aloqili.com
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

aloqili.com

سيرة نبوية - تاريخ القبائل - انساب العقلييين - انساب الهاشمين - انساب المزورين
 
السياسة الدوليةالرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير

اذهب الى الأسفل 
انتقل الى الصفحة : الصفحة السابقة  1, 2, 3, 4, 5, 6, 7, 8  الصفحة التالية
كاتب الموضوعرسالة
الشيخ عودة
الشيخ عودة
الشيخ عودة



عدد المساهمات : 1748
تاريخ التسجيل : 28/09/2008
العمر : 74

كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير - صفحة 7 Empty
مُساهمةموضوع: رد: كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير   كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير - صفحة 7 Emptyالثلاثاء فبراير 25, 2014 11:14 am

ذكر قتل يوسف بن آبق
في هذه السنة، في المحرم، قتل يوسف بن آبق الذي ذكرنا أنه سيره تاج الدولة تتش إلى بغداد ونهب سوداها.
وكان سبب قتله أنه كان بحلب، بعد قتل تاج الدولة، وكان بحلب إنسان يقال له المجن، وهو رئيس الأحداث بها، وله أتباع كثيرون، فحضر عند جناح الدولة حسين، وقال له: إن يوسف بن آبق يكاتب باغي سيان، وهو على عزم الفساد، واستأذنه في قتله، فأذن له، وطلب أن يعينه بجماعة من الأجناد، ففعل ذلك، فقصد المجن الدار التي بها يوسف، فكبسها من الباب والسطح، وأخذ يوسف فقتله، ونهب كل ما كان في داره، وبقي بحلب حاكماً، فحدثته نفسه بالتفرد بالحكم عن الملك رضوان، فقال لجناح الدولة: إن الملك رضوان أمرني بقتلك، فخذ لنفسك، فهرب جناح الدولة إلى حمص، وكانت له، فلما انفرد المجن بالحكم تغير عليه رضوان، وأراد منه أن يفارق البلد، فلم يفعل، وركب في أصحابه، فلو هم بالمحاربة لفعل، ثم أمر أصحابه أن ينهبوا ماله، وأثاثه، ودوابه، ففعلوا ذلك، واختفى، فطلب فوجد بعد ثلاثة أيام، فأخذ وعوقب وعذب، ثم قتل هو وأولاده، وكان من السواد يشق الخشب، ثم بلغ هذه الحالة.
ذكر وفاة منصور بن مروانفي هذه السنة، في المحرم، توفي منصور بن نظام الدين بن نصر الدولة بن مروان، صاحب ديار بكر، وهو الذي انقرض أمر بني مروان على يده، حين حاربه فخر الدولة بن جهير، وكان جكرمش قد قبض عليه بالجزيرة، وتركه عند رجل يهودي، فمات في داره، وحملته زوجته إلى تربة آبائه، فدفنته ثم حجت، وعادت إلى بلد البشنوية، فابتاعت ديراً من بلد فنك بقرب جزيرة ابن عمر، وأقامت فيه تعبد الله.
كوان منصور شجاعاً، شديد البخل، له في البخل حكايات عجيبة. فتعساً لطالب الدنيا، المعرض عن الآخرة، ألا ينظر إلى فعلها بأبنائها، بينما منصور هذا ملك من بيت ملك آل أمره إلى أن مات في بيت يهودي، نسأل الله تعالى أن يحسن أعمالنا، ويصلح عاقبة أمرنا في الدنيا والآخرة بمنه وكرمه.
ذكر ملك تميم مدينة قابس أيضاً
في هذه السنة ملك تميم بن المعز مدينة قابس، وأخرج منها أخاه عمراً.
وسبب ذلك أنها كان بها إنسان يقال له قاضي بن إبراهيم بن بلمونة فمات، فولى أهلها عليهم عمرو بن المعز، فأساء السيرة، وكان قاضي بن إبراهيم عاصياً على تميم، وتميم يعرض عنه، فسلك عمرو طريقه في ذلك، فأخرج تميم العساكر إلى أخيه عمرو ليأخذ المدينة منه، فقال له بعض أصحابه: يا مولانا لما كان فيها قاضي توانيت عنه وتركته، فلما وليها أخوك جردت إليه العساكر، فقال: لما كان فيها غلام من عبيدنا كان زواله سهلاً علينا، وأما اليوم، وابن المعز بالمهدية، وابن المعز بقابس، فهذا ما لا يمكن السكوت عليه.
وفي فتحها يقول ابن خطيب سوسة القصيدة المشهورة التي أولها:
ضحك الزمان، وكان يلقى عابسا ... لما فتحت بحد السيف قابسا

الله يعلم ما حويت ثمارها ... إلا وكان أبوك، قبل، الغارسا
من كان في زرق الأسنة خاطباً، ... كانت له قلل البلاد عرائسا
فابشر تميم بن المعز بفتكة ... تركتك من أكناف قابس قابسا
ولوا، فكم تركوا هناك مصانعاً ... ومقاصراً، ومخالداً، ومجالسا
فكأنها قلب، وهن وساوس، ... جاء اليقين، فذاد عنه وساوسا
ذكر ملك كربوقا الموصلفي هذه السنة، في ذي القعدة، ملك قوام الدولة أبو سعيد كربوقا مدينة الموصل، وقد ذكرنا أن تاج الدولة تتش أسره لما قتل آقسنقر وبوزان، فلما أسره أبقى عليه، طمعاً في استصلاح حميه الأمير أنر، ولم يكن له بلد يملكه إذا قتله، كما فعل الأمير بوزان، فإنه قتله واستولى على بلاده الرها وحران.
ولم يزل قوام الدولة محبوساً بحلب إلى أن قتل تتش، وملك ابنه الملك رضوان حلب فأرسل السلطان بركيارق رسولاً يأمره بإطلاقه وإطلاق أخيه التونتاش، فلما أطلقا سارا واجتمع عليهما كثير من العساكر البطالين، فأتيا حران فتسلماها، وكاتبهما محمد بن شرف الدولة مسلم بن قريش، وهو بنصيبين، ومعه ثروان بن وهيب، وأبو الهيجاء الكردي، يستنصرون بهما على الأمير علي بن شرف الدولة، وكان بالموصل قد جعله بها تاج الدولة تتش بعد وقعة المضيع.
فسار كربوقا إليهم، فلقيه محمد بن شرف الدولة على مرحلتين من نصيبين، واستحلفهما لنفسه، فقبض عليه كربوقا بعد اليمين، وحمله معه، وأتى نصيبين، فامتنعت عليه، فحصرها أربعين يوماً، وتسلمها، وسار إلى الموصل فحصرها، فلم يظفر منها بشيء، فسار عنها إلى بلد، وقتل بها محمد بن شرف الدولة، وغرقه، وعاد إلى حصار الموصل، ونزل على فرسخ منها بقرية باحلافا، وترك التونتاش شرقي الموصل، فاستنجد علي بن مسلم صاحبها بالأمير جكرمش، صاحب جزيرة ابن عمر، فسار إليه نجدة له، فلما علم التونتاش بذلك سار إلى طريقه، فقاتله، فانهزم جكرمش، وعاد إلى الجزيرة منهزماً، وصار في طاعة كربوقا، وأعانه على حصر الموصل، وعدمت الأقوات بها وكل شيء، حتى ما يوقدونه، فأوقدوا القير، وحب القطن.
فلما ضاق بصاحبها علي الأمر وفارقها وسار إلى الأمير صدقة بن مزيد بالحلة، وتسلم كربوقا البلد بعد أن حصره تسعة أشهر، وخافه أهله لأنه بلغهم أن التونتاش يريد نهبهم، وأن كربوقا يمنعه من ذلك، فاشتغل التونتاش بالقبض على أعيان البلد، ومطالبتهم بودائع البلد، واستطال على كربوقا، فأمر بقتله، فقتل في اليوم الثالث، وأمن الناس شره، وأحسن كربوقا السيرة فيهم، وسار نحو الرحبة، فمنع عنها، فملكها ونهبها واستناب بها وعاد.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة اجتمع ستة كواكب في برج الحوت، وهي الشمس، والقمر، والمشتري، والزهرة، والمريخ، وعطارد، فحكم المنجمون بطوفان يكون في الناس يقارب طوفان نوح، فأحضر الخليفة المستظهر بالله ابن عيسون المنجم، فسأله، فقال: إن طوفان نوحان اجتمعت الكواكب السبعة في برج الحوت، والآن فقد اجتمع ستة منها، وليس منها زحل، فلو كان معها لكان مثل طوفان نوح، ولكن أقول إن مدينة، أو بقعة من الأرض يجتمع فيها عالم كثير من بلاد كثيرة، فيغرقون، فخافوا على بغداد، لكثرة من يجتمع فيها من البلاد، فأحكمت المسنيات، والمواضع التي يخشى منها الانفجار والغرق.
فاتفق أن الحجاج نزلوا بوادي المياقت، بعد نخلة، فأتاهم سيل عظيم فأغرق أكثرهم، ونجا من تعلق بالجبال، وذهب المال، والداوب، والأزواد، وغير ذلك، فخلع الخليفة على المنجم.
وفيها، في صفر، درس الشيخ أبو عبد الله الطبري الفقيه الشافعي بالمدرسة النظامية ببغداد، رتبه فيها فخر الملك بن نظام الملك، وزير بركيارق.
وفيها أغارت خفاجة على بلد سيف الدولة صدقة بن مزيد، فأرسل في أثرهم عسكراً، مقدمه ابن عمه قريش بن بدران بن دبيس بن مزيد، فأسرته خفاجة، وأطلقوه، وقصدوا مشهد الحسين بن علي، عليه السلام، فتظاهروا فيه بالفساد والمنكر، فوجه إليهم صدقة جيشاً، فكبسوهم، وقتلوا منهم خلقاً كثيراً في المشهد، حتى عند الضريح، وألقى رجل منهم نفسه وهو على فرسه من على السور، فسلم هو والفرس.

وفي هذه السنة، في صفر، توفي القاضي أبو مسلم وادع بن سليمان قاضي معرة النعمان والمستولي على أمورها، وكان رجل زمانه همة وعلماً.
وفيها، في ربيع الأول، توفي أبو بكر محمد بن عبد الباقي المعروف بابن الخاضبة، المحدث، وكان عالماً.
وفيها، في رمضان، توفي أبو بكر عمر بن السمرقندي، ومولده سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة.
وفيها، في رمضان، توفي أبو الفضل عبد الملك بن إبراهيم المقدسي المعروف بالهمذاني، وكان عالماً في عدة علوم، وقد قارب ثمانين سنة.
ثم دخلت سنة تسعين وأربعمائة
ذكر قتل أرسلان أرغون
في هذه السنة، في المحرم، قتل أرسلان أرغون بن ألب أرسلان، أخو السلطان ملكشاه، بمرو، وكان قد ملك خراسان.
وسبب قتله أنه كان شديداً على غلمانه، كثير الإهانة لهم والعقوبة، وكانوا يخافونه خوفاً عظيماً، فاتفق أنه الآن طلب غلاماً له، فدخل عليه وليس معه أحد، فأنكر عليه تأخره عن الخدمة، فاعتذر، فلم يقبل عذره، وضربه، فأخرج الغلام سكيناً معه وقتله، وأخذ الغلام، فقيل له: لم فعلت هذا؟ فقال: لأريح الناس من ظلمه.
وكان سبب ملكه خراسان أنه كان له، أيام أخيه ملكشاه، من الإقطاع ما مقداره سبعة آلاف دينار، وكان معه ببغداد لما مات، فسار إلى همذان في سبعة غلمان، واتصل به جماعة، فسار إلى نيسابور، فلم يجد فيها مطمعاً، فتمم إلى مرو، وكان شحنة مرو أمير اسمه قودن من مماليك ملكشاه، وهو الذي كان سبب تنكر السلطان ملكشاه على نظام الملك، وقد تقدم ذلك في قتل نظام الملك، فمال إلى أرسلان أرغون، وسلم البلد إليه، فأقبلت العساكر إليه، وقصد بلخ، وبها فخر الملك بن نظام الملك، فسار عنها، ووزر لتاج الدولة تتش، على ما ذكرناه.
وملك أرسلان أرغون بلخ، وترمذ، ونيسابور، وعامة خراسان، وأرسل إلى السلطان بركيارق وإلى وزيره مؤيد الملك بن نظام الملك يطلب أن يقر عليه خراسان، كما كانت لجده داود، ما عدا نيسابور، ويبذل الأموال ولا ينازع في السلطنة. فسكت عنه بركيارق لاشتغاله بأخيه محمود وعمه تتش، فلما عزل السلطان بركيارق مؤيد الملك عن وزارته، ووليها أخوه فخر الملك، واستولى على الأمور مجد الملك البلاساني، قطع أرسلان أرغون مراسلة بركيارق، وقال: لا أرضى لنفسي مخاطبة البلاساني، فندب بركيارق حينئذ عمه بوربرس بن ألب أرسلان، وسيره في العساكر لقتاله.
وكان قد اتصل بأرسلان عماد الملك أبو القاسم بن نظام الملك، ووزر له، فلما وصلت العساكر إلى خراسان لقيهم أرسلان أرغون، وقاتلهم، وانهزم منهم، وسار منهزماً إلى بلخ، وأقام بوربرس والعساكر التي معه بهراة.
ثم جمع أرغون عساكر جمة وسار إلى مرو، فحصرها أياماً، وفتحها عنوة، وقتل فيها وأكثر، وقلع أبواب سورها وهدمه، فسار إليه بوربرس من هراة، فالتقيا وتصافا، فانهزم بوربرس سنة ثمان وثمانين.
وسبب هزيمته أنه كان معه من جملة العساكر التي سيرها معه بركيارق أمير آخر ملكشاه، وهو من أكابر الأمراء، والأمير مسعود بن تاجر، وكان أبوه مقدم عسكر داود، جد ملكشاه، ولمسعود منزلة كبيرة، ومحل عظيم، عند الناس كافة، وكان بين أمير آخر وبين أرسلان مودة قديمة، فأرسل إليه أرسلان أرغون يستميله، ويدعوه إلى طاعته، فأجابه إلى ذلك.
ثم إن مسعود بن تاجر قصد أمير آخر زائراً له، ومعه ولده، فأخذهما وقتلهما، فضعف أمر بوربرس، وانهزم من أرسلان أرغون، وتفرق عسكره، وأسر، وحمل إلى أرسلان أرغون، وهو أخوه، فحبسه بترمذ، ثم أمر به فخنق بعد سنة من حبسه، وقتل أكابر عسكر خراسان ممن كان يخافه ويخشى تحكمه عليه، وصادر وزيره عماد الملك بثلاثمائة ألف دينار، وقتله، وخرب أسوار مدن خراسان، منها: سور سبزوار، وسور مرو الشاهجان، وقلعة سرخس، وقهندز نيسابور، وسور شهرستان، وغير ذلك، خربه جميعه سنة تسع وثمانين، ثم إنه قتل هذه السنة كما ذكرنا.
ذكر استيلاء عسكر مصر على مدينة صورفي هذه السنة، في ربيع الأول، وصل عسكر كثير من مصر إلى ثغر صور، بساحل الشام، فحصرها وملكها.

وسبب ذلك أن الوالي بها، ويعرف بكتيلة، أظهر العصيان على المستعلي، صاحب مصر، والخروج عن طاعته، فسير إليه جيشاً، فحصروه بها، وضيقوا عليه وعلى من معه من جندي وعامي، ثم افتتحها عنوة بالسيف، وقتل بها خلق كثير، ونهب منها المال الجزيل، وأخذ الوالي أسيراً بغير أمان، وحمل إلى مصر فقتل بها.
ذكر ملك بركيارق خراسان
وتسليمها إلى أخيه سنجر
كان بركيارق قد جهز العساكر مع أخيه الملك سنجر، وسيرها إلى خراسان لقتال عمه أرسلان أرغون، وجعل الأمير قماج أتابك سنجر، ورتب في وزارته أبا الفتح علي بن الحسين الطغرائي، فلما وصلوا إلى الدامغان بلغهم خبر قتله، فأقاموا، حتى لحقهم السلطان بركيارق، وساروا إلى نيسابور، فوصل إليها خامس جمادى الأولى من السنة وملكها بغير قتال، وكذلك سائر البلاد الخراسانية، وساروا إلى بلخ.
وكان عسكر أرسلان أرغون قد ملكوا بعد قتله ابناً له صغيراً، عمره سبع سنين، فلما سمعوا بوصول السلطان أبعدوا إلى جبال طخارستان، وأرسلوا يطلبون الأمان، فأجابهم إلى ذلك، فعادوا ومعهم ابن أرسلان أرغون، فأحسن السلطان لقاءه، وأعطاه ما كان لأبيه من الإقطاع أيام ملكشاه، وكان وصوله إلى السلطان في خمسة عشر ألف فارس، فما انقضى يومهم حتى فارقوه، واتصلت كل طائفة منهم بأمير تخدمه، وبقي وحده مع خادم لأبيه، فأخذته والدة السلطان بركيارق إليها، وأقامت له من يتولى خدمته وتربيته.
وسار بركيارق إلى ترمذ فسلمت إليه، وأقام عند بلخ سبعة أشهر، وأرسل إلى ما وراء النهر، فأقيمت له الخطبة بسمرقند وغيرها، ودانت له البلاد.
ذكر خروج أمير أميران بخراسان مخالفاً
في هذه السنة لما كان السلطان بركيارق بخراسان خالف عليه أمير اسمه محمد بن سليمان، ويعرف بأمير أميران، وهو ابن عم ملكشاه، وتوجه إلى بلخ، واستمد من صاحب غزنة، فأمده بجيش كثير، وفيلة، وشرط عليه أن يخطب له في جميع ما يفتحه من خراسان، فقويت شوكته، ومد يده في البلاد، فسار إليه الملك سنجر بن ملكشاه جريدة، ولا يعلم به أمير أميران، فكبسه، فجرى بينهما قتال ساعة، ثم أسر، وحمل إلى بين يدي سنجر، فأمر به فكحل.
ذكر عصيان الأمير قودن ويارقطاش على السلطان واستعمال حبشي على خراسانفي هذه السنة عصى يارقطاش وقدون على السلطان بركيارق.
وسبب ذلك أن الأمير قودن كان قد صار في جملة الأمير قماج، فتوفي، والسلطان بمرو، فاستوحش قودن، وأظهر المرض، وتأخر بمرو بعد مسير السلطان إلى العراق، وكان من جملة أمراء السلطان أمير اسمه اكنجي، وقد ولاه السلطان خوارزم، ولقبه خوارزمشاه، فجمع عساكره وسار في عشرة آلاف فارس ليلحق السلطان، فسبق العسكر إلى مرو في ثلاثمائة فارس، وتشاغل بالشرب، فاتفق قودن وأمير آخر اسمه يارقطاش على قتله، فجمعا خمسمائة فارس وكبسوه وقتلوه، وساروا إلى خوارزم، وأظهروا أن السلطان قد استعملهما عليها فتسلماها.
وبلغ الخبر إلى السلطان، فتم المسير إلى العراق، لما بلغه من خروج الأمير أنر ومؤيد الملك عن طاعته، وأعاد أمير داذ حبشي بن التونتاق في جيش إلى خراسان لقتالهما، فسار إلى هراة، وأقام ينتظر اجتماع العساكر معه، فعاجلاه في خمسة عشر ألفاً، فعلم أمير داذ أنه لا طاقة له بهما، فعبر جيحون، فسارا إليه، وتقدم يارقطاش ليلحقه قودن، فعاجله يارقطاش وحده وقاتله، فانهزم يارقطاش وأخذ أسيراً.
وبلغ الخبر إلى قودن، فثار به عسكره، ونهبوا خزائنه وما معه، فبقي في سبعة نفر، فهرب إلى بخارى، فقبض عليه صاحبها، ثم أحسن إليه، وبقي عنده، وسار من هناك إلى الملك سنجر ببلخ، فقبله أحسن قبول، وبذل له قودن أن يكفيه أموره، ويقوم بجمع العساكر على طاعته، فقدر أنه مات عن قريب، وأما يارقطاش فبقي أسيراً إلى أن قتل أمير داذ، وكان من أمره ما نذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر ابتداء دولة محمد بن خوارزمشاه

في هذه السنة أمر بركيارق الأمير حبشي بن التونتاق على خراسان، كما ذكرنا، فلما صفت له، وقتل قودن، كما ذكرنا قبل، ولي خوارزم الأمير محمد بن أنوشتكين، وكان أبوه أنوشتكين مملوك أمير من السلجوقية، اسمه بلكباك، قد اشتراه من رجل من غرشستان فقيل له أنوشتكين غرشحه، فكبر، وعلا أمره، وكان حسن الطريقة، كامل الأوصاف، وكان مقدماً، مرجوعاً إليه، وولد له ولد سماه محمداً، وهو هذا، وعلمه، وخرجه، وأحسن تأديبه، وتقدم بنفسه، وبالعناية الأزلية.
فلما ولي أمير داذ حبشي خراسان كان خوارزمشاه اكنجي قد قتل، وقد تقدم ذكره، ونظر الأمير حبشي فيمن يوليه خوارزم، فوقع اختياره على محمد بن أنوشتكين، فولاه خوارزم، ولقبه خوارزمشاه، فقصر أوقاته على معدلة ينشرها، ومكرمة يفعلها، وقرب أهل العلم والدين، فازداد ذكره حسناً، ومحله علواً.
ولما ملك السلطان سنجر خراسان أقر محمداً خوارزمشاه على خوارزم وأعمالها، فظهرت كفايته وشهامته، فعظم سنجر محله وقدره.
ثم إن بعض ملوك الأتراك جمع جموعاً، وقصد خوارزم، ومحمد غائب عنها، وكان طغرلتكين بن اكنجي، الذي كان أبوه خوارزمشاه، قبل، عند السلطان سنجر، فهرب منه، والتحق بالأتراك على خوارزم، فلما سمع خوارزمشاه محمد الخبر بادر إلى خوارزم، وأرسل إلى سنجر يستمده، وكان بنيسابور، فسار في العساكر إليه، فلم ينتظره محمد، فلما قارب خوارزم هرب الأتراك إلى منقشلاغ، وطغرلتكين أيضاً رحل إلى حندخان، وكفي خوارزمشاه شرهم.
ولما توفي خوارزمشاه ولي بعده ابنه إتسز، فمد ظلال الأمن، وأفاض العدل، وكان قد قاد الجيوش أيام أبيه، وقصد بلاد الأعداء، وباشر الحروب، فملك مدينة منقشلاغ.
ولما ولي بعد أبيه قربه السلطان سنجر، وعظمه، واعتضد به، واستصحبه معه في أسفاره وحروبه، فظهرت منه الكفاية والشهامة، فزاده تقدماً وعلواً، وهو ابتداء ملك بيت خوارزمشاه تكش، وابنه محمد الذي ظهرت التتر عليه، على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر الحرب بين رضوان وأخيه دقاقفي هذه السنة سار الملك رضوان إلى دمشق، وبها أخوه دقاق، عازماً على أخذها منه، فلما قاربها، ورأى حصانتها وامتناعها، علم عجزه عنها، فرحل إلى نابلس، وسار إلى القدس ليأخذه، فلم يمكنه، وانقطعت العساكر عنه، فعاد ومعه باغي سيان، صاحب أنطاكية، وجناح الدولة.
ثم إن باغي سيان فارق رضوان، وقصد دقاق، وحسن له محاصرة أخيه بحلب، جزاء لما فعله، فجمع عساكر كثيرة وسار ومعه باغي سيان، فأرسل رضوان رسولاً إلى سقمان بن أرتق، وهو بسروج، يستنجده، فأتاه في خلق كثير من التركمان، فسار نحو أخيه، فالتقيا بقنسرين، فاقتتلا، فانهزم دقاق وعسكره، ونهبت خيامهم وجميع مالهم، وعاد رضوان إلى حلب، ثم اتفقا على أن يخطب لرضوان بدمشق قبل دقاق، وبأنطاكية، وقيل كانت هذه الحادثة سنة تسع وثمانين.
ذكر الخطبة للعلوي المصري بولاية رضوانفي هذه السنة خطب الملك رضوان في كثير من ولايته للمستعلي بأمر الله العلوي، صاحب مصر.
وسبب ذلك أنه كان عنده الأمير جناح الدولة، وهو زوج أمه، فرأى من رضوان تغيراً، فسار إلى حمص، وهي له، فلما رأى باغي سيان بعده عن رضوان صالحه، وقدم إليه بحلب، ونزل بظاهرها.
وكان لرضوان منجم يقال له الحكيم أسعد، وكان يميل إليه، فقدمه بعد مسير جناح الدولة، فحسن له مذاهب العلويين المصريين، وأتته رسل المصريين يدعونه إلى طاعتهم، ويبذلون له المال، وإنفاذ العساكر إليه ليملك دمشق، فخطب لهم بشيزر، وجميع الأعمال سوى أنطاكية، وحلب، والمعرة، أربع جمع، ثم حضر عنده سقمان بن أرتق، وباغي سيان، صاحب أنطاكية، فأنكرا ذلك واسعظماه، فأعاد الخطبة العباسية في هذه السنة، وأرسل إلى بغداد يعتذر مما كان منه.
وسار باغي سيان إلى أنطاكية، فلم يقم بها غير ثلاثة أيام حتى وصل الفرنج إليها وحصروها، وكان ما نذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة كانت فتنة عظيمة بخراسان بين أهل سبزوار وأهل خسروجرد، وقتال عظيم، فقتل بينهم جماعة كثيرة، وانهزم أهل خسروجرد.
وفيها قتل عثمان، وكيل دار نظام الملك، وكان سبب قتله أنه كان كاتب صاحب غزنة بالأخبار من قبل السلطان، فأخذ وحبس بترمذ مدة، ثم اطلع عليه وهو في الحبس، أنه كان يكاتبه أيضاً فقتل.

وفي صفر منها قتل عبد الرحمن السميرمي، وزير أم السلطان بركيارق، قتله باطني غيلة، وقتل الباطني بعده.
وفيها، في شعبان، ظهر كوكب كبير له ذؤابة، وأقام يطلع عشرين يوماً، ثم غاب ولم يظهر.
وفيها توفي النقيب الطاهر أبو الغنائم محمد بن عبد الله، وكان ديناً، سخياً، كريماً، متعصباً، حنفي المذهب، وولي النقابة بعده ولده أبو الفتوح حيذرة.
وفيها توفي أبو القاسم يحيى بن أحمد السيبي وهو ابن مائة سنة وسنتين، وهو صحيح الحواس، وكان مقرئاً، محدثاً، حاضر القلب.
وفيها قتل أرغش النظامي، مملوك نظام الملك، بالري وكان قد بلغ مبلغاً عظيماً بحيث أنه تزوج ابنة ياقوتي عم السلطان بركيارق، قتله باطني، وقتل قاتله.
وقتل برسق في شهر رمضان، وهو من أكابر الأمراء، قتله باطني، وكان برسق من أصحاب السلطان طغرلبك، وهو أول شحنة كان ببغداد.
ثم دخلت سنة إحدى وتسعين وأربعمائة
ذكر ملك الفرنج مدينة أنطاكية
كان ابتداء ظهور دولة الفرنج، واشتداد أمرهم، وخروجهم إلى بلاد الإسلام، واستيلائهم على بعضها، سنة ثمان وسبعين وأربعمائة، فملكوا مدينة طليطلة وغيرها من بلاد الأندلس، وقد تقدم ذكر ذلك.
ثم قصدوا سنة أربع وثمانين وأربعمائة جزيرة صقلية وملكوها، وقد ذكرته أيضاً، وتطرقوا إلى أطراف إفريقية، فملكوا منها شيئاً وأخذ منهم، ثم ملكوا غيره على ما تراه.
فلما كان سنة تسعين وأربعمائة خرجوا إلى بلاد الشام، وكان سبب خروجهم أن ملكهم بردويل جمع جمعاً كثيراً من الفرنج، وكان نسيب رجار الفرنجي الذي ملك صقلية، فأرسل إلى رجار يقول له: قد جمعت جمعاً كثيراً، وأنا واصل إليك، وسائر من عندك إلى إفريقية أفتحها، وأكون مجاوراً لك.
فجمع رجار أصحابه، واستشارهم في ذلك، وقالوا: وحق الإنجيل هذا جيد لنا ولهم وتصبح البلاد بلاد النصرانية. فرفع رجله وحبق حبقة عظيمة وقال: وحق ديني، هذه خير من كلامكم! قالوا: وكيف ذلك؟ قال: إذا وصلوا إلي أحتاج إلى كفلة كثيرة، ومراكب تحملهم إلى إفريقية، وعساكر من عندي أيضاً، فإن فتحوا البلاد كانت لهم، وصارت المؤونة لهم من صقلية، وينقطع عني ما يصل من المال من ثمن الغلات كل سنة، وإن لم يفلحوا رجعوا إلى بلادي، وتأذيت بهم، ويقول تميم غدرت بي، ونقضت عهدي، وتنقطع الوصلة والأسفار بيننا، وبلاد إفريقية باقية لنا، متى وجدنا قوة أخذناها.
وأحضر رسوله، وقال له: إذا عزمتم على جهاد المسلمين، فأفضل ذلك فتح بيت المقدس، تخلصونه من أيديهم ويكون لكم الفخر، وأما إفريقية فبيني وبين أهلها أيمان وعهود.
فتجهزوا، وخرجوا إلى الشام، وقيل: إن أصحاب مصر من العلويين، لما رأوا قوة الدولة السلجوقية، وتمكنها واستيلاءها على بلاد الشام إلى غزة، ولم يبق بينهم وبين مصر ولاية أخرى تمنعهم ودخول أقسيس إلى مصر وحصرها، خافوا، وأرسلوا إلى الفرنج يدعونهم إلى الخروج إلى الشام ليملكوه، ويكونوا بينهم وبين المسلمين، والله أعلم.
فلما عزم الفرنج على قصد بلاد الشام، ساروا إلى القسططينية ليعبروا المجاز إلى بلاد المسلمين، ويسيروا في البر، فيكون أسهل عليهم، فلما وصلوا إليها منعهم ملك الروم من الاجتياز ببلاده، وقال: لا أمكنكم من العبور إلى بلاد الإسلام حتى تحلفوا لي أنكم تسلمون إلي أنطاكية، وكان قصده أن يحثهم على الخروج إلى بلاد الإسلام، ظناً منه أنهم أتراك لا يبقون منهم أحداً، لما رأى من صرامتهم وملكهم البلاد.
فأجابوه إلى ذلك، وعبروا الخليج عند القسطنطينية سنة تسعين، ووصلوا إلى بلاد قلج أرسلان بن سليمان بن قتلمش، وهو قونية وغيرها، فلما وصلوا إليها لقيهم قلج أرسلان في جموعه، ومنعهم، فقاتلوه فهزموه في رجب سنة تسعين، واجتازوا في بلاده إلى بلاد ابن الأرمني، فسلكوها، وخرجوا إلى أنطاكية فحصروها.

ولما سمع صاحبها باغي سيان بتوجههم إليها، خاف من النصارى الذي بها، فأخرج المسلمين من أهلها، ليس معهم غيرهم، وأمرهم بحفر الخندق، ثم أخرج من الغد النصارى لعمل الخندق أيضاً، ليس معهم مسلم، فعملوا فيه إلى العصر، فلما أرادوا دخول البلد منعهم، وقال لهم: أنطاكية لكم تهبونها لي حتى أنظر ما يكون منا ومن الفرنج، فقالوا له: من يحفظ أبناءنا ونساءنا؟ فقال: أنا أخلفكم فيهم، فأمسكوا، وأقاموا في عسكر الفرنج، فحصروها تسعة أشهر، وظهر من شجاعة باغي سيان، وجودة رأيه، وحزمه، واحتياطه ما لم يشاهد من غيره، فهلك أكثر الفرنج موتاً، ولو بقوا على كثرتهم التي خرجوا فيها لطبقوا بلاد الإسلام، وحفظ باغي سيان أهل نصارى أنطاكية الذين أخرجهم، وكف الأيدي المتطرقة إليهم.
فلما طال مقام الفرنج على أنطاكية راسلوا أحد المستحفظين للأبراج، وهو زراد يعرف بروزبه، وبذلوا له مالاً وأقطاعاً، وكان يتولى حفظ برج يلي الوادي، وهو مبني على شباك في الوادي، فلما تقرر الأمر بينهم وبين هذا الملعون الزراد، جاؤوا إلى الشباك ففتحوه ودخلوا منه، وصعد جماعة كثيرة بالحبال، فلما زادت عدتهم على خمسمائة ضربوا البوق، وذلك عند السحر، وقد تعب الناس من كثرة السهر والحراسة، فاستيقظ باغي سيان، فسأل عن الحال، فقيل: إن هذا البوق من القلعة، ولا شك أنها قد ملكت، ولم يكن من القلعة، وإنما كان من ذلك البرج، فدخله الرعب، وفتح باب البلد، وخرج هارباً في ثلاثين غلاماً على وجهه، فجاء نائبه في حفظ البلد، فسأل عنه، فقيل إنه هرب، فخرج من باب آخر هارباً، وكان ذلك معونة للفرنج، ولو ثبت ساعة لهلكوا.
ثم إن الفرنج دخلوا البلد من الباب، ونهبوه، وقتلوا من فيه من المسلمين، وذلك في جمادى الأولى.
وأما باغي سيان فإنه لما طلع عليه النهار رجع إليه عقله، وكان كالولهان، فرأى نفسه وقد قطع عدة فراسخ، فقال لمن معه: أين أنا؟ فقيل: على أربعة فراسخ من أنطاكية، فندم كيف خلص سالماً، ولم يقاتل حتى يزيلهم عن البلد أو يقتل، وجعل يتلهف، ويسترجع على ترك أهله وأولاده والمسلمين، فلشدة ما لحقه سقط عن فرسه مغشياً عليه، فلما سقط إلى الأرض أراد أصحابه أن يركبوه، فلم يكن فيه مسكة قد قارب الموت فتركوه وساروا عنه، واجتاز به إنسان أرمني كان يقطع الحطب، وهو بآخر رمق، فقتله وأخذ رأسه وحمله إلى الفرنج بأنطاكية.
وكان الفرنج قد كاتبوا صاحب حلب، ودمشق، بأننا لا نقصد غير البلاد التي كانت بيد الروم، لا نطلب سواها، مكراً منهم وخديعة، حتى لا يساعدوا صاحب أنطاكية.
ذكر مسير المسلمين إلى الفرنج
وما كان منهم
لما سمع قوام الدولة كربوقا بحال الفرنج، وملكهم أنطاكية، جمع العساكر وسار إلى الشام، وأقام بمرج دابق، واجتمعت معه عساكر الشام، تركها وعربها سوى من كان بحلب، فاجتمع معه دقاق بن تتش وطغتكين أتابك، وجناح الدولة، صاحب حمص، وأرسلان تاش، صاحب سنجار، وسليمان بن أرتق، وغيرهم من الأمراء ممن ليس مثلهم. فلما سمعت الفرنج عظمت المصيبة عليهم، وخافوا لما هم فيه من الوهن، وقلة الأقوات عندهم، وسار المسلمون، فنازلوهم على أنطاكية، وأساء كربوقا السيرة، فيمن معه من المسلمين، وأغضب الأمراء وتكبر عليهم ظناً منه أنهم يقيمون معه على هذه الحال، فأغضبهم ذلك، وأضمروا له في أنفسهم الغدر، إذا كان قتال، وعزموا على إسلامه عند المصدوقة.
وأقام الفرنج بأنطاكية، بعد أن ملكوها، اثني عشر يوماً لي لهم ما يأكلونه، وتقوت الأقوياء بدوابهم، والضعفاء بالميتة وورق الشجر، فلما رأوا ذلك أرسلوا إلى كربوقا يطلبون منه الأمان ليخرجوا من البلد، فلم يعطهم ما طلبوا، وقال: لا تخرجون إلا بالسيف.
وكان معهم من الملوك بردويل، وصنجيل، وكندفري، والقمص، صاحب الرها، وبيمنت، صاحب أنطاكية، وهو المقدم عليهم. وكان معهم راهب مطاع فيهم، وكان داهية من الرجال، فقال لهم: إن المسيح، عليه السلام، كان له حربة مدفونة بالقسيان الذي بأنطاكية، وهو بناء عظيم، فإن وجدتموها فإنكم تظفرون، وإن لم تجدوها فالهلاك متحقق.

وكان قد دفن قبل ذلك حربة في مكان فيه، وعفى أثرها، وأمرهم بالصوم والتوبة، ففعلوا ذلك ثلاثة أيام، فلما كان اليوم الرابع أدخلهم الموضع جميعهم، ومعهم عامتهم، والصناع منهم، وحفروا في جميع الأماكن فوجدوها كما ذكر، فقال لهم: أبشروا بالظفر، فخرجوا في اليوم الخامس من الباب متفرقين من خمسة، وستة، ونحو ذلك، فقال المسلمون لكربوقا: ينبغي أن تقف على الباب، فتقتل كل من يخرج، فإن أمرهم الآن، وهم متفرقون، سهل. فقال: لا تفعلوا! أمهلوهم حتى يتكامل خروجهم فنقتلهم. ولم يمكن من معاجلتهم، فقتل قوم من المسلمين جماعة من الخارجين، فجاء إليهم هو بنفسه، ومنعهم، ونهاهم.
فلما تكامل خروج الفرنج، ولم يبق بأنطاكية أحد منهم، ضربوا مصافاً عظيماً، فولى المسلمون منهزمين، لما عاملهم به كربوقا أولاً من الاستهانة بهم، والإعراض عنهم، وثانياً من منعهم عن قتل الفرنج، وتمت الهزيمة عليهم، ولم يضرب أحد منهم بسيف، ولا طعن برمح، ولا رمى بسهم، وآخر من انهزم سقمان بن أرتق، وجناح الدولة، لأنهما كانا في الكمين، وانهزم كربوقا معهم. فلما رأى الفرنج ذلك ظنوه مكيدة، إذ لم يجر قتال ينهزم من مثله، وخافوا أن يتبعوهم، وثبت جماعة من المجاهدين، وقاتلوا حسبة، وطلباً للشهادة، فقتل الفرنج منهم ألوفاً، وغنموا ما في العسكر من الأقوات والأموال والأثاث والدواب والأسلحة، فصلحت حالهم، وعادت إليهم قوتهم.
ذكر ملك الفرنج معرة النعمانلما فعل الفرنج بالمسلمين ما فعلوا ساروا إلى معرة النعمان، فنازلوها، وحصروها، وقاتلهم أهلها قتالاً شديداً، ورأى الفرنج منهم شدة ونكاية، ولقوا منهم الجد في حربهم، والاجتهاد في قتالهم، فعملوا عند ذلك برجاً من خشب يوازي سور المدينة، ووقع القتال عليه، فلم يضر المسلمين ذلك، فلما كان الليل خاف قوم من المسلمين، وتداخلهم الفشل والهلع، وظنوا أنهم إذا تحصنوا ببعض الدور الكبار امتنعوا بها، فنزلوا من السور وأخلوا الموضع الذي كانوا يحفظونه، فرآهم طائفة أخرى، ففعلوا كفعلهم، فخلا مكانهم أيضاً من السور.
ولم تزل ننبع طائفة منهم التي تليها في النزول، حتى خلا السور، فصعد الفرنج إليه على السلاليم، فلما علوه تحير المسلمون، ودخلوا دورهم، فوضع الفرنج فيهم السيف ثلاثة أيام، فقتلوا ما يزيد على مائة ألف، وسبوا السبي الكثير، وملكوه، وأقاموا أربعين يوماً. وساروا إلى عرقة فحصروها أربعة أشهر، ونقبوا سورها عدة نقوب، فلم يقدروا عليها، وراسلهم منقذ، صاحب شيزر، فصالحهم عليها، وساروا إلى حمص وحصروها، فصالحهم صاحبها جناح الدولة، وخرجوا على طريق النواقير إلى عكا، فلم يقدروا عليها.
ذكر الحرب بين الملك سنجر ودولتشاهكان دولتشاه من أبناء الملوك السلجوقية، فاجتمع عليهم جمع من عساكر بيغو أخي طغرلبك، وكانوا بطخارستان، فأخذوا ولوالج وكمنج، فسار إليهم السلطان سنجر وعساكره. فوصل إلى بلخ، فدخلها في رجب من هذه السنة، وخرج منها لقتال دولتشاه، فلم يكن له من الجموع ما ثبت مقابل عسكر سنجر، فقاتلوا شيئاً من قتال، وانهزموا، وأخذوا دولتشاه أسيراً، وأحضر عند سنجر، فعفا عنه من القتل، وحبسه، ثم بعد ذلك كحله، وسير سنجر جيشاً إلى مدينة ترمذ، فملكوها، وأسلمها إلى طغرلتكين.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة فتح تميم بن المعز بن باديس، صاحب إفريقية، جزيرة جربة وجزيرة قرقنة، ومدينة تونس، وكان بإفريقية غلاء شديد هلك فيه كثير من الناس.
وفيها أرسل الخليفة رسولاً إلى السلطان بركيارق مستنفراً على الفرنج، ومبالغاً في تعظيم الأمر وتداركه قبل أن يزداد قوة.
وفي هذه السنة، في شعبان، توفي أبو الحسن أحمد بن عبد القادر بن محمد بن يوسف، ومولده سنة اثنتي عشرة وأربعمائة، وكان فاضلاً في الحديث.
وفيها توفي أبو الفضل عبد الوهاب بن أبي محمد التميمي الحنبلي، وكان فاضلاً، فصيحاً.
وفيها، في شوال، توفي طراد بن محمد الزينبي، وهو عالي الإسناد في الحديث، وولي نقابة العباسيين من بعده ابنه شرف الدين علي بن طراد.
وفيها، في ذي القعدة، توفي أبو الفتح المظفر بن رئيس الرؤساء أبي القاسم بن المسلمة، وكان بيته مجمع الفضلاء وأهل الدين، ومن جملة من كان عنده إلى أن توفي الشيخ أبو إسحاق الشيرازي.

