيبين ضم عياض إليه سهيلاً وعبد الله وسار بالناس إلى حران، فلما وصل أجابه أهلها إلى الجزية فقبل منهم. ثم إن عياضاً سرح سهيلاً وعبد الله إلى الرهاء فأجابوهما إلى الجزية وأجروا كل ما أخذوه من الجزيرة عنوةً مجرى الذمة، فكانت الجزيرة أسهل البلدان فتحاً. ورجع سهيل وعبد الله إلى الكوفة. وكتب أبو عبيدة إلى عمر بعد انصرافه من الجابية يسأله أن يضم إليه عياض بن غنم إذا أخذ خالداً إلى المدينة، فصرفه إليه، فاستعمل حبيب بن مسلمة على عجم الجزيرة وحربها، والوليد بن عقبة على عربها. فلما قدم كتاب الوليد على عمر بمن دخل الروم من العرب كتب عمر إلى ملك الروم: بلغني أن حياً من أحياء العرب ترك دارنا وأتى دارك، فوالله لتخرجنه إلينا أو لنخرجن النصارى إليك. فأخرجهم ملك الروم، فخرج منهم أربعة آلاف وتفرق بقيتهم في ما يلي الشام والجزيرة من بلاد الروم، فكل إيادي في أرض العرب من أولئك الأربعة آلاف. وأبى الوليد ابن عقبة أن يقبل من تغلب إلا الإسلام، فكتب فيهم إلى عمر، فكتب إليه عمر: إنما ذلك بجزيرة العرب لا يقبل منهم فيها إلا الإسلام، فدعهم على أن لا ينصروا وليداً ولا يمنعوا أحداً منهم من الإسلام. وكان في تغلب عز وامتناع، فهم بهم الوليد فخاف عمر أن يسطو عليهم فعزله وأمر عليهم فرات بن حيان وهند بن عمرو الجملي. وقال ابن إسحاق: إن فتح الجزيرة كان سنة تسع عشرة، وقال: إن عمر كتب إلى سعد بن أبي وقاص: إذا فتح الله على المسلمين الشام والعراق فابعث جنداً إلى الجزيرة وأمر عليه خالد بن عرفطة أو هاشم بن عتبة أو عياض بن غنم. قال سعد: ما أخر أمير المؤمنين عياضاً إلا لأن له فيه هوىً أن أوليه وأنا موليه؛ فبعثه وبعث معه جيشاً فيه أبو موسى الأشعري وابنه عمر بن سعد وهو غلام حدث السن ليس له من الأمر شيء، فسار عياض ونزل بجنده على الرهاء، فصالحه أهله مصالحة حران على الجزية، وبعث أبا موسى إلى نصيبين فافتتحها، وسار عياض بنفسه إلى دارا فافتتحها، ووجه عثمان بن أبي العاص إلى أرمينية الرابعة فقاتل أهلها، فاستشهد صفوان ابن المعطل، وصالح أهلها عثمان على الجزية. ثم كان فتح قيسارية من فلسطين وهرب هرقل. فعلى هذا القول تكون الجزيرة من فتوح العراق، والأكثر على أنها من فتوح أهل الشام، فإن أبا عبيدة سير عياض بن غنم إلى الجزيرة.
وقيل: إن أبا عبيدة لما توفي استخلف عياضاً فورد عليه كتاب عمر بولايته حمص وقنسرين والجزيرة، فسار إلى الجزيرة سنة ثماني عشرة يوم الخميس للنصف من شعبان في خمسة آلاف وعلى ميمنته سعيد بن عامر بن حذيم الجمحي، وعلى ميسرته صفوان بن المعطل، وعلى مقدمته هبيرة بن مسروق، فانتهت طليعة عياض إلى الرقة فأغاروا على الفلاحين وحصروا المدينة، وبث عياض السرايا فأتوه بالأسرى والأطعمة، وكان حصرها ستة أيام، فطلب أهلها الصلح، فصالحهم على أنفسهم وذراريهم وأموالهم ومدينتهم، وقال عياض: الأرض لنا قد وطئناها وملكناها، فأقرها في أيديهم على الخراج ووضع الجزية. ثم سار إلى حران فجعل عليها عسكراً يحصرها عليهم صفوان بن المعطل وحبيب بن مسلمة وسار هو إلى الرهاء، فقاتله أهلها ثم انهزموا وحصرهم المسلمون في مدينتهم، فطلب أهلها الصلح فصالحهم، وعاد إلى حران فوجد صفوان وحبيباً قد غلبا على حصون وقرى من أعمال حران فصالحه أهلها على مثل صلح الرهاء. وكان عياض يغزو ويعود إلى الرهاء، وفتح سميساط وأتى سروج ورأس كيفاء والأرض البيضاء فصالحه أهلها على صلح الرهاء. ثم إن أهل سميساط غدروا، فرجع إليهم عياض فحاصرهم حتى فتحها، ثم أتى قريات على الفرات، وهي جسر منبج وما يليها، ففتحها وسار إلى رأس عين، وهي عين الوردة، فامتنعت عليه وتركها وسار إلى تل موزن، ففتحها على صلح الرهاء سنة تسع عشرة، وسار إلى آمد فحصرها، فقاتله أهلها ثم صالحوه على صلح الرهاء، وفتح ميافارقين على مثل ذلك، وحصن كفرتوثا، فسار إلى نصيبين فقاتله أهلها ثم صالحوه على مثل صلح الرهاء، وفتح طور عبدين وحصن ماردين، ودارا على مثل ذلك، وفتح قردى وبازبدى على مثل صلح نصيبين وقصد الموصل ففتح أحد الحصنين، وقيل: لم يصل إليها، وأتاه بطريق الزوزان فصالحه، ثم سار إلى أرزن ففتحها، ودخل الدرب فأجازه إلى بدليس وبلغ خلاط فصالحه بطريقهما، وانتهى إلى العين الحامضة من أرمينية، ثم عاد إلى الرقة ومضى إلى حمص وقد كان عمر ولاه إياها فمات سنة عشرين. واستعمل عمر سعيد بن عامر بن حذيم، فلم يلبث إلا قليلاً حتى مات، فاستعمل عمير بن سعد الأنصاري، ففتح رأس عين بعد قتال شديد. وقيل: إن عياضاً أرسل عمير بن سعد إلى رأس عين ففتحها بعد أن اشتد قتاله عليها. وقيل: إن عمر أرسل أبا موسى الأشعري إلى رأس عين بعد وفاة عياض. وقيل: إن خالد بن الوليد حضر فتح الجزيرة مع عياض ودخل حماماً بآمد فاطلى بشيء فيه خمر فعزله عمر. وقيل: إن خالداً لم يسر تحت لواء أحد غير أبي عبيدة. والله أعلم. ولما فتح عياض سميساط بعث حبيب بن مسلمة إلى ملطية ففتحها عنوةً، ثم نقض أهلها الصلح، فلما ولي معاوية الشام والجزيرة وجه إليها حبيب ابن مسلمة أيضاً ففتحها عنوةً ورتب فيها جنداً من المسلمين مع عاملها. ذكر عزل خالد بن الوليدفي هذه السنة، وهي سنة سبع عشرة، عزل خالد بن الوليد عما كان عليه من التقدم على الجيوش والسرايا. وسبب ذلك أنه كان أدرب هو وعياض بن غنم فأصابا أموالاً عظيمة، وكانا توجها من الجابية مرجع عمر إلى المدينة، وعلى حمص أبو عبيدة وخالد تحت يده على قنسرين، وعلى دمشق يزيد، وعلى الأردن معاوية، وعلى فلسطين علقمة بن مجزز، وعلى الساحل عبد الله بن قيس، فبلغ الناس ما أصاب خالد فانتجعه رجال، وكان منهم الأشعث بن قيس، فأجازه بعشرة آلاف. ودخل خالد الحمام فتدلك بغسل فيه خمر، فكتب إليه عمر: بلغني أنك تدلكت بخمر، وإن الله قد حرم ظاهر الخمر وباطنه ومسه فلا تمسوها أجسادكم. فكتب إليه خالد: إنا قتلناها فعادت غسولاً غير خمر. فكتب إليه عمر: إن آل المغيرة ابتلوا بالجفاء فلا أماتكم الله عليه.
فلما فرق خالد في الذين انتجعوه الأموال سمع بذلك عمر بن الخطاب، وكان لا يخفى عليه شيء من عمله، فدعا عمر البريد فكتب معه إلى أبي عبيدة أن يقيم خالداً ويعقله بعمامته وينزع عنه قلنسوته حتى يعلمكم من أين أجاز الأشعث، أمن ماله أم من مال إصابة أصابها، فإن زعم أنه فرقه من إصابة أصابها فقد أقر بخيانة، وإن زعم أنه من ماله فقد أسرف، واعزله على كل حال واضمم إليك عمله. فكتب أبو عبيدة إلى خالد، فقدم عليه، ثم جمع الناس وجلس لهم على المنبر، فقام البريد فسأل خالداً من أين أجاز الأشعث، فلم يجبه، وأبو عبيدة ساكت لا يقول شيئاً، فقام بلال فقال: إن أمير المؤمنين أمر فيك بكذا وكذا، ونزع عمامته، فلم يمنعه سمعاً وطاعة، ووضع قلنسوته، ثم أقامه فعقله بعمامته وقال: من أين أجزت الأشعث، من مالك أجزت أم من إصابة أصبتها؟ فقال: بل من مالي؛ فأطلقه وأعاد قلنسوته ثم عممه بيده ثم قال: نسمع ونطيع لولاتنا ونفخم ونخدم موالينا. قال: وأقام خالد متحيراً لا يدري أمعزول أم غير معزول، ولا يعلمه أبو عبيدة بذلك تكرمة وتفخمة. فلما تأخر قدومه على عمر ظن الذي كان، فكتب إلى خالد بالإقبال إليه، فرجع إلى قنسرين فخطب الناس وودعهم ورجع إلى حمص فخطبهم ثم سار إلى المدينة، فلما قدم على عمر شكاه وقال: قد شكوتك إلى المسلمين، فبالله إنك في أمري لغير مجملٍ. فقال له عمر: من أين هذا الثراء؟ قال: من الأنفال والسهمان، ما زاد على ستين ألفاً فلك، فقوم عمر ماله فزاد عشرين ألفاً فجعلها في بيت المال ثم قال: يا خالد والله إنك علي لكريم وإنك إلي لحبيب ولن تعاتبني بعد اليوم على شيء. وكتب إلى الأمصار: إني لم أعزل خالداً عن سخطة ولا خيانة ولكن الناس فخموه وفتنوا به فخفت أن يوكلوا إليه، فأحببت أن يعلموا أن الله هو الصانع وأن لا يكونوا بعرض فتنة. وعوضه عما أخذ منه. ذكر بناء المسجد الحرام والتوسعة فيهوفيها، أعني سنة سبع عشرة، اعتمر عمر بن الخطاب وبنى المسجد الحرام ووسع فيه، وأقام بمكة عشرين ليلة، وهدم على قوم أبوا أن يبيعوا، ووضع أثمان دورهم في بيت المال حتى أخذوها، وكانت عمرته في رجب، واستخلف على المدينة زيد بن ثابت، وأمر بتجديد أنصاب الحرم، فأمر بذلك مخرمة بن نوفل والأزهر بن عبد عوف وحويطب بن عبد العزى وسعيد ابن يربوع، واستأذنه أهل المياه في أن يبنوا منازل بين مكة والمدينة، فأذن لهم وشرط عليهم أن ابن السبيل أحق بالظل والماء. وفيها تزوج عمر أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب، وهي ابنة فاطمة بنت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ودخل بها في ذي القعدة. ذكر غزوة فارس من البحرينقيل: كان عمر يقول لما أخذت الأهواز وما يليها: وددت أن بيننا وبين فارس جبلاً من نار لا نصل إليهم منه ولا يصلون إلينا. وقد كان العلاء بن الحضرمي على البحرين أيام أبي بكر فعزله عمر وجعل موضعه قدامة بن مظعون، ثم عزل قدامة وأعاد العلاء يناوىء سعد بن أبي وقاص، ففاز العلاء في قتال أهل الردة بالفضل، فلما ظفر سعد بأهل القادسية وأزاح الأكاسرة جاء بأعظم مما فعله العلاء، فأراد العلاء أن يصنع في الفرس شيئاً ولم ينظر في الطاعة والمعصية، وقد كان عمر نهاه عن الغزو في البحر ونهى غيره أيضاً اتباعاً لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر وخوف الغرر. فندب العلاء الناس إلى فارس فأجابوه، وفرقهم، أجناداً، على أحدها الجارود بن المعلى، وعلى الآخر سوار بن همام، وعلى الآخر خليد بن المنذر بن ساوى، وخليد على جميع الناس، وحملهم في البحر إلى فارس بغير إذن، فعبرت الجنود من البحرين إلى فارس، فخرجوا إلى إصطخر وبإزائهم أهل فارس وعليهم الهربذ، فجالت الفرس بين المسلمين وبين سفنهم، فقام خليد في الناس فخطبهم ثم قال: (أما بعد فإن القوم لم يدعوكم إلى حربهم وإنما جئتم لمحاربتهم والسفن والأرض لمن غلب، ف (استعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرةً إلا على الخاشعين) البقرة:النبي، صلى الله عليه وسلمقال: (. فأجابوه إلى ذلك ثم صلوا الظهر ثم ناهدوهم فاقتتلوا قتالاً شديداً بمكان يدعى طاووس فقتل سوار والجارود. وكان خليد قد أمر أصحابه أن يقاتلوا رجالةً ففعلوا من أهل فارس مقتلة عظيمة، ثم خرجوا يريدون البصرة ولم يجدوا في البحر سبيلاً، وأخذت الفرس منهم طرقهم فعسكروا وامتنعوا.
ولما بلغ عمر صنيع العلاء أرسل إلى عتبة بن غزوان يأمره بإنفاذ جند كثيف إلى المسلمين بفارس قبل أن يهلكوا، وقال: (فإني قد ألقي في روعي كذا وكذا) نحو الذي كان، وأمر العلاء بأثقل الأشياء عليه، تأمير سعد عليه. فشخص العلاء إلى سعد بمن معه، وأرسل عتبة جيشاً كثيفاً في اثني عشر ألف مقاتل فيهم عاصم بن عمرو وعرفجة بن هرثمة والأحنف بن قيس وغيرهم، فخرجوا على البغال يجنبون الخيل وعليهم أبو سبرة بن أبي رهم أحد بني عامر بن لؤي، فسار بالناس وساحل بهم لا يعرض له أحد حتى التقى أبو سبرة وخليد بحيث أخذ عليهم الطريق عقيب وقعة طاووس، وإنما كان ولي قتالهم أهل إصطخر وحدهم ومن شذ من غيرهم، وكان أهل إصطخر حيث أخذوا الطريق على المسلمين، فجمعوا أهل فارس عليهم فجاؤوا من كل جهة فالتقوا هم وأبو سبرة بعد طاووس وقد توافت إلى المسلمين أمدادهم، وعلى المشركين شهرك، فاقتتلوا ففتح الله على المسلمين وقتل المشركين وأصاب المسلمون منهم ما شاؤوا، وهي الغزوة التي شرفت فيها نابتة البصرة، وكانوا أفضل نوابت الأمصار، ثم انكفأوا بما أصابوا، وكان عتبة كتب إليهم بالحث وقلة العرجة، فرجعوا إلى البصرة سالمين. ولما أحرز عتبة الأهواز وأوطأ فارس استأذن عمر في الحج فأذن له، فلما قضى حجة استعفاه فأبى أن يعفيه وعزم عليه ليرجعن إلى عمله، فدعا الله ثم انصرف، فمات في بطن نخلة فدفن، وبلغ عمر موته فمر به زائراً لقبره وقال: أنا قتلتك لولا أنه أجل معلوم وكتاب مرقوم. وأثنى عليه خيراً ولم يختط فيمن اختط من المهاجرين، وإنما ورث ولده منزلهم من فاختة بنت غزوان، وكانت تحت عثمان بن عفان، وكان حباب مولاه قد لزم شيمته فلم يختط، ومات عتبة بن غزوان على رأس ثلاث سنين من مفارقة سعد بالمدائن، وذلك بعد أن استنفذ الجند الذين بفارس ونزولهم البصرة، واستخلف على الناس أبا سبرة ابن أبي رهم بالبصرة، فأقره عمر بقية السنة، ثم استعمل المغيرة بن شعبة عليها، فلم ينتقض عليه أحد ولم يحدث شيئاً إلا ما كان بينه وبين أبي بكر. ثم استعمل أبا موسى على البصرة، ثم صرف إلى الكوفة، ثم استعمل عمر ابن سراقة، ثم صرف ابن سراقة إلى الكوفة من البصرة، وصرف أبو موسى من الكوفة إلى البصرة، فعمل عليها ثانية. وقد تقدم ذكر ولاية عتبة بن غزوان البصرة والاختلاف فيها سنة أربع عشرة. ذكر عزل المغيرة عن البصرة وولاية أبي موسى في هذه السنة عزل عمر المغيرة بن شعبة عن البصرة واستعمل عليها أبا موسى وأمره أن يشخص إليه المغيرة بن شعبة في ربيع الأول؛ قاله الواقدي. وكان سبب عزله أنه كان بين أبي بكرة والمغيرة بن شعبة منافرة، وكانا متجاورين بينهما طريق، وكانا في مشربتين في كل واحدة منهما كوة مقابلة الأخرى، فاجتمع إلى أبي بكرة نفر يتحدثون في مشربته، فهبت الريح ففتحت باب الكوة، فقام أبو بكرة ليسده فبصر بالمغيرة وقد فتحت الريح باب كوة مشربته وهو بين رجلي امرأة، فقال للنفر: قوموا فانظروا. فقاموا فنظروا، وهم أبو بكرة ونافع بن كلدة وزياد بن أبيه، وهو أخو أبي بكرة لأمه، وشبل بن معبد البجلي، فقال لهم: اشهدوا، قالوا: ومن هذه؟ قال: أم جميل بن الأفقم، وكانت من بني عامر بن صعصعة، وكانت تغشي المغيرة والأمراء والأشراف، وكان بعض النساء يفعلن ذلك في زمانها، فلما قامت عرفوها. فلما خرج المغيرة إلى الصلاة منعه أبو بكرة وكتب إلى عمر بذلك، فبعث عمر أبا موسى أميراً على البصرة وأمره بلزوم السنة، فقال: أعني بعدة من أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فإنهم في هذه الأمة كالملح لا يصلح الطعام إلا به. قال له: خذ من أحببت. فأخذ معه تسعة وعشرين رجلاً، منهم: أنس بن مالك وعمران بن حصين وهشام بن عامر، وخرج معهم فقدم البصرة فدفع الكتاب بإمارته إلى المغيرة، وهو أوجز كتاب وأبلغه: (أما بعد فإنه بلغني نبأ عظيم فبعثت أبا موسى أميراً، فسلم إليه ما في يدك والعجل). فأهدى إليه المغيرة وليدة تسمى عقيلة.
ورحل المغيرة ومعه أبو بكرة والشهود، فقدموا على عمر، فقال له المغيرة: سل هؤلاء الأعبد كيف رأوني أمستقبلهم أم مستدبرهم، وكيف رأوا المرأة أو عرفوها، فإن كانوا مستقبلي فكيف لم أستتر، أو مستدبري فبأي شيء استحلوا النظر إلي في منزلي على امرأتي؟ والله أتيت إلا امرأتي! وكانت تشبهها. فشهد أبو بكرة أنه رآه على أم جميل يدخله ويخرجه كالميل في المكحلة وأنه رآهما مستدبرين، وشهد شبل ونافع مثل ذلك. وأما زياد فإنه قال: رأيته جالساً بين رجلي امرأة فرأيت قدمين مخضوبتين تخفقان واستين مكشوفتين وسمعت حفزاً شديداً. قال: هل رأيت كالميل في المكحلة؟ قال: لا. قال: هل تعرف المرأة؟ قال: لا ولكن أشبهها. قال: فتنح. وأمر بالثلاثة فجلدوا الحد. فقال المغيرة: اشفني من الأعبد. قال: اسكت أسكت الله نأمتك، أما والله لو تمت لرجمتك بأحجارك! ذكر الخبر عن فتح الأهواز ومناذر ونهر تيرىوفي هذه السنة فتحت الأهواز ومناذر ونهر تيرى، وقيل: كانت سنة عشرين. وكان السبب في هذا الفتح أنه لما انهزم الهرمان يوم القادسية، وهو أحد البيوتات السبعة في أهل فارس، وكانت أمته منهم مهرجانقذق وكور الأهواز، فلما انهزم قصد خوزستان فملكها وقاتل بها من أرادهم، فكان الهرمزان يغير على أهل ميسان ودستميسان من مناذر ونهر تيرى. فاستمد عتبة بن غزوان سعداً فأمده بنعيم بن مقرن ونعيم بن مسعود وأمرهما أن يأتيا أعلى ميسان ودستميسان حتى يكونا بينهم وبين نهر تيرى، ووجه عتبة ابن غزوان سلمى بن القين وحرملة بن مريطة، وكانا من المهاجرين مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وهما من بني العدوية من بني حنظلة، فنزلا على حدود ميسان ودستميسان بينهم وبين مناذر، ودعوا بني العم، فخرج إليهم غالب الوائلي وكليب بن وائل الكليبي فتركا نعيماً ونعيماً وأتيا سلمى وحرملة وقالا: أنتما من العشيرة وليس لكما منزل، فإذا كان يوم كذا وكذا فانهدا للهرمزان، فإن أحدنا يثور بمناذر والآخر بنهر تيرى فنقتل المقاتلة ثم يكون وجهنا إليكم، فليس دون الهرمزان شيء إن شاء الله. ورجعا وقد استجابا واستجاب قومهما بنو العم بن مالك، وكانوا ينزلون خوزستان قبل الإسلام، فأهل البلاد يأمنونهم. فلما كان تلك الليلة ليلة الموعد بين سلمى وحرملة وغالب وكليب، وكان الهرمزان يومئذٍ بين نهر تيرى وبين دلث وخرج سلمى وحرملة صبيحتهما في تعبئة وأنهضا نعيماً ومن معه فالتقوا هم والهرمزان بين دلث ونهر تيرى، وسلمى بن القين على أهل البصرة، ونعيم بن مقرن على أهل الكوفة، فاقتتلوا. فبينا هم على ذلك أقبل مدد من قبل غالب وكليب، وأتى الهرمزان الخبر بأن مناذر ونهر تيرى قد أخذا، فكسر ذلك قلب الهرمزان ومن معه وهزمه الله وإياهم، فقتل المسلمون منهم ما شاؤوا وأصابوا ما شاؤوا واتبعوهم حتى وقفوا على شاطىء دجيل وأخذوا ما دونه وعسكروا بحيال سوق الأهواز، وعبر الهرمزان جسر سوق الأهواز وأقام بها، وصار دجيل بين الهرمزان والمسلمين. فلما رأى الهرمزان ما لا طاقة له به طلب الصلح، فاستأمروا عتبة، فأجاب إلى ذلك على الأهواز كلها ومهرجانقذق ما خلا نهر ترى ومناذر وما غلبوا عليه من سوق الأهواز فإنه لا يرد عليهم، وجعل سلمى على مناذر مسلحةً وأمرها إلى غالب، وحرملة على نهر تيرى وأمرها إلى كليب، فكانا على مسالح البصرة. وهاجرت طوائف من بني العم فنزلوا البصرة.
ووفد عتبة وفداً إلى عمر، منهم: سلمى وجماعة من أهل البصرة، فأمرهم عمر أن يرفعوا حوائجهم، فكلمهم قال: أما العامة فأنت صاحبها، وطلبوا لأنفسهم، إلا ما كان من الأحنف بن قيس فإنه قال: يا أمير المؤمنين إنك كما ذكروا، ولقد يعزب عنك ما يحق علينا إنهاؤه إليك مما فيه صلاح العامة، وإنما ينظر الوالي فيما غاب عنه بأعين أهل الخبر ويسمع بآذانهم، فإن إخواننا من أهل الكوفة نزلوا في مثل حدقة البعير الغاسقة من العيون العذاب والجنان الخصاب فتأتيهم ثمارهم ولم يحصدوا، وإنا معشر أهل البصرة نزلنا سبخة هشاشة وعقة نشاشة، طرفٌ لها في الفلاة وطرف لها في البحر الأجاج، يجري إليها ما جرى في مثل مريء النعامة، دارنا فعمة، وطبقتنا مضيقة، وعددنا كثير، وأشرافنا قليل، وأهل البلاء فينا كثير، درهمنا كبير، وقفيزنا صغير، وقد وسع الله علينا وزادنا في أرضنا، فوسع علينا يا أمير المؤمنين وزدنا طبقة تطوف علينا ونعيش بها. فلما سمع عمر قوله أحسن إليهم وأقطعهم مما كان فيئاً لأهل كسرى وزادهم، ثم قال: هذا الفتى سيد أهل البصرة. وكتب إلى عتبة فيه بأن يسمع منه ويرجع إلى رأيه، وردهم إلى بلدهم. وبينا الناس على ذلك من ذمتهم مع الهرمزان وقع بين الهرمزان وغالب وكليب في حدود الأرضين اختلاف، فحضر سلمى وحرملة لينظرا فيما بينهم فوجدا غالباً وكليباً محقين والهرمزان مبطلاً فحالا بينهما وبينه، فكفرا الهرمزان ومنع ما قبله واستعان بالأكراد وكف جنده، وكتب سلمى ومن معه إلى عتبة بذلك، فكتب عتبة إلى عمر، فكتب إليه عمر يأمره بقصده، وأمد المسلمين بحرقوص بن زهير السعدي، كانت له صحبة من رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأمره على القتال وعلى غلب عليه. وسار الهرمزان ومن معه وسار المسلمون إلى جسر سوق الأهواز وأرسلوا إليه: إما أن تعبر إلينا أو نعبر إليكم. فقال: اعبروا إلينا. فعبروا فوق الجسر فاقتتلوا مما يلي سوق الأهواز، فانهزم الهرمزان وسار إلى رامهرمز، وفتح حرقوص سوق الأهواز ونزل بها واتسعت له بلادها إلى تستر، ووضع الجزية، وكتب بالفتح إلى عمر وأرسل إليه الأخماس. ذكر صلح الهرمزان وأهل تستر مع المسلمين وفي هذه السنة فتحت تستر، وقيل: سنة ست عشرة، وقيل: سنة تسع عشرة. قيل: ولما انهزم الهرمزان يوم سوق الأهواز وافتتحها المسلمون بعث حرقوص جزء بن معاوية في أثره بأمر عمر إلى سوق الأهواز، فما زال يقتلهم حتى انتهى إلى قرية الشعر وأعجزه الهرمزان، فمال جزء إلى دورق، وهي مدينة سرق، فأخذها صافيةً ودعا من هرب إلى الجزية، فأجابوه، وكتب إلى عمر وعتبة بذلك، فكتب عمر إلى حرقوص وإليه بالمقام فيما غلبا عليه حتى يأمرهما بأمره، فعمر جزء البلاد وشق الأنهار وأحيا الموات. وراسلهم الهرمزان يطلب الصلح، فأجاب عمر إلى ذلك وأن يكون ما أخذه المسلمون بأيديهم، ثم اصطلحوا على ذلك، وأقام الهرمزان والمسلمون يمنعونه إذا قصده الأكراد ويجيء إليهم. ونزل حرقوص جبل الأهواز، وكان يشق على الناس الاختلاف إليه، فبلغ ذلك عمر فكتب إليه يأمره بنزول السهل وأن لا يشق على مسلم ولا معاهد ولا تدركك فترة ولا عجلة فتكدر دنياك وتذهب آخرتك. وبقي حرقوص إلى يوم صفين، وصار حرورياً وشهد النهروان مع الخوارج. ذكر فتح رامهرمز وتستر وأسر الهرمزان قيل: كان فتح رامهرمز وتستر والسوس في سنة سبع عشرة، وقيل: سنة تسع عشرة، وقيل: سنة عشرين. وكان سبب فتحها أن يزدجرد لم يزل وهو بمرو يثير أهل فارس أسفاً على ما خرج من ملكهم، فتحركوا وتكاتبوا هم وأهل الأهواز وتعاقدوا على النصرة، فجاءت الأخبار حرقوص بن زهير وجزءاً وسلمى وحرملة، فكتبوا إلى عمر بالخبر، فكتب عمر إلى سعد وهو بالكوفة: أن ابعث إلى الأهواز جنداً كثيفاً مع النعمان بن مقرن وعجل فلينزلوا بإزاء الهرمزان ويتحققوا أمره. وكتب إلى أبي موسى: أن ابعث إلى الأهواز جنداً كثيفاً وأمر عليهم سهل ابن عدي أخا سهيل وابعث معه البراء بن مالك ومجزأة بن ثور وعرفجة بن هرثمة وغيرهم، وعلى أهل الكوفة والبصرة جميعاً أبو سبرة بن أبي رهم.
فخرج النعمان بن مقرن في أهل الكوفة فسار إلى الأهواز على البغال يجنبون الخيل، فخلف حرقوصاً وسلمى وحرملة وسار نحو الهرمزان وهو برامهرمز. فلما سمع الهرمزان بمسير النعمان إليه بادره الشدة ورجا أن يقتطعه ومعه أهل فارس، فالتقى النعمان والهرمزان بأربك فاقتتلوا قتالاً شديداً، ثم إن الله، عز وجل، هزم الهرمزان فترك رامهرمز ولحق بتستر، وسار النعمان إلى رامهرمز ونزلها وصعد إلى إيذج، فصالحه تيرويه على إيذج ورجع إلى رامهرمز فأقام بها. ووصل أهل البصرة فنزلوا سوق الأهواز وهم يريدون رامهرمز، فأتاهم خبر الوقعة وهم بسوق الأهواز، وأتاهم الخبر أن الهرمزان قد لحق بتستر، فساروا نحوه وسار النعمان أيضاً وسار حرقوص وسلمى وحرملة وجزء فاجتمعوا على تستر وبها الهرمزان وجنوده من أهل فارس والجبال والأهواز في الخنادق، وأمدهم عمر بأبي موسى وجعله على أهل البصرة، وعلى الجميع أبو سبر، فحاصروهم أشهراً وأكثروا فيهم القتل، وقتل البراء بن مالك، وهو أخو أنس بن مالك، في ذلك الحصار إلى الفتح مائةً مبارزةً سوى من قتل في غير ذلك، وقتل مثله مجزأة بن ثور وكعب بن ثور وعدة من أهل البصرة وأهل الكوفة، وزاحفهم المشركون أيام تستر ثمانين زحفاً يكون لهم مرة ومرة عليهم. فلما كان في آخر زحفٍ منها واشتد القتال قال المسلمون: يا براء أقسم على ربك ليهزمنهم لنا. قال: اللهم اهزمهم لنا واستشهدنين وكان مجاب الدعوة، فهزموهم حتى أدخلوهم خنادقهم ثم اقتحموها عليهم ثم دخلوا مدينتهم وأحاط بها المسلمون. فبينما هم على ذلك وقد ضاقت المدينة بهم وطالت حربهم خرج رجل إلى النعمان يستأمنه على أن يدله على مدخل يدخلون منه، ورمى في ناحية أبي موسى بسهم: إن آمنتموني دللتكم على مكان تأتون المدينة منه. فآمنوه في نشابة. فرمى إليهم بأخرى وقال: انهدوا من قبل مخرج الماء فإنكم تقتحمونها. فندب الناس إليه فانتدب له عامر بن عبد قيس وبشرٌ كثير ونهدوا لذلك المكان ليلاً، وقد ندب النعمان أصحابه ليسيروا مع الرجل الذي يدلهم على المدخل إلى المدينة، فانتدب له بشرٌ كثير، فالتقوا هم وأهل البصرة على ذلك المخرج، فدخلوا في السرب والناس من خارج. فلما دخلوا المدينة كبروا فيها وكبر المسلمون من خارج وفتحت الأبواب فاجتلدوا فيها فأناموا كل مقاتل، وقصد الهرمزان القلعة فتحصن وأطاف به الذين دخلوا، فنزل إليهم على حكم عمر، فأوثقوه واقتسموا ما أفاء الله عليهم، فكان سهم الفارس ثلاثة آلاف، وسهم الراجل ألفاً. وجاء صاحب الرمية والرجل الذي خرج بنفسه فآمنوهما ومن أغلق معهما. وقتل من المسلمين تلك الليلة بشرٌ كثير، وممن قتل الهرمزان بنفسه مجزأة بن ثور والبراء بن مالك. وخرج أبو سبرة بنفسه في أثر المنهزمين إلى السوس ونزل عليها ومعه النعمان بن مقرن وأبو موسى، وكتبوا إلى عمر فكتب إلى أبي موسى بردة إلى البصرة، وهي المرة الثالثة، فانصرف إليها على السوس. وسار زر بن عبد الله بن كليب الفقيمي إلى جند يسابور فنزل عليها، وهو من الصحابة، وأمر عمر على جند البصرة المقترب، وهو الأسود بن ربيعة أحد بني ربيعة بن مالك، وهو صحابي أيضاً، وكانا مهاجرين، وكان الأسود قد وفد على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وقال: جئت لأقترب إلى الله بصحبتك، فسماه المقترب. وأرسل أبو سبرة وفداً إلى عمر بن الخطاب فيهم أنس بن مالك والأحنف ابن قيس ومعهم الهرمزان، فقدموا به المدينة وألبسوه كسوته من الديباج الذي فيه الذهب وتاجه، وكان مكللاً بالياقوت، وحليته ليراه عمر والمسلمون، فطلبوا عمر فلم يجدوه، فسألوا عنه فقيل: جلس في المسجد لوفد من الكوفة، فوجدوه في المسجد متوسداً برنسه، وكان قد لبسه للوفد، فلما قاموا عنه توسده ونام، فجلسوا دونه وهو نائم والدرة في يده، فقال الهرمزان: أين عمر؟ قالوا: هو ذا. فقال: أين حرسه وحجابه؟ قالوا: ليس له حارس ولا حاجب ولا كاتب. قال: فينبغي أن يكون نبياً. قالوا: بل يعمل بعمل الأنبياء.
فاستيقظ عمر بجلبة الناس فاستوى جالساً ثم نظر إلى الهرمزان، فقال: الهرمزان؟ قالوا: نعم. فقال: الحمد لله الذي أذل بالإسلام هذا وغيره أشباهه! فأمر بنزع ما عليه، فنزعوه وألبسوه ثوباً صفيقاً، فقال له عمر: يا هرمزان، كيف رأيت عاقبة الغدر وعاقبة أمر الله؟ فقال: يا عمر، إنا وإياكم في الجاهلية كان الله قد خلى بيننا وبينكم فغلبناكم، فلما كان الآن معكم غلبتمونا فقال عمر: إنما غلبتمونا في الجاهلية باجتماعكم وتفرقنا. ثم قال له: ما حجتك وما عذرك في انتفاضك مرة بعد أخرى؟ فقال: أخاف أن تقتلني قبل أن أخبرك. قال: لا تخف ذلك، واستسقى ماء فأتي به في قدح غليظ، فقال: لو مت عطشاً لم أستطع أن أشرب في مثل هذا! فأتي به في إناء يرضاه، فقال: إني أخاف أن أقتل وأن أشرب. فقال عمر: لابأس عليك حتى تشربه، فأكفأه، فقال عمر: أعيدوا عليه ولا تجمعوا عليه بين القتل والعطش. فقال: لا حاجة لي في الماء، إنما أردت أن أستأمن به. فقال عمر له: إني قاتلك. فقال: قد آمنتني. فقال: كذبت. قال أنس: صدق يا أمير المؤمنين، قد آمنته. قال عمر: يا أنس، أنا أؤمن قاتل مجزأة بن ثور والبراء بن مالك! والله لتأتين بمخرج أو لأعاقبنك. قال: قلت له: لابأس عليك حتى تخبرني ولابأس عليك حتى تشربه. وقال له من حوله مثل ذلك. فأقبل على الهرمزان وقال: خدعتني، والله لا أنخدع إلا أن تسلم. فأسلم، ففرض له في ألفين وأنزله المدينة؛ وكان المترجم بينهما المغيرة بن شعبة، وكان يفقه شيئاً من الفارسية، إلى أن جاء المترجم. وقال عمر للوفد: لعل المسلمين يؤذون أهل الذمة فلهذا ينتقضون بكم؟ قالوا: ما نعلم إلا وفاء. قال: فكيف هذا؟ فلم يشفه أحد منهم، إلا أن الأحنف قال له: يا أمير المؤمنين إنك نهيتنا عن الانسياح في البلاد وإن ملك فارس بين أظهرهم ولا يزالون يقاتلوننا ما دام ملكهم فيهم، ولم يجتمع ملكان متفقان حتى يخرج أحدهما صاحبه، وقد رأيت أنا لم نأخذ شيئاً بعد شيء إلا بانبعاثهم وغدرهم، وأن ملكهم هو الذي يبعثهم، ولا يزال هذا دأبهم حتى تأذن لنا بالانسياح فنسيح في بلادهم ونزيل ملكهم، فهنالك ينقطع رجاء أهل فارس. فقال: صدقتني والله! ونظر في حوائجهم وسرحهم. وأتى عمر الكتاب باجتماع أهل نهاوند فأذن في الانسياح في بلاد الفرس. وقتل محمد بن جعفر بن أبي طالب شهيداً على تستر في قول بعضهم. أربك بفتح الهمزة، وسكون الراء، وضم الباء الموحدة، وفي آخره كاف: موضع عند الأهواز. ذكر فتح السوسقيل: ولما نزل أبو سبر على السوس وبها شهريار أخو الهرمزان أحاط المسلمون بها وناوشوهم القتال مرات، كل ذلك يصيب أهل السوس في المسلمين، فأشرف عليهم الرهبان والقسيسون فقالوا: يا معشر العرب إن مما عهد إلينا علماؤنا أنه لا يفتح السوس إلا الدجال أو قوم فيهم الدجال، فإن كان فيكم فستفتحونها. وسار أبو موسى إلى البصرة من السوس وصار مكانه على أهل البصرة بالسوس المقترب بن ربيعة، واجتمع الأعاجم بنهاوند، والنعمان على أهل الكوفة محاصراً أهل السوس مع أبي سبرة، وزر محاصراً أهل جند يسابور. فجاء كتاب عمر بصرف النعمان إلى أهل نهاوند من وجهه ذلك، فناوشهم القتال قبل مسيره، فصاح أهلها بالمسلمين وناوشوهم وغاظوهم، وكان صافي بن صياد مع المسلمين في خيل النعمان، فأتى صافي باب السوس فدقه برجله فقال: انفتح بظار! وهو غضبان، فتقطعت السلاسل وتكسرت الأغلاق وتفتحت الأبواب ودخل المسلمون وألقى المشركون بأيديهم ونادوا: الصلح الصلح. فأجابهم إلى ذلك المسلمون بعدما دخلوها عنوةً، واقتسموا ما أصابوا. ثم افترقوا فسار النعمان حتى أتى نهاوند، وسار المقترب حتى نزل على جنديسابور مع زر. وقيل لأبي سبرة: هذا جسد دانيال في هذه المدينة. قال: وما علي بذلك! فأقره في أيديهم.
وكان دانيال قد لزم نواحي فارس بعد بخت نصر. فلما حضرته الوفاة ولم ير أحداً على الإسلام أكرم كتاب الله عمن لم يجبه فقال لابنه: أئت ساحل البحر فاقذف بهذا الكتاب فيه، فأخذه الغلام وغاب عنه وعاد وقال له: قد فعلت. قال: ما صنع البحر؟ قال: ما صنع شيئاً. فغضب وقال: والله ما فعلت الذي أمرتك به! فخرج من عنده وفعل فعلته الأولى. فقال: كيف رأيت البحر صنع؟ قال: ماج واصطفق. فغضب أشد من الأول وقال: والله ما فعلت الذي أمرتك به. فعاد إلى البحر وألقاه فيه، فانفلق البحر عن الأرض وانفجرت له الأرض عن مثل التنور، فهوى فيها ثم انطبقت عليه واختلط الماء، فلما رجع إليه وأخبره بما رأى: الآن صدقت. ومات دانيال بالسوس، وكان هناك يستسقى بجسده، فاستأذنوا عمر فيه فأمر بدفنه. وقيل في أمر السوس: إن يزدجرد سار بعد وقعة جلولاء فنزل إصطخر ومعه سياه في سبعين من عظماء الفرس فوجهه إلى السوس والهرمزان إلى تستر، فنزل سياه الكلتانية، وبلغ أهل السوس أمر جلولاء ونزلو يزدجرد إصطخر، فسألوا أبا موسى الصلح، وكان محاصراً لهم، فصالحهم وسار إلى رامهرمز، ثم سار إلى تستر، ونزل سياه بين رامهرمز وتستر ودعا من معه من عظماء الفرس وقال لهم: قد علمتم أنا كنا نتحدث أن هؤلاء القوم أهل الشقاء والبؤس سيغلبون على هذه المملكة وتروث دوابهم في إيوانات إصطخر ويشدون خيولهم في شجرها، وقد غلبوا على ما رأيتم، فانظروا لأنفسكم. قالوا: رأينا رأيك. قال: أرى أن تدخلوا في دينهم. ووجهوا شيرويه في عشرة من الأساورة إلى أبي موسى، فشرط عليهم أن يقاتلوا معه العجم ولا يقاتلوا العرب، وإن قاتلهم أحد من العرب منعهم منهم، وينزلوا حيث شاؤوا، ويلحقوا بأشرف العطاء، ويعقد لهم ذلك عمر على أن يسلموا، فأعطاهم عمر ما سألوا، فأسلموا وشهدوا مع المسلمين حصار تستر. ومضى سياه إلى حصن قد حاصره المسلمون في زي العجم، فألقى نفسه إلى جانب الحصن ونضح ثيابه بالدم، فرآه أهل الحصن صريعاً فظنوه رجلاً منهم ففتحوا باب الحصن ليدخلوه إليهم، فوثب وقاتلهم حتى خلوا عن الحصن وهربوا، فملكه وحده. وقيل: إن هذا الفعل كان منه بتستر. ذكر مصالحة جنديسابوروفي هذه السنة سار المسلمون عن السوس فنزلوا بجنديسابور، وزر بن عبد الله محاصرهم، فأقاموا عليها يقا | |
|
 | |
الشيخ عودة الشيخ عودة

عدد المساهمات : 1748 تاريخ التسجيل : 28/09/2008 العمر : 72
 | موضوع: رد: كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير الثلاثاء فبراير 11, 2014 2:58 am | |
| ذكر وقعة نهاوند قيل: فيها كانت وقعة نهاوند، وقيل: كانت سنة ثماني عشرة، وقيل سنة تسع عشرة. وكان الذي هيج أمر نهاوند أن المسلمين ما خلصوا جند العلاء من بلاد فارس وفتحوا الأهواز كاتبت الفرس ملكهم وهو بمرو فحركوه، وكاتب الملوك بين الباب والسند وخراسان وحلوان، فتحركوا وتكاتبوا واجتمعوا إلى نهاوند، ولما وصلها أوائلهم بلغ سعداً الخبر، فكت إلى عمر، وثار بسعدٍ قومٌ سعوا به وألبوا عليه، ولم يشغلهم ما نزل بالناس؛ وكان ممن تحرك في أمره الجراح بن سنان الأسدي في نفر. فقال لهم عمر إن الدليل على ما عندكم من الشر نهوضكم في هذا الأمر وقد استعد لكم من استعد: والله ما يمنعني ما نزل بكم من النظر فيما لديكم. فبعث عمر محمد بن مسلمة والناس في الاستعداد للفرس، وكان محمد صاحب العمال يقتص آثار من شكا زمان عمر، فطاف بسعدٍ على أهل الكوفة يسأل عنه، فما سأل عنه جماعةً إلا أثنوا عليه خيراً سوى من مالأ الجراح الأسدي، فإنهم سكتوا ولم يقولوا سوءاً ولا يسوغ لهم ويتعمدون ترك الثناء، حتى انتهى إلى بني عبس فسألهم، فقال أسامة بن قتادة: اللهم إنه لا يقسم بالسوية، ولا يعدل في القضية، ولا يغزو في السرية. فقال سعد: اللهم إن كان قالها رياءً وكذباً وسمعة فأعم بصره، وأكثر عياله، وعرضه لمضلات الفتن. فعمي، واجتمع عنده عشر بنات، وكان يسمع بالمرأة فيأتيها حتى يحبسها، فإذا عثر عليه قال: دعوة سعد الرجل المبارك. ثم دعا سعد على أولئك النفر فقال: اللهم إن كانوا خرجوا أشراً وبطراً ورياء فاجهد بلادهم. فجهدوا، وقطع الجراح بالسيوف يوم بادر الحسن بن علي، رضي الله عنه، ليغتاله بساباط، وشدخ قبيصة بالحجارة، وقتل أربد بالوجء ونعال السيوف. وقال سعد: إني أول رجلٍ أهراق دماً من المشركين، ولقد جمع لي رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أبويه وما جمعهما لأحدٍ قبلي، ولقد رأيتني خمس الإسلام، وبنو أسد تزعم أني لا أحسن أصلي وأن الصيد يلهيني.
وخرج محمد بسعد وبهم معه إلى المدينة فقدموا على عمر فأخبروه الخبر فقال: كيف تصلي يا سعد؟ قال: أطيل الأوليين وأحذف الأخريين. فقال: هكذا الظن بك يا أبا إسحاق ولولا الاحتياط لكان سبيلهم بيناً. وقال: من خليفتك يا سعد على الكوفة؟ فقال: عبد الله بن عبد الله بن عتبان. فأقره. فكان سبب نهاوند وبعثها زمن سعد. وأما الوقعة فهي زمن عبد الله، فنفرت الأعاجم بكتاب يزدجرد فاجتمعوا بنهاوند على الفيرزان في خمسين ألفاً ومائة ألف مقاتل، وكان سعد كتب إلى عمر بالخبر ثم شافهه به لما قدم عليه وقال له: إن أهل الكوفة يستأذنونك في الانسياح وأن يبدؤوهم بالشدة ليكون أهيب لهم على عدوهم. فجمع عمر الناس واستشارهم، وقال لهم: هذا يوم له ما بعده، وقد هممت أن أسير فيمن قبلي ومن قدرت عليه فأنزل منزلاً وسطاً بين هذين المصرين ثم أستنفرهم وأكون لهم ردءاً حتى يفتح الله عليهم ويقضي ما أحب، فإن فتح الله عليهم صبيتهم في بلدانهم. فقال طلحة بن عبيد الله: يا أمير المؤمنين قد أحكمتك الأمور، وعجمتك البلابل، واحتنكتك التجارب، وأنت وشأنك ورأيك، لا ننبو في يديك ولا نكل عليك، إليه هذا الأمر، فمرنا نطع وادعنا نجب واحملنا نركب وقدنا ننقد، فإنك ولي هذا الأمر، وقد بلوت وجربت واحتربت فلم ينكشف شيء من عواقب قضاء الله لك إلا عن خيارهم. ثم جلس. فعاد عمر، فقام عثمان فقال: أرى يا أمير المؤمنين أن تكتب إلى أهل الشام فيسيروا من شامهم، وإلى أهل اليمن فيسيروا من يمنهم، ثم تسير أنت بأهل الحرمين إلى الكوفة والبصرة فتلقى جمع المشركين بجمع المسلمين، فإنك إذا سرت قل عندك ما قد تكاثر من عدد القوم وكنت أعز عزاً وأكثر. يا أمير المؤمنين، إنك لا تستبقي بعد نفسك من العرب باقية، ولا تمتع من الدنيا بعزيز، ولا تلوذ منها بحريز. إن هذا يوم له ما بعده من الأيام، فاشهده برأيك وأعوانك ولا تغب عنه. وجلس. فعاد عمر فقام إليه علي بن أبي طالب فقال: أما بعد يا أمير المؤمنين فإنك إن أشخصت أهل الشام من شامهم سارت الروم إلى ذراريهم، وإن أشخصت أهل اليمن من يمنهم سارت الحبشة إلى ذراريهم، وإنك إن شخصت من هذه الأرض انتقضت عليك العرب من أطرافها وأقطارها حتى يكون ما تدع وراءك أهم إليك مما بين يديك من العورات والغيالات، أقرر هؤلاء في أمصارهم واكتب إلى أهل البصرة فليتفرقوا ثلاث فرق: فرقة في حرمهم وذراريهم، وفرقة في أهل عهدهم حتى لا ينتقضوا، ولتسر فرقةٌ إلى إخوانهم بالكوفة مدداً لهم؛ إن الأعاجم إن ينظروا إليك غداً قالوا: هذا أمير المؤمنين أمير العرب وأصلها، فكان ذلك أشد لكلبهم عليك. وأما ما ذكرت من مسير القوم فإن الله هو أكره لمسيرهم منك وهو أقدر على تغيير ما يكره، وأما عددهم فإنا لم نكن نقاتل فيما مضى بالكثرة ولكن بالنصر. فقال عمر: هذا هو الرأي، كنت أحب أن أتابع عليه، فأشيروا علي برجل أوليه ذلك الثغر. وقيل: إن طلحة وعثمان وغيرهما اشاروا عليه بالمقام. والله أعلم. فلما قال عمر: أشيروا علي برجل أوليه ذلك الثغر وليكن عراقياً، قالوا: أنت أعلم بجندك وقد وفدوا عليك ورأيتهم وكلمتهم. فقال: والله لأولين أمرهم رجلاً يكون أول الأسنة إذا لقيها غداً. فقيل: من هو؟ فقال: هو النعمان بن مقرن المزني. فقالوا: هو لها. وكان النعمان يومئذ معه جمعٌ من أهل الكوفة قد اقتحموا جنديسابور والسوس. فكتب إليه عمر يأمره بالمسير إلى ماه لتجتمع الجيوش عليه، فإذا اجتمعوا إليه سار بهم إلى الفيرزان ومن معه. وقيل بل كان النعمان بكسكر. فكتب إلى عمر يسأله أن يعزله ويبعثه إلى جيش من المسلمين. فكتب إليه عمر يأمره بنهاوند، فسار. فكتب عمر إلى عبد الله بن عبد الله بن عتبان ليستنفر الناس مع النعمان كذا وكاذ ويجتمعوا عليه بماه. فندب الناس، فكان أسرعهم إلى ذلك الروادف ليبلوا في الدين وليدركوا حظاً.