وفيها توفي أبو الفرج سهل بن بشر بن أحمد الاسفراييني، وهو من أعيان المحدثين.
ثم دخلت سنة اثنتين وتسعين وأربعمائةذكر عصيان الأمير أُنر وقتله
لما سار السلطان بركيارق إلى خراسان ولى الأمير أنر بلاد فارس جميعها، وكانت قد تغلب عليها الشوانكارة على اختلاف بطونهم وقبائلهم، واستعانوا بصاحب كرمان إيران شاه بن قاورت، فاجتمعوا، وصافوا الأمير أنر، وكسروه، وعاد مفلولاً إلى أصبهان، وأرسل إلى السلطان يستأذنه في اللحاق به إلى خراسان، فأمره بالمقام ببلد الجبال، وولاه إمارة العراق، وكاتب العساكر المجاورة له بطاعته. فأقام بأصبهان، وسار منها إلى أقطاعه بأذربيجان، وعاد وقد انتشر أمر الباطنية بأصبهان، فندب نفسه لقتالهم، وحصر قلعة على جبل أصبهان.
واتصل به مؤيد الملك بن نظام الملك، وكان ببغداد، فسار منها إلى الحلة، فأكرمه صدقة، وسار من عنده إلى الأمير أنر، فلما اجتمع بالأمير أنر خوفه هو وغيره من السلطان بركيارق، وعظموا عليه الاجتماع به، وحسنوا له البعد عنه، وأشاروا عليه بمكاتبة غياث الدين محمد بن ملكشاه، وهو إذ ذاك بكنجة، فعزم على المخالفة للسلطان، وتحدث فيه، فظهر ذلك، فزاد خوفه من السلطان، فجمع من العساكر المعروفين بالشجاعة نحو عشرة آلاف فارس، وسار من أصبهان إلى الري، وأرسل إلى السلطان يقول: إنه مملوك، ومطيع، إن سلم إليه مجد الملك البلاساني، وإن لم يسلمه إليه فهو عاص خارج عن الطاعة.
فبينما هو يفطر، وكان عادته أن يصوم أياماً من الأسبوع، فلما قارب الفراغ من الإفطار هجم عليه ثلاثة نفر من الأتراك المولدين بخوارزم، وهم من جملة خيله، فصدم أحدهم المشعل فألقاه، وصدم الآخر الشمعة فأطفأها، وضربه الثالث بالسكين فقتله، وقتل معه جانداره، واختلط الناس في الظلمة، ونهبوا خزائنه، وتفرق عسكره، وبقي ملقى فلم يوجد ما يحمل عليه، ثم حمل إلى داره بأصبهان، ودفن بها.
ووصل خبر قتله إلى السلطان بركيارق، وهو بخوار الري، قد خرج من خراسان عازماً على قتاله، وهو على غاية الحذر من قتاله وعاقبة أمره، وفرح مجد الملك البلاساني بقتله، وكان له مثل يومه عن قريب، وكان عمر أنر سبعاً وثلاثين سنة، وكان كثير الصوم والصلاة والخير والمحبة للصالحين.
ذكر ملك الفرنج لعنهم الله البيت المقدسكان البيت المقدس لتاج الدولة تتش، وأقطعه للأمير سقمان بن أرتق التركماني، فلما ظفر الفرنج بالأتراك على أنطاكية، وقتلوا فيهم، ضعفوا، وتفرقوا، فلما رأى المصريون ضعف الأتراك ساروا إليه، ومقدمهم الأفضل بن بدر الجمالي، وحصروه وبه الأمير سقمان، وإيلغازي، ابنا أرتق، وابن عمهما سونج، وابن أخيهما ياقوتي، ونصبوا عليه نيفاً وأربعين منجنيقاً، فهدموا مواضع من سوره، وقاتلهم أهل البلد، فدام القتال والحصار نيفاً وأربعين يوماً، وملكوه بالأمان في شعبان سنة تسع وثمانين وأربعمائة.
وأحسن الأفضل إلى سقمان وإيلغازي ومن معهما، وأجزل لهم العطاء، وسيرهم فساروا إلى دمشق، ثم عبروا الفرات، فأقام سقمان ببلد الرها وسار إيلغازي إلى العراق، واستناب المصريون فيه رجلاً يعرف بافتخار الدولة، وبقي فيه إلى الآن. فقصد الفرنج، بعد أن حصروا عكا، فلم يقدروا عليها، فلما وصلوا إليه حصروه نيفاً وأربعين يوماً، ونصبوا عليه برجين أحدهما من ناحية صهيون، وأحرقه المسلمون، وقتلوا كل من به.
فلما فرغوا من إحراقه أتاهم المستغيث بأن المدينة قد ملكت من الجانب الآخر، وملكوها من جهة الشمال منه ضحوة نهار يوم الجمعة لسبع بقين من شعبان، وركب الناس السيف، ولبث الفرنج في البلدة أسبوعاً يقتلون فيه المسلمين، واحتمى جماعة من المسلمين بمحراب داود، فاعتصموا به، وقاتلوا فيه ثلاثة أيام، فبذل لهم الفرنج الأمان، فسلموه إليهم، ووفى لهم الفرنج، وخرجوا ليلاً إلى عسقلان فأقاموا بها.

وقتل الفرنج، بالمسجد الأقصى، ما يزيد على سبعين ألفاً، منهم جماعة كثيرة من أئمة المسلمين، وعلمائهم، وعبادهم، وزهادهم، ممن فارق الأوطان وجاور بذلك الموضع الشريف، وأخذوا من عند الصخرة نيفاً وأربعين قنديلاً من الفضة، وزن كل قنديل ثلاثة آلاف وستمائة درهم، وأخذوا تنوراً من فضة وزنه أربعون رطلاً بالشامي، وأخذوا من القناديل الصغار مائة وخمسين قنديلاً نقرة، ومن الذهب نيفاً وعشرين قنديلاً، وغنموا منه ما لا يقع عليه الإحصاء.
وورد المستنفرون من الشام، في رمضان، إلى بغداد صحبة القاضي أبي سعد الهروي، فأوردوا في الديوان كلاماً أبكى العيون، وأوجع القلوب، وقاموا بالجامع يوم الجمعة، فاستغاثوا، وبكوا وأبكوا، وذكر ما دهم المسلمين بذلك البلد الشريف المعظم من قتل الرجال، وسبي الحريم والأولاد، ونهب الأموال، فلشدة ما أصابهم أفطروا، فأمر الخليفة أن يسير القاضي أبو محمد الدامغاني، وأبو بكر الشاشي، وأبو القاسم الزنجاني، وأبو الوفا بن عقيل، وأبو سعد الحلواني، وأبو الحسين بن سماك، فساروا إلى حلوان، فبلغهم قتل مجد الملك البلاساني، على ما نذكره، فعادوا من غير بلوغ أرب، ولا قضاء حاجة.
واختلف السلاطين على ما نذكره، فتمكن الفرنج من البلاد، فقال أبو المظفر الآبيوردي، في هذا المعنى، أبياتاً منها:
مزجنا دماء بالدموع السواجم، ... فلم يبق منا عرضة للمراجم
وشر سلاح المرء دمع يفيضه، ... إذا الحرب شبت نارها بالصوارم
فإيهاً، بني الإسلام، إن وراءكم ... وقائع يلحقن الذرى بالمناسم
أتهويمة في ظل أمن وغبطة، ... وعيش كنوار الخميلة ناعم
وكيف تنام العين ملء جفونها، ... على هفوات أيقظت كل نائم
وإخوانكم بالشام يضحي مقيلهم ... ظهور المذاكي، أو بطون القشاعم
تسومهم الروم الهوان، وأنتم ... تجرون ذيل الخفض فعل المسالم
وكم من دماء قد أبيحت، ومن دمى ... تواري حياءً حسنها بالمعاصم
بحيث السيوف البيض محمرة الظبى ... وسمر العوالي داميات اللهاذم
وبين اختلاس الطعن والضرب وقفة ... تظل لها الولدان شيب القوادم
وتلك حروب من يغب عن غمارها ... ليسلم، يقرع بعدها سنجر نادم
سللن بأيدي المشركين قواضباً، ... ستغمد منهم في الطلى والجماجم
يكاد لهن المستجن بطيبةٍ ... ينادي بأعلى الصوت يا آل هاشم
أرى أمتي لا يشرعون إلى العدى ... رماحهم، والدين واهي الدعائم
ويجتنبون النار خوفاً من الردى، ... ولا يحسبون العار ضربة لازم
أترضى صناديد الأعاريب بالأذى، ... ويغضي على ذل كماة الأعاجم
ومنها:
فليتهم، إذ لم يذودوا حمية ... عن الدين، ضنوا غيرة بالمحارم
وإن زهدوا في الأجرن إذ حمس الوغى، ... فهلا أتوه رغبة في الغنائم
لئن أذعنت تلك الخياشم للبرى، ... فلا عطسوا إلا بأجدع راغم
دعوناكم، والحرب ترنو ملحةً ... إلينا، بألحاظ النسور القشاعم
تراقب فينا غارة عربية، ... تطيل عليها الروم عض الأباهم
فإن أنتم لم تغضبوا بعد هذه، ... رمينا إلى أعدائنا بالجرائم
ذكر الحرب بين المصريين والفرنجفي هذه السنة، في رمضان، كانت وقعة بين العساكر المصرية والفرنج، وسببها أن المصريين لما بلغهم ما تم على أهل القدس، جمع الأفضل أمير الجيوش العساكر، وحشد، وسار إلى عسقلان، وأرسل إلى الفرنج ينكر عليهم ما فعلوا، ويتهددهم، فأعادوا الرسول بالجواب ورحلوا على أثره، وطلعوا على المصريين، عقيب وصول الرسول، ولم يكن عند المصريين خبر من وصولهم، ولا من حركتهم، ولم يكونوا على أهبة القتال، فنادوا إلى ركوب خيولهم، ولبسوا أسلحتهم، وأعجلهم الفرنج، فهزموهم، وقتلوا منهم من قتل، وغنموا ما في المعسكر من مال وسلاح وغير ذلك.

وانهزم الأفضل، فدخل عسقلان، ومضى جماعة من المنهزمين فاستتروا بشجر الجميز، وكان هناك كثيراً، فأحرق الفرنج بعض الشجر، حتى هلك من فيه، وقتلوا من خرج منه، وعاد الأفضل في خواصه إلى مصر، ونازل الفرنج عسقلان، وضايقوها، فبذل لهم أهلها قطيعة اثني عشر ألف دينار، وقيل عشرين ألف دينار، ثم عادوا إلى القدس.
ذكر ابتداء ظهور السلطان محمد بن ملكشاهكان السلطان محمد وسنجر أخوين لأم وأب، أمهما أم ولد، ولما مات أبوه ملكشاه كان محمد معه ببغداد، فسار مع أخيه محمود، وتركان خاتون زوجة والده إلى أصبهان، ولما حصر بركيارق أصبهان خرج محمد متخفياً، ومضى إلى والدته، وهي في عسكر أخيه بركيارق، وقصد أخاه السلطان بركيارق، وسار معه إلى بغداد سنة ست وثمانين وأربعمائة، وأقطعه بركيارق كنجة وأعمالها، وجعل معه أتابكاً له الأمير قتلغ تكين، فلما قوي محمد قتله، واستولى على جميع أعمال أران الذي من جملته كنجة، فعرف ذلك الوقت شهامة محمد.
وكان السلطان ملكشاه قد أخذ تلك البلاد من فضلون بن أبي الأسوار الروادي، وسلمها إلى سرهنك ساوتكين الخادم، وأقطع فضلون أستراباذ، وعاد فضلون ضمن بلاده، ثم عصى فيها لما قوي، فأرسل السلطان إليه الأمير بوزان، فحاربه وأسره، وأقطع بلاده لجماعة منهم: باغي سيان، صاحب أنطاكية، ولما مات باغي سيان عاد ولده إلى ولاية أبيه في هذه البلاد، وتوفي فضلون ببغداد سنة أربع وثمانين وهو على غاية من الإضاقة في مسجد على دجلة.
وقد ذكرنا فيما تقدم تنقل الأحوال بمؤيد الملك عبيد الله بن نظام الملك، وأنه كان عند الأمير أنر، فحسن له عصيان السلطان بركيارق، فلما قتل أنر سار إلى الملك محمد، فأشار عليه بمخالفة أخيه، والسعي في طلب السلطنة واستوزر مؤيد الملك.
واتفق قتل مجد الملك البلاساني، واستيحاش العسكر من السلطان بركيارق، وفارقوه وساروا نحو السلطان محمد، فلقوه بخرقان، فصاروا معه، وساروا نحو الري.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://arabelalekat.yoo7.com
الشيخ عودة
الشيخ عودة
الشيخ عودة



عدد المساهمات : 1748
تاريخ التسجيل : 28/09/2008
العمر : 74

كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير - صفحة 7 Empty
مُساهمةموضوع: رد: كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير   كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير - صفحة 7 Emptyالثلاثاء فبراير 25, 2014 11:15 am

وكان السلطان بركيارق لما فارقه عسكره سار مجداً إلى الري، فأتاه بها الأمير نيال بن أنوشتكين الحسامي، وهو من أكابر الأمراء، ووصل إليه أيضاً عز الملك منصور بن نظام الملك، وأمه ابنة ملك الأبخاز، ومعه عساكر جمة، فبلغه مسير أخيه محمد إليه في العساكر، فسار من الري إلى أصبهان، فلم يفتح أهلها له الأبواب، فسار إلى خوزستان، على ما نذكره.
وورد السلطان محمد إلى الري ثاني ذي القعدة، فوجد زبيدة خاتون والدة السلطان بركيارق قد تخلفت بعد ابنها، فأخذها مؤيد الملك وسجنها في القلعة، وأخذ خطها بخمسة آلاف دينار، وأراد قتلها، وأشار عليه ثقاته أن لا يفعل ذلك، فلم يقبل منهم، وقالوا له: العسكر محبون لولدها، وإنما استوحشوا منه لأجلها، ومتى قتلت عدلوا عليه، فلا تغتر بهؤلاء الجند، فإنهم غدروا بمن أحسن إليهم أوثق ما كان بهم، فلم يصغ إلى قولهم، ورفعها إلى القلعة، وخنقت، وكان عمرها اثنتين وأربعين سنة. فلما أسر السلطان بركيارق مؤيد الملك رأى خطه في تذكرته بخمسة آلاف دينار، فكان أعظم الأسباب في قتله.
ذكر الخطبة ببغداد للملك محمدلما قوي أمر السلطان محمد سار إليه سعد الدولة كوهرائين من بغداد، وكان قد استوحش من السلطان بركيارق، فاجتمع هو وكربوقا، صاحب الموصل، وجكرمش، صاحب الجزيرة، وسرخاب بن بدر، صاحب كنكور، وغيرها، فساروا إلى السلطان محمد، فلقوه بقم، فرد سعد الدولة إلى بغداد، وخلع عليه، وسار كربوقا وجكرمش في خدمته إلى أصبهان، ولما وصل كوهرائين إلى بغداد خاطب الخليفة في الخطبة للسلطان محمد، فأجاب إلى ذلك، وخطب له يوم الجمعة سابع عشر ذي الحجة، ولقب غياث الدنيا والدين.
ذكر قتل مجد الملك البلاسانيقد ذكرنا تحكم مجد الملك أبي الفضل أسعد بن محمد في دولة السلطان بركيارق، وتمكنه منها. فلما بلغ الغاية التي لا مزيد عليها جاءته نكبات الدنيا ومصائبها من حيث لا يحتسب.
وأما سبب قتله، فإن الباطنية لما توالى منهم قتل الأمراء الأكابر من الدولة السلطانية، نسبوا ذلك إليه، وأنه هو الذي وضعهم على قتل من قتلوه، وعظم ذلك قتل الأمير برسق، فاتهم أولاده زنكي واقبوري وغيرهما، مجد الملك بقتله، وفارقوا السلطان.

وسار السلطان إلى زنجان لأنه بلغه خروج السلطان عليه، على ما ذكرناه، فطمع حينئذ الأمراء، فأرسل أمير آخر، وبلكابك، وطغايرك ابن اليزن، وغيرهم، إلى الأمراء بني برسق يستحضرونهم إليهم ليتفقوا معهم على مطالبة السلطان بتسليم مجد الملك إليهم ليقتلوه، فحضروا عندهم، فأرسلوا إلى السلطان بركيارق، وهم بسجاس، مدينة قريبة من همذان، يلتمسون تسليمه إليهم، ووافقهم على ذلك العسكر جميعه، وقالوا: إن سلم إلينا فنحن العبيد الملازمون للخدمة، وإن منعنا فارقنا، وأخذنا قهراً. فمنع السلطان منه، فأرسل مجد الملك إلى السلطان يقول له: المصلحة أن تحفظ أمراء دولتك، وتقتلني أنت لئلا يقتلني القوم فيكون فيه وهن على دولتك. فلم تطب نفس السلطان بقتله، وأرسل إليهم يستحلفهم على حفظ نفسه، وحبسه في بعض القلاع. فلما حلفوا سلمه إليهم، فقتله الغلمان قبل أن يصل إليهم، فسكنت الفتنة.
ومن العجب أنه كان لا يفارقه كفنه سفراً وحضراً، ففي بعض الأيام فتح خازنه صندوقاً، فرأى الكفن، فقال: وما أصنع بهذا؟ إن أمري لا يؤول إلى كفن، والله ما أبقى إلا طريحاً على الأرض. فكان كذلك، ورب كلمة تقول لقائلها دعني.
ولما قتل حمل رأسه إلى مؤيد الملك بن نظام الملك. وكان مجد الملك خيراً، كثير الصلاة بالليل، كثير الصدقة، لا سيما على العلويين وأرباب البيوتات، وكان يكره سفك الدماء، وكان يتشيع إلا أنه كان يذكر الصحابة ذكراً حسناً، ويلعن من يسبهم. ولما قتل أرسل الأمراء يقولون للسلطان: المصلحة أن تعود إلى الري، ونحن نمضي إلى أخيك فنقاتله ونقضي هذا المهم. فسار بعد امتناع، وتبعه مائتا فارس لا غير، ونهب العسكر سرادق السلطان ووالدته وجميع أصحابه، وعاد إلى الري، وسار العسكر إلى السلطان محمد.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة، في شعبان، وصل الكيا أبو الحسن علي بن محمد الطبري المعروف بالهراس، الفقيه الشافعي، ولقبه عماد الدين شمس الإسلام، برسالة من السلطان بركيارق إلى الخليفة، وهو من أصحاب إمام الحرمين أبي المعالي الجويني، ومولده سنة خمسين وأربعمائة، واعتنى بأمره مجد الملك البلاساني، وقام له الوزير عميد الدولة بن جهير لما دخل عليه.
وفيها قتل أبو القاسم ابن إمام الحرمين أبي المعالي الجويني بنيسابور! وكان خطيبها، واتهم العامة الزروع جميعها، ولحق الناس بعده وباء جارف، فمات منهم خلق كثير عجزوا عن دفنهم لكثرتهم.
وفيها، في شعبان، توفي أبو الغنائم الفارقي، الفقيه الشافعي، بجزيرة ابن عمر، وكان إماماً فاضلاً زاهداً.
وفيها، في صفر، توفي أبو عبد الله الحسين بن طلحة النعالي، وعمره نحو تسعين سنة، وكان عالي الإسناد في الحديث، وقيل توفي سنة ثلاث وتسعين.
وفيها، في شعبان، توفي أبو غالب محمد بن علي بن عبد الواحد بن الصباغ الفقيه الشافعي، تفقه على ابن عمه أبي نصر، وكان حسن الخلق، متواضعاً.
ثم دخلت سنة ثلاث وتسعين وأربعمائة
ذكر إعادة خطبة السلطان بركيارق ببغداد
في هذه السنة أعيدت الخطبة للسلطان بركيارق ببغداد.
وسبب ذلك أن بركيارق سار في العام الماضي من الري إلى خوزستان، فدخلها وجميع من معه على حال سيئة، وكان أمير عسكره حينئذ ينال ابن أنوشتكين الحسامي، وأتاه غيره من الأمراء، وسار إلى واسط، فظلم عسكره الناس، ونهبوا البلاد، واتصل به الأمير صدقة بن مزيد، صاحب الحلة، ووثب على السلطان قوم ليقتلوه، فأخذوا وأحضروا بين يديه، فاعترفوا أن الأمير سرمز، شحنة أصبهان، وضعهم على قتله، فقتل أحدهم، وحبس الباقون، وسار إلى بغداد، فدخلها سابع عشر صفر، وخطب له ببغداد يوم الجمعة منتصف صفر قبل وصوله بيومين.
وكان سعد الدولة كوهرائين بالشفيعي، وهو في طاعة السلطان محمد، فسار إلى داي مرج، ومعه إيلغازي بن أرتق وغيره من الأمراء، فأرسل إلى مؤيد الملك والسلطان محمد يستحثهما على الوصول إليه، فأرسلا إليه كربوقا، صاحب الموصل، وجكرمش، صاحب جزيرة ابن عمر، فأما جكرمش فاستأذن كوهرائين في العود إلى بلده، وقال إنه قد اختلت الأحوال، فأذن له، وبقي مع كوهرائين جماعة من الأمراء، فاتفقوا على أن يصدروا عن رأي واحد لا يختلفون، ثم اتفقت آراؤهم على أن كتبوا إلى السلطان بركيارق يقولون له: اخرج إلينا، فما فينا من يقاتلك.

وكان الذي أشار بذا كربوقا، وقال لكوهرائين: إننا لم نظفر من محمد ومؤيد الملك بطائل، وكان منحرفاً عن مؤيد الملك. فسار بركيارق إليهم، فترجلوا، وقبلوا الأرض، وعادوا معه إلى بغداد، وأعاد إلى كوهرائين جميع ما كان أخذ له من سلاح ودواب وغير ذلك، واستوزر بركيارق ببغداد الأعز أبا المحاسن عبد الجليل بن علي بن محمد الدهستاني، وقبض على عميد الدولة ابن جهير، وزير الخليفة، وطالبه بالحاصل من ديار بكر والموصل لما تولاها هو وأبوه أيام ملكشاه، فاستقر الأمر على مائة ألف دينار وستين ألف دينار يحملها إليه، وخلع الخليفة السلطان بركيارق.
ذكر الوقعة بين السلطانين بركيارق ومحمد وإعادة خطبة محمد ببغدادفي هذه السنة سار بركيارق من بغداد على شهرزور، فأقام بها ثلاثة أيام، والتحق به عالم كثير من التركمان وغيرهم، فسار نحو أخيه السلطان محمد ليحاربه، فكاتبه رئيس همذان ليسير إليها ويأخذ أقطاع الأمراء الذين مع أخيه، فلم يفعل، وسار نحو أخيه، فوقعت الحرب بينهم رابع رجب، وهو المصاف الأول بين بركيارق وأخيه السلطان محمد بإسبيذروذ، ومعناه النهر الأبيض، وهو على عدة فراسخ من همذان.
وكان مع محمد نحو عشرين ألف مقاتل، وكان محمد في القلب، ومعه الأمير سرمز، وعلى ميمنته أمير آخُر، وابنه إباز، على ميسرته مؤيد الملك، والنظامية، وكان السلطان بركيارق في القلب، ووزيره الأعز أبو المحاسن، وعلى ميمنته كوهرائين وعز الدولة بن صدقة بن مزيد، وسرخاب بن بدر، وعلى ميسرته كربوقا وغيره، فحمل كوهرائين من ميمنة بركيارق على ميسرة محمد، وبها مؤيد الملك، والنظامية، فانهزموا، ودخل عسكر بركيارق في خيامهم، فنهبوهم، وحملت ميمنة محمد على ميسرة بركيارق، فانهزمت الميسرة، وانضافت ميمنة محمد إليه في القلب على بركيارق، ومن معه، فانهزم بركيارق، ووقف محمد مكانه، وعاد كوهرائين من طلب المنهزمين الذين انهزموا بين يديه، وكبا به فرسه، فأتاه خراساني فقتله، وأخذ رأسه، وتفرقت عساكر بركيارق، وبقي في خمسين فارساً.
وأما وزيره الأعز أبو المحاسن فإنه أخذ أسيراً، فأكرمه مؤيد الملك بن نظام الملك، ونصب له خيماً وخركاة، وحمل إليه الفرش والكسوة، وضمنه عمادة بغداد، وأعاده إليها، وأمره بالمخاطبة في إعادة الخطبة للسلطان محمد ببغداد، فلما وصل إليها خاطب في ذلك، فأجيب إليه وخطب له يوم الجمعة رابع عشر رجب.
ذكر قتل سعد الدولة كوهرائينفي هذه السنة، في رجب قتل سعد الدولة كوهرائين في الحرب المذكورة قبل، وكان ابتداء أمره أنه كان خادماً للملك أبي كاليجار بن سلطان الدولة بن بويه، انتقل إليه من امرأة من قرقوب بخوزستان، وكان إذا توجه إلى الأهواز حضر عندها، واستعرض حوائجها، وأصاب أهلها منه خيراً كثيراً، فأرسله أبو كاليجار مع ابنه أبي نصر إلى بغداد، فلما قبض عليه السلطان طغرلبك مضى معه إلى قلعة طبرك، فلما مات أبو نصر انتقل إلى خدمة السلطان ألب ارسلان، ووقاه بنفسه لما جرحه يوسف الخوارزمي.
وكان ألب أرسلان قد أقطعه واسط، وجعله شحنة لبغداد، فلما قتل ألب أرسلان أرسله ابنه ملكشاه إلى بغداد، فأحضر له الخلع والتقليد، ورأى ما لم يره خادم قبله من نفوذ الأمر، وتمام القدرة، وطاعة أعيان الأمراء، وخدمتهم إياه، وكان حليماً، كريماً، حسن السيرة، لم يصادر أحداً من أهل ولايته، ومناقبه كثيرة.
ذكر حال السلطان بركيارق بعد الهزيمةوانهزامه من أخيه سنجر أيضاً وقتل أمير داذ حبشي
لما انهزم السلطان بركيارق من أخيه السلطان محمد سار قليلاً، وهو في خمسين فارساً، ونزل عتمة، واستراح، وقصد الري، وأرسل إلى من كان يعلم أنه يريده، ويؤثر دولته، فاستدعاه، فاجتمع معه جمع صالح، فسار إلى اسفرايين، وكاتب أمير داذ حبشي نب التونتاق، وهو بدامغان، يستدعيه، فأجابه يشير عليه بالمقام بنيسابور حتى يأتيه، وكان حينئذ أكثر خراسان وطبرستان وجرجان، فلما وصل بركيارق إلى نيسابور قبض على رؤياتها، وخرج بهم، وأطلقهم بعد ذلك، وتمسك بعميد خراسان أبي محمد، وأبي القاسم بن أبي المعالي الجويني. فأما أبو القاسم فمات مسموماً في قبضه، وقد تقدم أنه قتل سنة اثنتين وتسعين.

وعاد بركيارق فاستدعى أمير داذ، فاعتذر بقصد السلطان سنجر بلاده في عساكر بلخ، ويسأل السلطان بركيارق أن يصل إليه ليعينه على الملك سنجر، فسار إليه في ألف فارس، فلم يعلم بقدومه إلا الأمراء الكبار من أصحاب سنجر، ولم يعلموا الأصاغر لئلا ينهزموا.
وكان مع أمير داذ عشرون ألف فارس، فيهم من رجالة الباطنية خمسة آلاف، ووقع المصاف بين بركيارق وأخيه سنجر خارج النوشجان، وكان الأمير بزغش في ميمنة سنجر، والأمير كندكز في ميسرته، والأمير رستم في القلب، فحمل بركيارق على رستم فطعنه فقتله، وانهزم أصحابه وأصحاب سنجر، واشتغل العسكر بالنهب، فحمل عليهم بزغش وكندكز، فقتلا المنهزمين، وانهزم الرجالة إلى مضيق بين جبلين، فأرسل عليهم الماء فأهلكهم، ووقعت الهزيمة على أصحاب بركيارق، وكان قد أخذ والدة أخيه سنجر لما انهزم أصحابه أولاً، فخافت أن يقتلها بأمه، فأحضرها وطيب قلبها، وقال: إنما أخذتك حتى يطلق أخي سنجر من عنده من الأسرى، ولست كفؤاً لوالدتي حتى أقتلك. فلما أطلق سنجر الأسرى أطلقها بركيارق.
وهرب أمير داذ إلى بعض القرى، وأخذه بعض التركمان، فأعطاه في نفسه مائة ألف دينار، فلم يطلقه، وحمله إلى بزغش فقتله.
وسار بركيارق إلى جرجان ثم إلى دامغان، وسار في البرية، ورؤي في بعض المواضع ومعه سبعة عشر فارساً، وجمازة واحدة، ثم كثر جمعه، وصار معه ثلاثة آلاف فارس، منهم: جاولي سقاووا، وغيره، وسار إلى أصبهان بمكاتبة من أهلها، فسمع السلطان محمد، فسبقه إليها، فعاد إلى سميرم.
ذكر فتح تميم بن المعز مدينة سفاقسفي هذه السنة فتح تميم بن المعز مدينة سفاقس، وكان صاحبها حمو دق عاد فتغلب عليها، واشتد أمره بوزير كان عنده قد قصده، وهو من كتاب المعز، كان حسن الرأي والتدبير، فاستقامت به دولته، وعظم شأنه، فأرسل إليه تميم يطلبه ليستخدمه، ووعده، وبالغ في استمالته، فلم يقبل، فسير تميم جيشاً إلى حصار سفاقس، وأمر الأمير الذي جعله مقدم الجيش أن يهدم ما حول المدينة ويحرقه، ويقطع الأشجار سوى ما يتعلق بذلك الوزير فإنه لا يتعرض له، ويبالغ في صيانته، ففعل ذلك، فلما رأى حمو ما فعل بأملاك الناس، ما عدا الوزير، اتهمه، فقتله، فانحل نظام دولته، وتسلم عسكر تميم المدينة، وخرج حمو منها، وقصد مكن بن كامل الدهماني، فأقام عنده، فأحسن إليه، ولم يزل عنده حتى مات.
ذكر عزل عميد الدولة من وزارة الخليفة ووفاتهلما أطلق مؤيد الدولة، وزير السلطان محمد، الأعز أبا المحاسن، وزير بركيارق، وضمنه عمادة بغداد، أمره أن يخاطب الخليفة بعزل وزيره عميد الدولة بن جهير، فسار من العسكر، وسمع عميد الدولة الخبر، فأمر أصبهبذ صباوة بن خمارتكين بالخروج إلى طريق الأعز وقتله.
وكان أصبهبذ قد حضر الحرب مع بركيارق، ولما انهزم العسكر قصد بغداد، فخرج إلى طريق الأعز أبي المحاسن، فلقيه قريباً من بعقوبا، فأوقع بمن معه، والتجأ الأعز إلى القرية واحتمى، فلما رأى أصبهبذ صباوة ذلك أرسل إليه يقول له: إنك وزير السلطان بركيارق، وأنا مملوكه، فإن كنت على خدمته فاخرج إلينا حتى نسير إلى بغداد ونقيم الخطبة للسلطان، وأنت الصاحب الذي لا يخالف، وإن لم تجب إلى هذا، فما بيننا غير السيف. فأجابه الأعز إلى ذلك، واجتمعا، فعرفه صباوة الذي أمره به عميد الدولة من قتله، وباتا تلك الليلة، وأرسل الأعز إلى الأمير إيلغازي بن أرتق، وكان قد ورد في صحبته، وفارقه نحو الراذان، فحضر في الليل، فانقطع حينئذ أمل صباوة منه، وفارقه.
وسار الأعز إلى بغداد وخاطب في عزل عميد الدولة، فعزل في رمضان، وأخذ من ماله خمسة وعشرون ألف دينار، وقبض عليه وعلى إخوته، وبقي معزولاً إلى سادس عشر شوال، فتوفي محبوساً في دار الخلافة، ومولده في المحرم سنة خمس وثلاثين وأربعمائة، وكان عاقلاً، كريماً، حليماً، إلا أنه كان عظيم الكبر، يكاد يعد كلامه عداً، وكان إذا كلم إنساناً كلمات يسيرة هنيء ذلك الرجل بكلامه.
ذكر ظفر المسلمين بالفرنج

في ذي القعدة من هذه السنة لقي كمشتكين بن الدانشمند طايلو، وإنما قيل له ابن الدانشمند لأن أباه كان معلماً للتركمان وتقلبت به الأحوال، حتى ملك، وهو صاحب ملطية وسيواس وغيرهما، بيمند الفرنجي، وهو من مقدمي الفرنج، قريب ملطية، وكان صاحبها قد كاتبه، واستقدمه إليه، فورد عليه في خمسة آلاف، فلقيهم ابن الدانشمند، فانهزم بيمند وأسر.
ثم وصل من البحر سبعة قمامصة من الفرنج، وأرادوا تخليص بيمند، فأتوا إلى قلعة تسمى أنكورية، فأخذوها وقتلوا من بها من المسلمين، وساروا إلى قلعة أخرى فيها إسماعيل بن الدانشمند، وحصروها، فجمع ابن الدانشمند جمعاً كثيراً، ولقي الفرنج، وجعل له كميناً، وقاتلهم، وخرج الكمين عليهم، فلم يفلت أحد من الفرنج، وكانوا ثلاثمائة ألف، غير ثلاثة آلاف هربوا ليلاً وأفلتوا مجروحين.
وسار ابن الدانشمند إلى ملطية، فملكها وأسر صاحبها، ثم خرج إليه عسكر الفرنج من أنطاكية، فلقيهم وكسرهم، وكانت هذه الوقائع في شهور قريبة.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة زاد العيارين بالجانب الغربي من بغداد، في شعبان، وعظم ضررهم، فأمر الخليفة كمال الدولة يمن بتهذيب البلد، فأخذ جماعة من أعيانهم، وطلب الباقين فهربوا.
وفيها أيضاً انحلت الأسعار بالعراق، وكان كر الحنطة قد بلغ سبعين ديناراً، وربما زاد كثيراً في بعض الأوقات، وانقطعت الأمطار، ويبست الأنهار، وكثر الموت، حتى عجزوا عن دفن الموتى، فحمل في بعض الأوقات ستة أموات على نعش واحد، وعدمت الأدوية والعقاقير.
وفيها، في رجب، سار بيمند الفرنجي، صاحب أنطاكية، إلى قلعة أفامية، فحصرها، وقاتل أهلها أياماً، وأفسد زروعها ثم رحل عنها.
وفيها. في آخر رمضان، قتل الأمير بلكابك سرمز بأصبهان، بدار السلطان محمد، وكان كثير الاحتياط من الباطنية لا يفارقه لبس الدرع ومن يمنع عنه، ففي ذلك اليوم لم يلبس درعاً، ودخل دار السلطان في قلة، فقتله الباطنية، فقتل واحد ونجا آخر.
وفيها توفي أبو الحسن البسطامي الصوفي، ورباطه مشهور على دجلة غربي بغداد، بناه أبو الغنائم بن المحلبان.
وفيها مات أبو نصر بن أبي عبد الله بن جردة، وأصله من عكبرا، وإليه ينسب مسجد ابن جردة، وخرابة ابن جردة ببغداد.
وفيها توفي أبو علي يحيى نب جزلة الطبيب، وكان نصرانياً فأسلم، وهو مصنف كتاب المنهاج.
وفيها، في شوال، توفي عبد الرزاق الصوفي، الغزنوي، المقيم برباط عتاب، وحج عدة حجات على التجريد، ولم يخلف ما تكفن فيه، فقالت زوجته: إذا مت افتضحنا، قال: لم نفتضح؟ قالت: لأنك ليس لك ما تكفن فيه. فقال: إنما أفتضح إذا خلفت ما أكفن فيه.
وفيها، في رمضان، توفي عز الدولة أبو المكارم محمد بن سيف الدولة صدقة بن مزيد.
ثم دخلت سنة أربع وتسعين وأربعمائة
ذكر الحرب بين السلطانين بركيارق ومحمد
وقتل مؤيد الملك
في هذه السنة، ثالث جمادى الآخرة، كان المصاف الثاني بين السلطان بركيارق والسلطان محمد، وقد ذكرنا سنة ثلاث وتسعين انهزام السلطان بركيارق من أخيه السلطان محمد، وتنقله في البلاد، إلى أصبهان، وأنه لم يدخلها، وسار منها إلى خوزستان، وأتى عسكر مكرم، فأتاه الأميران زنكي والبكي ابنا برسق، وصارا معه، وأقام بها شهرين، وسار منها إلى همذان، فاتصل به الأمير إياز.
وكان سبب ذلك أن أمير آخر قد مات مذ قريب، فاتهم إياز مؤيد الملك بأنه سقاه السم، وقوى ذلك عنده أن وزير أمير آخر هرب عقيب موته، فازداد ظن إياز باتهامه، فظفر بالوزير، فقتله.
وكان إياز قد اتخذ أمير آخر ولداً، واتصل به العسكر، ووصى له بجميع ماله، فحين استوحش لهذا السبب كاتب السلطان بركيارق، واتصل به، ومعه خمسة آلاف فارس، وصار من جملة عسكره.
وسار السلطان محمد إلى لقاء أخيه، فلما تقارب العسكران استأمن الأمير سرخاب بن كيخسرو، صاحب آوة، إلى السلطان بركيارق، فأكرمه. ووقع المصاف ثالث جمادى الآخرة، وكان مع السلطان بركيارق خمسون ألفاً، ومع أخيه السلطان محمد خمسة عشر ألفاً، فالتقوا، فاقتتلوا يومهم أجمع، وكان النفر بعد النفر يستأمنون من عسكر محمد إلى بركيارق، فيحسن إليهم.

ومن العجب الدال على الظفر أن رجالة بركيارق احتاجوا إلى تراس، فوصل إليه يوم المصاف بكرة اثنا عشر حملاً سلاحاً من همذان منها ثمانية أحمال تراس، ففرقت فيهم، فلما وصلت نزل السلطان بركيارق، وصلى ركعتين شكراً لله تعالى.
ولم يزل القتال بينهم إلى آخر النهار، فانهزم السلطان محمد وعسكره، وأسر مؤيد الملك، أسره غلام لمجد الملك البلاساني وأحضر عند السلطان بركيارق، فسبه، وأوقفه على ما اعتمده معه من سب والدته مرة، ونسبته إلى مذهب الباطنية أخرى، ومن حمل أخيه محمد على عصيانه، والخروج عن طاعته إلى غير ذلك، ومؤيد الملك ساكت لا يعيد كلمة، فقتله بركيارق بيده، وألقي على الأرض عدة أيام، حتى سأل الأمير إياز في دفنه، فأذن فيه، فحمل إلى تربة أبيه بأصبهان فدفن معه.
وكان بخيلاً، سيء السيرة مع الأمراء، إلا أنه كان كثير المر والحيل في إصلاح أمر الملك، وكان عمره لما قتل نحو خمسين سنة.
وكان السلطان بركيارق قد استوزر في صفر الأعز أبا المحاسن عبد الجليل ابن علي الدهستاني، فلما قتل مؤيد الملك أرسل الوزير أبو المحاسن رسولاً إلى بغداد، وهو أبو إبراهيم الأسداباذي، لأخذ أموال مؤيد الملك، فنزل ببغداد بدار مؤيد الملك، وسلم إليه محمد الشرابي، وهو ابن خالة مؤيد الملك، فأخذت منه الأموال والجواهر بعد مكروه أصابه، وعذاب ناله، وأخذ له ذخائر من مواضع أخر ببلاد العجم منها: قطعة بلخش، وزنها واحد وأربعون مثقالاً.
ولما فرغ السلطان بركيارق من هذه الوقعة سار إلى الري. فوصل إليه هناك قوام الدولة كربوقا، صاحب الموصل، ونور الدولة دبيس بن صدقة بن مزيد.
ذكر حال السلطان محمد بعد الهزيمة
واجتماع بأخيه الملك سنجر
لما انهزم السلطان محمد، سار طالباً خراسان إلى أخيه سنجر، وهما لأم واحدة، فأقام بجرجان، وراسل أخاه يطلب منه مالاً وكسوة، وغير ذلك، فسير إليه ما طلب، وترددت الرسل بينهما، حتى تحالفا واتفقا.
ولم يكن بقي مع السلطان محمد غير أميرين في نحو ثلاثمائة فارس، فلما استقرت القواعد بينهما سار الملك سنجر من خراسان في عساكره نحو أخيه السلطان محمد، فاجتمعا بجرجان، وسارا منها إلى دامغان، فخربها العسكر الخراساني، ومضى أهلها هاربين إلى قلعة كردكوه، وخرب العسكر ما قدروا عليه من البلاد، وعم الغلاء تلك الأصقاع، حتى أكل الناس الميتة والكلاب، وأكل الناس بعضهم بعضاً، وسارا إلى الري، فلما وصلا إليها انضم إليهما النظامية وغيرهم، فكثر جمعهما، وعظمت شوكتهما، وتمكنت من القلوب هيبتهما.
ذكر ما فعله السلطان بركيارق ودخوله بغدادلما كان السلطان بركيارق بالري، بعد انهزام أخيه محمد، اجتمعت عليه العساكر الكثيرة، فصار معه نحو مائة ألف فارس، ثم إنهم ضاقت عليهم الميرة، فتفرقت العساكر، فعاد دبيس بن صدقة إلى أبيه، وخرج الملك مودود بن إسماعيل بن ياقوتي بأذربيجان، فسير إليه قوام الدولة كربوقا في عشرة آلاف فارس، واستأذن الأمير إياز في أن يقصد داره بهمذان يصوم بها شهر رمضان، ويعود بعد الفطر، فأذن له، وتفرقت العساكر لمثل ذلك، وبقي في العدد القليل.
فلما بلغه أن أخويه قد جمعا الجموع، وحشدا الجنود، وأنهما لما بلغهما قلة من معه جدا في المسير إليه، وطويا المنازل ليعاجلاه، قبل أن يجمع جموعه وعساكره، فلما قارباه سار من مكانه، وقد طمع فيه من كان يهابه، وأيس منه من كان يرجوه، فقصد نحو همذان ليجتمع هو وإياز، فبلغه أن إياز قد راسل السلطان محمداً ليكون معه ومن جملة أعوانه، خوفاً على ولايته، وهي همذان وغيرها، فلما سمع ذلك عاد عنها، وقصد خوزستان، فلما قرب من تستر كاتب الأمراء بني برسق يستدعيهم إليه، فلم يحضروا لما علموا أن إياز لم يحضر، وللخوف من السلطان محمد، فسار نحو العراق، فلما بلغ حلوان أتاه رسول الأمير إياز يسأل التوقف ليصل إليه.
وسبب ذلك أن إياز راسل السلطان محمد في الانضمام إليه، والمصير في جملة عسكره، فلم يقبله، وسير العساكر إلى همذان، ففارقها منهزماً، ولحق بالسلطان بركيارق، فأقام السلطان بركيارق بحلوان، ووصل إليه إياز، وساروا جميعهم إلى بغداد.

وأخذ عسكر محمد ما تخلف للأمير إياز بهمذان من مال، ودواب، وبرك، وغير ذلك، فإنه أعجل عنه، وكان من جملته خمسمائة حصان عربية، قيل كان يساوي كل حصان منها ما بين ثلاثمائة دينار إلى خمسمائة دينار، ونهبوا داره، وصادروا جماعة من أصحابه، وصودر رئيس همذان بمائة ألف دينار.
ولما وصل إياز إلى بركيارق تكاملت عدتهم خمسة آلاف فارس، وقد ذهبت خيامهم وثقلهم، ووصل بركيارق إلى بغداد سابع عشر ذي القعدة، وأرسل الخليفة إلى طريقه يلتقيه أمين الدولة بن موصلايا في الموكب، ولما كان عيد الأضحى نفذ الخليفة منبراً إلى دار السلطان، وخطب عليه الشريف أبو الكرم، وصلى صلاة العيد، ولم يحضر بركيارق لأنه كان مريضاً.
وضاقت الأموال على بركيارق، فلم يكن عنده ما يخرجه على نفسه وعلى عساكره، فأرسل إلى الخليفة يشكو الضائقة وقلة المال، ويطلب أن يعان بما يخرجه، فتقرر الأمر بعد المراجعات على خمسين ألف دينار، حملها الخليفة إليه، ومد بركيارق وأصحابه أيديهم إلى أموال الناس، فعم ضررهم، وتمنى أهل البلاد زوالهم عنهم، ودعتهم الضرورة إلى أن ارتكبوا خطة شنعاء، وذلك أنه قدم عليهم أبو محمد عبيد الله بن منصور، المعروف بابن صليحة، قاضي جبلة من بلاد الشام وصاحبها، منهزماً من الفرنج، على ما نذكره، ومعه أموال جليلة المقدار، فأخذوها منه.
ذكر خلاف صدقة بن مزيد على بركيارقفي هذه السنة خرج الأمير صدقة بن منصور بن دبيس بن مزيد، صاحب الحلة، عن طاعة السلطان بركيارق، وقطع خطبته من بلاده، وخطب فيه للسلطان محمد.
وسبب ذلك أن الوزير الأعز أبا المحاسن الدهستاني، وزير السلطان بركيارق، أرسل إلى صدقة يقول له: قد تخلف عندك لخزانة السلطان ألف ألف دينار، وكذا وكذا دينار لسنين كثيرة، فإن أرسلتها، وإلا سيرنا العساكر إلى بلادك وأخذناها منك. فلنا سمع هذه الرسالة قطع الخطبة، وخطب لمحمد.
فلما وصل السلطان بركيارق إلى بغداد على هذه الحال أرسل إليه مرة بعد مرة يدعوه إلى الحضور عنده، فلم يجب إلى ذلك، فأرسل إليه الأمير إياز يشير عليه بقصد خدمة السلطان، ويضمن له كل ما يريده، فقال: لا أحضر، ولا أطيع السلطان، إلا إذا سلم وزيره أبا المحاسن إلي، وإن لم يفعل فلا يتصور مني الحضور عنده أبداً، ويكون في ذلك ما يكون، فإن سلمه إلي، فأنا العبد المخلص في العبودية بالحسن والطاعة. فلم يجب إلى ذلك، فتم على مقاطعته، وأرسل إلى الكوفة، وطرد عنها النائب بها عن السلطان واستضافها إليه.
ذكر وصول السلطان محمد إلى بغداد
ورحيل السلطان بركيارق عنها
في هذه السنة، في السابع والعشرين من ذي الحجة، وصل السلطان محمد وسنجر إلى بغداد، وكان السلطان محمد لما استولى على همذان وغيرها سار إلى بغداد، فلما وصل إلى حلوان سار إليه إيلغازي بن أرتق في عساكره، وخدمه، وأحسن في الخدمة، وكان عسكر محمد يزيد على عشرة آلاف فارس سوى الأتباع.
فلما وصلت الأخبار بذلك كان بركيارق على شدة من المرض، يرجف عليه خواصه بكرة وعشياً، فماج أصحابه، وخافوا، واضطربوا، وحاروا، وعبروا به في محفة إلى الجانب الغربي، فنزلوا بالرملة، ولم يبق في بركيارق غير روح يتردد، وتيقن أصحابه موته، وتشاوروا في كفنه، وموضع دفنه.
فبينما هم كذلك إذ قال لهم: إني أجد نفسي قد قويت، وحركتي قد تزايدت، فطابت نفوسهم، وساروا، وقد وصل العسكر الآخر، فتراءى الجمعان بينهما دجلة، وجرى بينهما مراماة وسباب، وكان أكثر ما يسبهم عسكر يا باطنية، يعيرونهم بذلك، ونهبوا البلاد في طريقهم إلى أن وصلوا إلى واسط.
ووصل السلطان محمد إلى بغداد، فنزل بدار المملكة، فبرز إليه توقيع الخليفة المستظهر بالله يتضمن الامتعاض من سوء سيرة بركيارق ومن معه، والاستبشار بقدومه، وخطب به بالديوان، ونزل الملك سنجر بدار كوهرائين، وكان محمد قد استوزر بعد مؤيد الملك خطير الملك أبا منصور محمد بن الحسين، وقدم إليه في المحرم سنة خمس وتسعين الأمير سيف الدولة صدقة، وخرج الخلق كلهم إلى لقائه.
ذكر حال قاضي جبلة

هو أبو محمد عبيد الله بن منصور المعروف بابن صليحة، وكان والده رئيسها أيام كان الروم مالكين لها على المسلمين، يقضي بينهم، فلما ضعف أمر الروم، وملكها المسلمون، وصارت تحت حكم جلال الملك أبي الحسن علي بن عمار، صاحب طرابلس، وكان منصور على عادته في الحكم فيها. فلما توفي منصور قام ابنه أبو محمد مقامه، وأحب الجندية، واختار الجند، فظهرت شهامته، فأراد ابن عمار أن يقبض عليه، فاستشعر منه، وعصى عليه، وأقام الخطبة العباسية، فبذل ابن عمار لدقاق بن تتش مالاً ليقصده ويحصره، ففعل، وحصره، فلم يظفر منه بشيء، وأصيب صاحبه أتابك طغتكين بنشابة في ركبتيه وبقي أثرها.
وبقي أبو محمد بها مطاعاً إلى أن جاء الفرنج، لعنهم الله، فحصروها، فأظهر أن السلطان بركيارق قد توجه إلى الشام، وشاع هذا، فرحل الفرنج، فلما تحققوا اشتغال السلطان عنهم عاودوا حصاره، فأظهر أن المصريين قد توجهوا لحربهم، فرحلوا ثانياً، ثم عادوا، فقرر مع النصارى الذين بها أن يراسلوا الفرنج، ويواعدوهم إلى برج من أبراج البلد ليسلموه إليهم ويملكوا البلد، فلما أتتهم الرسالة جهزوا نحو ثلاثمائة رجل من أعيانهم وشجعانهم، فتقدموا إلى ذلك البرج، فلم يزالوا يرقون في الحبال، واحداً بعد واحد، وكلما صار عند ابن صليحة، وهو على السور، رجل منهم قتله إلى أن قتلهم أجمعين، فلما أصبحوا رمى الرؤوس إليهم فرحلوا عنه.
وحصروه مرة أخرى، ونصبوا على البلد برج خشب، وهدموا برجاً من أبراجه، وأصبحوا وقد بناه أبو محمد، ثم نقب في السور نقوباً، وخرج من الباب وقاتلهم، فانهزم منهم، وتبعوه، فخرج أصحابه من تلك النقوب، فأتوا الفرنج من ظهورهم، فولوا منهزمين وأسر مقدمهم المعروف بكند اصطبل، فافتدى نفسه بمال جزيل.
ثم علم أنهم لا يقعدون عن طلبه، وليس له من يمنعهم عنه، فأرسل إلى طغتكين أتابك يلتمس منه إنفاذ من يثق به ليسلم إليه ثغر جبلة، ويحميه ليصل هو إلى دمشق بماله وأهله، فأجابه إلى ما التمس، وسير إليه ولده تاج الملوك بوري، فسلم إليه البلد، ورحل إلى دمشق، وسأله أن يسيره إلى بغداد، ففعل، وسيره ومعه من يحميه إلى أن وصل إلى الأنبار.
ولما صار بدمشق أرسل ابن عمار صاحب طرابلس إلى الملك دقاق، وقال: سلم إلي ابن صليحة عرياناً، وخذ ماله أجمع، وأنا أعطيك ثلاثمائة ألف دينار، فلم يفعل. فلما وصل إلى الأنبار أقام بها أياماً، ثم سار إلى بغداد، وبها السلطان بركيارق، فلما وصل أحضره الوزير الأعز أبو المحاسن عنده، وقال له: السلطان محتاج، والعساكر يطالبونه بما ليس عنده، ونريد منك ثلاثين ألف دينار، وتكون له منة عظيمة، تستحق بها المكافأة والشكر. فقال: السمع والطاعة، ولم يطلب أن يحط شيئاً، وقال: إن رحلي ومالي في الأنبار بالدار التي نزلتها، فأرسل الوزير إليها جماعة، فوجدوا فيها مالاً كثيراً، وأعلاقاً نفيسة، فمن جملة ذلك ألف ومائة قطعة مصاغ عجيب الصنعة، ومن الملابس والعمائم التي لا يوجد مثلها شيء كثير.
كان ينبغي أن نذكر هذه الحوادث التي بعد انهزام السلطان محمد إلى ها هنا، بعد قتل الباطنية، فإنها كانت أواخر السنة، وكان قتلهم في شعبان، وإنما قدمناها لنتبع بعض الحادثة بعضاً لا يفصل بينها شيء.
وأما تاج الملوك بوري، فإنه لما ملك جبلة، وتمكن منها، أساء السيرة هو وأصحابه مع أهلها، وفعلوا بهم أفعالاً أنكروها، فراسلوا القاضي فخر الملك أبا علي عمار بن محمد بن عمار، صاحب طرابلس، وشكوا إليه ما يفعل بهم، وطلبوا منه أن يرسل إليهم بعض أصحابه ليسلموا إليه البلد، ففعل ذلك، وسير إليهم عسكراً، فدخلوا جبلة، واجتمعوا بأهلها، وقاتلوا تاج الملوك ومن معه، فانهزم الأتراك، وملك عسكر ابن عمار جبلة وأخذوا تاج الملوك أسيراً، وحملوه إلى طرابلس، فأكرمه ابن عمار، وأحسن إليه، وسيره إلى أبيه بدمشق، واعتذر إليه، وعرفه صورة الحال، وأنه خاف أن يملك الفرنج جبلة.
ذكر قتل الباطنيةفي هذه السنة، في شعبان، أمر السلطان بركيارق بقتل الباطنية، وهم الإسماعيلية وهم الذين كانوا قديماً يسمون قرامطة، ونحن نبتديء بأول أمرهم الآن ثم بسبب قتلهم.

فأول ما عرف من أحوالهم، أعني هذه الدعوة الأخيرة التي اشتهرت بالباطنية، والإسماعيلية، في أيام السلطان ملكشاه، فإنه اجتمع منهم ثمانية عشر رجلاً، فصلوا صلاة العيد في ساوة، ففطن بهم الشحنة، فأخذهم وحبسهم، ثم سئل فيهم فأطلقهم، فهذا أول اجتماع كان لهم.
ثم إنهم دعوا مؤذناً من أهل ساوة كان مقيماً بأصبهان، فلم يجبهم إلى دعوتهم، فخافوه أن ينم عليهم، فقتلوه، فهو أول قتيل لهم، وأول دم أراقوه، فبلغ خبره إلى نظام الملك، فأمر بأخذ من يتهم بقتله، فوقعت التهمة على نجار اسمه طاهر، فقتل، ومثل به، وجروا برجله في الأسواق، فهو أول قتيل منهم، وكان والده واعظاً، وقدم إلى بغداد مع السلطان بركيارق سنة ست وثمانين فحظي منه، ثم قصد البصرة فولي القضاء بها، ثم توجه في رسالة إلى كرمان، فقتله العامة في الفتنة التي جرت، وذكروا أنه باطني.
ثم إن الباطنية قتلوا نظام الملك، وهي أول فتكة مشهورة كانت لهم، وقالوا: قتل نجاراً فقتلناه به.
وأول موضع غلبوا عليه وتحصنوا به بلد عند قاين، كان متقدمه على مذهبهم، فاجتمعوا عنده، وقووا به، فاجتازت بهم قافلة عظيمة من كرمان إلى قاين، فخرج عليهم ومعه أصحابه والباطنية فقتل أهل القفل أجمعين، ولم ينج منهم غير رجل تركماني، فوصل إلى قاين فأخبر بالقصة، فتسارع أهلها مع القاضي الكرماني إلى جهادهم، فلم يقدروا عليهم.
ثم قتل نظام الملك، ومات السلطان ملكشاه، فعظم أمرهم، واشتدت شوكتهم، وقويت أطماعهم.
وكان سبب قوتهم بأصبهان أن السلطان بركيارق لما حصر أصبهان، وبها أخوه محمود، وأمه خاتون الجلالية، وعاد عنهم ظهرت مقالة الباطنية بها، وانتشرت، وكانوا متفرقين في المحال، فاجتمعوا، وصاروا يسرقون من قدروا عليه من مخالفيهم ويقتلونهم، فعلوا هذا بخلق كثير، وزاد الأمر، حتى إن الإنسان كان إذا تأخر عن بيته عن الوقت المعتاد تيقنوا قتله، وقعدوا للعزاء به، فحذر الناس، وصاروا لا ينفرد أحد، وأخذوا في بعض الأيام مؤذناً، أخذه جار له باطني، فقام أهله للنياحة عليه، فأصعده الباطنية إلى سطح داره وأروه أهله كيف يلطمون ويبكون، وهو لا يقدر أن يتكلم خوفاً منهم.
ذكر ما فعل بهم العامة بأصبهانلما عمت هذه المصيبة الناس بأصبهان، أذن الله تعالى في هتك أستارهم، والانتقام منهم، فاتفق أن رجلاً دخل دار صديق له، فرأى فيها ثياباً، ومداسات، وملابس لم يعهدها، فخرج من عنده، وتحدث بما كان، فكشف الناس عنها، فعلموا أنها من المقتولين.
وثار الناس كافة يبحثون عمن قتل منهم، ويستكشفون، فظهروا على الدروب التي هم فيها، وإنهم كانوا إذا اجتاز بهم إنسان أخذوه إلى دار منها وقتلوه وألقوه في بئر في الدار قد صنعت لذلك.
وكان على باب درب منها رجل ضرير، فإذا اجتاز به إنسان يسأله أن يقوده خطوات إلى باب الدرب، فيفعل ذلك، فإذا دخل الدرب أخذ وقتل، فتجرد للانتقام منهم أبو القاسم مسعود بن محمد الخجندي، الفقيه الشافعي، وجمع الجم الغفير بالأسلحة، وأمر بحفر أخاديد، وأوقد فيها النيران، وجعل العامة يأتون بالباطنية أفواجاً ومنفردين، فيلقون في النار، وجعلوا إنساناً على أخاديد النيران وسموه مالكاً، فقتلوا منهم خلقاً كثيراً.
ذكر قلاعهم التي استولوا عليها ببلاد العجمواستولوا على عدة حصون منها قلعة أصبهان، وهذه القلعة لم تكن قديماً، وإنما بناها السلطان ملكشاه.
وسبب بنائها أنه كان أتاه رجل من مقدمي الروم، فأسلم وصار معه، فاتفق أنه سار يوماً إلى الصيد، فهرب منه كلب حسن الصيد، وصعد هذا الجبل، فتبع السلطان والرومي معه، فوجده موضع القلعة، فقال له الرومي: لو أن عندنا مثل هذا الجبل لجعلنا عليه حصناً ننتفع به، فأمر ببناء القلعة، ومنع منها نظام الملك، فلم يقبل قوله، فلما فرغت جعل فيها دزداراً.

فلما انقضت أيام السلطان ملكشاه، وصارت أصبهان بيد خاتون أزالت الدزدار، وجعلت غيره فيها، وهو إنسان ديلمي اسمه زيار، فمات، وصار بالقلعة إنسان خوزي، فاتصل به أحمد بن عطاش، وكان الباطنية قد ألبسوه تاجاً، وجمعواً له أموالاً، وقدموه عليهم مع جهله، وإنما كان أبوه مقدماً فيهم، فلما اتصل بالدزدار بقي معه، ووثق به، وقلده الأمور، فلما توفي الدزدار استولى أحمد بن عطاش عليها، ونال المسلمين منها ضرر عظيم من أخذ الأموال، وقتل النفوس، وقطع الطريق، والخوف الدائم، فكانوا يقولون: إن قلعة يدل عليها كلب، ويشير بها كافر لا بد وأن يكون خاتمة أمرها الشر.
ومنها ألموت، وهي من نواحي قزوين، قيل إن ملكاً من ملوك الديلم كان كثير التصيد، فأرسل يوماً عقاباً، وتبعه، فرآه سقط على موضع هذه القلعة، فوجده موضعاً حصيناً، فأمر ببناء قلعة عليه، فسماها أله موت، ومعناه بلسان الديلم: تعليم العقاب، ويقال لذلك الموضع وما يجاوره طالقان.
وفيها قلاع حصينة أشهرها ألموت، وكانت هذه النواحي في ضمان شرفشاه الجعفري، وقد استناب فيها رجلاً علوياً، فيه بله وسلامة صدر.
وكان الحسن بن الصباح رجلاً شهماً، كافياً، عالماً بالهندسة، والحساب، والنجوم، والسحر، وغير ذلك، وكان رئيس الري إنسان يقال له أبو مسلم، وهو صهر نظام الملك، فاتهم الحسن بن الصباح بدخول جماعة من دعاة المصريين عليه، فخافه ابن الصباح، وكان نظام الملك يكرمه، وقال له يوماً من طريق الفراسة: عن قريب يضل هذا الرجل ضعفاء العوام، فلما هرب الحسن من أبي مسلم طلبه فلم يدركه.
وكان الحسن من جملة تلامذة ابن عطاش، الطبيب الذي ملك قلعة أصبهان، ومضى ابن الصباح فطاف البلاد، ووصل إلى مصر، ودخل على المستنصر صاحبها، فأكرمه، وأعطاه مالاً، وأمره أن يدعو الناس إلى إمامته، فقال له الحسن: فمن الإمام بعدك؟ فأشار إلى ابنه نزار، وعاد من مصر إلى الشام، والجزيرة، وديار بكر، والروم، ورجع إلى خراسان، ودخل كاشغر، وما وراء النهر، يطوف على قوم يضلهم، فلما رأى قلعة ألموت، واختبر أهل تلك النواحي، أقام عندهم، وطمع في إغوائهم، ودعاهم في السر، وأظهر الزهد، ولبس المسح، فتبعه أكثرهم، والعلوي صاحب القلعة حسن الظن فيه، يجلس إليه يتبرك به، فلما أحكم الحسن أمره، دخل يوماً على العلوي بالقلعة، فقال له ابن الصباح: اخرج من هذه القلعة، فتبسم العلوي، وظنه يمزح، فأمر ابن الصباح بعض أصحابه بإخراج العلوي، فأخرجوه إلى دامغان، وأعطاه ماله وملك القلعة.
ولما بلغ الخبر إلى نظام الملك بعث عسكراً إلى قلعة ألموت، فحصروه فيها، وأخذوا عليه الطرق، فضاق ذرعه بالحصر، فأرسل من قتل نظام الملك، فلما قتل رجع العسكر عنها.
ثم إن السلطان محمد بن ملكشاه جهز نحوها العساكر، فحصرها، وسيرد ذكر ذلك إن شاء الله تعالى.
ومنها طبس، وبعض قهستان، وكان سبب ملكهم لها أن قهستان كان قد بقي فيها بقايا من بني سيمجور، أمراء خراسان، أيام السامانية، وكان قد بقي من نسلهم رجل يقال له المنور، وكان رئيساً مطاعاً عند الخاصة والعامة، فلما ولي كلسارغ قهستان ظلم الناس وعسفهم، وأراد أختاً للمنور بغير حل، فحمل ذلك المنور على أن التجأ إلى الإسماعيلية، وصار معهم، فعظم حالهم في قهستان، واستولوا عليها ومن جملتها خور، وخوسف، وزوزن، وقاين، وتون، وتلك الأطراف المجاورة لها.
ومنها قلعة وسنمكوه، ملكوها، وهي بقرب أبهر، سنة أربع وثمانين، وتأذى بهم الناس، لاسيما أهل أبهر، فاستغاثوا بالسلطان بركيارق، فجعل عليها من يحاصرها، فحوصرت ثمانية أشهر، وأخذت منهم سنة تسع وثمانين، وقتل كل من بها عن آخرهم.
ومنها قلعة خالنجان على خمسة فراسخ من أصبهان، كانت لمؤيد الملك بن نظام الملك، وانتقلت إلى جاولي سقاوو، فجعل بها إنساناً تركياً، فصادقه نجار باطني، وأهدى له هدية جميلة، ولزمه حتى وثق به، وسلم إليه مفاتيح القلعة، فعمل دعوة للتركي وأصحابه، فسقاهم الخمر، فأسكرهم، واستدعى ابن عطاش، فجاء في جماعة من أصحابه، فسلم إليهم القلعة، فقتلوا من بها سوى التركي فإنه هرب، وقوي ابن عطاش بها، وصار له على أهل أصبهان القطائع الكثيرة.
ومن قلاعهم المذكورة أستوناوند، وهي بين الري وآمل، ملكوها بعد ملكشاه، نزل منها صاحبها، فقتل وأخذت منه.

ومنها أردهن، وملكها أبو الفتوح ابن أخت الحسن بن الصباح.
ومنها كردكوة وهي مشهورة.
ومنها قلعة الناظر بخوزستان، وقلعة الطنبور وبينها وبين أرجان فرسخان أخذها أبو حمزة الإسكاف، وهو من أهل أرجان، سافر إلى مصر، وعاد داعية لهم.
وقلعة خلادخان، وهي بين فارس وخوزستان، وأقام بها المفسدون نحو مائتي سنة يقطعون الطريق حتى فتحها عضد الدولة بن بويه، وقتل من بها.
فلما صارت الدولة لملكشاه أقطعها الأمير أنر، فجعل بها دزداراً، فأنفذ إليه الباطنية الذين بأرجان يطلبون مه بيعها فأبى، فقالوا له: نحن نرسل إليك من يناظرك حتى يظهر لك الحق، فأجابهم إلى ذلك، فأرسلوا إليه إنساناً ديلمياً يناظره، وكان للدزدار مملوك قد رباه، وسلم إليه مفاتيح القلعة، فاستماله الباطني، فأجابه إلى القبض على صاحبه، وتسليم القلعة إليهم، فقبض عليه، وسلم القلعة إليهم، ثم أطلقه، واستولوا بعد ذلك على عدة قلاع هذه أشهرها.
ذكر ما فعله جاولي سقاووا بالباطنيةفي هذه السنة قتل جاولي سقاوو خلقاً كثيراً منهم.
وسبب ذلك أن هذا الأمير كانت ولايته البلاد التي بين رامهرمز وأرجان.
فلما ملك الباطنية القلاع المذكورة بخوزستان وفارس، وعظم شرهم، وقطعوا الطريق بتلك البلاد، واقف جماعة من أصحابه، حتى أظهروا الشغب عليه، وفارقوه، وقصدوا الباطنية، وأظهروا أنهم معهم، وعلى رأيهم، فأقاموا عندهم حتى وثقوا بهم.
ثم أظهر جاولي أن الأمراء بني برسق يريدون قصده وأخذ بلاده، وأنه عازم على مفارقتها لعجزه عنهم، والمسير إلى همذان، فلما ظهر ذلك وسار قال من عند الباطنية من أصحابه ممن لهم الرأي: إننا نخرج إليه طريقه ونأخذه وما معه من الأموال، فساروا إليه في ثلاثمائة من أعيانهم وصناديدهم، فلما التقوا صار من معهم من أصحاب جاولي عليهم، ووضعوا السيف فيهم فلم يفلت منهم سوى ثلاثة نفر، صعدوا إلى الجبل وهربوا، وغنم جاولي ما معهم من دواب، وسلاح، وغير ذلك.
ذكر قتل صاحب كرمان الباطني
وملك غيره
كان تيرانشاه بن تورانشاه بن قاورت بك هو الذي قتل الأتراك الإسماعيلية، وليسوا منسوبين إلى هذه الطائفية الباطنية، إنما نسبوا إلى أمير اسمه إسماعيل، وكانوا من أهل السنة، قتل منهم ألفي رجل صبراً، وقطع أيدي ألفين، ووفد عليه إنسان يقال له: أبو زرعة، كان كاتباً بخوزستان، فحسن له مذهب الباطنية، فأجاب إليه.
وكان عنده فقيه حنفي يقال له: أحمد بن الحسين البلخي، كان مطاعاً في الناس، فأحضره عنده ليلاً، وأطال الجلوس معه، فلما خرج من عنده أتبعه بمن قتله، فلما أصبح الناس دخلوا عليه، وفيهم صاحب جيشه، فقال لتيرانشاه: أيها الملك من قتل هذا الفقيه؟ فقال: أنت شحنة البلد، تسألني من قتله؟ فقال: أنا أعرف قاتله! ونهض من عنده، ففارقه في ثلاثمائة فارس، وسار إلى أصبهان، فأرسل في أثره ألفي فارس ليردوه، فقاتلهم، وهزمهم، وسار إلى أصبهان، وبها السلطان محمد ومؤيد الملك، فأكرمه السلطان، وقال: أنت والد الملوك.
وامتعض عسكر كرمان بعد مسيره، واجتمعوا، وقاتلوا تيرانشاه، وأخرجوه عن مدينة بردسير التي هي مدينة كرمان، فلما فارقها اتفق القاضي والجند، وأقاموا أرسلانشاه بن كرمانشاه بن قاورت بك، وسار تيرانشاه إلى مدينة بم من كرمان، فحاربه أهلها ومنعوه منها، وأخذوا ما معه من أموال وجواهر، وقصد قلعة سميرم وتحصن بها، وفيها أمير يعرف بمحمد بهستون، فأرسل أرسلانشاه جيشاً حصروا القلعة، فقال محمد بهستون لتيرانشاه: انصرف عني، فلست أرى الغدر بك، وأنا رجل مسلم، ومقامك عندي يؤذيني، وأتهم بك في ديني. فلما عزم على الخروج أرسل محمد بهستون إلى مقدم الجيش الذي يحاصرونهم يعلمه بمسير تيرانشاه، فجرد عسكراً إلى طريقه، فخرجوا عليه، وأخذوه وما معه، وأخذوا أيضاً أبا زرعة، فأرسل أرسلانشاه فقتلهما، وتسلم جميع بلاد كرمان.
ذكر السبب في قتل بركيارق الباطنيةلما اشتد أمر الباطنية، وقويت شوكتهم، وكثر عددهم، صار بينهم وبين أعدائهم ذحول وإحن، فلما قتلوا جماعة من الأمراء الأكابر، وكان أكثر من قتلوا من هو في طاعة محمد، مخالف للسلطان بركيارق، مثل شحنة أصبهان سرمز، وأرغش، وكمش النظاميين، وصهره، وغيرهم، نسب أعداء بركيارق ذلك إليه، واتهموه بالميل إليهم.

فلما ظفر السلطان بركيارق، وهزم أخاه السلطان محمداً، وقتل مؤيد الملك وزيره، انبسط جماعة منهم في العسكر، واستغووا كثيراً منهم، وأدخلوهم في مذهبهم، وكادوا يظهرون بالكثرة والقوة، وحصل بالعسكر منهم طائفة من وجوههم، وزاد أمرهم، فصاروا يتهددون من لا يوافقهم بالقتل، فصار يخافهم من يخالفهم، حتى إنهم لم يتجاسر أحد منهم، لا أمير ولا متقدم، على الخروج من منزله حاسراً بل يلبس تحت ثيابه درعاً، حتى إن الوزير الأعز أبا المحاسن كان يلبس زردية تحت ثيابه، واستأذن السلطان بركيارق خواصه في الدخول عليه بسلاحهم، وعرفوه خوفهم ممن يقاتلهم، فأذن لهم في ذلك.
وأشاروا على السلطان أن يفتك بهم قبل أن يعجز عن تلافي أمرهم، وأعلموه ما يتهمه الناس به من الميل إلى مذهبهم، حتى إن عسكر أخيه السلطان محمد يشنعون بذلك، وكانوا في المصاف يكبرون عليهم، ويقولون يا باطنية. فاجتمعت هذه البواعث كلها، فأذن السلطان في قتلهم، والفتك بهم، وركب هو والعسكر معه، وطلبوهم، وأخذوا جماعة من خيامهم ولم يفلت منهم إلا من لم يعرف.
وكان ممن اتهم بأنه مقدمهم الأمير محمد بن دشمنزيار بن علاء الدولة أبي جعفر بن كاكويه، صاحب يزد، فهرب، وسار يومه وليلته، فلما كان اليوم الثاني وجد في العسكر قد ضل الطريق ولا يشعر، فقتل، وهذا موضع المثل: " أتتك بحائن رجلاه " ، ونهبت خيامه، فوجد عنده السلاح المعد، وأخرج الجماعة المتهمون إلى الميدان فقتلوا، وقتل منهم جماعة براء لم يكونوا منهم سعى بهم أعداؤهم، وفيمن قتل ولد كيقباذ، مستحف
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://arabelalekat.yoo7.com
الشيخ عودة
الشيخ عودة
الشيخ عودة



عدد المساهمات : 1748
تاريخ التسجيل : 28/09/2008
العمر : 74

كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير - صفحة 7 Empty
مُساهمةموضوع: رد: كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير   كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير - صفحة 7 Emptyالثلاثاء فبراير 25, 2014 11:16 am

ذكر وفاة المستعلي بالله
وولاية الآمر بأحكام الله
في هذه السنة توفي المستعلي بالله أبو القاسم أحمد بن معد المستنصر بالله العلوي، الخليفة المصري، لسبع عشرة خلت من صفر، وكان مولده في العشرين من شعبان سنة سبع وستين وأربعمائة، وكانت خلافته سبع سنين وقريب شهرين، وكان المدبر لدولته الأفضل.
ولما توفي ولي بعده ابنه أبو علي المنصور، ومولده ثالث عشر المحرم سنة تسعين وأربعمائة، وبويع له بالخلافة في اليوم الذي مات فيه أبوه، وله خمس سنين وشهر وأربعة أيام، ولقب الآمر بأحكام الله، ولم يكن من تسمى بالخلافة قط أصغر منه ومن المستنصر، وكان المستنصر أكبر من هذا، ولم يقدر يركب وحده على الفرس لصغر سنه، وقام بتدبير دولته الأفضل ابن أمير الجيوش أحسن قيام، ولم يزل كذلك يدبر الأمر إلى أن قتل سنة خمس عشرة وخمسمائة.
ذكر الحرب بين السلطان بركيارق والسلطان محمد والصلح بينهمافي هذه السنة، في صفر، كان المصاف الثالث بين السلطانين بركيارق ومحمد.

قد ذكرنا سنة أربع وتسعين قدوم السلطان محمد إلى بغداد، ورحيل السلطان بركيارق عنها إلى واسط مريضاً، فأقام السلطان محمد ببغداد إلى سابع عشر المحرم من هذه السنة، وسار عنها هو وأخوه السلطان سنجر عائدين إلى بلادهما، وسنجر يقصد خراسان، والسلطان محمد يقصد همذان. فلما سار محمد عن بغداد وصلت الأخبار أن بركيارق قد اعترض خاص الخليفة بواسط وسمع منه في حق الخليفة ما يقبح نقله، فأرسله الخليفة وأعاد السلطان محمداً إلى بغداد، وذكر له ما نقل إليه، وعزم على الحركة مع محمد إلى قتال بركيارق، فقال السلطان محمد: لا حاجة إلى حركة أمير المؤمنين، فإني أقوم في هذا القيام المرضي. وسار عائداً، ورتب ببغداد أبا المعالي المفضل ابن عبد الرزاق في جباية الأموال وإيلغازي شحنة.
وكان لما دخل بغداد قد خلف عسكره بطريق خراسان، فنهبوا البلاد وخربوها، فأخذهم السلطان محمد معه، وجد السير إلى روذراور.
وأما السلطان بركيارق فقد تقدم سنة أربع وتسعين أنه سار من بغداد عند وصول محمد إليها قاصداً إلى واسط، فلما سمع عسكر واسط بقربه منهم، خافوا منه، وأخذوا نساءهم، وأولادهم، وأموالهم، وجمعوا السفن جميعها، وانحدروا إلى الزبيدية، فأقاموا هناك.
ووصل السلطان، وهو شديد المرض، يحمل في محفة، وقد هلك من دواب عسكره ومتاعهم الكثير، فإنهم كانوا يجدون السرير خوفاً أن يتبعهم السلطان محمد، أو الأمير صدقة، صاحب الحلة، فكانوا كلما جازوا قنطرة هدموها، ليمتنع من يجتاز بها من اتباعهم.
ولما وصلوا إلى واسط عوفي بركيارق، ولم يكن له ولأصحابه همة غير العبور من الجانب الغربي إلى الجانب الشرقي، فلم يجد هناك سفينة، وكان الزمان شاتياً، شديد البرد، والماء زائداً، وكان أهل البلد قد خافوهم، فلزموا الجامع وبيوتهم، فخلت الطرق والأسواق من مجتاز فيها، فخرج القاضي أبو علي الفارقي إلى العسكر، واجتمع بالأمير إياز، والوزير، واستعطفهما للخلق، وطلب إنفاذ شحنة لتطمئن القلوب، فأجابوه إلى ملتمسه، وقالوا له: نريد أن تجمع لنا من يعبر دوابنا في الماء، ونسبح معها، فجمع لهم من شباب واسط، وأعطاهم الأجرة الوافرة، فعبروا دوابهم من الخيل والبغال والجمال، وكان الأمير إياز بنفسه يسوق الدواب، ويفعل ما يفعله الغلمان، ولم يكن معهم غير سفينة واحدة انحدرت مع السلطان من بغداد، فعبروا أموالهم ورحالهم فيها. فلما صاروا في الجانب الشرقي اطمأنوا، ونهب العسكر البلد، فرجع القاضي وجدد الخطاب في الكف عنهم، فأجيب إلى ذلك، فأرسل معه من يمنع من النهب.
ثم إن عسكر واسط أرسلوا إلى السلطان بركيارق يطلبون الأمان ليحضروا الخدمة فأمنهم، فحضر أكثرهم عنده، وساروا معه إلى بلاد بني برسق، فحضروا أيضاً عنده وخدموه، واجتمعت العساكر عليه.
وبلغه مسير أخيه محمد عن بغداد، فسار يتبعه على نهاوند، فأدركه بروذراور، وكان العسكران متقاربين في العدة، كل واحد منهما أربعة آلاف فارس من الأتراك، فتصافوا، أول يوم، جميع النهار، ولم يجر بينهم قتال لشدة البرد، وعادوا في اليوم الثاني، ثم تواقفوا كذلك، ثم كان الرجل يخرج من أحد الصفين فيخرج إليه من يقاتله، فإذا تقاربا اعتنق كل واحد منهما صاحبه، وسلم عليه، ويعود عنه.
ثم خرج الأمير بلدجي وغيره من عسكر محمد إلى الأمير إياز والوزير الأعز، فاجتمعوا، واتفقوا على الصلح، لما قد عم الناس من الضرر، والملل، والوهن، فاستقرت القاعدة أن يكون بركيارق السلطان، ومحمد الملك، ويضرب له ثلاث نوب، ويكون له من البلاد جنزة وأعمالها، وأذربيجان، وديار بكر، والجزيرة، والموصل، وأن يمده السلطان بركيارق بالعساكر، حتى يفتح ما يمتنع عليه منها، وحلف كل واحد منهما لصاحبه، وانصرف الفريقان من المصاف رابع ربيع الأول، وسار بركيارق إلى مرج قراتكين قاصداً ساوة، والسلطان محمد إلى أسداباذ، وتفرق العسكران وقصد الملك أمير أقطاعه.
ذكر الحرب بين السلطان بركيارق ومحمد وانفساخ الصلح بينهمافي هذه السنة، في جمادى الأولى، كان المصاف الرابع بين السلطان بركيارق وأخيه محمد.

وكان سببه أن السلطان محمداً سار من روذراور، من الوقعة المذكورة، إلى أسداباذ، ومنها إلى قزوين، ونسب الأمراء الذين سعوا في الصلح إلى المخامرة عليه، والتقاعد به، فوضع رئيس قزوين أن يتوسل إليه بأولئك الأمراء ليحضر دعوته، فاستشفع الرئيس بهم إلى السلطان، فحضر دعوته، بعد أن امتنع، ووصى خواصه بحمل السلاح تحت أقبيتهم، وحضر الدعوة ومعه الأمير أيتكين، وبسمل، فقتل الأمير بسمل، وهو من أكابر الأمراء، وكحل الأمير أيتكين.
وكان الأمير ينال بن أنوشتكين الحسامي قد فارق بركيارق، وأقام مجاهداً للباطنية الذين في القلاع والجبال، فقصد الآن السلطان محمداً، وسار معه إلى الري يضرب النوب الخمس، واجتمعت إليه العساكر، وأقام ثمانية أيام، ووافاه أخوه السلطان بركيارق في اليوم التاسع، ووقع بينهما المصاف عند الري، وكانت عدة العسكريين متقاربة كل عسكر منهما عشرة آلاف فارس، فلما اصطفوا حمل الأمير سرخاب بن كيخسرو الديلمي، صاحب أبة، على الأمير ينال، فهزمه، وتبعه في الهزيمة جميع عسكر محمد، وتفرقوا، ومضى معظمهم نحو طبرستان، ولم يقتل في هذا المصاف غير رجل واحد قتل صبراً.
ومضى قطعة من المنهزمين نحو قزوين، ونهبت خزائن محمد، ومضى في نفر يسير إلى أصبهان، وحمل هو علمه بيده ليتبعه أصحابه، وسار في طلبه الأمير البكي بن برسق، والأمير إياز إلى قم، وتتبع السلطان بركيارق أصحاب أخيه محمد، وأخذ أموالهم.
ذكر حصار السلطان محمد بأصبهانلما انهزم السلطان محمد من الوقعة التي ذكرناها بالري، مضى إلى أصبهان في سبعين فارساً، والبلد في حكمه، وفيه نائبه، ومعه من الأمراء ينال، وغيره من الأمراء، ودخل المدينة في ربيع الأول، وأمر بتجديد ما تشعث من السور، وهذا السور هو الذي بناه علاء الدولة بن كاكويه سنة تسع وعشرين وأربعمائة، عند خوفه من طغرلبك، وأمر محمد بتعميق الخندق حتى صعد الماء فيه، وسلم إلى كل أمير باباً، وكان معه في البلد ألف ومائة فارس وخمس مائة راجل، ونصب المجانيق.
ولما علم السلطان بركيارق بمسير أخيه محمد إلى أصبهان سار يتبعه، فوصلها في جمادى الأولى، وعساكره كثيرة، تزيد على خمسة عشر ألف فارس، ومعها مائة ألف من الحواشي، وأقام يحاصر البلد، وضيق عليه.
وكان السلطان محمد يدور كل ليلة على سور البلد ثلاث دفعات، فلما زاد الأمر في الحصار، أخرج الضعفاء والفقراء من البلد، حتى خلت المحال، وعدمت الأقوات، وأكل الناس الخيل، والجمال، وغير ذلك، وقلت الأموال، فاضطر السلطان محمد إلى أن يستقرض من أعيان البلد، فأخذ مالاً عظيماً، ثم عاود الجند الطلب، فقسط على أهل البلد شيئاً آخر، وأخذه منهم بالشدة والعنف، فلم تزل الأسعار تغلو، حتى بلغ عشرة أمنان من الحنطة بدينار، وأربعة أرطال لحماً بدينار، وكل مائة رطل تبناً بأربعة دنانير، ورخصت الأمتعة وهانت لعدم الطالب.
وكانت الأسعار، في عسكر بركيارق، رخيصة. فبقي الحصار على البلد إلى عاشر ذي الحجة، فلما رأى السلطان محمد أنه لا قدرة له على الدفع عن البلد، وكلما جاء أمره يضعف، قوي عزمه على مفارقته وقصد جهة أخرى، يجمع فيها العساكر، ويعود يدفع الخصم عن الحصار، فسار عن البلد في مائة وخمسين فارساً، ومعه الأمير ينال، واستخلف بالبلد جماعة من الأمراء الكبار في باقي العسكر، فلما فارق العسكر والبلد لم يكن في دوابهم ما يدوم على السير، لقلة العلف في الحصار، فنزل على ستة فراسخ.
فلما سمع بركيارق بمسيره سير وراءه الأمير إياز في عسكر كثير، وأمره بالجد في السير في طلبه، فقيل: إن محمداً سبقهم، فلم يدركوه، فرجعوا، وقيل: بل أدركوه، فأرسل إلى الأمير إياز يقول: أنت تعلم أنني لي في رقبتك عهود وأيمان ما نقضت، ولم يكن مني إليك ما تبالغ في أذاي. فعاد عنه، وأرسل له خيلاً، وأخذ علمه، والجتر، وثلاثة أحمال دنانير، وعاد إلى بركيارق، فدخل عليه، وأعلام أخيه السلطان محمد منكوسة، فأنكر بركيارق ذلك، وقال: إن كان قد أساء، فلا ينبغي أن يعتمد معه هذا، فأخبره الخبر، فاستحسن ذلك منه.

فلما فارق محمد أصبهان اجتمع من المفسدين، والسوادية، ومن يريد النهب، ما يزيد على مائة ألف نفس، وزحفوا إلى البلد بالسلاليم، والدبابات، وطموا الخندق بالتبن، والتصقوا بالسور، وصعد الناس في السلاليم فقاتلهم أهل البلد قتال من يريد أن يحمي حريمه وماله، فعادوا خائبين، فحينئذ أشار الأمراء على بركيارق بالرحيل، فرحل ثامن عشر ذي الحجة من السنة، واستخلف على البلد القديم، الذي يقال له شهرستان، ترشك الصوابي في ألف فارس مع ابنه ملكشاه، وسار إلى همذان، وكان هذا من أعجب ما سطر أن سلطاناً محصوراً قد تقطعت مواده، وهو يخطب له في أكثر البلاد، ثم يخلص من الحصر الشديد، وينجو من العساكر الكثيرة التي كلها قد شرع إليه رمحه، وفوّق إليه سهمه.
ذكر قتل الوزير الأعز
ووزارة الخطير أبي منصور
في هذه السنة، ثاني عشر صفر، قتل الوزير الأعز أبو المحاسن عبد الجليل ابن محمد الدهستاني، وزير السلطان بركيارق على أصبهان، وكان مع بركيارق محاصراً لها، فركب هذا اليوم من خيمته إلى خدمة السلطان، فجاء شاب أشقر، قيل: إنه كان من غلمان أبي سعيد الحداد، وكان الوزير قتله في العام الماضي، فانتهز الفرصة فيه، وقيل: كان باطنياً، فجرحه عدة جراحات، فتفرق أصحابه عنه، ثم عادوا إليه، فجرح أقربهم منه جراحات أثخنته، وعاد إلى الوزير فتركه بآخر رمق.
وكان كريماً، واسع الصدر، حسن الخلق، كثير العمارة، ونفر الناس منه لأنه دخل في الوزارة، وقد تغيرت القوانين، ولم يبق دخل ولا مال، ففعل للضرورة ما خافه الناس بسببه.
وكان حسن المعاملة مع التجار، فاستغنى به خلق كثير، فكانوا يسألونه ليعاملهم، فلما قتل ضاع منهم مال كثير.
حكي أن بعض التجار باعه متاعاً بألف دينار، فقال له: خذ بها حنطة من الراذان خمسين كراً، كل كر بعشرين ديناراً، فامتنع التاجر من أخذها، وقال: لا أريد غير الدنانير. فلما كان من الغد دخل إليه التاجر، فقال له: يهنئك، يا فلان! فقال: وما هو؟ قال: خبر حنطتك، فقال: ما لي حنطة، ولا أريدها، قال: بلى، وقد بيعت كل كر بخمسين ديناراً، فقال: أنا لم أتقبل بها! فقال الوزير: ما كنت لأفسخ عقداً عقدته. قال: فخرجت، وأخذت ثمن الحنطة ألفين وخمسمائة دينار، وأضفت إليها مثلها وعاملته، فقتل فضاع الجميع.
وكان قد نفق عليه عمل الكيمياء، واختص به إنسان كيميائي، فكان يعده الشهر بعد الشهر، والحول بعد الحول، وقال له بعض أصحابه، وقد أحاله عليه بكر حنطة، فاستزاده: لو كان صادقاً في عمله، لما كان يستزيد من القدر القليل، وقتل ولم يصح له منه شيء.
ولما قتل الأعز أبو المحاسن وزر بعده الوزير الخطير أبو منصور الميبذي الذي كان وزير السلطان محمد.
وكان سبب فراقه لوزارة محمد أنه كان معه بأصبهان، وبركيارق يحاصره، وقد سلم إليه محمد باباً من أبوابها ليحفظها، فقال له الأمير ينال بن أنوشتكين: كنت قد كلفتنا، ونحن بالري، لنقصد همذان، وقلت: أنا أقيم بالعسكر من مالي، وأحصل لهم ما يقوم بهم، ولا بد من ذلك. فقال الخطير: أنا أفعل ذلك. فلما كان الليل فارق البلد، وخرج من الباب الذي كان مسلماً إليه، وقصد بلده ميبذ، وأقام بقلعتها متحصناً، فأرسل إليه السلطان بركيارق وحصره، فنزل منها مستأمناً، فحمل على بغل بإكاف إلى العسكر، فوصله في طريقه قتل الوزير الأعز، وكتاب السلطان له بالأمان، وطيب قلبه، فلما وصل إلى العسكر خلع عليه واستوزره.
حادثة يعتبر بهافي سنة ثلاث وتسعين بيع رحل بني جهير ودورهم بباب العامة، ووصل ثمن ذلك إلى مؤيد الملك، ثم قتل في سنة أربع وتسعين مؤيد الملك، وبيع ماله وبركة، وأخذ الجميع وحمل إلى الوزير الأعز، وقتل الوزير الأعز، هذه السنة، وبيع رحله، واقتسمت أمواله، وأخذ السلطان ومن ولي بعده أكثرها، وتفرقت أيدي سبا، وهذا عاقبة خدمة الملوك.
ذكر الفتنة بين إيلغازي وعامة بغدادفي هذه السنة، في رجب، كانت فتنة شديدة بين عسكر الأمير إيلغازي ابن أرتق، شحنة بغداد، وبين عامتها.