فخرج الناس منها وعليهم حذيفة بن اليمان ومعه نعيم بن مقرن حتى قدموا على النعمان، وتقدم عمر إلى الجند الذين كانوا بالأهواز ليشغلوا فارساً عن المسلمين وعليهم المقترب الأسود بن ربيعة وحرملة بن مريطة ووزر بن كليب، فأقاموا بتخوم أصبهان وفارس وقطعوا أمداد فارس عن أهل نهاوند، واجتمع الناس على النعمان وفيهم حذيفة بن اليمان وابن عمر وجرير بن عبد الله البجلي والمغيرة ابن شعبة وغيرهم، فأرسل النعمان طليحة بن خويلد وعمرو بن معد يكرب وعمرو ابن ثني، وهو ابن أبي سلمى، ليأتوه بخبرهم. وخرجوا وساروا يوماً إلى الليل، فرجع إليه عمرو بن ثني، فقالوا: ما رجعك؟ فقال: لم أكن في أرض العجم، وقتلت أرضٌ جاهلها وقتل أرضاً عالمها. ومضى طليحة وعمرو ابن معد يكرب. فلما كان آخر الليل رجع عمرو، فقالوا: ما رجعك؟ قال: سرنا يوماً وليلةً ولم نر شيئاً وخفت أن يؤخذ علينا الطريق فرجعت. ومضى طليحة ولم يحفل بهما حتى انتهى إلى نهاوند. وبين موضع المسلمين الذي هم به ونهاوند بضعة وعشرون فرسخاً. فقال الناس: ارتد طليحة الثانية. فعلم كلام القوم ورجع. فلما رأوه كبروا. فقال: ما شأنكم؟ فأعلموه بالذي خافوا عليه. فقال: والله لو لم يكن دين إلا العربي ما كنت لأجزر العجم الطماطم هذه العرب العاربة. فأعلم النعمان أنه ليس بينهم وبين نهاوند شيء يكرهه ولا أحد. فرحل النعمان وعبى أصحابه، وهم ثلاثون ألفاً، فجعل على مقدمته نعيم ابن مقرن وعلى مجنبتيه حذيفة بن اليمان وسويد بن مقرن، وعلى المجردة القعقاع بن عمرو، وعلى الساقة مجاشع بن مسعود. وقد توافت إليه أمداد المدينة فيهم المغيرة بن شعبة، فانتهوا إلى إسبيذهان والفرس وقوف على تعبيتهم، وأميرهم الفيرزان وعلى مجنبتيه الزردق وبهمن جاذويه الذي جعل مكان ذي الحاجب. وقد توافى إليهم الأمداد بنهاوند كل من غاب عن القادسية ليسوا بدونهم، فلما رآهم النعمان كبر وكبر معه الناس فتزلزلت الأعاجم وحطت العرب الأثقال وضرب فسطاط النعمان، فابتدر أشراف الكوفة فضربوه، منهم: حذيفة بن اليمان، وعقبة بن عامر، والمغيرة بن شعبة، وبشير ابن الخصاصية، وحنظلة الكاتب، وجرير بن عبد الله البجلي، والأشعث ابن قيس، وسعيد بن قيس الهمداني، ووائل بن حجر وغيرهم. فلم ير بناء فسطاط بالعراق كهؤلاء. وأنشب النعمان القتال بعد حط الأثقال، فاقتتلوا يوم الأربعاء ويوم الخميس والحرب بينهم سجالٌ وإنهم انجحروا في خنادقهم يوم الجمعة، وحصرهم المسلمون وأقاموا عليهم ما شاء الله، والفرس بالخيار لا يخرجون إلا إذا أرادوا الخروج، فخاف المسلمون أن يطول أمرهم، حتى إذا كان ذات يوم في جمعة من الجمع تجمع أهل الرأي من المسلمين وقالوا: نراهم علينا بالخيار. وأتوا النعمان في ذلك فوافوه وهو يروي في الذي رووا فيه فأخبروه، فبعث إلى من بقي من أهل النجدات والرأي فأحضرهم، فتكلم النعمان فقال: (قد ترون المشركين واعتصامهم بخنادقهم ومدنهم وأنهم لا يخرجون إلينا إلا إذا شاؤوا ولا يقدر المسلمون على إخراجهم، وقد ترون الذي فيه المسلمون من التضايق، فما الرأي الذي به نستخرجهم إلى المناجزة وترك التطويل؟). فتكلم عمرو بن ثني، وكان أكبر الناس، وكانوا يتكلمون على الأسنان، فقال: التحصن عليهم أشد من المطاولة عليكم فدعهم وقاتل من أتاك منهم. فردوا عليه رأيه. وتكلم عمرو بن معد يكرب فقال: ناهدهم وكابرهم ولا تخفهم، فردوا جميعاً عليه رأيه وقالوا: إنما يناطح بنا الجدران وهي أعوان علينا. وقال طليحة: أرى أن نبعث خيلاً لينشبوا القتال فإذا اختلطوا بهم رجعوا إلينا استطراداً فإنا لم نستطرد لهم في طول ما قاتلناهم، فإذا رأوا ذلك طمعوا وخرجوا فقاتلناهم حتى يقضي الله فيهم وفينا ما أحب.
فأمر النعمان القعقاع بن عمرو، وكان على المجردة، فأنشب القتال، فأخرجهم من خنادقهم كأنهم جبال حديد قد تواثقوا أن لا يفروا، وقد قرن بعضهم بعضاً كل سبعة في قران وألقوا حسك الحديد خلفهم لئلا ينهزموا. فلما خرجوا نكص ثم نكص واغتنمها الأعاجم ففعلوا كما ظن طليحة وقالوا: هي هي، فلم يبق أحد إلا من يقوم على الأبواب وركبوهم. ولحق القعقاع بالناس، وانقطع الفرس عن حصنهم بعض الانقطاع والمسلمون على تعبية في يوم جمعة صدر النهار، وقد عهد النعمان إلى الناس عهده وأمرهم أن يلزموا الأرض ولا يقاتلوا حتى يأذن لهم، ففعلوا واستتروا بالحجف من الرمي، واقبل المشركون عليهم يرمونهم حتى أفشوا فيهم الجراح. وشكا بعض الناس وقالوا للنعمان: ألا ترى ما نحن فيه فما تنتظر بهم؟ ائذن للناس في قتالهم. فقال: رويداً رويداً. وانتظر النعمان بالقتال أحب الساعات كانت إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أن يلقى العدو فيها وذلك عند الزوال، فلما كان قريباً من تلك الساعة ركب فرسه وسار في الناس ووقف على كل راية يذكرهم ويحرضهم ويمنيهم الظفر، وقال لم: إني مكبر ثلاثاً فإذا كبرت الثالثة فإني حامل فاحملوا، وإن قتلت فالأمير بعدي حذيفة، فإن قتل ففلان، حتى عد سبعة آخرهم المغيرة. ثم قال: اللهم أعزز دينك، وانصر عبادك، واجعل النعمان أول شهيد اليوم على إعزاز دينك ونصر عبادك. وقيل: بل قال: اللهم إني أسألك أن تقر عيني اليوم بفتح يكون فيه عز الإسلام واقبضني شهيداً. فبكى الناس. ورجع إلى موقفه فكبر ثلاثاً والناس سامعون مطيعون مستعدون للقتال، وحمل النعمان والناس معه وانقضت رايته انقضاض العقاب والنعمان معلم ببياض القباء والقلنسوة، فاقتتلوا قتالاً شديداً لم يسمع السامعون بوقعة كانت أشد منها، وما كان يسمع إلا وقع الحديد، وصبر لهم المسلمون صبراً عظيماً، وانهزم الأعاجم وقتل منهم ما بين الزوال والإعتام ما طبق أرض المعركة دماً يزلق الناس والدواب. فلما أقر الله عين النعمان بالفتح استجاب له فقتل شهيداً، زلق به فرسه فصرع. وقيل: بل رمي بسهم في خاصرته فقتله، فسجاه أخوه نعيم بثوب، وأخذ الراية قبل أن تقع وناولها حذيفة، فأخذها وتقدم إلى موضع النعمان وترك نعيماً مكانه. وقال لهم المغيرة: اكتموا مصاب أميركم حتى ننتظر ما يصنع الله فينا وفيهم لئلا يهن الناس. فاقتتلوا. فلما أظلم الليل عليهم انهزم المشركون وذهبوا ولزمهم المسلمون وعمي عليهم قصدهم فتركوه وأخذوا نحو اللهب الذي كانوا دونه بأسبيذهان فوقعوا فيه، فكان الواحد منهم يقع فيقع عليه ستة بعضهم على بعضهم في قياد واحد فيقتلون جميعاً، وجعل يعقرهم حسك الحديد، فمات منهم في اللهب مائة ألف أو يزيدون سوى من قتل في المعركة. وقيل: قتل في اللهب ثمانون ألفاً وفي المعركة ثلاثون ألفاً سوى من قتل في الطلب، ولم يفلت إلا الشريد، ونجا الفيرزان من بين الصرعى فهرب نحو همذان، فاتبعه نعيم بن مقرن، وقدم القعقاع قدامه فأدركه بثنية همذان، وهي إذ ذاك مشحونة من بغال وحمير موقرة عسلاً، فحبسه الدواب على أجله. فلما لم يجد طريقاً نزل عن دابته وصعد في الجبل، فتبعه القعقاع راجلاً فأدركه فقتله المسلمون على الثنية وقالوا: إن لله جنوداً من عسل. واستاقوا العسل وما معه من الأحمال. وسميت الثنية ثنية العسل. ودخل المشركون همذان والمسلمون في آثارهم فنزلوا عليها وأخذوا ما حولها. فلما رأى ذلك خسروشنوم استأمنهم، ولما تم الظفر للمسلمين جعلوا يسألون عن أميرهم النعمان بن مقرن، فقال لهم أخوه معقل: هذا أميركم قد أقر الله عينه بالفتح وختم له بالشهادة فاتبعوا حذيفة.
ودخل المسلمون نهاوند يوم الوقعة بعد الهزيمة واحتووا ما فيها من الأمتعة وغيرها وما حولها من الأسلاب والأثاث وجمعوا إلى صاحب الأقباض السائب ابن الأقرع. وانتظر من بنهاوند ما يأتيهم من إخوانهم الذين على همذان مع القعقاع ونعيم، فأتاهم الهربذ صاحب بيت النار على أمان، فأبلغ حذيفة، فقال: أتؤمنني ومن شئت على أن أخرج لك ذخيرةً لكسرى تركت عندي لنوائب الزمان؟ قال: نعم. فأحضر جوهراً نفيساً في سفطين، فأرسلهما مع الأخماس إلى عمر. وكان حذيفة قد نفل منها وأرسل الباقي مع السائب ابن الأقرع الثقفي، وكان كاتباً حاسباً، أرسله عمر إليهم وقال له: إن فتح الله عليكم فاقسم على المسلمين فيئهم وخذ الخمس، وإن هلك هذا الجيش فاذهب فبطن الأرض خيرٌ من ظهرها. قال السائب: فلما فتح الله على المسلمين وأحضر الفارسي السفطين اللذين أودعهما عنده النخير جان فإذا فيهما اللؤلؤ والزبرجد والياقوت، فلما فرغت من القسمة احتملتهما معي وقدمت على عمر، وكان قد قدر الوقعة فبات يتململ ويخرج ويتوقع الأخبار، فبينما رجل من المسلمين قد خرج في بعض حوائجه فرجع إلى المدينة ليلاً، فمر به راكب فسأله: من أين أقبل؟ فقال: من نهاوند، وأخبره بالفتح وقتل النعمان، فلما أصبح الرجل تحدث بهذا بعد ثلاث من الوقعة، فبلغ الخبر عمر فسأله فأخبره، فقال ذلك بريد الجن. ثم قدم البريد بعد ذلك فأخبره بما يسره ولم يخبره بقتل النعمان: قال السائب: فخرج عمر من الغد يتوقع الأخبار. قال: فأتيته فقال: ما وراءك؟ فقلت: خيراً يا أمير المؤمنين. فتح الله عليك وأعظم الفتح، واستشهد النعمان بن مقرن. فقال عمر: إنا لله وإنا إليه راجعون. ثم بكى فنشج حتى بانت فروع كتفيه فوق كتده. قال: فلما رأيت ذلك وما لقي قلت: يا أمير المؤمنين ما أصيب بعده رجل يعرف وجهه. فقال: أولئك المستضعفون من المسلمين ولكن الذي أكرمهم بالشهادة يعرف وجوههم وأنسابهم، وما يصنع أولئك بمعرفة عمر! ثم أخبرته بالسفطين فقال: أدخلهما بيت المال حتى ننظر في شأنهما والحق بجندك. قال: ففعلت وخرجت سريعاً إلى الكوفة. وبات عمر، فلما أصبح بعث في أثري رسولاً فما أدركني حتى دخلت الكوفة فأنخت بعيري وأناخ بعيره على عرقوبي بعيري فقال: الحق بأمير المؤمنين، فقد بعثني في طلبك فلم أقدر عليك إلا الآن. قال: فركبت معه فقدمت على عمر، فلما رآني قال: إلي وما لي وللسائب! قلت: ولماذا؟ قال: ويحك والله ما هو إلا أن نمت الليلة التي خرجت فيها فباتت الملائكة تستحبني إلى ذينك السفطين يشتعلان ناراً فيقولون: لنكوينك بهما، فأقول: إني سأقسمهما بين المسلمين. فخذهما عني فبعهما في أعطية المسلمين وأرزاقهم. قال: فخرجت بهما فوضعتهما في مسجد الكوفة، فابتاعهما مني عمرو بن حريث المخزومي بألفي ألف درهم، ثم خرج بهما إلى أرض الأعاجم فباعهما بأربعة آلاف ألف، فما زال أكثر أهل الكوفة مالاً ثم قسم ثمنهما بين الغانمين فنال كل فارس أربعة آلاف درهم من ثمن السفطين. وكان سهم الفارس بنهاوند ستة آلاف وسهم الراجل ألفين. وقد نفل حذيفة من الأخماس من شاء من أهل البلاء يوم نهاوند وكان المسلمون ثلاثين ألفاً. ولما قدم سبي نهاوند المدينة جعل أبو لؤلؤة غلام المغيرة بن شعبة لا يلقى منهم صغيراً إلا مسح رأسه وبكى وقال له: أكل عمر كبدي! وكان من نهاوند فأسرته الروم وأسره المسلمون من الروم فنسب إلى حيث سبي. وكان المسلمون يسمون فتح نهاوند فتح الفتوح لأنه لم يكن للفرس بعده اجتماع. وملك المسلمون بلادهم. ذكر فتح الدينور والصميرة وغيرهمالما انصرف أبو موسى من نهاوند، وكان قد جاء مدداً على بعث أهل البصرة، فمر بالدينور فأقام عليها خمسة أيام وصالحه أهلها على الجزية ومضى فصالحه أهل سيروان على مثل صلحهم، وبعث السائب بن الأقرع الثقفي إلى الصميرة مدينة مهرجان قذق ففتحها صلحاً، وقيل: إنه وجه السائب من الأهواز ففتح ولاية مهرجان قذق. ذكر فتح همذان والماهين وغيرهما
لما انهزم المشركون دخل من سلم منهم همذان وحاصرهم نعيم بن مقرن والقعقاع بن عمرو. فلما رأى ذلك خسروشنوم استأمنهم وقبل منهم الجزية على أن يضمن منهم همذان وسدستبى وألا يؤتى المسلمون منهم، فأجابوه إلى ذلك وآمنوه ومن معه من الفرس، وأقبل كل من كان هرب، وبلغ الخبر الماهين بفتح همذان وملكها ونزول نعيم والقعقاع بها، فاقتدوا بخسروشنوم فراسلوا حذيفة فأجابهم إلى ما طلبوا وأجمعوا على القبول وأجمعوا على إتيان حذيفة؛ فخدعهم دينار وهو أحد أولئك الملوك، وكان أشرفهم قارن، وقال: لا تقلوهم في جمالكم، ففعلوا، وخالفهم فأتاهم في الديباج والحلي فأعطاهم حاجتهم، واحتمل المسلمون ما أرادوا وعاقدوه عليهم، ولم يجد الآخرون بداً من متابعته والدخول في أمره، فقيل ماه دينار لذلك. وكان النعمان بن مقرن قد عاقد بهراذان على مثل ذلك فنسب إلى بهراذان، وكان قد وكل النسير بن ثور بقلعة قد لجأ إليها قوم فجاهدهم فافتتحها فنسبت إلى النسير وهو تصغير نسر. قيل: دخل دينار الكوفة أيام معاوية فقال: يا أهل الكوفة إنكم أول ما مررتم بنا كنتم خيار الناس فبقيتم كذلك زمن عمر وعثمان، ثم تغيرتم وفشت فيكم خصالٌ أربع: بخل، وخب، وغدر، وضيق، ولم يكن فيكم واحدة منهن، وقد رمقتكم فرأيت ذلك في مولديكم فعلمت من أين أتيتم، فإذا الخب من قبل النبط، والبخل من قبل فارس، والغدر من قبل خراسان، والضيق من قبل الأهواز. ذكر دخول المسلمين بلاد الأعاجموفيها أمر عمر المسلمين بالانسياح في بلاد العجم وطلب الفرس أين كانوا، وقيل: كان ذلك سنة ثماني عشرة، وقد تقدم ذكره. وسبب ذلك ما كان من يزدجرد وبعثه الجنود مرة بعد أخرى، فوجه الأمراء من أهل البصرة وأهل الكوفة بعد فتح نهاوند، وكان بين عمل سعد وعمل عمار أميران، أحدهما عبد الله بن عبد الله بن عتبان، وفي زمانه كانت وقعة نهاوند، والآخر زياد بن حنظلة حليف بني عبد بن قصي، وفي زمانه أمر بالانسياح وعزل عبد الله وبعث في وجه آخر، وولي زياد، وكان من المهاجرين، فعمل قليلاً وألح في الاستعفاء فأعفاه عمر وولى عمار بن ياسر وكتب معه إلى أهل الكوفة: إني بعثت عماراً أميراً وجعلت معه ابن مسعود معلماً. وكان ابن مسعود بحمص فسيره عمر إلى الكوفة، وأمد أهل البصرة بعبد الله بن عبد الله، وأمد أهل الكوفة بأبي موسى. وكان أهل همذان قد كفروا بعد الصلح، فبعث عمر لواءً إلى نعيم بن مقرن وأمره بقصد همذان، فإذا فتحها سار إلى ما وراء ذلك إلى خراسان، وبعث عتبة بن فرقد وبكير بن عبد الله إلى أذربيجان، يدخل أحدهما من حلوان والآخر من الموصل، وبعث عبد الله بن عبد الله إلى أصبهان، وأمر عمر سراقة على البصرة. ذكر فتح أصبهانوفيها بعث عمر إليها عبد الله بن عبد الله بن عتبان، وكان شجاعاً من أشراف الصحابة ومن وجوه الأنصار حليف لبني الحبلى، وأمده بأبي موسى، وجعل على مجنبتيه عبد الله بن ورقاء الرياحي وعصمة بن عبد الله، فساروا إلى نهاوند، ورجع حذيفة إلى عمله على ما سقت دجلة وما وراءها، وسار عبد الله فيمن كان معه ومن تبعه من جند النعمان بنهاوند، نحو أصبهان، وعلى جندها الاستندار، وعلى مقدمته شهربراز بن جاذويه، شيخ كبير، في جمع عظيم، فالتقى المسلمون ومقدمة المشركين برستاق لأصبهان، فاقتتلوا قتالاً شديداً، ودعا الشيخ إلى البراز، فبرز له عبد الله بن ورقاء الرياحي فقتله، وانهزم أهل أصبهان. فسمي ذلك الرستاق رستاق الشيخ إلى اليوم، وصالحهم الاستندار على رستاق الشيخ، وهو أول رستاق أخذ من أصبهان. ثم سار عبد الله إلى مدينة جي وهي مدينة أصبهان، فانتهى إليها والملك بأصبهان الفاذوسفان، فنزل بالناس على جي وحاصرها وقاتلها، ثم صالحه الفاذوسفان على أصبهان وأن على من أقام الجزية وأقام على ماله وأن يجزى من أخذت أرضه عنوة مجراهم ومن أبى وذهب كان لكم أرضه، وقدم أبو موسى على عبد الله من ناحية الأهواز وقد صالح، فخرج القوم من جي ودخلوا في الذمة إلا ثلاثين رجلاً من أهل أصبهان لحقوا بكرمان. ودخل عبد الله وأبو موسى جياً، وكتب بذلك إلى عمر. فقدم كتاب عمر إلى عبد الله: أن سر حتى تقدم على سهيل بن عدي فتكون معه على قتال من بكرمان، فسار واستخلف على أصبهان السائب بن الأقرع، ولحق بسهيل قبل أن يصل إلى كرمان.
قيل: وقد روي عن معقل بن يسار أن الأمير كان على الجند الذين فتحوا أصبهان النعمان بن مقرن، وأن عمر أرسله من المدينة إلى أصبهان وكتب إلى أهل الكوفة أن يمدوه، فسار إلى أصبهان وبها ملكها ذو الحاجبين، فأرسل إليه المغيرة بن شعبة وعاد من عنده فقاتلهم وقتل النعمان ووقع ذو الحاجبين عن دابته فانشقت بطنه وانهزم أصحابه. قال معقل: فأتيت النعمان وهو صريع فجعلت عليه علماً. فلما انهزم المشركون أتيته، ومعي إداوة فيها ماء، فغسلت عن وجهه التراب فقال: ما فعل الناس؟ فقلت: فتح الله عليهم. قال: الحمد لله! ومات. هكذا في هذه الرواية، والصحيح أن النعمان قتل بنهاوند وافتتح أبو موسى قم وقاشان. ذكر ولاية المغيرة بن شعبة على الكوفةوفيها ولى عمر عمار بن ياسر على الكوفة، وابن مسعود على بيت المال وعثمان بن حنيف على مساحة الأرض. فشكا أهل الكوفة عماراً، فاستعفى عمار عمر بن الخطاب، فولى عمر جبير بن مطعم الكوفة، وقال له: لا تذكره لأحد. فسمع المغيرة بن شعبة أن عمر خلا بجبير، فأرسل امرأته إلى امرأة جبير بن مطعم لتعرض عليها طعام السفر، ففعلت، فقالت: نعم ما حييتني به. فلما علم المغيرة جاء إلى عمر فقال له: بارك الله لك فيمن وليت! وأخبره الخبر فعزله وولى المغيرة بن شعبة الكوفة، فلم يزل عليها حتى مات عمر. وقيل: إن عماراً عزل سنة اثنتين وعشرين وولي بعده أبو موسى. وسيرد ذكره إن شاء الله تعالى. ذكر عدة حوادثقيل: وفيها بعث عمرو بن العاص عقبة بن نافع الفهري فافتتح زويلة صلحاً، وما بين برقة وزويلة سلم للمسلمين. وقيل: سنة عشرين. كان الأمراء في هذه السنة: عمير بن سعد على دمشق وحوران وحمص وقنسرين والجزيرة؛ ومعاوية على البلقاء والأردن وفلسطين والسواحل وأنطاكية وقلقية ومعرة مصرين، وعند ذلك صالح أبو هاشم بن عتبة بن ربيعة على قلقية وأنطاكية ومعرة مصرين. وفيها ولد الحسن البصري وعامر الشعبي. وحج بالناس عمر بن الخطاب، واستخلف على المدينة زيد بن ثابت. وكان عامله على مكة والطائف واليمن واليمامة ومصر والبصرة من كان قبل ذلك، وكان على الكوفة عمار بن ياسر، وشريح على القضاء. وفيها بعث عثمان بن أبي العاص بعثاً إلى ساحل فارس فحاربوهم ومعهم الجارود العبدي، فقتل الجارود بعقبة تعرف بعقبة الجارود، وقيل: بل قتل بنهاوند مع النعمان. وفيها مات حممة، وهو من الصحابة، بأصبهان بعد فتحها، والعلاء بن الحضرمي وهو على البحرين، فاستعمل عمر مكانه أبا هريرة. وفيها مات خالد ابن الوليد بحمص وأوصى إلى عمر بن الخطاب، وقيل: مات سنة ثلاث وعشرين، وقيل: مات بالمدينة. والأول أصح. ثم دخلت سنة اثنتين وعشرينفي هذه السنة افتتحت أذربيجان، وقيل: سنة ثماني عشرة بعد فتح همذان والري وجرجان، فنبدأ بذكر فتح هذه البلاد ثم نذكر أذربيجان بعدها. ذكر فتح همذان ثانياً قد تقدم مسير نعيم بن مقرن إلى همذان وفتحها على يده ويد القعقاع بن عمرو، فلما رجعا عنها كفر أهلها مع خسروشنوم، فلما قدم عهد نعيم من عند عمر ودع حذيفة وسار يريد همذان وعاد حذيفة إلى الكوفة، فخرج نعيم ابن مقرن على تعبية إلى همذان فاستولى على بلادها جميعاً وحاصرها، فلما رأى أهلها ذلك سألوا الصلح ففعل وقبل منهم الجزية. وقد قيل: إن فتحها كان سنة أربع وعشرين بعد مقتل عمر بستة أشهر. فبينما نعيم بهمذان في اثني عشر ألفاً من الجند كاتب الديلم وأهل الري وأذربيجان، إذ خرج موتاً في الديلم حتى نزل بواج روذ، وأقبل الزينبي أبو الفرخان في أهل الري، وأقبل أسفنديار أخو رستم في أهل أذربيجان، فاجتمعوا وتحصن منهم أمراء المسالح وبعثوا إلى نعيم بالخبر، فاستخلف يزيد بن قيس الهمذاني وخرج إليهم، فاقتتلوا بواج روذ قتالاً شديداً، وكانت وقعة عظيمة تعدل بنهاوند، فانهزم الفرس هزيمة قبيحة وقتل منهم مقتلة كبيرة لا يحصون، فأرسلوا إلى عمر مبشراً، فأمر عمر نعيماً بقصد الري وقتال من بها والمقام بها بعد فتحها.
وقيل: إن المغيرة بن شعبة، وهو عامل على الكوفة، أرسل جرير بن عبد الله إلى همذان، فقاتله أهلها وأصيبت عينه بسهم، فقال: احتسبها عند الله الذي زين بها وجهي ونور لي ما شاء ثم سلبنيها في سبيله. ثم فتحها على مثل صلح نهاوند وغلب على أرضها قسراً. وقيل: كان فتحها على يد المغيرة بنفسه، وكان جرير على مقدمته. وقيل: فتحها قرظة بن كعب الأنصاري. ذكر فتح قزوين وزنجانلما سير المغيرة جريراً إلى همذان ففتحها سير البراء بن عازب في جيش إلى قزوين وأمره أن يسير إليها فإن فتحها الله على يده غزا الديلم منها، وإنما كان مغزاهم قبل من دستبى. فسار البراء حتى أتى أبهر، وهو حصن، فقاتلوه ثم طلبوا الأمان فآمنهم وصالحهم، ثم غزا قزوين، فلما بلغ أهلها الخبر أرسلوا إلى الديلم يطلبونن النصرة فوعدوهم، ووصل المسلمون إليهم فخرجوا لقتالهم والديلم وقوفٌ على الجبل لا يمدون يداً، فلما رأى أهل قزوين ذلك طلبوا الصلح على صلح أبهر؛ وقال بعض المسلمين: قد علم الديلم إذ تحارب ... حين أتى في جيشه ابن عازب بأن ظن المشركين كاذب ... فكم قطعنا في دجى الغياهب من جبلٍ وعرٍ ومن سباسب وغزا البراء الديلم حتى أدوا إليه الإتاوة، وغزا جيلان والببر والطيلسان، وفتح زنجان عنوةً. ولما ولي الوليد بن عقبة الكوفة غزا الديلم وأذربيجان وجيلان وموقان والببر والطيلسان ثم انصرف. ذكر فتح الريثم انصرف نعيم من واج روذ حتى قدم الري وخرج الزينبي أبو الفرخان من الري فلقي نعيماً طالباً الصلح ومسالماً له ومخالفاً لملك الري، وهو سياوخش ابن مهران بن بهرام جوبين، فاستمد سياوخش أهل دنباوند وطبرستان وقومس وجرجان فأمدوه خوفاً من المسلمين، فالتقوا مع المسلمين في سفح جبل الري إلى جنب مدينتها، فاقتتلوا به، وكان الزينبي قال لنعيم: إن القوم كثير وأنت في قلة فباعث معي خيلاً أدخل بهم مدينتهم من مدخل لا يشعرون به، وناهدهم أنت فإنهم إذا خرجنا عليهم لم يثبتوا لك. فبعث معه نعيم خيلاً من الليل عليهم ابن أخيه المنذر بن عمرو، فأدخلهم الزينبي المدينة ولا يشعر القوم وبيتهم نعيم بياتاً فشغلهم عن مدينتهم، فاقتتلوا وصبروا له حتى سمعوا التكبير من ورائهم فانهزموا فقتلوا مقتلة عدوا بالقصب فيها، وأفاء الله على المسلمين بالري نحواً مما في المدائن وصالحه الزينبي على الري، ومرزبة عليهم نعيمٌ، فلم يزل شرف الري في أهل الزينبي، وأخرب نعيم مدينتهم، وهي التي يقال لها العتيقة، وأمر الزينبي فبنى مدينة الري الحدثي. وكتب نعيم إلى عمر بالفتح وأنفذ الأخماس، وكان البشير المضارب العجلي، وراسله المصمغان في الصلح على شيء يفتدي به منه على دنباوند، فأجابه إلى ذلك. وقد قيل: إن فتح الري كان على يد قرظة بن كعب، وقيل: كان فتحها سنة إحدى وعشرين. وقيل غير ذلك. والله أعلم. ذكر فتح قومس وجرجان وطبرستانلما أرسل نعيم إلى عمر بالبشارة وأخماس الري كتب إليه عمر يأمره بإرسال أخيه سويد بن مقرن ومعه هند بن عمرو الجملي وغيره إلى قومس، فسار سويد نحو قومس، فلم يقم له أحد، فأخذها سلماً وعسكر بها، وكاتبه الذين لجأوا إلى طبرستان منهم والذين أخذوا المفاوز، فأجابهم إلى الصلح والجزية وكتب لهم بذلك. ثم سار سويد إلى جرجان فعكسر بها ببسطام وكتب إلى ملك جرجان، وهو زرنان صول، وكاتبه زرنان صول وصالحه على جرجان على الجزية وكافية حرب جرجان وأن يعينه سويد إن غلب، فأجابه سويد إلى ذلك، وتلقاه زرنان صول قبل دخوله جرجان فدخل معه وعسكر بها حتى جبى الخراج وسمى فروجها فسدها بترك دهستان، ورفع الجزية عمن قام بمنعها وأخذها من الباقين. وقيل: كان فتحها سنة ثماني عشرة. وقيل: سنة ثلاثين زمن عثمان. قيل: وأرسل الأصبهبذ صاحب طبرستان سويداً في الصلح على أن يتوادعا ويجعل له شيئاً على غير نصر ولا معونة على أحد، فقبل ذلك منه وكتب له كتاباً. ذكر فتح طرابلس الغرب وبرقة
في هذه السنة سار عمرو بن العاص من مصر إلى برقة فصالحه أهلها على الجزية وأن يبيعوا من أبنائهم من أرادوا بيعه. فلما فرغ من برقة سار إلى طرابلس الغرب فحاصرها شهراً فلم يظفر بها، وكان قد نزل شرقيها، فخرج رجل من بني مدلج يتصد في سبعة نفر وسلكوا غرب المدينة، فلما رجعوا اشتد عليهم الحر فأخذوا على جانب البحر، ولم يكن السور متصلاً بالبحر، وكانت سفن الروم في مرساها مقابل بيوتهم، فرأى المدلجي وأصحابه مسلكاً بين البحر والبلد فدخلوا منه وكبروا، فلم يكن للروم ملجأ إلا سفنهم لأنهم ظنوا أن المسلمين قد دخلوا البلد، ونظر عمرو ومن معه فرأى السيوف في المدينة وسمعوا الصياح، فأقبل بجيشه حتى دخل عليهم البلد، فلم يفلت الروم إلا بما خف معهم في مراكبهم. وكان أهل حصن سبرة قد تحصنوا لما نزل عمرو على طرابلس، فلما امتنعوا عليه بطرابلس أمنوا واطمأنوا، فلما فتحت طرابلس جند عمرو عسكراً كثيفاً وسيره إلى سبرة، فصبحوها وقد فتح أهلها الباب وأخرجوا مواشيهم لتسرح لأنهم لم يكن بلغهم خبر طرابلس، فوقع المسلمون عليهم ودخلوا البلد مكابرةً وغنموا ما فيه وعادوا إلى عمرو. ثم سار عمرو بن العاص إلى برقة وبها لواتة، وهم من البربر. وكان سبب مسير البربر إليها وإلى غيرها من الغرب أنهم كانوا بنواحي فلسطين من الشام وكان ملكهم جالوت، فلما قتل سارت البرابر وطلبوا الغرب حتى إذا انتهوا إلى لوبية ومراقية، وهما كورتان من كور مصر الغربية، تفرقوا فسارت زناتة ومغيلة، وهما قبيلتان من البربر، إلى الغرب فسكنوا الجبال، وسكنت لواتة أرض برقة، وتعرف قديماً بأنطابلس، وانتشروا فيها حتى بلغوا السوس، ونزلت هوارة مدينة لبدة، ونزلت نفوسة إلى مدينة سبرة وجلا من كان بها من الروم لذلك، وقام الأفارق، وهم خدم الروم، على صلح يؤدونه إلى من غلب على بلادهم. وسار عمرو بن العاص، كما ذكرنا، فصالحه أهلها على ثلاثة عشر ألف دينار يؤدونها جزيةً وشرطوا أن يبيعوا من أرادوا من أولادهم في جزيتهم. ذكر فتح أذربيجانقال: فلما افتتح نعيم الري بعث سماك بن خرشة الأنصاري - وليس بأبي دجانة - ممداً لبكير بن عبد الله بأذربيجان، أمره عمر بذلك، فسار سماك نحو بكير، وكان بكير حيث بعث إليها سار حتى إذا طلع بجبال جرميذان طلع عليهم اسفنديار بن فرخزاذ مهزوماً من واجٍ روذ، فكان أول قتال لقيه بأذربيجان، فاقتتلوا، فهزم الفرس وأخذ بكير اسفنديار أسيراً. فقال له اسفنديار: الصلح أحب إليك أم الحرب؟ قال: بل الصلح. قال: أمسكني عندك فإن أهل أذربيجان إن لم أصالح عليهم أو أجىء إليهم لم يقوموا لك وجلوا إلى الجبال التي حولها، ومن كان على التحصن تحصن إلى يوم ما. فأمسكه عنده، وصارت البلاد إليه إلا ما كان من حصن. وقدم عليه سماك بن خرشة ممداً واسفنديار في إساره وقد افتتح ما يليه، وافتتح عتبة بن فرقد ما يليه. وكتب بكير إلى عمر يستأذنه في التقدم، فأذن له أن يتقدم نحو الباب، وأن يستخلف على ما افتتحه، فاستخلف عليه عتبة بن فرقد، فأقر عتبة سماك بن خرشة على عمل بكير الذي كان افتتحه، وجمع عمر أذربيجان كلها لعتبة بن فرقد. وكان بهرام بن فرخزاذ قصد طريق عتبة وأقام به في عسكره حتى قدم عليه عتبة، فاقتتلوا، فانهزم بهرام، فلما بلغ خبره اسفنديار وهو في الأسر عند بكير قال: الآن تم الصلح وطفئت الحرب. فصالحه وأجاب إلى ذلك أهل أذربيجان كلهم، وعادت أذربيجان سلماً. وكتب بذلك بكير وعتبة إلى عمر وبعثا بما خمسا. ولما جمع عمر لعتبة عمل بكير كتب لأهل أذربيجان كتاباً بالصلح. وفيها قدم عتبة على عمر بالخبيص الذي كان أهدي له. وكان عمر يأخذ عماله بموافاة الموسم كل سنة يمنعهم بذلك عن الظلم. ذكر فتح الباب
في هذه السنة كان فتح الباب، وكان عمر رد أبا موسى إلى البصرة وبعث سراقة بن عمرو، وكان يدعى ذا النور، إلى الباب، وجعل على مقدمته عبد الرحمن بن ربيعة، وكان أيضاً يدعى ذا النور، وجعل على إحدى مجنبتيه حذيفة بن أسيد الغفاري، وعلى الأخرى بكير بن عبد الله الليثي، وكان بكير سبقه إلى الباب. وجعل على المقاسم سلمان بن ربيعة الباهلي. فسار سراقة، فلما خرج من أذربيجان قدم بكير إلى الباب، وكان عمر قد أمد سراقة بحبيب بن مسلمة من الجزيرة وجعل مكانه زياد بن حنظلة. ولما أطل عبد الرحمن بن ربيعة على الباب، والملك بها يومئذ شهريار، وهو من ولد شهريار الذي أفسد بني إسرائيل وأغزى الشام بهم، فكاتبه شهريار واستأمنه على أن يأتيه، ففعل، فأتاه فقال: إني بإزاء عدو كلب وأمم مختلفة ليست لهم أحساب ولا ينبغي لذي الحسب والعقل أن يعينهم على ذي الحسب ولست من البقبج ولا الأرمن في شيء، وإنكم قد غلبتم على بلادي وأمتي فأنا منكم ويدي مع أيديكم وجزيتي إليكم والنصر لكم والقيام بما تحبون فلا تسوموننا الجزية فتوهنونا بعدوكم. قال: فسيره عبد الرحمن إلى سراقة، فلقيه بمثل ذلك، فقبل منه سراقة ذلك، وقال: لابد من الجزية ممن يقيم ولا يحارب العدو. فأجابه إلى ذلك. وكتب سراقة في ذلك إلى عمر فأجازه عمرو واستحسنه. ذكر فتح موقانلما فرغ سراقة من الباب أرسل بكير بن عبد الله وحبيب بن مسلمة وحذيفة ابن أسيد وسلمان بن ربيعة إلى أهل تلك الجبال المحيطة بأرمينية، فوجه بكيراً إلى موقان، وحبيباً إلى تفليس، وحذيفة إلى جبال اللان، وسلمان إلى الوجه الآخر. وكتب سراقة بالفتح إلى عمر وبإرسال هؤلاء النفر إلى الجهات المذكورة، فأتى عمر أمرٌ لم يظن أن يستتم له بغير مؤونة لأنه فرج عظيم وجند عظيم، فلما استوسقوا واستحلوا الإسلام وعدله مات سراقة، واستخلف عبد الرحمن بن ربيعة. ولم يفتتح أحد من أولئك القواد إلا بكير فإنه فض أهل موقان ثم تراجعوا على الجزية عن كل حالم دينار. وكان فتحها سنة إحدى وعشرين. ولما بلغ عمر موت سراقة واستخلافه عبد الرحمن بن ربيعة أقر عبد الرحمن على فرج الباب وأمره بغزو الترك. أسيد في هذه التراجم بفتح الهمزة وكسر السين. والنور في الموضعين بالراء. ذكر غزو التركلما أمر عمر عبد الرحمن بن ربيعة بغزو الترك خرج بالناس حتى قطع الباب. فقال له شهريار: ما تريد أن تصنع؟ قال: أريد غزو بلنجر والترك. قال: إنا لنرضى منهم أن يدعونا من دون الباب. قال عبد الرحمن: لكنا لا نرضى حتى نغزوهم في ديارهم، وبالله إن معنا أقواماً لو يأذن لهم أميرنا في الإمعان لبلغت بهم الروم. قال: وما هم؟ قال: اقوام صحبوا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ودخلوا في هذا الأمر بنية، ولا يزال هذا الأمر لهم دائماً ولا يزال النصر معهم حتى يغيرهم من يغلبهم وحتى يلفتوا عن حالهم. فغزا بلنجر غزاة في زمن عمر فقالوا: ما اجترأ علينا إلا ومعه الملائكة تمنعهم من الموت، فهربوا منه وتحصنوا، فرجع بالغنيمة والظفر، وقد بلغت خيله البيضاء على رأس مائتي فرسخ من بلنجر، وعادوا ولم يقتل منهم أحد. ثم غزاهم أيام عثمان بن عفان غزوات فظفر كما كان يظفر، حتى تبدل أهل الكوفة لاستعمال عثمان من كان ارتد استصلاحاً لهم فزادهم فساداً، فغزا عبد الرحمن بن ربيعة بعد ذلك فتذامرت الترك واجتمعوا في الغياض فرمى رجلٌ منهم رجلاً من المسلمين على غرة فقتله وهرب عنه أصحابه، فخرجوا عليه عند ذلك فاقتتلوا واشتد قتالهم ونادى منادٍ من الجو: صبراً عبد الرحمن وموعدكم الجنة! فقاتل عبد الرحمن حتى قتل وانكشف أصحابه وأخذ الراية سلمان بن ربيعة أخوه فقاتل بها، ونادى منادٍ من الجو: صبراً آل سلمان! فقال سلمان: أو ترى جزعاً؟ وخرج سلمان بالناس معه أبو هريرة الدوسي على جيلان فقطعوها إلى جرجان، ولم يمنعهم ذلك من إنجاء جسد عبد الرحمن، فهم يستسقون به إلى الآن. ذكر تعديل الفتوح بين أهل الكوفة والبصرةفي هذه السنة عدل عمر فتوح أهل الكوفة والبصرة بينهم.
وسبب ذلك أن عمر بن سراقة كتب إلى عمر بن الخطاب يذكر له كرة أهل البصرة وعجز خراجهم عنهم، وسأله أن يزيدهم أحد الماهين أو ماسبذان، وبلغ أهل الكوفة ذلك وقالوا لعمار بن ياسر، وكان على الكوفة أميراً سنة وبعض أخرى: اكتب إلى عمر أن رامهرمز وإيذج لنا دونهم لم يعينونا عليهما ولم يلحقونا حتى افتتحناهما، فلم يفعل عمار، فقال له عطارد: أيها العبد الأجدع فعلام تدع فيئنا؟ فقال: لقد سببت أحب أذني إليذ فأبغضوه لذلك. واختصم أهل الكوفة وأهل البصرة، وادعى أهل البصرة قرى افتتحها أبو موسى دون أصبهان أيام أمد به عمر بن الخطاب أهل الكوفة. فقال لهم أهل الكوفة: أتيتمونا مدداً وقد افتتحنا البلاد فأنشبناكم في المغانم، والذمة ذمتنا والأرض أرضنا. فقال عمر: صدقوا. فقال أهل الأيام والقادسية ممن سكن البصرة: فلتعطونا نصيبنا مما نحن شركاؤهم فيه من سوادهم وحواشيهم. فأعطاهم عمر مائة دينار برضا أهل الكوفة أخذها من شهد الأيام والقادسية. ولما ولي معاوية، وكان هو الذي جند قنسرين من أتاه من أهل العراقين أيام علي، وإنما كان قنسرين رستاقاً من رساتيق حمص، فأخذ لهم معاوية حين ولي بنصيبهم ومن فتوح العراق وأذربيجان والموصل والباب لأنه من فتوح أهل الكوفة. وكان أهل الجزيرة والموصل يومئذ ناقلة، انتقل إليها كل من نزل بهجرته من أهل البلدين أيام علي، فأعطاهم معاوية من ذلك نصيباً. وكفر أهل أرمينية أيام معاوية، وقد أمر حبيب بن مسلمة على الباب، وحبيب يومئذ بجرزان، وكات أهل تفليس وتلك الجبال من جرزان فاستجابوا له. ذكر عزل عمار بن ياسر عن الكوفة وولاية أبي موسى والمغيرة بن شعبة وفيها عمل عمر بن الخطاب عمار بن ياسر عن الكوفة واستعمل أبا موسى. وسبب ذلك أن أهل الكوفة شكوه وقالوا له: إنه لا يحتمل ما هو فيه وإنه ليس بأمين، ونزا به أهل الكوفة. فدعاه عمر، فخرج معه وفدٌ يريد أنهم معه، فكانوا أشد عليه ممن تخلف عنه، وقالوا: إنه غير كافٍ وعالم بالسياسة ولا يدري على ما استعملته. وكان منهم سعد بن مسعود الثقفي، عم المختار، وجرير بن عبد الله، فسعيا به، فعزله عمر. وقال عمر لعمار: أساءك العزل؟ قال: ما سرني حين استعملت ولقد ساءني حين عزلت. فقال له: قد علمت ما أنت بصاحب عمل ولكني تأولت: (ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمةً ونجعلهم الوارثين) القصص: 5. ثم أقبل عمر على أهل الكوفة فقال: من تريدون؟ قالوا: أبا موسى. فأمره عليهم بعد عمار. فأقام عليهم سنة فباع غلامه العلف، فشكاه الوليد ابن عبد شمس وجماعة معه وقالوا: إن غلامه يتجر في جسرنا، فعزله عنهم وصرفه إلى البصرة. وصرف عمر ابن سراقة إلى الجزيرة. وخلا عمر في ناحية المسجد فنام، فأتاه المغيرة بن شعبة فحرسه حتى استيقظ، فقال: ما فعلت هذا يا أمير المؤمنين إلا من عظيم. فقال: وأي شيء أعظم من مائة ألف لا يرضون عن أمير ولا يرضى عنهم أمير؟ وأحيطت الكوفة حين اختطت على مائة ألف مقاتل. وأتاه أصحابه فقالوا: ما شأنك؟ فقال: إن أهل الكوفة قد عضلوني. واستشارهم فيمن يوليه. وقال: ما تقولون في تولية رجل ضعيف مسلم أو رجل قوي مسدد؟ فقال المغيرة: أما الضعيف المسلم فإن إسلامه لنفسه وضعفه عليك، وأما القوي المسدد فإن سداده لنفسه وقوته للمسلمين. فولى المغيرة الكوفة، فبقي عليها حتى مات عمر، وذلك نحو سنتين وزيادة. وقال له حين بعثه: يا مغيرة ليأمنك الأبرار وليخفك الفجار. ثم أراد عمر أن يبعث سعداً على عمل المغيرة فقتل عمر قبل ذلك فأوصى به. ذكر فتح خراسانوفي هذه السنة غزا الأحنف بن قيس خراسان، في قول بعضهم. وقيل: سنة ثماني عشرة. وسبب ذلك أن يزدجرد لما سار إلى الري بعد هزيمة أهل جلولاء وانتهى إليها وعليها أبان جاذويه وثب عليه فأخذه. فقال يزدجرد: يا أبان تغدرني! قال: لا ولكن قد تركت ملكك فصار في يد غيرك فأحببت أن أكتتب على ما كان لي من شيء. وأخذ خاتم يزدجرد واكتتب الصكاك وسجل السلاجت بكل ما أعجبه ثم ختم عليها ورد الخاتم، ثم أتى بعد سعداً فرد عليه كل شيء في كتابه.
وسار يزدجرد من الري إلى أصبهان، ثم منها إلى كرمان والنار معه، ثم قصد خراسان فأتى مرو فنزلها وبنى للنار بيتاً واطمأن وأمن من أن يؤتى، ودان له من بقي من الأعاجم. وكاتب الهرمزان وأثار أهل فارس، فنكثوا، وأثار أهل الجبال والفيرزان، فنكثوا، فأذن عمر للمسلمين فدخلوا بلاد الفرس، فسار الأحنف إلى خراسان فدخلها من الطبسين فافتتح هراة عنوةً واستخلف عليها صحار بن فلان العبدي، ثم سار نحو مرو الشاهجان فأرسل إلى نيسابور مطرف ابن عبد الله بن الشخير وإلى سرخس الحرث بن حسان، فلما دنا الأحنف من مرو الشاهجان خرج منها يزدجرد إلى مرو الروذ حتى نزلها، ونزل الأحنف مرو الشاهجان، وكتب يزدجرد، وهو بمر الروذ، إلى خاقان وغلى ملك الصغد وإلى ملك الصين يستمدهم. وخرج الأحنف من مرو الشاهجان واستخلف عليها حارثة بن النعمان الباهلي بعد ما لحقت به أمداد أهل الكوفة، وسار نحو مرو الروذ. فلما سمع يزدجرد سار عنها إلى بلخ ونزل الأحنف مرو الروذ. وقدم أهل الكوفة إلى يزدجرد واتبعهم الأحنف، فالتقى أهل الكوفة ويزدجرد ببلخ، فانهزم يزدجرد وعبر النهر ولحق الأحنف بأهل الكوفة، وقد فتح الله عليهم؛ فبلخ من فتوحهم. وتتابع أهل خراسان من هرب وشذ على الصلح فيما بين نيسابور إلى طخارستان، وعاد الأحنف إلى مرو الروذ فنزلها، واستخلف على طخارستان ربعي بن عامر، وكتب الأحنف إلى عمر بالفتح فقال عمر: وددت أن بيننا وبينها بحراً من نار. فقال علي: ولم يا أمير المؤمنين؟ قال: لأن أهلها سينفضون منها ثلاث مرات فيجتاحون في الثالثة، فكان ذلك بأهلها أحب إلي من أن يكون بالمسلمين. وكتب عمر إلى الأحنف أن يقتصر على ما دون النهر ولا يجوزه. ولما عبر يزدجرد النهر مهزوماً أنجده خاقان في الترك وأهل فرغانة والصغد، فرجع يزدجرد وخاقان إلى خراسان فنزلا بلخ، ورجع أهل الكوفة إلى الأحنف بمرو الروذ، ونزل المشركون عليه بمرو أيضاً. وكان الأحنف لما بلغه خبر عبور يزدجرد وخاقان النهر إليه خرج ليلاً يتسمع هل يسمع برأي ينتفع به، فمر برجلين ينقيان علفاً وأحدهما يقول لصاحبه: لو أسندنا الأمير إلى هذا الجبل فكان النهر بيننا وبين عدونا خندقاً وكان الجبل في ظهورنا فلا يأتونا من خلفنا وكان قتالنا من وجه واحد رجوت أن ينصرنا الله. فرجع، فلما أصبح جمع الناس ورحل بهم إلى سفح الجبل، وكان معه من أهل البصرة عشرة آلاف ومن أهل الكوفة نحو منهم، وأقبلت الترك ومن معها فنزلت وجعلوا يغادرونهم القتال ويراوحونهم وفي الليل يتنحون عنهم. فخرج الأحنف ليلةً طليعةً لأصحابه حتى إذا كان قريباً من عسكر خاقان وقف، فلما كان وجه الصبح خرج فارس من الترك بطوقه فضرب بطبله ثم وقف من العسكر موقفاً يقفه مثله، فحمل عليه الأحنف فتقاتلا فطعنه الأحنف فقتله وأخذ طوق التركي ووقف، فخرج آخر من الترك ففعل فعل صاحبه، فحمل عليه الأحنف فتقاتلا فطعنه فقتله وأخذ طوقه ووقف، ثم خرج الثالث من الترك ففعل فعل الرجلين، فحمل عليه الأحنف فقتله، ثم انصرف الأحنف إلى عسكره. وكانت عادة الترك أنهم لا يخرجون حتى يخرج ثلاثة من فرسانهم أكفاء كلهم يضرب بطبله ثم يخرجون بعد خروج الثالث. فلما خرجوا تلك الليلة بعد الثالث فأتوا على فرسانهم مقتلين تشاءم خاقان وتطير فقال: قد طال مقامنا وقد أصيب فرساننا، ما لنا في قتال هؤلاء القوم خير؛ فرجعوا. وارتفع النهار للمسلمين ولم يروا منهم أحداً، وأتاهم الخبر بانصراف خاقان والترك إلى بلخ، وقد كان يزدجرد ترك خاقان مقابل المسلمين بمرو الروذ وانصرف إلى مرو الشاهجان، فتحصن حارثة بن النعمان ومن معه، فحصرهم واستخرج خزائنه من موضعها وخاقان مقيم ببلخ. فقال المسلمون للأحنف: ما ترى في اتباعهم؟ فقال: أقيموا بمكانكم ودعوهم.
فلما جمع يزدجرد خزائنه، وكانت كبيرة عظيمة، وأراد أن يلحق بخاقان قال له أهل فارس: أي شيء تريد أن تصنع؟ قال: أريد اللحاق بخاقان فأكون معه أو بالصين. قالوا له: إن هذا رأي سوء، ارجعبنا إلى هؤلاء القوم فنصالحهم فإنهم | |
|
 | |
الشيخ عودة الشيخ عودة

عدد المساهمات : 1748 تاريخ التسجيل : 28/09/2008 العمر : 72
 | موضوع: رد: كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير الثلاثاء فبراير 11, 2014 2:59 am | |
| ولما وصل خبر الفتح إلى عمر بن الخطاب جمع الناس، وخطبهم وقرأ عليهم كتاب الفتح وحمد الله في خطبته على إنجاز وعده ثم قال: ألا وإن ملك المجوسية قد هلك فليسوا يملكون من بلادهم شبراً يضر بمسلم. ألا وإن الله قد أورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأبناءهم لينظر كيف تعملون، فلا تبدلوا فيستبدل الله بكم غيركم، فإني لا أخاف على هذه الأمة أن تؤتى إلا من قبلكم. وقيل: إن فتح خراسان كان زمن عثمان، وسيرد هناك. ذكر فتح شهرزور والصامغانلما استعمل عمر عزرة بن قيس على حلوان حاول فتح شهرزور، فلم يقدر عليها، فغزاها عتبة بن فرقد ففتحها بعد قتال على مثل صلح حلوان، فكانت العقارب تصيب الرجل من المسلمين فيموت. وصالح أهل الصامغان وداراباذ على الجزية والخراج على أن لا يقتلوا ولا يسبوا ولا يمنعوا طريقاً يسلكونه، وقتل خلقاً كثيراً من الأكراد. وكتب إلى عمر: إن فتحوحي قد بلغت أذربيجان. فولاه إياها وولى هرثمة بن عرفجة الموصل. ولم تزل شهرزور وأعمالها مضمومة إلى الموصل حتى أفردت عنها آخر خلافة الرشيد. ذكر عدة حوادثفي هذه السنة غزا معاوية بلاد الروم ودخلها في عشرة آلاف فارس من المسلمين. وفيها ولد يزيد بن معاوية وعبد الملك بن مروان. وحج بالناس في هذه السنة عمر بن الخطاب؛ وكان عماله على الأمصار فيها عمالة في السنة قبلها إلا الكوفة، فإن عامله كان عليها المغيرة بن شعبة، وإلا البصرة فإن عامله عليها صار أبا موسى الأشعري. ثم دخلت سنة ثلاث وعشرينقال بعضهم: كانفتح إصطخر سنة ثلاث وعشرين. وقيل: كان فتحها بعد توج الآخرة.