وسببها أن إيلغازي كان بطريق خراسان، فعاد إلى بغداد. فلما وصل أتى جماعة من أصحابه إلى دجلة، فنادوا ملاحاً ليعبر بهم، فتأخر، فرماه أحدهم بنشابة، فوقعت في مشعره فمات، فأخذ العامة القاتل، وقصدوا باب النوبي، فلقيهم ولد إيلغازي مع جماعة، فاستنقذوه، ورجمهم العامة بسوق الثلاثاء، فمضى إلى أبيه مستغيثاً، فأخذ حاجب الباب من له في هذه الحادثة عمل فلم يقنع إيلغازي ذلك، فعبر بأصحابه إلى محلة الملاحين، المعروفة بمربعة القطانين، ويتبعهم خلق كثير، فنهبوا ما وجدوا وقدروا عليه، فعطف عليهم العيارون فقتلوا أكثرهم.
ونزل من سلم في السفن ليعبروا دجلة، فلما توسطوها ألقى الملاحون أنفسهم في الماء وتركوهم فغرقوا، فكان الغريق أكثر من القتيل، وجمع إيلغازي التركمان، وأراد نهب الجانب الغربي، فأرسل الخليفة قاضي القضاة، والكيا الهراس، المدرس بالنظامية، فمنعاه من ذلك، فامتنع.
ذكر قصد صاحب البصرة مدينة واسط وعوده عنهافي هذه السنة، في العشرين من شوال، قصد الأمير إسماعيل، صاحب البصرة، مدينة واسط للاستيلاء عليها.
ونحن نبتديء بذكر إسماعيل، وتنقل الأحوال به إلى أن ملك البصرة، وهو إسماعيل بن سلانجق، وكان إليه في أيام ملكشاه شحنكية الري، ولما وليها كان أهل الري والرستاقية قد أعيوا من وليهم، وعجز الولاة عنهم، فسلك معهم طريقاً أصلحهم بها، وقتل منهم مقتلة عظيمة فتهذبوا بها، وأرسل من شعورهم إلى السلطان ما عمل منه مقاود وشكلاً للدواب، ثم عزل عنها.
ثم إن السلطان بركيارق أقطع البصرة للأمير قماج، فأرسل إليها هذا الأمير إسماعيل نائباً عنه، فلما فارق قماج بركيارق، وانتقل إلى خراسان، حدثته نفسه بالتغلب على البصرة، والاستبداد، فانحدر مهذب الدولة بن أبي الجبر من البطيحة إليه ليحاربه، ومعه معقل بن صدقة بن منصور بن الحسين الأسدي، صاحب الجزيرة الدبيسية، فأقبلا في جمع كثير من السفن والخيل، ووصلوا إلى مطارا.
فبينما معقل يقاتل قريباً من القلعة التي بناها ينال بمطارا، وجددها إسماعيل وأحكمها، أتاه سهم غرب فقتله، فعاد ابن أبي الجبر إلى البطيحة، وأخذ إسماعيل سفنه، وذلك سنة إحدى وتسعين، فاستمد ابن أبي الجبر كوهرائين، فأمده بأبي الحسن الهروي، وعباس بن أبي الجبر، فلقياه، فكسرهما وأسرهما، وأطلق عباساً على مال أرسله أبوه، واصطلحا.
وأما الهروي فبقي في حبسه مدة، ثم أطلقه على خمسة آلاف دينار، فلم يصح له منها شيء.
وقوي حال إسماعيل، فبنى قلعة بالأبلة، وقلعة بالشاطيء مقابل مطارا، وصار مخوف الجانب وأمن البصريون به، وأسقط شيئاً من المكوس، واتسعت إمارته باشتغال السلاطين، وملك المشان، واستضافها إلى ما بيده.
فلما كان هذه السنة كاتبه بعض عسكر واسط بالتسليم إليه، فقوي طمعه في واسط، فأصعد في السفن إلى نهرابان، وراسلهم في التسليم، فامتنعوا من ذلك، وقالوا: راسلناك، وقد رأينا غير ذلك الرأي. فأصعد إلى الجانب الشرقي، فخيم تحت النخيل، وسفنه بين يديه، وخيم جند واسط حذاءه، وراسلهم، ووعدهم، وهم لا يجيبونه.
واتفقت العامة مع الجند، وشتموه أقبح شتم، فلما أيس منهم عاد إلى البصرة، وساروا بإزائه من الجانب الآخر، فوصل إلى العمر، وعبر طائفة من أصحابه فوق البلد، وهو يظن أن البلد خال، وأن الناس قد خرجوا منه، لما رأى كثرة من بإزائه، فيوقع الحريق في البلد، فإذا رجع الأتراك عاد هو من ورائهم، فكان ظنه خائباً لأن العامة كانوا على دجلة، أولهم في البلد، وآخرهم مع الأتراك بإزائه.
فلما عبر أصحابه عاد الأتراك عليهم، ومعهم العامة، فقتلوا منهم ثلاثين رجلاً، وأسروا خلقاً كثيراً، وألقى الباقون أنفسهم في الماء، فأتاه من ذلك مصيبة لم يظنها، وصار أعيان أصحابه مأسورين، وعاد إلى البصرة، وكان عوده من سعادته، فإنه كان قد قصد الأمير أبو سعد محمد بن مضر بن محمود البصرة ذلك الوقت، وله أعمال واسعة، منها: نصف عمان، وجنابة، وسيراف، وجزيرة بني نفيس.

وكان سبب قصده إياها أنه كان قد صار مع إسماعيل إنسان يعرف بجعفرك، وآخر اسمه زنجويه، والثالث بأبي الفضل الأبلي، فأطمعوه في أن يعمل مراكب يرسل فيها مقاتلة في البحر إلى أبي سعد هذا وغيره، فعمل نيفاً وعشرين قطعة، فلما علم أبو سعد الحال أرسل جماعة كثيرة من أصحابه في نحو خمسين قطعة، فأتوا إلى دجلة البصرة، وذلك في السنة الخالية، فأقاموا بها محاربين، وظفروا بطائفة من أصحاب إسماعيل، وقتلوا صاحب قلعة الأبلة، وكاتبوا بني برسق بخوزستان يطلبون أن يرسلوا عسكراً ليساعدوهم على أخذ البصرة، فتمادى الجواب، وركن الطائفتان إلى الصلح، على أن يسلم إليهم إسماعيل جعفرك ورفيقه، ويقطعهم مواضع ذكروها من أعمال البصرة.
فلما رجعوا لم يفعل شيئاً من ذلك، وأخذ مركبين لقوم من أصحاب أبي سعد، فحمله ذلك على أن سار بنفسه في قطع كثيرة تزيد على مائة قطعة بين كبيرة وصغيرة، ووصل إلى فوهة نهر الأبلة.
وخرج عسكر إسماعيل في عدة مراكب، ووقع القتال بينهم، وكان البحريون في نحو عشرة آلاف، وإسماعيل في سبعمائة، وأصعد البحريون في دجلة، فأحرقوا عدة مواضع، وتفرق عسكر إسماعيل، فبعضه بالأبلة، وبعضه بنهر الدير، وبعضه في مواضع أخر.
فلما ضعف إسماعيل عن مقاومة أبي سعد طلب من وكيل الخليفة، على ما يتعلق بديوانه من البلاد، أن يسعى في الصلح، فأرسل إليه في ذلك، فأعاد الجواب يذكر قبح ما عامله به إسماعيل مرة بعد أخرى، وتكررت الرسائل بينهم، فأجاب إلى الصلح، فاصطلحا، واجتمعا، وعاد أبو سعد إلى بلاده، وحمل كل واحد منهما لصاحبه هدية جميلة.
ذكر وفاة كربوقا وملك موسى التركماني الموصل وجكرمش بعده وملك سقمان الحصن
في هذه السنة، في ذي القعدة، توفي قوام الدولة كربوقا، عند مدينة خوي، وكان السلطان بركيارق قد أرسله في العام الماضي إلى أذربيجان، كما ذكرناه، فاستولى على أكثرها، وأتى إلى خوي، فمرض بها ثلاثة عشر يوماً، وكان معه أصبهبذ صباوة بن خمارتكين، وسنقرجه، فوصى إلى سنقرجه، وأمر الأتراك بطاعته، وأخذ له على عسكره العهد، ومات على أربعة فراسخ من خوي، ولف في زلية لعدم ما يكفن فيه ودفن بخوي.
وسار سنقرجه وأكثر العسكر إلى الموصل، فتسلمها، فأقام بها ثلاثة أيام، وكان أعيان الموصل قد كاتبوا موسى التركماني، وهو بحض كيفا ينوب عن كربوقا فيها، وسألوه أن يبادر إليهم ليسلموا إليه البلد، فسار مجداً، فسمع سنقرجه بوصوله، فظن أنه جاء إليه خدمة له، فخرج ليستقبله في أهل البلد، فلما تقاربا نزل كل واحد منهما لصاحبه عن فرسه، واعتنقا، وبكيا على قوام الدولة، فتسايرا.
فقال سنقرجه لموسى في جملة حديثه: أنا مقصودي من جميع ما كان لصاحبنا المخدة، والمنصب، والأموال، والولايات لكم وبحكمكم. فقال موسى: من نحن حتى يكون لنا مناصب ودسوت؟ الأمر في هذا إلى السلطان يرتب فيه من يريد، ويولي من يختار. وجرى بينهما محاورات، فجذب سنقرجه سيفه وضربه صفحاً على رأسه فجرحه، فألقى موسى نفسه إلى الأرض، وجذب سنقرجه فألقاه إلى الأرض، وكان مع موسى ولد منصور بن مروان الذي كان أبوه صاحب ديار بكر، فجذب سكيناً وضرب بها رأس سنقرجه فأبانه، ودخل موسى البلد، وخلع على أصحاب سنقرجه، وطيب نفوسهم فصارت الولاية له.
ولما سمع شمس الدولة جكرمش، صاحب جزيرة ابن عمر، الخبر قصد نصيبين وتسلمها، وسار موسى قاصداً إلى الجزيرة، فلما قارب جكرمش غدر بموسى عسكره، وصاروا مع جكرمش، فعاد موسى إلى الموصل، وقصده جكرمش، وحصره مدة طويلة، فاستعان موسى بالأمير سقمان بن أرتق، وهو يومئذ بديار بكر، وأعطاه حصن كيفا وعشرة آلاف دينار، فسار سقمان إليه، فرحل جكرمش عنه.
وخرج موسى لاستقبال سقمان، فلما كان موسى عند قرية تسمى كراثا، وثب عليه عدة من الغلمان القوامية، فقتلوه: رماه أحدهم بنشابة فقتله، فعاد أصحابه منهزمين، ودفن على تل هناك يعرف الآن بتل موسى، ورجع الأمير سقمان إلى الحصن، فملكها وهي بيد أولاده إلى يومنا هذا، سنة عشرين وستمائة، وصاحبها حينئذ غازي بن قرا أرسلان بن داود بن سقمان بن أرتق.
وقصد جكرمش الموصل وحصرها أياماً، ثم تسلمها صلحاً، وأحسن السيرة فيها، وأخذ القوامية الذين قتلوا موسى، فقتلهم واستولى بعد ذلك على الخابور، وملك العرب والأكراد، فأطاعوه.
ذكر حال صنجيل الفرنجي

وما كان منه في حصار طرابلس
كان صنجيل الفرنجي، لعنه الله، قد لقي قلج أرسلان بن سليمان بن قتلمش، صاحب قونية، وكان صنجيل في مائة ألف مقاتل، وكان قلج أرسلان في عدد قليل، فاقتتلوا، فانهزم الفرنج وقتل منهم كثير، وأسر كثير، وعاد قلج أرسلان بالغنائم، والظفر الذي لم يحسبه.
ومضى صنجيل مهزوماً في ثلاثمائة، فوصل إلى الشام، فأرسل فخر الملك بن عمار، صاحب طرابلس، إلى الأمير ياخز، خليفة جناح الدولة على حمص، فإلى الملك دقاق بن تتش، يقول: من الصواب أن يعاجل صنجيل إذ هو في هذه العدة القريبة، فخرج الأمير ياخز بنفسه، وسير دقاق ألفي مقاتل، وأتتهم الأمداد من طرابلس، فاجتمعوا على باب طرابلس، وصافوا صنجيل هناك، فأخرج مائة من عسكره إلى أهل طرابلس، ومائة إلى عسكر دمشق، وخمسين إلى عسكر حمص، وبقي هو في خمسين.
فأما عسكر حمص فإنهم انكسروا عند المشاهدة، وولوا منهزمين، وتبعهم عسكر دمشق.
وأما أهل طرابلس فإنهم قاتلوا المائة الذين قاتلوهم، فلما شاهد ذلك صنجيل حمل في المائتين الباقيتين، فكسروا أهل طرابلس، وقتلوا منهم سبعة آلاف رجل، ونازل صنجيل طرابلس وحصرها.
وأتاه أهل الجبل فأعانوه على حصارها، وكذلك أهل السواد، وأكثرهم نصارى، فقاتل من بها أشد قتال، فقتل من الفرنج ثلاثمائة، ثم إنه هادنهم على مال وخيل، فرحل عنهم إلى مدينة أنطرسوس، وهي من أعمال طرابلس، فحصرها، وفتحها، وقتل من بها من المسلمين، ورحل إلى حصن الطوبان، وهو يقارب رفنية، ومقدمه يقال له ابن العريض، فقاتلهم، فنصر عليه أهل الحصن، وأسر ابن العريض منه فارساً من أكابر فرسانه، فبذل صنجيل في فدائه عشرة آلاف دينار وألف أسير، فلم يجبه ابن العريض إلى ذلك.
ذكر ما فعله الفرنجفي هذه السنة أطلق الدانشمند بيمند الفرنجي، صاحب أنطاكية، وكان قد أسره، وقد تقدم ذكر ذلك، وأخذ مائة ألف دينار، وشرط عليه إطلاق ابنه باغي سيان الذي كان صاحب أنطاكية، وكانت في أسره.
ولما خلص بيمند من أسره عاد إلى أنطاكية، فقويت نفوس أهلها به، ولم يستقر حتى أرسل إلى أهل العواصم وقنسرين وما جاورها يطالبهم بالإتاوة، فورد على المسلمين من ذلك ما طمس المعالم التي بناها الدانشمند.
وفيها سار صنجيل إلى حصن الأكراد فحصره، فجمع جناح الدولة عسكره ليسير إليه ويكبسه، فقتله باطني بالمسجد الجامع، فقيل: إن الملك رضوان ربيبه وضع عليه من قتله، فلما قتل صبح صنجيل حمص من الغد، ونازلها، وحصر أهلها، وملك أعمالها.
ونزل القمص على عكة في جمادى الآخرة، وضيق عليها، وكاد يأخذها، ونصب عليها المنجنيقات والأبراج، وكان له في البحر ست عشرة قطعة، فاجتمع المسلمون من سائر السواحل، وأتوا إلى منجنيقاتهم، وأبراجهم، فأحرقوها، وأحرقوا سفنهم أيضاً، وكان ذلك نصراً عجيباً أذل الله به الكفار.
وفيها صار القمص الفرنجي، صاحب الرها، إلى بيروت من ساحل الشام، وحصرها وضايقها، وأطال المقام عليها، فلم ير فيها طمعاً فرحل عنها.
وفيها، في رجب، خرجت عساكر مصر إلى عسقلان ليمنعوا الفرنج عما بقي في أيديهم من البلاد الشامية، فسمع بهم بردويل، صاحب القدس، فسار إليهم في سبعمائة فارس، وقاتلهم، فنصر الله المسلمين، وانهزم الفرنج، وكثر القتل فيهم، وانهزم بردويل، فاختفى في أجمة قصب، فأحرقت تلك الأجمة، ولحقت النار بعض جسده، ونجا منها إلى الرملة، فتبعه المسلمون، وأحاطوا به فتنكر، وخرج منها إلى يافا، وكثر القتل والأسر في أصحابه.
ذكر عود قلعة خفتيذكان إلى سرخاب بن بدرفي هذه السنة عادت قلعة خفتيذكان إلى الأمير سرخاب بن بدر بن مهلهل.
وكان سبب أخذها منه أن القرابلي، وهو من قبيل من التركمان يقال لهم سلغر، كان قد أتى إلى بلد سرخاب، فمنعه من المراعي، وقتل جماعة من أصحابه، فمضى قرابلي إلى التركمان، واستجاش بهم، وجاء في عسكر كثير، فلقيه سرخاب وقاتله، فقتل قرابلي من أصحابه الأكراد قريباً من ألفي رجل، وانهزم سرخاب إلى بعض جباله في عشرين رجلاً.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://arabelalekat.yoo7.com
الشيخ عودة
الشيخ عودة
الشيخ عودة



عدد المساهمات : 1748
تاريخ التسجيل : 28/09/2008
العمر : 74

كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير - صفحة 7 Empty
مُساهمةموضوع: رد: كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير   كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير - صفحة 7 Emptyالثلاثاء فبراير 25, 2014 11:17 am

فلما سمع المستحفظان بقلعة خفتيذكان ذلك، وكانا رجلين حدثتهما أنفسهما بالاستيلاء عليها، وكان بها ذخائره، وأمواله، وقدرها يزيد على ألفي دينار، فتملكاها، واجتاز بها السلطان بركيارق، فأنفذا إليه مائتي ألف دينار، واستولى التركمان على جميع بلاد سرخاب بن بدر، سوى دقوقا وشهرزور، فلما كان هذا الوقت قتل أحد المستحفظين الآخر، وأرسل إلى سرخاب يطلب منه الأمان ليسلم إليه القلعة، فأمنه على نفسه، وعلى ما حصل بيده من أموالها، فسلمها إليه ووفى له.
ذكر قتل قدرخان صاحب سمرقندقد ذكرنا قبل قدوم الملك سنجر مع أخيه السلطان محمد إلى بغداد وعوده إلى خراسان، فلما وصل إلى نيسابور خطب لأخيه محمد بخراسان جميعها، ولما كان ببغداد طمع قدرخان جبريل بن عمر، صاحب سمرقند، في خراسان لبعده عنها، وجمع عساكر تملأ الأرض، قيل: كانوا مائة ألف مقاتل فيهم مسلمون وكفار، وقصد بلاد سنجر.
وكان أمير من أمراء سنجر، اسمه كندغدي، قد كاتب قدرخان بالأخبار، وأعلمه مرض سنجر، بعد عوده إلى بلاده، وأنه قد أشفى على الهلاك، وقوى طمعه بالاختلاف الواقع بين السلطانين بركيارق ومحمد، وبشدة عداوة بركيارق لسنجر، وأشار عليه بالسرعة مهما الاختلاف واقع، وأنه متى أسرع ملك خراسان والعراق. فبادر قدرخان وأقدم، وقصد البلاد، فبلغ السلطان سنجر الخبر، وكان قد عوفي، فبادر وسار نحوه قاصداً قتاله ومنعه عن البلاد، وكان من جملة من معه كندغدي المذكور، وهو لا يتهمه بشيء مما فعل، فوصل إلى بلخ في ستة آلاف فارس، فبقي بينه وبين قدرخان نحو خمسة أيام، فهرب كندغدي إلى قدرخان، وحلف كل واحد منهما لصاحبه على الاتفاق والمناصحة، وسار من عنده إلى ترمذ، فملكها. وكان الباعث للكندغدي على ما فعل حسده للأمير بزغش على منزلته.
ثم تقدم قدرخان، فلما تدانى العسكران أرسل سنجر يذكر قدرخان العهود والمواثيق القديمة، فلم يصغ إلى قوله، وأذكى سنجر العيون والجواسيس على قدرخان، فكان لا يخفى عنه شيء من خبره، فأتاه من أخبره أنه نزل بالقرب من بلخ، وأنه خرج متصيداً في ثلاثمائة فارس، فندب سنجر، عند ذلك، الأمير بزغش لقصده، فسار إليه، فلحقه وهو على تلك الحال، فقاتله، فلم يصبر من مع قدرخان، فانهزموا، وأسر كندغدي وقدرخان، وأحضرهما عند سنجر، فأما قدرخان فإنه قبل الأرض واعتذر، فقال له سنجر: إن خدمتنا، أو لم تخدمنا، فما جزاؤك إلا السيف، ثم أمر به فقتل.
فلما سمع كندغدي الخبر نجا بنفسه، ونزل في قناة، ومشى فيها فرسخين تحت الأرض، على ما به من النقرس، وقتل فيها حيتين عظيمتين، وسبق أصحابه إلى مخرجها، وسار منها في ثلاثمائة فارس إلى غزنة. وقيل: بل جمع سنجر عساكر كثيرة، والتقى هو وقدرخان، وجرى بينهما مصاف، وقتال عظيم، أكثر فيه القتل فيهم، فانهزم قدرخان وعسكره، وحمل أسيراً إلى سنجر، فقتله، وحصر ترمذ، وبها كندغدي، فطلب الأمان، فأمنه سنجر، ونزل إليه، وسلم ترمذ، فأمره سنجر بمفارقة بلاده، فسار إلى غزنة، فلما وصل إليها أكرمه صاحبها علاء الدولة، وحل عنده المحل الكبير.
واتفق أن صاحب غزنة عزم على قصد أوتان، وهي جبال منيعة، على أربعين فرسخاً من غزنة، وقد عصى عليه قوم، وتحصنوا بمعاقلها، ووعور مسالكها، فقاتلهم عسكر علاء الدولة، فلم يظفروا منهم بطائل، فتقدم كندغدي منفرداً عنهم، فأبلى بلاء حسناً، ونصر عليهم، وأخذ غنائمهم، وحملها إلى علاء الدولة، فلم يقبل منها شيئاً، ووفرها عليه، فغضب العسكر، وحسدوه على ذلك، وعلى قربه من صاحبهم، ونفاقه عليه، فأشاروا بقبضه، وقالوا: إنا لا نأمن أن يقصد بعض الأماكن فيفعل في أمر الدولة ما لا يمكن تلافيه. فقال: قد تحققت قصدكم، ولكن بمن أقبض عليه؟ فإني أخاف أن آمركم بالقبض عليه، فينالكم منه ما تفتضحون به. فقالوا: الصواب أن توليه ولاية ويقبض عليه إذا سار إليها. فولاه حصنين جرت عادته أن يسجن فيهما من يخاف جانبه، فسار إليهما.

فلما قاربهما عرف ما يراد منه، فأحرق جميع ماله، ونحر جماله، وسار جريدة، وكان في مدة مقامه بغزنة يسأل عن الطرق وتشعبها، فإنه ندم على قصد تلك الجهة، فلما سار سأل راعياً عن الطريق التي يريدها، فدله، فأخذه معه خوفاً أن يكون قد غره، ولم يزل سائراً إلى أن وصل إلى قريب هراة، فمات هناك، وهو من مماليك تتش بن ألب أرسلان الذي كحله أخوه ملكشاه، وسجنه بتكريت، وقد تقدم ذكر حادثته.
ذكر ملك محمد خان سمرقندفي هذه السنة أحضر السلطان سنجر محمداً أرسلان خان بن سليمان بن داود بلراخان، من مرو، وملكه سمرقند، بعد قتل قدرخان، وكان محمد خان هذا من أولاد الخانية بما وراء النهر، وأمه ابنة السلطان ملكشاه، فدفع عسكر ملك آبائه، فقصد مرو، وأقام بها إلى الآن.
فلما قتل قدرخان ولاه سنجر أعماله، وسير معه العساكر الكثيرة، فعبروا النهر، فأطاعه العساكر بتلك البلاد جميعها، وعظم شأنه، وكثرت جموعه، إلا أنه انتصب له أمير اسمه هاغوبك، وزاحمه في الملك، فطمع فيه، فجرى له معه حروب احتاج في بعضها إلى الاستنجاد بعساكر سنجر، على ما نذكره بعد إن شاء الله تعالى.
ولما ملك محمد خان البلاد أحسن إلى الرعايا بوصية من سنجر، وحقن الدماء، وصار بابه مقصداً، وجنابه ملجأ.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة، في ربيع الأول، خرج تاج الرؤساء ابن أخت أمين الدولة أبي سعد بن الموصلايا إلى الحلة السيفية، مستجيراً بسيف الدولة صدقة.
وسبب ذلك أن الوزير الأعز وزير السلطان بركيارق كان ينسب إليه أنه هو الذي يميل جانب الخليفة إلى السلطان محمد، فسار خائفاً، واعتزل خاله أمين الدولة الديوان، وجلس في داره، فلما قتل الوزير الأعز، على ما ذكرنا، عاد تاج الرؤساء من الحلة إلى بغداد، وعاد خاله إلى منصبه.
وفي ربيع الأول أيضاً ورد العميد المهذب أبو المجد، أخو الوزير الأعز، إلى بغداد، نائباً عن أخيه، ظناً منه أن إيلغازي لا يخالفهم، حيث كان بركيارق ومحمد قد اتفقا، كما ذكرناه، فقبض عليه إيلغازي، ولم يتغير عن طاعة محمد.
وفيها، في جمادى الأولى، ورد إلى بغداد ابن تكش بن ألب أرسلان، وكان قد استولى على الموصل، فخدعه من كان بها، حتى سار عنها إلى بغداد، فلما وصل إليها زوجه إيلغازي بن أرتق ابنته.
وفيها، في شهر رمضان، استوزر الخليفة سديد الملك أبا المعالي بن عبد الرزاق، ولقب عضد الدين.
وفيها، في صفر، قتل الربعيون بهيت قاضي البلد أبا علي بن المثنى، وكان ورعاً، فقيهاً، حنفياً، من أصحاب القاضي أبي عبد الله الدامغاني، وكان هذا القاضي على ما جرت به عادة القضاة هناك من الدخول بين القبائل، فنسبوه في ذلك إلى التحامل عليهم، فقتله أحدهم، فندم الباقون على قتله، وقد فات الأمر.
وفيها بنى سيف الدولة صدقة بن مزيد الحلة بالجامعين، وسكنها، وإنما كان يسكن هو وآباؤه قبله في البيوت العربية.
وفي جمادى الأولى قتل المؤيد بن شرف الدولة مسلم بن قريش أمير بني عقيل، قتله بنو نمير عند هيت قصاصاً.
وفيها توفي القاضي البندنيجي الضرير، الفقيه الشافعي، انتقل إلى مكة، فجاور بها أربعين سنة يدرس الفقه، ويسمع الحديث، ويشتغل بالعبادة.
وفيها توفي أبو عبد الله الحسين بن محمد الطبري بأصبهان، وكان يدرس فقه الشافعي بالمدرسة النظامية، وقد جاوز تسعين سنة، وهو من أصحاب أبي إسحاق.
وفيها توفي الأمير منظور بن عمارة الحسيني، أمير المدينة، على ساكنها السلام، وقام ولده مقامه، وهو من ولد المهنا، وقد كان قتل المعمار الذي أنفذه مجد الملك البلاساني لعمارة القبة التي على قبر الحسن بن علي والعباس، رضي الله عنهما، وكان من أهل قم، فلما قتل البلاساني قتله منظور بعد أن أمنه، وكان قد هرب منه إلى مكة، فأرسل إليه بأمانه.
؟؟
ثم دخلت سنة ست وتسعين وأربعمائة
ذكر استيلاء ينال على الري
وأخذها منه ووصوله إلى بغداد

كانت الخطبة بالري للسلطان بركيارق، فلما خرج السلطان محمد من أصبهان، على ما ذكرناه، ومعه ينال بن أنوشتكين الحسامي، استأذنه في قصد الري وإقامة الخطبة له بها، فأذن له، فسار هو وأخوه علي بن أنوشتكين، فوصلا إليها في صفر، فأطاع من بها من نواب بركيارق، وخطب لمحمد بالري، واستولى ينال على البلد، وعسف أهله، وصادرهم بمائتي ألف دينار، وأقام بها إلى النصف من ربيع الأول، فورد إليه الأمير برسق بن برسق من عند السلطان بركيارق، فوقع القتال بينهم على باب الري، فانهزم ينال وأخوه علي.
فأما علي فعاد إلى ولايته قزوين، وسلك ينال الجبال، فقتل من أصحابه كثير، وتشتتوا، فأتى إلى بغداد في سبعمائة رجل، فأكرمه الخليفة، واجتمع هو وإيلغازي وسقمان ابنا أرتق بمشهد أبي حنيفة، وتحالفوا على مناصحة السلطان محمد، وساروا إلى سيف الدولة صدقة، فحلف لهم أيضاً على ذلك، وعادوا.
ذكر ما فعله ينال بالعراققد ذكرنا وصول ينال بن أنوشتكين إلى بغداد قبل. فلما استقر ببغداد ظلم الناس بالبلاد جميعاً، وصادرهم، واستطال أصحابه على العامة بالضرب والقتل والتقسيط، وصادر العمال.
فأرسل إليه الخليفة قاضي القضاة أبا الحسن الدامغاني ينهاه عن ذلك، ويقبح عنده ما يرتكبه من الظلم والعدوان، وتردد أيضاً إلى إيلغازي، وكان ينال قد تزوج هذه الأيام بأخته، وهي التي كانت زوجة تاج الدولة تتش، حتى توسط الأمر معه، فمضوا إليه، وحلفوه على الطاعة، وترك ظلم الرعية، وكف أصحابه، ومنعهم، فحلف، ولم يقف على اليمين، ونكث ودام على الظلم وسوء السيرة.
فأرسل الخليفة إلى سيف الدولة صدقة، وعرفه ما يفعله ينال من نهب الأموال، وسفك الدماء، وطلب منه أن يحضر بنفسه ليكف ينال، فسار من حلته في رمضان، ووصل بغداد رابع شوال، وضرب خيامه بالنجمي، واجتمع هو وينال، وإيلغازي، ونواب ديوان الخليفة، وتقررت القواعد على مال يأخذه ويرحل عن العراق، فطلب ينال المهلة، فعاد صدقة عاشر شوال إلى حلته، وترك ولده دبيساً ببغداد ليمنعه من الظلم والتعدي عما استقر الأمر عليه، فبقي ينال إلى مستهل ذي القعدة، وسار إلى أوانا، فنهب، وقطع الطريق، وعسف الناس، وبالغ في الفعل القبيح، وأقطع القرى لأصحابه، فأرسل الخليفة إلى صدقة في ذلك، فأرسل ألف فارس، وساروا إليه ومعهم جماعة من أصحاب الخليفة، وإيلغازي، شحنة بغداد، فلما سمع ينال بقربهم منه عبر دجلة، وسار إلى باجسري وشعثها، وقصد شهرابان، فمنعه أهلها، فقاتلهم، فقتل بينهم قتلى، ورحل عنهم، وسار إلى أذربيجان قاصداً إلى السلطان محمد، وعاد دبيس بن صدقة، وإيلغازي، شحنة بغداذ، إلى مواضعهم.
ذكر وصول كمشتكين القيصري شحنة إلى بغداد والفتنة بينه وبين إيلغازي وسقمان وصدقة
في هذه السنة، منتصف ربيع الأول، ورد كمشتكين القيصري إلى بغداد، شحنة، أرسله إليها السلطان بركيارق، وقد ذكرنا في السنة المتقدمة رحيل بركيارق من أصبهان إلى همذان، فلما وصلها أرسل إلى بغداد كمشتكين شحنة، فلما سمع إيلغازي، وهو شحنة ببغداد، للسلطان محمد، أرسل إلى أخيه سقمان بن أرتق، صاحب حصن كيفا، يستدعيه إليه ليعتضد به على منعه، وسار إلى سيف الدولة صدقة بالحلة، واجتمع به، وسأله تجديد عهد في دفع من يقصده من جهة بركيارق، فأجابه إلى ذلك وحلف له، فعاد إيلغازي.
وورد سقمان في عساكر، ونهب في طريقه تكريت، وسبب تمكنه منها أنه أرسل جماعة من التركمان إلى تكريت، معهم أحمال جبن، وسمن، وعسل، فباعوا ما معهم، وأظهروا أن سقمان قد عاد عن الانحدار، فاطمأن أهل البلد، ووثب التركمان، تلك الليلة، على الحراس فقتلوهم، وفتحوا الأبواب، وورد إليها سقمان، ودخلها ونهبها، ولما وصل إلى بغداد نزل بالرملة.

وأما كمشتكين فوصل، أول ربيع الأول، إلى قرميسين، وأرسل إلى من له هوى مع بركيارق، وأعلمهم بقربه منهم، فخرج إليه جماعة منهم، فلقوه بالبندنيجين، وأعلموه الأحوال، وأشاروا عليه بالمعاجلة، فأسرع السير، فوصل إلى بغداد منتصف ربيع الأول، ففارق إيلغازي داره، واجتمع بأخيه سقمان، وأصعدا من الرملة، ونهبا بعض قرى دجيل، فسار طائفة من عسكر كمشتكين وراءهما، ثم عادوا عنهما، وخطب للسلطان بركيارق ببغداد، فأرسل كمشتكين القيصري إلى سيف الدولة صدقة، ومعه حاجب من ديوان الخليفة، في طاعة بركيارق، فلم يجب إلى ذلك، وكشف القناع ببغداد في مخالفته، وسار من الحلة إلى جسر صرصر، فقطعت خطبة بركيارق ببغداد، ولم يذكر على منابرها أحد من السلاطين، واقتصر الخطباء على الدعاء للخليفة لا غير.
ولما وصل سيف الدولة إلى صرصر أرسل إيلغازي وسقمان، وكانا بحربى، يعرفهما أنه قد أتى لنصرتهما، فعادا ونهبا دجيلاً، ولم يبقيا على قرية كبيرة ولا صغيرة، وأخذت الأموال، وافتضت الأبكار، ونهب العرب والأكراد الذين مع سيف الدولة بنهر ملك، إلا أنهم لم ينقل عنهم مثل التركمان من أخذ النساء والفساد معهن، لكنهم استقصوا في أخذ الأموال بالضرب والإحراق، وبطلت معايش الناس، وغلت الأسعار، فكان الخبز يساوي عشرة أرطال بقيراط، فصار ثلاثة أرطال بقيراط، وجميع الأشياء كذلك.
فأرسل الخليفة إلى سيف الدولة في الإصلاح، فلم تستقر قاعدة، وعاد إيلغازي وسقمان ومعهما دبيس بن سيف الدولة صدقة من دجيل، فخيموا بالرملة، فقصدهم جماعة كثيرة من العامة، فقاتلوهم، فقتل من العامة أربعة نفر، وأخذ منهم جماعة، فأطلقوا بعد أن أخذت أسلحتهم، وازداد الأمر شدة على الناس، فأرسل الخليفة قاضي القضاة أبا الحسن بن الدامغاني، وتاج الرؤساء بن الموصلايا إلى سيف الدولة يأمره بالكف عن الأمر الذي هو ملابسه، ويعرفه ما الناس فيه، ويعظم الأمر عليه، فأظهر طاعة الخليفة، إن أخرج القيصري من بغداد، وإلا فليس غير السيف، وأرعد وأبرق.
فلما عاد الرسول استقر الأمر على إخراج القيصري من بغداد، ففارقها ثاني عشر ربيع الآخر، وسار إلى النهروان، وعاد سيف الدولة إلى بلده، وأعيدت خطبة السلطان محمد ببغداد، وسار القيصري إلى واسط، فخاف الناس منه، وأرادوا الانحدار منها ليأمنوا، فمنعهم القيصري، وخطب لبركيارق بواسط ونهبوا كثيراً من سوادها.
فلما سمع صدقة ذلك سار إلى واسط، فدخلها، وعدل في أهلها، وكف عسكره عن أذاهم، ووصل إليه إيلغازي بواسط، وفارقها القيصري، ونزل متحصناً بدجلة، فقيل لسيف الدولة: إن هناك مخاضة، فسار إليها بعسكره وقد لبسوا السلاح، فلما رآهم عسكر القيصري تفرقوا عنه، وبقي في خواص أصحابه، فطلب الأمان من سيف الدولة، فأمنه، فحضر عنده، فأكرمه، وقال له: قد سمنت، قال: وتركتنا نسمن؟ أخرجتنا من بغداد، ثم من واسط، ونحن لا نعقل.
ثم بذل صدقة الأمان لجميع عسكر واسط، ومن كان مع القيصري، سوى رجلين، فعادا إليه فأمنهما، وعاد القيصري إلى بركيارق، وأعيدت خطبة السلطان محمد بواسط، وخطب بعده لسيف الدولة وإيلغازي، واستناب كل واحد منهما فيها ولده، وعادا عنها في العشرين من جمادى الأولى، وأمن أهل واسط مما كانوا يخافونه.
فأما إيلغازي فإنه أصعد إلى بغداد، وأما سيف الدولة صدقة فإنه عاد إلى الحلة، وأرسل ولده الأصغر منصوراً مع إيلغازي إلى المستظهر بالله يسأله الرضا عنه، فإنه كان قد سخط بسبب هذه الحادثة، فوصل إلى بغداد، وخاطب في ذلك، فأجيب إليه.
ذكر استيلاء صدقة على هيتكانت مدينة هيت لشرف الدولة مسلم بن قريش، أقطعه إياها السلطان ألب أرسلان، ولم تزل معه حتى قتل، فنظر فيها عمداء بغداد إلى أن مات السلطان ملكشاه، ثم أخذها أخوه تتش بن ألب أرسلان. فلما استولى السلطان بركيارق أقطعها لبهاء الدولة ثروان بن وهب بن وهيبة، وأقام هو جماعة من بني عقيل عند سيف الدولة صدقة، وكانا متصافيين، وكان صدقة يزوره كثيراً ثم تنافرا.

وكان سبب ذلك أن صدقة زوج بنتاً له من ابن عمه، وكان ثروان قد خطبها، فلم يجبه إلى ذلك، فتحالفت عقيل، وهم في حلة سيف الدولة، أن يكونوا يداً واحدة عليه، فأنكر صدقة ذلك، وحج ثروان عقيب ذلك وعاد مريضاً، فوكل به صدقة، وقال: لا بد من هيت، فأرسل ثروان حاجبه، وكتب خطه بتسليم البلد إليه.
وكان بهيت حينئذ محمد بن رافع بن رفاع بن ضبيعة بن مالك بن مقلد بن جعفر، وأرسل صدقة ابنه دبيساً مع الحاجب ليتسلمها فلم يسلم إليه محمد، فعاد دبيس إلى أبيه، فلما أخذ صدقة واسطاً، هذه النوبة، أصعد في عسكره إلى هيت، فخرج إليه منصور بن كثير ابن أخي ثروان، ومعه جماعة من أصحابه، فلقوا سيف الدولة، وحاربوه ساعة من النهار.
ثم إن جماعة من الربعيين فتحوا لسيف الدولة البلد، فدخله أصحابه، فلما رأى ذلك منصور ومن معه سلموا البلد إليه، فملكه يوم نزوله، وخلع على منصور وجماعة من وجوه أصحابه، وعاد إلى حلته، واستخلف عليه ابن عمه ثابت بن كامل.
ذكر الحرب بين بركيارق ومحمدفي هذه السنة، ثامن جمادى الآخرة، كان المصاف الخامس بين السلطان بركيارق والسلطان محمد.
وكانت كنجة وبلاد أران جميعها للسلطان محمد، وبها عسكره، ومقدمهم الأمير غزغلي، فلما طال مقام محمد بأصبهان محصوراً توجه غزغلي والأمير منصور بن نظام الملك وابن أخيه محمد بن مؤيد الملك بن نظام الملك قاصدين لنصرته، ليراهم بعين الطاعة.
وكان آخر ما تقام فيه الخطبة لمحمد زنجان مما يلي أذربيجان، فوصلوا إلى الري في العشرين من ذي الحجة سنة خمس وتسعين، ففارقه عسكر بركيارق، ودخلوه وأقاموا به ثلاثة أيام.
ووصلهم الخبر بخروج السلطان محمد من أصبهان، وأنه وصل إلى ساوة، فساروا إليه، ولحقوه بهمذان ومعه ينال وعلي ابنا أنوشتكين الحسامي، فبلغ عددهم ستة آلاف فارس، فأقاموا بها إلى أواخر المحرم، فأتاهم الخبر بأن السلطان بركيارق قد أتاهم، فتلونوا في رأيهم، فسار ينال وعلي ابنا أنوشتكين إلى الري، على ما ذكرناه، وعزم السلطان محمد على التوجه إلى شروان، فوصل إلى أردبيل، فأرسل إليه الملك مودود بن إسماعيل بن ياقوتي، صاحب بعض أذربيجان، وكانت قبله لأبيه إسماعيل بن ياقوتي، وهو خال السلطان بركيارق، وكانت أخته زوجة السلطان محمد، وهو مطالب السلطان بركيارق بثأر أبيه، وقد تقدم مقتله أول دولة بركيارق، وقال له: ينبغي أن تقدم إلينا لتجتمع كلمتنا على طاعتك، وقتال خصمنا، فسار إليه مجداً، وتصيد في طريقه بين أردبيل وبيلقان، وانفرد عن عسكره، فوثب عليه نمر، وهو غافل، فجرح السلطان محمداً في عضده، فأخذ سكيناً وشق بها جوف النمر فألقاه عن فرسه ونجا.
ثم إن مودود بن إسماعيل توفي في النصف من ربيع الأول، وعمره اثنتان وعشرون سنة، ولما بلغ بركيارق اجتماع السلطان محمد والملك مودود سار غير متوقف، فوصل بعد موت مودود، وكان عسكر مودود قد اجتمعوا على طاعة السلطان محمد، وحلفوا له، وفيهم سكمان القبطي، ومحمد بن باغي سيان، الذي كان أبوه صاحب أنطاكية، وقزل أرسلان بن السبع الأحمر، فلما وصل بركيارق وقعت الحرب بينهما على باب خوي من أذربيجان عند غروب الشمس، ودامت إلى العشاء الآخرة.
فاتفق أن الأمير إياز أخذ معه خمسمائة فارس مستريحين، وحمل بهم، وقد أعيا العسكر من الجهتين، على عسكر السلطان محمد، فكسرهم، وولوا الأدبار لا يلوي أحد على أحد.
فأما السلطان بركيارق فإنه قصد جبلاً بين مراغة وتبريز، كثير العشب والماء، فأقام به أياماً، وسار إلى زنجان.
وأما السلطان محمد فإنه سار مع جماعة من أصحابه إلى أرجيش، من بلاد أرمينية، على أربعين فرسخاً من الوقعة، وهي من أعمال خلاط، من جملة أقطاع الأمير سكمان القبطي، وسار منها إلى خلاط، واتصل به الأمير علي صاحب أرزن الروم، وتوجه إلى آني، وصاحبها منوجهر أخو فضلون الروادي، ومنها سار إلى تبريز من أذربيجان. وسنذكر باقي أخبارهم سنة سبع وتسعين عند صلحهم إن شاء الله.

وكان الأمير محمد بن مؤيد الملك بن نظام الملك مع السلطان محمد في هذه الوقعة، فمر منهماً، ودخل ديار بكر، وانحدر منها إلى جزيرة ابن عمر، وسار منها إلى بغداد، وكان في حياة أبيه يقيم ببغداد في سوق المدرسة، فاتصلت الشكاوى منه إلى أبيه، فكتب إلى كوهرائين بالقبض عليه، فاستجار بدار الخلافة، وتوجه سنة اثنتين وتسعين إلى مجد الملك البلاساني، ووالده حينئذ بكنجة عند السلطان محمد، قبل أن يخطب لنفسه بالسلطنة، وتوجه بعد قتل مجد الملك إلى والده، وقد صار وزير السلطان محمد، وخطب لمحمد بالسلطنة، وبقي بعد قتل والده، واتصل بالسلطان محمد، وحضر معه هذه الحرب فانهزم.
ذكر عزل سديد الملك وزير الخليفة ونظر أبي سعد بن الموصلايا في الوزارةفي هذه السنة، منتصف رجب، قبض على الوزير سديد الملك أبي المعالي، وزير الخليفة، وحبس في دار بدار الخلافة، وكان أهله قد وردوا عليه من أصبهان، فنقلوا إليه، وكان محبسه جميلاً.
وسبب عزله جهله بقواعد ديوان الخلافة، فإنه قضى عمره في أعمال السلاطين، وليس لهم هذه القواعد، ولما قبض عاد أمين الدولة بن الموصلايا إلى النظر في الديوان.
ومن عجيب ما جرى من الكلام الذي وقع بعد أيام أن سديد الملك كان يسكن في دار عميد الدولة بن جهير، وجلس فيها مجلساً عاماً يحضره الناس لوعظ المؤيد عيسى الغزنوي، فأنشدوا أبياتاً ارتجلها:
سديد الملك سدت، وخضت بحراً ... عميق اللج، فاحفظ فيه روحك
وأحي معالم الخيرات، واجعل ... لسان الصدق في الدنيا فتوحك
وفي الماضين معتبر، فأسرج ... مروحك في السلامة، أو جموحك
ثم قال سديد الملك: من شرب من مرقة السلطان احترقت شفتاه، ولو بعد زمان، ثم أشار إلى الدار وقرأ: " وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم وتبين لكم كيف فعلنا بهم " ، فقبض على الوزير بعد أيام.
ذكر ملك الملك دقاق مدينة الرحبةفي هذه السنة، في شعبان، ملك الملك دقاق بن تتش، صاحب دمشق، مدينة الرحبة، وكانت بيد إنسان اسمه قايماز من مماليك السلطان ألب أرسلان، فلما قتل كربوقا استولى عليها، فسار دقاق وطغتكين أتابكه إليه، وحصراه بها، ثم رحل عنه.
وتوفي قايماز هذه السنة في صفر، وقام مقامه غلام تركي اسمه حسن، فأبعد عنه كثيراً من جنده، وخطب لنفسه، وخاف من دقاق، فاستظهر، وأخذ جماعة من السالارية الذين يخافهم، فقبض عليهم، وقتل جماعة من أعيان البلد، وحبس آخرين وصادرهم. فتوجه دقاق إليه وحصره، فسلم العامة البلد إليه، واعتصم حسن بالقلعة، فأمنه دقاق، فسلم القلعة إليه، فأقطعه إقطاعاً كثيراً بالشام، وقرر أمر الرحبة، وأحسن إلى أهلها، وجعل فيها من يحفظها، ورحل عنها إلى دمشق.
ذكر أخبار الفرنج بالشامكان الأفضل أمير الجيوش بمصر قد أنفذ ملوكاً لأبيه، لقبه سعد الدولة، ويعرف بالطواشي، إلى الشام لحرب الفرنج، فلقيهم بين الرملة ويافا، ومقدم الفرنج يعرف ببغدوين، لعنه الله تعالى، وتصافوا واقتتلوا، فحملت الفرنج حملة صادقة، فانهزم المسلمون.
وكان المنجمون يقولون لسعد الدولة: إنك تموت متردياً، فكان يحذر من ركوب الخيل، حتى إنه ولي بيروت وأرضها مفروشة بالبلاط، فقلعه خوفاً أن يزلق به فرسه، أو يعثر، فلم ينفعه الحذر عند نزول القدر، فلما كانت هذه الوقعة انهزم، فتردى به فرسه، فسقط ميتاً، وملك الفرنج خيمه وجميع ما للمسلمين.
فأرسل الأفضل بعده ابنه شرف المعالي في جمع كثير، فالتقوا هم والفرنج بيازوز،، بقرب الرملة، فانهزم الفرنج، وقتل منهم مقتلة عظيمة، وعاد من سلم منهم مغلولين، فلما رأى بغدوين شدة الأمر، وخاف القتل والأسر، ألقى نفسه في الحشيش واختفى فيه، فلما أبعد المسلمون خرج منه إلى الرملة. وسار شرف المعالي بن الأفضل من المعركة، ونزل على قصر بالرملة، وبه سبعمائة من أعيان الفرنج، وفيهم بغدوين، فخرج متخفياً إلى يافا، وقاتل ابن الأفضل من بقي خمسة عشر يوماً، ثم أخذهم، فقتل منهم أربعمائة صبراً، وأسر ثلاثمائة إلى مصر.
ثم اختلف أصحابه في مقصدهم، فقال يوم: نقصد البيت المقدس ونتملكه، وقال قوم: نقصد يافا ونملكها.