ذكر الخبر عن فتح توج لما خرج أهل البصرة الذين توجهوا إلى فارس أمراء عليها وكان معهم سارية ابن زنيم الكناني فساروا وأهل فارس مجتمعن بتوج فلم يقصدهم المسلمون بل توجه كل أمير إلى الجهة التي أمر بها. وبلغ ذلك أهل فارس، فافترقوا إلى بلدانهم كما افترق المسلمون، فكانت تلك هزيمتهم وتشتت أمورهم. فقصد مجاشع بن مسعود لسابور وأردشير خرة، فالتقى هو والفرس بتوج فاقتتلوا ما شاء الله، ثم انهزم الفرس وقتلهم المسلمون كيف شاؤوا كل قتلة وغنموا ما في عسكرهم وحصروا توج فافتتحوها وقتلوا منهم خلقاً كثيراً وغنموا ما فيها، وهذه توج الآخرة، والأولى هي التي استقدمتها جنود العلاء بن الحضرمي أيام طاووس. ثم دعوا إلى الجزية فرجعوا وأقروا بها. وأرسل مجاشع بن مسعود السلمي بالبشارة والأخماس إلى عمر بن الخطاب. ذكر فتح إصطخر وجور وغيرهماوقصد عثمان بن أبي العاص الثقفي لإصطخر فالتقى هو وأهل إصطخر بجور فاقتتلوا وانهزم الفرس وفتح المسلمون جور ثم إصطخر وقتلوا ما شاء الله، ثم فر منهم من فر، فدعاهم عثمان إلى الجزية والذمة، فأجابه الهربذ إليها، فتراجعوا، وكان عثمان قد جمع الغنائم لما هزمهم فبعث بخمسها إلى عمر وقسم الباقي في الناس. وفتح عثمان كازرون والنوبندجان وغلب على أرضها؛ وفتح هو وأبو موسى مدينة شيراز وأرجان، وفتحا سينيز على الجزية والخراج. وقصد عثمان أيضاً جنابا ففتحها، ولقيه جمع الفرس بناحية جهرم فهزمهم وفتحها. ثم إن شهرك خلع في آخر خلافة عمر وأول خلافة عثمان. فوجه إليه عثمان بن أبي العاص ثانيةً وأتته الأمداد من البصرة وأميرهم عبيد الله بن معمر وشبل بن معبد، فالتقوا بأرض فارس. فقال شهرك لابنه وهما في المعركة، وبينهما وبين قرية لهما تدعى ريشهر ثلاثة فراسخ: يا بني أين يكون غداؤنا ههنا أم بريشهر؟ قال له: يا أبه، إن تركونا فلا يكون غداؤنا ههنا ولا بريشهر ولا نكونن إلا في المنزل، ولكن والله ما أراهم يتركوننا. فلما فرغا من كلامهما حتى أنشب المسلمون الحرب فاقتتلوا قتالاً شديداً وقتل شهرك وابنه وخلق عظيم. والذي قتل شهرك الحكم بن أبي العاص أخو عثمان. وقيل: قتله سوار بن همام العبدي حمل عليه فطعنه فقتله. وحمل ابن شهرك على سوار فقتله. وقيل: إن إصطخر كانت سنة ثمان وعشرين، وكانت فارس الآخرة سنة تسع وعشرين. وقيل: إن عثمان بن أبي العاص أرسل أخاه الحكم من البحرين في ألفين إلى فارس ففتح جزيرة بركاوان في طريقه ثم سار إلى توج، وكان كسرى أرسل شهرك فالتقوا مع شهرك، وكان الجارود وأبو صفرة على مجنبتي المسلمين، وأبو صفرة هذا هو والد المهلب، فحمل الفرس على المسلمين فهزموهم. فقال الجارود: أيها الأمير ذهب الجند. فقال: سترى أمرك. قال: فما لبثوا حتى رجعت خيلٌ لهم ليس عليها فرسانها والمسلمون يتبعونهم يقتلونهم، فنثرت الرؤوس بين يدي ومعي بعض ملوكهم يقال المكعبر فارق كسرى ولحق بي فرأى المكعبر رأساً ضخماً فقال: أيها الأمير هذا رأس الازدهاق، يعني شهرك. وحوصر الفرس بمدينة سابور، فصالح عليها ملكها أرزنبان، فاستعان به الحكم على قتال أهل إصطخر. ومات عمر. وبعث عثمان بن عفان عبيد الله بن معمر مكانه، فبلغ عبيد الله أن أرزنبان يريد الغدر به، فقال له: أحب أن تتخذ لأصحابي طعاماً وتذبح لهم بقرة وتجعل عظامها في الجفنة التي تليني فإني أحب أن أتمشش العظام، ففعل وجعل يأخذ العظم الذي لا يكسر إلا بالفؤوس فيكسره بيده ويأخذ مخه، وكان من أشد الناس، فقام أرزنبان فأخذ برجله وقال: هذا مقام العائذ بك! فأعطاه عهداً. وأصاب عبيد الله منجنيق فأوصاهم وقال: إنكم ستفتحون هذه المدينة إن شاء الله فاقتلوهم بي ساعة فيها، ففعلوا، فقتلوا منهم بشراً كثيراً، ومات عبيد الله بن معمر. وقيل: إن قتله كان سنة تسع وعشرين. ذكر فتح فسا ودارابجرد
وقصد سارية بن زنيم الدئلي فسا ودار ابجرد حتى انتهى إلى عسكرهم فنزل عليهم وحاصرهم ما شاء الله، ثم إنهم استمدوا وتجمعوا وتجمعت إليهم أكراد فارس، فدهم المسلمين أمر عظيم، وجمعٌ كثير، وأتاهم الفرس من كل جانب، فرأى عمر فيما يرى النائم تلك الليلة معركتهم وعددهم في ساعة من النهار، فنادى من الغد: الصلاة جامعة! حتى إذا كان في الساعة التي رأى فيها ما رأى خرج إليهم، وكان ابن زنيم والمسلمون بصحراء إن أقاموا فيها أحيط بهم، وإن استندوا إلى جبل من خلفهم لم يؤتوا إلا من وجه واحد. فقام فقال: يا أيها الناس، إني رأيت هذين الجمعين، وأخبر بحالهما. وصاح عمر وهو يخطب: يا سارية بن زنيم، الجبل الجبل! ثم أقبل عليهم وقال: إن لله جنوداً، ولعل بعضها أن يبلغهم. فسمع سارية ومن معه الصوت فلجؤوا إلى الجبل، ثم قاتلوهم، فهزمهم الله وأصاب المسلمون مغانمهم، وأصابوا في الغنائم سفطاً فيه جوهر، فاستوهبه منهم سارية وبعث به وبالفتح مع رجل إلى عمر. فقدم على عمر وهو يطعم الطعام، فأمره فجلس وأكل، فلما انصرف عمر اتبعه الرسول، فظن عمر أنه لم يشبع، فأمره فدخل بيته، فلما جلس أتي عمر بغدائه خبز وزيت وملح جريش فأكلا. فلما فرغا قال الرجل: أنا رسول سارية يا أمير المؤمنين. قال: مرحباً وأهلاً. ثم أدناه حتى مست ركبته ركبته، وسأله عن المسلمين، فأخبره بقصة الدرج، فنظر إليه وصاح به: لا ولا كرامة حتى يقدم على ذلك الجند فيقسمه بينهم. فطرده، فقال: يا أمير المؤمنين، إني قد أنضيت جملي واستقرضت في جائزتي فأعطني ما أتبلغ به. فما زال به حتى أبدله بعيراً من إبل الصدقة وجعل بعيره في إبل الصدقة ورجع الرسول مغضوباً عليه محروماً. وسأل أهل المدينة الرسول هل سمعوا شيئاً يوم الوقعة؟ قال: نعم سمعنا: يا سارية، الجبل الجبل، وقد كدنا نهلك فلجأنا إليه ففتح الله علينا. ذكر فتح كرمانثم قصد سهيل بن عدي كرمان، ولحقه أيضاً عبد الله بن عبد الله بن عتبان، وعلى مقدمة سهيل بن عدي النسير بن عمرو العجلي وحشد لهم أهل كرمان واستعانوا عليهم بالقفص، فاقتتلوا في أداني أرضهم، ففض الله تعالى المشركين وأخذ المسلمون عليهم الطريق. وقتل النسير ابن عمرو العجلي مرزبانها، فدخل النسير من قبل طريق القرى اليوم إلى جيرفت، وعبد الله بن عبد الله من مفازة سير، فأصابوا ما أرادوا من بعير أو شاء، فقوموا الإبل والغنم فتحاصوها بالأثمان لعظم البخت على العراب، وكرهوا أن يزيدوا، وكتبوا إلى عمر بذلك، فأجابهم: إذا رأيتم أن في البخت فضلاً فزيدوا. وقيل: إن الذي فتح كرمان عبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعي في خلافة عمر، ثم أتى الطبسين من كرمان، ثم قدم على عمر فقال: أقطعني الطبسين، فأراد أن يفعل، فقيل: إنهما رستاقان عظيمان، فامتنع عمر من ذلك. ذكر فتح سجستانوقصد عاصم بن عمرو سجستان، ولحقه عبد الله بن عمير، فاستقبلهم أهلها، فالتقوا هم وأهل سجستان في أداني أرضهم، فهزمهم المسلمون، ثم اتبعوهم حتى حصروهم بزرنج ومخروا أرض سجستان ماه، ثم إنهم طلبوا الصلح على زرنج وما احتازوا من الأرضين فأعطوا، وكانوا قد اشترطوا في صلحهم أن فدافدها حمىً، فكان المسلمون يتجنبونها خشية أن يصيبوا منها شيئاً فيخفروا، وأقيم أهل سجستان على الخراج، وكانت سجستان أعظم من خراسان وأبعد فروجاً، يقاتلون القندهار والترك وأمماً كثيرة، فلم يزل كذلك حتى كان زمن معاوية، فهرب الشاه من أخيه رتبيل إلى بلد فيها يدعى آمل، ودان لسلم بن زياد، وهو يومئذ على سجستان، ففرح بذلك وعقد لهم وأنزلهم البلاد وكتب إلى معاوية بذلك يري أنه فتح عليه. فقال معاوية: إن ابن أخي ليفرح بأمرٍ إنه ليحزنني وينبغي له أن يحزنه. قال: ولم يا أمير المؤمنين؟ قال: إن آمل بلدة بينها وبين زرنج صعوبة وتضايق، وهؤلاء قوم غدر، فإذا اضطرب الحبل غداً فأهون ما يجيء منهم أنهم يغلبون على بلاد آمل بأسرها. وأقرهم على عهد سلم بن زياد. فلما وقعت الفتنة بعد معاوية كفر الشاه وغلب على آمل واعتصم منه رتبيل بمكانه، ولم يرضه ذلك حين تشاغل عنه الناس حتى طمع في زرنج فغزاها وحصر من بها حتى أتتهم الأمداد من البصرة، وصار رتبيل والذين معه عصبة، وكانت تلك البلاد مذللة إلى أن مات معاوية.
وقيل في فتح سجستان غير هذا، وسيرد ذكره إن شاء الله تعالى. ذكر فتح مكرانوقصد الحكم بن عمرو التغلبي مكران حتى انتهى إليها، ولحق به شهاب ابن المخارق وسهيل بن عدي وعبد الله بن عبد الله بن عتبان، فانتهوا إلى دوين النهر، وأهل مكران على شاطئه، فاستمد ملكهم ملك السند، فأمده بجيش كثيف، فالتقوا مع المسلمين فانهزموا وقتل منهم في المعركة مقتلة عظيمة واتبعهم المسلمون يقتلونهم أياماً حتى انتهوا إلى النهر، ورجع المسلمون إلى مكران فأقاموا بها. وكتب الحكم إلى عمر بالفتح وبعث إليه بالأخماس مع صحار العبدي. فلما قدم المدينة سأله عمر عن مكران، فقال: يا أمير المؤمنين، هي أرض سهلها جبل، وماؤها وشلٌ، وتمرها دقلٌ، وعدوها بطل؛ وخيرها قليلٌ، وشرها طويلٌ، والكثير فيها قليلٌ، والقليل فيها ضائع، وما وراءها شر منها، فقال: أسجاع أنت أم مخبر؟ لا والله لا يغزوها جيش لي أبداً. وكتب إلى سهيل والحكم بن عمرو: أن لا يجوزن مكران أحد من جنودكما. وأمرهما ببيع الفيلة التي غنمها المسلمون ببلاده الإسلام وقسم أثمانها على الغانمين، مكران بضم الميم وسكون الكاف. ذكر خبر بيروذ من الأهوازولما فصلت الخيول إلى الكور، اجتمع ببيروذ جمعٌ عظيمٌ من الأكراد وغيرهم. وكان عمر قد عهد إلى أبي موسى أن يسير إلى أقصى ذمة البصرة حتى لا يؤتى المسلمون من خلفهم، وخشي أن يهلك بعض جنوده أو يخلفوا في أعقابهم، فاجتمع الأكراد ببروذ، وأبطأ أبو موسى حتى تجمعوا، ثم سار فنزل بهم ببيروذ، فالتقوا في رمضان بين نهر تيري ومناذر، فقام المهاجر بن زياد وقد تحنط واستقتل، وعزم أبو موسى على الناس فأفطروا، وتقدم المهاجر فقاتل قتالاً شديداً حتى قتل. ووهن الله المشركين حتى تحصنوا في قلة وذلة، واشتد جزع الربيع بن زياد على أخيه المهاجر وعظم عليه فقده، فرق له أبو موسى فاستخلفه عليهم في جند، وخرج أبو موسى حتى بلغ أصبهان واجتمع بها بالمسلمين الذين يحاصرون جياً، فلما فتحت رجع أبو موسى إلى البصرة، وفتح الربيع بن زياد الحارثي بيروذ من نهر تيري وغنم ما معهم. ووفد أبو موسى وفداً معهم الأخماس، فطلب ضبة بن محصن العنزي أن يكون في الوفد فلم يجبه أبو موسى، وكان أبو موسى قد اختار من سبي بيروذ ستين غلاماً، فانطلق ضبة إلى عمر شاكياً، وكتب أبو موسى إلى عمر يخبره، فلما قدم ضبة على عمر سلم عليه. فقال: من أنت؟ فأخبره. فقال: لا مرحباً ولا أهلاً! فقال: أما المرحب فمن الله، وأما الأهل فلا أهل. ثم سأله عمر عن حاله فقال: إن أبا موسى انتقى ستين غلاماً من أبناء الدهاقين لنفسه وله جارية تغدى جفنةً وتعشى جفنةً تدعى عقيلة، وله قفيزان وله خاتمان، وفوض إلى زياد بن أبي سفيان أمور البصرة، وأجاز الحطيئة بألف. فاستدعى عمر أبا موسى. فلما قدم عليه حجبه أياماً ثم استدعاه فسأل عمر ضبة عما قال فقال: أخذ ستين غلاماً لنفسه. فقال أبو موسى: دللت عليهم وكان لهم فداء ففديتهم وقسمته بين المسلمين. فقال ضبة: ما كذب ولا كذبت. فقال: له قفيزان. فقال أبو موسى: قفيزٌ لأهلي أقوتهم به وقفيز للمسلمين في أيديهم يأخذون به أرزاقهم. فقال ضبة: ما كذب ولا كذبت. فلما ذكر عقيلة سكت أبو موسى ولم يعتذر. فعلم أن ضبة قد صدقه، قال: وولى زياداً. قال: رأيت له رأياً ونبلاً فأسندت إليه عملي. قال: وأجاز الحطيئة بالف. قال: سددت فمه بمالي أن يشتمني. فرده عمر وأمره أن يرسل إليه زياداً وعقيلة، ففعل. فلما قدم عليه زياد سأله عن حاله وعطائه والفرائض والسنن والقرآن، فرآه فقيهاً، فرده وأمر أمراء البصرة أن يسيروا برأيه، وحبس عقيلة بالمدينة. وقال عمر: ألا إن ضبة غضب على أبي موسى وفارقه مراغماً أن فاته أمر من أمور الدنيا فصدق عليه وكذب، فأفسد كذبه صدقه، فإياكم والكذب فإنه يهدي إلى النار. بيروذ: بفتح الباء الموحدة، وسكون الياء تحتها نقطتان، وضم الراء، وسكون الواو، وآخره ذال معجمة. ذكر خبر سلمة بن قيس الأشجعي والأكراد
كان عمر إذا اجتمع إليه جيش من المسلمين أمر عليهم أميراً من أهل العلم والفقه، فاجتمع إليه جيش من المسلمين، فبعث عليهم سلمة بن قيس الأشجعي. فقال: سر باسم الله، قاتل في سبيل الله من كفر بالله، فإذا لقيتم عدوكم فادعوهم إلى الإسلام، فإن أجابوا وأقاموا بدارهم فعليهم الزكاة وليس لهم من الفيء نصيب، وإن ساروا معكم فلهم مثل الذي لكم وعليهم مثل الذي عليكم، وإن أبوا فادعوهم إلى الجزية، فإن أجابوا فاقبلوا منهم وإن أبوا فقاتلوهم، وإن تحصنوا منكم وسألوكم أن ينزلوا على حكم الله ورسوله أو ذمة الله ورسوله فلا تجيبوهم، فإنكم لا تدرون أتصيبون حكم الله ورسوله وذمتهما أم لا؛ ولا تغدروا، ولا تقتلوا وليداً، ولا تمثلوا. قال: فساروا حتى لقوا عدواً من الأكراد المشركين فدعوهم إلى الإسلام أو الجزية، فلم يجيبوا، فقاتلوهم فهزموهم وقتلوا المقاتلة وسبوا الذرية فقسمه بينهم، ورأى سلمة جوهراً في سفط فاسترضى عنه المسلمين وبعث به إلى عمر. فقدم الرسول بالبشارة وبالسقط على عمر، فسأله عن أمور الناس وهو يخبره، حتى أخبره بالسفط، فغضب غضباً شديداً وأمر به فوجىء به في عنقه، ثم إنه قال: إن تفرق الناس قبل أن تقدم عليهم ويقسمه سلمة فيهم لأسوءنك. فسار حتى قدم على سلمة فباعه وقسمه في الناس. وكان الفص يباع بخمسة دراهم وقيمته عشرون ألفاً. وحج بالناس هذه السنة عمر بن الخطاب وحج معه أزواج النبي، صلى الله عليه وسلم، وهي آخر حجة حجها، وفيها قتل عمر، رضي الله عنه. ذكر الخبر عن مقتل عمر رضي الله عنه قال المسور بن مخرمة: خرج عمر بن الخطاب يطوف يوماً في السوق، فلقيه أبو لؤلؤة غلام المغيرة بن شعبة، وكان نصرانياً، فقال: يا أمير المؤمنين، أعدني على المغيرة بن شعبة فإن علي خراجاً كثيراً. قال: وكم خراجك؟ قال: درهمان كل يوم. قال: وأيشٍ صناعتك؟ قال: نجار، نقاش، حداد. قال: فما أرى خراجك كثيراً على ما تصنع من الأعمال، وقد بلغني أنك تقول: لو أردت أن أصنع رحى تطحن بالريح لفعلت! قال: نعم. قال: فاعمل لي رحى. قال: لئن سلمت لأعملن لك رحىً يتحدث بها من بالمشرق والمغرب! ثم انصرف عنه. فقال عمر: لقد أوعدني العبد الآن. ثم انصرف عمر إلى منزله، فلما كان الغد جاءه كعب الأحبار فقال له: يا أمير المؤمنين، اعهد فإنك ميت في ثلاث ليال. قال: وما يدريك؟ قال: أجده في كتاب التوراة. قال عمر: الله! إنك لتجد عمر بن الخطاب في التوراة؟ قال: اللهم لا ولكني أجد حليتك وصفتك وأنك قد فني أجلك. قال: وعمر لا يحس وجعاً! فلما كان الغد جاءه كعب فقال: بقي يومان. فلما كان الغد جاءه كعبٌ فقال: مضى يومان وبقي يوم. فلما أصبح خرج عمر إلى الصلاة وكان يوكل بالصفوف رجالاً فإذا استوت كبر، ودخل أبو لؤلؤة في الناس وبيده خنجر له رأسان نصابه في وسطه، فضرب عمر ست ضربات إحداهن تحت سرته وهي التي قتلته، وقتل معه كليب بن أبي البكير الليثي وكان خلفه، وقتل جماعة غيره. فلما وجد عمر حر السلاح سقط وأمر عبد الرحمن بن عوف فصلى بالناس، وعمر طريح، فاحتمل فأدخل بيته، ودعا عبد الرحمن فقال له: إني أريد أن أعهد إليك. قال: أتشير علي بذلك؟ قال: لا. قال: والله، لا أدخل فيه أبداً. قال: فهبني صمتاً حتى أعهد إلى النفر الذين توفي رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وهو عنهم راضٍ. ثم دعا علياً وعثمان والزبير وسعداً فقال: انتظروا أخاكم طلحة ثلاثاً فإن جاء وإلا فاقضوا أمركم؛ أنشدك الله يا علي إن وليت من أمور الناس شيئاً ألا تحمل بني هاشم على رقاب الناس، أنشدك الله يا عثمان إن وليت من أمور الناس شيئاً ألا تحمل بني أبي معيط على رقاب الناس، أنشدك الله يا سعد إن وليت من أمور الناس شيئاً ألا تحمل أقاربك على رقاب الناس، قوموا فتشاوروا ثم اقضوا أمركم وليصل بالناس صهيب.. ثم دعا أبا طلحة الأنصاري، فقال: قم على بابهم فلا تدع أحداً يدخل إليهم.
وأوصي الخليفة من بعدي بالأنصار الذي تبوأوا الدار والإيمان أن يحسن إلى محسنهم ويعفو عن مسيئهم، وأوصي الخليفة بالعرب، فإنهم مادة الإسلام، أن يؤخذ من صدقاتهم حقها فتوضع في فقرائهم، وأوصي الخليفة بذمة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أن يوفي لهم بعهدهم، اللهم هل بلغت؟ لقد تركت الخليفة من بعدي على أنقى من الراحة؛ يا عبد الله بن عمر، اخرج فانظر من قتلني. قال: يا أمير المؤمنين، قتلك أبو لؤلؤة غلام المغيرة بن شعبة. قال: الحمد لله الذي لم يجعل منيتي بيد رجل سجد لله سجدةً واحدةً! يا عبد الله بن عمر، اذهب إلى عائشة فسلها أن تأذن لي أن أدفن مع النبي، صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر. يا عبد الله، إن اختلف القوم فكن مع الأكثر، فإنن تشاوروا فكن مع الحزب الذي فيه عبد الرحمن بن عوف، يا عبد الله، ائذن للناس. فجعل يدخل عليه المهاجرون والأنصار فيسلمون عليه ويقول لهم: أهذا عن ملإٍ منكم؟ فيقولون: معاذ الله! قال: ودخل كعب الأحبار مع الناس فلما رآه عمر قال: توعدني كعبٌ ثلاثاً أعدها ... ولا شك أن القول ما قال لي كعب وما بي حذار الموت، إني لميتٌ ... ولكن حذار الذنب يتبعه الذنب ودخل عليه علي يعوده فقعد عند رأسه، وجاء ابن عباس فأثنى عليه، فقال له عمر: أنت لي بهذا يا ابن عباس؟ فأومأ إليه علي أن قل نعم. فقال ابن عباس: نعم. فقال عمر: لا تغرني أنت وأصحابك. ثم قال: يا عبد الله، خذ رأسي عن الوسادة فضعه في التراب لعل الله، جل ذكره، ينظر إلي فيرحمني، والله لو أن لي ما طلعت عليه الشمس لافتديت به من هول المطلع. ودعي له طبيب من بني الحرث بن كعب فسقاه نبيذاً فخرج غير متغير، فسقاه لبناً فخرج كذلك أيضاً، فقال له: اعهد يا أمير المؤمنين. قال: قد فرغت. ولما احتضر ورأسه في حجر ولده عبد الله قال: ظلومٌ لنفسي غير أني مسلمٌ ... أصلي الصلاة كلها وأصوم ولم يذكر الله تعالى ويديم الشهادة إلى ان توفي ليلة الأربعاء لثلاث بقين من ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين. وقيل: طعن يوم الأربعاء لأربع بقين من ذي الحجة ودفن يوم الأحد هلال محرم سنة أربع وعشرين. وكانت ولايته عشر سنين وستة أشهر وثمانية أيام، وبويع عثمان لثلاث مضين من المحرم. وقيل: كانت وفاته لأربع بقين من ذي الحجة وبويع عثمان لليلة بقيت من ذي الحجة استقبل بخلافته هلال محرم سنة أربع وعشرين. وكانت خلافة عمر على هذا القول عشر سنين وستة أشهر وأربعة أيام. وصلى عليه صهيب، وحمل إلى بيت عائشة، ودفن عند النبي، صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، ونزل في قبره عثمان وعلي والزبير وعبد الرحمن بن عوف وسعد وعبد الله بن عمر. ذكر نسب عمر وصفته وعمرهفأما نسبه فهو عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى بن رياح بن عبد الله بن قرط بن رزاح بن عدي بن كعب بن لؤي، وكنيته أبو حفص، وأمه حنتمة بنت هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وهي ابنت عم أبي جهل، وقد زعم من لا معرفة له أنها أخت أبي جهل، وليس بشيء. وسماه النبي، صلى الله عليه وسلم، الفاروق، وقيل: بل سماه أهل الكتاب. وأما صفته فكان طويلاً آدم أصلع أعسر يسراً، يعني يعمل بيديه، وكان لطوله كأنه راكبٌ، وقيل: كان أبيض أبهق، يعني شديد البياض، تعلوه حمرة، طوالاً أصلع أشيب، وكان يصفر لحيته ويرجل رأسه بالحناء. وكان مولده قبل الفجار بأربع سنين، وكان عمره خمساً وخمسين سنة، وقيل: ابن ستين سنة، وقيل: ابن ثلاث وستين سنة وأشهر، وهو الصحيح، وقيل: ابن إحدى وستين سنة. رياح بكسر الراء وبالياء تحتها نقطتان. ذكر أسماء ولده ونسائه
تزوج عمر في الجاهلية زينب بنت مظعون بن حبيب بن وهب بن حذافة بن جمح فولدت له عبد الله وعبد الرحمن الأكبر وحفصة. وتزوج مليكة بنت جرول الخزاعي في الجاهلية، فولدت له عبيد الله بن عمر، ففارقها في الهدنة، فخلف عليها أبو جهم بن حذيفة، وقتل عبيد الله بصفين مع معاوية، وقيل: كانت أمه أم زيد الأصغر أم كلثوم بنت جرول الخزاعي، وكان الإسلام فرق بينها وبين عمر. وتزوج قريبة بنت أبي أمية المخزومي في الجاهلية، ففارقها في الهدنة أيضاً، فتزوجها بعده عبد الرحمن ابن أبي بكر الصديق، فكانا سلفي رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لأن قريبة أخت أم سلمة زوج النبي، صلى الله عليه وسلم. وتزوج أم حكيم بنت الحرث بن هشام المخزومي في الإسلام، فولدت له فاطمة فطلقها، وقيل لم يطلقها. وتزوج جميلة أخت عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح الأوسي الأنصاري في الإسلام، فولدت له عاصماً فطلقها، ثم تزوج أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب، وأمها فاطمة بنت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأصدقها أربعين ألفاً، فولدت له رقية وزيداً. وتزوج لهية امرأة من اليمن، فولدت له عبد الرحمن الأوسط، وقيل الأصغر، وقيل: كانت أم ولد، وكانت عنده فكيهة أم ولد فولدت له زينب، وهي أصغر ولد عمر. وتزوج عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل، وكانت قبله عند عبد الله بن أبي بكر الصديق، فقتل عنها، فلما مات عمر تزوجها الزبير بن العوام، فقتل عنها أيضاً، فخطبها علي، فقالت: لا أفعل، إني أضن بك عن القتل فإنك بقية الناس. فتركها. وخطب أم كثلوم ابنة أبي بكر الصديق إلى عائشة، فقالت أم كثلوم: لا حاجة لي فيه، إنه خشن العيش شديدٌ على النساء. فأرسلت عائشة إلى عمرو ابن العاص فقال: أنا أكفيك. فأتى عمر فقال: بلغني خبرٌ أعيذك بالله منه. قال: ما هو؟ قال: خطبت أم كلثوم بنت أبي بكر. قال: نعم، أفرغبت بي عنها أم رغبت بها عني؟ قال: ولا واحدة، ولكنها حدثةٌ نشأت تحت كنف أمير المؤمنين في لين ورفق، وفيك غلظة، ونحن نهابك وما نقدر أن نردك عن خلق من أخلاقك، فكيف بها إن خالفتك في شيء فسطوت بها كنت قد خلفت أبا بكر في ولده بغير ما يحق عليك. وقال: فكيف بعائشة وقد كلمتها؟ قال: أنا لك بها وأدلك على خير منها، أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب تعلق منها بسبب من رسول الله، صلى الله عليه وسلم. وخطب أم أبان بنت عتبة بن ربيعة فكرهته وقالت: يغلق بابه، ويمنع خيره، ويدخل عابساً ويخرج عابساً. ذكر بعض سيرته رضي الله عنهقال عمر: إنما مثل العرب مثل جمل أنفٍ اتبع قائده فلينظر قائده حيث يقوده، فأما أنا فورب الكعبة لأحملنهم على الطريق! قال نافع العيشي: دخلت حير الصدقة مع عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب، قال: فجلس عثمان في الظل يكتب وقام علي على رأسه يملي عليه ما يقول عمر، وعمر قائم في الشمس في يوم شديد الحر عليه بردان أسودان اتزر بأحدهما ولف الآخر على رأسه يعد إبل الصدقة يكتب ألوانها وأسنانها. فقال علي لعثمان: في كتاب الله: (يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين) القصص: ثم أشار علي بيده إلى عمر وقال: هذا القوي الأمين. وقال عبد الله بن عامر بن ربيعة: رأيت عمر أخذ بتبنة من الأرض فقال: يا ليتني هذه التبنة، يا ليتني لم أك شيئاً، يا ليت أمي لم تلدني، يا ليتني كنت نسياً منسياً. وقال الحسن: قال عمر: لئن عشت إن شاء الله لأسيرن في الرعية حولاً فإني أعلم أن للناس حوائج تقطع دوني أما عمالهم فلا يرفعونها إلي، وأما هم فلا يصلون إلي، فأسير إلى الشام فأقيم شهرين، وبالجزيرة شهرين، وبمصر شهرين، وبالبحرين شهرين، وبالكوفة شهرين، وبالبصرة شهرين، والله لنعم الحول هذا! وقيل لعمر: إن ههنا رجلاً من الأنبار له بصر بالديوان لو اتخذته كاتباً. فقال: لقد اتخذت إذن بطانةً من دون المؤمنين. قيل: خطب عمر الناس فقال: والذي بعث محمداً، صلى الله عليه وسلم، بالحق لو أن جملاً هلك ضياعاً بشط الفرات لخشيت أن يسألني الله عنه.
وقال أبو فراس: خطب عمر الناس فقال: أيها الناس، إني والله ما أرسل إليكم عمالاً ليضربوا أبشاركم ولا ليأخذوا أموالكم وإنما أرسلهم إليكم ليعلموكم دينكم وسنتكم، فمن فعل به شيء سوى ذلك فليرفعه إلي، فوالذي نفس عمر بيده لأقصنه منه. فوثب عمرو بن العاص فقال: يا أمير المؤمنين، أرأيتك إن كان رجل من أمراء المسلمين على رعية فأدب بعض رعيته إن لتقصه منه؟ قال: إي والذي نفس عمر بيده إذن لأقصنه منه، وكيف لا أقصه منه وقد رأيت النبي، صلى الله عليه وسلم، يقص من نفسه! ألا لا تضربوا المسلمين فتذلوهم، ولا تحمدوهم فتفتنوهم، ولا تمنعوهم حقوقهم فتكفروهم، ولا تنزلوهم الغياض فتضيعوهم. قال بكر بن عبد الله: جاء عمر بن الخطاب إلى باب عبد الرحمن بن عوف وهو يصلي في بيته ليلاً، فقال له عبد الرحمن: ما جاء بك في هذه الساعة؟ قال: رفعةٌ نزلت في ناحية السوق خشيت عليهم سراق المدينة، فانطلق فلنحرسهم. فأتيا السوق فقعدا على نشز من الأرض يتحدثان، فرفع لهما مصباحٌ فقال عمر: ألم أنه عن المصابيح بعد النوم؟ فانطلقا فإذا قوم على شراب لهم. قال: انطلق فقد عرفته. فلما أصبح أرسل إليه قال يا فلان كنت وأصحابك البارحة على شراب! قال: وما أعلمك يا أمير المؤمنين؟ قال: شيء شهدته. قال: أو لم ينهك الله عن التجسس؟ فتجاوز عنه. وإنما نهى عمر عن المصابيح لأن الفأرة تأخذ الفتيلة فترمي بها في سقف البيت فتحرقه، وكانت السقوف من جريد، وقد كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، نهى عن ذلك قبله. وقال أسلم: وخرج عمر إلى حرة واقم وأنا معه، حتى إذا كنا بصرار إذا نار تسعر. فقال: انطلق بنا إليهم. فهرولنا حتى دنونا منهم فإذا بامرأة معها صبيان لها وقدر منصوبة على نار وصبيانها يتضاغون. فقال عمر: السلام عليكم يا أصحاب الضوء. وكره أن يقول: يا أصحاب النار. قالت: وعليك السلام. قال: أدنو؟ قالت: ادن بخير أو دع. فدنا فقال: ما بالكم؟ قالت: قصر بنا الليل والبرد. قال: فما بال هؤلاء الصبية يتضاغون؟ قالت: من الجوع. قال: وأي شيء في هذه القدر؟ قالت: ما لي ما أسكتهم حتى يناموا فأنا أعللهم وأوهمهم أني أصلح لهم شيئاً حتى يناموا، الله بيننا وبين عمر! قال: أي رحمك الله، ما يدري بكم عمر؟ قالت: يتولى أمرنا ويغفل عنا. فأقبل علي وقال: انطلق بنا. فخرجنا نهرول حتى أتينا دار الدقيق فأخرج عدلاً فيه كبة شحم فقال: احمله على ظهري. قال أسلم: فقلت: أنا أحمله عنك، مرتين أو ثلاث فقال آخر ذلك: أنت تحمل عني وزري يوم القيامة لا أم لك! فحملته عليه، فانطلق وانطلقت معه نهرول حتى انتهينا إليها، فألقى ذلك عندها وأخرج من الدقيق شيئاً فجعل يقول لها: ذري علي وأنا أحرك لك، وجعل ينفخ تحت القدر، وكان ذا لحية عظيمة، فجعلت أنظر إلى الدخان من خلل لحيته حتى أنضج ثم أنزل القدر، فأتته بصحفة فأفرغها فيها ثم قال: أطعميهم وأنا أسطح لك، فلم يزل حتى شبعوا، ثم خلى عندها فضل ذلك، وقام وقمت معه، فجعلت تقول: جزاك الله خيراً، أنت أولى بهذا الأمر من أمير المؤمنين! فيقول: قولي خيراً فإنك إذا جئت أمير المؤمنين وجدتني هناك، إن شاء الله! ثم تنحى ناحيةً ثم استقبلا وربض لا يكلمني حتى رأى الصبية يضحكون ويصطرعون ثم ناموا وهدأوا، فقام وهو يحمد الله، فقال: يا أسلم، الجوع أسهرهم وأبكاهم فأحببت أن لا أنصرف حتى أرى ما رأيت منهم. صرار بكسر الصاد المهملة ورائين. قال سالم بن عبد الله بن عمر: كان عمر إذا نهى الناس عن شيء جمع أهله فقال: إني نهيت الناس عن كذا وكذا، وإن الناس ينظرون إليكم نظر الطير إلى اللحم، وأقسم بالله لا أجد أحداً منكم فعله إلا أضعفت عليه العقوبة. قال سلام بن مسكين: وكان عمر إذا احتاج أتى صاحب بيت المال فاستقرضه، فربما أعسر فيأتيه صاحب بيت المال يتقاضاه فيلزمه فيحتال له عمر، وربما خرج عطاؤه فقضاه. قال: وهو أول من دعي بأمير المؤمنين وذلك أنه لما ولي قالوا له: يا خليفة خليفة رسول الله. فقال عمر: هذا أمر يطول، كلما جاء خليفة قالوا يا خليفة خليفة خليفة رسول الله، بل أنتم المؤمنون وأنا أميركم، فسمي أمير المؤمنين. وهو أول من كتب التاريخ، وقد تقدم.
وهو أول من اتخذ بيت مال، وأول من عس الليل، وأول من عاقب على الهجاء، وأول من نهى عن بيع أمهات الأولاد، وأول من جمع الناس في صلاة الجنازة على أربع تكبيرات، وكانوا قبل ذلك يصلون أربعاً وخمساً وستاً. قال الواقدي: وهو أول من جمع الناس على إمام يصلي بهم التراويح في شهر رمضان وكتب به إلى البلدان وأمرهم به، وهو أول من حمل الدرة وضرب بها، وأول من دون في الإسلام الدواوين وكتب الناس على قبائلهم وفرض لهم العطاء. قال زاذان: قال عمر لسلمان: أملك أنا أم خليفة؟ قال له سلمان: إن أنت جبيت من أرض المسلمين درهماً أو أقل أو أكثر ووضعته في غير حقه فأنت ملك غير خليفة. فبكى عمر. وقال أبو هريرة: يرحم الله ابن حنتمة! لقد رأيته عام الرمادة وإنه ليحمل على ظهره جرابين وعكة زيت في يده وإنه ليتعقب هو وأسلم، فلما رآني قال: من أين يا أبا هريرة؟ قلت: قريباً، فأخذت أعقبه فحملناه حتى انتهينا إلى صرار فإذا نحو من عشرين بيتاً من محارب، فقال لهم: ما أقدمكم؟ قالوا: الجهد، وأخرجوا لنا جلد الميتة مشوياً كانوا يأكلونه ورمة العظام مسحوقة كانوا يستفونها، فرأيت عمر طرح رداءه ثم اتزر فما زال يطبخ حتى أشبعهم، ثم أرسل أسلم إلى المدينة فجاءنا بأبعرة فحملهم عليها حتى أنزلهم الجنانة ثم كساهم، وكان يختلف إليهم وإلى غيرهم حتى رفع الله ذلك. قال أبو خيثمة: رأت الشفاء بنت عبد الله فتياناً يقصدون في المشي ويتكلمون رويداً، فقالت: ما هذا؟ قالوا: نساك، فقالت: كان والله عمر إذا تكلم أسمع، وإذا مشى أسرع، وإذا ضرب أوجع، وهو والله ناسك حقاً. قال الحسن: خطب عمر الناس وعليه إزار فيه اثنتا عشرة رقعة منها أدم. قال أبو عثمان النهدي: رأيت عمر يرمي الجمرة وعليه إزار مرقع بقطعة جراب، وقال عليٌّ: رأيت عمر يطوف بالكعبة وعليه إزار فيه إحدى وعشرون رقعة فيها من أدم. وقال الحسن: كان عمر يمر بالآية من ورده فيسقط حتى يعاد كما يعاد المريض، وقيل: إنه سمع قارئاً يقرأ والطور، فلما انتهى إلى قوله تعالى: (إن عذاب ربك لواقعٌ ما له من دافعٍ) الطور: 7، سقط ثم تحامل إلى منزله فمرض شهراً من ذلك. قال الشعبي: كان عمر يطوف في الأسواق ويقرأ القرآن ويقضي بين الناس حيث أدركه الخصوم. قال موسى بن عقبة: أتى رهط إلى عمر فقالوا له: كثر العيال واشتدت المؤونة فزدنا في عطائنا. قال: فعلتموها، جمعتم بين الضرائر واتخذتم الخدم من مال الله، لوددت أني وإياكم في سفينة في لجة البحر تذهب بنا شرقاً وغرباً فلن يعجز الناس أن يولوا رجلاً منهم فإن استقام اتبعوه وإن جنف قتلوه. فقال طلحة: وما عليك لو قلت: وإن تعوج عزلوه؟ قال: لا، القتل أنكل لمن بعده، احذروا فتى ابن قريش وابن كريمها الذي لا ينام إلا على الرضا ويضحك عند الغضب وهو يتناول من فوقه ومن تحته. قال مجالد: ذكر رجل عند عمر فقيل: يا أمير المؤمنين، فاضل لا يعرف من الشر شيئاً. قال: ذاك أوقع له فيه. قال صالح بن كيسان: قال المغيرة بن شعبة: لما دفن عمر أتيت علياً وأنا أحب أن أسمع منه في عمر شيئاً، فخرج ينفض رأسه ولحيته وقد اغتسل وهو ملتحف بثوب لا يشك أن الأمر يصير إليه، فقال: يرحم الله ابن الخطاب، لقد صدقت ابنة أبي حنتمة، ذهب بخيرها ونجا من شرها، أما والله ما قالت ولكن قولت. وقالت عاتكة بنت زيد بن عمرو في عمر: فجعني فيروز لا در دره ... بأبيض تالٍ للكتاب منيب رؤوفٍ على الأدنى غليظٍ على العدا ... أخي ثقةٍ في النائبات نجيب متى ما يقل لا يكذب القول فعله ... سريعٍ إلى الخيرات غير قطوب وقالت أيضاً: عين جودي بعبرةٍ ونحيب ... لا تملي على الإمام النجيب فجعتني المنون بالفارس المع ... لم يوم الهياج والتلبيب عصمة الناس والمعين على الده ... ر وغيثٍ المنتاب والمحروب قل لأهل الثراء والبؤس موتوا ... قد سقته المنون كأس شعوب
قال ابن المسيب: وحج عمر فلما كان بضجنان قال: لا إله إلا الله العظيم العلي المعطي ما شاء من شاء، كنت أرعى إبل الخطاب في هذا الوادي في مدرعة صوفٍ، وكان فظاً يتعبني إذا عملت ويضربني إذا قصرت، وقد أمسيت وليس بيني وبين الله أحد، ثم تمثل: لا شيء فيما ترى تبقى بشاشته ... يبقى الإله ويودي المال والولد لم تغن عن هرمزٍ يوماً خزائنه ... والخلد قد حاولت عادٌ فما خلدوا ولا سليمان إذ تجري الرياح به ... والإنس والجن فيما بينها يرد أين الملوك التي كانت نوافلها ... من كل أوبٍ إليها راكبٌ يفد حوضاً هنالك موروداً بلا كذبٍ ... لابد من ورده يوماً كما وردوا قال أسلم: إن هند بنت عتبة استقرضت عمر من بيت المال أربعة آلاف تتجر فيها وتضمنها، فأقرضها، فخرجت فيها إلى بلاد كلب فاشترت وباعت، فبلغها أن أبا سفيان وابنه عمراً أتيا معاوية، فعدلت إليه، وكان أبو سفيان قد طلقها، فقال لها معاوية: ما أقدمك أي أمه؟ قالت: النظر إليك أي بني، إنه عمر، وإنما يعمل لله وقد أتاك أبوك فخشيت أن تخرج إليه من كل شيء وأهل ذلك هو ولا يعلم الناس من أين أعطيته فيؤنبوك ويؤنبك عمر فلا يستقيلها أبداً. فبعث إلى أبيه وإلى أخيه بمائة دينار وكساهما وحملهما، فتسخطها عمرو، فقال أبو سفيان: لا تسخطها فإن هذا عطاء لم تغب عنه هند؛ ورجعوا جميعاً، فقال أبو سفيان لهند: أربحت؟ قالت: الله أعلم. فلما أتت المدينة وباعت شكت الوضيعة، فقال لها عمر: لو كان مالي لتركته لك، ولكنه مال المسلمين. وقال لأبي سفيان: بكم أجازك معاوية؟ قال: بمائة دينار. قال ابن عباس: بينما عمر بن الخطاب وأصحابه يتذاكرون الشعر فقال بعضهم: فلان أشعر، وقال بعضهم: بل فلان أشعر، قال: فأقبلت فقال عمر: قد جاءكم أعلم الناس بها، من أشعر الشعراء؟ قال: قلت: زهير بن أبي سلمى. فقال: هلم من شعره ما نستدل به على ما ذكرت. فقلت: امتدح قوماً من غطفان فقال: لو كان يقعد فوق الشمس من كرمٍ ... قومٌ لأولهم يوماً إذا قعدوا قومٌ أبوهم سنانٌ حين تنسبهم ... طابوا وطاب من الأولاد ما ولدوا جنٌّ إذا فزعوا إنسٌ إذا أمنوا ... ممردون بهاليلٌ إذا جهدوا محسدون على ما كان من نعمٍ ... لا ينزع الله منهم ما له حسدوا
فقال عمر: أحسن والله وما أعلم أحداً أولى بهذا الشعر من هذا الحي من بني هاشم لفضل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وقرابتهم منه. فقلت: وفقت يا أمير المؤمنين ولم تزل موفقاً! فقال: يا ابن عباس، أتدري ما منع قومكم منهم بعد محمد، صلى الله عليه وسلم؟ فكرهت أن أجيبه فقلت: إن لم أكن أدري فإن أمير المؤمنين يدريني! فقال عمر: كرهوا أن يجمعوا لكم النبوة والخلافة فتبجحوا على قومكم بجحاً بجحاً، فاختارت قريشٌ لأنفسها فأصابت ووفقت. فقلت: يا أمير المؤمنين، إن تأذن لي في الكلام وتمط عني الغضب تكلمت. قال: تكلم. قلت: أما قولك يا أمير المؤمنين: اختارت قريشٌ لأنفسها فأصابت ووفقت، فلو أن قريشاً اختارت لأنفسها حين اختار الله لها لكان الصواب بيدها غير مردود ولا محسود. وأما قولك: إنهم أبوا أن تكون لنا النبوة والخلافة، فإن الله، عز وجل، وصف قوماً بالكراهة فقال: (ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم) محمد: (. فقال عمر: هيهات والله يا ابن عباس، قد كانت تبلغني عنك أشياء كنت أكره أن أقرك عليها فتزيل منزلتك مني. فقلت: ما هي يا أمير المؤمنين؟ فإن كانت حقاً فما ينبغي أن تزيل منزلتي منك، وإن كنت باطلاً فمثلي أماط الباطل عن نفسه. فقال عمر: بلغني أنك تقول: إنما صرفوها عنك حسداً وبغياً وظلماً. فقلت: أما قولك يا أمير المؤمنين: ظلماً، فقد تبين للجاهل والحليم، وأما قولك: حسداً، فإن آدم حسد ونحن ولده المحسدون. فقال عمر: هيهات هيهات! أبت والله قلوبكم يا بني هاشم إلا حسداً لا يزول. فقلت: مهلاً يا أمير المؤمنين، لا تصف قلوب قوم أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً بالحسد والغش، فإن قلب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، من قلوب بني هاشم. فقال عمر: إليك عني يا ابن عباس. فقلت: أفعل. فلما ذهبت لأقوم استحيا مني فقال: يا ابن عباس، مكانك! فوالله إني لراعٍ لحقك محب لما سرك. فقلت: يا أمير المؤمنين، إن لي عليك حقاً وعلى كل مسلم، فمن حفظه فحظه أصاب، ومن أضاعه فحظه أخطأ. ثم قام فمضى. ذكر قصة الشورىقال عمر بن ميمون الأودي: إن عمر بن الخطاب لما طعن قيل له: يا أمير المؤمنين لو استخلفت. فقال: لو كان أبو عبيدة حياً لاستخلفته وقلت لربي إن سألني: سمعت نبيك يقول: (إنه أمين هذه الأمة). ولو كان سالم مولى أبي حذيفة حياً لاستخلفته وقلت لربي إن سألني: سمعت نبيك يقول: (إن سالماً شديد الحب لله تعالى). فقال له رجل: أدلك على عبد الله بن عمر. فقال: قاتلك الله، والله ما أردت الله بهذا! ويحك! كيف أستخلف رجلا عجز عن طلاق امرأته؟ لا أرب لنا في أموركم، فما حمدتها فأرغب فيها لأحد من أهل بيتي، إن كان خيراً فقد أصبنا منه، وإن كان شراً فقد صرف عنا، بحسب آل عمر أن يحاسب منهم رجل واحد ويسأل عن أمر أمة محمد، أما لقد جهدت نفسي وحرمت أهلي، وإن نجوت كفافاً لا وزر ولا أجر إني لسعيد، وأنظر فإن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني، وإن أترك فقد ترك من هو خير مني، ولن يضيع الله دينه. فخرجوا ثم راحوا فقالوا: يا أمير المؤمنين، لو عهدت عهداً. فقال: قد كنت أجمعت بعد مقالتي لكم أن أنظر فأولي رجلاً أمركم هو أحراكم أن يحملكم على الحق، وأشار إلى علي، فرهقتني غشية فرأيت رجلاً دخل جنة فجعل يقطف كل غضة ويانعة فيضمه إليه ويصيره تحته، فعلمت أن الله غالبٌ على أمره، ومتوف عمر فما أردت أن أتحملها حياً وميتاً، عليكم هؤلاء الرهط الذين قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: إنهم من أهل الجنة، وهم علي وعثمان وعبد الرحمن وسعد والزبير بن العوام وطلحة بن عبيد الله، فليختاروا منهم رجلاً، فإذا ولوا والياً فأحسنوا موازرته وأعينوه. فخرجوا فقال العباس لعلي: لا تدخل معهم. قال: إني أكره الخلاف. قال: إذن ترى ما تكره. فلما أصبح عمر دعا علياً وعثمان وسعداً وعبد الرحمن والزبير فقال لهم: إني نظرت فوجدتكم رؤساء الناس وقادتهم ولا يكون هذا الأمر إلا فيكم، وقد قبض رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وهو عنكم راضٍ، وإني لا أخاف الناس عليكم إن استقمتم ولكني أخاف فيما بينكم فيختلف الناس، فانهضوا إلى حجرة عائشة بإذنا فتشاوروا فيها واختاروا رجلاً منكم. ووضع رأسه وقد نزفه الدم.
فدخلوا فتناجوا حتى ارتفعت أصواتهم، فقال عبد الله بن عمر: سبحان الله! إن أمير المؤمنين لم يمت بعد. فسمعه عمر فانتبه وقال: ألا أعرضوا عن هذا فإذا مت فتشاوروا ثلاثة أيام وليصل بالناس صهيب ولا يأتين اليوم الرابع إلا وعليكم أمير منكم، ويحضر عبد الله بن عمر مشيراً ولا شيء له من الأمر، وطلحة شريككم في الأمر، فإن قدم في الأيام الثلاثة فأحضروه أمركم، وإن مضت الأيام الثلاثة قبل قدومه فأمضوا أمركم، ومن ولي بطلحة؟ فقال سعد ابن أبي وقاص: أنا لك به ولا يخالف إن شاء الله تعالى. فقال عمر: أرجو أن لا يخالف إن شاء الله، وما أظن يلي إلا أحد هذين الرجلين: علي أو عثمان، فإن ولي عثمان فرجل فيه لين، وإن ولي علي ففيه دعابة، وأحرى به أن يحملهم على طريق الحق، وإن تولوا سعداً فأهله هو وإلا فليستعن به الوالي، فإني لم أعزله عن ضعف ولا خيانة، ونعم ذو الرأي عبد الرحمن بن عوف، فاسمعوا منه وأطيعوا. وقال لأبي طلحة الأنصاري: يا أبا طلحة، إن الله طالما أعز بكم الإسلام فاختر خمسين رجلاً من الأنصار فاستحث هؤلاء الرهط حتى يختاروا رجلاً منهم. وقال للمقداد بن الأسود: إذا وضعتموني في حفرتي فاجمع هؤلاء الرهط في بيت حتى يختاروا رجلاً منهم. وقال لصهيب: صل بالناس ثلاثة أيام وأدخل هؤلاء الرهط بيتاً وقم على رؤوسهم، فإن اجتمع خمسة وأبى واحدٌ فاشدخ رأسه بالسيف، وإن اتفق أربعةٌ وأبى اثنان فاضرب رأسيهما، وإن رضي ثلاثة رجلاً وثلاثة رجلاً فحكموا عبد الله بن عمر، فإن لم يرضوا بحكم عبد الله ابن عمر فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف واقتلوا الباقين إن رغبوا عما اجتمع فيه الناس. فخرجوا فقال علي لقوم معه من بني هاشم: أن أطيع فيكم قومكم لم تؤمروا أبداً، وتلقاه عمه العباس فقال: عدلت عنا! فقال: وما علمك؟ قال: قرن بني عثمان، وقال: كونوا مع الأكثر، فإن رضي رجلان رجلاً ورجلان رجلاً فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن، فسعد لا يخالف ابن عمه، وعبد الرحمن صهر عثمان لا يختلفون فيوليها أحدهما الآخر، فلو كان الآخران معي لم ينفعاني. فقال له العباس: لم أرفعك في شيء إلا رجعت إلي مستأخراً لما أكره، أشرت عليك عند وفاة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أن تسأله فيمن هذا الأمر فأبيت، فأشرت عليك بعد وفاته أن تعاجل الأمر فأبيت، وأشرت عليك حين سماك عمر في الشورى أن لا تدخل معهم فأبيت، احفظ عني واحدة: كلما عرض عليك القوم فقل: لا، إلا أن يولوك، واحذر هؤلاء الرهط فإنهم لا يبرحون يدفعوننا عن هذا الأمر حتى يقوم به لنا غيرنا، وأيم الله لا يناله إلا بشر لا ينفع معه خير! فقال علي: أما لئن بقي عثمان لأذكرنه ما أتى، ولئن مات ليتداولنها بينهم، ولئن فعلوا لتجدني حيث يكرهون، ثم تمثل: حلفت برب الراقصات عشية ... غدون خفافاً فابتدرن المحصبا ليختلين رهط ابن يعمر قارناً ... نجيعاً بنو الشداخ ورداً مصلبا والتفت فرأى أبا طلحة فكره مكانه، فقال أبو طلحة: لن تراع أبا الحسن.