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://arabelalekat.yoo7.com
الشيخ عودة
الشيخ عودة
الشيخ عودة



عدد المساهمات : 1748
تاريخ التسجيل : 28/09/2008
العمر : 74

كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير - صفحة 7 Empty
مُساهمةموضوع: رد: كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير   كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير - صفحة 7 Emptyالثلاثاء فبراير 25, 2014 11:19 am

فبينما هم في هذا الاختلاف، إذ وصل إلى الفرنج خلق كثير في البحر، قاصدين زيارة البيت المقدس، فندبهم بغدوين للغزو معه، فساروا إلى عسقلان، وبها شرف المعالي، فلم يكن يقوى بحربهم، فلطف الله بالمسلمين، فرأى الفرنج البحرية حصانة عسقلان، وخافوا البيات، فرحلوا إلى يافا، وعاد ولد الأفضل إلى أبيه، فسير رجلاً يقال له تاج العجم في البر، وهو من أكبر مماليك أبيه، وجهز معه أربعة آلاف فارس، وسير في البحر رجلاً يقال له القاضي ابن قادوس، في الأسطول على يافا، ونزل تاج العجم على عسقلان، فاستدعاه ابن قادوس إليه ليتفقا على حرب الفرنج، فقال تاج العجم: ما يمكنني أن أنزل إليك إلا بأمر الأفضل، ولم يحضر عنده، ولا أعانه، فأرسل القادوسي إلى قاضي عسقلان، وشهودها، وأعيانها، وأخذ خطوطهم بأنه أقام على يافا عشرين يوماً، واستدعى تاج العجم، فلم يأته، ولا أرسل رجلاً، فلما وقف الأفضل على الحال أرسل من قبض على تاج العجم، وأرسل رجلاً، لقبه جمال الملك، فأسكنه عسقلان، وجعله متقدم العساكر الشامية.
وخرجت هذه السنة وبيد الفرنج، لعنهم الله، البيت المقدس، وفلسطين، ما عدا عسقلان، ولهم أيضاً يافا، وأرسوف، وقيسارية، وحيفا، وطبرية، واللاذقية، وأنطاكية، ولهم بالجزيرة الرها، وسروج.
وكان صنجيل يحاصر مدينة طرابلس الشام، والمواد تأتيها، وبها فخر الملك بن عمار، وكان يرسل أصحابه في المراكب يغيرون على البلاد التي بيد الفرنج، ويقتلون من وجدوا، وقصد بذلك أن يخلو السواد ممن يزرع لتقل المواد من الفرنج فيرحلوا عنه.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة، سادس المحرم، توفيت بنت أمير المؤمنين القائم بأمر الله، التي كانت زوجة السلطان طغرلبك، وكانت موصوفة بالدين، وكثرة الصدقة، وكان الخليفة المستظهر بالله قد ألزمها بيتها، لأنه بلغ عنها أنها تسعى في إزالة دولته.
وفيها، في شعبان أيضاً، استوزر المستظهر بالله زعيم الرؤساء أبا القاسم بن جهير، واستقدمه من الحلة من عند سيف الدولة صدقة، وقد ذكرنا في السنة المتقدمة سبب مسيره إليها، فلما قدم إلى بغداد وخرج كل أرباب الدولة فاستقبلوه، وخلع عليه الخلع التامة، وأجلس في الديوان ولقب قوام الدين.
وفيه أيضاً قتل أبو المظفر بن الخجندي بالري، وكان يعظ الناس، فقتله رجل علوي حين نزل من كرسيه، وقتل العلوي ودفن الخجندي بالجامع، وأصل بيت الخجندي من مدينة خجندة، بما وراء النهر، وينسبون إلى المهلب بن أبي صفرة، وكان نظام الملك قد سمع أبا بكر محمد بن ثابت الخجندي يعظ بمرو، فأعجبه كلامه، وعرف محله من الفقه والعلم، فحمله إلى أصبهان، وصار مدرساً بمدرسته بها، فنال جاهاً عريضاً، ودنيا واسعة، وكان نظام الملك يتردد إليه ويزوره.
وفيها جمع ساغربك، بما وراء النهر، جموعاً كثيرة، وهو من أولاد الخانية، وقصد محمد خان الذي ملكه السلطان سنجر سمرقند، ونازعه في ملكها، فضعف محمد خان عنه، فأرسل إلى السلطان سنجر يستنجده، فسار إلى سمرقند، فأبعد عنه ساغربك، وخافه، واحتمى منه، وأرسل يطلب الأمان من سنجر، والعفو، فأجابه إلى ما طلب، وحضر ساغربك عنده، وقرر الصلح بينه وبين محمد خان، وحلف كل واحد منهما لصاحبه، وعاد إلى خراسان، فوصل إلى مرو في ربيع الأول سنة سبع وتسعين وأربعمائة.
وفيها توفي أبو المعالي الصالح، ساكن باب الطاق، وكان مقلاً من الدنيا، له كرامات ظاهرة.
ثم دخلت سنة سبع وتسعين وأربعمائة
ذكر ملك بلك بن بهرام مدينة عانة
في هذه السنة، في المحرم، استولى بلك بن بهرام بن أرتق، وهو ابن أخي إيلغازي بن أرتق، على مدينة عانة، والحديثة، وكان له مدينة سروج، فأخذها الفرنج منه، فسار عنها إلى عانة وأخذها من بني يعيش بن عيسى بن خلاط، فقصد بنو يعيش سيف الدولة صدقة بن مزيد، ومعهم مشايخهم، فسألوه الإصعاد إليها، وأن يتسلمها منهم، ففعل وأصعد معهم.
فرحل التركمان وبهرام عنها، وأخذ صدقة رهائنهم، وعاد إلى حلته، فرجع بلك إليها ومعه ألفا رجل من التركمان، فمانعه أصحابه قليلاً، واستدل على المخاضة إليها، فخاضها وعبر، وملكهم ونهبهم، وسبى جميع حرمهم وانحدر طالباً هيت من الجانب الشامي، فبلغ إلى قريب منها، ثم رجع من يومه، ولما سمع صدقة جهز العساكر، ثم أعادهم عند عود بلك.

ذكر غارة الفرنج على الرقة وقلعة جعبر
في هذه السنة، في صفر، أغار الفرنج من الرها على مرج الرقة وقلعة جعبر، وكانوا لما خرجوا من الرها افترقوا فرقتين، وأبعدوا يوماً واحداً تكون الغارة على البلدين فيه، ففعلوا ما استقر بينهم، وأغاروا، واستاقوا المواشي، وأسروا من وقع بأيديهم من المسلمين، فكانت القلعة والرقة لسالم بن مالك بن بدران بن المقلد بن المسيب سلمها إليه السلطان ملكشاه سنة تسع وسبعين، وقد ذكرناه فيها.
ذكر الصلح بين السلطان بركيارق ومحمدفي هذه السنة، في ربيع الآخر، وقع الصلح بين السلطانين بركيارق ومحمد ابني ملكشاه.
وكان سببه أن الحروب تطاولت بينهما، وعم الفساد، فصارت الأموال منهوبة، والدماء مسفوكة، والبلاد مخربة، والقرى محرقة، والسلطنة مطموعاً فيها، محكوماً عليها، وأصبح الملوك مقهورين، بعد أن كانوا قاهرين، وكان الأمراء الأكابر يؤثرون ذلك ويختارونه ليدوم تحكمهم، وانبساطهم، وإدلالهم.
وكان السلطان بركيارق حينئذ بالري والخطبة له بها، وبالجبل، وطبرستان، وخوزستان، وفارس، وديار بكر، والجزيرة، وبالحرمين الشريفين.
وكان السلطان محمد بأذربيجان، والخطبة له فيها، وببلاد أرانية، وأرمينية، وأصبهان، والعراق، كلها ما عدا تكريت.
وأما أعمال البطائح فيخطب ببعضها لبركيارق، وببعضها لمحمد.
وأما البصرة فكان يخطب فيها لهما جميعاً.
وأما خراسان فإن السلطان سنجر كان يخطب له في جميعها، وهي من حدود جرجان إلى ما وراء النهر، ولأخيه السلطان محمد.
فلما رأى السلطان بركيارق المال عنده معدوماً، والطمع من العسكر زائداً، أرسل القاضي أبا المظفر الجرجاني الحنفي، وأبا الفرج أحمد بن عبد الغفار الهمذاني، المعروف بصاحب قراتكين، إلى أخيه محمد في تقرير قواعد الصلح، فسارا إليه، وهو بالقرب من مراغة، فذكرا له ما أرسلا فيه، ورغباه في الصلح وفضيلته، وما شمل البلاد من الخراب، وطمع عدو الإسلام في أطراف الأرض. فأجاب إلى ذلك، وأرسل فيه رسلاً، واستقر الأمر، وحلف كل واحد منهما لصاحبه، وتقررت القاعدة: أن السلطان بركيارق لا يعترض أخاه محمداً في الطبل، وأن لا يذكر معه على سائر البلاد التي صارت له، وأن لا يكاتب أحدهما الآخر بل تكون المكاتبة من الوزيرين، ولا يعارض أحد من العسكر في قصد أيهما شاء، وأن يكون للسلطان محمد من النهر المعروف بإسبيذروذ، إلى باب الأبواب، وديار بكر، والجزيرة، والموصل، والشام، ويكون له من بلاد العراق بلاد سيف الدولة صدقة.
فأجاب بركيارق إلى هذا، وزال الخلف، والشغب، وأرسل السلطان محمد إلى أصحابه بأصبهان يأمرهم بالانصراف عن البلد، وتسليمه إلى أصحاب أخيه، وسار السلطان بركيارق إلى أصبهان، فلما سلمها إليه أصحاب أخيه دعاهم إلى أن يكونوا معه، وفي خدمته، فامتنعوا، ورأوا لزوم خدمة صاحبهم، فسماهم أهل العسكرين جميعاً: أهل الوفاء، وتوجهوا من أصبهان، ومعهم حريم السلطان محمد، إليه، وأكرمهم بركيارق، وحمل لأهل أخيه المال الكثير، ومن الدواب ثلاثمائة جمل، ومائة وعشرين بغلاً، تحمل الثقل، وسير معهم العساكر يخدمونهم.
ولما وصلت رسل السلطان بركيارق إلى الخليفة المستظهر بالله بالصلح، وما استقرت القواعد عليه، حضر إيلغازي بالديوان، وسأل في إقامة الخطبة لبركيارق، فأجيب إلى ذلك، وخطب له بالديوان يوم الخميس تاسع عشر جمادى الأولى، وخطب له، من الغد، بالجوامع، وخطب له أيضاً بواسط.
ولما خطب إيلغازي ببغداد لبركيارق، وصار في جملته، أرسل الأمير صدقة إلى الخليفة يقول: كان أمير المؤمنين ينسب إلي كل ما يتجدد من إيلغازي من إخلال بواجب الخدمة، وشرط الطاعة، ومن اطراح المراقبة، والآن، فقد أبدى صفحته للسلطان الذي استنابه، وأنا غير صابر على ذلك، بل أسير لإخراجه عن بغداد.
فلما سمع إيلغازي ذلك شرع في جمع التركمان، وورد صدقة بغداد، فنزل مقابل التاج، وقبل الأرض، ونزل في مخيمه بالجانب الغربي، ففارق إيلغازي بغداد إلى يعقوبا، وأرسل إلى صدقة يعتذر من طاعته لبركيارق بالصلح الواقع، وأن إقطاعه حلوان وغيرها في جملة بلاده، وأن بغداد التي هو شحنة فيها قد صارت له، فذلك الذي أدخله في طاعته. فرضي عنه صدقة، وعاد إلى الحلة.

وفي ذي القعدة سيرت الخلع من الخليفة للسلطان بركيارق، وللأمير إياز، ولوزير بركيارق، وهو الخطير، والعهد بالسلطنة، وحلفوا جميعهم للخليفة وعادوا.
ذكر ملك الفرنج جبيل وعكا من الشامفي هذه السنة وصلت مراكب من بلاد الفرنج إلى مدينة اللاذقية، فيها التجار، والأجناد، والحجاج، وغير ذلك، واستعان بهم صنجيل الفرنجي على حصار طرابلس، فحصروها معه براً وبحراً، وضايقوها، وقاتلوها أياماً، فلم يروا فيها مطمعاً، فرحلوا عنها إلى مدينة جبيل، فحصروها، وقاتلوا عليها قتالاً شديداً. فلما رأى أهلها عجزهم عن الفرنج أخذوا أماناً، وسلموا البلد إليهم، فلم تف الفرنج لهم بالأمان، وأخذوا أموالهم، واستنقذوها بالعقوبات وأنواع العذاب.
فلما فرغوا من جبيل ساروا إلى مدينة عكا، استنجدهم الملك بغدوين، ملك الفرنج، صاحب القدس على حصارها، فنازلوها، وحصروها في البر والبحر.
وكان الوالي بها اسمه بنا، ويعرف بزهر الدولة الجيوشي، نسبة إلى ملك الجيوش الأفضل، فقاتلهم أشد قتال، فزحفوا إليه غير مرة، فعجز عن حفظ البلد، فخرج منه، وملك الفرنج البلد بالسيف قهراً، وفعلوا بأهله الأفعال الشنيعة، وسار الوالي به إلى دمشق، فأقام بها، ثم عاد إلى مصر، واعتذر إلى الأفضل فقبل عذره.
ذكر غزو سقمان وجكرمش الفرنجلما استطال الفرنج، خذلهم الله تعالى، بما ملكوه من بلاد الإسلام، واتفق لهم اشتغال عساكر الإسلام، وملوكه، بقتال بعضهم بعضاً، تفرقت حينئذ بالمسلمين الآراء، واختلفت الأهواء، وتمزقت الأموال.
وكانت حران لمملوك من مماليك ملكشاه اسمه قراجه، فاستخلف عليها إنساناً يقال له محمد الأصبهاني، وخرج في العام الماضي، فعصى الأصبهاني على قراجه، وأعانه أهل البلد لظلم قراجه.
وكان الأصبهاني جلداً، شهماً، فلم يترك بحران من أصحاب قراجه سوى غلام تركي يعرف بجاولي، وجعله أصفهسلار العسكر، وأنس به، فجلس معه يوماً للشرب، فاتفق جاولي مع خادم له على قتله فقتلاه وهو سكران. فعند ذلك سار الفرنج إلى حران وحصروها.
فلما سمع معين الدولة سقمان، وشمس الدولة جكرمش ذلك، وكان بينهما حرب، وسقمان يطالبه بقتل ابن أخيه، وكل منهما يستعد للقاء صاحبه، وأنا أذكر سبب قتل جكرمش له، إن شاء الله تعالى، أرسل كل منهما إلى صاحبه يدعوه إلى الاجتماع معه لتلافي أمر حران، ويعلمه أنه قد بذل نفسه لله تعالى، وثوابه، فكل واحد منهما أجاب صاحبه إلى ما طلب منه، وسارا، فاجتمعا على الخابور، وتحالفا، وسارا إلى لقاء الفرنج.
وكان مع سقمان سبعة آلاف فارس من التركمان، ومع جكرمش ثلاثة آلاف فارس من الترك، والعرب، والأكراد، فالتقوا على نهر البليخ، وكان المصاف بينهم هناك، فاقتتلوا، فأظهر المسلمون الانهزام، فتبعهم الفرنج نحو فرسخين، فعاد عليهم المسلمون فقتلوهم كيف شاؤوا، وامتلأت أيدي التركمان من الغنائم، ووصلوا إلى الأموال العظيمة، لأن سواد الفرنج كان قريباً، وكان بيمند، صاحب أنطاكية، وطنكري، صاحب الساحل، قد انفردا وراء جبل ليأتيا المسلمين من وراء ظهورهم، إذا اشتدت الحرب، فلما خرجا رأيا الفرنج منهزمين، وسوادهم منهوباً، فأقاما إلى الليل، وهربا، فتبعهما المسلمون، وقتلوا من أصحابهما كثيراً، وأسروا كذلك، وأفلتا في ستة فرسان.
وكان القمص بردويل، صاحب الرها، قد انهزم مع جماعة من قمامصتهم، وخاضوا نهر البليخ، فوجلت خيولهم، فجاء تركماني من أصحاب سقمان فأخذهم، وحمل بردويل إلى خيم صاحبه، وقد سار فيمن معه لاتباع بيمند، فرأى أصحاب جكرمش أن أصحاب سقمان قد استولوا على مال الفرنج، ويرجعون هم من الغنيمة بغير طائل، فقالوا لجكرمش: أي منزلة تكون لنا عند الناس، وعند التركمان إذا انصرفوا بالغنائم دوننا؟ وحسنوا له أخذ القمص، فأنفذ فأخذ القمص من خيم سقمان، فلما عاد سقمان شق عليه الأمر، وركب أصحابه للقتال، فردهم، وقال لهم: لا يقوم فرح المسلمين في هذه الغزاة بغمهم باختلافنا، ولا أؤثر شفاء غيظي بشماتة الأعداء بالمسلمين. ورحل لوقته، وأخذ سلاح الفرنج، وراياتهم، وألبس أصحابه لبسهم، وأركبهم خيلهم، وجعل يأتي حصون شيحان، وبها الفرنج، فيخرجون ظناً منهم أن اصحابهم نصروا، فيقتلهم ويأخذ الحصن منهم، فعل ذلك بعدة حصون.

وأما جكرمش فإنه سار إلى حران، فتسلمها، واستخلف بها صاحبه. وسار إلى الرها، فحصرها خمسة عشر يوماً، وعاد إلى الموصل ومعه القمص الذي أخذه من خيام سقمان، ففاداه بخمسة وثلاثين ديناراً، ومائة وستين أسيراً من المسلمين، وكان عدة القتلى من الفرنج يقارب اثني عشر ألف قتيل.
ذكر وفاة دقاق وملك ولدهفي هذه السنة، في شهر رمضان، توفي الملك دقاق بن تتش بن ألب أرسلان، صاحب دمشق، وخطب أتابكه طغتكين لولد له صغير، له سنة واحدة، وجعل اسم المملكة فيه، ثم قطع خطبته وخطب لبكتاش بن تتش، عم هذا الطفل، في ذي الحجة، وله من العمر اثنتا عشرة سنة.
ثم إن طغتكين أشار عليه بقصد الرحبة، فخرج إليها فملكها وعاد، فمنعه طغتكين من دخول البلد، فمضى إلى حصون له، وأعاد طغتكين خطبة الطف لولد دقاق.
وقيل إن سبب استيحاش بكتاش من طغتكين أن والدته خوفته منه، وقالت: إنه زوج والدة دقاق، وهي لا تتركه حتى يقتلك ويستقيم الملك لولدها، فخاف، ثم إنه حسن له من كان يحسد طغتكين مفارقة دمشق، وقصد بعلبك، وجمع الرجال، والاستنجاد بالفرنج، والعود إلى دمشق، وأخذها من طغتكين، فخرج من دمشق سراً في صفر سنة ثمان وتسعين، ولحقه الأمير أيتكين الحلبي، وهو من جملة من قرر مع بكتاش ذلك، وهو صاحب بصرى، فعاثا في نواحي حوران، ولحق بهما كل من يريد الفساد، وراسلا بغدوين ملك الفرنج يستنجدانه، فأجابهما إلى ذلك، وسار إليهما فاجتمعا به، وقررا القواعد معه، وأقاما عنده مدة، فلم يريا منه غير التحريض على الإفساد في أعمال دمشق، وتخريبها، فلما يئسا من نصره عادا من عنده، وتوجها في البرية إلى الرحبة، فملكها بكتاش وعاد عنها.
واستقام أمر طغتكين بدمشق واستبد بالأمر، وأحسن إلى الناس، وبث فيهم العدل، فسروا به سروراً كثيراً.
ذكر استيلاء صدقة على واسطفي هذه السنة، في شوال، انحدر سيف الدولة صدقة بن مزيد من الحلة إلى واسط في عسكر كثير، وأمر فنودي بها في الأتراك: من أقام فقد برئت منه الذمة، فسار جماعة منهم إلى بركيارق، وجماعة إلى بغداد، وصار مع صدقة جماعة منهم، ثم إنه أحضر مهذب الدولة بن أبي الجبر، صاحب البطيحة، فضمنه البلد لمدة، آخرها آخر السنة، بخمسين ألف دينار، وعاد إلى الحلة، وأقام مهذب الدولة بواسط إلى سادس ذي القعدة، وانحدر إلى بلده.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة، في ربيع الأول، أطلق سديد الملك أبو المعالي من الاعتقال، وهو الذي كان وزير الخليفة، ولما أطلق هرب إلى الحلة السيفية، ومنها إلى السلطان بركيارق، فولاه الإشراف على ممالكه.
وفيها توفي أمين الدولة أبو سعد العلاء بن الحسن بن الموصلايا، فجأة، وكان قد أضر، وكان بليغاً فصيحاً، وكان ابتداء خدمته للقائم بأمر الله سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة، خدم الخلفاء خمساً وستين سنة، كل يوم تزداد منزلته، حتى تاب عن الوزارة، وكان نصرانياً، فأسلم سنة أربع وثمانين، وكان كثير الصدقة، جميل المحضر، صالح النية، ووقف أملاكه على أبواب البر، ومكاتباته مشهورة حسنة، ولما مات خلع على ابن أخته أبي نصر، ولقب نظام الحضرتين، وقلد ديوان الإنشاء.
وفيها كانت ببغداد بين العامة فتن كثيرة، وانتشر العيارون.
وفيها قتل أبو نعيم بن ساوة الطبيب الواسطي، وكان من الحذاق في الطب، وله فيه إصابات حسنة.

وفيها عزل السلطان سنجر وزيره المجير أبا الفتح الطغرائي، وسبب ذلك أن الأمير بزغش، وهو أصفهسلار العسكر السنجري، ألقي إليه ملطف فيه: لا يتم لك أمر مع هذا السلطان، ووقع إلى سنجر، لا يتم لك أمر مع الأمير بزغش، مع كثرة جموعه، فجمع بزغش أصحاب العمائم، وعرض عليهم الملطفين، فاتفقوا على كاتب الطغرائي، وظهرت عليه فقتل، وقبض سنجر على الطغرائي، وأراد قتله، فمنعه بزغش، وقال له: حق خدمة، فأبعده إلى غزنة. وفيها جمع بزغش كثيراً من عساكر خراسان، وأتاه كثير من المتطوعة، وسار إلى قتال الإسماعيلية، فقصد طبس، وهي لهم، فخربها وما جاورها من القلاع والقرى، وأكثر فيهم القتل، والنهب، والسبي، وفعل بهم الأفعال العظيمة، ثم إن أصحاب سنجر أشاروا بأن يؤمنوا، ويشرط عليهم أنهم لا يبنون حصناً، ولا يشترون سلاحاً، ولا يدعون أحداً إلى عقائدهم، فسخط كثير من الناس هذا الأمان، وهذا الصلح، ونقموه على سنجر، ثم إن بزغش، بعد عوده من هذه الغزاة، توفي، وكانت خاتمة أمره الجهاد، رحمه الله.
وفي هذه السنة توفي أبو بكر علي بن أحمد بن زكرياء الطريثثي، وكان صوفياً محدثاً مشهوراً.
وفي رجب توفي القاضي أبو الحسين أحمد بن محمد الثقفي، قاضي الكوفة، ومولده في ربيع الأول سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة، وهو من ولد عروة بن مسعود، ومن تلاميذ القاضي الدامغاني، وولي القضاء بعده ابنه أبو البركات.
وفي ربيع الآخر توفي أبو عبد الله الحسين بن علي بن البسري البندار، المحدث، ومولده سنة أربع وأربعمائة.
ثم دخلت سنة ثمان وتسعين وأربعمائة
ذكر وفاة السلطان بركيارق
في هذه السنة، ثاني عشر ربيع الآخر، توفي السلطان بركيارق بن ملكشاه، وكان قد مرض بأصبهان، بالسل، والبواسير، فسار منها في محفة طالباً بغداد، فلما وصل إلى بروجرد ضعف عن الحركة، فأقام بها أربعين يوماً، فاشتد مرضه، فلما أيس من نفسه خلع على ولده ملكشاه، وعمره حينئذ أربع سنين وثمانية أشهر، وخلع على الأمير إياز، وأحضر جماعة من الأمراء، وأعلمهم أنه قد جعل ابنه ولي عهده في السلطنة، وجعل الأمير إياز أتابكه، وأمرهم بالطاعة لهما، ومساعدتهما على حفظ السلطنة لولده، والذب عنها، فأجابوا كلهم بالسمع والطاعة، وبذل النفوس والأموال في حفظ ولده وسلطنته عليه، واستحلفهم على ذلك، فحلفوا، وأمرهم بالمسير إلى بغداد، فساروا، فلما كانوا على اثني عشر فرسخاً من بروجرد وصلهم خبر وفاته، وكان بركيارق قد تخلف على عزم العود إلى أصبهان فعاجلته منيته.
فلما سمع الأمير إياز بموته أمر وزيره الخطير المبيذي وغيره بأن يسيروا مع تابوته إلى أصبهان، فحمل إليها، ودفن في تربة جددتها له سريته، ثم ماتت بعد أيام، فدفنت بإزائه، وأحضر إياز السرادقات، والخيام، والجتر، والشمسة، وجميع ما يحتاج إليه السلطان، فجعله برسم ولده ملكشاه.
ذكر عمره وشيء من سيرتهلما توفي بركيارق كان عمره خمساً وعشرين سنة، ومدة وقوع اسم السلطنة عليه اثنتي عشرة سنة وأربعة أشهر، وقاسى من الحروب واختلاف الأمور عليه ما لم يقاسه أحد، واختلفت به الأحوال بين رخاء وشدة، وملك وزواله، وأشرف، في عدة نوب، بعد إسلام النعمة، على ذهاب المهجة.
ولما قوي أمره، في هذا الوقت، وأطاعه المخالفون، وانقادوا له، أدركته منيته، ولم يهزم في حروبه غير مرة واحدة، وكان أمراؤه قد طمعوا فيه للاختلاف الواقع، حتى إنهم كانوا يطلبون نوابه ليقتلوهم، فلا يمكنه الدفع عنهم، وكان متى خطب به ببغداد وقع الغلاء، ووقفت المعايش والمكاسب، وكان أهلها مع ذلك يحبونه، ويختارون سلطنه.
وقد ذكرنا من تغلب الأحوال به ما وقفت عليه، ومن أعجبها دخوله أصبهان هارباً من عمه تتش، فمكنه عسكر أخيه محمود صاحبها من دخولها ليقبضوا عليه، فاتفق أن أخاه محموداً مات، فاضطروا إلى أن يملكوه، وهذا من أحسن الفرج بعد الشدة.
وكان حليماً، كريماً، صبوراً، عاقلاً، كثير المداراة،، حسن القدرة، لا يبالغ في العقوبة، وكان عفوه أكثر من عقوبته.
ذكر الخطبة لملكشاه بن بركيارقفي هذه السنة خطب لملكشاه بن بركيارق بالديوان يوم الخميس سلخ ربيع الآخر، وخطب له بجوار بغداد من الغد، يوم الجمعة.

وكان سبب ذلك أن إيلغازي، شحنة بغداد، سار في المحرم إلى السلطان بركيارق، وهو بأصبهان، يحثه على الوصول إلى بغداد، ورحل مع بركيارق، فلما مات بركيارق سار مع ولده ملكشاه والأمير إياز إلى بغداد، فوصلوها سابع عشر ربيع الآخر، ولقوا في طريقهم برداً شديداً لم يشاهدوا مثله، بحيث أنهم لم يقدروا على الماء لجموده.
وخرج الوزير أبو القاسم علي بن جهير، فلقيهم من ديالى، وكانوا خمسة آلاف فارس، وحضر إيلغازي، والأمير طغايرك، بالديوان، وخاطبوا في إقامة الخطبة لملكشاه بن بركيارق، فأجيب إليها، وخطب له، ولقب بألقاب جده ملكشاه، وهي جلال الدولة، وغيره من الألقاب، ونثرت الدنانير عند الخطبة له.
ذكر حصر السلطان محمد جكرمش بالموصللما اصطلح السلطان بركيارق والسلطان محمد، كما ذكرناه في السنة الخالية، وسلم محمد مدينة أصبهان إلى بركيارق، وسار إليها، أقام محمد بتبريز من أذربيجان إلى أن وصل أصحابه الذين بأصبهان، فلما وصلوا استوزر سعد الملك أبا المحاسن لحسن أثره كان في حفظ أصبهان، وأقام إلى صفر من هذه السنة، وسار إلى مراغة، ثم إلى إربل يريد قصد جكرمش، صاحب الموصل، ليأخذ بلاده.
فلما سمع جكرمش بمسيره إليه جدد سور الموصل، ورم ما احتاج إلى إصلاح، وأمر أهل السواد بدخول البلد، وأذن لأصحابه في نهب من لم يدخل.
وحصر محمد المدينة، وأرسل إلى جكرمش يذكر له الصلح بينه وبين أخيه، وأن في جملة ما استقر أن تكون الموصل وبلاد الجزيرة له، وعرض عليه الكتب من بركيارق إليه بذلك، والأيمان على تسليمها إليه، وقال له: إن أطعت فأنا لا آخذها منك، بل أقرها بيدك، وتكون الخطبة لي بها. فقال جكرمش: إن كتب السلطان وردت إلي، بعد الصلح، تأمرني أن لا أسلم البلد إلى غيره.
فلما رأى محمد امتناعه باكره القتال، وزحف إليه بالنقابين، والدبابات، وقاتل أهل البلد أشد قتال، وقتلوا خلقاً كثيراً لمحبتهم لجكرمش لحسن سيرته فيهم، فأمر جكرمش ففتح في السور أبواب لطاف يخرج منها الرجالة يقاتلون، فكانوا يكثرون القتل في العسكر، ثم زحف محمد مرة، فنقب في السور أصحابه، وأدركهم الليل، فأصبحوا وقد عمره أهل البلد، وشحنوه بالمقاتلة، وكانت الأسعار عندهم رخيصة في الحصار: كانت الحنطة تساوي كل ثلاثين مكوكاً بدينار، والشعير خمسين مكوكاً بدينار.
وكان بعض عسكر جكرمش قد اجتمعوا بتل يعفر، فكانوا يغيرون على أطراف العسكر، ويمنعون الميرة عنهم، فدام القتال عليهم إلى عاشر جمادى الأولى، فوصل الخبر إلى جكرمش بوفاة السلطان بركيارق، فأحضر أهل البلد، واستشارهم فيما يفعله بعد موت السلطان، فقالوا: أموالنا وأرواحنا بين يديك، وأنت أعرف بشأنك، فاستشر الجند، فهم أعرف بذلك. فاستشار أمراءه، فقالوا: لما كان السلطان حياً قد كنا على الامتناع، ولم يتمكن أحد من طروق بلدنا، وحيث توفي فليس للناس اليوم سلطان غير هذا، والدخول تحت طاعته أولى.
فأرسل إلى محمد يبذل الطاعة، ويطلب وزيره سعد الملك ليدخل إليه، فحضر الوزير عنده، وأخذ بيده، وقال: المصلحة أن تحضر الساعة عند السلطان، فإنه لا يخالفك في جميع ما تلتمسه، وأخذ بيده وقام، فسار معه جكرمش، فلما رآه أهل الموصل قد توجه إلى السلطان، جعلوا يبكون، ويضجون، ويحثون التراب على رؤسهم، فلما دخل على السلطان محمد أقبل عليه، وأكرمه، وعانقه، ولم يمكنه من الجلوس، وقال: ارجع إلى رعيتك، فإن قلوبهم إليك، وهم متطلعون إلى عودك، فقبل الأرض وعاد ومعه جماعة من خواص السلطان، وسأل السلطان من الغد أن يدخل البلد ليزين له، فامتنع من ذلك، فعمل سماطاً، بظاهر الموصل، عظيماً، وحمل إلى السلطان من الهدايا والتحف ولوزيره أشياء جليلة المقدار.
ذكر وصول السلطان إلى بغداد وصلحه مع ابن أخيه والأمير إيازلما وصل خبر وفاة السلطان بركيارق إلى أخيه السلطان محمد، وهو يحاصر الموصل، جلس للعزاء، وأصلح جكرمش، صاحب الموصل، كما ذكرناه، وسار إلى بغداد ومعه سكمان القطبي، وهو ينسب إلى قطب الدولة إسماعيل بن ياقوتي بن داود، وإسماعيل ابن عم ملكشاه، وسار معه جكرمش وغيرهما من الأمراء.

وكان سيف الدولة صدقة، صاحب الحلة، قد جمع خلقاً كثيراً من العساكر، فبلغت عدتهم خمسة عشر ألف فارس، وعشرة آلاف راجل، وأرسل ولديه بدران ودبيساً إلى السلطان محمد يستحثه على المجيء إلى بغداد، فاستصحبهما معه إلى بغداد.
فلما سمع الأمير إياز بمسيره إليه خرج هو والعسكر الذي معه من الدور، ونصبوا الخيام بالزاهر، خارج بغداد، وجمع الأمراء، واستشارهم فيما يفعله، فبذلوا له الطاعة واليمين على قتاله وحربه، ومنعه عن السلطنة، والاتفاق معه على طاعة ملكشاه بن بركيارق.
وكان أشدهم في ذلك ينال وصباوة، فإنهما بالغا في الإطماع في السلطان محمد، والمنع له عن السلطنة، فلما تفرقوا قال له وزيره الصفي أبو المحاسن: يا مولانا إن حياتي مقرونة بثبات نعمتك ودولتك، وأنا أكثر التزاماً بك من هؤلاء، وليس الرأي ما أشاروا به، فإن كلامهم يقصد أن يسلك طريقاً، وأن يقيم سوقاً لنفسه بك، وأكثرهم يناوئك في المنزلة، وإنما يقعد بهم عن منازعتك قلة العدد والمال، والصواب مصالحة السلطان محمد وطاعته، وهو يقرك على إقطاعك، ويزيدك عليه مهما أردت.
فتردد الأمير إياز بين الصلح والمباينة، إلا أن حركته في المباينة ظاهرة، وجمع السفن التي ببغداد عنده، وضبط المشارع من متطرق إلى عسكره وإلى البلد.
ووصل السلطان محمد إلى بغداد يوم الجمعة لثمان بقين من جمادى الأولى، ونزل عند الجانب الغربي بأعلى بغداد، وخطب له بالجانب الغربي، ولملكشاه بن بركيارق بالجانب الشرقي، وأما جامع المنصور فإن الخطيب قال فيه: اللهم أصلح سلطان العالم! وسكت.
وخاف الناس من امتداد الشر والنهب، فركب إياز في عسكره، وهم عازمون على الحرب، وسار إلى أشرف على عسكر السلطان محمد، وعاد إلى مخيمه، فدعا الأمراء إلى اليمين مرة ثانية على المخالصة لملكشاه، فأجاب البعض، وتوقف البعض، وقالوا: قد حلفنا مرة، ولا فائدة في إعادة اليمين، لأننا إن وفينا بالأولى وفينا بالثانية، وإن لم نف بالأولى فلا نفي بالثانية.
فأمر إياز حينئذ وزيره الصفي أبا المحاسن بالعبور إلى السلطان محمد في الصلح، وتسليم السلطنة إليه، وترك منازعته فيها، فعبر يوم السبت لسبع بقين من الشهر إلى عسكر محمد، واجتمع بوزيره سعد الملك أبي المحاسن سعد بن محمد، فعرفه ما جاء فيه، فحضرا عند السلطان محمد وأدى الصفي رسالة صاحبه إياز، واعتذاره عما كان منه أيام بركيارق، فأجابه محمد جواباً لطيفاً سكن به قلبه وطيب نفسه، وأجاب إلى ما التمس منه من اليمين.
فلما كان الغد حضر قاضي القضاة، والنقيبان، والصفي وزير إياز، عند السلطان محمد، فقال له وزيره سعد الملك: إن إياز يخاف لما تقدم منه، وهو يطلب العهد لملكشاه ابن أخيك، ولنفسه، وللأمراء الذين معه. فقال السلطان: أما ملكشاه فإنه ولدي، ولا فرق بيني وبين أخي، وأما إياز والأمراء فأحلف لهم، إلا ينال الحسامي وصباوة، فاستحلفه الكيا الهراس، مدرس النظامية، على ذلك، وحضر الجماعة اليمين. فلما كان من الغد حضر الأمير إياز عند السلطان محمد، فلقيه وزير السلطان، والناس كافة، ووصل سيف الدولة صدقة، ذلك الوقت، ودخلا جميعاً إلى السلطان، فأكرمهما، وأحسن إليهما، وقيل بل ركب السلطان ولقيهما، ووقف أحدهما عن يمينه، والآخر عن يساره، وأقام السلطان ببغداد إلى شعبان، وسار إلى أصبهان، وفعل فيها ما سنذكره، إن شاء الله تعالى.
ذكر قتل الأمير إيازفي هذه السنة، ثالث عشر جمادى الآخرة، قتل الأمير إياز، وقتله السلطان محمد.
وسبب ذلك أن إياز لما سلم السلطنة إلى السلطان محمد صار في جملته، واستحلفه لنفسه، فلما كان ثامن جمادى الآخرة عمل دعوة عظيمة في داره، وهي دار كوهرائين، ودعا السلطان إليها، وقدم له شيئاً كثيراً من جملته الحبل البلخش الذي أخذ من تركة مؤيد الملك بن نظام الملك، وقد تقدم ذكر ذلك، وحضر مع السلطان سيف الدولة صدقة بن مزيد.

وكان من الاتفاق الرديء أن إياز تقدم إلى غلمانه ليلبسوا السلاح من خزانته، ليعرضهم على السلطان، فدخل عليهم رجل من أبهر يتطايب معهم، ويضحكون منه، مع كونه يتصوف، فقالوا له: لا بد من أن نلبسك درعاً ونعرضك، فألبسوه الدرع تحت قميصه، وتناولوه بأيديهم، وهو يسألهم أن يكفوا عنه، فلم يفعلوا، فلشدة ما فعلوا هرب منهم، ودخل بين خواص السلطان معتصماً بهم، فرآه السلطان مذعوراً، وعليه لباس عظيم، فاستراب به، فقال لغلام له بالتركية ليلمسه من غير أن يعلم أحد، ففعل، فرأى الدرع تحت قميصه، فأعلم السلطان بذلك، فاستشعر، وقال: إذا كان أصحاب العمائم قد لبسوا السلاح، فكيف الأجناد! وقوي استشعاره لكونه في داره، وفي قبضته، فنهض وفارق الدار وعاد إلى داره.
فلما كان ثالث عشر الشهر استدعى السلطان الأمير صدقة، وإياز، وجكرمش، وغيرهم من الأمراء، فلما حضروا أرسل إليهم: إنه بلغنا أن قلج أرسلان بن سليمان بن قتلمش قصد ديار بكر ليتملكها، وسير منها إلى الجزيرة، وينبغي أن تجتمع أراؤهم على من يسير إليه ليمنعه ويقاتله. فقال الجماعة: ليس لهذا غير الأمير إياز، فقال إياز: ينبغي أن نجتمع أنا وسيف الدولة صدقة بن مزيد على هذا الأمر، والدفع لهذا القاصد، فقيل ذلك للسلطان، فأعاد الجواب يستدعي إياز، وصدقة، والوزير سعد الملك ليحرر الأمر في حضرته، فنهضوا ليدخلوا إليه.
وكان قد أعد جماعة من خواصه ليقتلوا إياز إذا دخل إليه، فلما دخلوا ضرب أحدهم رأسه فأبانه. فأما صدقة فغطى وجهه بكمه، وأما الوزير فإنه غشي عليه، ولف إياز في مسح وألقي على الطريق عند دار المملكة، وركب عسكر إياز، فنهبوا ما قدروا عليه من داره، فأرسل السلطان من حماها من النهب، وتفرق أصحابه من يومهم، وكان زوال تلك النعمة العظيمة، والدولة الكبيرة، في لحظة، بسبب هزل ومزاح، فلما كان من الغد كفنه قوم من المتطوعة، ودفنوه في المقابر المجاورة لقبر أبي حنيفة، رحمه الله.
وكان عمره قد جاوز أربعين سنة، وهو من جملة مماليك السلطان ملكشاه، ثم صار بعد موته في جملة أمير آخر، فاتخذه ولداً، وكان غزير المروة، شجاعاً، حسن الرأي في الحرب.
وأما وزيره الصفي فإنه اختفى، ثم أخذ وحمل إلى دار الوزير سعد الملك، ثم قتل في رمضان وعمره ست وثلاثون سنة، وكان من بيت رئاسة بهمذان.
ذكر وفاة سقمان بن أرتقكان فخر الملك بن عمار، صاحب طرابلس، قد كاتب سقمان يستدعيه إلى نصرته على الفرنج، ويبذل له المعونة بالمال والرجال، فبينما هو يتجهز للمسير أتاه كتاب طغتكين، صاحب دمشق، يخبره أنه مريض قد أشفى من الموت، وأنه يخاف إن مات، وليس بدمشق من يحميها، أن يملكها الفرنج، ويستدعيه ليوصي إليه، وبما يعتمده في حفظ البلد. فلما رأى ذلك أسرع في السير عازماً على أخذ دمشق، وقصد الفرنج في طرابلس، وإبعادهم عنها، فوصل إلى القريتين.
واتصل خبره بطغتكين، فخاف عاقبة ما صنع، ولقوة فكره زاد مرضه،. ولامه أصحابه على ما فرط في تدبيره وخوفوه عاقبة ما فعل، وقالوا له: قد رأيت سيدك تاج الدولة لما استدعاه إلى دمشق ليمنعه كيف قتله حين وقعت عينه عليه.
فبينما هم يديرون الرأي بأي حيلة يردونه أتاهم الخبر بأنه وصل القريتين، ومات، وحمله أصحابه وعادوا به، فأتاهم فرج لم يحسبوه، وكان مرضه الذي مات به الخوانيق، يعتريه دائماً، فأشار عليه صاحباه بالعود إلى حصن كيفا، فامتنع، وقال: بل أسير، فإن عوفيت تممت ما عزمت عليه، ولا يراني الله تثاقلت عن قتال الكفار خوفاً من الموت، وإن أدركني أجلي كنت شهيداً سائراً في جهاد. فساروا، فاعتقل لسانه يومين، ومات في صفر، وبقي ابنه إبراهيم في أصحابه، وجعل في تابوت وحمل إلى الحصن، وكان حازماً داهياً، ذا رأي، كثير الخير، وقد ذكرنا سبب أخذه لحصن كيفا.
وأما ملكه ماردين، فإن كربوقا خرج من الموصل، قفصد آمد، وحارب صاحبها، فاستنجد صاحبها، وهو تركماني، بسقمان، فحضر عنده، وصاف كربوقا.