فلما مات عمر وأخرجت جنازته صلى عليه صهيب، فلما دفن عمر جمع المقداد أهل الشورى في بيت المسور بن مخرمة، وقيل: في بيت المال وقيل: في حجرة عائشة بإذنها، وطلحة غائب، وأمروا أبا طلحة أن يحجبهم، وجاء عمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة فجلسا بالباب، فحصبهما سعد وأقامهما وقال: تريدان أن تقولا: حضرنا وكنا في أهل الشورى! فتنافس القوم في الأمر وكثر فيهم الكلام، فقال أبو طلحة: أنا كنت لأن تدفعوها أخوف مني لأن تنافسوها، والذي ذهب بنفس عمر لا أزيدكم على الأيام الثلاثة التي أمر، ثم أجلس في بيتي فأنظر ما تصنعون! فقال عبد الرحمن: أيكم يخرج منها نفسه ويتقلدها على أن يوليها أفضلكم؟ فلم يجبه أحدٌ. فقال: فأنا أنخلع منها. فقال عثمان: أنا أول من رضي. فقال القوم: قد رضينا. وعلي ساكت. فقال: ما تقول يا أبا الحسن؟ قال: أعطني موثقاً لتؤثرن الحق ولا تتبع الهوى ولا تخص ذا رحم ولا تألو الأمة نصحاً. فقال: أعطوني مواثيقكم على أن تكونوا معي على من بدل وغير وأن ترضوا من اخترت لكم، وعلي ميثاق الله أن لا أخص ذا رحم لرحمه ولا آلو المسلمين، فأخذ منهم ميثاقاً وأعطاهم مثله، فقال لعي: تقول إني أحق من حضر بهذا الأمر لقرابتك وسابقتك وحسن أثرك في الدين ولم تبعد، ولكن أرأيت لو صرف هذا الأمر عنك فلم تحضر من كنت ترى من هؤلاء الرهط أحق به؟ قال: عثمان. وخلا بعثمان فقال: تقول شيخ من بني عبد مناف، وصهر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وابن عمه، ولي سابقة وفضل، فأين يصرف هذا الأمر عني؟ ولكن لو لم تحضر أي هؤلاء الرهط تراه أحق به؟ قال: علي. ولقي علي سعداً فقال له: (اتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام) النساء: ، أسألك برحم ابني هذا من رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وبرحم عمي حمزة منك ألا تكون مع عبد الرحمن لعثمان ظهيراً علي ودار عبد الرحمن لياليه يلقى أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ومن وافى المدينة من أمراء الأجناد وأشراف الناس يشاورهم، حتى إذا كان الليلة التي صبيحتها تستكمل الأجل أتى منزل المسور بن مخرمة فأيقظه وقال له: لم أذق في هذه الليلة كبير غمض، انطلق فادع الزبير وسعداً. فدعاهما. فبدأ بالزبير فقال له: خل بني عبد مناف وهذا الأمر. قال: نصيبي لعلي. وقال لسعد: اجعل نصيبك لي. فقال: إن اخترت نفسك فنعم، وإن اخترت عثمان فعليٌّ أحب إلي؛ أيها الرجل بايع لنفسك وأرحنا وارفع رؤوسنا. فقال له: قد خلعت نفسي على أن أختار، ولو لم أفعل لم أردها. إني رأيت روضة خضراء كثيرة العشب، فدخل فحلٌ ما رأيت أكرم منه فمر كأنه سهم لم يلتفت إلى شيء منها حتى قطعها لم يعرج، ودخل بعيرٌ يتلوه فاتبع أثره حتى خرج منها، ثم دخل فحلٌ عبقري يجر خطامه ومضى قصد الأولين، ثم دخل بعيرٌ رابع فرتع في الروضة، ولا والله لا أكون الرابع ولا يقوم مقام أبي بكر وعمر بعدهما أحد فيرضى الناس عنه. قال: وأرسل | |
|
 | |
الشيخ عودة الشيخ عودة

عدد المساهمات : 1748 تاريخ التسجيل : 28/09/2008 العمر : 72
 | موضوع: رد: كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير الثلاثاء فبراير 11, 2014 3:00 am | |
| ذكر خلاف أهل الإسكندرية في هذه السنة خالف أهل الإسكندرية ونقضوا صلحهم. وكان سبب ذلك أن الروم عظم عليهم فتح المسلمين الإسكندرية وظنوا إنهم لا يمكنهم المقام ببلادهم بعد خروج الإسكندرية عن ملكهم، فكاتبوا من كان فيها من الروم ودعوهم إلى نقض الصلح، فأجابوهم إلى ذلك. فسار إليهم من القسطنطينية جيش كثير وعليهم منويل الخصي، فأرسوا بها، واتفق معهم من بها من الروم، ولم يوافقهم المقوقس بل ثبت على صلحه. فلما بلغ الخبر إلى عمرو بن العاص سارى إليهم وسار الروم إليه فالتقوا واقتتلوا قتالاً شديداً، فانهزم الروم وتبعهم المسلمون إلى أن أدخلوهم الإسكندرية وقتلوا منهم في البلد مقتلةً عظيمة، منهم منويل الخصي. وكان الروم لما خرجوا من الإسكندرية قد أخذوا أموال أهل تلك القرى من وافقهم ومن خالفهم. فلما ظفر بهم المسلمون جاء أهل القرى الذين خالفوهم فقالوا لعمرو بنالعاص: إن الروم أخذوا دوابنا وأموالنا ولم نخالف نحن عليكم وكنا على الطاعة. فرد عليهم ما عرفوا من أموالهم بعد إقامة البينة. وهدم عمرو سور الإسكندرية وتركها بغير سور. وفيها بلغ سعد بن أبي وقاص على أهل الري عزمٌ على نقض الهدنة والغدر، فأرسل إليهم وأصلحهم وغزا الديلم ثم انصرف. ذكر عزل سعد عن الكوفة وولاية الوليد بن عقبة في هذه السنة عزل عثمان بن عفان سعد بن أبي وقاص عن الكوفة في قول بعضهم، واستعمل الوليد بن عقبة بن أبي معيط، وأسم أبي معيط أبان بن أبي عمرو، واسمه ذكوان بن أمية بن عبد شمس، وهو أخو عثمان لأمه، أمهما أروى بنت كريز، وأمها البيضاء بنت عبد المطلب.
وسبب ذلك أن سعداً اقترض من عبد الله بن مسعود من بيت المال قرضاً، فلما تقاضاه ابن مسعود لم يتيسر له قضاؤه فارتفع بينهما الكلام، فقال له سعد: ما أراك إلا ستلقى شراً، هل أنت إلا ابن مسعود عبدٌ من هذيل؟ فقال: أجل والله إني لابن مسعود وإنك لابن حمينة. وكان هاشم بن عتبة بن أبي وقاص حاضراً فقال: إنكما لصاحبا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ينظر إليكما. فرفع سعدٌ يده ليدعو على ابن مسعود، وكان فيه حدة، فقال: اللهم رب السموات والأرض. فقال ابن مسعود: ويلك قل خيراً ولا تلعن. فقال سعد عند ذلك: أما والله لولا اتقاء الله لدعوت عليك دعوة لا تخطئك. فولى عبد سريعاً حتى خرج، ثم استعان عبد الله بأناس على استخراج المال، واستعان سعد بأناس على إنظاره، فافترقوا وبعضهم يلوم بعضاً، يلوم هؤلاء سعداً وهؤلاء عبد الله، فكان أول ما نزغ به بين أهل الكوفة، وأول مصر نزغ الشيطان بين أهل الكوفة. وبلغ الخير عثمان فغضب عليهما فعزل سعد وأقر عبد الله، واستعمل الوليد بن عقبة بن أبي معيط مكان سعد، وكان على عرب الجزيرة عاملاً لعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان بعده، فقدم الكوفة والياً عليها، وأقام عليها خمس سنين، وهو من أحب الناس إلى أهلها. فلما قدم قال له سعد: أكست بعدنا أم حمقنا بعدك؟ فقال: لا تجزعن يا أبا إسحق، كل ذلك لم يكن وإنما هو الملك يتغداه قوم ويتعشاه آخرون. فقال سعد: أراكم جعلتموها ملكاً! وقال له ابن مسعود: ما أدري أصلحت بعدنا أم فسد الناس! ذكر صلح أهل أرمينية وأذربيجانلما استعمل عثمان الوليد على الكوفة عزل عتبة بن فرقد على أذربيجان، فنقضوا، فغزاهم الوليد سنة خمس وعشرين، وعلى مقدمته عبد الله بن شبيل الأحمسي، فأغار على أهل موقان والببر والطيلسان ففتح وغنم وسبى، فطلب أهل كور أذربيجان الصلح، فصالحهم على صلح حذيفة، وهو ثمانمائة ألف درهم، وقبض المال. ثم بث سراياه، وبعث سلمان بن ربيعة الباهلي إلى أهل أرمينية في اثني عشر ألفاً، فسار في أرمينية يقتل ويسبي ويغنم، ثم انصرف وقد ملأ يديه حتى أتى الوليد، فعاد الوليد وقد ظفر وغنم وجعل طريقه على الموصل، ثم أتى الحديثة فنزلها، فأتاه بها كتاب عثمان فيه أن معاوية بن أبي سفيان كتب إلي يخبرني أن الروم قد أجلبت على المسلمين في جموع كثيرة، وقد رأيت أن يمدهم إخوانهم من أهل الكوفة، فابعث إليهم رجلاً له نجدةٌ وبأس في ثمانية آلاف أو تسعة آلاف من المكان الذي يأتيك كتابي فيه والسلام. فقام الوليد في الناس وأعلمهم الحال وندبهم مع سلمان بن ربيعة الباهلي، فانتدب معه ثمانةي آلاف، فمضوا حتى دخلوا مع أهل الشام إلى أرض الروم، فشنوا الغارات على أرض الروم فأصاب الناس ما شاؤوا وافتتحوا حصوناً كثيرة. وقيل: إن الذي أمد حبيب بن مسلمة بسلمان بن ربيعة كان سعيد بن العاص، وكان سبب ذلك أن عثمان كتب إلى معاوية يأمره أن يغزي حبيب بن مسلمة في أهل الشام أرمينية، فوجهه إليها، فأتى قاليقلا فحصرها وضيق على من بها، فطلبوا الأمان على الجلاء أو الجزية، فجلا كثير منهم فلحقوا ببلاد الروم، وأقام حبيب بها فيمن معه أشهراً. وإنما سميت قاليقلا لأن امرأة بطريق أرميناقس كان اسمها قالي بنت هذه المدينة فسمتها قالي قله، تعني إحسان قالي، فعربتها العرب فقالت: قاليقلا. ثم بلغه أن بطريق أرميناقس، وهي البلاد التي هي الآن بيد أولاد السلطان قلج أرسلان، وهي ملطية وسيواس واقصرا وقونية وما والاها من البلاد وإلى خليج القسطنطينية، واسمه الموريان، قد توجه نحوه في ثمانين ألفاً من الروم. فكتب حبيب إلى معاوية يخبره، فكتب معاوية إلى عثمان، فأرسل عثمان إلى سعيد بن العاص يأمره بإمداد حبيب، فأمده بسلمان في ستة آلاف، وأجمع حبيب على تبييت الروم، فسمعته امرأته أم عبد الله بنت يزيد الكلبية فقالت: أين موعدك؟ فقال: سرادق الموريان. ثم بيتهم فقتل من وقف له، ثم أتى السرادق فوجد امرأته قد سبقته إليه، فكانت أول امرأة من العرب ضرب عليها حجاب سرادق. ومات عنها حبيب فخلف عليها الضحاك بن قيس، فهي أم ولده.
ولما انهزمت الروم عاد حبيب إلى قاليقلا، ثم سار منها فنزل مربالا، فأتاه بطريق خلاط بكتاب عياض بن غنم بأمانه، فأجراه عليه، وحمل إليه البطريق ما عليه من المال، ونزل حبيب خلاط، ثم سار منها فلقيه صاحب مكس بناحية من نواحي البسفرجان، فقاطعه على بلاده، ثم سار منها إلى أزدشاط، وهي القرية التي يكون بها القرمز الذي يصبغ به، فنزل على نهر دبيل وسرح الخيول إليها فحصرها، فتحصن أهلها، فنصب عليهم منجنيقاً، فطلبوا الأمان، فأجابهم إليه وبث السرايا، فبلغت خيله ذات اللجم؛ وإنما سميت ذات اللجم لأن المسلمين أخذوا لجم خيولهم فكبسهم الروم قبل أن يلجموها ثم ألجموها وقاتلوهم فظفروا بهم؛ ووجه سريةً إلى سراج طير وبغروند، فصالحه بطريقها على إتاوة. وقدم عليه بطريق البسفرجان فصالحه على جميع بلاده. وأتى السيسجان فحاربه أهلها، فهزمهم وغلب على حصونهم وسار إلى جرزان، فأتاه رسول بطريقها يطلب الصلح فصالحه. وسار إلى تفليس فصالحه أهلها، وهي من جرزان، وفتح عدة حصون ومدن تجاورها صلحاً. وسارى سلمان بن ربيعة الباهلي إلى أران ففتح البيلقان صلحاً على أن آمنهم على دمائهم وأموالهم وحيطان مدينتهم، واشترط عليهم الجزية والخراج. ثم أتى سلمان مدينة برذعة فعسكر على الثرثور، نهر بينه وبينها نحو فرسخ، فقاتله أهلها أياماً، وشن الغارات في قراها، فصالحوه على مثل صلح البيلقان ودخلها؛ ووجه خيله ففتحت رساتيق الولاية، ودعا أكراد البلاشجان إلى الإسلام فقاتلوه فظفر بهم فأقر بعضهم على الجزية وأدى بعضهم الصدقة، وهم قليل؛ ووجه سرية إلى شمكور ففتحوها، وهي مدينة قديمة، ولم تزل معمورة حتى أخربها السناوردية، وهم قوم تجمعوا لما انصرف يزيد بن أسيد عن أرمينية فعظم أمرهم، فعمرها بغا سنة أربعين ومائتين وسماها المتوكلية نسبة إلى المتوكل. وسار سلمان إلى مجمع أرس والكر ففتح قبلة، وصالحه صاحب سكر وغيرها على الإتاوة، وصالحه ملك شروان وسائر ملوك الجبال وأهل مسقط والشابران ومدينة الباب ثم امتنعت بعده. ذكر غزوة معاوية الروموفيها غزا معاوية الروم فبلغ عمورية فوجد الحصون التي بين أنطاكية وطرسوس خالية فجعل عندها جماعةً كثيرة من أهل الشام والجزيرة حتى انصرف من غزاته، ثم أغزى بعد ذلك يزيد بن الحر العبسي الصائفة وأمره ففعل مثل ذلك، ولما خرج هدم الحصون إلى أنطاكية. ذكر غزوة إفريقيةفي هذه السنة سير عمرو بن العاص عبد الله بن سعد بن أبي سرح إلى أطراف إفريقية غازياً بأمر عثمان، وكان عبد الله من جند مصر، فلما سار إليها أمده عمرو بالجنود فغنم هو وجنده، فلما عاد عبد الله إلى عثمان يستأذنه في غزو إفريقية، فأذن له في ذلك. ذكر عدة حوادثوفيها أرسل عثمان عبد الله بن عامر إلى كابل، وهي عمالة سجستان، فبلغها في قولٍ، فكانت أعظم من خراسان، حتى مات معاوية وامتنع أهلها. وفيها ولد يزيد بن معاوية. وفيها كانت غزوة سابور الأولى، وقيل: سنة ست وعشرين، وقد تقدم ذلك. وحج بالناس عثمان. ثم دخلت سنة ست وعشرين ذكر الزيادة في الحرم في هذه السنة أمر عثمان بتجديد أنصاب الحرم. وفيها زاد عثمان في المسجد الحرام ووسعه وابتاع من قوم فأبى آخرون فهدم عليهم ووضع الأثمان في بيت المال. فصاحوا بعثمان، فأمر بهم فحبسوا، وقال لهم! قد فعل هذا بكم عمر فلم تصيحوا به. فكلمه فيهم عبد الله بن خالد بن أسيد فأطلقهم. أسيد بفتح الهمزة وكسر السين. ثم دخلت سنة سبع وعشرين ذكر ولاية عبد الله بن سعد بن أبي سرح مصر وفتح إفريقية في هذه السنة عزل عمرو بن العاص عن خراج مصر، واستعمل عليه عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وكان أخا عثمان من الرضاعة، فتباغيا، فكتب عبد الله إلى عثمان يقول: إن عمراً كسر على الخراج. وكتب عمرو يقول: إن عبد الله قد كسر على مكيدة الحرب. فعزل عثمان عمراً واستقدمه، واستعمل بدله عبد الله على حرب مصر وخراجها، فقدم عمرو مغضباً، فدخل على عثمان وعليه جبة محشوة قطناً. فقال له: ما حشو جبتك؟ قال مرو. قال: قد علمت أن حشوها عمرو ولم أرد هذا، إنما سألت أقطنٌ هو أم غيره؟.
وكان عبد الله من جند مصر، وكان قد أمره عثمان بغزو إفريقية سنة خمس وعشرين، وقال له عثمان: إن فتح الله عليك فلك من الفيء خمس الخمس نفلاً. وأمر عبد الله بن نافع بن عبد القيس وعبد الله بن نافع بن الحرث على جند وسرحهما إلى الأندلس، وأمرهما بالاجتماع مع عبد الله بن سعد على صاحب إفريقية، ثم يقيم عبد الله في عمله ويسيران إلى عملهما. فخرجوا حتى قطعوا أرض مصر ووطئوا أرض إفريقية، وكانوا في جيش كثير عدتهم عشرة آلاف من شجعان المسلمين، فصالحهم أهلها على مال يؤدونه ولم يقدموا على دخول إفريقية والتوغل فيها لكثرة أهلها. ثم إن عبد الله بن سعد لما ولي أرسل إلى عثمان في غزو إفريقية والاستكثار من الجموع عليها وفتحها، فاستشار عثمان من عنده من الصحابة، فأشار أكثرهم بذلك، فجهز إليه العساكر من المدينة وفيهم جماعة من أعيان الصحابة، منهم عبد الله بن عباس وغيره، فسار بهم عبد الله بن سعد إلى أفريقية. فلما وصلوا إلى برقة لقيهم عقبة بن نافع فيمن معه من المسلمين، وكانوا بها، وساروا إلى طرابلس الغرب فنهبوا من عندها من الروم. وسار نحو إفريقية وبث السرايا في كل ناحية، وكان ملكهم اسمه جرجير، وملكه من طرابلس إلى طنجة، وكان هرقل ملك الروم قد ولاه إفريقية فهو يحمل إليه الخراج كل سنة. فلما بلغه خبر المسلمين تجهز وجمع العساكر وأهل البلاد فبلغ عسكره مائة ألف وعشرين ألف فارس، والتقى هو والمسلمون بمكان بينه وبين مدينة سبيطلة يوم وليلة، وهذه المدينة كانت ذلك الوقت دار الملك، فأقاموا هناك يقتتلون كل يوم، وراسله عبد الله بن سعد يدعوه إلى الإسلام أو الجزية، فامتنع منهما وتكبر عن قبول أحدهما. وانقطع خبر المسلمين عن عثمان، فسير عبد الله بن الزبير في جماعة إليهم ليأتيه بأخبارهم، فسار مجداً ووصل إليهم وأقام معهم، ولما وصل كثر الصياح والتكبير في المسلمين، فسأل جرجير عن الخبر فقيل قد أتاهم عسكر، ففت ذلك في عضده. ورأى عبد الله بن الزبير قتال المسلمين كل يوم من بكرة إلى الظهر فإذا أذن بالظهر عاد كل فريق إلى خيامه، وشهد القتال من الغد فلم ير ابن أبي سرح معهم، فسأل عنه، فقيل إنه سمع منادي جرجير يقول: من قتل عبد الله بن سعد فله مائة ألف دينار وأزوجه ابنتي، وهو يخاف، فحضر عنده وقال له: تأمر منادياً ينادي: من أتاني برأس جرجير نفلته مائة ألف وزوجته ابنته واستعملته على بلاده. ففعل ذلك، فصار جرجير يخاف أشد من عبد الله. ثم إن عبد الله بن الزبير قال لعبد الله بن سعد: إن أمرنا يطول مع هؤلاء وهم في أمداد متصلة وبلاد هي لهم ونحن منقطعون عن المسلمين وبلادهم، وقد رأيت أن نترك غداً جماعة صالحة من أبطال المسلمين في خيامهم متأهبين ونقاتل نحن الروم في باقي العسكر إلى أن يضجروا ويملوا، فإذا رجعوا إلى خيامهم ورجع المسلمون ركب من كان في الخيام من المسلمين ولم يهشدوا القتال وهم مستريحون، ونقصدهم على غرة فلعل الله ينصرنا عليهم، فأحضر جماعة من أعيان الصحابة واستشارهم فوافقوه على ذلك. فلما كان الغد فعل عبد الله ما اتفقوا عليه وأقام جميع شجعان المسلمين في خيامهم وخيولهم عندهم مسرجة، ومضى الباقون فقاتلوا الروم إلى الظهر قتالاً شديداً. فلما أذن بالظهر هم الروم بالانصراف على العادة فلم يمكنهم ابن الزبير وألح عليهم بالقتال حتى أتعبهم ثم عاد عنهم هو والمسلمون، فكل من الطائفتين ألقى سلاحه ووقع تعباً، فعند ذلك أخذ عبد الله بن الزبير من كان مستريحاً من شجعان المسلمين وقصد الروم فلم يشعروا بهم حتى خالطوهم وحملوا حملة رجل واحد وكبروا فلم يتمكن الروم من لبس سلاحهم حتى غشيهم المسلمون وقتل جرجير، قتله ابن الزبير، وانهزم الروم وقتل منهم مقتلة عظيمة وأخذت ابنة الملك جرجير سبية. ونازل عبد الله بن سعد المدينة، فحصرها حتى فتحها ورأى فيها من الأموال ما لم يكن في غيرها، فكان سهم الفارس ثلاثة آلاف دينار وسهم الراجل ألف دينار.
ولما فتح عبد الله مدينة سبيطلة بث جيوشه في البلاد فبلغت قفصة، فسبوا وغنموا، وسير عسكراً إلى حصن الأجم، وقد احتمى به أهل تلك البلاد، فحصره وفتحه بالأمان فصالحه أهل إفريقيى على ألفي ألف وخمسمائة ألف دينار وعشرين ألف دينار، ونفل عبد الله بن الزبير ابنة الملك وأرسله إلى عثمان بالبشارة بفتح إفريقية؛ وقيل: إن إبنة الملك وقعت لرجل من الأنصار فأركبها بعيراً وارتجز بها يقول: يا ابنة جرجيرٍ تمشي عقبتك ... إن عليك بالحجاز ربتك لتحملن من قباء قربتك ثم إن عبد الله بن سعد عاد من إفريقية إلى مصر، وان مقامه بإفريقية سنة وثلاثة أشهر، ولم يفقد من المسلمين إلا ثلاثة نفر، قتل منهم أبو ذؤيب الهذلي الشاعر فدفن هناك، وحمل خمس إفريقية إلى المدينة فاشتراه مروان بن الحكم بخمسمائة ألف دينار فوضعها عنه عثمان، وكان هذا مما أخذ عليه. وهذا أحسن ما قيل في خمس إفريقية، فإن بعض الناس يقول: أعطى عثمان خمس أفريقية عبد الله بن سعد، وبعضهم يقول: أعطاه مروان بن الحكم. وظهر بهذا أنه أعطى عبد الله خمس الغزوة الأولى وأعطى مروان خمس الغزوة الثانية التي افتتحت فيها جميع إفريقية، والله أعلم. ذكر انتقاض إفريقية وفتحها ثانيةكان هرقل ملك القسطنطينية يؤدي إليه كل ملك من ملوك النصارى الخراج، فهم من مصر وإفريقية والأندلس وغير ذلك، فلما صالح أهل إفريقية عبد الله بنى سعد أرسل هرقل إلى أهلها بطريقاً له وأمره أن يأخذ منهم مثل ما أخذ المسلمون، فنزل البطريق في قرطاجنة وجمع أهل إفريقية وأخبرهم بما أمره الملك، فأبوا عليه، وقالوا: نحن نؤدي ما كان يؤخذ منا، وقد كان ينبغي له أن يسامحنا لما ناله المسلمون منا. وكان قد قام بأمر إفريقية بعد قتل جرجير رجل رجل آخر من الروم، فطرده البطريق بعد فتن كثيرة، فسار إلى الشام وبه معاوية وقد استقر له الأمر بعد قتل علي، فوصف له إفريقية وطلب أن يرسل معه جيشاً، فسير معه معاوية بن أبي سفيان معاوية بن حديج السكوني. فلما وصلوا إلى الإسكندرية هلك الرومي ومضى ابن حديج فوصل إلى إفريقية وهي نار تضطرم وكان معه عسكر عظيم فنزل عند قمونية، وأرسل البطريق إليه ثلاثين ألف مقاتل. فلما سمع بهم معاوية سير إليهم وجيشاً من المسلمين، فقاتلوهم، فانهزمت الروم وحصر حصن جلولاء فلم يقدر عليه فانهدم سور الحصن فملكه المسلمون وغنموا ما فيه، وبث السرايا، فسكن الناس وأطاعوا، وعاد إلى مصر. حديج بضم الحاء وفتح الدال المهملتين وآخره جيم. ثم لم يزل أهل إفريقية من أطوع أهل البلدان وأسمعهم إلى زمان هشام بن عبد الملك حتى دب إليهم دعاة أهل العراق واستثاروهم فشقوا العصا، وفرقوا بينهم إلى اليوم، وكانوا يقولون: لا نخالف الأئمة بما تجني العمال. فقالوا لهم: إنما يعمل هؤلاء بأمر أولئك. فقالوا: حتى نخبرهم، فخرج ميسرة في بضعة وعشرين رجلاً فقدموا على هشام فلم يؤذن لهم، فدخلوا على الأبرش فقالوا: أبلغ أمير المؤمنين أن أميرنا يغزو بنا وبجنده فإذا غنمنا نفلهم، ويقول: هذا أخلص لجهادنا، وإذا حاصرنا مدينةً قدمنا وأخرهم، ويقول: هذا ازدياد في الأجر، ومثلنا كفى إخوانه؛ ثم إنهم عمدوا إلى ماشيتنا فجعلوا يبقرون بطونها عن سخالها يطلبون الفراء البيض لأمير المؤمنين فيقتلون ألف شاة في جلد، فاحتملنا ذلك، ثم إنهم سامونا أن يأخذونا كل جميلة من بناتنا، فقلنا: لم نجد هذا في كتاب ولا سنة ونحن مسلمون، فأحببنا أن نعلم أعن رأي أمير المؤمنين هذا أم لا؟ فطال عليهم المقام ونفدت نفقاتهم، فكتبوا أسماءهم ودفعوها إلى وزرائه وقالوا: إن سأل عنا أمير المؤمنين فأخبروه. ثم رجعوا إلى إفريقية فخرجوا على عامل هشام فقتلوه واستولوا على إفريقية، وبلغ الخبر هشاماً فسأل عن النفر فعرف أسماءهم فإذا هم الذين صنعوا ذلك. ذكر غزوة الأندلسلما افتتحت إفريقية أمر عثمان عبد الله بن نافع بن الحصين وعبد الله بن نافع ابن عبد القيس أن يسيرا إلى الأندلس، فأتياها من قبل البحر، وكتب عثمان إلى من انتدب معهما: أما بعد فإن القسطنطينية إنما تفتح من قبل الأندلس.
فخرجوا ومعهم البربر، ففتح الله على المسلمين وزاد في سلطان المسلمين مثل إفريقية. ولما عزل عثمان عبد الله بن سعد عن إفريقية ترك في عمله عبد الله بن نافع بن عبد القيس فكان عليها، ورجع عبد الله إلى مصر، وبعث عبد الله إلى عثمان مالاً قد حشد فيه، فدخل عمرو على عثمان فقال له: يا عمرو هل تعلم أن تلك اللقاح درت بعدك؟ قال عمرو: إن فصالها قد هلكت. ذكر عدة حوادثحج بالناس هذه السنة عثمان. وفيها كان فتح إصطخر الثاني على يد عثمان ابن أبي العاص. وفيها غزا معاوية بن أبي سفيان قنسرين. وفيها مات أبو ذؤيب الهذلي الشاعر بمصر منصرفاً من إفريقية، وقيل: بل مات بطريق مكة في البادية، وقيل: مات ببلاد الروم، وكلهم قالوا: مات في خلافة عثمان. وفيها مات أبو رمثة البلوي بإفريقية، له صحبة. وفيها ماتت حفصة بنت عمر ابن الخطاب زوج النبي، صلى الله عليه وسلم، وقيل: ماتت سنة إحدى وأربعين، وقيل: سنة خمس وأربعين. ثم دخلت سنة ثمان وعشرين ذكر فتح قبرس قيل: في سنة ثمان وعشرين كان فتح قبرس على يد معاوية، وقيل: سنة تسع وعشرين، وقيل: سنة ثلاث وثلاثين، وقيل: إنما غزاها معاوية هذه السنة غزا معه جماعة من الصحابة فيهم أبو ذر وعبادة بن الصامت ومعه زوجته أم حرام، وأبو الدرداء وشداد بن أوس، وكان معاوية قد لج على عمر في غزو البحر وقرب الروم من حمص، وقال: إن قرية من قرى حمص ليسمع أهلها نباح كلابهم وصياح دجاجهم. فكتب عمر إلى عمرو بن العاص: صف لي البحر وراكبه. فكتب إليه عمرو بن العاص: إني رأيت خلقاً كبيراً يركبه خلقٌ صغير، ليس إلا السماء والماء، إن ركد خرق القلوب، وإن تحرك أزاغ العقول، يزداد فيه اليقين قلة، والشك كثرة، هم فيه كدود على عود، إن مال غرق، وإن نجا برق. فلما قرأه كتب إلى معاوية: والذي بعث محمداًن صلى الله عليه وسلم، بالحق لا أحمل فيه مسلماً أبداً، وقد بلغني أن بحر الشام يشرف على أطول شيء من الأرض فيستأذن الله في كل يوم وليلة في أني يغرق الأرض، فكيف أحمل الجنود على هذا الكافر! وبالله لمسلم أحب إلي مما حوت الروم. وإياك أن تعرض إلي، فقد علمت ما لقي العلاء مني. قال: وترك ملك الروم الغزو وكاتب عمر وقاربه. وبعثت أم كلثوم، بنت علي بن أبي طالب، زوج عمر بن الخطاب، إلى امرأة ملك الروم بطيب وشيء يصلح للنساء مع البريد، فأبلغه إليها، فأهدت امرأة الملك إليها هدية، منها عقد فاخر. فلما رجع البريد أخذ عمر ما معه ونادى: الصلاة جامعة، فاجتمعوا، وأعلمهم الخبر، فقال القائلون: هو لها بالذي كان لها، وليست امرأة الملك بذمة فتصانعك. وقال آخرون: قد كنا نهدى لنستثيب. فقال عمر: لكن الرسول رسول المسلمين والبريد بريدهم، والمسلمون عظموها في صدرها فأمر بردها إلى بيت المال وأعطاها بقدر نفقتها. فلما كان زمن عثمان كتب إليه معاوية يستأذنه في غزو البحر مراراً، فأجابه عثمان بأخرة إلى ذلك وقال له: لا تنتخب الناس ولا تقرع بينهم، خيرهم فمن اختار الغزو طائعاً فاحمله وأعنه. ففعل، واستعمل عبد الله بن قيس الجاسي حليف بني فزارة، وسار المسلمون من الشام إلى قبرس، وسار إليها عبد الله بن سعد من مصر فاجتمعوا عليها، فصالحهم أهلها على جزية سبعة آلاف دينار كل سنة يؤدونها إلى الروم مثلها، لا يمنعهم المسلمون عن ذلك وليس على المسلمين منعهم ممن أرادهم ممن وراءهم، وعليهم أن يؤذنوا المسلمين بمسير عدوهم من الروم إليهم ويكون طريق المسلمين إلى العدو عليهم. قال جبير بن نفير: ولما فتحت قبرس ونهب منها السبي نظرت إلى أبي الدرداء يبكي فقلت: ما يبكيك في يوم أعز الله فيه الإسلام وأهله وأذل فيه الكفر وأهله؟ قال: فضرب منكبي بيده وقال: ثكلتك أمك يا جبير ما أهون الخلق على الله إذا تركوا أمره بينما هي أمة ظاهرة قاهرة للناس لهم الملك إذا تركوا أمر الله فصاروا إلى ما ترى فسلط عليهم السباء، وإذا سلط السباء على قوم فليس له فيهم حاجة.
وفي هذه الغزاة ماتت أم حرام بنت ملحان الأنصارية، ألقتها بغلتها بجزية قبرس فاندقت عنقها فماتت، تصديقاً للنبي، صلى الله عليه وسلم، حيث أخبرها أنها في أول من يغزو في البحر، وبقي عبد الله بن قيس الجاسي على البحر فغزا على خمسين غزاة من بين شاتية وصائفة في البر والبحر، لم يغرق أحد ولم ينكب، فكان يدعو الله أن يعافيه في جنده، فأجابه، فلما أراد الله أن يصيبه في جسده خرج في قارب طليعةً، فانتهى إلى المرفإ من أرض الروم وعليه مساكن يسألون، فتصدق عليهم، فرجعت امرأةٌ منهم إلى قريتها فقالت للرجال: هذا عبد الله بن قيس في المرفإ؛ فثاروا إليه فهجموا عليه فقتلوه بعد أن قاتلهم فأصيب وحده ونجا الملاح حتى أتى أصحابه فأعلمهم فجاؤوا حتى أرسوا بالمرفإ، والخليفة عليهم سفيان بن عوف الأزدي، فخرج إليهم فقاتلهم فضجر فجعل يشتم أصحابه. فقالت جارية عبد الله: ما هكذا كان يقول حين يقاتل! فقال سفيان: فكيف كان يقول؟ قالت: (الغمرات ثم ينجلينا). فلزمها بقولها، وأصيب في المسلمين يومئذ. وقيل لتلك المرأة بعد: بأي شيء عرفته؟ قالت: كان كالتاجر فلما سألته أعطاني كالملك فعرفته بهذا. وفي هذه السنة غزا حبيب بن مسلمة سورية من أرض الروم. وفيها تزوج عثمان نائلة بنت الفرافصة، وكانت نصرانيةً فأسلمت قبل أن يدخل بها. وفيها بنى عثمان ازوراء، وحج بالناس عثمان هذه السنة. حرام بالحاء المهملة والراء. والجاسي بالجيم والسين المهملة. والفرافصة بفتح الفاء إلا الفرافصة بن الأحوص الكلبي الذي من ولده نائلة زوج عثمان. ثم دخلت سنة تسع وعشرين ذكر عزل أبي موسى عن البصرة واستعمال ابن عامر عليها قيل: في هذه السنة عزل عثمان أبا موسى الأشعري عن البصرة، واستعمل عبد الله بن عامر بن كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس، وهو ابن خال عثمان، وقيل: كان ذلك لثلاث سنين مضت من خلافة عثمان. وكان سبب عزله أن أهل إيذج والأكراد كفروا في السنة الثالثة من خلافة عثمان، فنادى أبو موسى في الناس وحضهم على الجهاد، وذكر من فضل الجهاد ماشياً، فحمل نفر على دوابهم وأجمعوا على أن يخرجوا رجالة. وقال آخرون: لا نعجل بشيء حتى ننظر ما يصنع، فإن أشبه قوله فعله فعلنا كما يفعل. فلما خرج أخرج ثقله من قصره على أربعين بغلاً، فتعلقوا بعنانة وقالوا: احملنا على بعض هذه الفضول وارغب في المشي كما رغبتنا. فضرب القوم بسوطه، فتركوا دابته، فمضى. وأتوا عثمان فاستعفوه منه وقالوا: ما كل ما نعلم نحب أن تسألنا عنه، فأبدلنا به. فقال: من تحبون؟ فقال غيلان ابن خرشة: في كل أحد عوض من هذا العبد الذي قد أكل أرضنا! أما منكم خسيس فترفعوه؟ أما منكم فقير فتجبروه؟ يا معشر قريش، حتى متى يأكل هذا الشيخ الأشعري هذه البلاد؟ فانتبه لها عثمان فعزل أبا موسى وولى عبد الله ابن عامر بن كريز. فلما سمع أبو موسى قال: يأتيكم غلام خراج ولاج، كريم الجدات والخالات والعمات، يجمع له الجندان. وكان عمر ابن عامر خمساً وعشرين سنة، وجمع له جند أبي موسى وجند عثمان بن أبي العاص الثقفي من عمان والبحرين، واستعمل على خراسان عمير بن عثمان بن سعد؛ وعلى سجستان عبد الله بن عمير الليثي، وهو من ثعلبة، فأثخن فيها إلى كابل، وأثخن عمير في خراسان حتى بلغ فرغانة لم يدع دونها كورة إلا أصلحها؛ وبعث إلى مكران عبيد الله بن معمر فأثخن فيها حتى بلغ النهار؛ وبعث على كرمان عبد الرحمن بن عبيس؛ وبعث إلى الأهواز وفارس نفراً وضم سواد البصرة إلى الحصين بن أبي الحرثم ثم عزل عبد الله بن عمير واستعمل عبد الله بن عامر فأقره عليها سنة ثم عزله؛ واستعمل عاصم بن عمرو وعزل عبد الرحمن بن عبيس؛ وأعاد عدي بن سهيل بن عدي وصرف عبيد الله بن معمر إلى فارس واستعمل مكانه عمير بن عثمان؛ واستعمل على خراسان أمير بن أحمر اليشكري؛ واستعمل على سجستان سنة أربع عمران بن الفضيل البرجمي. ومات عاصم بن عمرو بكرمان. عبيس بضم العين المهملة وفتح الباء الموحدة ثم الياء المثناة من تحتها وآخره سين مهملة. وأمير بضم الهمزة وفتح الميم وآخره راء. وكريز بن ربيعة بضم الكاف وفتح الراء. ذكر انتقاض أهل فارس
ثم إن أهل فارس انتفضوا ونكثوا بعبيد الله بن معمر، فسار إليهم، فالتقوا على باب إصطخر، فقتل عبيد الله وانهز المسلمون، وبلغ الخبر عبد الله بن عامر، فاستنفر أهل البصرة وسار بالناس إلى فارس وعلى مقدمته عثمان بن أبي العاص فالتقوا بإصطخر، وكان على ميمنته أبو برزة نضلة بن عبد الله الأسلمي، وعلى ميسرته معقل بن يسار، وعلى الخيل عمران ابن الحصين، ولكلهم صحبة، واشتد القتال، فانهزم الفرس وقتل منهم مقتلة عظيمة وفتحت إصطخر عنوة، وأتى دارابجرد وقد غدر أهلها ففتحها، وسار إلى مدينة جور، وهي أردشير خرة، فانتقضت إصطخر فلم يرجع وتمم السير إلى جور وحاصرها، وكان هرم بن حيان محاصراً لها، وكان المسلمون يحاصرونها وينصرفون عنها فيأتون إصطخر ويغزون نواحي كانت تنتقض عليهم، فلما نزل ابن عامر عليها فتحها. وكان سبب فتحها أن بعض المسلمين قام يصلي ذات ليلة وإلى جانبه جراب له فيه خبز ولحم، فجاء كلب فجره وعدا به حتى دخل المدينة من مدخل لها خفي، فلزم المسلمون ذلك المدخل حتى دخلوها منه وفتحوها عنوة. فلما فرغ منها ابن عامر عاد إلى إصطخر ففتحها عنوة بعد أن حاصرها واشتد القتال عليها، ورميت بالمجانيق، وقتل بها خلقاً كثيراً من الأعاجم وأفنى أكثر أهل البيوتات ووجوه الأساورة، وكانوا قد لجأوا إليها. وقيل: إن أهل إصطخر لما نكثوا عاد إليها ابن عامر قبل وصوله إلى جور فملكها عنوةً وعاد إلى جور فأتى دارابجرد فملكها، وكانت منقضة أيضاً، ووطىء أهل فارس وطأة لم يزالوا منها في ذل، وكتب إلى عثمان بالخبر، فكتب إليه أن يستعمل على بلاد فارس هرم بن حيان اليشكري وهرم بن حيان العبدي والخريت بن راشد والمنجاب بن راشد والترجمان الهجيمي، وأمره أن يفرق كور خراسان على جماعة فيجعل الأحنف على المروين، وحبيب بن قرة اليربوعي على بلخ، وخالد بن عبد الله بن زهير على هراة، وأمير بن أحمر على طوس، وقيس بن هبيرة السلمي على نيسابور، وبه تخرج عبد الله بن خازم، وهو ابن عمه، ثم جمعها عثمان قبل موته لقيس، واستعمل أمير بن أحمر على سجستان، ثم جعل عليها عبد الرحمن بن سمرة، وهو من آل حبيب بن عبد شمس، فمات عثمان وهو عليها، ومات وعمران على مكران، وعمير بن عثمان بن سعد على فارس، وابن كندير القشيري على كرمان. ثم وفد قيس بن هبيرة عبد الله بن خازم إلى ابن عامر في زمن عثمان، وكان ابن عامر يكرمه، فقال لابن عامر: اكتب لي على خراسان عهداً إن خرج عنها قيس. ففعل، فرجع إلى خراسان، فلما قتل عثمان وجاش العدو قال ابن خازم لقيس: الرأي أن تخلفني وتمضي حتى تنظر فيما ينظرون فيه، ففعل، فأخرج ابن خازم بعده عهداً بخلافته وثبت على خراسان إلى أن قام علي بن أبي طالب وغضب قيس من صنيع ابن خازم. الخريت بكسر الخاء المعجمة والراء المشددة وسكون الياء تحتها نقطتان وآخره تاء فوقها نقطتان. ذكر الزيادة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم في هذه السنة زاد عثمان في مسجد النبي، صلى الله عليه وسلم، في ربيع الأول، وكان ينقل الجص من بطن نخل، وبناه بالحجارة المنقوشة، وجعل عمده من حجارة فيها رصاص وسقفه ساجاً، وجعل طوله ستين ومائة ذراع، وعرضه خمسين ومائة ذراع، وجعل أبوابه على ما كانت أيام عمر ستة أبواب. ذكر إتمام عثمان الصلاة بجمعٍ وأول ما تكلم الناس فيه
حج بالناس هذه السنة عثمان، وضرب فسطاطه بمنىً، وكان أول فسطاط ضربه عثمان بمنىً، وأتم الصلاة بها وبعرفة، فكان أول ما تكلم به الناس في عثمان ظاهراً حين أتم الصلاة بمنى، فعاب ذلك غير واحد من الصحابة، وقال له علي: ما حدث أمر ولا قدم عهد، ولقد عهدت النبي، صلى الله عليه وسلم، وأبا بكر وعمر يصلون ركعتين وأنت صدراً من خلافتك، فما أدري ما ترجع إليه. فقال: رأي رأيته. وبلغ الخبر عبد الرحمن بن عوف وكان معه، فجاءه وقال له: ألم تصل في هذا المكان مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر وعمر ركعتين وصليتها أنت ركعتين؟ قال: بلى ولكني أخبرت أن بعض من حج من اليمن وجفاة الناس قالوا: إن الصلاة للمقيم ركعتان، واحتجوا بصلاتي، وقد اتخذت بمكة أهلاً ولي بالطائف مال. فقال عبد الرحمن: في هذا عذر، أما قولك: اتخذت بها أهلاً، فإن زوجك بالمدينة تخرج بها إذا شئت وإنما تسكن بسكناك، وأما مالك بالطائف فبينك وبينه مسيرة ثلاث ليال، وأما قولك عن حاج اليمن وغيرهم، فقد كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ينزل عليه الوحي والإسلام قليل، ثم أبو بكر وعمر، فصلوا ركعتين وقد ضرب الإسلام بجرانه. فقال عثمان: هذا رأي رأيته. فخرج عبد الرحمن فلقي ابن مسعود فقال: أبا محمد، غير ما تعلم. قال: فما أصنع؟ قال: اعمل بما ترى وتعلم. فقال ابن مسعود: الخلاف شر وقد صليت بأصحابي أربعاً. فقال عبد الرحمن: قد صليت بأصحابي ركعتين وأما الآن فسوف أصلي أربعاً. وقيل: كمان ذلك سنة ثلاثين. ثم دخلت سنة ثلاثين ذكر عزل الوليد عن الكوفة وولاية سعيد في هذه السنة عزل عثمان الوليد بن عقبة عن الكوفة وولاها سعيد بن العاص، وقد تقدم سبب ولاية الوليد على الكوفة في السنة الثانية من خلافة عثمان وأنه كان محبوباً إلى الناس، فبقي كذلك خمس سنين وليس لداره باب، ثم إن شباباً من أهل الكوفة نقبوا على ابن الحيسمان الخزاعي وكاثروه، فنذر بهم وخرج عليهم بالسيف وصرخ، فأشرف عليهم أبو شريح الخزاعي، وكان قد انتقل من المدينة إلى الكوفة للقرب من الجهاد، فصاح بهم أبو شريح فلم يلتفتوا وقتلوا ابن الحيسمان، وأخذهم الناس وفيهم زهير بن جندب الأزدي ومورع بن أبي مورع الأسدي، وشبيل بن أبي الأزدي وغيرهم، فشهد عليهم أبو شريح وابنه، فكتب فيهم الوليد إلى عثمان، فكتب عثمان بقتلهم، فقتلهم على باب القصر، ولهذا السبب أخذ في القسامة بقول ولي المقتول عن ملإٍ من الناس ليفطم الناس عن القتل وكان أبو زبيد الشاعر في الجاهلية والإسلام في بني تغلب، وكانوا أخواله، فظلموه ديناً له، فاخذ له الوليد حقه إذ كان عاملاً عليهم، فشكر أبو زبيد ذلك له وانقطع إليه وغشيه بالمدينة والكوفة، وكان نصرانياً، فأسلم عند الوليد وحسن إسلامه، فبينما هو عنده أتى آتٍ أبا زينب وأبا مورع وجندباً، وكانوا يحفرون للوليد منذ قتل أبناءهم ويضعون له العيون، فقال لهم: إن الوليد وأبا زبيد يشربان الخمر، فثاروا وأخذوا معهم نفراً من أهل الكوفة فاقتحموا عليه فلم يروا، فأقبلوا يتلاومون وسبهم الناس، وكتم الوليد ذلك عن عثمان. وجاء جندبٌ ورهط معه إلى ابن مسعود فقالوا له: إن الوليد يعتكف على الخمر، وأذاعوا ذلك. فقال ابن مسعود: من استتر عنا لم نتبع عورته. فعاتبه الوليد على قوله حتى تغاضبا. ثم أتي الوليد بساحر، فأرسل إلى ابن مسعود يسأله عن حده، واعترف الساحر عند ابن مسعود، وكان يخيل إلى الناس أنه يدخل في دبر الحمار ويخرج من فيه، فأمره ابن مسعود بقتله. فلما أراد الوليد قتله أقبل الناس ومعهم جندبٌ فضرب الساحر فقتله، فحبسه الوليد وكتب إلى عثمان فيه، وأمره بإطلاقه وتأديبه، فغضب لجندب أصحابه وخرجوا إلى عثمان يستعفون من الوليد، فردهم خائبين. فلما رجعوا أتاهم كل موتور فاجتمعوا معهم على رأيهم، ودخل أبو زينب وأبو مورع وغيرهما على الوليد فتحدثوا عنده، فنام فأخذا خاتمه وسارا إلى المدينة، واستيقظ الوليد فلم ير خاتمه، فسأل نساءه عن ذلك، فأخبرنه أن آخر من بقي عنده رجلان صفتهما كذا وكذا. فاتهمهما وقال: هما أبو زينب وأبو مورع، وأرسل يطلبهما، فلم يوجدا.
فقدما على عثمان ومعهما غيرهما وأخبراه أنه شرب الخمر، فأرسل إلى الوليد، فقدم المدينة، ودعا بهما عثمان فقال: أتشهدان أنكما رأيتماه يشرب؟ فقالا: لا. قال: فكيف؟ قالا اعتصرناها من لحيته وهو يقيء الخمر. فأمر سعيد بن العاص فجلده، فأورث ذلك عداوة بين أهليهما، فكان على الوليد خميصة فأمر علي بن أبي طالب بنزعها لما جلد. هكذا في هذه الرواية، والصحيح أن الذي جلده عبد الله بن جعفر بن أبي طالب لأن علياً أمر ابنه الحسن أن يجلده، فقال الحسن: ول حارها من تولى قارها! فأمر عبد الله بن جعفر فجلده أربعين. فقال علي: أمسك، جلد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر أربعين وجلد عثمان ثمانين وكلٌّ سنة وهذا أحب إلي. وقيل: إن الوليد سكر وصلى الصبح بأهل الكوفة أربعاً ثم التفت إليهم وقال: أزيدكم؟ فقال له ابن مسعود: ما زلنا معك في زيادة منذ اليوم، وشهدوا عليه عند عثمان، فأمر علياً بجلده، فأمر علي عبد الله بن جعفر فجلده، وقال الحطيئة: شهد الحطيئة يوم يلقى ربه ... أن الوليد أحق بالعذر نادى وقد تمت صلاتهم: ... أأزيدكم سكراً وما يدري فأبوا أبا وهب ولو أذنوا ... لقرنت بين الشفع والوتر كفوا عنانك إذ جريت ولو ... تركوا عنانك ولم تزل تجري فلما علم عثمان من الوليد شرب الخمر عزله وولى سعيد بن العاص بن أمية، وكان سعيد قد ربي في حجر عمر فلما فتح الشام قدمه، فأقام مع معاوية، فذكر عمر يوماً قريشاً، فسأل عنه، فأخبر أنه بالشام، فاستقدمه، فقدم عليه، فقال له: قد بلغني عنك بلاء وصلاح فازدد يزدك الله خيراً. وقال له: هل لك من زوجة؟ قال: لا. وجاء عمر بنات سفيان بن عويف ومعهن أمهن، فقالت أمهن: هلك رجالنا وإذا هلك الرجال ضاع النساء، فضعهن في أكفائهن. فزوج سعيداً إحداهن، وزوج عبد الرحمن بن عوف أخرى والوليد بن عقبة الثالثة. وأتاه بنات مسعود بن نعيم النهشلي فقلن له: قد هلك رجالنا وبقي الصبيان، فضعنا في أكفائنا؛ فزوج سعيداً إحداهن، وجبير بن مطعم الأخرى. وكان عمومته ذوي بلاء في الإسلام وسابقة، فلم يمت عمر حتى كان سعيد من رجال قريش. فلما استعمله عثمان سار حتى أتى الكوفة أميراً ورجع معه الأشتر وأبو خشة الغفاري وجندب بن عبد الله وجثامة بن صعب بن جثامة، وكانوا ممن شخص مع الوليد يعينونه فصاروا عليه، فقال بعض شعراء الكوفة: فررت من الوليد إلى سعيدٍ ... كأهل الحجر إذ جزعوا فباروا يلينا من قريشٍ كل عامٍ ... أميرٌ محدثٌ أو مستشار لنا نارٌ نخوفها فنخشى ... وليس لهم، فلا يخشون، نار فلما وصل سعيدٌ الكوفة صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: والله لقد بعثت إليكم وإني لكارهٌ، ولكني لم أجد بداً إذا أمرت أن أتمر، ألا إن الفتنة قد أطلعت خطمها وعينيها، ووالله لأضربن وجهها حتى أقمعها أو تعييني، وإني لرائد نفسي اليوم. ثم نزل وسأل عن أهل الكوفة فعرف حال أهلها، فكتب إلى عثمان أن أهل الكوفة قد اضطرب أمرهم وغلب أهل الشرف منهم والبيوتات والسابقة، والغالب على تلك البلاد روادف قدمت، وأعرابٌ لحقت، حتى لا ينظر إلى ذي شرف وبلاء من نابتتها ولا نازلتها. فكتب إليه عثمان: أما بعد ففضل أهل السابقة والقدمة ومن فتح الله عليه تلك البلاد، وليكن من نزلها من غيرهم تبعاً لهم إلا أن يكونوا تثاقلوا عن الحق وتركوا القيام به وقام به هؤلاء، واحفظ لكلٍ منزلته، وأعطهم جميعاً بقسطهم من الحق، فإن المعرفة بالناس بها يصاب العدل.
فأرسل سعيد إلى أهل الأيام والقادسية فقال: أنتم وجوه الناس، والوجه ينبىء عن الجسد، فأبلغونا حاجة ذي الحاجة وخلة ذي الخلة. وأدخل معهم من يحتمل من اللواحق والروادف. وجعل القراء في سمره، فكأنما كانت الكومة يبساً شملته نار فانقطع إلى ذلك الضرب ضربهم ففشت القالة في أهل الكوفة، فكتب سعيد إلى عثمان بذلك، فجمع الناس وأخبرهم بما كتب إليه. فقالوا له: أصبت، لا تطمعهم فيما ليسوا له بأهل، فإنه إذا نهض في الأمور من ليس بأهل لها لم يحتملها وأفسدها. فقال عثمان: يا أهل المدينة استعدوا واستمسكوا فقد دبت إليكم الفتن، وإني والله لأتخلصن لكم الذي لكم حتى أنقله إليكم إن رأيتم حتى يأتي من شهد من أهل العراق الفتوح سهمه فيقيم معه في بلاده. فقالوا: كيف تنقل إلينا سهمنا من الأرضين؟ فقال: يبيعها من شاء بما كان له بالحجاز واليمن وغيرهما من البلاد. ففرحوا وفتح الله لهم أمراً لم يكن في حسابهم، وفعلوا ذلك واشتراه رجال من كل قبيلة وجاز لهم عن تراضٍ منهم ومن الناس وإقرار بالحقوق. ذكر غزو سعيد بن العاص طبرستانفي هذه السنة غزا سعيد بن العاص طبرستان، فإنها لم يغزها أحد إلى هذه السنة. وقد تقدم في أيام عمر الخلاف في ذلك، وأن اصبهبذها صالح سويد ابن مقرن أيام عمر على مال بذله. وأما على هذا القول فإن سعيداً غزاها من الكوفة سنة ثلاثين ومعه الحسن والحسين وابن عباس وعبد الله بن عمر بن الخطاب وعبد الله بن عمرو بن العاص وحذيفة بن اليمان وابن الزبير وناس من أصحاب النبي، صلى الله عليه وسلم، وخرج ابن عامر من البصرة يريد خراسان فسبق سعيداً ونزل نيسابور، ونزل سعيد قومس، وهي صلح، صالحهم حذيفة بعد نهاوند فأتى جرجان فصالحوه على مائتي ألف، ثم أتى طميسة، وهي كلها من طبرستان متاخمة جرجان، على البحر، فقاتله أهلها، فصلى صلاة الخوف، أعلمه حذيفة كيفيتها، وهم يقتتلون. وضرب سعيد يومئذ رجلاً بالسيف على حبل عاتقه فخرج السيف من تحت مرفقه، وحاصرهم، فسألوا الأمان، فأعطاهم على أن لا يقتل منهم رجلاً واحداً، ففتحوا الحصن فقتلوا جميعاً إلا رجلاً واحداً؛ وحوى ما في الحصن، فأصاب رجل من بني نهد سفطاً عليه قفل، فظن أن فيه جوهراً، وبلغ سعيداً فبعث إلى النهدي فأتاه بالسفط، فكسروا قفله فوجدوا فيه سفطاً، ففتحوه فوجدوا خرقة سوداء مدرجة فنشروها فوجدوا خرقة حمراء فنشروها، فإذا خرقة صفراء وفيها أيران كميت وورد. فقال شاعر يهجو بني نهد: آب الكرام بالسبايا غنيمة ... وآب بنو نهدٍ بأيرين في سفط كميتٍ ووردٍ وافرين كلاهما ... فظنوهما غنماً فناهيك من غلط وفتح سيعدٌ نامية، وليست بمدينة، هي صحارى. ومات مع سعيد محمد بن الحكم بن أبي عقيل جد يوسف بن عمر. ثم رجع سعيد، فمدحه كعب بن جعيل فقال: فنعم الفتى إذ حال جيلان دونه ... وإذ هبطوا من دستبى ثم أبهرا في أبيات. ولما صالح سعيد أهل جرجان كانوا يجبون أحياناً مائة ألف، وأحياناً مائتي ألف، وأحياناً ثلثمائة ألف، ويقولون: هذا صلح صلحنا، وربما منعوه، ثم امتنعوا وكفروا، فانقطع طريق خراسان من ناحية قومس إلا على خوف شديد منهم. كان الطريق إلى خراسان من فارس إلى كرمان إلى خراسان، وأول من صير الطريق من قومس قتيبة بن مسلم حين ولي خراسان. وقدمها يزيد بن المهلب فصالح صولا، وفتح البحيرة ودهستان، وصالح أهل جرجان على صلح سعيد. ذكر غزو حذيفة الباب وأمر المصاحف
وفيها صرف حذيفة عن غزو الري إلى غزو الباب مدداً لعبد الرحمن بن ربيعة، وخرج معه سعيد بن العاص، فبلغ معه أذربيجان، وكانوا يجعلون الناس ردءاً، فأقام حتى عاد حذيفة ثم رجعا. فلما عاد حذيفة قال لسعيد بن العاص: لقد رأيت في سفرتي هذه أمراً، لئن ترك الناس ليختلفن في القرآن ثم لا يقومون عليه أبداً. قال: وما ذاك؟ قال: رأيت أناساً من أهل حمص يزعمون أن قراءتهم خير من قراءة غيرهم وأنهم أخذوا القرآن عن المقداد، ورأيت أهل دمشق يقولون: إن قراءتهم خير من قراءة غيرهم، ورأيت أهل الكوفة يقولون مثل ذلك وإنهم قرأوا على ابن مسعود، وأهل البصرة يقولون مثل ذلك وإنهم قرأوا على أبي موسى ويسمون مصحفه لباب القلوب. فلما وصلوا إلى الكوفة أخبر حذيفة الناس بذلك وحذرهم ما يخاف، فوافقه أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وكثير من التابعين. وقال له أصحاب ابن مسعود: ما تنكر؟ ألسنا نقرأه على قراءة ابن مسعود؟ فغضب حذيفة ومن وافقه، وقالوا: إنما أنتم أعراب فاسكتوا فإنكم على خطإ. وقال حذيفة: والله لئن عشت لآتين أمير المؤمنين، ولأشيرن عليه أن يحول بين الناس وبين ذلك. فأغلظ له ابن مسعود، فغضب سعيد وقام وتفرق الناس، وغضب حذيفة وسار إلى عثمان فاخبره بالذي رأى، وقال: أنا النذير العريان فأدركوا الأمة. فجمع عثمان الصحابة وأخبرهم الخبر، فأعظموه ورأوا جميعاً ما رأى حذيفة. فأرسل عثمان إلى حفصة بنت عمر: أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها. وكانت هذه الصحف هي التي كتبت في أيام أبي بكر، فإن القتل لما كثر في الصحابة يوم اليمامة قال عمر لأبي بكر: إن القتل قد كثر واستحر بقراء القرآن يوم اليمامة، وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء فيذهب من القرآن كثير، وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن، فأمر أبو بكر زيد بن ثابت فجمعه من الرقاع والعسب وصدور الرجال، فكانت الصحف عند أبي بكر ثم عند عمر، فلما توفي عمر أخذتها حفصة فكانت عندها. فأرسل عثمان إليها أخذها منها وأمر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحرث بن هشام فنسخوها في المصاحف، وقال عثمان: إذا اختلفتم فاكتبوها بلسان قريش فإنما نزل بلسانهم؛ ففعلوا. فلما نسخوا الصحف ردها عثمان إلى حفصة وارسل إلى كل أفق بمصحف وحرق ما سوى ذلك وأمر أن يعتمدوا عليها ويدعوا ما سوى ذلك. فكل الناس عرف فضل هذا الفعل إلا ما كان من أهل الكوفة، فإن المصحف لما قدم عليهم فرح به أصحاب النبي، صلى الله عليه وسلم، وإن أصحاب عبد الله ومن وافقهم امتنعوا من ذلك وعابوا الناس، فقام فيهم ابن مسعود وقال: ولا كل ذلك فإنكم والله قد سبقتم سبقاً بيناً فاربعوا على ظلعكم. ولما قدم عليٌّ الكوفة قام إليه رجل فعاب عثمان بجمع الناس على المصحف، فصاح به وقال: اسكت فعن ملإٍ منا فعل ذلك، فلو وليت منه ما ولي عثمان لسلكت سبيله. ذكر سقوط خاتم النبي صلى الله عليه وسلم في بئر أريس وفيها وقع خاتم النبي، صلى الله عليه وسلم، من يد عثمان في بئر أريس، وهي على ميلين من المدينة، وكانت قليلة الماء، فما أدرك قعرها بعد. وكان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، اتخذه لما أراد أن يكاتب الأعاجم يدعوهم إلى الله تعالى، فقيل له: إنهم لا يقبلون كتاباً إلا مختوماً، فأمر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أن يعمل له خاتم من حديد، فلما عمل جعله في إصبعه، فأتاه جبرائيل فنهاه عنه، فنبذه، وأمر فعمل له خاتم من نحاس وجعله في إصبعه. فقال له جبرائيل، انبذه، فنبذه، وأمررسول الله، صلى الله عليه وسلم بخاتم من فضةٍ فصنع له فجعله في إصبعه، فأمره جبرائيل أن يقره، فأقره. وكان نقشه ثلاثة أسطر: (محمد) سطر، و (رسول) سطر، و (الله) سطر؛ فتختم به رسول الله، صلى الله عليه وسلم، حتى توفي، ثم تختم به أبو بكر حتى توفي، ثم عمر حتى توفي، ثم تختم به عثمان ست سنين. فحفروا بئراً بالمدينة شرباً للمسلمين، فقعد على رأس البئر فجعل يعبث بالخاتم ويديره باصبعه فسقط من يده في البئر، فطلبوه فيها ونزحوا مافيها من الماء فلم يقدروا عليه، فجعل فيه مالاً عظيماً لمن جاء به، واغتم لذلك غماً شديداً. فلما يئس منه صنع خاتماً آخر على مثاله ونقشه فبقي في إصبعه حتى هلك، فلما قتل ذهب الخاتم فلم يدر من أخذه. ذكر تسيير أبي ذر إلى الربذة
وفي هذه السنة كان ما ذكر في أمر أبي ذر وإشخاص معاوية إياه من الشام إلى المدينة، وقد ذكر في سبب ذلك أمور كثيرة، من سب معاوية إياه وتهديده بالقتل وحمله إلى المدينة من الشام بغير واء ونفيه من المدينة على الوجه الشنيع، لا يصح النقل به، ولو صح لكان ينبغي أن يعتذر عن عثمان، فإن للإمام أن يؤدب رعيته، وغير ذلك من الأعذار، لا أن يجعل ذلك سبباً للطعن عليه، كرهت ذكرها. وأما العاذرون فإنهم قالوا: لما ورد ابن السوداء إلى الشام لقي أبا ذر فقال: يا أبا ذر ألا تعجب من معاوية يقول: المال مال الله! ألا إن كل شيء لله، كأنه يريد أن يحتجنه دون الناس ويمحو اسم المسلمين. فأتاه أبو ذر فقال: ما يدعوك | |
|
 | |
الشيخ عودة الشيخ عودة

عدد المساهمات : 1748 تاريخ التسجيل : 28/09/2008 العمر : 72
 | موضوع: رد: كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير الثلاثاء فبراير 11, 2014 3:02 am | |
| فلما قدم المدينة ورأى المجالس في أصل جبل سلع قال: بشر أهل المدينة بغارة شعواء وحرب مذكار. ودخل على عثمان فقال له: ما لأهل الشام يشكون ذرب لسانك؟ فأخبره. فقال: يا أبا ذر علي أن أقضي ما علي وأن أدعو الرعية إلى الاجتهاد والاقتصاد وما علي أن أجبرهم على الزهد. فقال أبو ذر: لا ترضوا من الأغنياء حتى يبذلوا المعروف ويحسنوا إلى الجيران والإخوان ويصلوا القرابات. فقال كعب الأحبار، وكان حاضراً: من أدى الفريضة فقد قضى ما عليه. فضربه أبو ذر فشجه، وقال له: يا ابن اليهودية ما أنت وما ههنا؟ فاستوهب عثمان كعباً شجته، فوهبه. فقال أبو ذر لعثمان: تأذن لي في الخروج من المدينة؛ فإن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أمرني بالخروج منها إذا بلغ البناء سلعاً. فأذن له، فنزل الربذة وبنى بها مسجداً، وأقطعه عثمان صرمةً من الإبل وأعطاه مملوكين وأجرى عليه كل يوم عطاء، وكذلك على رافع بن خديج، وكان قد خرج أيضاً عن المدينة لشيء سمعه. وكان أبو ذر يتعاهد المدينة مخافة أن يعود أعرابياً، وأخرج معاوية إليه أهله، فخرجوا ومعهم جراب مثقلٌ يد الرجل، فقال: انظروا إلى هذا الذي يزهد في الدنيا ما عنده؟ فقالت امرأته: والله ما هو دينار ولا درهم ولكنها فلوس كان إذا خرج عطاؤه ابتاع منه فلوساً لحوائجنا. ولما نزل الربذة أقيمت الصلاة وعليها رجل يلي الصدقة، فقال: تقدم يا أبا ذر. فقال: لا، تقدم أنت، فإن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال لي: اسمع وأطع وإن كان عليك عبد مجدع، فأنت عبد ولست بأجدع؛ وكان من رقيق الصدقة اسمه مجاشع. ذكر عدة حوادثفي هذه السنة زاد عثمان النادء الثالث يوم الجمعة على الزوراء. وفيها مات حاطب بن أبي بلتعة اللخمي وهو من أهل بدر. حاطب بالحاء المهملة. وبلتعة بالباء الموحدة ثم التاء المثناة من فوق بوزن مقرعة.
وفيها مات عمرو بن أبي سرح الفهري وكان بدرياً. وفيها مات مسعود ابن الربيع، وقيل: ابن ربيعة بن عمرو القاري، من القارة، أسلم قبل دخول النبي، صلى الله عليه وسلم، دار الأرقم، وشهد بدراً، وكان عمره قد جاوز الستين. وفيها مات عبد الله بن كعب بن عمرو الأنصاري، شهد بدراً، وكان على غنائم النبي، صلى الله عليه وسلم، فيها وفي غيرها. وفيها مات عبد الله بن مظعون أخو عثمان وكان بدرياً؛ وجبار بن صخر، وهو بدري أيضاً. جبار بالجيم وآخره راء. ثم دخلت سنة إحدى وثلاثين ذكر غزوة الصواري قيل: وفي هذه السنة كانت غزوة الصواري، وقيل: كانت سنة أربع وثلاثين، وقيل: في سنة إحدى وثلاثين كانت غزوة الأساورة، وقيل: كانتا معاً سنة إحدى وثلاثين، وكان على المسلمين معاوية، وكان قد جمع الشام له أيام عثمان. وسبب جمعه له أن أبا عبيدة بن الجراح لما حضر استخلف على عمله عياض بن غنم، وكان خاله وابن عمه، وكان جواداً مشهوراً، وقيل: استخلف معاذ بن جبل، على ما تقدم، فمات عياض واستخلف عمر بعده سعيد بن حذيم الجمحي، ومات سعيد وأمر عمر مكانه عمير بن سعد الأنصاري، ومات عمر وعمير على حمص وقنسرين، ومات يزيد بن أبي سفيان فجعل عمر مكانه أخاه معاوية ونعاه لأبي سفيان فقال: من جعلت على عمله يا أمير المؤمنين؟ فقال: معاوية. فقال: وصلتك رحم، فاجتمعت لمعاوية الأردن ودمشق، ومرض عمير بن سعد فاستعفى عثمان واستأذنه في الرجوع إلى أهله، فأذن له، وضم عثمان حمص وقنسرين إلى معاوية، ومات عبد الرحمن بن علقمة، وكان على فلسطين، فضم عثمان عمله إلى معاوية فاجتمع الشام لمعاوية لسنتين من إمارة عثمان، فهذا كان سبب اجتماع الشام له. وأما سبب هذه الغزوة فإن المسلمين لما أصابوا من أهل إفريقية وقتلوهم وسبوهم، خرج قسطنطين بن هرقل في جمع له لم تجمع الروم مثله مذ كان الإسلام، فخرجوا في خمسمائة مركب أو ستمائة، وخرج المسلمون وعلى أهل الشام معاوية بن أبي سفيان، وعلى البحر عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وكانت الريح على المسلمين لما شاهدوا الروم، فأرسى المسلمون والروم وسكنت الريح، فقال المسلمون: الأمان بيننا وبينكم؛ فباتوا ليلتهم والمسلمون يقرأون القرآن ويصلون ويدعون، والرومى يضربون بالنواقيس، وقربوا من الغد سفنهم وقرب المسلمون سفنهم فربطوا بعضها مع بعض واقتتلوا بالسيوف والخناجر، وقتل من المسلمين بشرٌ كثير، وقتل من الروم ما لا يحصى، وصبروا يومئذٍ صبراً لم يصبروا في موطن قط مثله، ثم أنزل الله نصره على المسلمين، فانهزم قسطنطين جريحاً ولم ينج من الروم إلا الشريد. وأقام عبد الله بن سعد بذات الصواري بعد الهزيمة أياماً ورجع. فكان أول ما تكلم به محمد بن أبي حذيفة ومحمد بن أبي بكر في أمر عثمان في هذه الغزوة وأظهرا عيبه وما غير وما خالف به أبا بكر وعمر، ويقولان استعمل عبد الله بن سعد رجلاً كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قد أباح دمه، ونزل القرآن بكفره، وأخرج رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قوماً أدخلهم، ونزع أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، واستعمل سعيد بن العاص وابن عامر. فبلغ ذلك عبد الله بن سعد فقال: لا تركبا معنا، فركبا في مركب ما معهما إلا القبط، فلقوا العدو، فكانا أقل المسلمين نكايةً وقتالاً، فقيل لهما في ذلك، فقالا: كيف نقاتل مع عبد الله ابن سعد؟ استعمله عثمان وعثمان فعل كذا وكذا. فأرسل إليهما عبد الله ينهاهما ويتهددهما، ففسد الناس بقولهما، وتكلموا ما لم يكونوا ينطقون به. وأما قسطنطين فإنه سار في مركبه إلى صقلية، فسأله أهلها عن حاله، فأخبرهم. فقالوا: أهلكت النصرانية وأفنيت رجالها! لو أتانا العرب لم يكن عندنا من يمنعهم. ثم أدخلوه الحمام وقتلوه وتركوا من كان معه في المركب وأذنوا له في المسير إلى القسطنطينية. وقيل: في هذه السنة فتحت أرمينية على يد حبيب بن مسلمة، وقد تقدم ذكر ذلك. ذكر مقتل يزدجرد بن شهريار
في هذه السنة هرب يزدجرد من فارس إلى خراسان في قول بعضهم، وقد تقدم الخلاف فيه، وكان ابن عامر قد خرج من البصرة حين وليها إلى فارس فافتتحها، وهرب يزدجرد من جور، وهي أدرشير خره، في سنة ثلاثين، فوجه ابنن عامر في أثره مجاشع بن مسعود، وقيل: هرم بن حيان العبدي، وقيل: هرم بن حيان اليشكري، فاتبعه إلى كرمان، فهرب يزدجرد إلى خراسان. وأصاب مجاشع بن مسعود ومن معه الثلج والدمق واشتد البرد، وكان الثلج قيد رمح، فهلك الجند وسلم مجاشع ورجل معه جارية فشق بطن بعير فأدخلها فيه وهرب. فلما كان الغد جاء فوجدها حية فحملها. فسمي ذلك القصر قصر مجاشع لأن جيشه هلكوا فيه، وهو على خمسة فراسخ أو ستة من السرجان من أعمال كرمان. هذا على قول من يقول: إن هرب يزدجرد من فارس كان هذه السنة. وأما سبب قتله، على ما تقدم من ذكره من فتح فارس وخراسان، فقد اختلف الناس في سبب قتله، فقيل: إنه هرب من كرمان في جماعة إلى مرو ومعه خرزاد أخو رستم، فرجع عنه إلى العراق ووصى به ماهويه مرزبان مرو، فسأله يزدجرد مالاً فمنعه، فخافه أهل مرو على أنفسهم فأرسلوا إلى الترك يستنصرونهم عليه، فأتوه فبيتوه فقتلوا أصحابه، فهرب يزدجرد ماشياً إلى شط المرغاب فأوى إلى بيت رجل ينقر الأرحاء، فلما نام قتله، وقيل: بل بيته أهل مرو ولم يستنصروا بالترك فقتلوا أصحابه وهرب منهم فقتله النقار، وتبعوا أثره إلى بيت الذي ينقر الأرحاء فأخذوه وضربوه فأقر بقتله فقتلوه وأهله. وكان يزدجرد قد وطىء امرأة بها فولدت له غلاماً ذاهب الشق، ولدته بعد قتله فسمي المخدج، فولد له أولاد بخراسان، فوجد قتيبة بن مسلم حين افتتح الصغد وغيرها جاريتين من ولد المخدج فبعث بهما أو بإحداهما إلى الحجاج، فبعث بها إلى الوليد بن عبد الملك، فولدت للوليد يزيد بن الوليد الناقص. وأخرج يزدجرد من النهر وجعل في تابوت وحمل إلى إصطخر فوضع في ناووس هناك. وقيل: إن يزدجرد هرب بعد وقعة نهاوند إلى أرض أصبهان وبها رجل يقال له مطيار كان قد أصاب من العرب شيئاً يسيراً فصار له بها محل كبير، فأى مطيار يزدجرد ذات يوم فحجبه بوابه ليستأذن له، فضربه وشجه، فدخل البواب على يزدجرد مدمى، فرحل عن أصبهان من ساعته فأتى الري، فخرج إليه صاحب طبرستان وعرض عليه بلاده وأخبره بحاصنتها، فلم يجبه. وقيل: مضى من فوره ذلك إلى سجستان، ثم سار إلى مرو في ألف فارس، وقيل: بل قصد فارس فأقام بها أربع سنين، ثم أتى كرمان فأقام بها سنتين أو ثلاثاً فطلب إليه دهقانة شيئاً فلم يجبه فجره برجله وطرده عن بلاده، فسار إلى سجستان فأقام بها نحواً من خمس سنين، ثم عزم على قصد خراسان ليجمع الجموع ويسير بهم إلى العرب، فسار إلى مرو ومعه الرهن من أولاد الدهاقين ومعه فرخزاد. فلما قدم مرو كاتب ملوك الصين وملك فرغانة وملك كابل وملك الخزر يستمدهم، وكان الدهقان يومئذ بمروماهويه أبو براز، فوكل ماهويه بمرو ابنه براز ليحفظها ويمنع عنها يزدجرد خوفاً من مكره، فركب يزدجرد يوماً وطاف بالمدينة وأراد دخولها من بعض أبوابها، فمنعه براز، فصاح به أبوه ليفتح الباب فلم يفعل، وأومأ إليه أبوه أن لا يفعل، ففطن له رجل من أصحاب يزدجرد فأعلمه بذلك واستأذنه في قتله، فلم يأذن له.
وقيل: أراد يزدجرد صرف الدهقنة عن ماهويه إلى سنجان ابن أخيه، فبلغ ذلك ماهويه، فعمل في هلاك يزدجرد ؛ فكتب إلى نيزك طرخان يدعوه إلى القدوم عليه ليتفقا على قتله ومصالحة العرب عليه، وضمن له إن فعل أن يعطيه كل يوم ألف درهم. فكتب نيزك إلى يزدجرد يعده المساعدة على العرب وأنه يقدم عليه بنفسه إن أبعد عسكره وفرخزاد عنه. فاستشار يزدجرد أصحابه فقال له سنجان: لست أرى أن تبعد عنك أصحابك وفرخزاد. وقال أبو براز: أرى أن تتألف نيزك وتجيبه إلى ما سأل. فقبل رأيه وفرق عنه جنده، فصاح فرخزاد وشق جيبه وقال: أظنكم قاتلي هذا! ولم يبرح فرخزاد حتى كتب له يزدجرد بخط يده أنه آمن وأنه قد أسلم يزدجرد وأهله وما معه إلى ماهويه، وأشهد بذلك. وأقبل نيزك فلقيه يزدجرد بالمزامير والملاهي، أشار عليه بذلك أبو براز، فلما لقيه تأخر عنه أبو براز فاستقبله نيزك ماشياً، فأمر له يزدجرد بجنيبة من جنائبه، فركبها، فلما توسط عسكره تواقفا فقال له نيزك فيما يقول: زوجني إحدى بناتك حتى أناصحك في قتال عدوك. فسبه يزدجرد ، فضربه نيزك بمقرعته، وصاح يزدجرد ، وركض منهزماً. وقتل أصحاب نيزك أصحاب يزدجرد وانتهى يزدجرد إلى بيت طحان فمكث فيه ثلاثة أيام لم يأكل طعاماً. فقال له الطحان: اخرج أيها الشقي فكل طعاماً فقد جعت! فقال: لست أصل إلى ذلك إلا بزمزمة، وكان عند الطحان رجل يزمزم، فكلمه الطحان في ذلك ففعل وزمزم له فأكل. فلما رجع المزمزم سمع بذكر يزدجرد ، فسأل عن حليته فوصفوه له فأخبرهم به وبحليته فأرسل إليه أبو براز رجلاً من الأساورة وأمره بخنقه وإلقائه في النهر، وأتى الطحان فضربه ليدله عليه، فلم يفعل وجحده. فلما أراد الانصراف عنه قال له بعض أصحا به: إني لأجد ريح مسك؛ ونظر إلى طرف ثوبه من ديباج في الماء فجذبه فإذا هو يزدجرد ، فسأله أن لا يقتله ولا يدل عليه وجعل له خاتمه ومنطقته وسواره. فقال له: أعطني أربعة دراهم وأخلي عنك؛ فلم يكن معه وقال: إن خاتمي لا يحصى ثمنه فخذه، فأبى عليه، فقال له يزدجرد : قد كنت أخبر أني سأحتاج إلى أربعة دراهم فقد رأيت ذلك، ثم نزع أحد قرطيه فأعطاه الطحان ليستر عليه، وأرادوا قتله، فقال: ويحكم! إنا نجد في كتبنا أنه من قتل الملوك عاقبه الله بالحريق في الدنيا، فلا تقتلوني واحملوني إلى الدهقان أو إلى العرب فإنهم يستبقون مثلي! فأخذوا ما عليه وخنقوه بوتر القوس وألقوه في الماء، فأخذ أسقف مرو وجعله في تابوت ودفنه. وسأل أبو براز عن أحد القرطين وأخذ الذي دل عليه فضربه حتى أتى على نفسه. وقيل: بل سار يزدجرد من كرمان قبل ورود العرب إليها نحو مرو على الطبسين وقوهستان في أربعة آلاف، فلما قارب مرو لقيه قائدان يقال لأحدهما بارز وللآخر سنجان وكانا متباغضين، فسعى براز بسنجان حتى هم يزدجرد بقتله، وأفشى ذلك إلى امرأة من نسائه، ففشا الحديث، فجمع سنجان أصحابه وقصد قصر يزدجرد ، فهرب براز وخاف يزدجرد فهرب أيضاً إلى رحى على فرسخين من مرو، فدخل بيت نقار الرحى، فأطعمه الطحان، فطلب منه شيئاً فأعطاه منطقته، فقال: إنما يكفيني أربعة دراهم، فلم يكن معه، ثم نام يزدجرد فقتله الطحان بفأس كانت معه وأخذ ما عليه وألقى جثته في الماء وشق بطنه وثقله. وسمع بقتله مطران كان بمرو، فجمع النصارى وقال: قتل ابن شهريار، وإنما شهريار ابن شيرين المؤمنة التي قد عرفتم حقها وإحسانها إلى أهل ملتنا مع ما نال النصارى في ملك جده أنوشروان من الشرف، فينبغي أن نحزن لقتله ونبني له ناووساً، فأجابوه إلى ذلك وبنوا له ناووساً وأخرجوا جثته وكفنوها ودفنوها في الناووس. وكان ملكه عشرين سنة، منها أربع سنين في دعة، وست عشرة سنة في تعب من محاربة العرب إياه وغلظتهم عليه، وكان آخر من ملك من آل أردشير ابن بابك وصفا الملك بعده للعرب. ذكر مسير ابن عامر إلى خراسان وفتحها
لما قتل عمر بن الخطاب نقض أهل خراسان وغدروا. فلما افتتح ابن عامر فارس قام إليه حبيب بن أوس التميمي فقال له: أيها الأمير إن الأرض بين يديك ولم يفتح منها إلا القليل، فسر فإن الله ناصرك. قال: أو لم نؤمر بالمسير؟ وكره أن يظهر أنه قبل رأيه. وقيل: إن ابن عامر لما فتح فارس عاد إلى البصرة واستخلف على إصطخر شريك بن الأعورالحارثي، فبنى شريك مسجد إصطخر. فلما دخل البصرة أتاه الأحنف بن قيس، وقيل غيره، فقال له: إن عدوك منك هاربن ولك هائب، والبلاد واسعة، فسر فإن الله ناصرك ومعزٌّ دينه. فتجهز وسار واستخلف على البصرة زياداً، وسار إلى كرمان فاستعمل عليها مجاشع بن مسعود السلمي، وله صحبة، وأمره بمحاربة أهلها، وكانوا قد نكثوا أيضاً، واستعمل على سجستان الربيع بن زياد الحرثي، وكانوا أيضاً قد غدروا ونقضوا الصلح. وسار ابن عامر إلى نيسابور وجعل على مقدمته الأحنف بن قيس، فأتى الطبسين، وهما حصنان، وهما بابا خراسان، فصالحه أهلهما، وسار إلى وهستان فلقيه أهلها وقاتلهم حتى ألجأهم إلى حصنهم، وقدم عليها ابن عامرفصالحه أهلها على ستمائة ألف درهم. وقيل: كان المتوجه إلى قوهستان أمير بن أحمر اليشكري، وهي بلاد بكر بن وائل؛ وبعث ابن عامر سريةً إلى رستاق زام من أعمال نيسابور، ففتحه عنوةً، وفتح باخرز من أعمال نيسابور أيضاً، وفتح جوين من أعمال نيسابور أيضاً. ووجه ابن عامر الأسود بن كلثوم العدوي من عدي الرباب، وكان ناسكاً، إلى بيهق، من أعمالها أيضاً، فقصد قصبته ودخل حيطان البلد من ثلمة كانت فيه ودخلت معه طائفة من المسلمين فأخذ العدو عليهم تلك الثلمة، فقاتل الأسود حتى قتل هو وطائفة ممن معه، وقام بأمر الناس بعده أخوه أدهم بن كلثوم، فظفر وفتح بيهق، وكان الأسود يدعو الله أن يحشره من بطون السباع والطير، فلم يواره أخوه، ودفن من استشهد من أصحابه. وفتح ابن عامر بشت من نيسابور. وهذه بشت بالشين المعجمة، وليست ببست التي بالسين المهملة، تلك من بلاد الدوان وهذه من خراسان من نياسوبر. وافتتح خواف وأسفرايين وأرغيان، ثم قصد نيسابور بعد ما استولى على أعمالها وافتتحها، فحصر أهلها أشهراً، وكان على كل ربع منها مرزبان للفرس يحفظه، فطلب صاحب ربع من تلك الرباع الأمان على أن يدخل المسلمين المدينة، فأجيب إلى ذلك، فأدخلهم ليلاً ففتحوا الباب وتحصن مرزبانها الأكبر في حصنها، ومعه جماعة، ومعه جماعة، وطلب الأمان والصلح على جميع نيسابور، فصالحه على ألف ألف درهم، وولى نيسابور قيس بن الهيثم السلمي، وسير جيشاً إلى نسا وأبيورد فافتتحوها صلحاً؛ وسير سريةً أخرى إلى سرخس مع عبد الله ابن خازم السلمي، فقاتلوا أهلها ثم طلبوا الأمان والصلح على أمان مائة رجل، فأجيبوا إلى ذلك، فصالحهم مرزبانها على ذلك وسمى مائة رجل ولم يذكر نفسه فقتله، ودخل سرخس عنوةً.
وأتى مرزبان طوس إلى ابن عامر فصالحه عن طوس على ستمائة ألف درهم؛ وسير جيشاً إلى هراة عليهم عبد الله بن خازم، وقيل غيره، فبلغ مرزبان هراة ذلك فسار إلى ابن عامر فصالحه عن هراة وباذغيس وبوشنج. وقيل: بل سار ابن عامر في الجيش إلى هراة فقاتله أهلها ثم صالحه مرزبانها على ألف ألف درهم، ولما غلب ابن عامر على هذه البلاد أرسل إليه مرزبان مرو فصالحه على ألفي ألف ومائتي ألف درهم، وقيل غير ذلك؛ وأرسل ابن عامر حاتم بن النعمان الباهلي إلى مرزبانها، وكانت مرو كلها صلحاً إلا قرية منها يقال لها سنج، فإنها أخذت عنوة وهي بكسر السين المهملة والنون الساكنة وآخرها جيم. ووجه ابن عامر الأحنف بن قيس إلى طخارستان، فمر برستاق يعرق برستاق الأحنف ويدعى سوانجرد، فحصر أهلها فصالحوه على ثلثمائة ألف درهم، فقال الأحنف: أصالحكم على أن يدخل رجل منا القصر فيؤذن فيه ويقيم فيكم حتى ينصرف. فرضوا بذلك، ومضى الأحنف إلى مرو الروذ فقاتله أهلها فقتلهم وهزمهم وحصرهم، وكان مرزبانها من أقارب باذان صاحب اليمن، فكتب إلى الأحنف: إنه دعاني إلى الصلح إسلام باذان، فصالحه على ستمائة ألف، وسير الأحنف سريةً فاستولت على رستاق بغ واستاقت منه مواشي، ثم صالحوا أهله. وجمع له أهل طخارستان، فاجتمع أهل الجوزجان، فوجه إليهم الأحنف الأقرع بن حابس التميمي في خيل وقال: يا بني تميم تحابوا وتباذلوا تعدل أموركم وابدأوا بجهاد بطونكم وفروجكم يصلح لكم دينكم، ولا تغلوا يسلم لكم جهادكم. فسار الأقرع فلقي العدو بالجوزجان فكانت بالمسلمين جولة ثم عادوا فهزموا المشركين وفتحوا الجوزجان عنوة، فقال ابن الغريزة النهشلي: سقى صوب السحاب إذا استهلت ... مصارع فتيةٍ بالجوزجان إلى القصرين من رستاق خوتٍ ... أقادهم هناك الأقرعان وفتح الأحنف الطالقان صلحاً وفتح الفارياب، وقيل: بل فتحها أمير بن أحمر. ثم سار الأحنف إلى بلخ، وهي مدينة طخارستان، فصالحه أهلها على أربعمائة ألف، وقيل: سبعمائة ألف؛ واستعمل على بلخ أسيد بن المتشمس، ثم سار إلى خوارزم، وهي على نهر جيحون، فلم يقدر عليها فاستشار أصحابه، فقال له حضنين بن المنذر: قال عمرو بن معد يكرب: إذا لم تستطع أمراً فدعه ... وجاوزه إلى ما تستطيع فعاد إلى بلخ وقد قبض أسيد صلحها، وافق وهو يجيبهم المهرجان، فأهدوا له هدايا كثيرة من دارهم ودنانير ودواب وأوانٍ وثياب وغير ذلك، فقال لهم: ما صالحناه على هذا! فقالوا: لا، ولكن هذا شيء نفعله في هذا اليوم بأمرائنا. فقال: ما أدري ما هذا ولعله من حقي ولكن أقبضه حتى أنظر، فقبضه حتى قدم الأحنف فأخبره، فسألهم عنه، فقالوا ما قالوا لأسيد، فحمله إلى ابن عامر وأخبره عنه، فقال: خذه يا أبا بحر. قال: لا حاجة لي فيه. فأخذه ابن عامر. قال الحسن البصري: فضمه القرشي، وكان مضماً. ولما تم لابن عامر هذا الفتح قال له الناس: ما فتح لأحد ما فتح عليك، فارس وكرمان وسجستان وخراسان. فقال: لا جرم لأجعلن شكري لله على ذلك أن أخرج محرماً من موقفي هذا. فأحرم بعمرة من نيسابور وقدم على عثمان واستخلف على خراسان قيس بن الهيثم، فسار قيسٌ بعدن شخوصه في أرض طخارستان فلم يأت بلداً منها إلا صالحه أهله وأذعنوا له، حتى أتى سمنجان فامتنعوا عليه، فحصرهم حتى فتحها عنوة. أسيد بفتح الهمزة وكسر السين. وحضين بن المنذر بالضاد المعجمة. ذكر فتح كرمانلما سار ابن عامر عن كرمان إلى خراسان واستعمل مجاشع بن مسعود السلمي على كرمان، على ما ذكرناه قبل، أمره أن يفتحها، وكان أهلها قد نكثوا وغدروا، ففتح هميد عنوةً واستبقى أهلها وأعطاهم أماناً وبنى بها قصراً يعرف بقصر مجاشع، وأتى السيرجان، وهي مدينة كرمان، فأقام عليها أياماً يسيرة وأهلها متحصنون، فقاتلهم وفتحها عنوةً، فجلا كثير من أهلها عنها، وفتح جيرفت عنوةً، وسار في كرمان فدوخ أهلها، وأتى القفص وقد تجمع له خلق كثير من الأعاجم الذين جلوا، فقاتلهم فظفر بهم وظهر عليهم، وهرب كثيرٌ من أهل كرمان فركبوا البحر ولحق بعضهم بمكران وبعضهم بسجستان، فأقطعت العرب منازلهم وأراضيهم فعمروها واحتفروا لها القني في مواضع منها وأدوا العشر منها. ذكر فتح سجستان وكابل وغيرهما
قد تقدم ذكر فتح سجستان أيام عمر بن الخطاب، ثم إن أهلها نقضوا بعده. فلما توجه ابن عامر إلى خراسان سير إليها من كرمان الربيع بن زياد الحارثي، فقطع المفازة حتى أتى حصن زالق، فأغار على أهله يوم مهرجان وأخذ الدهقان، فافتدى نفسه بأن غرز عنزة وغمرها ذهباً وفضة وصالحه على صلح فارس. ثم أتى بلدة يقال لها كركويه، فصالحه أهلها ثم نزل رستاق هيسون، فصالحوه على غير قتال، وسار إلى زرنج فنزل على مدينة روشت بقرب زرنج، فقاتله أهلها وأصيب رجال من المسلمين، ثم انهزم المشركون وقتل منهم مقتلة عظيمة، وأتى الربيع ناشروذ ففتحها، ثم أتى شرواذ فغلب عليها، وسار منها إلى زرنج فنازلها وقاتله أهلها فهزمهم وحصرهم، فأرسل إليه مرزبانها ليصالحه واستأمنه على نفسه ليحضر عنده فآمنه، وجلس له الربيع على جسد من أجساد القتلى واتكأ على آخر وأمر أصحابه ففعلوا مثله، فلما رآهم المرزبان هاله ذلك فصالحه على ألف وصيف مع كل وصيف جام من ذهب، ودخل المسلمون المدينة. ثم سار منها إلى سناروذ، وهي واد، فعبره وأتى القرية التي بها مربط فرس رستم الشديد، فقاتله أهلها، فظفر بهم ثم عاد إلى زرنج وأقام بها نحو سنة؛ وعاد إلى ابن عامر، واستخلف عليها عاملاً، فأخرج أهلها العامل وامتنعوا. فكانت ولاية الربيع سنة ونصفاً. وسبى فيها أربعين ألف رأس. وكان كاتبه الحسن البصري. فاستعمل ابن عامر عبد الرحمن بن سمرة بن حبيب بن عبد شمس على سجستان، فسار إليها فحصر زرنج، فصالحه مرزبانها على ألفي ألف درهم وألفي وصيف. وغلب عبد الرحمن على ما بين زرنج والكش من ناحية الهند، وغلب من ناحية الرخج على ما بينه وبين الدوان. فلما انتهى إلى بلد الدوان حصرهم في جبل الزوز ثم صالحهم ودخل على الزوز، وهو صنم من ذهب، عيناه ياقوتتان، فقطع يده وأخذ الياقوتتين، ثم قال للمرزبان: دونك الذهب والجوهر: وإنما أردت أن أعلمك أنه لا يضر ولا ينفع. وفتح كابل وزابلستان، وهي ولاية غزنة، ثم عاد إلى زرنج فأقام بها حتى اضطرب أمر عثمان، فاستخلف عليها أمير بن أحمر اليشكري وانصرف، فأخرج أهلها أمير بن أحمر وامتنعوا؛ ولأمير يقول زياد بن الأعجم: لولا أميرٌ هلكت يشكرٌ ... ويشكرٌ هلكى على كل حال ذكر عدة حوادثوحج بالناس هذه السنة عثمان. وفيها مات أبو الدرداء الأنصاري، وهو بدري، وقيل: سنة اثنتين وثلاثين. وفيها مات أبو طلحة الأنصاري، وهو بدري، وقيل: سنة اثنتين وثلاثين، وقيل: سنة إحدى وخمسين. وفيها مات أبو أسيد الساعدي، وقيل: مات سنة ستين، وهو على هذا القول آخر من مات من البدريين. أسيد بضم الهمزة. وفيها مات أبو سفيان ابن الحارث بن عبد المطلب بن هاشم، وأخوه الطفيل. وأبو سفيان بن حرب بن أمية، وهو ابن ثمان وثمانين سنة. ثم دخلت سنة اثنتين وثلاثينقيل: في هذه السنة غزا معاوية بن أبي سفيان مضيق القسطنطينية ومعه زوجته عاتكة بنت قرظة، وقيل فاختة. ذكر ظفر الترك وقتل عبد الرحمن بن ربيعة في هذه السنة انتصرت الخزر والترك على المسلمين.
وسببه أن الغزوات لما تتابعت عليهم تذامروا وقالوا: كنا أمة لا يقرن بنا أحد حتى جاءت هذه الأمة القليلة فصرنا لا نقوم لها. فقال بعضهم: إن هؤلاء لا يموتون وما أصيب منهم أحد في غزوهم. وقد كان المسلمون غزوهم قبل ذلك فلم يقتل منهم أحد، فلهذا ظنوا أنهم لا يموتون. فقال بعضهم: أفلا تجربون؟ فكمنوا لهم في الغياض، فمر بالكمين نفرٌ من الجند فرموهم منها فقتلوهم فتواعد رؤوسهم إلى حربهم ثم اتعدوا يوماً. وكان عثمان قد كتب إلى عبد الرحمن ابن ربيعة وهو على الباب: إن الرعية قد أبطرها البطنة فلا تقتحم بالمسلمين فإني أخشى أن يقتلوا. فلم يرجع عبد الرحمن عن مقصده، فغزا نحو بلنجر، وكان الترك قد اجتمعت مع الخزر فقاتلوا المسلمين قتالاً شديداً وقتل عبد الرحمن، وكان يقال له ذو النور، وهو اسم سيفه، فأخذ أهل بلنجر جسده وجعلوه في تابوت فهم يستسقون به ويستنصرون به، فلما قتل انهزم الناس وافترقوا فرقتين: فرقة نحو الباب، فلقوا سلمان بن ربيعة أخا عبد الرحمن، كان قد سيره سعيد بن العاص مدداً للمسلمين بأمر عثمان، فلما لقوه نجوا معه، وفرقة نحو جيلان وجرجان، فيهم سلمان الفارسي وأبو هريرة، وكان في ذلك العسكر يزيد بن معاوية النخعي وعلقمة بن قيس ومعضد الشيباني وأبو مفرز التميمي في خباء واحد، وعمرو بن عتبة وخالد بن ربيعة والحلحال بن ذري والقرثع في خباء، فكانوا متجاورين في ذلك العسكر، وكان القرثع يقول: ما أحسن لمع الدماء على الثياب! وكان عمرو بن عتبة يقول لقباء عليه: ما أحسن حمرة الدماء على بياضك! ورأى يزيد بن معاوية أن غزالاً جيء به لم ير أحسن منه فلف في ملحفة ثم دفن في قبر لم ير أحسن منه عليه ثلاثة نفر قعود، فلما استيقظ واقتتل الناس رمي بحجر فهشم رأسه فمات، فكأنما زين ثوبه بالدماء وليس بتلطيخ، فدفن في قبر على الصورة التي رأى. وقال معضد لعلقمة: أعرني بردك أعصب به رأسي، ففعل، فأتى برج بلنجر الذي أصيب فيه يزيد فرماهم فقتل منهم وأتاه حجر عرادة ففضخ هامته، فأخذه أصحابه فدفنوه إلى جنب يزيد، وأخذ علقمة البرد فكان يغسله فلا يخرج أثر الدم منه، وكان يشهد فيه الجمعة ويقول: يحملني على هذا أن دم معضد فيه. وأصاب عمرو بن عتبة جراحة فرأى قابءه كما اشتهى ثم قتل. وأما القرثع فإنه قاتل حتى خرق بالحراب، فبلغ الخبر بذلك عثمان فقال: إنا لله، انتكث أهل الكوفة، اللهم تب عليهم وأقبل بهم! وكان عثمان قد كتب إلى سعيد بن العاص أن ينفذ سلمان إلى الباب للغزو، فسيره فلقي المهزومين، على ما تقدم، فنجاهم الله به. فلما أصيب عبد الرحمن استعمل سعيدٌ سلمان بن ربيعة على الباب، واستعمل على الغزو بأهل الكوفة حذيفة بن اليمان، وأمدهم عثمان بأهل الشام عليهم حبيب بن مسلمة، فتأمر عليهم سلمان وأبى حبيب حتى قال أهل الشام: لقد هممنا بضرب سلمان. فقال الكوفيون: إذن والله نضرب حبيباً ونحبسه وإن أبيتم كثرت القتلى فينا وفيكم؛ وقال أوس بن مغراء في ذلك: إن تضربوا سلمان نضرب حبيبكم ... وإن ترحلوا نحو ابن عفان نرحل وإن تقسطوا فالثغر ثغر أميرنا ... وهذا أميرٌ في الكتائب مقبل ونحن ولاة الأمر كنا حماته ... ليالي نرمي كل ثغر ونعكل وأراد حبيب أن يتأمر على صاحب الباب كما يتأمر أمير الجيش إذا جاء من الكوفة، فكان ذلك أول اختلاف وقع بين أهل الكوفة والشام. وغزا حذيفة ثلاث غزوات، فقتل عثمان في الثالثة، ولقيهم مقتل عثمان فقال حذيفة بن اليمان: اللهم العن قتلته وشتامه! اللهم إنا كنا نعاتبه ويعاتبنا فاتخذوا ذلك سلماً إلى الفتنة! اللهم لا تمتهم إلا بالسيوف! ذكر وفاة أبي ذر
وفيها مات أبو ذر، وكان قد قال لابنته: استشرفي يا بنية هل ترين أحداً؟ قالت: لا. قال: فما جاءت ساعتي بعد. ثم أمرها فذبحت شاةً ثم طبختها ثم قال: إذا جاءك الذين يدفنونني فإنه سيشهدني قوم صالحون فقولي لهم: يقسم عليكم أبو ذر أن لا تركبوا حتى تأكلوا. فلما نضجت قدرها قال لها: انظري هل ترين أحداً؟ قالت: نعم هؤلاء ركب. قال: استقبلي بي الكعبة، ففعلت. فقال: بسم الله وبالله وعلى ملة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ثم مات، فخرجت ابنته فتلقتهم وقالت: رحمكم الله، اشهدوا أبا ذر. قالوا: وأين هو؟ فأشارت إليه، قالوا: نعم ونعمة عين! لقد أكرمنا الله بذلك. وكان فيهم ابن مسعود فبكى وقال: صدق رسول الله، صلى الله عليه وسلم، (يموت وحده ويبعث وحده). فغسلوه وكفنوه وصلوا عليه ودفنوه. وقالت لهم ابنته: إن أبا ذر يقرأ عليكم السلام، وأقسم عليكم أن لا تركبوا حتى تأكلوا؛ ففعلوا وحملوا أهله معهم حتى أقدموهم مكة ونعوه إلى عثمان، فضم ابنته إلى عياله وقال: يرحم الله أبا ذر ويغفر له نزوله الربذة. ولما حضروا شموا من الخباء ريح مسك فسألوها عنه فقالت: إنه لما حضر قال: إن الميت يحضره شهود يجدون الريح لا يأكلون، فدوفي لهم مسكاً بماء ورشي به الخباء. وكان النفر الذين شهدوه: ابن مسعود، وأبا مفرز، وبكر بن عبد الله التميميين، والأسود بن يزيد، وعلقمة بن قيس، ومالك الأشتر النخعيين، والحلحال الضبي، والحرث بن سويد التميمي، وعمرو بن عتبة السلمي، وابن ربيعة السلمي، وأبا رافع المزني، وسويد بن شعبة التميمي، وزياد بن معاوية النخعي، وأخا القرثع الضبي، وأخا معضد الشيباني. وقيل: كان موته سنة إحدى وثلاثين. وقيل: إن ابن مسعود لم يحمل أهل أبي ذر معه إنما معه إنما تركهم حتى قدم على عثمان بمكة فأعلمه بموته، فجعل عثمان طريقه عليهم فحملهم معه. ذكر خروج قارنثم جمع قارن جمعاً كثيراً من ناحية الطبسين وأهل باذغيس وهراة وقوهستان وأقبل في أربعين ألفاً، فقال قيس بن الهيثم لابن خازم: ما ترى؟ قال: أرى أن تخلي البلاد فإني أميرها ومعي عهد من ابن عامر إذا كانت حرب بخراسان فأنا أميرها؛ وأخرج كتاباً كان قد افتعله عمداً، فكره قيس منازعته وخلاه والبلاد وأقبل إلى ابن عامر، فلامه ابن عامر وقال: قد تركت البلاد خراباً وأقبلت! قال: جاءني بعهد منك. قال: فسار ابن خازم إلى قارن في أربعة آلاف وأمرا لناس فحملوا الودك، فلما قرب من قارن أمر الناس أن يدرج كل رجل منهم على زج رمحه خرقةً أو قطناً ثم يكثروا دهنه، ثم سار حتى أمسى، فقد مقدمته ستمائة ثم اتبعهم وأمر الناس، فأشعلوا النيران في أطراف الرماح، فانتهت مقدمته إلى معسكر قارن نصف الليل فناوشوهم، وهاج الناس على دهش وكانوا آمنين من البيات، ودنا ابن خازم منهم فرأوا النيران يمنةً ويسرةً تتقدم وتتأخر وتنخفض وترتفع، فهالهم ذلك، ومقدمة ابن خازم يقاتلونهم، ثم غشيهم ابن خازم بالمسلمين فقتل قارن، فانهزم المشركون واتبعوهم يقتلوهم كيف شاؤوا، وأصابوا سبياً كثيراً. وكتب ابن خازم بالفتح إلى ابن عامر، فرضي وأقره على خراسان، فلبث عليها حتى انقضى أمر الجمل، وأقبل إلى البصرة فشهد وقعة ابن الحضرمي وكان معه في دار سنبيل. وقيل: ما جمع قارن استشار قيس بن الهيثم عبد الله بن خازم فيما يصنع، فقال: أرى أنك لا تطيق كثرة من قد أتانا، فاخرج بنفسك إلى ابن عامر فتخبره بكثرة العدو ونقيم نحن في الحصون ونطاولهم ويأتينا مددكم. فخرج قيس، فلما أمعن أظهر ابن خازم عهداً وقال: قد ولاني ابن عامر خراسان، وسار إلى قارن فظفر به وكتب بالفتح إلى ابن عامر فأقره على خراسان؛ ولم يزل أهل البصرة يغزون من لم يكن صالح من أهل خراسان، فإذا عادوا تركوا أربعة آلاف نجدة. ذكر عدة حوادثوفي هذه السنة مات العباس عم النبي، صلى الله عليه وسلم، وكان عمره يوم مات ثمانياً وثمانين سنة، كان أسن من رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بثلاث سنين. وفيها مات عبد الرحمن بن عوف وعمره خمس وسبعون سنة. وعبد الله بن مسعود وصلى عليه عمار بن ياسر، وقيل عثمان. وتوفي عبد الله بن زيد بن عبد ربه الذي أري الأذان. ثم دخلت سنة ثلاث وثلاثين
في هذه السنة كانت غزوة معاوية حصن المرأة من أرض الروم بناحية ملطية. وفيها كانت غزوة عبد الله بن سعد إفريقية الثانية حين نقض أهلها العهد؛ وفيها كان مسير الأحنف إلى خراسان وفتح المروين، ومسير ابن عامر إلى نيسابور وفتحها، في قول بعضهم، وقد تقدم ذكر ذلك؛ وفيها كانت غزوة قبرس، في قول بعضهم، وقد تقدم ذكرها مستوفى، وقيل إن فتحها كان سنة ثمان وعشرين، فلما كان سنة اثنتين وثلاثين أعان أهلها الروم على الغزاة في البحر بمراكب أعطوهم إياها، فغزاهم معاوية سنة ثلاث وثلاثين في خمس مئة مركب ففتحها عنوة فقتل وسبى ثم أقرهم على صلحهم وبعث إليهم اثني عشر ألفاً فبنوا المساجد وبنى مدينة. وقيل: كانت غزوته الثانية سنة خمس وثلاثين. ذكر تسيير من سير من أهل الكوفة إلى الشاموفي هذه السنة سير عثمان نفراً من أهل الكوفة إلى الشام. وكان السبب في ذلك أن سعيد بن العاص لما ولاه عثمان الكوفة حين شهد على الوليد بشرب الخمر أمره أن يسير الوليد إليه، فقدم سعيد الكوفة وسير الوليد وغسل المنبر، فنهاه رجالٌ من بني أمية كانوا قد خرجوا معه عن ذلك، فلم يجبهم واختار سعيد وجوه الناس وأهل القادسية وقراء أهل الكوفة، فكان هؤلاء دخلته إذا خلا، وأما إذا خرج فكل الناس يدخل عليه، فدخلوا عليه يوماًن فبينا هم يتحدثون قال حبيش بن فلان الأسدي: ما أجود طلحة بن عبيد الله! فقال سعيد: إن من له مثل النشاستج لحقيق أن يكون جواداً، والله لو أن لي مثله لأعاشكم الله به عيشاً رغداً. فقال عبد الرحمن بن حبيش، وهو حدث: والله لوددت أن هذا الملطاط لك، يعني لسعيد، وهو ما كان للأكاسرة على جانب الفرات الذي يلي الكوفة. قالوا: فض الله فاك! والله لقد هممنا بك! فقال أبوه: غلام فلا تجاوزه. فقالوا: يتمنى له سوادنا. قال: ويتمنى لكم أضعافه، فثار به الأشتر وجندب وابن ذي الحنكة وصعصعة وابن الكواء وكميل وعمير بن ضابىء فأخذوه، فثار أبوه ليمنع عنه، فضربوهما حتى غشي عليهما، وجعل سعيد يناشدهم ويأبون حتى قضوا منهما وطراً. فسمعت بذلك بنو أسد فجاؤوا وفيهم طليحة فأحاطوا بالقصر وركبت القبائل فعاذوا بسعيد، فخرج سعيد إلى الناس فقال: أيها الناس قوم تنازعوا وقد رزق الله العافية، فردهم فتراجعوا. وأفاق الرجلان فقالا: قاتلنا غاشيتك. فقال: لا يغشوني أبداً، فكفا ألسنتكما ولا تحزبا الناس. ففعلا، وقعد أولئك النفر في بيوتهم وأقبلوا يقعون في عثمان. وقيل: بل كان السبب في ذلك أنه كان يسمر عند سعيد بن العاص وجوه أهل الكوفة، منهم: مالك بن كعب الأرحبي والأسود بن يزيد وعلقمة بن قيس النخعيان ومالك الأشتر وغيرهم، فقال سعيد: إنما هذا السواد بستان قريش. فقال الأشتر: أتزعم أن السواد الذي أفاءه الله علينا بأسيافنا بستان لك ولقومك؟ وتكلم القوم معه، فقال عبد الرحمن الأسدي، وكان على شرطة سعيد: أتردون على الأمير مقالته؟ وأغلظ لهم. فقال الأشتر: من ههنا لا يفوتنكم الرجل! فوثبوا عليه فوطئوه وطأً شديداً حتى غشي عليه، ثم جر برجله، فنضح بماء فأفاق فقال: قتلني من انتخبت. فقال: والله لا يسمر عندي أحد أبداً. فجعلوا يجلسون في مجالسهم يشتمون عثمان وسعيداً، واجتمع إليهم الناس حتى كثروا، فكتب سعيد وأشراف أهل الكوفة إلى عثمان في إخراجهم، فكتب إليهم أن يلحقوهم بمعاوية، وكتب إلى معاوية: إن نفراً قد خلقوا للفتنة فأقم عليهم وانههم، فإن آنست منهم رشداً فاقبل وإن أعيوك فارددهم علي. فلما قدموا على معاوية أنزلهم كنيسة مريم وأجرى عليهم ما كان لهم بالعراق بأمر عثمان، وكان يتغدى ويتعشى معهم، فقال لهم يوماً: (إنكم قوم من العرب لكم أسنان وألسنة، وقد أدركتم بالإسلام شرفاً وغلبتم الأمم وحويتم مواريثهم، وقد بلغني أنكم نقمتم قريشاً، ولو لم تكن قريش كنتم أذلة، إن أئمتكم لكم جنة فلا تفترقوا عن جنتكم، وإن أئمتكم يصبرون لكم على الجور ويحتملون منكم المؤونة، والله لتنتهن أو ليبتلينكم الله بمن يسومكم السوء ولا يحمدكم على الصبر ثم تكونون شركاءهم فيما جررتم على الرعية في حياتكم وبعد وفاتكم). فقال رجل منهم، وهو صعصعة: (أما ما ذكرت من قريشٍ فإنها لم تكن أكثر العرب ولا أمنعها في الجاهلية فتخوفنا، وأما ما ذكرت من الجنة فإن الجنة إذا اخترقت خلص إلينا).