وكان عماد الدين زنكي بن آقسنقر، حينئذ، صبياً قد حضر مع كربوقا، ومعه جماعة كثيرة من أصحاب أبيه، فلما اشتد القتال ظهر سقمان، فألقى أصحاب آقسنقر زنكي ولد صاحبهم بين أرجل الخيل، وقالوا: قاتلوا عن ابن صاحبكم! فقاتلوا حينئذ قتالاً شديداً، فانهزم سقمان، وأسروا ابن أخيه ياقوتي بن أرتق، فسجنه كربوقا بقلعة ماردين، وكان صاحبها إنساناً مغنياً للسلطان بركيارق، فطلب منه ماردين وأعمالها، فأقطعه إياها، فبقي ياقوتي في حبسه مدة، فمضت زوجة أرتق إلى كربوقا وسألته إطلاقه فأطلقه، فنزل عند ماردين، وكانت قد أعجبته، فأقام ليعمل في تملكها والاستيلاء عليها.
وكان من عند ماردين من الأكراد قد طمعوا في صاحبها المغني، وأغاروا على أعمال ماردين عدة دفعات، فراسله ياقوتي يقول: قد صار بيننا مودة وصداقة، وأريد أن أعمر بلدك بأن أمنع عنه الأكراد، وأغير على الأماكن، وآخذ الأموال أنفقها في بلدك وأقيم في الربض، فأذن له في ذلك، فجعل يغير من باب خلاط إلى بغداد، فصار ينزل معه بعض أجناد القلعة، طلباً للكسب، وهو يكرمهم، ولا يعترضهم، فأمنوا إليه.
فاتفق أن في بعض الأوقات نزل معه أكثرهم، فلما عادوا من الغارة أمر بقبضهم وتقييدهم، وسبقهم إلى القلعة، ونادى من بها من أهليهم: إن فتحتم الباب، وإلا ضربت أعناقهم، فامتنعوا، فقتل إنساناً منهم، فسلم القلعة من بها إليه وبقي بها.
ثم إنه جمع جمعاً وسار إلى نصيبين، وأغار على بلد جزير ابن عمر، وهي لجكرمش، فلما عاد أصحابه بالغنيمة أتاهم جكرمش، وكان ياقوتي قد أصابه مرض عجز معه عن لبس السلاح، وركوب الخيل، فحمل إلى فرسه فركبه، وأصابه سهم فسقط منه، فأتاه جكرمش، وهو يجود بنفسه، فبكى عليه، وقال له: ما حملك على ما صنعت يا ياقوتي؟ فلم يجبه، فمات، ومضت زوجة أرتق إلى ابنها سقمان، وجمعت التركمان، وطلبت بثأر ابن ابنها، وحصر سقمان نصيبين، وهي لجكرمش، فسير جكرمش إلى سقمان مالاً كثيراً سراً، فأخذه ورضي، وقال: إنه قتل في الحرب، ولا يعرف قاتله.
وملك ماردين بعد ياقوتي أخوه علي، وصار في طاعة جكرمش، واستخلف بها أميراً اسمه علي أيضاً، فأرسل علي الوالي بماردين إلى سقمان يقول له: ابن أخيك يريد أن يسلم ماردين إلى جكرمش، فسار سقمان بنفسه وتسلمها، فجاء إليه علي ابن أخيه وطلب إعادة القلعة إليه، فقال: إنما أخذتها لئلا يخرب البيت، فأقطعه جبل جور، ونقله إليه.
وكان جكرمش يعطي علياً كل سنة عشرين ألف دينار، فلما أخذ عمه سقمان ماردين منه، أرسل علي إلى جكرمش يطلب منه المال، فقال: إنما كنت أعطيتك احتراماً لماردين، وخوفاً من مجاورتك، والآن فاصنع ما أنت صانع، فلا قدرة لك علي.
ذكر حال الباطنية هذه السنة بخراسانفي هذه السنة سار جمع كثير من الإسماعيلية من طريثيت، عن بعض أعمال بيهق، وشاعت الغارة في تلك النواحي، وأكثروا القتل في أهلها، والنهب لأموالهم، والسبي لنسائهم، ولم يقفوا على الهدنة المتقدمة.
وفي هذه السنة اشتد أمرهم، وقويت شوكتهم، ولم يكفوا أيديهم عمن يريدون قتله، لاشتغال السلاطين عنهم. فمن جملة فعلهم: أن قفل الحاج تجمع، هذه السنة، مما وراء النهر، وخراسان، والهند، وغيرها من البلاد، فوصلوا إلى جوار الري، فأتاهم الباطنية وقت السحر، فوضعوا فيهم السيف، وقتلوهم كيف شاؤوا، وغنموا أموالهم ودوابهم، ولم يتركوا شيئاً.
وقتلوا هذه السنة أبا جعفر بن المشاط، وهو من شيوخ الشافعية، أخذ الفقه عن الخجندي، وكان يدرس بالري، ويعظ الناس، فلما نزل من كرسيه أتاه باطني فقتله.
ذكر حال الفرنج هذه السنة مع المسلمين بالشامفي هذه السنة، في شعبان، كانت وقعة بين طنكري الفرنجي، صاحب أنطاكية، وبين الملك رضوان، صاحب حلب، انهزم فيها رضوان.

وسببها أن طنكري حصر حصن أرتاح، وبه نائب الملك رضوان، فضيق الفرنج على المسلمين، فأرسل النائب بالحصن إلى رضوان يعرفه ما هو فيه من الحصر الذي أضعف نفسه ويطلب النجدة، فسار رضوان في عسكر كثير من الخيالة، وسبعة آلاف من الرجالة، منهم ثلاثة آلاف من المتطوعة، فساروا حتى وصلوا إلى قنسرين، وبينهم وبين الفرنج قليل، فلما رأى طنكري كثرة المسلمين أرسل إلى رضوان يطلب الصلح، فأراد أن يجيب، فمنعه أصبهبذ صباوة، وكان قد قصده، وصار معه بعد قتل إياز، فامتنع من الصلح، واصطفوا للحرب، فانهزمت الفرنج من غير قتال، ثم قالوا: نعود ونحمل عليهم حملة واحدة، فإن كانت لنا، وإلا انهزمنا، فحملوا على المسلمين فلم يثبتوا، وانهزموا، وقتل منهم وأسر كثير.
وأما الرجالة فإنهم كانوا قد دخلوا معسكر الفرنج لما انهزموا، فاشتغلوا بالنهب، فقتلهم الفرنج، ولم ينج إلا الشريد فأخذ أسيراً، وهرب من في أرتاح إلى حلب، وملكه الفرنج، لعنهم الله تعالى، وهرب أصبهبذ صباوة إلى طغتكين أتابك بدمشق، فصار معه ومن أصحابه.
ذكر حرب الفرنج والمصريينفي ذي الحجة من هذه السنة كانت وقعة بين الفرنج والمسلمين كانوا فيها على السواء.
وسببها أن الأفضل، وزير صاحب مصر، كان قد سير ولده شرف المعالي في السنة الخالية إلى الفرنج، فقهرهم، وأخذ الرملة منهم، ثم اختلف المصريون والعرب، وادعى كل واحد منهما أن الفتح له، فأتاهم سرية الفرنج، فتقاعد كل فريق منهما بالآخر، حتى كاد الفرنج يظهرون عليهم، فرحل عند ذلك شرف المعالي إلى أبيه بمصر، فنفذ ولده الآخر، وهو سناء الملك حسين، في جماعة من الأمراء منهم جمال الملك، والنائب بعسقلان للمصريين، وأرسلوا إلى طغتكين أتابك بدمشق يطلبون منه عسكراً، فأرسل إليهم أصبهبذ صباوة ومعه ألف وثلاثمائة فارس.
وكان المصريون في خمسة آلاف، وقصدهم بغدوين الفرنجي، صاحب القدس، وعكة، ويافا، في ألف وثلاثمائة فارس، وثمانية آلاف راجل، فوقع المصاف بينهم بين عسقلان ويافا، فلم تظهر إحدى الطائفتين على الأخرى، فقتل من المسلمين ألف ومائتان، ومن الفرنج مثلهم، وقتل جمال الملك، أمير عسقلان.
فلما رأى المسلمون أنهم قد تكافأوا في النكاية قطعوا الحرب وعادوا إلى عسقلان، وعاد صباوة إلى دمشق، وكان مع الفرنج جماعة من المسلمين منهم بكتاش بن تتش، وكان طغتكين قد عدل في الملك إلى ولد أخيه دقاق، وهو طفل، وقد ذكرناه، فدعاه ذلك إلى قصد الفرنج، والكون معهم.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة عظم فساد التركمان بطريق خراسان من أعمال العراق، قد كانوا قبل ذلك ينهبون الأموال، ويقطعون الطريق، إلا أنهم عندهم مراقبة. فلما كانت هذه السنة اطرحوا المراقبة، وعملوا الأعمال الشنيعة، فاستعمل إيلغازي بن أرتق، وهو شحنة العراق، على ذلك البلد ابن أخيه بلك بن بهرام بن أرتق، وأمره بحفظه وحياطته، ومنع الفساد عنه، فقام في ذلك القيام المرضي، وحمى البلاد، وكف الأيدي المتطاولة، وسار بلك إلى حصن خانيجار، وهو من أعمال سرخاب بن بدر، فحصره وملكه.
وفيها، في شعبان، جعل السلطان محمد قسيم الدولة سنقر البرسقي شحنة بالعراق، وكان موصوفاً بالخير، والدين، وحسن العهد، لم يفارق محمداً في حروبه كلها.
وفيها أقطع السلطان محمد الكوفة للأمير قايماز، وأوصى صدقة أن يحمي أصحابه من خفاجة، فأجاب إلى ذلك.
وفيها، في شهر رمضان، وصل السلطان محمد إلى أصبهان، فأمن أهلها، ووثقوا بزوال ما كان يشملهم من الخبط، والعسف، والمصادرة، وشتان بين خروجه منها هارباً متخفياًن وعوده إليها سلطاناً متمكناً، وعدل في أهلها، وأزال عنهم ما يكرهون، وكف الأيدي المتطرقة إليهم من الجند وغيرهم، فصارت كلمة العامي أقوى من كلمة الجندي، ويد الجندي قاصرة عن العامي من هيبة السلطان وعدله.
وفيها كثر الجدري في كثير من البلدان، لا سيما العراق، فإنه كان به كله، ومات به من الصبيان ما لا يحصى، وتبعه وباء كثير، وموت عظيم.
وتوفي في هذه السنة، في شوال، أحمد بن محمد بن أحمد أبو علي البرداني، الحافظ، ومولده سنة ست وعشرين وأربعمائة، سمع ابن غيلان، والبرمكي، والعشاري وغيرهم.

وتوفي أبو المعالي ثابت بن بندار بن إبراهيم البقال، ومولده سنة ست عشرة وأربعمائة، سمع أبا بكر البرقاني، وأبا علي بن شاذان، وكانت وفاته في جمادى الآخرة من هذه السنة.
وفي رابع جمادى الأولى توفي أبو الحسن محمد بن علي بن الحسن بن أبي الصقر، الفقيه الشافعي، ومولده سنة تسع وأربعمائة، وكان أديباً، شاعراً، فمن قوله:
من قال لي جاه، ولي حشمة، ... ولي قبول عند مولانا
ولم يعد ذاك بنفع على ... صديقه، لا كان من كانا
وفيها أيضاً توفي أبو نصر ابن أخت ابن الموصلايا، وكان كاتباً للخليفة جيد الكتابة، وكان عمره سبعين سنة، ولم يخلف وارثاً لأنه أسلم، وأهله نصارى، فلم يرثوه، وكان يبخل، إلا أنه كان كثير الصدقة، وأبو المؤيد عيسى بن عبد الله بن القاسم الغزنوي، كان واعظاً، شاعراً، كاتباً، قدم بغداد، ووعظ بها، ونصر مذهب الأشعري، وكان له قبول عظيم، وخرج منها، فمات باسفرايين.
ثم دخلت سنة تسع وتسعين وأربعمائة
ذكر خروج منكبرس على السلطان محمد
في هذه السنة، في المحرم، أظهر منكبرس ابن الملك بوربرس بن ألب أرسلان، وهو ابن عماد الملك السلطان محمد، العصيان للسلطان محمد والخلاف عليه.
وسبب ذلك: أنه كان مقيماً بأصبهان، فلحقته ضائقة شديدة، وانقطعت المواد عنه، فخرج منها وسار إلى نهاوند، فاجتمع عليه بها جماعة من العسكر، وظاهره على أمره جماعة من الأمراء، وتغلب على نهاوند، وخطب لنفسه بها، وكاتب الأمراء بني برسق يدعوهم إلى طاعته ونصرته.
وكان السلطان محمد قد قبض على زنكي بن برسق، فكاتب زنكي إخوته، وحذرهم من طاعة منكبرس، وما فيها من الأذى والخطر، وأمرهم بتدبير الأمر في القبض عليه.
فلما أتاهم كتاب أخيهم بذلك أرسلوا إلى منكبرس يبذلون له الطاعة والموافقة، فسار إليهم، وساروا إليه، فاجتمعوا به، وقبضوا عليه بالقرب من أعمالهم، وبلد خوزستان، وتفرق أصحابه، وأخذوا منكبرس إلى أصبهان، فاعتقله السلطان مع بني عمه تكش، وأخرج زنكي بن برسق، وأعاده إلى مرتبته، واستنزله وإخوته عن أقطاعهم، وهي ليشتر، وسابور خواست وغيرهما، ما بين الأهواز وهمذان، وأقطعهم عوضها الدينور وغيرها.
واتفق أن ظهر بنهاوند أيضاً، في هذه السنة، رجل من السواد ادعى النبوة، فأطاعه خلق كثير من السوادية، واتبعوه، وباعوا أملاكهم ودفعوا إليه أثمانها، فكان يخرج ذلك جميعه، وسمى أربعة من أصحابه: أبا بكر، وعمر، وعثمان، وعلياً، وقتل بنهاوند، فكان أهلها يقولون: ظهر عندنا، في مدة شهرين، اثنان ادعى أحدهما النبوة، والآخر المملكة، فلم يتم لواحد منهما أمره.
ذكر الحرب بين طغتكين والفرنجفي هذه السنة، في صفر، كانت وقعة بين طغتكين أتابك، صاحب دمشق، وبين قمص كبير من قمامصة الفرنج.
وسبب ذلك: أنه تكررت الحروب، والمغاورات، بين عسكر دمشق وبغدوين، فتارة لهؤلاء وتارة لهؤلاء، ففي آخر الأمر بنى بغدوين حصناً بينه وبين دمشق نحو يومين، فخاف طغتكين من عاقبة ذلك، وما يحدث به من الضرر، فجمع عسكره وخرج إلى مقاتلتهم، فسار بغدوين ملك القدس، وعكا، وغيرهما، إلى هذا القمص ليعاضده، ويساعده إلى المسلمين، فعرفه القمص غناه عنه، وأنه قادر على مقارعة المسلمين إن قاتلوه، فعاد بغدوين إلى عكا.
وتقدم طغتكين إلى الفرنج، واقتتلوا، واشتد القتال، فانهزم أميران من عسكر دمشق، فتبعهما طغتكين وقتلهما، وانهزم الفرنج إلى حصنهم، فاحتموا به، فقال طغتكين: من أحسن قتالهم وطلب مني أمراً فعلته معه، ومن أتاني بحجر من حجارة الحصن أعطيته خمسة دنانير. فبذل الرجالة نفوسهم، وصعدوا إلى الحصن وخربوه، وحملوا حجارته إلى طغتكين، فوفى لهم بما وعدهم، وأمر بإلقاء الحجارة في الوادي، وأسروا من بالحصن، فأمر بهم فقتلوا كلهم، واستبقى الفرسان أسراء، وكانوا مائتي فارس، ولم ينج ممن كان في الحصن إلا القليل.
وعاد طغتكين إلى دمشق منصوراً، فزين البلد أربعة أيام، وخرج منها إلى رفنية، وهو من حصون الشام، وقد تغلب عليه الفرنج، وصاحبه ابن أخت صنجيل المقيم على حصار طرابلس، فحصره طغتكين، وملكه، وقتل به خمسمائة رجل من الفرنج.
ذكر الحرب بين عبادة وخفاجةفي هذه السنة كانت حرب شديدة بين عبادة وخفاجة.

وسببها: أن رجلاً من عبادة أخذ منه جماعة خفاجة جملين، فجاء إليهم وطالبهم بهما، فلم يعطوه شيئاً، فأخذ منهم غارة أحد عشر بعيرا، فلحقته خفاجة، وقتلوا من أصحابه رجلاً، وقطعوا يد آخر، وكان ذلك بالموقف من الحلة السيفية، ففرق بينهم أهلها. فسمعت عبادة الخبر، فتواعدت، وانحدرت إلى العراق للأخذ بثأرها، وساروا مع جماعة من أمرائهم، فبلغت عدتهم سبعمائة فارس، وكانت خفاجة دون هذه العدة، فراسلتهم خفاجة يبذلون الدية ويصطلحون، فلم تجبهم إلى ذلك عبادة، وأشار به سيف الدولة صدقة، فلم تقبل عبادة، فالتقوا بالقرب من الكوفة، ومع عبادة الإبل والغنم بين البيوت، فكمنت لهم
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://arabelalekat.yoo7.com
الشيخ عودة
الشيخ عودة
الشيخ عودة



عدد المساهمات : 1748
تاريخ التسجيل : 28/09/2008
العمر : 74

كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير - صفحة 7 Empty
مُساهمةموضوع: رد: كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير   كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير - صفحة 7 Emptyالثلاثاء فبراير 25, 2014 11:20 am

وعاود القاضي مكاتبة أبي طاهر بن الصائغ، وأشار عليه أن يوافق رضوان على إنفاذ ثلاثمائة رجل من أهل سرمين، وينفذ معهم خيلاً من خيول الفرنج، وسلاحاً من أسلحتهم، ورؤوساً من رؤوس الفرنج، ويأتوا إلى ابن ملاعب ويظهروا أنهم غزاة ويشكوا من سوء معاملة الملك رضوان وأصحابه لهم، وأنهم فارقوه، فلقيهم طائفة من الفرنج، فظفروا بهم، ويحملوا جميع ما معهم إليه، فإذا أذن لهم في المقام اتفقت آراؤهم على إعمال الحيلة عليه، ففعل ابن الصائغ ذلك، ووصل القوم إلى أفامية، وقدموا إلى ابن ملاعب بما معهم من الخيل وغيرها، فقبل ذلك منهم، وأمرهم بالمقام عنده، وأنزلهم في ربض أفامية.
فلما كان في بعض الليالي نام الحراس بالقلعة، فقام القاضي ومن بالحصن من أهل سرمين، ودلوا الحبال وأصعدوا أولئك القادمين جميعهم، وقصدوا أولاد ابن ملاعب، وبني عمه، وأصحابه، فقتلوهم، وأتى القاضي وجماعة معه إلى ابن ملاعب، وهو مع امرأته، فأحس بهم، فقال: من أنت؟ فقال: ملك الموت جئت لقبض روحك! فناشده الله، فلم يرجع عنه، وجرحه، وقتله، وقتل أصحابه، وهرب ابناه، فقتل أحدهما، والتحق الآخر بأبي الحسن بن منقذ، صاحب شيزر، فحفظه لعهد كان بينهما.
ولما سمع ابن الصائغ خبر أفامية سار إليها، وهو لا يشك أنها له، فقال له القاضي: إن وافقتني، وأقمت معي، فبالرحب والسعة، ونحن بحكمك، وإلا فارجع من حيث جئت. فأيس ابن الصائغ منه، وكان أحد أولاد ابن ملاعب بدمشق عند طغتكين، غضبان على أبيه، فولاه طغتكين حصناً، وضمن على نفسه حفظ الطريق، وأخذ القوافل، فاستغاثوا إلى طغتكين منه، فأرسل إليه من طلبه، فهرب إلى الفرنج، واستدعاهم إلى حصن أفامية، وقال: ليس فيه غير قوت شهر، فأقاموا عليه يحاصرونه، فجاع أهله، وملكه الفرنج، وقتلوا القاضي المتغلب عليه، وأخذوا الصائغ فقتلوه، وكان هو الذي أظهر مذهب الباطنية بالشام.
هكذا ذكر بعضهم أن أبا طاهر الصائغ قتله الفرنج بأفامية، وقد قيل إن ابن بديع، رئيس حلب، قتله سنة سبع وخمسمائة، بعد وفاة رضوان، وقد ذكرناه هناك، والله أعلم.
ذكر نهب العرب البصرةقد ذكرنا استيلاء الأمير صدقة على البصرة، وأنه استناب بها مملوكاً كان لجده دبيس بن مزيد، اسمه التونتاش، وجعل معه مائة وعشرين فارساً. فاجتمعت ربيعة والمنتفق ومن انضم إليها من العرب، وقصدوا البصرة في جمع كثير، فقاتلهم التونتاش، فأسروه، وانهزم أصحابه، ولم يقدر من بها على حفظها، فدخلوها بالسيف أواخر ذي القعدة، وأحرقوا الأسواق، والدور الحسان، ونهبوا ما قدروا عليه، وأقاموا ينهبون ويحرقون اثنين وثلاثين يوماً، وتشرد أهلها في السواد، ونهبت خزانة كتب كانت موقوفة، وقفها القاضي أبو الفرج بن أبي البقاء.
وبلغ الخبر صدقة، فأرسل عسكراً، فوصلوا وقد فارقها العرب. ثم إن السلطان محمداً أرسل شحنة وعميداً إلى البصرة، وأخذها من صدقة، وعاد أهلها إليها وشرعوا في عمارتها.
ذكر حال طرابلس الشام مع الفرنجكان صنجيل الفرنجي، لعنه الله، قد ملك مدينة جبلة، وأقام على طرابلس يحصرها، فحيث لم يقدر أن يملكها، بنى بالقرب منها حصناً، وبنى تحته ربضاً، وأقام مراصداً لها، ومنتظراً وجود فرصة فيها، فخرج فخر الملك أبو علي بن عمار، صاحب طرابلس، فأحرق ربضه، ووقف صنجيل على بعض سقوفه المتحرقة، ومعه جماعة من القمامصة والفرسان، فانخسف بهم، فمرض صنجيل من ذلك عشرة أيام ومات، وحمل إلى القدس فدفن فيه.
ثم إن ملك الروم أمر أصحابه باللاذقية ليحملوا الميرة إلى هؤلاء الفرنج الذين على طرابلس، فحملوها في البحر، فأخرج إليها فخر الملك بن عمار أسطولاً، فجرى بينهم وبين الروم قتال شديد، فظفر المسلمون بقطعة من الروم، فأخذوها، وأسروا من كان بها وعادوا.
ولم تزل الحرب بين أهل طرابلس والفرنج خمس سنين إلى هذا الوقت، فعدمت الأقوات به، وخاف أهله على نفوسهم وأولادهم وحرمهم، فجلا الفقراء، وافتقر الأغنياء، وظهر من ابن عمار صبر عظيم، وشجاعة، ورأي سديد.
ومما أضر بالمسلمين فيها أن صاحبها استنجد سقمان بن أرتق، فجمع العساكر وسار إليه، فمات في الطريق، على ما ذكرناه، وإذا أراد الله أمراً هيأ أسبابه.

وأجرى ابن عمار الجرايات على الجند والضعفى، فلما قلت الأموال عنده شرع يقسط على الناس ما يخرجه في باب الجهاد، فأخذ من رجلين من الأغنياء مالاً مع غيرهما، فخرج الرجلان إلى الفرنج وقالا: إن صاحبنا صادرنا، فخرجنا إليكم لنكون معكم، وذكرا لهم أنه تأتيه الميرة من عرقة والجبل، فجعل الفرنج جميعاً على ذلك الجانب يحفظه من دخول شيء إلى البلد، فأرسل ابن عمار وبذل للفرنج مالاً كثيراً ليسلموا الرجلين إليه، فلم يفعلوا، فوضع عليهما من قتلهما غيلة.
وكانت طرابلس من أعظم بلاد الإسلام وأكثرها تجملاً وثروة، فباع أهلها من الحلى، والأواني الغريبة، ما لا حد عليه، حتى بيع كل مائة درهم نقرة بدينار. وشتان بين هذه الحالة وبين حال الروم أيام السلطان ألب أرسلان، وقد ذكرت ظفره بهم سنة ثلاث وستين وأربعمائة، وقد كان بعض أصحابه، وهو كمشتكين دواتي، عميد الملك، هرب منه خوفاً لما قبض على صاحبه عميد الملك، وسار إلى الرقة فملكها، وصار مع كثير من التركمان، فيهم: الأفشين وأحمد شاه، فقتلاه، وأرسلا أمواله إلى ألب أرسلان، ودخل الأفشين بلاد الروم، وقاتل الفردوس، صاحب أنطاكية، فهزمه، وقتل من الروم خلقاً كثيراً.
وسار ملك الروم من القسطنطينية إلى ملطية، فدخل الأفشين بلاده، ووصل إلى عمورية، وقتل في غزاته مائة ألف آدمي، ولما عاد إلى بلاد الإسلام وتفرق من معه خرج عليه عسكر الرها، وهي حينئذ للروم، ومعهم بنو نمير من العرب، فقاتلهم، ومعه مائتا فارس، فهزمهم ونهبهم، ونهب بلاد الروم، فأرسل ملك الروم رسولاً إلى القائم بأمر الله يسأله الصلح، فأرسل إلى ألب أرسلان في ذلك، فصالح الروم على مائة ألف دينار، وأربعة آلاف ثوب أصنافاً، وثلاثمائة رأس بغالاً. فشتان بين الحالتين.
وأقول شتان بين حال أولئك المرذولين الذين استعجزهم، وبين حال الناس في زماننا هذا، وهو سنة ست عشرة وستمائة مع الفرنج أيضاً والتتر، وسترى ذلك مشروحاً، إن شاء الله تعالى، لتعلم الفرق، نسأل الله تعالى أن ييسر للإسلام وأهله قائماً يقوم بنصرهم، وأن يدفع عنهم بمن أحب من خلقه، وما ذلك على الله بعزيز.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة ورد إلى بغداد إنسان من الملثمين، ملوك الغرب، قاصداً إلى دار الخلافة، فأكرم، وكان معه إنسان يقال له الفقيه، من الملثمين أيضاً، فوعظ الفقيه في جامع القصر، واجتمع له العالم العظيم، وكان يعظ وهو متلثم لا يظهر منه غير عينيه، وكان هذا الملثم قد حضر ابن الأفضل، أمير الجيوش بمصر، وقعته مع الفرنج، وأبلى بلاءً حسناً.
وكان سبب مجيئه إلى بغداد: أن المغاربة كانوا يعتقدون في العلويين، أصحاب مصر، الاعتقاد القبيح، فكانوا، إذا أرادوا الحج، يعدلون عن مصر، وكان أمير الجيوش بدر والد الأفضل أراد إصلاحهم، فلم يميلوا إليه، ولا قاربوه، فأمر بقتل من ظفر به منهم، فلما ولي ابنه الأفضل أحسن إليهم، واستعان بمن قاربه منهم على حرب الفرنج، وكان هذا من جملة من قاتل معه، فلما خالط المصريين خاف العود إلى بلاده، فقدم بغداد، ثم عاد إلى دمشق، ولم يكن للمصريين حرب مع الفرنج إلا وشهدها، فقتل في بعضها شهيداً، وكان شجاعاً فتاكاً مقداماً.
وفيها، في ربيع الآخر، ظهر كوكب في السماء له ذؤابة، كقوس قزح، آخذة من المغرب إلى وسط السماء، وكان يرى قريباً من الشمس قبل ظهوره ليلاً، وبقي يظهر عدة ليال، ثم غاب.
وفيها وصل الملك قلج أرسلان بن سليمان بن قتلمش، صاحب بلاد الروم، إلى الرها ليحصرها، وبها الفرنج، فراسله أصحاب جكرمش المقيمون بحران ليسلموها إليه، فسار إليهم وتسلم البلد، وفرح به الناس لأجل جهاد الفرنج، فأقام بحران أياماً، ومرض مرضاً شديداً، أوجب عوده إلى ملطية، فعاد مريضاً، وبقي أصحابه بحران.
وفي هذه السنة توفي الشيخ أبو منصور الخياط المقري، إمام مسجد ابن جردة، وكان خيراً صالحاً.
وفيها قتل القاضي أبو العلاء صاعد بن أبي محمد النيسابوري الحنفي بجامع أصبهان، قتله باطني.
وفيها توفي أبو الفوارس الحسين بن علي بن الحسين بن الخازن، صاحب الخط الجيد، وعمره سبعون سنة، قيل إنه كتب خمسمائة ختمة.

وفيها، في المحرم، توفي القاضي أبو الفرج محمد بن عبيد الله بن الحسن، قاضي البصرة، وله ثلاث وثمانون سنة، وكان من الفقهاء الشافعية المشهورين، تفقه على الماوردي، وأبي إسحاق، وأخذ النحو عن الرقي، والدهان، وابن برهان، وكان عفيفاً، مقدماً عند الخلفاء والسلاطين.
وفيها، في المحرم، توفي سهل بن أحمد بن علي الأرغياني، أبو الفتح الحاكم، تفقه على الجويني، وبرز، ثم ترك المناظرة، وبنى رباطاً، واشتغل بالعبادة وقراءة القرآن.
وفيها، في صفر، توفي الأمير مهارش بن مجلي وله نحو ثمانين سنة، وهو الذي كان الخليفة القائم عنده بالحديثة، وكان كثير الصلاة والصوم، يحب الخير وأهله، ولما توفي ملك الحديثة بعده ابنه سليمان.
ثم دخلت سنة خمسمائة
ذكر وفاة يوسف بن تاشفين
وملك ابنه علي
في هذه السنة توفي أمير المسلمين يوسف بن تاشفين، ملك الغرب والأندلس، وكان حسن السيرة، خيراً، عادلاً، يميل إلى أهل الدين والعلم، ويكرمهم، ويصدر عن رأيهم، ولما ملك الأندلس، على ما ذكرناه، جمع الفقهاء وأحسن إليهم، فقالوا له: ينبغي أن تكون ولايتك من الخليفة لتجب طاعتك على الكافة، فأرسل إلى الخليفة المستظهر بالله، أمير المؤمنين، رسولاً ومعه هدية كثيرة، وكتب معه كتاباً يذكر ما فتح الله من بلاد الفرنج، وما اعتمده من نصرة الإسلام، ويطلب تقليداً بولاية البلاد، فكتب له تقليد من ديوان الخلافة بما أراد، ولقب أمير المسلمين، وسيرت إليه الخلع، فسر بذلك سروراً كثيراً، وهو الذي بنى مدينة مراكش للمرابطين، وبقي على ملكه إلى سنة خمسمائة، فتوفي وملك بعده البلاد ولده علي بن يوسف، وتلقب أيضاً أمير المسلمين، فازداد في إكرام العلماء والوقوف عند إشارتهم، وكان إذا وعظه أحدهم خشع عند استماع الموعظة، ولان قلبه لها، وظهر ذلك عليه.
وكان يوسف بن تاشفين حليماً، كريماً، ديناً، خيراً، يحب أهل العلم والدين، ويحكمهم في بلاده، وكان يحب العفو والصفح عن الذنوب العظام، فمن ذلك أن ثلاثة نفر اجتمعوا، فتمنى أحدهم ألف دينار يتجر بها، وتمنى الآخر عملاً يعمل فيه لأمير المسلمين، وتمنى الآخر زوجته النفزاوية، وكانت من أحسن النساء، ولها الحكم في بلاده، فبلغه الخبر، فأحضرهم، وأعطى متمني المال ألف دينار، واستعمل الآخر، وقال للذي تمنى زوجته: يا جاهل! ما حملك على هذا الذي لا تصل إليه؟ ثم أرسله إليها، فتركته في خيمة ثلاثة أيام تحمل إليه كل يوم طعاماً واحداً، ثم أحضرته وقالت له: ما أكلت هذه الأيام؟ قال: طعاماً واحداً، فقالت: كل النساء شيء واحد. فأمرت له بمال وكسوة وأطلقته.
ذكر قتل فخر الملك بن نظام الملكفي هذه السنة قتل فخر الملك أبو المظفر علي بن نظام الملك، يوم عاشوراء، وكان أكبر أولاده، وقد ذكرنا سنة ثمان وثمانين وأربعمائة وزارته للسلطان بركيارق، فلما فارق وزارته قصد نيسابور، وأقام عند الملك سنجر بن ملكشاه، ووزر له، وأصبح يوم عاشوراء صائماً، وقال لأصحابه: رأيت الليلة في المنام الحسين بن علي، عليه السلام ، وهو يقول: عجل إلينا، وليكن إفطارك عندنا، وقد اشتغل فكري به، ولا محيد عن قضاء الله وقدره! وقالوا: يحميك الله، والصواب أن لا تخرج اليوم والليلة من دارك، فأقام يومه يصلي، ويقرأ القرآن، وتصدق بشيء كثير.
فلما كان وقت العصر خرج من الدار التي كان بها يريد دار النساء، فسمع صياح متظلم، شديد الحرقة، وهو يقول: ذهب المسلمون، فلم يبق من يكشف مظلمة، ولا يأخذ بيد ملهوف! فأحضره عنده، رحمة له، فحضر فقال: ما حالك؟ فدفع إليه رقعة، فبينما فخر الملك يتأملها إذ ضربه بسكين فقضى عليه، فمات، فحمل الباطني إلى سنجر، فقرره، فأقر على جماعة من أصحاب السلطان كذباً، وقال: إنهم وضعوني على قتله، وأراد أن يقتل بيده وسعايته، فقتل من ذكر، وكان مكذوباً عليهم، ثم قتل الباطني بعدهم، وكان عمر فخر الملك ستاً وستين سنة.
ذكر ملك صدقة بن مزيد تكريت

في هذه السنة، في صفر، تسلم الأمير سيف الدولة صدقة بن منصور بن مزيد قلعة تكريت، وقد ذكرنا فيما تقدم أنها كانت لبني مقن العقيليين، وكانت إلى آخر سنة سبع وعشرين وأربعمائة بيد رافع بن الحسين بن مقن، فمات، ووليها ابن أخيه أبو منعة خميس بن تغلب بن حماد، ووجد بها خمسمائة ألف دينار سوى المصاغ، وتوفي سنة خمس وثلاثين وأربعمائة، ووليها ولده أبو غشام.
فلما كان سنة أربع وأربعين وثب عليه عيسى فحبسه، وملك القلعة والأموال، فلما اجتاز به طغرلبك سنة ثمان وأربعين صالحه على بعض المال فرحل عنه.
وخافت زوجته أميرة، بعد موته، أن يعود غشام فيملك القلعة، فقتلته، وكان قد بقي في الحبس أربع سنين، واستنابت في القلعة أبا الغنائم بن المحلبان، فسلمها إلى أصحاب السلطان طغرلبك، فسارت إلى الموصل، فقتلها ابن أبي غشام بأبيه، وأخذ شرف الدولة مسلم بن قريش مالها، ورد طغرلبك أمر القلعة إلى إنسان يعرف بأبي العباس الرازي، فمات بها بعد ستة أشهر، فملكها المهرباط، وهو أبو جعفر محمد بن أحمد نب خشنام من بلد الثغر، فأقام بها إحدى وعشرين سنة ومات، ووليها ابنه سنتين، وأخذتها منه تركان خاتون، ووليها لها كوهرائين.
ثم ملكها بعد وفاة ملكشاه قسيم الدولة آقسنقر، صاحب حلب، فلما قتل صارت للأمير كمشتكين الجاندار، فجعل فيها رجلاً يعرف بأبي المصارع، ثم عادت إلى كوهرائين إقطاعاً، ثم أخذها منه مجد الملك البلاساني، فولى عليها كيقباذ بن هزارسب الديلمي، فأقام بها اثنتي عشرة سنة، فظلم أهلها، وأساء السيرة، فلما اجتاز به سقمان بن أرتق سنة ست وتسعين ونهبها، كان كيقباذ ينهبها ليلاً، وسقمان ينهبها نهاراً.
فلما استقر السلطان محمد بعد موت أخيه بركيارق أقطعها للأمير آقسنقر البرسقي، شحنة بغداد، فسار إليها وحصرها مدة تزيد على سبعة أشهر، حتى ضاق على كيقباذ الأمر، فراسل صدقة بن مزيد ليسلمها إليه، فسار إليها في صفر هذه السنة وتسلمها منه، وانحدر البرسقي ولم يملكها.
ومات كيقباذ بعد نزوله من القلعة بثمانية أيام، وكان عمره ستين سنة، واستناب صدقة بها ورام بن أبي فراس بن ورام، وكان كيقباذ ينسب إلى الباطنية، وكان موته من سعادة صدقة فإنه لو أقام عنده لعرض صدقة لظنون الناس في اعتقاده ومذهبه.
ذكر الحرب بين عبادة وخفاجةفي هذه السنة، في ربيع الأول، كانت حرب بين عبادة وخفاجة، فظفرت عبادة، وأخذت بثأرها من خفاجة.
وكان سبب ذلك أن سيف الدولة صدقة أرسل ولده بدران في جيش إلى طرف بلاده مما يلي البطيحة ليحميها من خفاجة لأنهم يؤذون أهل تلك النواحي، فقربوا منه، وتهددوا أهل البلاد، فكتب إلى أبيه يشكو منهم، ويعرفه حالهم، فأحضر عبادة، وكانت خفاجة قد فعلت بهم العام الماضي ما ذكرناه، فلما حضروا عنده قال لهم ليتجهزوا مع عسكره ليأخذوا بثأرهم من خفاجة، فساروا في مقدم عسكره، فأدركوا حلة من خفاجة من بني كليب ليلاً، وهم غارون، لم يشعروا بهم، فقالوا: من أنتم؟ فقالت عبادة: نحن أصحاب لديون، فعلموا أنهم عبادة، فقاتلوهم، وصبرت خفاجة، فبينما هم في القتال إذ سمع طبل الجيش، فانهزموا، وقتلت منهم عبادة جماعة، وكان فيهم عشرة من وجوههم، وتركوا حرمهم، فأمر صدقة بحراستهن وحمايتهن، وأمر العسكر أن يؤثروا عبادة بما غنموه من أموال خفاجة، خلفاً لهم عما أخذ منهم في العام الماضي.
وأصاب خفاجة من مفارقة بلادها، ونهب أموالها، وقتل رجالها، أمر عظيم، وانتزحت إلى نواحب البصرة، وأقامت عبادة في بلاد خفاجة.
ولما انهزمت خفاجة وتفرقت ونهبت أموالها، جاءت امرأة منهم إلى الأمير صدقة، فقالت له: إنك سبيتنا، وسلبتنا قوتنا، وغربتنا، وأضعت حرمتنا، قابلك الله في نفسك، وجعل صورة أهلك كصورتنا، فكظم الغيظ واحتمل لها ذلك، وأعطاها أربعين جملاً، ولم يمض غير قليل حتى قابل الله صدقة في نفسه وأولاده، فإن دعاء الملهوف عند الله بمكان.
ذكر مسير جاولي سقاوو إلى الموصل
وأسر صاحبها جكرمش
في هذه السنة، في المحرم، أقطع السلطان محمد جاولي سقاوو الموصل، والأعمال التي بيد جكرمش، وكان جاولي قبل هذا قد استولى على البلاد التي بين خوزستان وفارس، وأقام بها سنين، وعمر قلاعها وحصنها، وأساء السيرة في أهلها، وقطع أيديهم وجدع أنوفهم وسمل أعينهم.

فلما تمكن السلطان محمد من السلطنة خافه جاولي، وأرسل السلطان إليه الأمير مودود بن التونتكين، فتحصن منه جاولي، وحصره مودود ثمانية أشهر، فأرسل جاولي إلى السلطان: إنني لا أنزل إلى مودود، فإن أرسلت غيره نزلت. فأرسل إليه خاتمه مع أمير آخر، فنزل جاولي، وحضر الخدمة بأصبهان، فرأى من السلطان ما يحب، وأمره السلطان بالمسير إلى الفرنج ليأخذ البلاد منهم، وأقطعه الموصل وديار بكر والجزيرة كلها.
وكان جكرمش لما عاد من عند السلطان إلى بلاده، كما ذكرناه، وعد من نفسه الخدمة، وحمل المال، فلما استقر ببلاده لم يف بما قال، وتثاقل في الخدمة وحمل المال، فأقطع بلاده لجاولي، فجاء إلى بغداد، وأقام بها إلى أول ربيع الأول، وسار إلى الموصل، وجعل طريقه على البوازيج، فملكها ونهبها أربعة أيام، بعد أن أمن أهلها، وحلف لهم أنه يحميهم، فلما ملكها سار إلى إربل.
وأما جكرمش فإنه لما بلغه مسيره إلى بلاده كتب في جمع العساكر، فأتاه كتاب أبي الهيجاء موسك الكردي الهذباني، صاحب إربل، يذكر استيلاء جاولي على البوازيج، ويقول له: إن لم تعجل المجيء لنجتمع عليه ونمنعه، وإلا اضطررت إلى موافقته والمصير معه. فبادر جكرمش وعبر إلى شرقي دجلة، وسار في عسكر الموصل قبل اجتماع عساكره، وأرسل إليه أبو الهيجاء عسكره مع أولاده، فاجتمعوا بقرية باكلبا من أعمال إربل.
ووافاهم جاولي وهو في ألف فارس، وكان جكرمش في ألفي فارس، ولا يشك أنه يأخذ جاولي باليد، فلما اصطفوا للحرب حمل جاولي من القلب على قلب جكرمش فانهزم من فيه، وبقي جكرمش وحده لا يقدر على الهزيمة لفالج كان به، فهو لا يقدر أن يركب، وإنما يحمل في محفة، فلما انهزم أصحابه قاتل عنه ركابي أسود قتالاً عظيماً، فقتل، وقاتل معه واحد من أولاد الملك قاورت بك بن داود، اسمه أحمد، فقاتل بين يديه، فطعن فجرح وانهزم، فمات بالموصل، ولم يقدر أصحاب جاولي على الوصول إلى جكرمش، حتى قتل الركابي الأسود فحينئذ أخذوه أسيراً وأحضروه عند جاولي، فأمر بحفظه وحراسته.
وكانت عساكر جكرمش التي استدعاها قد وصلت إلى الموصل بعد مسيره بيومين، فساروا جرائد ليدركوا الحرب، فلقيهم المنهزمون ليقضي الله أمراً كان مفعولاً.
ذكر حصر جاولي سقاوو الموصل
وموت جكرمش
لما انهزم العسكر، وأسر جكرمش، وصل الخبر إلى الموصل، فأقعدوا في الأمر زنكي بن جكرمش، وهو صبي عمره إحدى عشرة سنة، وخطبوا له، وأحضروا أعيان البلد، والتمسوا منهم المساعدة، فأجابوا إلى ذلك.
وكان مستحفظ القلعة مملوكاً لجكرمش اسمه غزغلي، فقام في ذلك المقام المرضي، وفرق الأموال التي جمعها جكرمش، والخيول، وغير ذلك على الجند، وكاتب سيف الدولة صدقة، وقلج أرسلان، والبرسقي، شحنة بغداد، بالمبادرة إليهم، ومنع جاولي عنهم، ووعدوا كلاً منهم أن يسلموا البلد إليه. فأما صدقة فلم يجبهم إلى ذلك، ورأى طاعة السلطان، وأما البرسقي وقلج أرسلان فنذكر حالهما.
ثم إن جاولي حصر الموصل، ومعه كرماوي بن خراسان التركماني، وغيره من الأمراء، وكثر جمعه، وأمر أن يحمل جكرمش كل يوم على بغل وينادى أصحابه بالموصل ليسلموا البلد ويخلصوا صاحبهم مما هو فيه، ويأمرهم هو بذلك، فلا يسمعون منه، وكان يسجنه في جب، ويوكل به من يحفظه لئلا يسرق، فأخرج في بعض الأيام ميتاً، وعمره نحو ستين سنة، وكان شأنه قد علا، ومنزلته قد عظمت، وكان قد شيد سور الموصل وقواه، وبنى عليه فصيلاً، وحفر خندقها، وحصنها غاية ما يقدر عليه.
وكان مع جكرمش رجل من أعيان الموصل يقال له أبو طالب بن كسيرات، وبنو كسيرات إلى الآن بالموصل من أعيان أهلها، وكان أبو طالب قد تقدم عند جكرمش، وارتفعت منزلته، واستولى على أموره، وحضر معه الحرب، فلما أسر جكرمش هرب أبو طالب إلى إربل، وكان أولاد أبي الهيجاء، صاحب إربل، قد حضروا الحرب مع جكرمش، وأسرهم جاولي، فأرسل إلى أبي الهيجاء يطلب ابن كسيرات، فأطلقه وسيره إليه، فأطلق جاولي ابن أبي الهيجاء، فلما حضر ابن كسيرات عند جاولي ضمن له فتح الموصل وبلاد جكرمش، وتحصيل الأموال، فاعتقله اعتقالاً جميلاً.