فقال معاوية: (عرفتكم الآن وعلمت أن الذي أغراكم على هذا قلة العقول، وأنت خطيبهم ولا أرى لك عقلاً، أعظم عليك أمر الإسلام وأذكرك به وتذكرني بالجاهلية! أخزى الله قوماً عظموا أمركم! افقهوا عني، ولا أظنكم تفقهون، أن قريشاً لم تعز في جاهلية ولا إسلام إلا بالله تعالى، لم تكن بأكثر العرب ولا أشدهم، ولكنهم كانوا أكرمهم أحساباً، وأمحضهم أنساباً، وأكملهم مروءة، ولم يمتنعوا في الجاهلية، والناس يأكل بعضهم بعضاً، إلا بالله، فبوأهم حرماً آمناً يتخطف الناس من حولهم! هل تعرفون عربياً أو عجمياً أو أسود أو أحمر إلا وقد أصابه الدهر في بلده وحرمته إلا ما كان من قريش فإنهم لم يردهم أحدٌ من الناس بكيد إلا جعل الله خده الأسفل، حتى أراد الله أن يستنقذ من أكرم واتبع دينه من هوان الدنيا وسوء مرد الآخرة، فارتضى لذلك خير خلقه ثم ارتضى له أصحاباً فكان خيارهم قريشاً، ثم بنى هذا الملك عليهم وجعل هذه الخلافة فيهم فلا يصلح ذلك إلا عليهم، فكان الله يحوطهم في الجاهلية وهم على كفرهم، أفتراه لا يحوطهم وهم على دينه؟ أف لك ولأصحابك! أما أنت يا صعصعة فإن قريتك شر القرى! أنتنها بيتاً، وأعمقها وادياً، وأعرفها بالشر، وألأمها جيراناً! لم يسكنها شريف قط ولا وضيع إلا سب بها، ثم كانوا ألأم العرب ألقاباً وأصهاراً، نزاع الأمم، وأنتم جيران الخط، وفعلة فارس، حتى أصابتكم دعوة النبي، صلى الله عليه وسلم، لم تسكن البحرين فتشركهم في دعوة النبي، صلى الله عليه وسلم، فأنت شر قومك، حتى إذا أبرزك الإسلام وخلطك بالناس أقبلت تبغي دين الله عوجاً، وتنزع إلى الذلة، ولا يضر ذلك قريشاً ولا يضعهم ولن يمنعهم من تأدية ما عليهم، إن الشيطان عنكم غير غافل، قد عرفكم بالشر فأغرى بكم الناس، وهو صارعكم، ولا تدركون بالشر أمراً أبداً إلا فتح الله عليكم شراً منه وأخزى). ثم قام وتركهم فتقاصرت إليهم أنفسهم، فلما كان بعد ذلك أتاهم فقال: (إني قد أذنت لكم فاذهبوا حيث شئتم لا ينفع الله بكم أحداً أبداً ولا يضره ولا أنتم برجال منفعة ولا مضرة، فإن أردتم النجاة فالزموا جماعتكم ولا يبطرنكم الإنعام، فإن البطر لا يعتري الخيار، اذهبوا حيث شئتم فسأكتب إلى أمير المؤمنين فيكم). فلما خرجوا دعاهم وقال لهم: (إني معيد عليكم أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، كان معصوماً فولاني وأدخلني في أمره، ثم استخلف أبو بكر فولاني، ثم استخلف عمر فولاني، ثم استخلف عثمان فولاني، ولم يولني أحدٌ إلا وهو عني راضٍ، وإنما طلب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، للأعمال أهل الجزاء عن المسلمين والغناء، و وإن الله ذو سطوات ونقمات يمكر بمن مكر به، فلا تعرضوا لأمر وأنتم تعلمون من أنفسكم غير ما تظهرون، فإن الله غير تارككم حتى يختبركم ويبدي للناس سرائركم). وكتب معاوية إلى عثمان: (إنه قدم علي أقوام ليست لهم عقول ولا أديان أثقلهم الإسلام و، أضجرهم العدل، لا يريدون الله بشيء، ولا يتكلمون بحجة، إنما همهم الفتنة وأموال أهل الذمة، والله مبتليهم ومختبرهم ثم فاضحهم ومخزيهم، وليسوا بالذين ينكون أحداً إلا مع غيرهم، فانه سعيداً ومن عنده عنهم، فإنهم ليسوا لأكثر من شغب ونكير). فخرجوا من دمشق فقالوا: لا ترجعوا بنا إلى الكوفة فإنهم يشمتون بنا، ولكن ميلوا إلى الجزيرة، فسمع بهم عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، وكان على حمص، فدعاهم فقال: (يا آلة الشيطان لا مرحباً بكم ولا أهلاً، قد رجع الشيطان محسوراً وأنتم بعد نشا، خسر الله عبد الرحمن إن لم يؤدبكم، يا معشر من لا أدري أعرب هم أم عجم، لا تقولوا لي ما بلغني أنكم قلتم لمعاوية؛ أنا ابن خالد بن الوليد، أنا ابن من قد عجمته العاجمات، أنا ابن فاقىء الردة! والله لئن بلغني يا صعصعة أن أحداً ممن معي دق أنفك ثم غمصك لأطيرن بك طيرة بعيدة المهوى)! فأقامهم شهراً كلما ركب أمشاهم، فإذا مر به صعصعة قال: يا ابن الحطيئة، أعلمت أن من لم يصلحه الخير أصلحه الشر؟ ما لك لا تقول كما بلغني أنك قلت لسعيد ومعاوية؟ فيقولون: نتوب إلى الله، أقلنا أقالك الله. فما زالوا به حتى قال: تاب الله عليكم. وسرح الأشتر إلى عثمان، فقدم إليه ثانياً، فقال له عثمان: احلل حيث شئت. فقال: مع عبد الرحمن بن خالد. فقال: ذلك إليك، فرجع إليه.
قيل: وقد روي أيضاً نحو ما تقدم وزادوا فيه أن معاوية لما عاد غليهم من القابلة وذكرهم كان مما قال لهم: وإني والله لا آمركم بشيء إلا وقد بدأت فيه بنفسي وأهل بيتي، وقد عرفت قريش أن أبا سفيان كان أكرمها وابن أكرمها غلا ما جعل الله لنبيه، صلى الله عليه وسلم، فإنه انتخبه وأكرمه، وإني لأظن أن أبا سفيان لو ولد الناس لم يلد إلا حازماً. قال صعصعة: قد كذبت! قد ولدهم خير من أبي سفيان من خلقه الله بيده ونفخ فيه من روحه وأمر الملائكة فسجدوا له، وكان فيهم البر والفاجر، والأحمق والكيس. فخرج تلك الليلة من عندهم ثم أتاهم القابلة فتحدث عندهم طويلاً ثم قال: أيها القوم ردوا خيراً أو اسكتوا وتفكروا وانظروا فيما ينفعكم وينفع أهاليكم والمسلمين فاطلبوه. فقال صعصعة: لست بأهل ذلك ولا كرامة لك أن تطاع في معصية الله. فقال: أليس أول من ابتدأتكم به أن أمرتكم بتقوى الله وطاعة نبيه وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا؟ قالوا: بل أمرت بالفرقة وخلاف ما جاء به النبي، صلى الله عليه وسلم، فقال: إني آمركم الآن إن كنت فعلت فأتوب إلى الله وآمركم بتقواه وطاعته وطاعة نبيه، صلى الله عليه وسلم، ولزوم الجماعة وأن توقروا أئمتكم وتدلوهم على أحسن ما قدرتم عليه. فقال صعصعة: فإنا نأمرك أن تعتزل عملك فإن في المسلمين من هو أحق به منك، من كان أبوه أحسن قدماً في الإسلام من أبيك وهو أحسن في الإسلام قدماً منك. فقال: والله إن لي في الإسلام قدماً ولغيري كان أحسن قدماً مني ولكنه ليس في زماني أحد أقوى على ما أنا فيه مني، ولقد رأى ذلك عمر بن الخطاب، فلو كان غيري أقوى مني لم تكن عند عمر هوادة لي ولا لغيري، ولم أحدث من الحدث ما ينبغي لي أن أعتزل عملي، ولو رأى ذلك أمير المؤمنين لكتب إلي فاعتزلت عمله، فمهلاً فإن في ذلك وأشباهه ما يتمنى الشيطان ويأمر، ولعمري لو كانت الأمور تقضى على رأيكم وأمانيكم ما استقامت لأهل الإسلام يوماً ولا ليلة، فعاودوا الخير وقولوه، وإن لله لسطوات، وإني لخائف عليكم أن تتايعوا في مطاوعة الشيطان ومعصية الرحمن فيحلكم ذلك دار الهوان في العاجل والآجل. فوثبوا عليه وأخذوا رأسه وليحته، فقال: مه إن هذه ليست بأرض الكوفة، والله لو رأى أهل الشام ما صنعتم بي ما ملكت أن أنهاهم عنكم حتى يقتلوكم، فلعمري إن صنيعكم ليشبه بعضه بعضاً! ثم قام من عندهم وكتب إلى عثمان نحو الكتاب المتقدم، فكتب إليه عثمان يأمره أن يردهم إلى سعيد بن العاص بالكوفة، فردهم فأطلقوا ألسنتهم، فضج سعيد منهم إلى عثمان، فكتب إليه عثمان أن يسيرهم إلى عبد الرحمن بن خالد بحمص، فسيرهم إليها، فأنزلهم عبد الرحمن وأجرى عليهم رزقاً، وكانوا: الأشتر وثابت بن قيس الهمداني وكميل بن زياد وزيد بن صوحان وأخاه صعصعة وجندب بن زهير الغامدي وجندب بن كعب الأزدي وعروة بن الجعد وعمرو ابن الحمق الخزاعي وابن الكواء. قيل: سأل معاوية ابن الكواء عن نفسه قال: أنت بعيد الثرى كثير المرعى طيب البديهة بعيد الغور، الغالب عليك الحلم، ركن من أركان الإسلام، سدت بك فرجة مخوفة. قال: فأخبرني عن أهل الأحداث من الأمصار فإنك أعقل أصحابك. قال: أما أهل المدينة فهم أحرص الأمة على الشر وأعجزهم عنه، وأما أهل الكوفة فإنهم يردون جميعاً ويصدرون شتى، وأما أهل مصر فهم أولى الناس بشر وأسرعهم ندامة، وأما أهل الشام فهم أطوع الناس لمرشدهم وأعصاهم لمغويهم. ذكر تسيير من سير من أهل البصرة إلى الشامولما مضت ثلا سنين من إمارة عبد الله بن عامر بلغه أن في عبد القيس رجلاً نازلاً على حكيم بن جبلة العبدي، وكان عبد الله بن سبأ، المعروف بابن السوداء، هو الرجل النازل عليه، واجتمع إليه نفر فطرح إليهم ابن السوداء ولم يصرح، فقبلوا منه. فأرسل إليهم ابن عامر فسأله: من أنت؟ فقال: رجل من أهل الكتاب رغبت في الإسلام وفي جوارك. فقال: ما يبلغني ذلك، اخرج عني. فخرج حتى أتى الكوفة فأخرج منها، فقصد مصر فاستقر بها وجعل يكاتبهم ويكاتبونه وتختلف الرجال بينهم.
وكان حمران بن أبان قد تزوج امرأة في عدتها ففرق عثمان بينهما وضربه وسيره إلى البصرة، فلزم ابن عامر فتذاكروا يوماً المرور بعامر بن عبد القيس، فقال حمران: ألا أسبقكم فأخبره؟ فخرج فدخل عليه وهو يقرأ في المصحف فقال: الأمير يريد المرور بك فأحببت أن أعلمك، فلم يقطع قراءته، فقام من عنده، فلما انتهى إلى الباب لقيه ابن عامر فقال: جئتك من عند امرىءٍ لا يرى لآل إبراهيم عليه فضلاً؛ ودخل عليه ابن عامر فأطبق المصحف وحدثه، فقال له ابن عامر: ألا تغشانا؟ فقال: سعد بن أبي القرحاء يحب الشرف. فقال: ألا نستعملك؟ فقال: حصين بن الحر يحب العمل. فقال: ألا نزوجك؟ فقال: ربيعة بن عسل يعجبه النساء. فقال: إن هذا يزعم أنك لا ترى لآل إبراهيم عليك فضلاً! فتصفح المصحف، فكان أول ما وقع عليه: (إن الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين) آل عمران: . فسعى به حمران، وأقام حمران بالبصرة ما شاء الله، وأذن له عثمان فقدم المدينة ومعه قوم، فسعوا بعامر بن عبد القيس أنه لا يرى التزويج ولا يأكل اللحم ولا يشهد الجمعة، فألحقه بمعاوية، فلما قدم عليه رأى عنده ثريداً فأكل أكلاً عربياً، فعرف أن الرجل مكذوب عليه، فعرفه معاوية سبب إخراجه، فقال: أما الجمعة فإني أشهدها في مؤخر المجلس ثم أرجع في أوائل الناس، وأما التزويج فإني خرجت وأنا يخطب علي، وأما اللحم فقد رأيت ولكني لا آكل ذبائح القصابين منذ رأيت قصاباً يجر شاة إلى مذبحها ثم وضع السكين على حلقها فما زال يقول: النفاق النفاق، حتى ذبحها. قال: فارجع. قال: لا أرجع إلى بلد استحل أهله مني ما استحلوا؛ فكان يكون في السواحل، فكان يلقى معاوية فيكثر معاوية أن يقول: ما حاجتك. فيقول: لا حاجة لي. فلما أكثر عليه قال: ترد علي من حر البصرة شيئاً لعل الصوم أن يشتد علي ف | |
|
 | |
الشيخ عودة الشيخ عودة

عدد المساهمات : 1748 تاريخ التسجيل : 28/09/2008 العمر : 72
 | موضوع: رد: كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير الثلاثاء فبراير 11, 2014 3:03 am | |
| ثم خرج علي من عنده وخرج عثمان على أثره فجلس على المنبر ثم قال: أما بعد فإن لكل شيء آفة ولكل أمر عاهة، وإن آفة هذه الأمة وعاهة هذه النعمة عيابون طعانون يرونكم ما تحبون ويسترون عنكم ما تكرهون، يقولون لكم ويقولون، أمثال النعام يتبعون أول ناعق، أحب مواردهم إليهم البعيد، لا يشربون إلا نغصاً ولا يردون إلا عكراً، لا يقوم لهم رائد وقد أعيتهم الأمور، ألا فقد والله عبتم علي ما أقررتم لابن الخطاب بمثله، ولكنه وطئكم برجله وضربكم بيده وقمعكم بلسانه فدنتم له على ما أحببتم وكرهتم، ولنت لكم وأوطأتمك كتف وكففت يدي ولساني عنكم فاجترأتم علي. أما والله لأنا أعز نفراً وأقرب ناصراً وأكثر عدداً وأحرى، إن قلت هلم أتي إلي، ولقد عددت لكم أقراناً، وأفضلت عليكم فضولاً، وكشرت لكم عن نابي، وأخرجتم مني خلقاً لم أكن أحسنه ومنطقاً لم أنطق به، فكفوا عني ألسنتكم وعيبكم وطعنكم على ولاتكم، فإني كففت عنكم من لو كان هو الذي يكلمكم لرضيتم منه بدون منطقي هذا. ألا فما تفقدون من حقكم؟ والله ما قصرت عن بلوغ ما بلغ من كان قبل ولم تكونوا تختلفون عليه. فقام مروان بن الحكم فقال: إن شئتم حكمنا والله ما بيننا وبينكم السيف، نحن وأنتم والله كما قال الشاعر: فرشنا لكم أعراضنا فنبت بكم ... مغارسكم تبنون في دمن الثرى فقال عثمان: اسكت لا سكت، دعني وأصحابي، ما منطقك في هذا! ألم أتقدم إليك أن لا تنطق؟ فسكت مروان ونزل عثمان عن المنبر، فاشتد قوله على الناس وعظم وزاد تألبهم عليه. ذكر عدة حوادثوحج هذه السنة بالناس عثمان. وفي هذه السنة توفي كعب الأحبار، وهو كعب بن ماتع، وأسلم أيام عمر. وفيها مات أبو عبس عبد الرحمن بن جبر الأنصاري، شهد بدراً. وفيها مات مسطح بن أثاثة المطلبي، وهو ابن ست وخمسين سنة، وقيل: بل عاش وشهد صفين مع علي، وهو الأكثر، وكان بدرياً. وفيها توفي عبادة بن الصامت الأنصاري، وهو ممن شهد العقبة، وكان نقيباً بدرياً؛ وعاقل بن البكير، وهو بدري أيضاً. ثم دخلت سنة خمس وثلاثين ذكر مسير من سار إلى حصر عثمان قيل: في هذه السنة كان مسير من سار من أهل مصر إلى ذي خشب، ومسير من سار من أهل العراق إلى ذي المروة. وكان سبب ذلك أن عبد الله بن سبأ كان يهودياً من أهل صنعاء أمه سوداء، وأسلم أيام عثمان، ثم تنقل في الحجاز ثم بالبصرة ثم بالكوفة ثم بالشام يريد إضلال الناس فلم يقدر منهم على ذلك، فأخرجه أهل الشام، فأتى مصر فأقام فيهم وقال لهم: العجب ممن يصدق أن عيسى يرجع، ويكذب أن محمداً يرجع، فوضع لهم الرجعة، فقبلت منه، ثم قال لهم بعد ذلك: إنه كان لكل نبي وصي، وعلي وصي محمد، فمن أظلم ممن لم يجز وصية رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ووثب على وصيه، وإن عثمان أخذها بغير حق، فانهضوا في هذا الأمر وابدأوا بالطعن على أمرائكم وأظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تستميلوا به الناس. وبث دعاته، وكاتب من استفسد في الأمصار وكاتبوه، ودعوا في السر إلى ما هو عليه رأيهم وصاروا يكتبون إلى الأمصار بكتب يضعونها في عيب ولاتهم، ويكتب أهل كل مصر منهم إلى مصر آخر ما يصنعون، حتى تناولوا بذلك المدينة وأوسعوا بذلك الأرض إذاعة، فيقول أهل كل مصر: إنا لفي عافية مما ابتلي به هؤلاء، إلا أهل المدينة فإنهم جاءهم ذلك عن جميع الأمصار، فقالوا: إنا لفي عافية مما فيه الناس. فأتوا عثمان فقالوا: يا أمير المؤمنين أيأتيك عن الناس الذي يأتينا؟ فقال: ما جاءني إلا السلامة وأنتم شركائي وشهود المؤمنين، فأشيروا علي. قالوا: نشير عليك أن تبعث رجالاً ممن تثق بهم إلى الأمصار حتى يرجعوا إليك بأخبارهم. فدعا محمد بن مسلمة فأرسله إلى الكوفة، وأرسل أسامة بن زيد إلى البصرة، وأرسل عمار بن ياسر إلى مصر، وأرسل عبد الله بن عمر إلى الشام، وفرق رجالاً سواهم، فرجعوا جميعاً قبل عمار فقالوا: ما أنكرنا شيئاً أيها الناس ولا أنكره أعلام المسلمين ولا عوامهم. وتأخر عمار حتى ظنوا أنه قد اغتيل، فوصل كتاب من عبد الله بن أبي سرح يذكر أن عماراً قد استماله قومٌ بمصر وانقطعوا إليه، منهم: عبد الله بن السوداء، وخالد بن ملجم، وسودان بن حمران، وكنانة بن بشر.
فكتب عثمان إلى أهل الأمصار: أما بعد فإني آخذ عمالي بموافاتي كل موسم، وقد رفع إلي أهل المدينة أن أقواماً يشتمون ويضربون، فمن ادعى شيئاً من ذلك فليواف الموسم يأخذ حقه حيث كان مني أو من عمالي، أو تصدقوا فإن الله يجزي المتصدقين. فلما قرىء في الأمصار بكى الناس ودعوا لعثمان. وبعث إلى عمال الأمصار فقدموا عليه في الموسم: عبد الله بن عامر، وعبد الله بن سعد، ومعاوية، وأدخل معهم سعيد بن العاص وعمراً، فقال: ويحكم ما هذه الشكاية والإذاعة؟ إني والله لخائف أن تكونوا مصدوقاً عليكم وما يعصب هذا إلا بي! فقالوا له: ألم تبعث؟ ألم يرجع إليك الخبر عن العوام؟ ألم يرجع رسلك ولم يشافههم أحد بشيء؟ والله ما صدقوا ولا بروا ولا نعلم لهذا الأمر أصلاً ولا يحل الأخذ بهذه الإذاعة! فقال: أشيروا علي. فقال سعيد: هذا أمر مصنوع يلقى في السر فيتحدث به الناس، ودواء ذلك طلب هؤلاء وقتل الذين يخرج هذا من عندهم. وقال عبد الله بن سعد: خذ من الناس الذي عليهم إذا أعطيتهم الذي لهم فإنه خير من أن تدعهم. وقال عبد الله بن سعد: خذ من الناس الذي عليهم إذا أعطيتهم الذي لهم فإنه خير من أن تدعهم. وقال معاوية: قد وليتني فوليت قوماً لا يأتيك عنهم إلا الخير، والرجلان أعلم بناحيتيهما، والرأي حسب الأدب. وقال عمرو: أرى أنك قد لنت لهم ورخيت عليهم وزدتهم على ما كان يصنع عمر، فأرى أن تلزم طريقة صاحبيك فتشتد في موضع الشدة وتلين في موضع اللين. فقال عثمان: قد سمعت كل ما أشرتم به علي ولكل أمر باب يؤتى منه، إن هذا الأمر الذي يخاف على هذه الأمة كائن، وإن بابه الذي يغلق عليه ليفتحن فنكفكه باللين والمؤاتاة إلا في حدود الله، فإن فتح فلا يكون لأحد علي حجة حق، وقد علم الله أني لم آل الناس خيراً، وإن رحى الفتنة لدائرة، فطوبى لعثمان إن مات ولم يحركها. سكنوا الناس وهبوا لهم حقوقهم، فإذا تعوطيت حقوق الله فلا تدهنوا فيها. فلما نفر عثمان وشخص معاوية والأمراء معه واستقل على الطريق رجز به الحادي فقال: قد علمت ضوامر المطي ... وضمرات عوج القسي أن الأمير بعده علي ... وفي الزبير خلفٌ رضي وطلحة الحامي لها ولي فقال كعب: كذبت بل يلي بعده صاحب البغلة الشهباء، يعني معاوية؛ فطمع فيها من يومئذٍ. فلما قدم عثمان المدينة دعا علياً وطلحة والزبير وعنده معاوية، فحمد الله معاوية ثم قال: أنتم أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وخيرته من خلفه وولاة أمر هذه الأمة، لا يطمع فيه أحد غيركم، اخترتم صاحبكم عن غير غلبة ولا طمع، وقد كبر وولي عمره ولو انتظرتم به الهرم لكان قريباً مع أني أرجو أن يكون أكرم على الله أن يبلغه ذلك، وقد فشت مقالة خفتها عليكم فيما عتبتم فيه من شيء، فهذه يدي لكم به، ولا تطمعوا الناس في أمركم، فوالله إن طمعوا فيه لا رأيتم منها أبداً إلا إدباراً. قال علي: ما لك ولذلك لا أم لك؟ قال: دع أمي فإنها ليست بشر أمهاتكم، قد أسلمت وبايعت النبي، صلى الله عليه وسلم، وأجبني عما أقول لك. فقال عثمان: صدق ابن أخي، أنا أخبركم عني وعما وليت، إن صاحبي اللذين كانا قبلي ظلما أنفسهما ومن كان منهما بسبيل احتساباً، وإن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، كان يعطي قرابته وأنا في رهط أهل عيلة وقلة معاش، فبسطت يدي في شيء من ذلك المال لما أقوم به فيه ورأيت أن ذلك لي، فإن رأيتم ذلك خطأً فردوه فأمري لأمركم تبع. فقالوا: قد أصبت وأحسنت، قد أعطيت عبد الله ابن خالد بن أسيد خمسين ألفاً، وأعطيت مروان خمسة عشر ألفاً. فأخذ منهما ذلك، فرضوا وخرجوا راضين. وقال معاوية لعثمان: اخرج معي إلى الشام فإنهم على الطاعة قبل أن يهجم عليك من لا قبل لك به. فقال: لا أبيع جوار رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بشيء وإن كان فيه قطع خيط عنقي. قال: فإن بعثت إليك جنداً منهم يقيم معك لنائبه إن نابت؟ قال: لا أضيق على جيران رسول الله، صلى الله عليه وسلم. فقال: والله لتغتالن ولتغزين! فقال: حسبي الله ونعم الوكيل!
ثم خرج معاوية فمر على نفر من المهاجرين فيهم علي وطلحة والزبير وعليه ثياب السفر، فقام عليهم وقال: إنكم قد علمتم أن هذا الأمر كان الناس يتغالبون عليه حتى بعث الله نبيه، صلى الله عليه وسلم، وكانوا يتفاضلون السابقة والقدمة والاجتهاد، فإن أخذوا بذلك فالأمر أمرهم والناس لهم تبع، وإن طلبوا الدنيا بالتغالب سلبوا ذلك ورده الله إلى غيرهم، وإن الله على البدل لقادر، وإني قد خلفت فيكم شيخاً فاستوصوا به خيراً وكانفوه تكونوا أسعد منه بذلك. ثم ودعهم ومضى. فقال علي: ما كنت أرى في هذا خيراً. فقال الزبير: والله ما كان قط أعظم في صدرك وصدورنا منه اليوم. واتعد المنحرفون عن عثمان يوماً يخرجون فيه بالأمصار جميعاً إذا سار عنها الأمراء، فلم يتهيأ لهم ذلك، ولما رجع الأمراء ولم يتم لهم الوثوب صاروا يكاتبون في القدوم إلى المدينة لينظروا فيما يريدون ويسألوا عثمان عن أشياء لتطير في الناس. وكان بمصر محمد بن أبي بكر ومحمد بن أبي حذيفة يحرضان على عثمان. فلما خرج المصريون خرج فيهم عبد الرحمن بن عديس البلوي في خمسمائة، وقيل: في ألف، وفيهم كنانة بن بشر الليثي وسودان بن حمران السكوني وقتيرة بن فلان السكوني، وعليهم جميعاً الغافقي بن حرب العكي؛ وخرج أهل الكوفة وفيهم زيد بن صوحان العبدي والأشتر النخعي وزياد بن النضر الحارثي وعبد الله بن الأصم العامري، وهم في عداد أهل مصر وعليهم جميعاً عمرو بن الأصم؛ وخرج أهل البصرة فيهم حكيم بن جبلة العبدي وذريح بن عباد وبشر بن شريح القيسي وابن المحترش، وهم بعداد أهل مصر، وأميرهم حرقوص بن زهير السعدي؛ فخرجوا جميعاً في شوال وأظهروا أنهم يريدون الحج، فلما كانوا من المدينة على ثلاث تقدم ناس من أهل البصرة فنزلوا ذا خشب، وكان هواهم في طلحة، وتقدم ناس من أهل الكوفة، وكان هواهم في الزبير، ونزلوا الأعوص، وجاءهم ناس من أهل مصر، وكان هواهم في علي، ونزلوا عامتهم بذي المروة، ومشى فيما بين أهل مصر وأهل البصرة زياد بن النضر وعبد الله بن الأصم وقالا لهم: لا تعجلوا حتى ندخل المدينة ونرتاد لكم، فقد بلغنا أنهم عسكروا لنا، فوالله إن كان هذا حقاً واستحلوا قتالنا بعد علم حالنا إن أمرنا لباطل، وإن كان الذي بلغنا باطلاً رجعنا إليكم بالخبر. قالوا: اذهبا. فذهبا فدخلا المدينة فلقيا أزواج النبي، صلى الله عليه وسلم، وعلياً وطلحة والزبير، فقالا: إنما نريد هذا البيت ونستعفي من بعض عمالنا، واستأذناهم في الدخول، فكلمهما أبي ونهاهما، فرجعا إلى أصحابهما. فاجتمع نفر من أهل مصر فأتوا علياً، ونفر من أهل البصرة فأتوا طلحة، ونفر من أهل الكوفة فأتوا الزبير، وقال كل فريق منهم: إن بايعنا صاحبنا وإلا كذبناهم وفرقنا جماعتهم ثم رجعنا عليهم حتى نبغتهم. فأتى المصريون علياً وهو في عسكر عند أحجار الزيت متقلداً سيفه، وقد أرسل ابنه الحسن إلى عثمان فيمن اجتمع إليه، فسلموا عليه وعرضوا عليه، فصاح بهم وطردهم وقال: لقد علم الصالحون أن جيش ذي المروة وجيش ذي خشب والأعوص ملعونون على لسان محمد، صلى الله عليه وسلم، فانصرفوا عنه. وأتى البصريون طلحة فقال لهم مثل ذلك، وكان قد أرسل ابنيه إلى عثمان، وأتى الكوفيون الزبير فقال لهم مثل ذلك، وكان قد أرسل ابنه عبد الله إلى عثمان. فرجعوا وتفرقوا عن ذي خشب وذي المروة والأعوص إلى عسكرهم ليتفرق أهل المدينة ثم يرجعوا إليهم. فلما بلغوا عسكرهم تفرق أهل المدينة، فرجعوا بهم، فلم يشعر أهل المدينة إلا والتكبير في نواحيها، ونزلوها وأحاطوا بعثمان وقالوا: من كف يده فهو آمن. وصلى عثمان بالناس أياماً، ولزم الناس بيوتهم ولم يمنعوا الناس من كلامه، وأتاهم أهل المدينة وفيهم علي فقال لهم: ما ردكم بعد ذهابكم؟ فقالوا: أخذنا مع بريد كتاباً بقتلنا. وأتى طلحة الكوفيين فسألهم عن عودهم فقالوا مثل ذلك. وأتى الزبير البصريين فقالوا مثل ذلك، وكل منهم يقول: نحن نمنع إخواننا ونصرهم، كأنما كانوا على ميعاد. فقال لهم علي: كيف علمتم يا أهل الكوفة ويا أهل البصرة بما لقي أهل مصر وقد سرتم مراحل حتى رجعتم علينا؟ هذا والله أمر أبرم بليل! فقالوا: ضعوه كيف شئتم، لا حاجة لنا في هذا الرجل، ليعتزل عنا. وعثمان يصلي بهم وهم يصلون خلفه، وهم أدق في عينه من التراب، وكانوا يمنعون الناس من الاجتماع.
وكتب عثمان إلى أهل الأمصار يستنجدهم ويأمرهم بالحث للمنع عنه ويعرفهم ما الناس فيه. فخرج أهل الأمصار على الصعب والذلول، فبعث معاوية حبيب بن مسلمة الفهري، وبعث عبد الله بن سعد معاوية بن حديج، وخرج من الكوفة القعقاع بن عمرو وقام بالكوفة نفر يحضون على إعانة أهل المدينة، منهم: عقبة بن عامر وعبد الله بن أبي أوفى وحنظلة الكاتب وغيرهم من أصحاب النبي، صلى الله عليه وسلم، ومن التابعين: مسروق والأسود وشريح وعبد الله بن حكيم وغيرهم، وقام بالبصرة: عمران بن حصين وأنس ابن مالك وهشام بن عامر وغيرهم من الصحابة ومن التابعين: كعب بن سور وهرم بن حيان وغيرهما، وقام بالشام جماعة من الصحابة والتابعين وكذلك بمصر. ولما جاءت الجمعة التي على أثر دخولهم المدينة، خرج عثمان فصلى بالناس ثم قام على المنبر فقال: يا هؤلاء، الله الله! فوالله إن أهل المدينة ليعلمون أنكم ملعونون على لسان محمد، صلى الله عليه وسلم، فامحوا الخطأ بالصواب. فقام محمد بن مسلمة فقال: أنا أشهد بذلك، فأقعده حكيم بن جبلة، وقام زيد بن ثابت فأقعده محمد بن أبي قتيرة، وثار القوم بأجمعهم فحصبوا الناس حتى أخرجوهم من المسجد، وحصبوا عثمان حتى صرع عن المنبر مغشياً عليه، فأدخل داره واستقتل نفر من أهل المدينة مع عثمان، منهم: سعد بن أبي وقاص والحسين بن علي وزيد بن ثابت وأبو هريرة. فأرسل إليهم عثمان يعزم عليهم بالانصراف، فانصرفوا، وأقبل علي وطلحة والزبير فدخلوا على عثمان يعودونه من صرعته ويشكون إليه ما يجدون، وكان عند عثمان نفر من بني أمية فيهم مروان بن الحكم، فقالوا كلهم لعلي: أهلكتنا وصنعت هذا الصنيع؛ والله لئن بلغت الذي تريد لتمرن عليك الدنيا! فقام مغضباً وعاد هو والجماعة إلى منازلهم. وصلى عثمان بالناس بعد ما نزلوا به في المسجد ثلاثين يوماً، ثم منعوه الصلاة، وصلى بالناس أميرهم الغافقي ودان له المصريون، والكوفيون والبصريون، وتفرق أهل المدينة في حيطانهم ولزموا بيوتهم لا يجلس أحد ولا يخرج إلا بسيفه ليمتنع به، وكان الحصار أربعين يوماً ومن تعرض لهم وضعوا فيه السلاح. وقد قيل: إن محمد بن أبي بكر ومحمد بن أبي حذيفة كانا بمصر يحرضان على عثمان، وسار محمد بن أبي بكر مع من سار إلى عثمان، وأقام ابن أبي حذيفة بمصر وغلب عليها لما سار عنها عبد الله بن سعد، على ما يأتي. فلما خرج المصريون إلى قصد عثمان أظهروا أنهم يريدون العمرة وخرجوا في رجب وعليهم عبد الرحمن بن عديس البلوي، وبعث عبد الله بن سعد رسولاً إلى عثمان يخبره بحالهم وأنهم قد أظهروا العمرة وقصدهم خلعه أو قتله، فخطب عثمان الناس وأعلمهم حالهم، وقال لهم: إنهم قد أسرعوا إلى الفتنة واستطالوا عمري، والله لئن فارقتهم ليتمنون أن عمري كان عليهم مكان كل يوم سنة مما يرون من الدماء المسفوكة والإحن والأثرة الظاهرة والأحكام المغيرة. وكان عبد الله بن سعد قد خرج إلى عثمان في آثار المصريين بإذن له، فلما كان بأيلة بلغه أن المصريين رجعوا إلى عثمان فحصروه، وأن محمد بن أبي حذيفة غلب على مصر واستجابوا له، فعاد عبد الله إلى مصر فمنع عنها، فأتى فلسطين فأقام بها حتى قتل عثمان. فلما نزل القوم ذا خشب يريدون قتل عثمان إن لم ينزع عما يكرهون، ولما رأى عثمان ذلك جاء إلى علي فدخل عليه بيته فقال له: يا ابن عم، إن قرابتي قريبة ولي عليك حق عظيم، وقد جاء ما ترى من هؤلاء القوم وهم مصبحي، ولك عند الناس قدر وهم يسمعون منك، وأحب أن تركب إليهم فتردهم عني، فإن في دخولهم علي توهيناً لأمري وجرأة علي! فقال علي: على أي شيء أردهم عنك؟ قال: على أن أصير إلى ما أشرت إليه ورأيته لي. فقال علي: إني قد كلمتك مرة بعد أخرى فكل ذلك نخرج ونقول ثم ترجع عنه، وهذا من فعل مروان وابن عامر ومعاوية وعبد الله بن سعد، فإنك أطعتهم وعصيتني. قال عثمان: فأنا أعصيهم وأطيعك.
فأمر الناس فركب معه من المهاجرين والأنصار ثلاثون رجلاً فيهم سعيد بن زيد وأبو جهم العدوي وجبير بن مطعم وحكيم بن حزام ومروان وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن عتاب بن أسيد، ومن الأنصار أبو أسيد الساعدي وأبو حميد وزيد بن ثابت وحسان بن ثابت وكعب بن مالك، ومن العرب نيار بن مركز، فأتوا المصريين فكلموهم، وكان الذي يكلمهم علي ومحمد بن مسلمة، فسمعوا مقالتهما ورجعوا إلى مصر. فقال ابن عديس لمحمد بن مسلمة: أتوصينا بحاجة؟ قال: نعم، تتقي الله وترد من قبلك عن إمامهم فإنه قد وعدنا أن يرجع وينزع. قال بن عديس: أفعل إن شاء الله. ورجع علي ومن معه إلى المدينة، فدخل على عثمان فأخبره برجوعهم وكلمه بما في نفسه ثم خرج من عنده، فمكث عثمان ذلك اليوم، وجاءه مروان بكرة الغد فقال له: تكلم وأعلم الناس أن أهل مصر قد رجعوا وأن ما بلغهم عن إمامهم كان باطلاً قبل أن يجيء الناس إليك من أمصارهم ويأتيك ما لا تستطيع دفعه. ففعل عثمان، فلما خطب الناس قال له عمرو بن العاص: اتق الله يا عثمان، فإنك قد ركبت أموراً وركبناها معك، فتب إلى الله نتب. فناداه عثمان: وإنك هنالك يا ابن النابغة! قملت والله جبتك منذ عزلتك عن العمل! فنودي من ناحية أخرى: تب إلى الله. فرفع يديه وقال: اللهم إني أول تائب. تاب إليك. ورجع إلى منزله. وخرج عمرو بن العاص إلى منزله بفلسطين، وكان يقول: والله إني كنت لألقى الراعي فأحرضه على عثمان. وأتى علياً وطلحة والزبير فحرضهم على عثمان، فبينما هو بقصره بفلسطين ومعه ابناه محمد وعبد الله وسلامة بن روح الجذامي إذ مر به راكب من المدينة، فسأله عمرو عن عثمان، فقال: هو محصور. قال عمرو: أنا أبو عبد الله، قد يضرط العير والمكواة في النار. ثم مر به راكب آخر فسأله فقال: قتل عثمان. فقال عمرو: أنا أبو عبد الله، إذا حككت قرحةً نكأتها. فقال له سلامة بن روح: يا معشر قريش كان بينكم وبين العرب باب فكسرتموه فما حملكم على ذلك! فقال: أردنا أن نخرج الحق من خاصرة الباطل ليكون الناس في الحق شرعاً سواء. وقيل: إن علياً لما رجع من عند المصريين بعد رجوعهم إلى عثمان قال له: تكلم كلاماً يسمعه الناس منك ويشهدون عليك ويشهد الله على ما في قلبك من النزوع والأمانة، فإن البلاد قد تمخضت عليك، فلا آمن أن يجيء ركبٌ آخر من الكوفة والبصرة فتقول: يا علي اركب إليهم، فإن لم افعل رأيتني قد قطعت رحمك واستخففت بحقك. فخرج عثمان فخطب الخطبة التي نزع فيها وأعطى الناس من نفسه التوبة وقال: أنا أول من اتعظ، أستغفر الله مما فعلة وأتوب إليه، فمثلي نزع وتاب، فإذا نزلت فليأتني أشرافكم فليروا في رأيهم، فوالله لئن ردني الحق عبداً لأستنن بسنة العبد ولأذلن ذل العبد وما عن الله مذهب إلا إليه، فوالله لأعطينكم الرضا ولأنحين مروان وذويه ولا أحتجب عنكم! فرق الناس وبكوا حتى أخضلوا لحاهم وبكى هو أيضاً.
فلما نزل عثمان وجد مروان وسعيداً ونفراً من بني أمية في منزله لم يكونوا شهدوا خطبته، فلما جلس قال مروان: يا أمير المؤمنين أتكلم أم أسكت؟ فقالت نائلة بنت الفرافصة امرأة عثمان: لا بل اصمت فإنهم والله قاتلوه ومؤثموه، إنه قد قال مقالةً لا ينبغي له أن ينزع عنها. فقال لها مروان: ما أنت وذاك! فوالله قد مات أبوك وما يحسن يتوضأ! فقالت: مهلاً يا مروان عن ذكر الآباء! تخبر عن أبي وهو غائب تكذب عليه وإن أباك لا يستطيع أن يدفع عن نفسه؟ أما والله لولا أنه عمه وأنه يناله غمه لأخبرتك عنه ما لن أكذب عليه. قالت: فأعرض عنها مروان، فقال: يا أمير المؤمنين أتكلم أم أسكت؟ قال: تكلم. فقال مروان: بأبي أنت وأمي، والله لوددت أن مقالتك هذه كانت وأنت ممتنع فكنت أول من رضي بها وأعان عليها، ولكنك قلت ما قلت وقد بلغ الحزام الطبيين وخلف السيل الزبى، وحين أعطى الخطة الذليلة الذليل؛ والله لإقامة على خطيئة يستغفر منها أجمل من توبة يخوف عليها، وأنت إن شئت تقربت بالتوبة ولم تقر بالخطيئة؛ وقد اجتمع بالباب أمثال الجبال من الناس. فقال عثمان: فاخرج إليهم فكلمهم فإني أستحيي أن أكلمهم. فخرج مروان إلى الباب والناس يركب بعضهم بعضاً، فقال: ما شأنكم قد اجتمعتم كأنكم قد جئتم لنهبٍ؟ شاهت الوجوه! ألا من أريد؟ جئتم تريدون أن تنزعوا ملكنا من أيدينا! اخرجوا عنا، والله لئن رمتمونا ليمرن عليكم منا أمر لا يسركم ولا تحمدوا غب رأيكم. ارجعوا إلى منازلكم فإنا والله ما نحن بمغلوبين على ما في أيدينا. فرجع الناس وأتى بعضهم علياً فأخبره الخبر. فأقبل علي على عبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث فقال: أحضرت خطبة عثمان؟ قال: نعم. قال: أفحضرت مقالة مروان للناس؟ قال: نعم. فقال علي: أي عباد الله! يا للمسلمين! إني إن قعدت في بيتي قال لي: تركتني وقرابتي وحقي، وإني إن تكلمت فجاء ما يريد يلعب به مروان فصار سيقةً له يسوقه حيث يشاء بعد كبر السن وصحبة رسول الله، صلى الله عليه وسلم. وقام مغضباً حتى دخل على عثمان فقال له: أما رضيت من مروان ولا رضي منك إلا بتحرفك عن دينك وعن عقلك مثل جمل الظعينة يقاد حيث يسار به؟ والله ما مروان بذي رأي في دينه ولا نفسه! وأيم الله إني لأراه يوردك ولا يصدرك! وما أنا عائد بعد مقامي هذا لمعاتبتك، أذهبت شرفك وغلبت على رأيك. فلما خرج علي دخلت عليه امرأته نائلة ابنة الفرافصة فقالت: قد سمعت قول علي لك وليس يعاودك وقد أطعت مروان يقودك حيث شاء. قال: فما أصنع؟ قالت: تتقي الله وتتبع سنة صاحبيك، فإنك متى أطعت مروان قتلك، ومروان ليس له عند الناس قدر ولا هيبة ولا محبة، وإنما تركك الناس لمكانه، فأرسل إلى علي فاستصلحه فإن له قرابة منك وهو لا يعصى. فأرسل عثمان إلى علي فلم يأته وقال: قد أعلمته أني غير عائد. فبلغ مروان مقالة نائلة فيه فجلس بين يدي عثمان فقال: يا ابنة الفرافصة! فقال عثمان: لا تذكرنها بحرف فأسود وجهك، فهي والله أنصح لي! فكف مروان. وأتى عثمان إلى علي بمنزله ليلاً وقال له: إني غير عائد، وإني فاعل. فقال له علي: بعد ما تكلمت على منبر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأعطيت من نفسك ثم دخلت بيتك فخرج مروان إلى الناس يشتمهم على بابك ويؤذيهم. فخرج عثمان من عنده وهو يقول: خذلتني وجرأت الناس علي. فقال علي: والله إني لأكثر الناس ذباً عنك، ولكني كلما جئت بشيء أظنه لك رضا جاء مروان بأخرى فسمعت قوله وتركت قولي. ولم يعد علي يعمل ما كان يعمل إلى أن منع عثمان الماء. فقال علي لطلحة: أريد أن تدخل عليه الروايا، وغضب غضباً شديداً حتى دخلت الروايا على عثمان.
قال: وقد قيل إن علياً كان عند حصر عثمان بخيبر، فقدم المدينة والناس مجتمعون عند طلحة، وكان ممن له فيه أثر، فلما قدم علي أتاه عثمان وقال له: أما بعد فإن لي حق الإسلام وحق الإخاء والقرابة والصهر، ولو لم يكن من ذلك شيء وكنا في الجاهلية لكان عاراً على بني عبد مناف أن ينتزع أخو بني تيم، يعني طلحة، أمرهم. فقال له علي: سيأتيك الخبر، ثم خرج إلى المسجد فرأى أسامة فتوكأ على يده حتى دخل دار طلحة، وهو في خلوة من الناس، فقال له: يا طلحة ما هذا الأمر الذي وقعت فيه؟ فقال: يا أبا الحسن بعد ما مس الحزام الطبيين. فانصرف علي حتى أتى بيت المال فقال: افتحوه، فلم يجوا المفاتيح، فكسر الباب وأعطى الناس، فانصرفوا من عند طلحة حتى بقي وحده، وسر بذلك عثمان، وجاء طلحة فدخل على عثمان وقال له: يا أمير المؤمنين أردت أمراً فحال الله بيني وبينه! فقال عثمان: والله ما جئت تائباً، ولكن جئت مغلوباً، الله حسيبك يا طلحة! ذكر مقتل عثمانقد ذكرنا سبب مسير الناس إلى قتل عثمان، وقد تركنا كثيراً من الأسباب التي جعلها الناس ذريعة إلى قتله لعلل دعت إلى ذلك، ونذكر الآن كيف قتل وما كان بدء ذلك واتبداء الجرأة عليه قبل قتله. فكان من ذلك أن إبلاً من إبل الصدقة قدم بها على عثمان فوهبها لبعض بني الحكم، فبلغ ذلك عبد الرحمن بن عوف، فأخذها وقسمها بين الناس وعثمان في الدار. قيل: وكان أول من اجترأ على عثمان بالمنطق جبلة بن عمرو الساعدي، مر به عثمان وهو في نادي قومه وبيده جامعة، فسلم فرد القوم، فقال جبلة: لم تردون على رجل فعل كذا وكذا؟ ثم قال لعثمان: والله لأطرحن هذه الجامعة في عنقك أو لتتركن بطانتك هذه الخبيثة: مروان وابن عامر وابن سعد، منهم من نزل القرآن بذمه وأباح رسول الله، صلى الله عليه وسلم، دمه. فاجترأ الناس عليه، وقد تقدم قول عمرو بن العاص له في خطبته. قيل: وخطب يوماً وبيده عصا كان النبي، صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر وعمر يخطبون عليها، فأخذه جهجاه الغفاري من يده وكسرها على ركبته اليمنى فرمي في ذلك المكان بأكلة. وقيل: كتب جمع من أهل المدينة من الصحابة وغيرهم إلى من بالآفاق منهم: إن أردتم الجهاد فهلموا إليه فإن دين محمد، صلى الله عليه وسلم، قد أفسده خليفتكم فأقيموه. فاختلفت قلوب الناس على ما تقدم ذكره، وجاء المصريون، كما ذكرنا، إلى المدينة، فخرج إليهم علي ومحمد بن مسلمة، كما تقدم، فكلماهم فعادوا ثم رجعوا، فلما رجعوا انطلق إليهم محمد بن مسلمة فسألهم عن سبب عودهم، فأخرجوا صحيفة في أنبوبة رصاص وقالوا: وجدنا غلام عثمان بالبويب على بعير من إبل الصدقة، ففتشنا متاعه فوجدنا فيه هذه الصحيفة يأمر فيها بجلد عبد الرحمن بن عديس وعمرو بن الحمق وعروة بن البياع وحبسهم وحلق رؤوسهم ولحاهم وصلب بعضهم. وقيل: إن الذي أخذت منه الصحيفة أبو الأعور السلمي. فلما رأوه سألوه عن مسيرة وهل معه كتاب فقال: لا. فسألوه في أي شيء هو، فتغير كلامه، فأنكروه وفتشوه وأخذوا الكتاب منه وعادوا وعاد الكوفيون والبصريون. فلما عاد أهل مصر أخبروا بذلك محمد بن مسلمة وقالوا له: قد كلمنا علياً ووعدنا أن يكلمه، وكلمنا سعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد فقالا: لا ندخل في أمركم. وقالوا لمحمد ابن مسلمة ليحضر مع علي عند عثمان بعد الظهر، فوعدهم بذلك، فدخل علي ومحمد بن مسلمة على عثمان فاستأذنا للمصريين عليه، وعنده مروان، فقال: دعني أكلمهم. فقال عثمان: اسكت فض الله فاك! ما أنت وهذا الأمر؟ اخرج عني! فخرج مروان: وقال علي ومحمد لعثمان ما قال المصريون، فأقسم بالله: ما كتبته ولا علم لي به. فقال محمد: صدق، هذا من عمل مروان. ودخل عليه المصريون فلم يسلموا عليه بالخلافة، فعرفوا الشر فيهم، وتكلموا فذكر ابن عديس ما فعل عبد الله بن سعد بالمسلمين وأهل الذمة والاستئثار في الغنائم، فإذا قيل له في ذلك قال: هذا كتاب أمير المؤمنين. وذكروا شيئاً مما أحدث بالمدينة، وقالوا له: وخرجنا من مصر ونحن نريد قتلك فردنا علي ومحمد ابن مسلمة وضمنا لنا النزوع عن كل ما تكلمنا فيه، فرجعنا إلى بلادنا فرأينا غلامك وكتابك وعليه خاتمك تأمر عبد الله بجلدنا والمثلة بنا وطول الحبس.
فحلف عثمان أنه ما كتب ولا أمر ولا علم. فقال علي ومحمد: صدق عثمان. قال المصريون:فمن كتبه؟ قال: لا أدري. قالوا: فيجترأ عليك ويبعث غلامك وجملاً من الصدقة وينقش على خاتمك ويبعث إلى عاملك بهذه الأمور العظيمة وأنت لا تعلم؟ قال: نعم. قالوا: ما أنت إلا صادق أو كاذب، فإن كنت كاذباً فقد استحققت الخلع لما أمرت به من قتلنا بغير حق، وإن كنت صادقاً فقد استحققت أن تخلع نفسك لضعفك عن هذا الأمر وغفلتك وخبث بطانتك، ولا ينبغي لنا أن نترك هذا الأمر بيد من تقطع الأمور دونه لضعفه وغفلته، فاخلع نفسك منه كما خلعك الله! فقال: لا أنزع قميصاً ألسنيه الله، ولكني أتوب وأنزع. قالوا: لو كان هذا أول ذنب تبت منه قبلنا، ولكنا رأيناك تتوب ثم تعود ولسنا منصرفين حتى نخلعك أو نقتلك أو تلحق أرواحنا بالله تعالى، وإن منعك أصحابك وأهلك قاتلناهم حتى نخلص إليك. فقال: أما إن أتبرأ من خلافة الله فالقتل أحب إلي من ذلك، وأما قولكم تقاتلون من منعني فإني لا آمر أحداً بقتالكم، فمن قاتلكم فبغير أمري قاتل، ولو أردت قتالكم لكتبت إلى الأجناد فقدموا علي أو لحقت ببعض أطرافي. وكثرت الأصوات واللغط. فقام علي فخرج وأخرج المصريين ومضى علي إلى منزله، وحصر المصريون عثمان، وكتب إلى معاوية وابن عامر وأمراء الأجناد يستنجدهم ويأمرهم بالعجل وإرسال الجنود إليه. فتربص به معاوية، فقام في أهل الشام يزيد بن أسد القسري جد خالج بن عبد الله القسري فتبعه خلق كثير، فسار بهم إلى عثمان، فلما كانوا بوادي القرى بلغهم قتل عثمان فرجعوا. وقيل: بل سار من الشام حبيب بن مسلمة الفهري، وسار من البصرة مجاشع بن مسعود السلمي، فلما وصلوا الربذة ونزلت مقدمتهم صراراً بناحية المدينة أتاهم قتل عثمان فرجعوا. وكان عثمان قد استشار نصحاءه في أمره، فأشاروا عليه أن يرسل إلى علي يطلب إليه أن يردهم ويعطيهم ما يرضيهم ليطاولهم حتى يأتيه إمداده. فقال: إنهم لا يقبلون التعلل، وقد كان مني في المرة الأولى ما كان. فقال مروان: أعطهم ما سألوك وطاولهم ما طاولوك، فإنهم قوم بغوا عليك ولا عهد لهم. فدعا علياً فقال له: قد ترى ما كان من لناس ولست آمنهم على دمي، فارددهم عني فإني أعطيهم ما يريدون من الحق من نفسي وغيري. فقال علي: الناس إلى عدلك أحوج منهم إلى قتلك، ولا يرضون إلا بالرضا، وقد كنت أعطيتهم أولاً عهداً فلم تف به فلا تغرني هذه المرة فإني معطيهم علك الحق. فقال: أعطهم فوالله لأفين لهم. فخرج علي إلى الناس فقال لهم: أيها الناس إنكم إنما طلبتم الحق وقد أعطيتموه وقد زعم أنه منصفكم من نفسه. فقال الناس: قبلنا فاستوثق منه لنا فإنا لا نرضى بقول دون فعل. فدخل عليه علي فأعلمه فقال: اضرب بيني وبينهم أجلاً فإني لا أقدر على أن أرد ما كرهوا في يوم واحد. فقال علي: أما ما كان بالمدينة فلا أجل فيه وما غاب فأجله وصول أمرك. قال: نعم، فأجلني فيما في المدينة ثلاثة أيام، فأجابه إلى ذلك، وكتب بينهم كتاباً على رد كل مظلمة وعزل كل عامل كرهوه.
فكف الناس عنه، فجعل يتأهل للقتال ويستعد بالسلاح واتخذ جنداً، فلما مضت الأيام الثلاثة ولم يغير شيئاً ثار به الناس، وخرج عمرو بن حزم الأنصاري إلى المصريين فأعلمهم الحال، وهم بذي خشب، فقدموا المدينة وطلبوا منه عزل عماله ورد مظالمهم. فقال: والله لتفعلن أو لتخلعن أو لتقتلن. فأبى عليهم وقال: لا أنزع سربالاً سربلنيه الله. فحصروه واشتد الحصار عليه، فأرسل إلى علي وطلحة والزبير فحضروا، فأشرف عليهم فقال: يا أيها الناس اجلسوا. فجلسوا المحارب والمسالم. فقال لهم: يا أهل المدينة أستودعكم الله وأسأله أن يحسن عليكم الخلافة من بعدي، ثم قال: أنشدكم بالله هل تعلمون أنكم دعوتم الله عند مصاب عمر أن يختار لكم ويجمعكم على خيركم؟ أتقولون إن الله لم يستجب لكم وهنتم عليه وأنتم أهل حقه؟ أم تقولون: هان على الله دينه فلم يبال من ولي الدين لم يتفرق أهله يومئذ؟ أم تقولون: لم يكن أخذٌ عن مشورة إنما كان مكابرة فوكل الله الأمة إذا عصته ولم يشاوروا في الإمامة؟ أم تقولون: إن الله لم يعلم عاقبة أمري! وأنشدكم بالله أتعلمون لي من سابقة خير وقدم خير قدمه الله لي ما يوجب على كل من جاء بعدي أن يعرفوا لي فضلها! فمهلاً لا تقتلوني فإنه لا يحل إلا قتل ثلاثة: رجل زنى بعد إحصانه، أو كفر بعد إيمانه، أو قتل نفساً بغير حق، فإنكم إذا قتلتموني وضعتم السيف على رقابكم ثم لم يرفع الله عنكم الاختلاف أبداً. قالوا: أما ما ذكرت من استخارة الناس بعد عمر ثم ولوك فإن كل ما صنع الله خيرة، ولكن الله جعلك بلية ابتلى بها عباده، وأما ما ذكرت من قدمك وسلفك مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقد كنت كذلك وكنت أهلاً للولاية، ولكن أحدثت ما علمته ولا نترك إقامة الحق عليك مخافة الفتنة عاماً قابلاً، وأما قولك: إنه لا يحل إلا قتل ثلاثة، فإنا نجد في كتاب الله قتل غير الثلاثة الذين سميت، قتل من سعى في الأرض فساداً، وقتل من بغى ثم قاتل على بغيه، وقتل من حال دون شيء من الحق ومنعه وقاتل دونه، وقد بغيت ومنعت وحلت دونه وكابرت عليه ولم تقد من نفسك من ظلمت، وقد تمسكت بالإمارة علينا، فإن زعمت أنك لم تكابرنا عليه فإن الذين قاموا دونك ومنعوك منا إنما يقاتلون لتمسكك بالإمارة، فلو خلعت نفسك لانصرفوا عن القتال معك! فسكت عثمان ولزم الدار وأمر أهل المدينة بالرجوع وأقسم عليهم، فرجعوا إلا الحسن بن علي وابن عباس ومحمد بن طلحة وعبد الله بن الزبير وأشباهاً لهم، واجتمع إليه ناس كثير، فكانت مدة الحصار أربعين يوماً، فلما مضت ثماني عشرة ليلة قدم ركبان من الأمصار فأخبروا بخبر من تهيأ إليهم من الجنود وشجعوا الناس، فعندها حالوا بين الناس وبين عثمان ومنعوه كل شيء حتى الماء. فأرسل عثمان إلى علي سراً وإلى طلحة والزبير وأزواج النبي، صلى الله عليه وسلم، إنهم قد منعوني الماء فإن قدرتم أن ترسلوا إلينا ماء فافعلوا. فكان أولهم إجابة علي، وأم حبيبة زوج النبي، صلى الله عليه وسلم، فجاء علي في الغلس فقال: يا أيها الناس إن الذي تفعلون لا يشبه أمر المؤمنين ولا أمر الكافرين، فلا تقطعوا عن هذا الرجل الماء ولا المادة، فإن الروم وفارس لتأسر فتطعم وتسقي! فقالوا: لا والله ولا نعمة عين! فرمى بعمامته في الدار بأني قد نهضت ورجعت، وجاءت أم حبيبة على بغلةٍ لها مشتملة على إداوة فضربوا وجه بغلتها فقالت: إن وصايا بني أمية عند هذا الرجل، فأحببت أن أسأله عنها لئلا تهلك أموال الأيتام والأرامل. فقالوا: كاذبة، وقطعوا حبل البغلة بالسيف، فنفرت وكادت تسقط عنها، فتلقاها الناس فأخذوها وذهبوا بها إلى بيتها.
فأشرف عثمان يوماً فسلم عليهم ثم قال: أنشدكم الله هل تعلمون أني اشتريت بئر رومة بمالي ليستعذب بها فجعلت رشائي فيها كرجل من المسلمين؟ قالوا: نعم. قال: فلم تمنعوني أن أشرب منها حتى أفطر على ماء البحر؟ ثم قال: أنشدكم بالله هل تعلمون أني اشتريت أرض كذا فزدتها في المسجد؟ قيل: نعم. قال: فهل علمتم أن أحداً منع أن يصلي فيه قبلي؟ ثم قال: أنشدكم بالله أتعلمون أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال عني كذا وكذا؟ أشياء في شأنه. ففشا النهي في الناس يقولون: مهلاً عن أمير المؤمنين. فقام الأشتر فقال: لعله مكر به وبكم. وخرجت عائشة إلى الحج واستتبعت أخاها محمداً فأبى، فقالت: والله لئن استطعت أن يحرمهم الله ما يحاولون لأفعلن. فقال له حنظلة الكاتب: نستتبعك أم المؤمنين فلا تتبعها وتتبع ذؤبان العرب إلى ما لا يحل؟ وإن هذا الأمر إن صار إلى التغالب غلبك عليه بنو عبد مناف. ثم رجع حنظلة إلى الكوفة وهو يقول: عجبت لما يخوض الناس فيه ... يرومون الخلافة أن تزولا ولو زالت لزال الخير عنهم ... ولاقوا بعدها ذلاً ذليلا وكانوا كاليهود وكالنصارى ... سواء كلهم ضلوا السبيلا وبلغ طلحة والزبير ما لقي علي وأم حبيبة فلزموا بيوتهم وبقي عثمان يسقيه آل حزم في الغفلات. فأشرف عثمان على الناس فاستدعى ابن عباس فأمره أن يحج بالناس، وكان ممن لزم الباب، فقال: جهاد هؤلاء أحب إلي من الحج. فأقسم عليه فانطلق. قال عبد الله بن عباس بن أبي ربيعة: دخلت على عثمان فأخذ بيدي فأسمعني كلام من على بابه، فمنهم من يقول: ما تنتظرون به؟ ومنهم من يقول: انظروا عسى أن يراجع. قال: فبينما نحن واقفون إذ مر طلحة فقال: أين ابن عديس؟ فقام إليه فناجاه ثم رجع ابن عديس فقال لأصحابه: لا تتركوا أحداً يدخل على عثمان ولا يخرج من عنده. فقال لي عثمان: هذا ما أمر به طلحة، اللهم اكفني طلحة فإنه حمل علي هؤلاء وألبهم علي! والله إني لأرجو أن يكون منها صفراً وأن يسفك دمه! قال: فأردت أن أخرج فمنعوني حتى أمرهم محمد بن أبي بكر فتركوني أخرج. وقيل: إن الزبير خرج من المدينة قبل أن يقتل عثمان، وقيل: أدرك قتله. ولما رأى المصريون أن أهل الموسم يريدون قصدهم وأن يجمعوا ذلك إلى حجهم مع ما بلغهم من مسير أهل الأمصار قالوا: لا يخرجنا من هذا الأمر الذي وقعنا فيه إلا قتل هذا الرجل فيشتغل الناس عنا بذلك. فراموا الباب فمنعهم الحسن وابن الزبير ومحمد بن طلحة ومروان وسعيد بن العاص ومن معهم من أبناء الصحابة واجتلدوا، فزجرهم عثمان وقال: أنتم في حلٍ من نصرتي، فأبوا، ففتح الباب لمنعهم، فلما خرج ورآه المصريون رجعوا فركبهم هؤلاء وأقسم عثمان على أصحابه ليدخلن فدخلوا فأغلق الباب دون المصريين، فقام رجل من أسلم يقال له نيار بن عياض، وكان من الصحابة، فنادى عثمان، فبينا هو يناشده أن يعتزلهم إذ رماه كثير بن الصلت الكندي بسهم فقتله. فقالوا لعثمان عند ذلك: ادفع إلينا قاتله لنقتله به. قال: لم أكن لأقتل رجلاً نصرني وأنتم تريدون قتلي. فلما رأوا ذلك ثاروا إلى الباب، فلم يمنعهم أحد منه، والباب مغلق لا يقدرون على الدخول منه، فجاؤوا بنار فأحرقوه والسقيفة التي على الباب، وثار أهل الدار، وعثمان يصلي قد افتتح طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى... فما شغله ما سمع، ما يخطىء وما يتتعتع، حتى أتى عليها، فلما فرغ جلس إلى المصحف يقرأ فيه، وقرأ: (الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل) آل عمران: 173، فقال لمن عنده بالدار: إن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قد عهد إلي عهداً فأنا صابر عليه، ولم يحرقوا الباب إلا وهم يطلبون ما هو أعظم منه، فأحرج على رجل أن يستقتل أو يقاتل، وقال للحسن: إن أباك الآن لفي أمر عظيم من أمرك فأقسمت عليك لما خرجت إليه. فتقدموا فقاتلوا ولم يسمعوا قوله، فبرز المغيرة بن الأخنس بن شريق، وكان قد تعجل من الحج، في عصابة لينصروا عثمان وهو معه في الدار، وارتجز يقول: قد علمت ذات القرون الميل ... والحلي والأنامل الطفول لتصدقن بيعتي خليلي ... بصارمٍ ذي رونقٍ مصقول لا أستقيل إذ أقلت قيلي
وخرج الحسن بن علي وهو يقول: لا دينهم ديني ولا أنا منهم ... حتى أسير إلى طمار شمام وخرج محمد بن طلحة وهو يقول: أنا ابن من حامى عليه بأحد ... ورد أحزاباً على رغم معد وخرج سعيد بن العاص وهو يقول: صبرنا غداة الدار والموت واقف ... بأسيافنا دون ابن أروى نضارب وكنا غداة الروع في الدار نصرةً ... نشافههم بالضرب والموت نائب وكان آخر من خرج عبد الله بن الزبير فكان يحدث عن عثمان بآخر ما كان عليه، وأقبل أبو هريرة والناس محجمون فقال: هذا يوم طاب فيه الضرب! ونادى: (يا قوم ما لي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار) غافر: 41، وبرز مروان وهو يقول: قد علمت ذات القرون الميل ... والكف والأنامل الطفول أني أروع أول الرعيل ... بغارةٍ مثل القطا الشليل فبرز إليه رجل من بني ليث يدعى النباع، فضربه مروان وضرب هو مروان على رقبته فأثبته وقطع إحدى علباويه، فعاش مروان بعد ذلك أوقص، وقام إليه عبيد بن رفاعة الزرقي ليدفف عليه، فقامت فاطمة أم إبراهيم بن عدي، وكانت أرضعت مروان وأرضعت له، فقالت: إن كنت تريد قتله فقد قتل، وإن كنت تريد أن تلعب بلحمه فهذا قبيح! فتركه وأدخلته بيتها، فعرف لها بنوه ذلك واستعملوا ابنها إبراهيم بعد. ونزل إلى المغيرة بن الأخنس بن شريق رجلٌ فقتل المغيرة، قال: فلما سمع الناس يذكرونه قال: إنا لله وإنا إليه راجعون. فقال له عبد الرحمن بن عديس: ما لك؟ فقال: رأيت فيما يرى النائم هاتفاً يهتف فقال: بشر قاتل المغيرة بن الأخنس بالنار، فابتليت به. واقتحم الناس الدار من الدور التي حولها ودخلوها من دار عمرٍو بن حزم إلى دار عثمان حتى ملؤوها ولا يشعر من بالباب، وغلب الناس على عثمان وندبوا رجلاً يقتله، فانتدب له رجل، فدخل عليه البيت فقال: اخلعها وندعك. فقال: ويحك! والله ما كشفت امرأة في جاهلية ولا إسلام ولا تغنيت ولا تمنيت ولا وضعت يميني على عورتي منذ بايعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ولست خالعاً قميصاً كسانيه الله تعالى حتى يكرم الله أهل السعادة ويهين أهل الشقاوة! فخرج عنه، فقالوا: ما صنعت؟ فقال: والله لا ينجينا من الناس إلا قتله ولا يحل لنا قتله. فأدخلوا عليه رجلاً من بني ليث فقال له: لست بصاحبي لأن النبي، صلى الله عليه وسلم، دعا لك أن تحفظ يوم كذا وكذا ولن تضيع. فرجع عنه وفارق القوم. ودخل عليه رجل من قريش فقال له: إن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، استغفر لك يوم كذا وكذا فلن تقارف دماً حراماً. فرجع وفارق أصحابه. وجاء عبد الله بن سلام ينهاهم عن قتله فقال: يا قوم لا تسلوا سيف الله فيكم، فوالله إن سللتموه لا تغمدوه! ويلكم! إن سلطانكم اليوم يقوم بالدرة، فإن قتلتموه لا يقوم إلا بالسيف. ويلكم! إن مدينتكم محفوفة بالملائكة فإن قتلتموه ليتركنها. فقالوا: يا ابن اليهودية ما أنت وهذا! فرجع عنهم. وكان آخر من دخل عليه ممن رجع محمد بن أبي بكر، فقال له عثمان: ويلك أعلى الله تغضب؟ هل لي إليك جرم إلا حقه أخذته منك؟. فأخذ محمد لحيته وقال: قد أخزاك الله يا نعثل! فقال: لست بنعثل ولكني عثمان وأمير المؤمنين، وكانوا يلقبون به عثمان. فقال محمد: ما أعنى عنك معاوية وفلان وفلان! فقال عثمان: يا ابن أخي فما كان أبوك ليقبض عليها. فقال محمد: لو رآك أبي تعمل هذه الأعمال أنكرها عليك، والذي أريد بك أشد من قبضي عليها! فقال عثمان: أستنصر الله عليك واستعين به! فتركه وخرج. وقيل: بل طعن جبينه بمشقص كان في يده. والأول أصح. قال: فلما خرج محمد وعرفوا انكساره ثار قتيرة وسودان بن حمران والغافقي، فضربه الغافقي بحديدة معه وضرب المصحف برجله، فاستدار المصحف واستقر بين يديه وسالت عليه الدماء، وجاء سودان ليضربه، فأكبت عليه امرأته واتقت السيف بيدها، فنفح أصابعها فأطن أصابع يدها وولت، فغمز أوراكها وقال: إنها لكبيرة العجز! وضرب عثمان فقتله.
وقيل: الذي قتله كنانة بن بشر التجيبي. وكان عثمان رأى النبي، صلى الله عليه وسلم، تلك الليلة يقول له: إنك تفطر الليلة عندنا. فلما قتل سقط من دمه على قوله تعالى: (فسيكفيكهم الله) البقرة: 137. ودخل غلمة لعثمان مع القوم لينصروه، وكان عثمان قد أعتق من كف يده منهم، فلما ضربه سودان ضرب بعض الغلمان رقبة سودان فقتله، ووثب قتيرة على الغلام فقتله، وانتهبوا ما في البيت وخرجوا ثم أغلقوه على ثلاثة قتلى، فلما خرجوا وثب غلام عثمان على قتيرة فقتله، وثار القوم فأخذوا ما وجدوا حتى أخذوا ما على النساء، وأخذ كلثوم التجيبي ملاءةً من على نائلة، فضربه غلام لعثمان فقتله، وتنادوا: أدركوا بيت المال ولا تسبقوا إليه، فسمع أصحاب بيت المال كلامهم وليس فيه إلا غرارتان، فقالوا: النجاء فإن القوم إنما يحاولون الدنيا! فهربوا، وأتوا بيت المال فانتهبوه وماج الناس. وقيل: إنهم ندموا على قتله. وأما عمرو بن الحمق فوثب على صدره وبه رمق فطعنه تسع طعنات، قال: فأما ثلاث منها فإني طعنتهن إياه لله تعالى، وأما ستفلما كان في صدري عليه. وأرادوا قطع رأسه فوقعت نائلة عليه وأم البنين فصحن وضربن الوجوه. فقال ابن عديس: اتركوه. وأقبل عمير ابن ضابىء فوثب عليه فكسر ضلعاً من أضلاعه وقال: سجنت أبي حتى مات في السجن. وكان قتله لثماني عشر خلت من ذي الحجة سنة خمس وثلاثين يوم الجمعة، وكانت خلافته اثنتي عشرة سنة إلا اثني عشر يوماً، وقيل: إلا ثمانية أيام، وقيل: بل كان قتله لثماني عشرة خلت من ذي الحجة سنة ست وثلاثين، وقيل: بل قتل أيام التشريق وكان عمره اثنتين وثمانين سنة، وقيل: ثمانياً وثمانين سنة، وقيل: تسعين سنة، وقيل: خمساً وسبعين سنة، وقيل: ستاً وثمانين سنة. ذكر الموضع الذي دفن فيه ومن صلى عليه قيل: بقي عثمان ثلاثة أيام لا يدفن، ثم إن حكيم بن حزام القرشي وجبير ابن مطعم كلما علياً في أن يأذن في دفنه، ففعل، فلما سمع من قصده بذلك قعدوا له في الطريق بالحجارة، وخرج به ناس يسير من أهله وغيرهم، وفيهم الزبير والحسن وأبو جهم بن حذيفة ومروان، بين المغرب والعشاء، فأتوا به حائطاً من حيطان المدينة يسمى حش كوكب، وهو خارج البقيع، فصلى عليه جبير بن مطعم، وقيل: حكيم بن حزام، وقيل: مروان، وجاء ناس من الأنصار ليمنعوا من الصلاة عليه ثم تركوهم خوفاً من الفتنة. وأرسل علي إلى من أراد أن يرجم سريره ممن جلس على الطريق لما سمع بهم فمنعهم عنه، ودفن في حش كوكب. فلما ظهر معاوية بن أبي سفيان على الناس أمر بذلك الحائط فهدم وأدخل في البقيع وأمر الناس فدفنوا أمواتهم حول قبره حتى اتصل الدفن بمقابر المسلمين. وقيل: إنما دفن بالبقيع مما يلي حش كوكب. وقيل: شهد جنازته علي وطلحة وزيد بن ثابت وكعب بن مالك وعامة من ثم من أصحابه. قال: وقيل لم يغسل وكفن في ثيابه. ذكر بعض سيرة عثمانقال الحسن البصري: دخلت المسجد فإذا أنا بعثمان متكئاً على ردائه، فأتاه سقاءان يختصمان إليه، فقضى بينهما. وقال الشعبي: لم يمت عمر بن الخطاب حتى ملته قريش وقد كان حصرهم بالمدينة، وقال: أخوف ما أخاف على هذه الأمة انتشاركم في البلاد، فإن كان الرجل منهم ليستأذنه في الغزو فيقول: قد كان لك في غزوك مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ما يبلغك، وخير لك من غزوك اليوم أن لا ترى الدنيا ولا تراك. وكان يفعل هذا بالمهاجرين من قريش ولم يكن يفعله بغيرهم من أهل مكة. فلما ولي عثمان خلى عنهم فانتشروا في البلاد وانقطع إليهم الناس وكان أحب إليهم من عمر. ق | |
|
 | |
الشيخ عودة الشيخ عودة

عدد المساهمات : 1748 تاريخ التسجيل : 28/09/2008 العمر : 72
 | موضوع: رد: كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير الثلاثاء فبراير 11, 2014 3:06 am | |
| ذكر أسماء عماله في هذه السنةكان عماله هذه السنة على مكة: عبد الله بن الحضرمي، وعلى الطائف القاسم بن ربيعة الثقفي، وعلى صنعاء يعلى بن منية، وعلى الجند عبد الله بن ربيعة، وعلى البصرة عبد الله بن عامر، خرج منها ولم يول عثمان عليها أحداً، وعلى الكوفة سعيد بن العاص أخرج منها ولم يترك يدخلها. وعلى الشام معاوية بن أبي سفيان، وعامل معاوية على حمص عبد الرحمن بن خالد، وعلى قنسرين حبيب بن مسلمة الفهري، وعلى الأردن أبو الأعور السلمي، وعلى فلسطين علقمة بن حكيم الكناني، وعلى البحر عبد الله بن قيس الفزاري، وعلى القضاء أبو الدرداء في قول بعضهم، والصحيح أنه كان قد توفي قبل أن قتل عثمان، وكان عامل عثمان على الكوفة أبو موسى على الصلاة، وعلى خراج السواد جابر بن فلان المزني، وهو صاحب المسناة إلى جانب الكوفة، وسماك الأنصاري، وعلى حربها القعقاع بن عمرو، وعلى قرقيسيا جرير بن عبد الله، وعلى أذربيجان الأشعث بن قيس الكندي، وعلى حلوان عتيبة بن النهاس، وعلى ماه مالك بن حبيب، وعلى همذان النسير، وعلى الري سعيد بن قيس، وعلى أصبهان السائب بن الأقرع، وعلى ماسبذان خنيس، وعلى بيت المال عقبة بن عامر، وكان على قضاء عثمان زيد بن ثابت. عتيبة بن النهاس بالتاء فوقها نقطتان، وبعدها ياء تحتها نقطتان، وآخره باء موحدة. وعيينة بن حصن بالياء تحتها نقطتان، وياء ثانية، وآخره نون، تصغير عين. والنسير بالنون، والسين المهملة، تصغير نسر. ذكر الخبر عمن كان يصلي في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم حين حصر عثمان
قيل: وجاء ذلك اليوم الذي منع فيه عثمان الصلاة سعد القرظ، وهو المؤذن، إلى علي بن أبي طالب، فقال: من يصلي بالناس؟ فقال: ادع خالد ابن زيد، فدعاه، فصلى بالناس، فهو أول يوم عرف أن اسم أبي أيوب الأنصاري خالد بن زيد، فصلى أياماً ثم صلى بعد ذلك بالناس، وقيل: بل أمر علي سهل بن حنيف فصلى بالناس من أول ذي الحجة إلى يوم العيد، ثم صلى علي بالناس العيد، ثم صلى بهم حتى قتل عثمان. وقد تقدم غير ذلك في ذكر قتله. ذكر ما قيل فيه من الشعرقال حسان بن ثابت الأنصاري: أتركتم غزو الدروب وراءكم ... وغزوتمونا عند قبر محمد فلبئس هدي المسلمين هديتم ... ولبئس أمر الفاجر المتعمد إن تقدموا نجعل قرى سرواتكم ... حول المدينة كل لينٍ مذود أو تدبروا فلبئس ما سافرتم ... ولمثل أمر أميركم لم يرشد وكأن اصحاب النبي عشيةً ... بدنٌ تذبح عند باب المسجد أبكي أبا عمرٍو لحسن بلائه ... أمسى ضجيعاً في بقيع الغرقد وقال أيضاً: إن تمس دار ابن أروى اليوم خاوية ... بابٌ صريعٌ وبابٌ محرقٌ خرب فقد يصادف باغي الخير حاجته ... فيها ويهوي إليها الذكر والحسب يا أيها الناس أبدوا ذات أنفسكم ... لا يستوي الصدق عند الله والكذب قوموا بحق مليك الناس تعترفوا ... بغارةٍ عصبٍ من خلفها عصب فيهم حبيبٌ شهاب الموت يقدمهم ... مستلئماً قد بدا في وجهه الغضب وقال أيضاً: من سره الموت صرفاً لا مزاج له ... فليأت مأسدةً في دار عثمانا مستشعري حلق الماذي قد شفعت ... قبل المخاطم بيضٌ زان أبدانا صبراً فدىً لكم أمي وما ولدت ... قد ينفع الصبر في المكروه أحيانا فقد رضينا بأهل الشام نافرةً ... وبالأمير وبالإخوان إخوانا إني لمنهم وإن غابوا وإن شهدوا ... ما دمت حياً وما سميت حسانا لتسمعن وشيكاً في ديارهم: ... الله أكبر يا ثارات عثمانا ضحوا باشمط عنوان السجود به ... يقطع الليل تسبيحاً وقرآنا قال أبو عمر بن عبد البر، وقد ذكر بعض هذه الأبيات فقال: وق زاد فيها أهل الشام، ولم أر لذكره وجهاً، يعني ما فيها من ذكر علي، وهو: يا ليت شعري وليت الطير تخبرني ... ما كان بين عليٍ وابن عفانا وقال الوليد بن عقبة بن أبي معيط يحرض أخاه عمارة: ألا إن خير الناس بعد ثلاثةٍ ... قتيل التجيبي الذي جاء من مصر فإن يك ظن بابن أمي صادقاً ... عمارة لا يطلب بذحلٍ ولا وتر يبيت وأوتار ابن عفان عنده ... مخيمةٌ بين الخورنق والقصر فأجابه الفضل بن العباس: أتطلب ثأراً لست منه ولا له ... وأين ابن ذكوان الصفوري من عمرو كما اتصلت بنت الحمار بأمها ... وتنسى أباها إذ تسامي أولي الفخر ألا إن خير الناس بعد ثلاثةٍ ... وصي النبي المصطفى عند ذي الذكر وأول من صلى وصنو نبيه ... وأول من أردى الغواة لدى بدرٍ فلو رأت الأنصار ظلم ابن أمكم ... بزعمكم كانوا له حاضري النصر كفى ذاك عيباً أن يشيروا بقتله ... وأن يسلموا للأحابيش من مصر قوله: وأين ابن ذكوان، فإن الوليد بن عقبة بن أبي معيط بن أبي عمرو واسمه ذكوان بن أمية بن عبد شمس، ويذكر جماعة منى النسابين أن ذكوان مولى لأمية، فتبناه وكناه أبا عمرو، ويعني: إنك مولى لست من بني أمية حتى تكون ممن يطلب بثأر عثمان. وقال غيرهم من الشعراء أيضاً بعد مقتله فيما بين مادح وهاجٍ، ومن ناع وباك، ومن سار فرح، فممن مدحه حسان، كما تقدم، وكعب بن مالك في آخرين غيرهم كذلك. ذكر بيعة علي بن أبي طالب ذكر بيعة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب
وفي هذه السنة بويع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وقد اختلفوا في كيفية بيعته، فقيل: إنه لما قتل عثمان اجتمع أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، من المهاجرين والأنصار وفيهم طلحة والزبير، فأتوا علياً فقالوا له: إنه لابد للناس من إمام. قال: لا حاجة لي أمركم فمن اخترتم رضيت به. فقالوا: ما نختار غيرك، وترددوا إليه مراراً وقالوا له في آخر ذلك: إنا لا نعلم أحداً أحق به منك، لا أقدم سابقةً، ولا أقرب قرابةً من رسول الله، صلى الله عليه وسلم. فقال: لا تفعلوا فإني أكون وزيراً خيراً من أن أكون أميراً. فقالوا: والله ما نحن بفاعلين حتى نبايعك. قال: ففي المسجد، فإن بيعتي لا تكون خفيةً ولا تكون إلا في المسجد. وكان في بيته، وقيل: في حائط لبني عمرو بن مبذول، فخرج إلى المسجد وعليه إزار وطاق وعمامة خز ونعلاه في يده متوكئاً على قوس، فبايعه الناس؛ وكان أول من بايعه من الناس طلحة بن عبيد الله، فنظر إليه حبيب بن ذؤيب فقال: إنا لله! أول من بدأ بالبيعة يد شلاء، لا يتم هذا الأمر! وبايعه الزبير. وقال لهما علي: إن أحببتما أن تبايعاني وإن أحببتما بايعتكما. فقالا: بل نبايعك. وقالا بعد ذلك: إنما فعلنا ذلك خشية على نفوسنا، وعرفنا أنه لا يبايعنا. وهربا إلى مكة بعد قتل عثمان بأربعة أشهر. وبايعه الناس، وجاؤوا بسعد بن أبي وقاص، فقال علي: بايع، فقال: لا، حتى يبايع الناس، والله ما عليك مني بأس. فقال: خلوا سبيله. وجاؤوا بابن عمر بايع. قال: لا، حتى يبايع الناس. قال: ائتني بكفيل. قال: لا أرى كفيلاً. قال الأشتر: دعني أضرب عنقه! قال علي: دعوه أنا كفيله، إنك ما علمت لسيء الخلق صغيراً ولا كبيراً. وبايعت الأنصار إلا نفيراً يسيراً، منهم: حسان بن ثابت، وكعب بن مالك، ومسلمة بن مخلد، وأبو سعيد الخدري، ومحمد بن مسلمة، والنعمان ابن بشير، وزيد بن ثابت، ورافع بن خديج، وفضالة بن عبيد، وكعب بن عجرة، وكانوا عثمانية؛ فأما حسان فكان شاعراً لا يبالي ما يصنع، وأما زيد بن ثابت فولاه عثمان الديوان وبيت المال، فلما حصر عثمان قال: يا معشر الأنصار كونوا أنصاراً لله، مرتين، فقال له أبو أيوب: ما تنصره إلا أنه أكثر لك من العبدان. وأما كعب بن مالك فاستعمله على صدقة مزينة وترك له ما أخذ منهم؛ ولم يبايعه عبد الله بن سلام، وصهيب بن سنان، وسلمة بن سلامة ابن وقش، وأسامة بن زيد، وقدامة بن مظعون، والمغيرة بن شعبة. فأما النعمان بن بشير فإنه أخذ أصابع نائلة امرأة عثمان التي قطعت وقميص عثمان الذي قتل فيه وهرب به فلحق بالشام، فكان معاوية يعلق قميص عثمان وفيه الأصابع، فإذا رأى ذلك أهل الشام ازدادوا غيظاً وجداً في أمرهم، ثم رفعه، فإذا أحس منهم بفتور يقول له عمرو بن العاص: حرك لها حوارها تحن، فيعلقها. وقد قيل: إن طلحة والزبير إنما بايعا علياً كرهاً، وقيل: لم يبايعه الزبير ولا صهيب ولا سلمة بن سلامة بن وقش وأسامة بن زيد.
فأما على قول من قال: إن طلحة والزبير بايعا كرهاً فقال: إن عثمان لما قتل بقيت المدينة خمسة أيام وأميرها الغافقي بن حرب يلتمسون من يجيبهم إلى القيام بالأمر فلا يجدونه، ووجدوا طلحة في حائط له، ووجدوا سعداً والزبير قد خرجا من المدينة، ووجدوا بني أمية قد هربوا غلا من لم يطق الهرب، وهرب سعيد والوليد ومروان إلى مكة، وتبعهم غيرهم، فأتى المصريون علياً فباعدهم، وأتى الكوفيون الزبير فباعدهم، وأتى البصريون طلحة فباعدهم، وكانوا مجتمعين على قتل عثمان مختلفين فيمن يلي الخلافة. فأرسلوا إلى سعد يطلبونه، فقال: إني وابن عمر لا حاجة لنا فيها، فأتوا ابن عمر فلم يجبهم، فبقوا حيارى. وقال بعضهم لبعض: لئن جرع الناس إلى أمصارهم بغير إمام لم نأمن الاختلاف وفساد الأمة. فجمعوا أهل المدينة لهم: يا أهل المدينة أنتم أهل الشورى، وأنتم تعقدون الإمامة، وحكمكم جائز على الأمة، فانظروا رجلاً تنصبونه ونحن لكم تبعٌ، وقد أجلناكم يومكم، فوالله لئن لم تفرغوا لنقتلن غداً علياً وطلحة والزبير وأناساً كثيراً! فغشي الناس علياً فقالوا: نبايعك فقد ترى ما نزل بالإسلام وما ابتلينا به من بين القرى. فقال علي: دعوني والتمسوا غيري فإنا مستقبلون أمراً له وجوه وله ألوان لا تقوم به القلوب ولا تثبت عليه العقول. فقالوا: ننشدك الله! ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى الإسلام؟ ألا ترى الفتنة؟ ألا تخاف الله؟ فقال: قد أجبتكم، واعلموا أني إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم، وإن تركتموني فإنما أنا كأحدكم، ألا إني أسمعكم وأطوعكم لمن وليتموه. ثم افترقوا على ذلك واتعدوا الغد. وتشاور الناس فيما بينهم وقالوا: إن دخل طلحة والزبير فقد استقامت، فبعث البصريون إلى الزبير حكيم بن جبلة وقالوا: احذر لا تحابه، ومعه نفر، فجاؤوا به يحدونه بالسيف، فبايع، وبعثوا إلى طلحة الأشتر ومعه نفر، فأتى طلحة، فقال: دعني أنظر ما يصنع الناس، فلم يدعه، فجاء به يتله تلاً عنيفاً، وصعد المنبر فبايع. وكان الزبير يقول: جاءني لص من لصوص عبد القيس فبايعت والسيف على عنقي، وأهل مصر فرحون بما اجتمع عليه أهل المدينة، وقد خشع أهل الكوفة والبصرة أن صاروا أتباعاً لأهل مصر وازدادوا بذلك على طلحة والزبير غيظاً. ولما أصبحوا يوم البيعة، وهو يوم الجمعة، حضر الناس المسجد، وجاء علي فصعد المنبر وقال: أيها الناس، عن ملأٍ وإذن، إن هذا أمركم ليس لأحد فيه حق إلا من أمرتم، وقد افترقنا بالأمس على أمر وكنت كارهاً لأمركم، فأبيتم إلا أن أكون عليكم، ألا وإنه ليس لي دونكم إلا مفاتيح ما لكم معي وليس لي أن آخذ درهماً دونكم، فإن شئتم قعدت لكم وإلا فلا أجد على أحد. فقالوا: نحن على ما فارقناك عليه بالأمس. فقال: اللهم اشهد. ولما جاؤوا بطلحة ليبايع قال: إنما أبايع كرهاً. فبايع، وكان به شلل، فقال رجل يعتاف: إنا لله وإنا إليه راجعون، أول يد بايعت يد شلاء، لا يتم هذا الأمر! ثم جيء بالزبير فقال مثل ذلك وبايع، وفي الزبير اختلاف، ثم جيء بعده بقوم كانوا قد تخلفوا فقالوا: نبايع على إقامة كتاب الله في القريب والبعيد والعزيز والذليل، فبايعهم، ثم قام العامة فبايعوا، وصار الأمر أمر أهل المدينة وكأنهم كما كانوا فيه وتفرقوا إلى منازلهم. وبويع يوم الجمعة لخمس بقين من ذي الحجة، والناس يحسبون بيعته من يوم قتل عثمان. وأول خطبة خطبها علي حين استخلف حمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن الله أنزل كتاباً هادياً يبين فيه الخير والشر، فخذوا بالخير ودعوا الشر، الفرائض الفرائض أدوها إلى الله تعالى يؤدكم إلى الجنة. إن الله حرم حرماتٍ غير مجهولة وفضل حرمة المسلم على الحرم كلها، وشد بالإخلاص والتوحيد حقوق المسلمين، فالمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده إلا بالحق، لا يحل دم امرىء مسلم إلا بما يجب. بادروا أمر العامة، وخاصة أحدكم الموت، فإن الناس أمامكم وإن ما من خلفكم الساعة تحدوكم. تخففوا تلحقوا، فإنما ينتظر الناس أخراهم. اتقوا الله عباد الله في بلاده وعباده، إنكم مسؤولون حتى عن البقاع والبهائم. أطيعوا الله فلا تعصوه، وإذا رأيتم الخير فخذوا به، وإذا رأيتم الشر فدعوه، (واذكروا إذ أنتم قليلٌ مستضعفون في الأرض) الأنفال: 26. ولما فرغ من الخطبة وهو على المنبر قال السبئية.
خذها إليك واحذرن أبا حسن ... إنا نمر الأمر إمرار الرسن صولة أقوامٍ كأشداد السفن ... بمشرفياتٍ كغدران اللبن ونطعن الملك بلينٍ كالشطن ... حتى يمرن على غير عنن فقال علي: إني عجزت عجزةً لا أعتذر ... سوف أكيس بعدها وأستمر أرفع من ذيلي ما كنت أجر ... وأجمع الأمر الشتيت المنتشر إن لم يشاغبني العجول المنتصر ... إن تتركوني والسلاح يبتدر ورجع علي إلى بيته، فدخل عليه طلحة والزبير في عدد من الصحابة فقالوا: يا علي إنا قد اشترطنا إقامة الحدود، وإن هؤلاء القوم قد اشتركوا في قتل هذا الرجل وأحلوا بأنفسهم. فقال: يا إخوتاه إني لست أجهل ما تعلمون، ولكن كيف أصنع بقوم يملكوننا ولا نملكهم؟ ها هم هؤلاء قد ثارت معهم عبدانكم وثابت إليهم أعرابكم وهو خلاطكم يسومونكم ما شاؤوا، فهل ترون موضعاً لقدرة على شيء مما تريدون؟ قالوا: لا. قال: فلا والله لا أرى إلا رأياً ترونه أبداً إلا أن يشاء الله. إن هذا الأمر أمر جاهلية وإن لهؤلاء القوم مادة، وذلك أن الشيطان لم يشرع شريعة قط فيبرح الأرض من أخذ بها أبداً. إن الناس من هذا الأمر إن حرك على أمور: فرقة ترى ما ترون، وفرقة ترى ما لا ترون، وفرقة لا ترى هذا ولا هذا، حتى يهدأ الناس وتقع القلوب مواقعها وتؤخذ الحقوق، فاهدأوا عني وانظروا ماذا يأتيكم ثم عودوا. واشتد على قريش وحال بينهم وبين الخروج على حالها، وإنما هيجه على ذلك هرب بني أمية وتفرق القوم، فبعضهم يقول ما قال علي، وبعضهم يقول: نقضي الذي علينا ولا نؤخره، والله إن علياً لمستغنٍ برأيه وليكونن أشد على قريش من غيره. فسمع ذلك فخطبهم وذكر فضلهم وحاجته إليهم ونظره لهم وقيامه دونهم وأنه ليس له من سلطانهم إلا ذاك والأجر من الله عليه، ونادى: برئت الذمة من عبد لا يرجع إلى مولاه. فتذامرت السبئية والأعراب وقالوا: لنا غداً مثلها ولا نستطيع نحتج فيهم بشيء. وقال: أيها الناس أخرجوا عنكم الأعراب فليلحقوا بمياههم، فأبت السبئية وأطاعهم الأعراب. فدخل علي بيته، ودخل عليه طلحة والزبير وعدةٌ من أصحاب النبي، صلى الله عليه وسلم، فقال: دونكم ثأركم فاقتلوه. فقالوا: عشوا من ذلك. فقال: هم والله بعد اليوم أعشى! وقال: ولو أن قومي طاوعتني سراتهم ... أمرتهم أمراً يديخ الأعاديا وقال طلحة: دعني آت البصرة فلا يفجأك إلا وأنا في خيل. وقال الزبير: دعني آت الكوفة فلا يفجأك إلا وأنا في خيل. فقال: حتى أنظر في ذلك. قيل: وقال ابن عباس: أتيت علياً بعد قتل عثمان عند عودي من مكة فوجدت المغيرة بن شعبة مستخلياً به، فخرج من عنده، فقلت له: ما قال لك هذا؟ فقال: قال لي قبل مرته هذه: إن لك حق الطاعة والنصيحة، وأنت بقية الناس، وإن الرأي اليوم تحرز به ما في غد، وإن الضياع اليوم يضيع به ما في غد، أقرر معاوية وابن عامر وعمال عثمان على أعمالهم حتى تأتيك بيعتهم ويسكن الناس، ثم اعزل من شئت، فأبيت عليه ذلك وقلت: لا أداهن في ديني ولا أعطي الدنية في أمري. قال: فإن كنت أبيت علي فانزع من شئت واتر معاوية، فإن في معاوية جرأة، وهو في أهل الشام يستمع منه، ولك حجة في إثباته، وكان عمر بن الخطاب قد ولاه الشام. فقلت: لا والله لا أستعمل معاوية يومين! ثم انصرف من عندي وأنا أعرف فيه أنه يود أني مخطىء، ثم عاد إلي فقال: إني أشرت عليك أول مرة بالذي أشرت وخالفتني فيه، ثم رأيت بعد ذلك أن تصنع الذي رأيت فتعزلهم وتستعين بمن تثق به، فقد كفى الله وهم أهون شوكة مما كان. قال ابن عباس: فقلت لعلي: أما المرة الأولى فقد نصحك، وأما المرة الثانية فقد غشك. قال: ولم نصحني؟ قلت: لأن معاوية وأصحابه أهل دنيا فمتى ثبتهم لا يبالون من ولي هذا الأمر، ومتى تعزلهم يقولون: أخذ هذا الأمر بغير شورى وهو قتل صاحبنا، ويؤلبون عليك، فتنتفض عليك الشام وأهل العراق، مع أني لا آمن طلحة والزبير أن يكرا عليك، وأنا أشير عليك أن تثبت معاوية، فإن بايع لك فعلي أن أقلعه من منزله، وقال علي: والله لا أعطيه إلا السيف! ثم تمثل: وما ميتةٌ إن متها غير عاجز ... بعارٍ إذا ما غالت النفس غولها
فقلت: يا أمير المؤمنين أنت رجلٌ شجاع لست صاحب رأي في الحرب، أما سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول: (الحرب خدعة)؟ فقال: بلى. فقلت: أما والله لئن أطعتني لأصدرنهم بعد ورد، ولأتركنهم ينظرون في دبر الأمور لا يعرفون ما كان وجهها في غير نقصان عليك ولا إثم لك. فقال: يا ابن عباس لست من هناتك ولا من هنات معاوية في شيء. قال ابن عباس: فقلت له: أطعني والحق بما لك بينبع وأغلق بابك عليك، فإن العرب تجول جولة وتضطرب ولا تجد غيرك، فإنك والله لئن نهضت مع هؤلاء اليوم ليحملنك الناس دم عثمان غداً. فأبى علي فقال: تشير علي وأرى فإذا عصيتك فأطعني. قال: فقلت: افعل، إن أيسر ما لك عندي الطاعة. فقال له علي: تسير إلى الشام فقد وليتكها. فقال ابن عباس: ما هذا برأي، معاوية رجل من بني أمية وهو ابن عم عثمان وعامله ولست آمن أن يضرب عنقي بعثمان، وإن أدنى ما هو صانعٌ أن يحبسني فيتحكم علي لقرابتي منك، وإن كل ما حمل عليك حمل علي، ولكن اكتب إلى معاوية فمنه وعده. فقال: لا والله، لا كان هذا أبداً! ذكر عدة حوادثفي هذه السنة، أعني سنة خمس وثلاثين، سار قسطنطين بن هرقل في ألف مركب يريد أرض المسلمين قبل قتل عثمان، فسلط الله عليهم ريحاً عاصفاً فغرقهم ونجا قسطنطين فأتى صقلية، فصنعوا له حماماً، فدخله فقتلوه فيه وقالوا: قتلت رجالنا. هكذا قال أبو جعفر. وهذا قسطنطين هو الذي هزمه المسلمون في غزوة الصواري سنة إحدى وثلاثين، وقتله أهل صقلية في الحمام، وإن كانوا قد اختلفوا في السنة التي كانت الوقعة فيها، فلولا قوله: إن المراكب غرقت، لكانت هذه الحادثة هي تلك، فإنها في قول بعضهم: كانت سنة خمس وثلاثين. وفي خلافة عثمان مات أوس بن خولي الأنصاري؛ وفي خلافة عثمان أيضاً مات الجلاس بن سويد الأنصاري، وكان من المنافقين على عهد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وحسنت توبته؛ وفيها مات الحرث بن نوفل بن الحرث بن عبد المطلب، والد الملقب بببة؛ وفي آخرها مات الحكم بن أبي العاص، وهو والد مروان وعم عثمان؛ وفيهها مات حبان بن منقذ الأنصاري، وهو والد يحيى بن حبان، بفتح الحاء المهملة وبالباء الموحدة؛ وفيها مات عبد الله ابن قيس بن خالد الأنصاري، وقيل: بل قتل بأحد شهيداً؛ وفي خلافته مات قطبة بن عامر الأنصاري، وهو عقبي بدري؛ وفي خلافته مات زيد بن خارجة بن زيد الأنصاري، وهو الذي تكلم بعد موته؛ وفيها قتل معبد بن العباس بن عبد المطلب بإفريقية في آخر خلافة عثمان؛ وفيها مات معيقيب بن أبي فاطمة، وكان من مهاجرة الحبشة، وكان على خاتم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وقيل: بل مات سنة أربعين في خلافة علي؛ وفيها مات مطيع بن الأسود العدوي، وكان إسلامه يوم الفتح؛ وفي خلافته مات نعيم بن مسعود الأشجعي، وقيل: بل قتل في وقعة الجمل مع مجاشع بن مسعد؛ وفي خلافته مات عبد الله بن حذافة السهمي، وهو بدري، وكان فيه دعابة؛ وفيها مات عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي والد عمر الشاعر، وكان قد جاء من اليمن لينصر عثمان لما حصر فسقط عن راحلته فمات؛ وأبو رافع مولى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وقيل: مات في خلافة علي، وهو اصح؛ وفي خلافته توفي أبو سبرة بن أبي رهم العامري من عامر بن لؤي، وهو بدري، وفيها مات هاشم بن عتبة بن ربيعة خال معاوية، أسلم يوم الفتح وكان صالحاً؛ وفيها مات أبو الدرداء، وقيل: عاش بعده، والأول أصح. ثم دخلت سنة ست وثلاثينذكر تفريق عليّ عماله وخلاف معاوية وفي هذه السنة فرق علي عماله على الأمصار، فبعث عثمان بن حنيف على البصرة، وعمارة بن شهاب على الكوفة، وكانت له هجرة، وعبيد الله بن عباس على اليمن، وقيس بن سعد على مصر، وسهل بن حنيف على الشام.