وكان قاضي الموصل أبو القاسم بن ودعان عدواً لأبي طالب، فأرسل إلى جاولي يقول له: إن قتلت أبا طالب سلمت الموصل إليك. فقتله وأرسل رأسه إليه، فأظهر الشماتة به، وأخذ كثيراً من أمواله وودائعه، فثار به الأتراك غضباً لأبي طالب ولتفرده بما أخذ من أمواله، فقتلوه، وكان بينهما شهر واحد، وقد رأينا كثيراً، وسمعنا ما لا نحصيه من قرب وفاة أحد المتعاديين بعد صاحبه.
ذكر الحرب بين ملك القسطنطينية والفرنجفي هذه السنة كانت وحشة مستحكمة بين ملك الروم، صاحب القسطنطينية، وبين بيمند الفرنجي، فسار بييمند إلى بلد ملك الروم ونهبه، وعزم على قصده، فأرسل ملك الروم إلى الملك قلج أرسلان بن سليمان، صاحب قونية وأقصرا وغيرهما من تلك البلاد، يستنجده، فأمده بجمع من عسكره، فقوي بهم، وتوجه إلى بيمند، فالتقوا وتصافوا واقتتلوا، وصبر الفرنج بشجاعتهم، وصبر الروم ومن معهم لكثرتهم، ودامت الحرب، ثم أجلت الوقعة عن هزيمة الفرنج، وأتى القتل على أكثرهم، وأسر كثير منهم، والذين سلموا عادوا إلى بلادهم بالشام، وعاد عسكر قلج أرسلان إلى بلادهم عازمين على المسير إلى صاحبهم بديار الجزيرة، فأتاهم خبر قتله، على ما نذكره إن شاء الله تعالى، فتركوا الحركة وأقاموا.
ذكر ملك قلج أرسلان الموصلقد ذكرنا أن أصحاب جكرمش كتبوا إلى الأمير صدقة، وقسيم الدولة البرسقي، والملك قلج أرسلان بن سليمان بن قتلمش السلجوقي، صاحب بلاد الروم يستدعون كلاً منهم إليهم ليسلموا البلد إليه. فأما صدقة فامتنع، ورأى طاعة السلطان، وأما قلج أرسلان فإنه سار في عساكره فلما سمع جاولي سقاوو بوصوله إلى نصيبين رحل عن الموصل، وأما البرسقي فإنه كان شحنة بغداد، فسار منها إلى الموصل، فوصلها بعد رحيل جاولي عنها، فنزل بالجانب الشرقي فلم يلتفت أحد إليه، ولا أرسلوا إليه كلمة واحدة، فعاد في باقي يومه.
ثم إن قلج أرسلان لما وصل إلى نصيبين أقام بها حتى كثر جمعه، فلما سمع جاولي بقربه رحل من الموصل إلى سنجار، وأودع رحله بها، واتصل به الأمير إيلغازي بن أرتق وجماعة من عسكر جكرمش، فصار معه أربعة آلاف فارس. فأتاه كتاب الملك رضوان يستدعيه إلى الشام، ويقول له: إن الفرنج قد عجز من بالشام عن منعهم، فسار إلى الرحبة.
وأرسل أهل الموصل وعسكر جكرمش إلى قلج أرسلان، وهو بنصيبين، فاستحلفوه لهم، فحلف، واستحلفهم على الطاعة له والمناصحة، وسار معهم إلى الموصل، فملكها في الخامس والعشرين من رجب، ونزل بالمعرقة، وخرج إليه ولد جكرمش وأصحابه، فخلع عليهم، وجلس على التخت، وأسقط السلطان محمداً، وخطب لنفسه بعد الخليفة، وأحسن إلى العسكر، وأخذ القلعة من غزغلي، مملوك جكرمش، وجعل له فيها دزداراً، ورفع الرسوم المحدثة في الظلم، وعدل في الناس وتألفهم، وقال: من سعى إلي بأحد قتلته، فلم يسع أحد بأحد، وأقر القاضي أبا محمد عبد الله نب القاسم بن الشهرزوري على القضاء بالموصل، وجعل الرئاسة لأبي البركات محمد بن محمد بن خميس، وهو والد شيخنا أبي الربيع سليمان.
وكان في جملة قلج أرسلان الأمير إبراهيم بن ينال التركماني، صاحب آمد، ومحمد بن جبق التركماني، صاحب حصن زياد، وهو خرتبرت.
فأما إبراهيم بن ينال فكان سبب ملكه لمدينة آمد أن تاج الدولة تتش، حين ملك ديار بكر، سلمها إليه، فبقيت بيده، وأما محمد بن جبق فكان سبب ملكه لحصن زياد أن هذا الحصن كان بيد الفلادروس الرومي، ترجمان ملك الروم، وكانت الرها وأنطاكية من أعماله، فلما ملك سليمان بن قتلمش، والد قلج أرسلان هذا، أنطاكية، وملك فخر الدولة بن جهير ديار بكر، ضعف الفلادروس عن إقامة ما يحتاج إليه حصن زياد من الميرة والإقامة، فأخذه جبق، وأسلم الفلادروس على يد السلطان ملكشاه، وأمره على الرها، فلم يزل عليها حتى مات وأخذها الأمير بزان بعده.

وكان بالقرب من حصن زياد حصن آخر بيد إنسان من الروم اسمه افرنجي، وكان يقطع الطريق، ويكثر قتل المسلمين، فأرسل إليه جبق هدية، وخطب إليه مودته، وأن يعين كل واحد منهما صاحبه، فأجابه إلى ذلك، فكان جبق يعين افرنجي على قطع الطريق وغيره، وكذلك افرنجي يعين جبق، فلما وثق كل واحد بصاحبه أرسل إليه جبق: إني أريد قصد بعض الأماكن، وطلب أن يرسل إليه أصحابه، فأرسلهم إليه، فلما ساروا معه في الطريق تقدم بكتفهم، وحملهم إلى قلعة افرنجي، وقال لأهليهم: والله لئن لم تسلموا إلي افرنجي لأضربن أعناقهم، ولآخذن الحصن عنوة، ولأقتلنكم على دم واحد. ففتحوا له الحصن، وسلموا إليه افرنجي، فسلخه، وأخذ أمواله وسلاحه، وكان عظيماً، ومات جبق، فولي بعده ابنه محمد.
ذكر قتل قلج أرسلان
وملك جاولي الموصل
قد ذكرنا أن قلج أرسلان لما وصل إلى نصيبين سار جاولي عن الموصل إلى سنجار، ثم إلى الرحبة، فوصلها في رجب، وحصرها إلى الرابع والعشرين من شهر رمضان، وكان صاحبها حينئذ يعرف بمحمد بن السباق، وهو من بني شيبان، رتبه بها الملك دقاق لما فتحها، وأخذ ولده رهينة، وحمله معه إلى دمشق، فلما توفي أرسل هذا الشيباني قوماً سرقوا ولده وحملوه إليه، فلما وصل إليه خلع الطاعة للدمشقيين، وخطب في بعض الأوقات لقلج أرسلان. فلما وصل إليها جاولي وحصرها، أرسل إلى الملك رضوان يعرفه أنه على الاجتماع به ومساعدته على من يحاربه، ويشرط عليه أنه إذا تسلم البلاد سار معه ليكشف الفرنج عن بلاده، فلما استقرت القاعدة بينهما حضر عنده رضوان، فاشتد الحصار على أهل البلد، وضاقت عليهم الأمور.
واتفق جماعة كانوا بأحد الأبراج، وأرسلوا إلى جاولي، واستحلفوه على حفظهم وحراستهم، وأمروه أن يقصد البرج الذي هم فيه عند انتصاف الليل، ففعل ذلك، فرفع من في البرج أصحابه إليهم في الجبال، فضربوا بوقاتهم وطبولهم، فخذل من في البلد، ودخله أصحاب جاولي في اليوم الرابع والعشرين من شهر رمضان، ونهبوه إلى الظهر، ثم أمر برفع النهب، ونزل إليه محمد الشيباني صاحب البلد، وأطاعه، وصار معه.
ثم إن قلج أرسلان لما فرغ من أمر الموصل سار عنها إلى جاولي سقاوو ليحاربه، وجعل ابنه ملكشاه في دار الإمارة، وعمره إحدى عشرة سنة، ومعه أمير يدبره، وجماعة من العسكر، وكانت عدة عسكره أربعة آلاف فارس بالعدة الكاملة والخيل الجيدة.
وسمع العسكر بقوة جاولي، فاختلفوا، وكان أول من خالف عليه إبراهيم بن ينال، صاحب آمد، فإنه فارق خيامه وأثقاله وعاد من الخابور إلى بلده، وكذلك غيره، وعمل قلج أرسلان على المطاولة لما بلغه من قوة جاولي وكثرة جموعه، وأرسل إلى بلاده يطلب عساكره لأنها كانت عند ملك الروم نجدة له على قتال الفرنج، كما ذكرناه، فلما وصل إلى الخابور بلغت عدته خمسة آلاف.
وكان مع جاولي أربعة آلاف، من جملتهم الملك رضوان، وجماعة من عسكره، إلا أن شجعانه أكثر، واغتنم جاولي قلة عسكر قلج أرسلان، فقاتله قبل وصول عساكره إليه، فالتقوا في العشرين من ذي القعدة، فحمل قلج أرسلان على القوم بنفسه، حتى خالطهم، فضرب يد صاحب العلم فأبانها، ووصل إلى جاولي بنفسه، فضربه بالسيف، فقطع الكزاغند ولم يصل إلى بدنه، وحمل أصحاب جاولي على أصحابه فهزموهم، واستباحوا ثقلهم وسوادهم، فلما رأى قلج أرسلان انهزام عسكره علم أنه إن أسر فعل به فعل من يترك للصلح موضعاً، لا سيما وقد نازع السلطان في بلاده، واسم السلطنة، فألقى نفسه في الخابور، وحمى نفسه من أصحاب جاولي بالنشاب، فانحدر به الفرس إلى ماء عميق فغرق، وظهر بعد أيام فدفن بالشمسانية وهي من قرى الخابور.
وسار جاولي إلى الموصل، ولما وصل إليها فتح أهلها له بابها، ولم يتمكن من بها من أصحاب قلج أرسلان من منعهم، ونزل بظاهر البلد، وأخذ كل واحد من أصحاب جكرمش الذين حضروا الوقعة مع قلج أرسلان إلى جهة. فلما ملك جاولي الموصل أعاد خطبة السلطان محمد، وصادر جماعة من بها من أصحاب جكرمش، وسار إلى جزيرة ابن عمر، وبها حبشي بن جكرمش، ومعه أمير من غلمان أبيه اسمه غزغلي، فحصره مدة، ثم إنهم صالحوه، وحملوا إليه ستة آلاف دينار، وغيرها من الدواب والثياب، ورحل عنهم إلى الموصل، وأرسل ملكشاه بن قلج أرسلان إلى السلطان محمد.
ذكر أحوال الباطنية بأصبهان وقتل ابن عطاش

في هذه السنة ملك السلطان محمد القلعة التي كان الباطنية ملكوها بالقرب من أصبهان، واسمها شاه دز، وقتل صاحبها أحمد بن عبد الملك بن عطاش، وولده، وكانت هذه القلعة قد بناها ملكشاه، واستولى عليها بعده أحمد بن عبد الملك بن عطاش.
وسبب ذلك أنه اتصل بدزدار كان لها، فلما مات استولى أحمد عليها، وكان الباطنية بأصبهان قد ألبسوه تاجاً، وجمعوا له أموالاً، وإنما فعلوا ذلك به لتقدم أبيه عبد الملك في مذهبهم، فإنه كان أديباً بليغاً، حسن الخط، سريع البديهة، عفيفاً، وابتلي بحب هذا المذهب، وكان ابنه أحمد هذا جاهلاً لا يعرف شيئاً، وقيل لابن الصباح، صاحب قلعة ألموت: لماذا تعظم ابن عطاش مع جهله؟ قال: لمكان أبيه، لأنه أستاذي.
وصار لابن عطاش عدد كثير، وبأس شديد، واستفحل أمره بالقلعة، فكان يرسل أصحابه لقطع الطريق، وأخذ الأموال، وقتل من قدروا على قتله، فقتلوا خلقاً كثيراً لا يمكن إحصاؤهم، وجعلوا له على القرى السلطانية وأملاك الناس ضرائب يأخذونها ليكفوا عنها الأذى، فتعذر بذلك انتفاع السلطان بقراه، والناس بأملاكهم، وتمشى لهم الأمر بالخلف الواقع بين السلطانين بركيارق ومحمد.
فلما صفت السلطنة لمحمد، ولم يبق له منازع، لم يكن عنده أمر أهم من قصد الباطنية وحربهم، والانتصاف للمسلمين من جورهم وعسفهم، فرأى البداية بقلعة أصبهان التي بأيديهم، لأن الأذى بها أكثر، وهي متسلطة على سرير ملكه، فخرج بنفسه فحاصرهم في سادس شعبان.
وكان قد عزم على الخروج أول رجب، فساء ذلك من يتعصب لهم من العسكر، فأرجفوا أن قلج أرسلان بن سليمان قد ورد بغداد وملكها، وافتعلوا في ذلك مكاتبات، ثم أظهروا أن خللاً قد تجدد بخراسان، فتوقف السلطان لتحقيق الأمر، فلما ظهر بطلانه عزم عزيمة مثله، وقصد حربهم، وصعد جبلاً يقابل القلعة من غربيها، ونصب له التخت في أعلاه، واجتمع له من أصبهان وسوادها لحربهم الأمم العظيمة للذحول التي يطالبونهم بها، وأحاطوا بجبل القلعة ودوره أربعة فراسخ، ورتب الأمراء لقتالهم، فكان يقاتلهم كل يوم أمير، فضاق الأمر بهم، واشتد الحصار عليهم، وتعذرت عندهم الأقوات.
فلما اشتد الأمر عليهم كتبوا فتوى فيها ما يقول السادة الفقهاء أئمة الدين في قوم يؤمنون بالله وكتبه ورسله واليوم الآخر، وإن ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، حق وصدق، وإنما يخالفون في الإمام: هل يجوز للسلطان مهادنتهم وموادعتهم، وأن يقبل طاعتهم، ويحرسهم من كل أذى؟ فأجاب أكثر الفقهاء بجواز ذلك، وتوقف بعضهم، فجمعوا للمناظرة، ومعهم أبو الحسن علي بن عبد الرحمن السمنجاني، وهو من شيوخ الشافعية، فقال، بمحضر من الناس، يجب قتالهم، ولا يجوز إقرارهم بمكانهم، ولا ينفعهم التلفظ بالشهادتين، فإنهم يقال لهم: أخبرونا عن إمامكم، إذا أباح لكم ما حظره الشرع، أو حظر عليكم ما أباحه الشرع أتقبلون أمره؟ فإنهم يقولون نعم، وحينئذ تباح دماؤهم بالإجماع. وطالت المناظرة في ذلك.
ثم إن الباطنية سألوا السلطان أن يرسل إليهم من يناظرهم، وعينوا على أشخاص من العلماء منهم القاضي أبو العلاء صاعد بن يحيى، شيخ الحنفية بأصبهان، وقاضيها، وغيره، فصعدوا إليهم وناظروهم، وعادوا كما صعدوا، وإنما كان قصدهم التعلل والمطاولة، فلج حينئذ السلطان في حصرهم، فلما رأوا عين المحاقة أذعنوا إلى تسليم القلعة على أن يعطوا عوضاً عنها قلعة خالنجان، وهي على سبعة فراسخ من أصبهان، وقالوا: إنا نخاف على دمائنا وأموالنا من العامة، فلا بد من مكان نحتمي به منهم، فأشير على السلطان بإجابتهم إلى ما طلبوا، فسألوا أن يؤخرهم إلى النوروز ليرحلوا إلى خالنجان ويسلموا قلعتهم، وشرطوا أن لا يسمع قول متنصح فيهم، وإن قال أحد عنهم شيئاً سلمه إليهم، وأن ما أتاه منهم رده إليهم، فأجابهم إليه، وطلبوا أن يحمل إليهم من الإقامة ما يكفيهم يوماً بيوم، فأجيبوا إليه في كل هذا، وقصدهم المطاولة انتظاراً لفتق أو حادث يتجدد.

ورتب لهم وزير السلطان سعد الملك ما يحمل إليهم كل يوم من الطعام والفاكهة، وجميع ما يحتاجون إليه، فجعلوا هم يرسلون، ويبتاعون من الأطعمة ما يجمعونه ليمتنعوا في قلعتهم، ثم إنهم وضعوا من أصحابهم من يقتل أميراً كان يبالغ في قتالهم، فوثبوا عليه وجرحوه، وسلم منهم، فحينئذ أمر السلطان بإخراب قلعة خالنجان، وجدد الحصار عليهم، فطلبوا أن ينزل بعضهم، ويرسل السلطان معهم من يحميهم إلى أن يصلوا إلى قلعة الناظر بأرجان، وهي لهم، وينزل بعضهم، ويرسل معهم من يوصلهم إلى طبس، وأن يقيم البقية منهم في ضرس من القلعة، إلى أن يصل إليهم من يخبرهم بوصول أصحابهم، فينزلون حينئذ، ويرسل معهم من يوصلهم إلى ابن الصباح بقلعة ألموت، فأجيبوا إلى ذلك، فنزل منهم إلى الناظر، وإلى طبس، وساروا، وتسلم السلطان القلعة وخربها.
ثم إن الذين ساروا إلى قلعة الناظر وطبس منهم من أخبر ابن عطاش بوصولهم، فلم يسلم السن الذي بقي بيده، ورأى السلطان منه الغدر، والعود عن الذي قرره، فأمر بالزحف إليه، فزحف الناس عامة ثاني ذي القعدة، وكان قد قل عنده من يمنع ويقاتل، فظهر منهم صبر عظيم، وشجاعة زائدة، وكان قد استأمن إلى السلطان إنسان من أعيانهم، فقال لهم: إني أدلكم على عورة لهم، فأتى بهم إلى جانب لذلك السن لهم لا يرام، فقال لهم: اصعدوا من هاهنا، فقيل إنهم قد ضبطوا هذا المكان وشحنوه بالرجال، فقال: إن الذي ترون أسلحة وكزاغندات قد جعلوها كهيئة الرجال لقلتهم عندهم.
وكان جميع من بقي ثمانين رجلاً، فزحف الناس من هناك، فصعدوا منه، وملكوا الموضع، وقتل أكثر الباطنية، واختلط جماعة منهم مع من دخل، فخرجوا معهم، وأما ابن عطاش فإنه أخذ أسيراً، فترك أسبوعاً، ثم إنه أمر به فشهر في جميع البلد، وسلخ جلده، فتجلد حتى مات، وحشي جدله تبناً، وقتل ولده، وحمل رأساهما إلى بغداد، وألقت زوجته نفسها من رأس القلعة فهلكت، وكان معها جواهر نفيسة لم يوجد مثلها، فهلكت أيضاً وضاعت، وكانت مدة البلوى بابن عطاش اثنتي عشرة سنة.
ذكر الخلف بين سيف الدولة صدقة ومهذب الدولة صاحب البطيحةفي هذه السنة اختلف سيف الدولة صدقة بن مزيد، ومهذب الدولة السعيد ابن أبي الجبر، صاحب البطيحة، وانضاف حماد بن أبي الجبر إلى صدقة، وأظهر معاداة ابن عمه مهذب الدولة، ثم اتفقوا.
وكان سبب ذلك أن صدقة لما أقطعه السلطان محمد مدينة واسط ضمنها منه مهذب الدولة، واستناب في الأعمال أولاده وأصحابه، فمدوا أيديهم في الأموال، وفرطوا فيها، وفرقوها، فلما انقضت السنة طالبه صدقة بالمال، وحبسه، ثم سعى في خلاصه بدران بن صدقة، وهو صهر مهذب الدولة، فأخرجه من الحبس وأعاده إلى بلده البطيحة.
وضمن حماد بن أبي الجبر واسط، فانحل على مهذب الدولة كثير من أمره، فآل الأمر إلى الاختلاف بعد الاتفاق، فإن المصطنع إسماعيل، جد حماد، والمختص محمداً، والد مهذب الدولة، أخوان، وهما ابنا أبي الجبر، وكانت إليهما رئاسة أهلهما وجماعتهما، فهلك المصطنع، وقام ابنه أبو السيد المظفر، والد حماد، مقامه وهلك المختص محمد، وقام ابنه مهذب الدولة مقامه، وصارا يتنازعان ابن الهيثم، صاحب البطيحة، ويقاتلانه إلى أن أخذه مهذب الدولة، أيام كوهرائين، وسلمه إلى كوهرائين، فحمله إلى أصبهان، فهلك في طريقها. فعظم أمر مهذب الدولة، وصيره كوهرائين أمير البطيحة، فصار ابن عمه وجماعة تحت حكمه.

وكان حماد شاباً، فأكرمه مهذب الدولة، وزوجه بنتاً له، وزاد في إقطاعه، فكثر ماله، فصار يحسد مهذب الدولة، ويضمر بغضه، وربما ظهر في بعض الأوقات، وكان مهذب الدولة يداريه بجهده، فلما هلك كوهرائين انتقل حماد عن مهذب الدولة، وأظهر ما في نفسه، فاجتهد مهذب الدولة في إعادته إلى ما كان، فلم يفعل، فسكت عنه، فجمع النفيس بن مهذب الدولة جمعاً وقصد حماداً، فهرب منه إلى سيف الدولة بالحلة، فأعاده صدقة ومعه جماعة من الجند، فحشد مهذب الدولة، فأرسل حماد إلى صدقة يعرفه ذلك، فأرسل إليه كثيراً من الجند، فقوي عزم مهذب الدولة على المحاربة لئلا يظن به العجز، فأشار عليه أهله بترك الخروج من موضعه لحصانته، فلم يفعل، وسير سفنه وأصحابه في الأنهر، فجعل حماد وأخوه له الكمناء، واندفعوا من بين أيديهم، فطمع أصحاب مهذب الدولة وتبعوهم، فخرج عليهم الكمناء، فلم يسلم منهم إلا من لم يحضر أجله، فقتل منهم وأسر خلق كثير، فقوي طمع حماد، وأرسل إلى صدقة يستنجده، فأرسل إليه مقدم جيشه سعيد بن حميد العمري، وغيره من المقدمين، وجمعوا السفن ليقاتلوا مهذب الدولة، فرأوا أمراً محكماً، فلم يمكنهم الدخول إليه.
وكان حماد بخيلاً، ومهذب الدولة جواداً، فأرسل إلى سعيد بن حميد الإقامات الوافرة، والصلات الكثيرة، واستماله، فمال إليه، واجتمع به، وتقرر الأمر على أن أرسل مهذب الدولة ابنه النفيس إلى صدقة، فرضي عنه، وأصلح بينهم وبين حماد ابن عمهم، وعادوا إلى حال حسنة من الاتفاق، وكان صلحهم في ذي الحجة سنة خمسمائة.
ذكر قتل وزير السلطان أحمد بن نظام الملكفي شوال من هذه السنة قبض السلطان محمد على وزيره سعد الملك أبي المحاسن، وأخذ ماله، وصلبه على باب أصبهان، وصلب معه أربعة نفر من أعيان أصحابه والمنتمين إليه، وأما الوزير فنسب إلى خيانة السلطان، وأما الآربعة فنسبوا إلى اعتقاد الباطنية، وكانت مدة وزارته سنتين وتسعة أشهر، وكان في ابتداء حاله يصحب تاج الملك أبا الغنائم، وتعطل بعده، ثم استعمله مؤيد الملك بن نظام الملك، فجعله على ديوان الاستيفاء، وخدم السلطان محمداً لما حصره أخوه السلطان بركيارق بأصبهان خدمة حسنة، ولما فارقها محمد حفظها الحفظ التام، وقام المقام العظيم، فاستوزره محمد، ووسع له في الإقطاع، وحكمه في دولته، ثم نكبه، وهذا آخر خدمة الملوك، وما أحسن ما قال عبد الملك بن مروان: أنعم الناس عيشاً من له ما يكفيه، وزوجة ترضيه، ولا يعرف أبوابنا هذه الخبيثة فتؤذيه.
ولما قبض الوزير استشار السلطان في من يجعله وزيراً، فذكر له جماعة، فقال السلطان: إن آبائي دروا على نظام الملك البركة، ولهم عليه الحق الكثير، وأولاده أغذياء نعمتنا، ولا معدل عنهم. فأمر لأبي نصر أحمد هذا بالوزارة، ولقب ألقاب أبيه: قوام الدين، نظام الملك، صدر الإسلام.
وكان سبب قدومه إلى باب السلطان أنه لما رأى انقراض دولة أهل بيته لزم داره بهمذان، فاتفق أن رئيس همذان، وهو الشريف أبو هاشم، آذاه، فسار إلى السلطان شاكياً منه ومتظلماً، فقبض السلطان على الوزير، وحكمه ومكنه، وقوي أمره، وهذا من الفرج بعد الشدة، فإنه حضر شاكياً، فصار حاكماً.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة، في صفر، عزل الوزير أبو القاسم علي بن جهير، وزير الخليفة، فقصد دار سيف الدولة صدقة ببغداد ملتجئاً إليها، وكانت ملجأ لكل ملهوف، فأرسل إليه صدقة من أخذه إليه إلى الحلة، وكانت وزارته ثلاث سنين وخمسة أشهر وأياماً، وأمر الخليفة بنقض داره التي بباب العامة، وفيها عبرة، فإن أباه أبا نصر بن جهير بناها بأنقاض أملاك الناس، وأخذ، بسببها، أكثر ما دخل فيها، فخربت عن قريب.
ولما عزل استنيب قاضي القضاة أبو الحسن بن الدامغاني، ثم تقررت الوزارة في المحرم من سنة إحدى وخمسمائة أبي المعالي هبة الله بن محمد بن المطلب، وخلع عليه فيه.
وفيها، في شوال، توفي الأمير أبو الفوارس سرخاب بن بدر بن مهلهل، المعروف بابن أبي الشوك الكردي، وكانت له أموال كثيرة، وخيول لا تحصى، وولي الإمرة بعده أبو منصور بن بدر، وقام مقامه، وبقيت الإمارة في بيته مائة وثلاثين سنة، وقد تقدم من أخباره ما فيه كفاية.

وفي هذه السنة توفي أبو الفتح أحمد بن محمد بن أحمد بن سعيد الحداد الأصبهاني ابن أخت عبد الرحمن بن أبي عبد الله بن مندة، ومولده سنة ثمان وأربعمائة، وكان مكثراً من الحديث، مشهوراً بالرواية.
وفيها توفي أبو محمد جعفر بن أحمد بن الحسين السراج البغدادي في صفر، وهو مكثر من الرواية، وله تصانيف حسنة، وأشعار لطيفة، وهو من أعيان الزمان، وعبد الوهاب بن محمد بن عبد الوهاب أبو محمد الشيرازي، الفقيه، ولي التدريس بالنظامية ببغداد سنة ثلاث وثمانين وأربعمائة، وكان يروي الحديث أيضاً، وأبو الحسين المبارك بن عبد الجبار بن أحمد الصيرفي المعروف بابن الطيوري البغدادي، ومولده سنة إحدى عشرة وأربعمائة، وكان مكثراً من الحديث ثقة صالحاً عابداً، وأبو الكرم المبارك بن الفاخر بن محمد بن يعقوب النحوي، سمع الحديث من أبي الطيب الطبري، والجوهري، وغيرهما، وكان إماماً في النحو واللغة.
ثم دخلت سنة إحدى وخمسمائة
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://arabelalekat.yoo7.com
الشيخ عودة
الشيخ عودة
الشيخ عودة



عدد المساهمات : 1748
تاريخ التسجيل : 28/09/2008
العمر : 74

كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير - صفحة 7 Empty
مُساهمةموضوع: رد: كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير   كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير - صفحة 7 Emptyالثلاثاء فبراير 25, 2014 11:21 am

ذكر قتل صدقة بن مزيد
في هذه السنة، في رجب، قتل الأمير سيف الدولة صدقة بن منصور بن دبيس بن مزيد الأسدي، أمير العرب، وهو الذي بنى الحلة السيفية بالعراق، وكان قد عظم شأنه، وعلا قدره، واتسع جاهه، واستجار به صغار الناس وكبارهم، فأجابهم.
وكان كثير العناية بأمور السلطان محمد، والتقوية ليده، والشد منه على أخيه بركيارق، حتى إنه جاهر بركيارق بالعداوة، ولم يبرح على مصافاة السلطان محمد، وزاده محمد إقطاعاً من جملته مدينة واسط، وأذن له في أخذ البصرة. ثم أفسد ما بينهما العميد أبو جعفر محمد بن الحسين البلخي، وقال في جملة ما قال عنه: إن صدقة قد عظم أمره، وزاد حاله، وكثر إدلاله، ويبسط في الدولة حمايته على كل من يفر إليه من عند السلطان، وهذا لا تحتمله الملوك لأولادهم، ولو أرسلت بعض أصحابك لملك بلاده وأمواله.
ثم إنه تعدى ذلك حتى طعن في اعتقاده، ونسبه وأهل بلده إلى مذهب الباطنية، وكذب، وإنما كان مذهبه التشيع لا غير، ووافق أرغون السعدي أبا جعفر العميد وانتهى ذلك إلى صدقة، وكانت زوجة أرغون بالحلة وأهله، فلم يؤاخذهم بشيء مما كان له أيضاً هناك من بقايا خراج ببلده، فأمر صدقة أن يخلص ذلك إليه بأجمعه ويسلم إلى زوجته.
وأما سبب قتله فإن صدقة كان، كما ذكرنا، يستجير به كل خائف من خليفة وسلطان وغيرهما، وكان السلطان محمد قد سخط على أبي دلف سرخاب بن كيخسرو، صاحب ساوة وآبة، فهرب منه وقصد صدقة فاستجار به، فأجاره، فأرسل السلطان يطلب من صدقة أن يسلمه إلى نوابه، فلم يفعل، وأجاب: إنني لا أمكن منه بل أحامي عنه، وأقول ما قاله أبو طالب لقريش لما طلبوا منه رسول الله صلى الله عليه وسلم:
ونسلمه، حتى نصرع حوله، ... ونذهل عن أبنائنا والحلائل
وظهر منه أمور أنكرها السلطان فتوجه إلى العراق ليتلافى هذا الأمر، فلما سمع صدقة استشار أصحابه في الذي يفعله، فأشار عليه ابنه دبيس بأن ينفذه إلى السلطان ومعه الأموال، والخيل، والتحف، ليستعطف له السلطان، وأشار سعيد بن حميد، صاحب جيش صدقة، بالمحاربة، وجمع الجند، وتفريق المال فيهم، واستطال في القول، فمال صدقة إلى قوله، وجمع العساكر، واجتمع إليه عشرون ألف فارس، وثلاثون ألف راجل، فأرسل إليه المستظهر بالله يحذره عاقبة أمره، وينهاه عن الخروج عن طاعة السلطان، ويعرض له توسط الحال، فأجاب صدقة: إنني على طاعة السلطان، لكن لا آمن على نفسي في الاجتماع به، وكان الرسول بذلك عن الخليفة نقيب النقباء علي بن طراد الزينبي.
ثم أرسل السلطان أقضى القضاة أبا سعيد الهروي إلى صدقة يطيب قلبه، ويزيل خوفه، ويأمره بالانبساط على عادته، ويعزمه عزمه على قصد الفرنج، ويأمره بالتجهز للغزاة معه. فأجاب: إن السلطان قد أفسد أصحابه قلبه علي، وغيروا حالي معه، وأزال ما كان عليه في حقي من الإنعام، وذكر سالف خدمته ومناصحته، وقال سعيد بن حميد، صاحب جيشه: لم يبق لنا في صلح السلطان مطمع، ولترون خيولنا بحلوان، وامتنع صدقة من الاجتماع بالسلطان.
ووصل السلطان إلى بغداد في العشرين من ربيع الآخر، ومعه وزيره نظام الملك بن أحمد بن نظام الملك، وسير البرسقي، شحنة بغداد، في جماعة من الأمراء إلى صرصر، فنزلوا عليها.

وكان وصول السلطان، جريدة، لا يبلغ عسكره ألفي فارس، فلما تيقن ببغداد مكاشفة صدقة، أرسل إلى الأمراء يأمرهم بالوصول إليه والجد في السير، وتعجيل ذلك، فوردوا إليه من كل جانب.
ثم وصل كتاب صدقة إلى الخليفة، في جمادى الأولى، يذكر أنه واقف عند ما يرسم له ويقرر من حاله مع السلطان، ومهما أمرته من ذلك امتثله، فأنفذ الخليفة الكتاب إلى السلطان، فقال السلطان: أنا ممتثل ما يأمر به الخليفة، ولا مخالفة عندي. فأرسل الخليفة إلى صدقة يعرفه إجابة السلطان إلى ما طلب منه، ويأمره بإنفاذ ثقته ليستوثق له، ويحلف السلطان على ما يقع الاتفاق عليه. فعاد صدقة عن ذلك الرأي، وقال: إذا رحل السلطان عن بغداد أمددته بالمال والرجال، وما يحتاج إليه في الجهاد، وأما الآن، وهو ببغداد، وعسكره بنهر الملك، فما عندي مال ولا غيره، وإن جاولي سقاوو، وإيلغازي بن أرتق، قد أرسلا إلي بالطاعة لي والموافقة معي على محاربة السلطان وغيره، ومتى أردتهما وصلا إلي في عساكرهما.
وورد إلى السلطان قرواش بن شرف الدولة، وكرماوي بن خراسان التركماني، وأبو عمران فضل بن ربيعة بن حازم بن الجراح الطائي، وأباؤه كانوا أصحاب البلقاء والبيت المقدس منهم: حسان بن المفرج الذي مدحه التهامي، وكان فضل تارة مع الفرنج، وتارة مع المصريين، فلما رآه طغتكين أتابك على هذه الحال طرده من الشام، فلما طرده التجأ إلى صدقة وعاقده، فأكرمه صدقة، وأهدى له هدايا كثيرة منها سبعة آلاف دينار عيناً.
فلما كانت هذه الحادثة بني صدقة والسلطان سار في الطلائع، ثم هرب إلى السلطان، فلما وصل خلع عليه وعلى أصحابه، وأنزله بدار صدقة ببغداد، فلما سار السلطان إلى قتال صدقة استأذنه فضل في إتيان البرية ليمنع صدقة من الهرب إن أراد ذلك، فأذن له، فعبر بالأنبار وكان آخر العهد به.
وأنفذ السلطان في جمادى الأولى إلى واسط الأمير محمد بن بوقا التركماني، فأخرج عنها نائب صدقة، وأمن الناس كلهم، إلا أصحاب صدقة، فتفرقوا، ولم ينهب أحد، وأنفذ خيله إلى بلد قوسان، وهو من أعمال صدقة، فنهبه أقبح نهب، وأقام عدة أيام، فأرسل صدقة إليه ثابت بن سلطان، وهو ابن عم صدقة، ومعه عسكر، فلما وصلوا إليها خرج منها الأتراك، وأقام ثابت بها، وبينه وبينهم دجلة.
ثم إن بوقا عبر جماعة من الجند ارتضاهم، وعرف شجاعتهم، فوقفوا على موضع مرتفع على نهر سالم، يكون ارتفاعه نحو خمسين ذراعاً، فقصدهم ثابت وعسكره فلم يقدروا أن يقربوا الترك من النشاب، والمدد يأتيهم من ابن بوقا، وجرح ثابت في وجهه، وكثرت الجراح في أصحابه، فانهزم هو ومن معه، وتبعهم الأتراك، فقتلوا منهم وأسروا، ونهب طائفة من الترك مدينة واسط، واختلط بهم رجالة ثابت، فنهبت معهم، فسمع ابن بوقا الخبر، فركب إليهم ومنعهم، وقد نهبوا بعض البلد، ونادى في الناس بالأمان، وأقطع السلطان، أواخر جمادى الأولى، مدينة واسط لقسيم الدولة البرسقي وأمر ابن بوقا بقصد بلد صدقة ونهبه، فنهبوا فيه ما لا يحد.
وأما السلطان محمد فإنه سار عن بغداد إلى الزعفرانية، ثاني جمادى الآخرة، فأرسل إليه الخليفة وزيره مجد الدين بن المطلب يأمره بالتوقف، وترك العجلة خوفاً على الرعية من القتل والنهب، وأشار قاضي أصبهان بذلك، واتباع أمر الخليفة، فأجاب السلطان إلى ذلك، فأرسل الخليفة إلى صدقة نقيب النقباء علي بن طراد، وجمال الدولة مختصاً الخادم، فسارا إلى صدقة فأبلغاه رسالة الخليفة يأمره بطاعة السلطان، وينهاه عن المخالفة، فاعتذر صدقة، وقال: ما خالفت الطاعة، ولا قطعت الخطبة في بلدي. وجهز ابنه دبيساً ليسير معهما إلى السلطان.
فبينما الرسل وصدقة في هذا الحديث، إذ ورد الخبر أن طائفة من عسكر السلطان قد عبروا من مطيراباذ، وأن الحرب بينهم وبين أصحاب صدقة قائمة على ساق، فتجلد صدقة لأجل الرسل، وهو يشتهي الركوب إلى أصحابه خوفاً عليهم، وكان الرسل إذا سمعوا ذلك ينكرونه لأنهم قد تقدموا إلى العسكر، عند عبورهم عليهم، أنه لا يتعرض أحد منهم إلى حرب، حتى نعود، فإن الصلح قد قارب. فقال صدقة للرسول: كيف أثق أرسل ولدي الآن، وكيف آمن عليه، وقد جرى ما ترون؟ فإن تكفلتم برده إلي أنفذته. فلم يتجاسروا على كفالته، فكتب إلى الخليفة يعتذر عن إنفاذ ولده بما جرى.

وكان سبب هذه الوقعة أن عسكر السلطان لما رأوا الرسل اعتقدوا وقوع الصلح، فقال بعضهم: الرأي أننا ننهب شيئاً قبل الصلح، فأجاب البعض وامتنع البعض، فعبر من أجاب النهر، ولم يتأخر من لم يجب لئلا ينسب إلى خور وجبن، ولئلا يتم على من عبر وهن، فيكون عاره وأذاه عليهم، فعبروا بعدهم أيضاً، فأتاهم أصحاب صدقة وقاتلوهم، فكانت الهزيمة على الأتراك، وقتل منهم جماعة كثيرة، وأسر جماعة من أعيانهم، وكثير من غيرهم، وغرق جماعة منهم: الأمير محمد بن باغي سيان الذي كان أبوه صاحب أنطاكية، وكان عمره نيفاً وعشرين سنة، وكان محباً للعلماء وأهل الدين، وبنى بإقطاعه من أذربيجان عدة مدارس. ولم يجسر الأتراك على أن يعرفوا السلطان بما أخذ منهم من الأموال والدواب خوفاً منه، حيث فعلوا ذلك بغير أمره.
وطمع العرب بهذه الهزيمة، وظهر منهم الفخر والتيه والطمع، وأظهروا أنهم باعوا كل أسير بدينار، وأن ثلاثة باعوا أسيراً بخمسة قراريط وأكلوا خبزاً وهريسة، وجعلوا ينادون: من يتغدى بأسير، ويتعشى بآخر؟ وظهر من الأتراك اضطراب عظيم.
وأعاد الخليفة مكاتبة صدقة بتحرير أمر الصلح، فأجاب أنه لا يخالف ما يؤمر به، وكتب صدقة أيضاً إلى السلطان يعتذر مما نقل عنه، ومن الحرب التي كانت بين أصحابه وبين الأتراك، وأن جند السلطان عبرت إلى أصحابه، فمنعوا عن أنفسهم بغير علمه، وأنه لم يحضر الحرب، ولم ينزع يداً من طاعة، ولا قطع خطبته من بلده.
ولم يكن صدقة كاتبه قبل هذا الكتاب، فأرسل الخليفة نقيب النقباء، وأبا سعد الهروي إلى صدقة، فقصدا السلطان أولاً، وأخذا يده بالأمان لمن يقصده من أقارب صدقة، فلما وصلا إلى صدقة وقالا له عن الخليفة: إن إصلاح قلب السلطان موقوف على إطلاق الأسرى، ورد جميع ما أخذ من العسكر المنهزم، فأجاب أولاً بالخضوع والطاعة، ثم قال: لوقدرت على الرحيل من بين يدي السلطان لفعلت، لكن ورائي من ظهري، وظهر أبي وجدي، ثلاثمائة امرأة، ولا يحملهن مكان، ولو علمت أنني إذا جئت السلطان مستسلماً قبلني واستخدمني لفعلت، لكنني أخاف أنه لا يقبل عثرتي، ولا يعفو عن زلتي.
وأما ما نهب فإن الخلق كثير، وعندي من لا أعرفه، وقد نهبوا ودخلوا البر، فلا طاقة لي عليهم، ولكن إذا كان السلطان لا يعارضني فيما في يدي، ولا فيمن أجرته، وأن يقر سرخاب بن كيخسرو على إقطاعه بساوة، وأن يتقدم إلى ابن بوقا بإعادة ما نهب من بلادي، وأن يخرج وزير الخليفة يحلفه بما أثق به من الأيمان على المحافظة فيما بيني وبينه، فحينئذ أخدم بالمال، وأدوس بساطه بعد ذلك.
فعادوا بهذا، ومعهم أبو منصور بن معروف، رسول صدقة، فردهم الخليفة، وأرسل السلطان معهم قاضي أصبهان أبا إسماعيل، فأما أبو إسماعيل فلم يصل إليه، وعاد من الطريق، وأصر صدقة على القول الأول. فحينئذ سار السلطان، ثامن رجب، من الزعفرانية، وسار صدقة في عساكر إلى قرية مطر، وأمر جنده بلبس السلاح، واستأمن ثابت بن سلطان بن دبيس بن علي بن مزيد، وهو ابن عم صدقة، إلى السلطان محمد، وكان يحسد صدقة، وهو الذي تقدم ذكره أنه كان بواسط، فأكرمه السلطان، وأحسن إليه، ووعده الإقطاع.
ووردت العساكر إلى السلطان منهم: بنو برسق، وعلاء الدولة أبو كاليجار كرشاسب بن علي بن فرامرز أبي جعفر بن كاكويه وآباؤه كانوا أصحاب أصبهان، وفرامرز هو الذي سلمها إلى طغرلبك، وقتل أبوه مع تتش.
وعبر عسكر السلطان دجلة، ولم يعبر هو، فصاروا مع صدقة على أرض واحدة، بينهما نهر، والتقوا تاسع رجب، وكانت الريح في وجوه أصحاب السلطان، فلما التقوا صارت في ظهورهم، وفي وجوه أصحاب صدقة، ثم إن الأتراك رموا بالنشاب، فكان يخرج في كل رشقة عشرة آلاف نشابة، فلم يقع سهم إلا في فرس أو فارس، وكان أصحاب صدقة كلما حملوا منعهم النهر من الوصول إلى الأتراك والنشاب، ومن عبر منهم لم يرجع، وتقاعدت عبادة وخفاجة، وجعل صدقة ينادي: يا آل خزيمة، يا آل ناشرة، يا آل عوف، ووعد الأكراد بكل جميل لما ظهر من شجاعتهم، وكان راكباً على فرسه المهلوب، ولم يكن لأحد مثله، فجرح الفرس ثلاث جراحات، وأخذه الأمير أحمديل بعد قتل صدقة، فسيره إلى بغداد في سفينة، فمات في الطريق.