فأما سهل فإنه خرج حتى إذا كان بتبوك لقيته خيلٌ فقالوا: من أنت؟ قال: أمير. قالوا: على أي شيء؟ أمير المؤمنينعلى الشام. قالوا: إن كان بعثك عثمان فحي هلاً بك، وإن كان بعثك غيره فارجع. قال: أوما سمعتم بالذي كان؟ قالوا: بلى. فرجع إلى علي. وأما قيس بن سعد فإنه لما انتهى إلى أيلة لقيته خيلٌ فقالوا له: من أنت؟ قال: من فالة عثمان، فأنا أطلب من آوي إليه فأنتصر به لله. قالوا: من أنت؟ قال: قيس بن سعد. قالوا: امض. فمضى حتى دخل مصر. فافترق أهل مصر فرقاً، فرقة دخلت في الجماعة فكانوا معه، وفرقة اعتزلت بخرنبا وقالوا: إن قتل قتلة عثمان فنحن معكم، وإلا فنحن على دديلتنا حتى نحرك أو نصيب حاجتنا، وفرقة قالوا: نحن مع علي ما لم يقد من إخواننا، وهم في ذلك مع الجماعة. وكتب قيس إلى علي بذلك. وأما عثمان بن حنيف فسار ولم يرده أحد عن دخول البصرة ولم يجد لابن عامر في ذلك رأياً ولا استقلالاً بحرب، وافترق الناس بها، فاتبعت فرقةٌ القوم، ودخلت فرقةٌ في الجماعة، وقالت فرقة: ننظر ما يصنع أهل المدينة فتصنع كما صنعوا. وأما عمارة بن شهاب فلما بلغ زبالة لقيه طليحة بن خويلد، وكان خرج يطلب بثأر عثمان وهو يقول: لهفي على أمر لم يسبقني ولم أدركه! وكان خروجه عند عود القعقاع من إغاثة عثمان، فلما لقي عمارة قال له: ارجع، فإن القوم لا يريدون بأميرهم بدلاً، فإن أبيت ضربت عنقك. فرجع عمارة إلى علي بالخبر. وانطلق عبيد الله بن عباس إلى اليمن، فجمع يعلى بن منية كل شيء من الجباية وخرج به إلى مكة فقدمها بالمال، ودخل عبيد الله اليمن. ولما رجع سهل بن حنيف من الشام وأتت علياً الأخبار دعا طلحة والزبير فقال: إن الأمر الذي كنت أحذركم قد وقع، وإن الذي قد وقع لا يدرك إلا بإماتته، وإنها فتنة كالنار كلما سعرت ازدادت واستثارت. فقالا له: ائذن لنا نخرج من المدينة فإما أن نكاثر وإما أن تدعنا. فقال: سأمسك الأمر ما استمسك، فإذا لم أجد بداً فآخر الداء الكي. وكتب إلى معاوية وإلى أبي موسى. فكتب إليه أبو موسى بطاعة أهل الكوفة وبيعتهم، وبين الكاره منهم للذي كان والراضي ومن بين ذلك حتى كان علي كأنه يشاهدهم. وكان رسول علي إلى أبي موسى معبدٌ الأسلمي، وكان رسوله إلى معاوية سبرة الجهني، فقدم عليه، فلم يجبه معاوية بشيء، كلما تنجز جوابه لم يزد على قوله: أدم إدامة حصن أو خذا بيدي ... حرباً ضروساً تشب الجذل والضرما في جاركم وابنكم إذ كان مقتله ... شنعاء شيبت الأصداغ واللمما أعيا المسود بها والسيدون فلم ... يوجد لنا غيرنا مولىً ولا حكما حتى إذا كان الشهر الثالث من مقتل عثمان في صفر دعا معاوية رجلاً من بني عبس يدعى قبيصة فدفع إليه طوماراً مختوماً عنوانه: من معاوية إلى علي: وقال له: إذا دخلت المدينة فاقبض على أسفل الطومار، ثم أوصاه بما يقول، وأعاد رسول علي معه. فخرجا فقدما المدينة في ربيع الأول، فدخلها العبسي كما أمره قد رفع الطومار، فتبعه الناس ينظرون إليه، وعلموا أن معاوية معترض، ودخل الرسول على علي فدفع إليه الطومار، ففض ختمه فلم يجد فيه كتاباً. فقال للرسول: ما وراءك؟ قال: آمن أنا؟ قال: نعم، إن الرسول لا يقتل. قال: ورائي أني تركت قوماً لا يرضون إلا بالقود. قال: ممن؟ قال: من خيط رقبتك. وتركت ستين ألف شيخ تبكي تحت قميص عثمان وهو منصوب لهم قد ألبسوه منبر دمشق. قال: أمني يطلبون دم عثمان، ألست موتوراً كترة عثمان؟ اللهم إني أبرأ إليك من دم عثمان! نجا والله قتلة عثمان إلا أن يشاء الله، فإنه إذا أراد أمراً اصابه، اخرج. قال: وأنا آمنٌ؟ قال: وأنت آمن. فخرج العبسي وصاحت السبئية وقالت: هذا الكلب رسول الكلاب، اقتلوه! فنادى: يا آل مضر! يا آل قيس! الخيل والنهل! أقسم بالله ليردنها عليكم أربعة آلاف خصي، فانظروا كم الفحول والركاب! وتعاونوا عليه، فمنعه مضر، فجعلوا يقولون له: اسكت، فيقول: لا والله لا يفلح هؤلاء أبداً، أتاهم ما يوعدون، لقد حل بهم ما يجدون، انتهت والله أعمالهم وذهبت ريحهم، فوالله ما أمسوا حتى عرف الذل فيهم.
وأحب أهل المدينة أن يعلموا رأي علي في معاوية وقتاله أهل القبلة، أيجسر عليه أم ينكل عنه؟ وقد بلغهم أن ابنه الحسن دعاه إلى القعود وترك الناس، فدسوا زياد بن حنظلة التميمي وكان منقطعاً إلى علي فجلس إليه ساعة، فقال له علي: يا زياد تيسر، فقال: لأي شيء؟ فقال: لغزو الشام. فقال زياد: الأناة والرفق أمثل، وقال: ومن لم يصانع في أمورٍ كثيرةٍ ... يضرس بأنيابٍ ويوطأ بمنسم فتمثل علي وكأنه لا يريده: متى تجمع القلب الزكي وصارماً ... وأنفاً حمياً تجتنبك المظالم فخرج زياد والناس ينتظرونه وقالوا: ما وراءك؟ فقال: السيف يا قوم. فعرفوا ما هو فاعل. واستأذنه طلحة والزبير في العمرة، فأذن لهما، فلحقا بمكة؛ ودعا علي محمد بن الحنفية فدفع إليه اللواء، وولى عبد الله بن عباس ميمنته، وعمر بن أبي سلمة أو عمرو بن سفيان بن عبد الأسد ولاه ميسرته، ودعا أبا ليلى بن عمر بن الجراح ابن أخي أبي عبيدة بن الجراح فجعله على مقدمته، واستخلف على المدينة قثم بن العباس، ولم يول ممن خرج على عثمان أحداً، وكتب إلى قيس بن سعد وإلى عثمان بن حنيف وإلى أبي موسى أن يندبوا الناس إلى أهل الشام، ودعا أهل المدينة إلى قتالهم وقال لهم: إن في سلطان الله عصمة أمركم فأعطوه طاعتكم غير ملوية ولا مستكره بها، والله لتفعلن أو لينقلن عنكم سلطان الإسلام ثم لا ينقله إليكم أبداً حتى يأرز الأمر إليها، انهضوا إلى هؤلاء الذين يريدون تفريق جماعتكم لعل الله يصلح بكم ما أفسد أهل الآفاق وتقضون الذي عليكم. خرنبا بفتح الخاء المعجمة، وسكون الراء، وفتح النون، والباء الموحدة، وآخره ألف. ذكر ابتداء وقعة الجملفبينما هم كذلك على التجهز لأهل الشام أتاهم الخبر عن طلحة والزبير وعائشة وأهل مكة بنحو آخر وأنهم على الخلاف، فأعلم علي الناس ذلك، وأن عائشة وطلحة والزبير قد سخطوا إمارته ودعوا الناس إلى الإصلاح وقال لهم: سأصبر ما لم أخف على جماعتكم، وأكف إن كفوا، وأقتصر على ما بلغني. عنهم. ثم أتاه أنهم يريدون البصرة، فسره ذلك وقال: إن الكوفة فيها رجال العرب وبيوتاتهم. فقال له ابن عباس: إن الذي سرك من ذلك ليسوءني، إن الكوفة فسطاط فيه من أعلام العرب، ولا يحملهم عدة القوم، ولا يزال فيها من يسمو إلى أمر لا يناله، فإذا كان كذلك شغب علي الذي قد نال ما يريد حتى تكسر حدته. فقال علي: إن الأمر ليشبه ما تقول، وتهيأ للخروج إليهم، فندب أهل المدينة للمسير معهم فتثاقلوا، فبعث إلى عبد الله بن عمر كميلاً النخعي، فجاء به، فدعاه إلى الخروج معه، فقال: إنما أنا من أهل المدينة وقد دخلوا في هذا الأمر فدخلت معهم، فإن يخرجوا أخرج معهم، وإن يقعدوا أقعد. قال: فأعطني كفيلاً. قال: لا أفعل. فقال له علي: لولا ما أعرف من سوء خلقك صغيراً وكبيراً لأنكرتني، دعوه فأنا كفيله. فرجع ابن عمر إلى المدينة وهم يقولون: والله ما ندري كيف نصنع، إن الأمر لمشتبه علينا ونحن مقيمون حتى يضيء لنا. فخرج من تحت ليلته وأخبر أم كلثوم ابنة علي، وهي زوجة عمر، بالذي سمع، وأنه يخرج معتمراً مقيماً على طاعة علي ما خلا النهوض. فأصبح علي فقيل له: حدث الليلة حدث هو أشد من طلحة والزبير وعائشة ومعاوية. قال: وما ذاك؟ قالوا: خرج ابن عمر إلى الشام فأتى السوق وأعد الظهر والرجال وأخذ لكل طريق طلاباً وماج الناس. فسمعت أم كلثوم فأتت علياً فأخبرته الخبر، فطابت نفسه وقال: انصرفوا، والله ما كذبت ولا كذب، والله إنه عندي ثقة. فانصرفوا. وكان سبب اجتماعهم بمكة أن عائشة كانت خرجت إليها، وعثمان محصور، ثم خرجت من مكة تريد المدينة. فلما كانت بسرف لقيها رجلٌ من أخوالها من بني ليث يقال له عبيد بن أبي سلمة، وهو ابن أم كلاب، فقالت له: مهيم؟ قال: قتل عثمان وبقوا ثمانياً. قالت: ثم صنعوا ماذا؟ قال: اجتمعوا على بيعة علي. فقالت: ليت هذه انطبقت على هذه إن تم الأمر لصاحبك! ردوني ردوني! فانصرفت إلى مكة وهي تقول: قتل والله عثمان مظلوماً، والله لأطلبن بدمه! فقال لها: ولم؟ والله إن أول أمال حرفه لأنت، ولقد كنت تقولين: اقتلوا نعثلاً فقد كفر. قالت: إنهم استتابوه ثم قتلوه، وقد قلت وقالوا، وقولي الأخير خير من قولي الأول. فقال لها ابن أم كلاب:
فمنك البداء ومنك الغير ... ومنك الرياح ومنك المطر وأنت أمرت بقتل الإمام ... وقلت لنا إنه قد كفر فهبنا أطعناك في قتله ... وقاتله عندنا من أمر ولم يسقط السقف من فوقنا ... ولم ينكسف شمسنا والقمر وقد بايع الناس ذا تدرإ ... يزيل الشبا ويقيم الصغر ويلبس للحرب أثوابها ... وما من وفى مثل من قد غدر فانصرفت إلى مكة فقصدت الحجر فسترت فيه، فاجتمع الناس حولها، فقالت: أيها الناس إن الغوغاء من أهل الأمصار وأهل المياه وعبيد أهل المدينة اجتمعوا على هذا الرجل المقتول ظلماً بالأمس ونقموا عليه استعمال من حدثت سنه، وقد استعمل أمثالهم قبله، ومواضع من الحمى حماها لهم فتابعهم ونزع لهم عنها. فلما لم يجدوا حجة ولا عذراً بادروا بالعدوان فسفكوا الدم الحرام واستحلوا البلد الحرام والشهر الحرام وأخذوا المال الحرام، والله لإصبعٌ من عثمان خير من طباق الأرض أمثالهم! ووالله لو أن الذي اعتدوا به عليه كان ذنباً لخلص منه كما يخلص الذهب من خبثه أو الثوب من درنه إذ ماصوه كما يماص الثوب بالماء، أي يغسل. فقال عبد الله بن عامر الحضرمي، وكان عامل عثمان على مكة: ها أنا أول طالب! فكان أول مجيب، وتبعه بنو أمية على ذلك، وكانوا هربوا من المدينة بعد قتل عثمان إلى مكة ورفعوا رؤوسهم، وكان أول ما تكلموا بالحجاز وتبعهم سعيد بن العاص والوليد بن عقبة وسائر بني أمية، وقدم عليهم عبد الله بن عامر من البصرة بمال كثير، ويعلى بن أمية، وهو ابن منية، من اليمن ومعه ستمائة بعير وستمائة ألف درهم، فأناخ بالأبطح، وقدم طلحة والزبير من المدينة فلقيا عائشة، فقالت: ما وراءكما؟ فقالا: إنا تحملنا هراباً من المدينة من غوغاء وأعراب وفارقنا قومماً حيارى لا يعرفون حقاً ولا ينكرون باطلاً ولا يمنعون أنفسهم. فقالت: انهضوا إلى هذه الغوغاء. فقالوا: نأتي الشام. فقال ابن عامر: قد كفاكم الشام معاوية، فأتوا البصرة فإن لي به بها صنائع ولهم في طلحة هوىً. قالوا: قبحك الله! فوالله ما كنت بالمسالم ولا بالمحارب، فهلا أقمت كما أقام معاوية فنكفى بك ثم نأتي الكوفة فنسد على هؤلاء القوم المذاهب؟ فلم يجدوا عنده جواباً مقبولاً، فاستقام الرأي على البصرة، وقالوا لها: نترك المدينة فإنا خرجنا فكان معنا من لا يطيق من بها من الغوغاء ونأتي بلداً مضيعاً سيحتجون علينا ببيعة علي فتنهضينهم كما أنهضت أهل مكة، فإن أصلح الله الأمر كان الذي أردنا، وإلا دفعنا بجهدنا حتى يقضي الله ما أراد. فأجابتهم إلى ذلك. ودعوا عبد الله بن عمر ليسير معهم، فابى وقال: أنا من أهل المدينة أفعل ما يفعلون. فتركوه. وكان أزواج النبي، صلى الله عليه وسلم، معها على قصد المدينة، فلما تغير رأيها إلى البصرة تركن ذلك، وأجابتهم حفصة إلى المسير معهم، فمنعها أخوها عبد الله بن عمر. وجهزهم يعلى بن منية بستمائة بعير وستمائة ألف درهم، وجهزهم ابن عامر بمال كثير، ونادى مناديها: إن أم المؤمنين وطلحة والزبير شاخصون إلى البصرة، فمن أراد إعزاز الإسلام وقتال المحلين والطلب بثأر عثمان وليس له مركب وجهاز فليأت! فحملوا ستمائة على ستمائة بعير وساروا في ألف، وقيل: في تسعمائة من أهل المدينة ومكة، ولحقهم الناس فكانوا في ثلاثة آلاف رجل. وبعثت أم الفضل بنت الحرث أم عبد الله بن عباس رجلاً من جهينة يدعى ظفراً فاستأجرته على أن يأتي علياً بالخبر، فقدم على علي بكتابها. وخرجت عائشة ومن معها من مكة، فلما خرجوا منها وأذن مروان بن الحكم، ثم جاء حتى وقف على طلحة والزبير فقال: على أيكما أسلم بالإمرة وأؤذن بالصلاة؟ فقال عبد الله بن الزبير: على أبي عبد الله، يعني أباه الزبير. وقال محمد بن طلحة: على أبي محمد، يعني أباه طلحة. فأرسلت عائشة إلى مروان وقالت له: أتريد أن تفرق أمرنا! ليصل بالناس ابن أختي، تعني عبد الله بن الزبير. وقيل: بلى صلى بالناس عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد حتى قتل، فكان معاذ ابن عبيد الله يقول: والله لو ظفرنا لاقتتلنا، ما كان الزبير يترك طلحة والأمر ولا كان طلحة يترك الزبير والأمر.
وتبعها أمهات المؤمنين إلى ذات عرق فبكوا على الإسلام، فلم ير يوم كان أكثر باكياً وباكيةً من ذلك اليوم، فكان يسمى يوم النحيب. فلما بلغوا ذات عرق لقي سعيد بن العاص مروان بن الحكم وأصحابه بها فقال: أين تذهبون وتتركون ثأركم على أعجاز الإبل وراءكم؟ يعني عائشة وطلحة والزبير، اقتلوهم ثم ارجعوا إلى منازلكم. فقالوا: نسير فلعلنا نقتل قتلة عثمان جميعاً. فخلا سعيد بطلحة والزبير فقال: إن ظفرتما لمن تجعلان الأمر؟ اصدقاني. قالا: نجعله لأحدنا أينا اختاره الناس. قال: بل تجعلونه لولد عثمان فإنكم خرجتم تطلبون بدمه. فقالا: ندع شيوخ المهاجرين ونجعلها لأيتام! قال: فلا أراني أسعى إلا لإخراجها من بني عبد مناف. فرجع ورجع عبد الله ابن خالد بن أسيد، وقال المغيرة بن شعبة: الرأي ما قال سعيد، من كان ههنا من ثقيف فليرجع. فرجع ومضى القوم ومعهم أبان والوليد ابنا عثمان. وأعطى يعلى بن منية عائشة جملاً اسمه عسكر اشتراه بثمانين ديناراً، فركبته، وقيل: بل كان جملها لرجل من عرينة. قال العرني: بينما أنا أسير على جمل إذ عرض لي راكب فقال: أتبيع جملك؟ قلت: نعم. قال: بكم؟ قلت: بألف درهم. قال: أمجنون أنت؟ قلت: ولم؟ والله ما طلبت عليه أحداً إلا أدركته ولا طلبني وأنا عليه أحدٌ إلا فته. قال: لو تعلم لمن نريده! إنما نريده لأم المؤمنين عائشة! فقلت: خذه بغير ثمن. قال: بل ترجع معنا إلى الرحل فنعطيك ناقة ودراهم. قال: فرجعت معه فأعطوني ناقة مهرية وأربعمائة درهم أو ستمائة، وقالوا لي: يا أخا عرينة هل لك دلالة بالطريق؟ قلت: أنا من أدل الناس. قالوا: فسر معنا. فسرت معهم فلا أمر على واد إلا سألوني عنه، حتى طرقنا الحوأب، وهو ماء، فنبحتنا كلابه، فقالوا: أي ماء هذا؟ فقلت: هذا ماء الحواب. فصرخت عائشة بأعلى صوتها وقالت: إنا لله وإنا إليه راجعون، إني لهيه، سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول وعنده نساؤه: ليت شعري أيتكن تنبحها كلاب الحوأب! ثم ضربت عضد بعيرها فأناخته وقالت: ردوني، أنا والله صاحبة ماء الحوأب. فأناخوا حولها يوماً وليلة، فقال لها عبد الله بن الزبير: إنه كذب، ولم يزل بها وهي تمتنع، فقال لها: النجاء النجاء! قد أدرككم علي بن أبي طالب. فارتحلوا نحو البصرة فلما كانوا بفنائها لقيهم عمير بن عبد الله التميمي وقال: يا أم المؤمنين أنشدك الله أن تقدمي اليوم على قوم لم تراسلي منهم أحداً فعجلي ابن عامر فإن له بها صنائع فليذهب إليهم ليلقوا الناس إلى أن تقدمي ويسمعوا ما جئتم به. فأرسلته فاندس إلى البصرة، فأتى القوم، وكتبت عائشة إلى رجال من أهل البصرة وإلى الأحنف بن قيس وصبرة بن شيمان وأمثالهم وأقامت بالحفير تنتظر الجواب. ولما بلغ ذلك أهل البصرة دعا عثمان بن حنيف عمران بن حصين وكان رجل عامة، وألزه بأبي الأسود الدئلي، وكان رجل خاصة، وقال لهما: انطلقا إلى هذه المرأة فاعلما علمها وعلم من معها. فخرجا فانتهيا إليها بالحفير، فأذنت لهما، فدخلا وسلما وقالا: إن أميرنا بعثنا إليك لنسألك عن مسيرك فهل أنت مخبرتنا؟ فقالت: والله ما مثل يعطي لبنيه الخبر، إن الغوغاء ونزاع القبائل غزوا حرم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأحدثوا فيه وآووا المحدثين فاستوجبوا لعنة الله ولعنة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، مع ما نالوا من قتل إمام المسلمين بلا ترةٍ ولا عذر فاستحلوا الدم الحرام وسفكوه وانتهبوا المال الحرام وأحلوا البلد الحرام والشهر الحرام فخرجت في المسلمين أعلمهم ما أتى هؤلاء وما الناس فيه وراءنا وما ينبغي لهم من إصلاح هذه القصة، وقرأت: (لا خير في كثيرٍ من نجواهم) النساء: 114 الآية، فهذا شأننا إلى معروف نأمركم به ومنكر ننهاكم عنه. فخرج عمران وأبو الأسود من عندها فأتيا طلحة وقالا: ما أقدمك؟ فقال: الطلب بدم عثمان. فقالا: ألم تبايع علياً؟ فقال: بلى والسيف على عنقي وما أستقيل علياً البيعة إن هو لم يحل بيننا وبين قتلة عثمان. ثم أتيا الزبير فقالا له مثل قولهما لطلحة، وقال لهما مثل قول طلحة، فرجعا إلى عثمان بن حنيف ونادى مناديها بالرحيل، فدخلا على عثمان فبادر أبو الأسود عمران فقال: يا ابن حنيفٍ قد أتيت فانفر ... وطاعن القوم وجالد واصبر وابرز لهم مستلئماً وشمر
فقال عثمان: إنا لله وإنا إليه راجعون، دارت رحى الإسلام ورب الكعبة فانظروا بأي زيفان تزيف. فقال عمران: إي والله لتعركنكم عركاً طويلاً. قال: فأشر علي يا عمران. قال: اعتزل فإني قاعد. قال عثمان: بل أمنعهم حتى يأتي أمير المؤمنين. فانصرف عمران إلى بيته وقام عثمان في أمره، فأتاه هشام بن عامر فقال: إن هذا الأمر الذي تريده يسلم إلى شر مما تكره، إن هذا فتقٌ لا يرتق، وصدعٌ لا يجبر، فارفق بهم وسامحهم حتى يأتي أمر علي. فأبى ونادى عثمان في الناس وأمرهم بلبس السلاح، فاجتمعوا إلى المسجد، وأمرهم بالتجهز، وأمر رجلاً دسه إلى الناس خدعاً كوفياً قيسياً، فقام فقال: أيها الناس أنا قيس بن العقدية الحميسي، إن هؤلاء القوم إن كانوا جاؤوا خائفين، فقد أتوا من بلد يأمن فيه الطير، وإن كانوا جاؤوا يطلبون بدم عثمان فما نحن بقتلة عثمان، فأطيعوني وردوهم من حيث جاؤوا. فقام الأسود ابن سريع السعدي فقال: أو زعموا أنا قتلة عثمان؟ إنما أتوا يستعينون بنا على قتلة عثمان منا ومن غيرنا. فحصبه الناس فعرف عثمان أن لهم بالبصرة ناصراً فكسره ذلك. فأقبلت عائشة فيمن معها حتى انتهوا إلى المربد فدخلوا من أعلاه ووقفوا حتى خرج عثمان فيمن معه وخرج إليها من أهل البصرة من أراد أن يكون معها، فاجتمع القوم بالمربد، فتكلم طلحة وهو في ميمنة المربد وعثمان في ميسرته، فأنصتوا له، فحمد الله وأثنى عليه وذكر عثمان وفضله وما استحل منه ودعا إلى الطلب بدمه وحثهم عليه، وكذلك الزبير. فقال من في ميمنة المربد: صدقا وبرا. وقال من في ميسرته: فجرا وغدرا وأمرا بالباطل، فقد بايعا علياً ثم جاءا يقولان، وتحاثى الناس وتحاصبوا وأرهجوا. فتكلمت عائشة، وكانت جهورية الصوت، فحمدت الله وقالت: كان الناس يتجنون على عثمان ويزرون على عماله ويأتوننا بالمدينة فيستشيروننا فيما يخبروننا عنهم، فننظر في ذلك فنجده بريئاً تقياً وفياً، ونجدهم فجرة غدرة كذبة، وهم يحاولون غير ما يظهرون فلما قووا كاثروه واقتحموا عليه داره واستحلوا الدم الحرام والشهر الحرام والبلد الحرام بلا ترةٍ ولا عذر، ألا إن مما ينبغي ولا ينبغي لكم غيره، أخذ قتلة عثمان وإقامة كتاب الله، وقرأت: (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يدعون إلى كتاب الله) آل عمران: 23 الآية؛ فافترق أصحاب عثمان فرقتين، فرقة قالت: صدقت وبرت، وقال الآخرون: كذبتم والله ما نعرف ما جئتم به! فتحاثوا وتحاصبوا. فلما رأت عائشة ذلك انحدرت وانحدر أهل الميمنة مفارقين لعثمان بن حنيف حتى وقفوا في المربد في موضع الدباغين، وبقي أصحاب عثمان على حالهم، ومال بعضهم إلى عائشة وبقي بعضهم مع عثمان. وأقبل جارية بن قدامة السعدي وقال: يا أم المؤمنين والله لقتل عثمان أهون من خروجك من بيتك على هذا الجمل الملعون عرضة للسلاح! إنه قد كان لك من الله ستر وحرمة فهتكت سترك وأبحت حرمتك! إنه من رأى قتالك يرى قتلك! لئن كنت أتيتنا طائعة فارجعي إلى منزلك، وإن كنت أتيتنا مكرهة فاستعيني بالناس. وخرج غلام شاب من بني سعد إلى طلحة والزبير فقال: أما أنت يازبير فحواري رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأما أنت يا طلحة فوقيت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بيدك وأرى أمكما معكما فهل جئتما بنسائكما؟ قالا: لا. قال: فما أنا منكم في شيء؛ واعتزل وقال في ذلك: صنتم حلائلكم وقدتم أمكم ... هذا لعمرك قلة الإنصاف أمرت بجر ذيولها في بيتها ... فهوت تشق البيد بالإيجاف غرضاً يقاتل دونها أبناؤها ... بالنبل والخطي والأسياف هكت بطلحة والزبير ستورها ... هذا امخبر عنهم والكافي
وأقبل حكيم بن جبلة العبدي وهو على الخيل، فأنشب القتال، وأشرع أصحاب عائشة رماحهم وأمسكوا ليسمك حكيم وأصحابه، فلم ينته وقاتلهم وأصحاب عائشة كافون يدفعون عن أنفسهم وحكيم يذمر خيله ويركبهم بها، فاقتتلوا على فم السكة، وأمرت عائشة أصحابها فتيامنوا إلى مقبرة بني مازن وحجز الليل بينهم، ورجع عثمان إلى القصر، وأتى أصحاب عائشة إلى ناحية دار الرزق وباتوا يتأهبون وبات الناس يأتونهم واجتمعوا بساحة دار الرزق. فغاداهم حكيم بن جبلة وهو يسب وبيده الرمح، فقال له رجل من عبد القيس: من هذا الذي تسبه؟ قال: عائشة. قال: يا ابن الخبيثة الأم المؤمنين تقول هذا؟ فطعنه حكيم فقتله. ثم مر بامرأة وهو يسبها أيضاً، فقالت له: ألأم المؤمنين تقول هذا يا ابن الخبيثة؟ فطعنها فقتلها. ثم سار فاقتتلوا بدار الرزق قتالاً شديداً إلى أن زال النهار وكثر القتل في أصحاب عثمان بن حنيف وكثر الجراح في الفريقين. فلما عضتهم الحرب تنادوا إلى الصلح وتوادعوا، فكتبوا بينهم كتاباً على أن يبعثوا رسولاً إلى المدينة يسأل أهلها، فإن كان طلحة والزبير أكرها خرج عثمان ابن حنيف عن البصرة وأخلاها لهما، وإن لم يكونا أكرها خرج طلحة والزبير، وكتبوا بينهم كتاباً بذلك. وسار كعب بن سور إلى أهل المدينة يسألهم. فلما قدمها اجتمع الناس إليه، وكان يوم جمعة، فقام وقال: يا أهل المدينة، أنا رسول أهل البصرة، نسألكم هل أكره طلحة والزبير على بيعة علي أم أتياها طائعين؟ فلم يجبه أحد إلا أسامة بن زيد فإنه قام وقال: إنهما بايعا وهما مكرهان. فأمر به تمام بن العباس فواثبه سهل بن حنيف والناس وثار صهيب وأبو أيوب في عدة من أصحاب النبي، صلى الله عليه وسلم، فيهم محمد بن مسلمة حين خافوا أن يقتل أسامة فقالوا: اللهم نعم. فتركوه، وأخذ صهيب أسامة بيده إلى منزله وقال له: أما وسعك ما وسعنا من السكوت؟ قال: ما كنت أظن أن الأمر كما أرى. فرجع كعب وبلغ علياً الخبر، فكتب إلى عثمان يعجزه وقال: والله ما أكرها على فرقة ولقد أكرها على جماعة وفضل، فإن كان يريدان الخلع فلا عذر لهما، وإن كانا يريدان غير ذلك نظرنا ونظروا. فقدم الكتاب على عثمان، وقدم كعب بن سور، فأرسلوا إلى عثمان ليخرج، فاحتج بالكتاب وقال: هذا أمر آخر غير ما كنا فيه. فجمع طلحة والزبير الرجال في ليلة مظلمة ذات رياح ومطر ثم قصدا المسجد فوافقا صلاة العشاء، وكانوا يؤخرونها، فأبطأ عثمان، فقدما عبد الرحمن بن عتاب، فشهر الزط والسيابجة السلاح ثم وضعوه فيهم، فأقبلوا عليهم فاقتتلوا في المسجد فقتلوا، وهم أربعون رجلاً، فأدخلا الرجال على عثمان فأخرجوه إليهما. فلما وصل إليهما توطؤوه وما بقيت في وجهه شعرة، فاستعظما ذلك وأرسلا إلى عائشة يعلمانها الخبر، فأرسلت إليهما أن خلوا سبيله. وقيل: لما أخذ عثمان أرسله إلى عائشة يستشيرونها في أمره، فقالت: اقتلوه. فقالت لها امرأة: نشدتك الله في عثمان وصحبته لرسول الله، صلى الله عليه وسلم! فقالت لهم: احبسوه. فقال لهم مجاشع بن مسعود: اضربوه وانتفوا لحيته وحاجبيه وأشفار عينيه. فضربوه أربعين سوطاً ونتفوا لحيته وحاجبيه وأشفار عينيه وحبسوه ثم أطلقوه وجعلوا على بيت المال عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق. وقد قيل في إخراج عثمان غير ما تقدم، وذلك أن عائشة وطلحة والزبير لما قدموا البصرة كتبت عائشة إلى زيد بن صوحان: من عائشة أم المؤمنين حبيبة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إلى ابنها الخالص زيد بن صوحان، أما بعد فإذا أتاك كتابي هذا فاقدم فانصرنا، فإن لم تفعل فخذل الناس عن علي. فكتب إليها: أما بعد فأنا ابنك الخالص، لئن اعتزلت ورجعت إلى بيتك وإلا فأنا أول من نابذك. وقال زيد: رحم الله أم المؤمنين! أمرت أن تلزم بيتها وأمرنا أن نقاتل، فتركت ما أمرت به وأمرتنا به وصنعت ما أمرنا به ونهتنا عنه. وكان على البصرة عند قدومها عثمان بن حنيف فقال لهم: ما نقمتم على صاحبكم؟ فقالوا: لم نره أولى بها منا وقد صنع ما صنع. قال: فإن الرجل أمرني فأكتب إليه فأعلمه ما جئتم به على أن أصلي أنا بالناس حتى يأتينا كتابه.
فوقفوا عنه، فكتب فلم يلبث إلا يومين أو ثلاثة حتى وثبوا على عثمان عند مدينة الرزق فظروا وأرادوا قتله ثم خشوا غضب الأنصار فنتفوا شعر رأسه ولحيته وحاجبيه وضربوه وحبسوه. وقام طلحة والزبير خطيبين فقالا: يا أهل البصرة توبة لحوبة، إنما أردنا أن نستعتب أمير المؤمنين عثمان فغلب السفهاء الحلماء فقتلوه! فقال الناس لطلحة: يا أبا محمد قد كانت كتبك تأتينا بغير هذا. فقال الزبير: هل جاءكم مني كتاب في شأنه؟ ثم ذكر قتل عثمان وأظهر عيب علي، فقام إليه رجل من عبد القيس فقال: أيها الرجل أنصت حتى نتكلم. فأنصت. فقال العبدي: يا معشر المهاجرين أنتم أول من أجاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فكان لكم بذلك فضل ثم دخل الناس في الإسلام كما دخلتم، فلما توفي رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بايعتم رجلاً منكم فرضينا وسلمنا ولم تستأمرونا في شيء من ذلك، فجعل الله للمسلمين في إمارته بركة، ثم مات واستخلف عليكم رجلاً فلم تشاورونا في ذلك فرضينا وسلمنا، فلما توفي جعل أم | |
|
 | |
الشيخ عودة الشيخ عودة

عدد المساهمات : 1748 تاريخ التسجيل : 28/09/2008 العمر : 72
 | موضوع: رد: كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير الثلاثاء فبراير 11, 2014 3:09 am | |
| والله لننصرن الله كما سمانا أنصاراً! ثم أتاه جمعة من طيء وهو بالربذة، فقيل لعلي: هذه جماعة قد أتتك، منهم من يريد الخروج معك ومنهم من يريد التسليم عليك. قال: جزى الله كليهما خيراً وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجراً عظيماً. فلما دخلوا عليه قال لهم: ما شهدتمونا به؟ قالوا: شهدناك بكل ما تحب. فقال: جزاكم الله خيراً فقد أسلمتم طائعين وقاتلتم المرتدين ووافيتم بصدقاتكم المسلمين. فنهض سعيد بن عبيد الطائي فقال: يا أمير المؤمنين إن من الناس من يعبر لسانه عما في قلبه، وإني والله ما أجد لساني يعبر عما في قلبي، وسأجهد وبالله التوفيق، أما أنا فسأنصح لك في السر والعلانية، وأقاتل عدوك في كل موطن، وأرى من لحق لك ما لا أرها لأحد غيرك من أهل زمانك لفضلك وقرابتك. فقال: رحمك الله! قد أدى لسانك عما يجن ضميرك. فقتل معه بصفين. وسار علي من الربذة وعلى مقدمته أبو ليلى بن عمر بن الجراح وعلى الميمنة عبد الله بن عباس وعلى الميسرة عمر بن أبي سلمة أو عمرو بن سفيان بن عبد الأسد، والراية مع محمد بن الحنفية، وعلي على ناقة حمراء يقود فرساً كميتاً. فلما نزل بفيد أتته أسد وطيء فعرضوا عليه أنفسهم، فقال: الزموا قراركم، في المهاجرين كفاية. وأتاه رجل بفيد من الكوفة، فقال له: من الرجل؟ قال: عامر بن مطر الشيباني. قال: أخبر عما وراءك. فأخبره، فسأله عن أبي موسى، فقال: إن أردت الصلح فأبو موسى صاحبه، وإن أردت القتال فليس بصاحبه. فقال علي: والله ما اريد إلا الصلح حتى يرد علينا. ولما نزل علي الثعلبية أتاه الذي لقي عثمان بن حنيف وحرسه فأخبر أصحابه الخبر فقال: اللهم عافني مما ابتليت به طلحة والزبير. فلما انتهى إلى الإساد أتاه ما لقي حكيم بن جبلة وقتلة عثمان فقال: الله أكبر! ما ينجيني من طلحة والزبير إن أصابا ثأرهما! وقال: دعا حكيمٌ دعوة الزماع ... حل بها منزلة النزاع
فلما انتهى إلى ذي قار أتاه فيها عثمان بن حنيف وليس في وجهه شعرة، وقيل: أتاه بالربذة، وكانوا قد نتفوا شعر رأسه ولحيته، وعلى ما ذكرناه، فقال: يا أمير المؤمنين بعثتني ذا لحية وقد جئتك أمرد. فقال: أصبت أجراً وخيراً، إن الناس وليهم قبل رجلان فعملا بالكتاب والسنة، ثم وليهم ثالث فقالوا وفعلوا، ثم بايعوني وبايعني طلحة والزبير، ثم نكثا بيعتي وألبا الناس علي، ومن العجب انقيادهما لأبي بكر وعمر وعثمان وخلافهما علي، والله إنهما ليعلمان أني لست بدون رجل ممن تقدم، اللهم فاحلل ما عقدا ولا تبرم ما أحكما في أنفسهما وأرهما المساءة فيما قد عملا! وأقام بذي قار ينتظر محمداً ومحمداً، فأتاه الخبر بما لقيت ربيعة وخروج عبد القيس، فقال: عبد القيس خير ربيعة وفي كل ربيعة خير، وقال: يا لهف نفسي على ربيعه ... ربيعة السامعة المطيعه قد سبقتني فيهم الوقيعه ... دعا علي دعوةً سميعه حلوا بها المنزلة الرفيعه وعرضت عليه بكر بن وائل فقال لها ما قال لطيء واسد. وأما محمد بن أبي بكر ومحمد بن جعفر فأتيا أبا موسى بكتاب علي وقاما في الناس بأمره، فلم يجابا إلى شيء. فلما أمسوا دخل ناس من أهل الحجى على أبي موسى فقالوا: ما ترى في الخروج؟ فقال: كان الرأي بالأمس ليس اليوم، إن الذي تهاونتم به فيما مضى هو الذي جر عليكم ما ترون، إنما هما أمران: القعود سبيل الآخرة والخروج سبيل الدنيا، فاختاروا. فلم ينفر إليه أحد، فغضب محمد ومحمد وأغلظا لأبي موسى. فقال لهما: والله إن بيعة عثمان لفي عنقي وعنق صاحبكما، فإن لم يكن بد من قتال لا نقاتل أحداً حتى نفرغ من قتلة عثمان حيث كانوا. فانطلقا إلى علي فأخبراه الخبر وهو بذي قار، فقال للأشتر، وكان معه: أنت صاحبنا في أبي موسى والمعترض في كل شيء، اذهب أنت وابن عباس فأصلح ما أفسدت. فخرجا فقدما الكوفة فكلما أبا موسى واستعانا عليه بنفر من أهل الكوفة، فقام لهم أبو موسى وخطبهم وقال: أيها الناس إن أصحاب النبي، صلى الله عليه وسلم، الذين صحبوه أعلم بالله وبرسوله ممن لم يصحبه، وإن لكم علينا لحقاً، وأنا مؤد إليكم نصيحة، كان الرأي أن لا تستخفوا بسلطان الله وأن لا تجترئوا على الله وأن تأخذوا من قدم عليكم من المدينة فتردوهم إليها حتى يجتمعوا فهم أعلم بمن تصلح له الإمامة، وهذه فتنة صماء، النائم فيها خير من اليقظان، واليقظان خير من القاعد، والقاعد خير من القائم، والقائم خير من الراكب، والراكب خير من الساعي، فكونوا جرثومة من جراثيم العرب فأغمدوا السيوف وانصلوا الأسنة واقطعوا الأوتار وآووا المظلوم والمضطهد حتى يلتئم هذا الأمر وتنجلي هذه الفتنة.
فرجع ابن عباس والأشتر إلى علي فأخبراه الخبر، فأرسل ابنه الحسن وعمار ابن ياسر، وقال لعمار: انطلق فأصلح ما أفسدت. فأقبلا حتى دخلا المسجد، وكان أول من أتاهما المسروق بن الأجدع فسلم عليهما، وأقبل على عمار فقال: يا أبا اليقظان علام قتلتم عثمان؟ قال: على شتم أعراضنا وضرب أبشارنا. قال: فوالله ما عاقبتم بمثل ما عوقبتم به، ولئن صبرتم لكان خيراً للصابرين. فخرج أبو موسى فلقي الحسن فضمه إليه وأقبل على عمار فقال: يا أبا اليقظان أعدوت على أمير المؤمنين فيمن عدا فأحللت نفسك مع الفجار؟ فقال: لم أفعل ولم يسؤني. فقطع الحسن عليهما الكلام وأقبل على أبي موسى فقال له: لم تثبط الناس عنا؟ فوالله ما أردنا إلا الإصلاح ولا مثل أمير المؤمنين يخاف على شيء. فقال: صدقت يا بأبي أنت وأمي، ولكن المستشار مؤتمن، سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول: (إنها ستكون فتنة القاعد فيها خير من القائم، والقائم خير من الماشي، والماشي خير من الراكب). وقد جعلنا الله إخواناً وقد حرم علينا دماءنا وأموالنا. فغضب عمار وسبه وقام وقال: يا أيها الناس إنما قال له وحده: أنت فيها قاعداً خير منك قائماً. فقام رجل من بني تميم فسب عماراً وقال: أنت أمس مع الغوغاء واليوم تسافه أميرنا! وثار زيد بن صوحان وطبقته وثار الناس وجعل أبو موسى يكفكف الناس، ووقف زيد على باب المسجد ومعه كتاب إليه من عائشة تأمره فيه بملازمة بيته أو نصرتها، وكتاب إلى أهل الكوفة بمعناه، فأخرجهما فقرأهما على الناس، فلما فرغ منهما قال: أمرت أن تقر في بيتها وأمرنا أن نقاتل حتى لا تكون فتنة، فأمرتنا بما أمرت به وركبت ما أمرنا به. فقال له شبث بن ربعي: يا عماني - لأنه من عبد القيس وهم يسكنون عمان - سرقت بجلولاء فقطعت يدك وعصيت أم المؤمنين! وتهاوى الناس. وقام أبو موسى وقال: أيها الناس أطيعوني وكوني جرثومة من جراثيم العرب يأوي إليكم المظلوم ويأمن فيكم الخائف، إن الفتنة إذا أقبلت شبهت فإذا أدبرت بينت، وإن هذه الفتنة فاقرة كداء البطن تجري بها الشمال والجنوب والصبا والدبور تذر الحليم وهو حيران كابن أمس، شيموا سيوفكم وقصدوا رماحكم وقطعوا أوتاركم والزموا بيوتكم، خلوا قريشاً إذا أبوا إلا الخروج من دار الهجرة وفراق أهل علم بالأمراء، استنصحوني ولا تسغشوني، أطيعوني يسلم لكم دينكم ودنياك ويشقى بحر هذه الفتنة من جناها. فقام زيد فشال يده المقطوعة فقال: يا عبد الله بن قيس رد الفرات على أدراجه، أردده من حيث يجيء حتى يعود كما بدأ، فإن قدرت على ذلك فستقدر على ما تريد، فدع عنك ما لست مدركه! سيروا إلى أمير المؤمنين وسيد المسلمين، انفروا إليه أجمعين تصيبوا الحق. فقام القعقاع بن عمرو فقال: إني لكم ناصح وعليكم شفيق، أحب لكم أن ترشدوا ولأقولن لكم قولاً هو الحق، أما ما قال الأمير فهو الحق، لو أن إليه سبيلاً، وأما ما قال زيد فزيد عدو هذا الأمر فلا تستنصحوه، والقول الذي هو الحق أنه لابد من إمارة تنظم الناس وتزع الظالم وتعز المظلوم، وهذا أمير المؤمنين ولي بما ولي وقد أنصف في الدعاء، وإنما يدعو إلى الإصلاح، فانفروا وكونا من هذا الأمر بمرأى ومسمع.
وقال عبد الخير الخيراني: يا أبا موسى هل بايع طلحة والزبير؟ قال: نعم. قال: هل أحدث علي ما يحل بن نقض بيعته؟ قال: لا أدري. قال: لا دريت، نحن نتركك حتى تدري، هل تعلم أحداً خارجاً من هذه الفتنة؟ إنما الناس أربع فرق: علي بظهر الكوفة، وطلحة والزبير بالبصرة، ومعاوية بالشام، وفرقة بالحجاز لا غناء بها ولا يقاتل بها عدو. فقال أبو موسى: أولئك خير الناس، وهي فتنة. فقال عبد الخير: غلب عليك غشك يا أبا موسى! فقال سيحان ابن صوحان: أيها الناس لابد لهذا الأمر وهؤلاء الناس من والٍ يدفع الظالم ويعز المظلوم ويجمع الناس، وهذا واليكم يدعوكم لتنظروا فيما بينه وبين صاحبيه، وهو المأمون على الأمة الفقيه في الدين، فمن نهض إليه فإنا سائرون معه. فلما فرغ سيحان قال عمار: هذا ابن عم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يستنفركم إلى زوجة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وإلى طلحة والزبير، وإني أشهد أنها زوجته في الدنيا والآخرة، فانظروا ثم انظروا في الحق فقاتلوا معه. فقال له رجل: أنا مع من شهدت له بالجنة على من لم تشهد له. فقال له الحسن: اكفف عنا فإن للإصلاح أهلاً. وقام الحسن بن علي فقال: أيها الناس أجيبوا دعوة أمركم وسيروا إلى إخوانكم فإنه سيوجد لهذا الأمر من ينفر إليه، ووالله لأن يليه أولو النهى أمثل في العاجل والآجل وخير في العاقبة، فأجيبوا دعوتنا وأعينونا على ما ابتلينا به وابتليتم، وإن أمير المؤمنين يقول: قد خرجت مخرجي هذا ظالماً أو مظلوماً، وإني أذكر الله رجلاً رعى حق الله إلا نفر، فإن كنت مظلوماً أعانني وإن كنت ظالماً أخذ مني، والله إن طلحة والزبير لأول من بايعني وأول من غدر، فهل استأثرت بمال أو بدلت حكماً؟ فانفروا فمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر. فسامح الناس وأجابوا ورضوا. وأتى قوم من طيء عدي بن حاتم فقالوا: ماذا ترى وما تأمر؟ فقال: قد بايعنا هذا الرجل وقد دعانا إلى جميل وإلى هذا الحدث العظيم لننظر فيه، ونحن سائرون وناظرون. فقام هند بن عمرو فقال: إن أمير المؤمنين قد دعانا وأرسل إلينا رسله حتى جاءنا ابنه، فاسمعوا إلى قوله وانتهوا إلى أمره وانفروا إلى أميركم فانظروا معه في هذا الأمر وأعينوه برأيكم. وقام حجر بن عدي فقال: أيها الناس أجيبوا أمير المؤمنين وانفروا خفافاً وثقالاً، مروا وأنا أولكم. فأذعن الناس للمسير، فقال الحسن: أيها الناس إني عاذٍ فمن شاء منكم أن يخرج معي على الظهر ومن شهاء في الماء. فنفر معه قريب من تسعة آلاف،أخذ في البر ستة آلاف ومائتان، وأخذ في الماء ألفان وأربعمائة. وقيل: إن علياً أرسل الأشتر بعد ابنه الحسن وعمار إلى الكوفة، فدخلها والناس في المسجد وأبو موسى يخطبهم ويثبطهم والحسن وعمار معه في منازعة، وكذلك سائر الناس، كما تقدم، فجعل الأشتر لا يمر بقبيلة فيها جماعة إلا دعاهم، ويقول: اتبعوني إلى القصر، فانتهى إلى القصر في جماعة الناس، فدخله وأبو موسى في المسجد يخطبهم ويثبطهم والحسن يقول له: اعتزل عملنا لا أم لك! وتنح عن منبرنا! وعمار ينازعه، فأخرج الأشتر غلمان أبي موسى من القصر، فخرجوا يعدون وينادون: يا أبا موسى هذا الأشتر قد دخل القصر فضربنا وأخرجنا. فنزل أبو موسى فدخل القصر فصاح به الأشتر: اخرج لا أم لك أخرج الله نفسك! فقال: أجلني هذه العشية. فقال: هي لك ولا تبيتن في القصر الليلة. ودخل الناس ينهبون متاع أبي موسى، فمنعهم الأشتر وقال: أنا له جار. فكفوا عنه. فنفر الناس في العدد المذكور.
وقيل: إن عدد من سار من الكوفة اثنا عشر ألف رجل ورجل. قال أبو الطفيل: سمعت علياً يقول ذلك قبل وصولهم، فقعدت فأحصيتهم فما زادوا رجلاً ولا نقصوا رجلاً. وكان على كنانة وأسد وتميم والرباب ومزينة معقل ابن يسار الرياحي، وكان على سبع قيس سعد بن مسعود الثقفي عم المختار، وعلى بكر وتغلب وعلة بن محدوج الذهلي، وكان على مذحج والأشعرين حجر ابن عدي، وعلى بجيلة وأنمار وخثعم والأزد مخنف بن سليم الأزدي، فقدموا على أمير المؤمنين بذي قار، فلقيهم في ناس معه فيهم ابن عباس فرحب بهم وقال: يا أهل الكوفة أنتم قاتلتم ملوك العجم وفضضتم جموعهم حتى صارت إليكم مواريثهم فمنعتم حوزتكم وأعنتم الناس على عدوهم، وقد دعوتكم لتشهدوا معنا إخواننا من أهل البصرة فإن يرجعوا فذاك الذ |
|