وكان لصدقة فرس آخر قد ركبه حاجبه أبو نصر بن تفاحة، فلما رأى الناس وقد غشوا صدقة هرب عليه، فناداه صدقة، فلم يجبه، وحمل صدقة على الأتراك، وضربه غلام منهم على وجهه فشوهه، وجعل يقول: أنا ملك العرب، أنا صدقة! فأصابه سهم في ظهره، وأدركه غلام اسمه بزغش، كان أشل، فتعلق به، وهو لا يعرفه، وجذبه عن فرسه، فسقط إلى الأرض هو والغلام، فعرفه صدقة، فقال: يا بزغش ارفق، فضربه بالسيف فقتله، وأخذ رأسه وحمله إلى البرسقي، فحمله إلى السلطان، فلما رآه عانقه، وأمر لبزغش بصلة.
وبقي صدقة طريحاً إلى أن سار السلطان، فدفنه إنسان من المدائن. وكان عمره تسعاً وخمسين سنة، وكانت إمارته إحدى وعشرين سنة، وحمل رأسه إلى بغداد، وقتل من أصحابه ما يزيد على ثلاثة آلاف فارس، فيهم جماعة من أهل بيته، وقتل من بني شيبان خمسة وتسعون رجلاً، وأسر ابنه دبيس بن صدقة، وسرخاب بن كيخسرو الديلمي الذي كانت هذه الحرب بسببه، فأحضر بين يدي السلطان، فطلب الأمان، فقال: قد عاهدت الله أنني لا أقتل أسيراً، فإن ثبت عليك أنك باطني قتلتك، وأسر سعيد بن حميد العمري، صاحب جيش صدقة، وهرب بدران بن صدقة إلى الحلة، فأخذ من المال وغيره ما أمكنه، وسير أمه ونساءه إلى البطيحة إلى مهذب الدولة أبي العباس أحمد بن أبي الجبر، وكان بدران صهر مهذب الدولة على ابنته، ونهب من الأموال ما لا حد عليه.
وكان له من الكتب المنسوبة الخط شيء كثير، ألوف مجلدات، وكان يحسن يقرأ، ولا يكتب، وكان جواداً، حليماً، صدوقاً، كثير البر والإحسان، ما برح ملجأ لكل ملهوف، يلقى من يقصده بالبر والتفضل، ويبسط قاصديه، ويزورهم، وكان عادلاً، والرعايا معه في أمن ودعة، وكان عفيفاً لم يتزوج على امرأته، ولا تسرى عليها، فما ظنك بغير هذا؟ ولم يصادر أحداً من نوابه، ولا أخذهم بإساءة قديمة، وكان أصحابه يودعون أموالهم في خزانته، ويدلون عليه إدلال الولد على الوالد، ولم يسمع برعية أحبت أميرها كحب رعيته له.
وكان متواضعاً، محتملاً، يحفظ الأشعار، ويبادر إلى النادرة، رحمه الله، لقد كان من محاسن الدنيا.
وعاد السلطان إلى بغداد، ولم يصل إلى الحلة، وأرسل إلى البطيحة أماناً لزوجة صدقة، وأمرها بالظهور فأصعدت إلى بغداد، فأطلق السلطان ابنها دبيساً، وأنفذ معه جماعة من الأمراء إلى لقائها، فلما لقيها ابنها بكيا بكاء شديداً، ولما وصلت إلى بغداد أحضرها السلطان، واعتذر من قتل زوجها، وقال: وددت أنه حمل إلي حتى كنت أفعل معه ما يعجب الناس به من الجميل والإحسان، لكن الأقدار غلبتني. واستحلف ابنها دبيساً أنه لا يسعى بفساد.
ذكر وفاة تميم بن المعز صاحب إفريقية وولاية ابنه يحيىفي هذه السنة، في رجب، توفي تميم بن المعز بن باديس، صاحب إفريقية، وكان شهماً، شجاعاً، ذكياً، له معرفة حسنة، وكان حليماً، كثير العفو عن الجرائم العظيمة، وله شعر حسن، فمنه أنه وقعت حرب بين طائفتين من العرب، وهم عدي، ورياح، فقتل رجل من رياح، ثم اصطلحوا، وأهدروا دمه، وكان صلحهم مما يضر به وببلاده، فقال أبياتاً يحرض على الطلب بدمه، وهي:
متى كانت دماؤكم تطل ... أما فيكم بثأر مستقل
أغانم ثم سالم إن فشلتم، ... فما كانت أوائلكم تذل
وتمتم عن طلاب الثأر، حتى ... كأن العز فيكم مضمحل
وما كسرتم فيه العوالي، ... ولا بيض تفل، ولا تسل
فعمد إخوة المقتول فقتلوا أميراً من عدي، واشتد بينهم القتال، وكثرت القتلى، حتى أخرجوا بني عدي من إفريقية.
قيل: إنه اشترى جارية بثمن كثير، فبلغه أن مولاها الذي باعها ذهب عقله وأسف على فراقها، فأحضره تميم إلى بين يديه، وأرسل الجارية إلى داره، ومعها من الكسوات، والأواني الفضة، وغيرها، ومن الطيب، وغيره، شيء كثير، ثم أمر مولاها بالانصراف، وهو لا يعلم بذلك، فلما وصل إلى داره ورآها على تلك الحال وقع مغشياً عليه لكثرة سروره، ثم أفاق. فلما كان الغد أخذ الثمن، وجميع ما كان معها، وحمله إلى دار تميم، فانتهره، وأمره بإعادة جميع ذلك إلى داره.

وكان له في البلاد أصحاب أخبار يجري عليهم أرزاقاً سنية ليطالعوه بأحوال أصحابه لئلا يظلموا الناس، فكان بالقيروان تاجر له مال وثروة، فذكر في بعض الأيام التجار تميماً، ودعوا له، وذلك التاجر حاضر، فترحم على أبيه المعز، ولم يذكره، فرفع ذلك إلى تميم، فأحضره إلى قصره وسأله: هل ظلمتك؟ فقال: لا! قال: فهل ظلمك بعض أصحابي؟ قال: لا! قال: فلم أطلقت لسانك أمس بذمي؟ فسكت، فقال: لولا أن يقال شره في ماله لقتلتك، ثم أمر به فصفع في حضرته قليلاً، ثم أطلقه فخرج، وأصحابه ينتظرونه، فسألوه عن خبره، فقال: أسرار الملوك لا تذاع، فصارت بإفريقية مثلاً.
ولما توفي كان عمره تسعاً وسبعين سنة، وكانت ولايته ستاً وأربعين سنة وعشرة أشهر وعشرين يوماً، وخلف من الذكور ما يزيد على مائة، ومن البنات ستين بنتاً، ولما توفي ملك بعده ابنه يحيى بن تميم، وكانت ولادته بالمهدية لأربع بقين من ذي الحجة سنة سبع وخمسين وأربعمائة، وكان عمره حين ولي ثلاثاً وأربعين سنة وستة أشهر وعشرين يوماً، ولما ولي فرق أموالاً جزيلة، وأحسن السيرة في الرعية.
ذكر ملك يحيى قلعة قليبيةلما ملك يحيى بن تميم بعد أبيه، جرد عسكراً كثيفاً إلى قلعة قليبية، وهي من أحصن قلاع إفريقية، فنزل عليها، وحصرها حصاراً شديداً، ولم يبرح حتى فتحها وحصنها، وكان أبوه تميم قد رام فتحها، فلم يقدر على ذلك، ولم يزل مظفراً، منصوراً، لم يهزم له جيش.
ذكر قدوم ابن عمار بغداد مستنفراً
في هذه السنة، في شهر رمضان، ورد القاضي فخر الملك أبو علي بن عمار، صاحب طرابلس الشام، إلى بغداد، قاصداً باب السلطان محمد، مستنفراً على الفرنج، طالباً تسيير العساكر لإزاحتهم، والذي حثه على ذلك أنه لما طال حصر الفرنج لمدينة طرابلس، على ما ذكرناه، ضاقت عليه الأقوات وقلت، واشتد الأمر عليه وعلى أهل البلد، فمن الله عليهم، سنة خمسمائة، بميرة في البحر من جزيرة قبرس، وأنطاكية، وجزائر البنادقة، فاشتدت قلوبهم وقووا على حفظ البلد، بعد أن كانوا استسلموا.
فلما بلغ فخر الملك انتظام الأمور للسلطان محمد وزوال كل مخالف رأى لنفسه وللمسلمين قصده والانتصار به، فاستناب بطرابلس ابن عمه ذا المناقب، وأمره بالمقام بها، ورتب معه الأجناد براً وبحراً، وأعطاهم جامكية ستة أشهر سلفاً، وجعل كل موضع إلى من يقوم بحفظه، بحيث أن ابن عمه لا يحتاج إلى فعل شيء من ذلك، وسار إلى دمشق، فأظهر ابن عمه الخلاف له، والعصيان عليه، ونادى بشعار المصريين، فلما عرف فخر الملك ذلك كتب إلى أصحابه يأمرهم بالقبض عليه، وحمله إلى حصن الخوابي، ففعلوا ما أمرهم.
وكان ابن عمار قد استصحب معه من الهدايا ما لم يوجد عند ملك مثله من الأعلاق النفيسة، والأشياء الغريبة، والخيل الرائقة، فلما وصلها لقيه عسكرها، وطغتكين أتابك، وخيم على ظاهر البلد، وسأله طغتكين الدخول إليه، فدخل يوماً واحداً إلى الطعام، وأدخله حمامه، وسار عنها ومعه ولد طغتكين يشيعه.
فلما وصل إلى بغداد أمر السلطان الأمراء كافة بتلقيه وإكرامه، وأرسل إليه شبارته وفيها دسته الذي يجلس عليه ليركب فيها، فلما نزل إليها قعد بين يدي موضع السلطان، فقال له من بها من خواص السلطان: قد أمرنا أن يكون جلوسك في دست السلطان، فلما دخل على السلطان أجلسه، وأكرمه، وأقبل عليه بحديثه.
وسير الخليفة خواصه، وجماعة أرباب المناصب، فلقوه، وأنزله الخليفة وأجرى عليه الجراية العظيمة، وكذلك أيضاً فعل السلطان، وفعل معه ما لم يفعل مع الملوك الذين معهم أمثاله، وهذا جميعه ثمرة الجهاد في الدنيا، ولأجر الآخرة أكبر.

ولما اجتمع بالسلطان قدم هديته، وسأله السلطان عن حاله، وما يعانيه في مجاهدة الكفار، ويقاسيه من ركوب الخطوب في قتالهم، فذكر له حاله، وقوة عدوه، وطول حصره، وطلب النجدة، وضمن أنه إذا سيرت العساكر معه أوصل إليهم جميع ما يلتمسونه، فوعده السلطان بذلك، وحضر دار الخلافة، وذكر أيضاً نحواً مما ذكره عند السلطان، وحمل هدية جميلة نفيسة، وأقام إلى أن رحل السلطان عن بغداد في شوال، فأحضره عنده بالنهروان، وقد تقدم إلى الأمير حسين بن أتابك قتلغ تكين ليسير معه العساكر التي سيرها إلى الموصل مع الأمير مودود لقتال جاولي سقاوو، ليمضوا معه إلى الشام، وخلع عليه السلطان خلعاً نفيسة، وأعطاه شيئاً كثيراً، وودعه، وسار ومعه الأمير حسين فلم يجد ذلك نفعاً، وكان ما نذكره إن شاء الله تعالى.
وأما أهل طرابلس فإنهم راسلوا الأفضل أمير الجيوش بمصر يلتمسون منه والياً يكون عندهم، ومعه الميرة في البحر، فسير إليهم شرف الدولة بن أبي الطيب والياً، ومعه الغلة وغيرها مما تحتاج إليه البلاد في الحصار، فلما صار فيها قبض على جماعة من أهل ابن عمار وأصحابه، وأخذ ما وجده من ذخائره وآلاته وغير ذلك، وحمل الجميع إلى مصر في البحر.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة، في شعبان، أطلق السلطان محمد الضرائب والمكوس، ودار البيع، والاجتيازات، وغير ذلك مما يناسبه بالعراق، وكتبت به الألواح، وجعلت في الأسواق.
وفيها، في شهر رمضان، ولي القاضي أبو العباس بن الرطبي الحسبة ببغداد.
وفيه أيضاً عزل الخليفة وزيره مجد الدين بن المطلب برسالة من السلطان بذلك، ثم أعيد إلى الوزارة بإذن السلطان، وشرط عليه شروطاً منها: العدل، وحسن السيرة، وأن لا يستعمل أحداً من أهل الذمة.
وفيها عاد أصبهبذ صباوة من دمشق، وكان هرب عند قتل إياز، فلما قدم أكرمه السلطان، وأقطعه رحبة مالك بن طوق.
وفيها، سابع شوال، خرج السلطان إلى ظاهر بغداد، عازماً على العود إلى أصبهان، وكان مقامه هذه المرة خمسة أشهر وسبعة عشر يوماً.
وفيها، في ذي الحجة، احترقت خرابة ابن جردة، فهلك فيها كثير من الناس، وأما الأمتعة، والأموال، وأثاث البيوت، فهلك ما لا حد عليه، وخلص خلق بنقب نقبوه في سور المحلة إلى مقبرة باب أبرز، وكان بها جماعة من اليهود، فلم ينقلوا شيئاً لتمسكهم بسبتهم، وكان بعض أهله قد عبروا إلى الجانب الغربي للفرجة، على عادتهم في السبت الذي يلي العيد، فعادوا فوجدوا بيوتهم قد خربت، وأهلهم قد احترقوا، وأموالهم قد هلكت.
ثم تبع ذلك حريق في عدة أماكن منها: درب القيار، وقراح ابن رزين، فارتاع الناس لذلك، وبطلوا معايشتهم، وأقاموا ليلاً ونهاراً يحرسون بيوتهم في الدروب، وعلى السطوح، وجعلوا عندهم الماء المعد لإطفاء النار، فظهر أن سبب هذا الحريق أن جارية أحبت رجلاً، فوافقته على المبيت عندها في دار مولاها سراً، وأعدت له ما يسرقه إذا خرج، ويأخذها هي أيضاً معه، فلما أخذها طرحا النار في الدار، فخرجا، فأظهر الله عليهما، وعجل الفضيحة لهما، فأخذا وحبسا.
وفيها جمع بغدوين ملك الفرنج عسكره وقصد مدينة صور وحصرها، وأمر ببناء حصن عندها، على تل المعشوقة، وأقام شهراً محاصراً لها، فصانعه واليها على سبعة آلاف دينار، فأخذها ورحل عن المدينة، وقصد مدينة صيدا، فحصرها براً وبحراً ونصب عليها البرج الخشب، ووصل الأسطول المصري في الدفع عنها، والحماية لمن فيها، فقاتلهم أسطول الفرنج، فظهر المسلمون عليهم، فاتصل الفرنج مسير عسكر دمشق نجدة لأهل صيدا، فرحلوا عنها بغير فائدة.
وفيها ظهر كوكب عظيم له ذوائب، فبقي ليالي كثيرة ثم غاب.
توفي في هذه السنة، في شعبان، إبراهيم بن مياس بن مهدي أبو إسحاق القشيري الدمشقي، سمع الحديث الكثير من الخطيب البغدادي وغيره.
وتوفي في ذي القعدة أبو سعيد إسماعيل بن عمرو بن محمد النيسابوري المحدث، كان يقرأ الحديث للغرباء، قرأ صحيح مسلم على عبد الغافر الفارسي عشرين مرة.
ثم دخلت سنة اثنتين وخمسمائة
ذكر استيلاء مودود على الموصل

في هذه السنة، في صفر، استولى مودود، والعسكر الذي أرسله السلطان معه، على مدينة الموصل، وأخذوها من أصحاب جاولي سقاوو، وقد ذكرنا سنة خمسمائة استيلاء جاولي عليها، وما جرى بينه وبين جكرمش والملك قلج أرسلان، وهلاكهما على يده، وصار معه بعد ذلك العسكر الكثير، والعدة التامة، والأموال الكثيرة، وكان السلطان محمد قد جعل إليه ولاية كل بلد يفتحه، فاستولى على كثير من البلاد والأموال.
وكان سبب أخذ البلاد منه: أنه لما استولى عليها، وعلى الأموال الكثيرة منها، لم يحمل إلى السلطان منها شيئاً، فلما وصل السلطان إلى بغداد، لقصد بلاد سيف الدولة صدقة، أرسل إلى جاولي يستدعيه إليه بالعساكر، وكرر الرسل إليه، فلم يحضر، وغالط في الانحدار إليه، وأظهر أنه يخاف أن يجتمع به، ولم يقنع بذلك، حتى كاتب صدقة، وأظهر له أنه معه، ومساعده على حرب السلطان، وأطمعه في الخلاف والعصيان.
فلما فرغ السلطان من أمر صدقة، وقتله، كما ذكرناه، تقدم إلى الأمراء بني برسق، وسكمان القطبي، ومودود نب التونتكين، وآقسنقر البرسقي، ونصر بن مهلهل بن أبي الشوك الكردي، وأبي الهيجاء، صاحب إربل، بالمسير إلى الموصل، وبلاد جاولي، وأخذها منه، فتوجهوا نحو الموصل، فوجدوا جاولي عاصياً قد شيد سور الموصل، وأحكم ما بناه جكرمش، وأعد الميرة والأقوات والآلات، واستظهر على الأعيان بالموصل، فحبسهم، وأخرج من أحداثها ما يزيد على عشرين ألفاً، ونادى: متى اجتمع عاميان على الحديث في هذا الأمر قتلتهما، وخرج عن البلد، ونهب السواد.
وترك بالبلد زوجته ابنة برسق، وأسكنها القلعة، ومعها ألف وخمسمائة فارس من الأتراك، سوى غيرهم، وسوى الرجالة، ونزل العسكر عليها في شهر رمضان سنة إحدى وخمسمائة، وصادرت زوجته من بقي بالبلد، وعسفت نساء الخارجين عنه، وبالغت في الاحتراز عليهم، فأوحشهم ذلك، ودعاهم إلى الانحراف عنها، وقوتل أهل البلد قتالاً متتابعاً، فتمادى الحصار بأهلها من خارج، والظلم من داخل إلى آخر المحرم، والجند بها يمنعون عامياً من القرب من السور.
فلما طال الأمر على الناس، اتفق نفر من الجصاصين، ومقدمهم جصاص يعرف بسعدي، على تسليم البلد، وتحالفوا على التساعد، وأتوا وقت صلاة الجمعة، والناس بالجامع، وصعدوا برجاً، وأغلقوا أبوابه، وقتلوا من به من الجند، وكانوا نياماً، فلم يشعروا بشيء، حتى قتلوا، وأخذوا سلاحهم، وألقوهم إلى الأرض، وملكوا برجاً آخر.
ووقعت الصيحة، وقصدهم مائتا فارس من العسكر، ورموهم بالنشاب، وهم يقاتلون، وينادون بشعار السلطان، فزحف عسكر السلطان إليهم، ودخلوا البلد من ناحيتهم، وملكوه، ودخله الأمير مودود، ونودي بالسكون والأمن، وأن يعود الناس إلى دورهم وأملاكهم، وأقامت زوجة جاولي بالقلعة ثمانية أيام، وراسلت الأمير مودود في أن يفرج لها عن طريقها، وأن يحلف لها على الصيانة والحراسة، فحلف، وخرجت إلى أخيها برسق بن برسق، ومعها أموالها وما استولت عليه، وولي مودود الموصل وما ينضاف إليها.
ذكر حال جاولي مدة الحصاروأما جاولي فإنه لما وصل عسكر السلطان إلى الموصل، وحصرها، سار عنها، وأخذ معه القمص، صاحب الرها، الذي كان قد أسره سقمان وأخذه منه جكرمش، وقد ذكرنا ذلك، وسار إلى نصيبين، وهي حينئذ للأمير إيلغازي بن أرتق، وراسله، وسأله الاجتماع به، واستدعاه إلى معاضدته، وأن يكونا يداً واحدة، وأعلمه أن خوفهما من السلطان ينبغي أن يجمعهما على الاحتماء منه. فلم يجبه إيلغازي إلى ذلك، ورحل عن نصيبين، ورتب بها ولده، وأمره بحفظهما من جاولي، وأن يقاتله إن قصده، وسار إلى ماردين.
فلما سمع جاولي ذلك عدل عن نصيبين، وقصد دارا، وأرسل إلى إيلغازي ثانياً في المعاني، وسار بعد الرسول، فبينما رسوله عند إيلغازي بمادرين، لم يشعر إلا وجاولي معه في القلعة وحده، وقصد أن يتألفه ويستميله، فلما رآه إيلغازي قام إليه وخدمه، ولما رأى جاولي محسناً للظن فيه، غير مستشعر منه، لم يجد إلى دفعه سبيلاً، فنزل معه، وعسكرا بظاهر نصيبين، وسارا منها إلى سنجار، وحاصراها مدة، فلم يجبهما صاحبها إلى صلح، فتركاه وسارا نحو الرحبة، وإيلغازي يظهر لجاولي المساعدة، ويبطن الخلاف، وينتظر فرصة لينصرف عنه، فلما وصلا إلى عرابان، من الخابور، هرب إيلغازي ليلاً وقصد نصيبين.

ذكر إطلاق جاولي للقمص الفرنجي
لما هرب إيلغازي من جاولي سار جاولي إلى الرحبة، فلما وصل إلى ماكسين أطلق القمص الفرنجي، الذي كان أسيراً بالموصل، وأخذه معه، وسمه بردويل، وكان صاحب الرها وسروج وغيرهما، وبقي في الحبس إلى الآن، وبذل الأموال الكثيرة، فلم يطلق، فلما كان الآن أطلقه جاولي، وخلع عليه، وكان مقامه في السجن ما يقارب خمس سنين، وقرر عليه أن يفدي نفسه بمال، وأن يطلق أسرى المسلمين الذين في سجنه، وأن ينصره متى أراد ذلك منه بنفسه وعسكره وماله.
فلما اتفقا على ذلك سير القمص إلى قلعة جعبر، وسلمه إلى صاحبها سالم بن مالك، حتى ورد عليه ابن خالته جوسلين، وهو من فرسان الفرنج وشجعانها، وهو صاحب تل باشر وغيره، وكان أسر مع القمص في تلك الوقعة، ففدى نفسه بعشرين ألف دينار، فلما وصل جوسلين إلى قلعة جعبر أقام رهينة عوض القمص، وأطلق القمص، وسار إلى أنطاكية، وأخذ جاولي جوسلين من قلعة جعبر فأطلقه، وأخذ عوضه أخا زوجته، وأخا زوجة القمص، وسيره إلى القمص ليقوى به، وليحثه على إطلاق الأسرى، وإنفاذ المال وما ضمنه، فلما وصل جوسلين إلى منبج أغار عليها ونهبها، وكان معه جماعة من أصحاب جاولي، فأنكروا عليه ذلك، ونسبوه إلى الغدر، فقال: إن هذه المدينة ليست لكم.
ذكر ما جرى بين هذا القمص وبين صاحب أنطاكيةلما أطلق القمص وسار إلى أنطاكية أعطاه طنكري صاحبها ثلاثين ألف دينار، وخيلاً، وسلاحاً، وثياباً، وغيره ذلك، وكان طنكري قد أخذ الرها من أصحاب القمص حين أسر، فخاطبه الآن في ردها عليه، فلم يفعل، فخرج من عنده إلى تل باشر، فلما قدم عليه جوسلين، وقد أطلقه جاولي، سره ذلك، وفرح به.
وسار إليهما طنكري، صاحب أنطاكية، بعساكره ليحاربهما، قبل أن يقوى أمرهما، ويجمعا عسكراً، ويلتحق بهما جاولي وينجدهما، فكانوا يقتتلون، فإذا فرغوا من القتال اجتمعوا وأكل بعضهم مع بعض وتحادثوا.
وأطلق القمص من الأسرى المسلمين مائة وستين أسيراً كلهم من سواد حلب، وكساهم وسيرهم.
وعاد طنكري إلى أنطاكية من غير فصل حال في معنى الرها، فسار القمص وجوسلين وأغارا على حصون طنكري، صاحب أنطاكية والتجأ إلى ولاية كواسيل، وهو رجل أرمني، ومعه خلق كثير من المرتدين وغيرهم، وهو صاحب رعبان، وكيسوم، وغيرهما من القلاع، شمالي حلب، فأنجد القمص بألف فارس من المرتدين، وألفي راجل، فقصدهم طنكري، فتنازعوا في أمر الرها، فتوسط بينهم البطرك الذي لهم، وهو عندهم كالإمام الي للمسلمين، لا يخالف أمره، وشهد جماعة من المطارنة والقسيسين: أن بيمند خال طنكري قال له، لما أراد ركوب البحر، والعود إلى بلاده، ليعيد الرها إلى القمص، إذا خلص من الأسر، فأعادها عليه طنكري تاسع صفر، وعبر القمص الفرات، ليسلم إلى أصحاب جاولي المال والأسرى، فأطلق في طريقه خلقاً كثيراً من الأسرى من حران وغيرها.
وكان بسروج ثلاثمائة مسلم ضعفى، فعمر أصحاب جاولي مساجدهم، وكان رئيس سروج مسلماً قد ارتد، فسمعه أصحاب جاولي يقول في الإسلام قولاً شنيعاً، فضربوه، وجرى بينهم وبين الفرنج بسببه نزاع، فذكر ذلك للقمص، فقال: هذا لا يصلح لنا ولا للمسلمين، فقتله.
ذكر حال جاولي بعد إطلاق القمصلما أطلق جاولي القمص بماكسين سار إلى الرحبة، فأتاه أبو النجم بدران، وأبو كامل منصور، ابنا سيف الدولة صدقة، وكانا، بعد قتل أبيهما بقلعة جعبر، عند سالم بن مالك، فتعاهدوا على امساعدة والمعاضدة، ووعدهما أنه يسير معهما إلى الحلة، وعزموا أن يقدموا عليهم بكتاش بن تكش بن ألب أرسلان. فوصل إليهم، وهم على هذا العزم، أصبهبذ صباوة، وكان قد قصد السلطان فأقطعه الرحبة وقد ذكرناه، فاجتمع بجاولي، وأشار عليه أن يقصد الشام، فإن بلاده خالية من الأجناد، والفرنج قد استولوا على كثير منها، وعرفه أنه متى قصد العراق، والسلطان بها، أو قريباً منها، لم يأمن شراً يصل إليه. فقبل قوله، وأصعد عن الرحبة، فوصل إليه رسل سالم بن مالك، صاحب قلعة جعبر، يستغيث به من بني نمير، وكانت الرقة بيد ولده علي بن سالم، فوقب جوشن النميري، ومعه جماعة من بني نمير، فقتل علياً وملك الرقة.

فبلغ ذلك الملك رضوان، فسار من حلب إلى صفين، فصادف تسعين رجلاً من الفرنج معهم مال من فدية القمص، صاحب الرها، قد سيره إلى جاولي، فأخذه، وأسر عدداً منهم، وأتى الرقة، فصالحه بنو نمير على مال، فرحل عنهم إلى حلب، فاستنجد سالم بن مالك جاولي، وسأله أن يرحل إلى الرقة ويأخذها، ووعده بما يحتاج إليه. فقصد الرقة، وحصرها سبعين يوماً، فضمن له بنو نمير مالاً وخيلاً، فأرسل إلى سالم: إنني في أمر أهم من هذا، وأنا بإزاء عدو، ويجب التشاغل به دون غيره، وأنا عازم على الانحدار إلى العراق، فإن تم أمري فالرقة وغيرها لك، ولا أشتغل عن هذا المهم بحصار خمسة نفر من بني نمير.
ووصل إلى جاولي الأمير حسين بن أتابك قتلغ تكين، وكان أبوه أتابك السلطان محمد، فقتله، وتقدم ولده هذا عند السلطان، واختص به، فسيره السلطان مع فخر الملك بن عمار ليصلح الحال مع جاولي، ويأمر العساكر بالمسير مع ابن عمار إلى جهاد الكفار، فحضر عند جاولي، وأمر بتسليم البلاد، وطيب قلبه عن السلطان، وضمن الجميل، إذا سلم البلاد، وأظهر الطاعة والعبودية، فقال جاولي: أنا مملوك السلطان، وفي طاعته، وحمل إليه مالاً وثياباً لها مقدار جليل، وقال له: سر إلى الموصل ورحّل العسكر عنها، فإني أرسل معك من يسلم ولدي إليك رهينة، وينفذ السلطان إليها من يتولى أمرها وجباية أموالها، ففعل حسين ذلك، وسار ومعه صاحب جاولي، فلما وصلا إلى العسكر الذي على الموصل، وكانوا لم يفتحوها بعد، أمرهم حسين بالرحيل، فكلهم أجاب، إلا الأمير مودود فإنه قال: لا أرحل إلا بأمر السلطان، وقبض على صاحب جاولي، وأقام على الموصل، حتى فتحها كما ذكرناه.
وعاد حسين بن قتلغ تكين إلى السلطان، فأحسن النيابة عن جاولي عنده، وسار جاولي إلى مدينة بالس، فوصلها ثالث عشر صفر، فاحتمى أهلها منه، وهرب من بها من أصحاب الملك رضوان، صاحب حلب، فحصرها خمسة أيام، وملكها بعد أن نقب برجاً من أبراجها، فوقع على النقابين، فقتل منهم جماعة، وملك البلد، وصلب جماعة من أعيانه عند النقب، وأحضر القاضي محمد بن بد العزيز بن إلياس فقتله، وكان فقيهاً صالحاً، ونهب البلد، وأخذ منه مالاً كثيراً.
ذكر الحرب بين جاولي والفرنجوفي هذه السنة، في صفر، كان المصاف بين جاولي سقاوو وبين طنكري الفرنجي، صاحب أنطاكية.
وسبب ذلك أن الملك رضوان كتب إلى طنكري، صاحب أنطاكية، يعرفه ما هو جاولي عليه من الغدر، والمكر، والخداع، ويحذره منه، ويعلمه أنه على قصد حلب، وأنه إن ملكها لا يبقي للفرنج معه بالشام مقام، وطلب منه النصرة، والاتفاق على منعه. فأجابه طنكري إلى منعه وبرز من أنطاكية، فأرسل إليه رضوان ستمائة فارس، فلما سمع جاولي الخبر أرسل إلى القمص، صاحب الرها، يستدعيه إلى مساعدته، وأطلق له ما بقي عليه من مال المفاداة، فسار إلى جاولي فلحق به، وهو على منبج، فوصل الخبر إليه، وعلى هذه الحال، بأن الموصل قد استولى عليها عسكر السلطان، وملكوا خزائنه وأمواله، فاشتد ذلك عليه، وفارقه كثير من أصحابه منهم أتابك زنكي بن آقسنقر، وبكتاش النهاوندي، وبقي جاولي في ألف فارس، وانضم إليه خلق من المطوعة، فنزل بتل باشر.
وقاربهم طنكري، وهو في ألف وخمسمائة فارس من الفرنج، وستمائة من أصحاب الملك رضوان، سوى الرجالة، فجعل جاولي في ميمنته الأمير أقسيان، والأمير التونتاش الابري، وغيرهما، وفي الميسرة الأمير بدران بن صدقة، وأصبهبذ صباوة، وسنقر دراز، وفي القلب القمص، صاحب الرها، واشتد القتال، فأزاح طنكري القلب عن موضعه، وحملت ميسرة جاولي على رجالة صاحب أنطاكية، فقتلت منهم خلقاً كثيراً، ولم يبق غير هزيمة صاحب أنطاكية، فحينئذ عمد أصحاب جاولي إلى جنائب القمص، وجوسلين، وغيرهما من الفرنج، فركبوها وانهزموا، فمضى جاولي وراءهم ليردهم، فلم يرجعوا، وكانت طاعته قد زالت عنهم حين أخذت الموصل منه، فلما رأى أنهم لا يعودون معه أهمته نفسه، وخاف من المقام، فانهزم، وانهزم باقي عسكره.

فأما أصبهبذ صباوة فسار نحو الشام، وأما بدران بن صدقة فسار إلى قلعة جعبر، وأما ابن جكرمش فقصد جزيرة ابن عمر، وأما جاولي فقصد الرحبة، وقتل من المسلمين خلق كثير، ونهب صاحب أنطاكية أموالهم وأثقالهم، وعظم البلاء عليهم من الفرنج، وهرب القمص وجوسلين إلى تل باشر والتجأ إليهما خلق كثير من المسلمين، ففعلا معهم الجميل، وداويا الجرحى، وكسوا العراة، وسيراهم إلى بلادهم.
ذكر عود جاولي إلى السلطانلما انهزم جاولي سقاوو قصد الرحبة، فلما قاربها بات دونها في عدة فوارس، فاتفق أن طائفة من عسكر الأمير مودود، الذين أخذوا الموصل منه، أغاروا على قوم من العرب يجاورون الرحبة، فقاربوا جاولي ولا يشعرون به، ولو علموا لأخذوه.
فلما رأى الحال كذلك، علم أنه لا يقدر أن يقيم بالجزيرة، ولا بالشام، ولا يقدر على شيء يحفظ به نفسه، ويرجع إليه، ويداوي به مرضه، غير قصد باب السلطان محمد عن رغبة واختيار، وكان واثقاً بالأمير حسين بن قتلغتكين، فرحل من مكانه وهو خائف حذر، قد أخفى شخصه وكتم أمره، وسار إلى عسكر السلطان، وكان بالقرب من أصبهان، فوصل إليه في سبعة عشر يوماً من مكانه لجده في السير، فلما وصل المعسكر قصد الأمير حسيناً، فحمله إلى السلطان، فدخل إليه وكفنه تحت يده، فأمنه، وأتاه الأمراء يهنونه بذلك، وطلب منه السلطان الملك بكتاش بن تكش، فسلمه إليه، فاعتقله بأصبهان.
ذكر الحرب بين طغتكين والفرنج
والهدنة بعدها.
في هذه السنة كانت حرب شديدة بين طغتكين أتابك والفرنج، وسببها أن طغتكين سار إلى طبرية، وقد وصل إليها ابن أخت بغدوين الفرنجي، ملك القدس، فتحاربا واقتتلا، وكان طغتكين في ألفي فارس، وكثير من الرجالة، وكان ابن أخت ملك الفرنج في أربعمائة فارس وألفي رجل.
فلما اشتد القتال انهزم المسلمون، فترجل طغتكين، ونادى بالمسلمين، وشجعهم، فعادوا الحرب، وكسروا الفرنج، وأسروا ابن أخت الملك، وحمل إلى طغتكين، فعرض طغتكين عليه الإسلام، فامتنع منه، وبذل في فداء نفسه ثلاثين ألف دينار، وإطلاق خمسمائة أسير، فلم يقنع طغتكين منه بغير الإسلام، فلما لم يجب قتله بيده، وأرسل إلى الخليفة والسلطان الأسرى، ثم اصطلح طغتكين وبغدوين ملك الفرنج على وضع الحرب أربع سنين، وكان ذلك من لطف الله تعالى بالمسلمين، ولولا هذه الهدنة لكان الفرنج بلغوا من المسلمين، بعد الهزيمة الآتي ذكرها، أمراً عظيماً.
ذكر انهزام طغتكين من الفرنجفي هذه السنة، في شعبان، انهزم أتابك طغتكين من الفرنج.
وسبب ذلك أن حصن عرقة، وهو من أعمال طرابلس، كان بيد غلام للقاضي فخر الملك أبي علي بن علي بن عمار، صاحب طرابلس، وهو من الحصون المنيعة، فعصى على مولاه، فضاق به القوت، وانقطعت عنه الميرة، لطول مكث الفرنج في نواحيه، فأرسل إلى أتابك طغتكين، صاحب دمشق، وقال له: أرسل من يتسلم هذا الحصن مني، قد عجزت عن حفظه، ولأن يأخذه المسلمون خير لي دنيا وآخرة من أن يأخذه الفرنج. فبعث إليه طغتكين صاحباً له، اسمه إسرائيل، في ثلاثمائة رجل، فتسلم الحصن، فلما نزل غلام ابن عمار منه رماه إسرائيل، في الأخلاط، بسهم فقتله، وكان قصده بذلك أن لا يطلع أتابك طغتكين على ما خلفه بالقلعة من المال.
وأراد طغتكين قصد الحصن للاطلاع عليه، وتقويته بالعساكر، والأقوات، وآلات الحرب، فنزل الغيث والثلج مدة شهرين، ليلاً ونهاراً، فمنعه، فلما زال ذلك سار في أربعة آلاف فارس، ففتح حصوناً للفرنج، منها حصن الأكمة. فلما سمع السرداني الفرنجي بمجيء طغتكين، وهو على حصار طرابلس، توجه في ثلاثمائة فارس، فلما أشرف أوائل أصحابه على عسكر طغتكين انهزموا، وخلوا ثقلهم ورحلهم ودوابهم للفرنج، فغنموا، وقووا به، وزاد في تجملهم.
ووصل المسلمون إلى حمص، على أقبح حال من التقطع، ولم يقتل منهم أحد لأنه لم تجر حرب، وقصد السرداني إلى عرقة، فلما نازلها طلب من كان بها الأمان، فأمنهم على نفوسهم، وتسلم الحصن، فلما خرج من فيه قبض على إسرائيل، وقال: لا أطلقه إلا بإطلاق فلان، وهو أسير كان بدمشق من الفرنج، منذ سبع سنين، ففودي به وأطلقا معاً.

ولما وصل طغتكين إلى دمشق، بعد الهزيمة، أرسل إليه ملك القدس يقول له: لا تظن أنني أنقص الهدنة للذي تم عليك من الهزيمة، فالملوك ينالهم أكثر مما نالك، ثم تعود أمورهم إلى الانتظام والاستقامة، وكان طغتكين خائفاً أن يقصده بعد هذه الكسرة فينال من بلده كل ما أراد.
ذكر صلح السنة والشيعة ببغدادفي هذه السنة، في شعبان، اصطلح عامة بغداد السنة والشيعة، وكان الشر منهم على طول الزمان، وقد اجتهد الخلفاء، والسلاطين، والشحن في إصلاح الحال، فتعذر عليهم ذلك، إلى أن أذن الله تعالى فيه، وكان بغير واسطة.
وكان السبب ذي ذلك أن السلطان محمداً لما قتل ملك العرب صدقة، كما ذكرناه، خاف الشيعة ببغداد، أهل الكرخ وغيرهم، لأن صدقة كان يتشيع هو وأهل بيته، فشنع أهل السنة عليهم بأنهم نالهم غم وهم لقتله، فخاف الشيعة، وأغضوا على سماع هذا، ولم يزالوا خائفين إلى شعبان، فلما دخل شعبان تجهز السنة لزيارة قبر مصعب بن الزبير، وكانوا قد تركوا ذلك سنين كثيرة، ومنعوا منه لتقطع الفتن الحادثة بسببه.
فلما تجهزوا للمسير، اتفقوا على أن يجعلوا طريقهم في الكرخ، فأظهروا ذلك، فاتفق رأي أهل الكرخ على ترك معارضتهم، وأنهم لا يمنعونهم، فصارت السنة تسير أهل كل محلة منفردين، ومعهم من الزينة والسلاح شيء كثير، وجاء أهل باب المراتب، ومعهم فيل قد عمل من خشب، وعليه الرجال بالسلاح، وقصدوا جميعهم الكرخ ليعبروا فيه، فاستقبلهم أهله بالبخور والطيب، والماء المبرد، والسلاح الكثير، وأظهروا بهم السرور، وشيعوهم حتى خرجوا من المحلة.
وخرج الشيعة، ليلة النصف منه، إلى مشهد موسى بن جعفر وغيره، فلم يعترضهم أحد من السنة، فعجب الناس لذلك، ولما عادوا من زيارة مصعب لقيهم أهل الكرخ بالفرح والسرور، فاتفق أن أهل باب المراتب انكسر فيلهم عند قنطرة باب حرب، فقرأ لهم قوم: " ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل " إلى آخر السورة.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://arabelalekat.yoo7.com
الشيخ عودة
الشيخ عودة
الشيخ عودة



عدد المساهمات : 1748
تاريخ التسجيل : 28/09/2008
العمر : 74

كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير - صفحة 7 Empty
مُساهمةموضوع: رد: كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير   كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير - صفحة 7 Emptyالثلاثاء فبراير 25, 2014 11:23 am

ذكر عدة حوادثفي هذه السنة عاد منصور بن صدقة بن مزيد إلى باب السلطان، فتقبله وأكرمه وكان قد هرب، بعد قتل والده، إلى الآن، والتحق أخوه بدران بن صدقة بالأمير مودود الذي أقطعه السلطان الموصل، فأكرمه وأحسن صحبته.
وفيها، في نيسان، زادت دجلة زيادة عظيمة، وتقطعت الطرق، وغرقت الغلات الشتوية والصيفية، وحدث غلاء عظيم بالعراق، بلغت كارة الدقيق الخشكار عشرة دنانير إمامية، وعدم الخبز رأساً، وأكل الناس التمر والباقلاء الخضراء، وأما أهل السواد فإنهم لم يأكلوا جميع شهر رمضان، ونصف شوال، سوى الحشيش والتوت.
وفيها، في رجب، عزل وزير الخليفة أبو المعالي هبة الله بن المطلب، ووزر أبو القاسم علي بن أبي نصر بن جهير.
وفيها، في شعبان، تزوج الخليفة المستظهر بالله ابنة السلطان ملكشاه، وهي أخت السلطان محمد، وكان الذي خطب خطبة النكاح القاضي أبو العلاء صاعد بن محمد النيسابوري، الحنفي، وكان المتولي لقبول العقد نظام الملك أحمد بن نظام الملك، وزير السلطان، بوكالة من الخليفة، وكان الصداق مائة ألف دينار، ونثرت الجواهر والدنانير، وكان العقد بأصبهان.
وفيها توفي مجاهد الدين بهروز شحنكية بغداد، وكان سبب ذلك أن السلطان محمداً كان قبض على أبي القاسم الحسين بن عبد الواحد، صاحب المخزن، وعلى أبي الفرج بن رئيس الرؤساء، واعتقلهما عنده، ثم أطلقهما الآن، وقرر عليهما مالاً يحملانه إليه، فأرسل مجاهد الدين بهروز لقبض المال، وأمره السلطان بعمارة دار المملكة، ففعل ذلك وعمر الدار، وأحسن إلى الناس، فلما قدم السلطان إلى بغداد ولاه شحنكية العراق جميعه، وخلع على سعيد بن حميد العمري، صاحب جيش صدقة، وولاه الحلة السيفية، وكان صارماً، حازماً، ذا رأي وجلد.
وفيها، في شوال، ملك الأمير سكمان القطبي، صاحب خلاط، مدينة ميافارقين بالأمان، بعد أن حصرها وضيق على أهلها عدة شهور، فعدمت الأقوات بها، واشتد الجوع بأهلها فسلموها.

وفي هذه السنة، في صفر، قتل قاضي أصبهان عبيد الله بن علي الخطيبي بهمذان، وكان قد تجرد، في أمر الباطنية، تجرداً عظيماً، وصار يلبس درعاً حذراً منهم، ويحتاط، ويحترز، فقصده إنسان أعجمي، يوم جمعة، ودخل بينه وبين أصحابه فقتله، وقتل صاعد بن محمد بن عبد الرحمن أبو العلاء قاضي نيسابور، يوم عيد الفطر، قتله باطني، وقتل الباطني، ومولده سنة ثمان وأربعين وأربعمائة، وسمع الحديث، وكان حنفي المذهب.
وفي هذه السنة سار قفل عظيم من دمشق إلى مصر، فأتى الخبر إلى ملك الفرنج، فسار إليه وعارضه في البر، وأخذ كل من فيه، ولم يسلم منهم إلا القليل، ومن سلم أخذه العرب.
وفيها، في فصح النصارى، ثار جماعة من الباطنية في حصن شيزر على حين غفلة من أهله في مائة رجل، فملكوه، وأخرجوا من كان فيه، وأغلقوا بابه، وصعدوا إلى القلعة فملكوها، وكان أصحابها بنو منقذ قد نزلوا منها لمشاهدة عيد النصارى، وكانوا قد أحسنوا، إلى هؤلاء الذين أفسدوا، كل الإحسان، فبادر أهل المدينة الباشورة، فأصعدهم النساء في الحبال من الطاقات، وصاروا معهم، وأدركهم الأمراء بنو منقذ، أصحاب الحصن، فصعدوا إليهم، فكبروا عليهم وقاتلوهم، فانخذل الباطنية، وأخذهم السيف من كل جانب، فلم يفلت منهم أحد، وقتل من كان على مثل رأيهم في البلد.
وفيها وصل إلى المهدية ثلاثة نفر غرباء، فكتبوا إلى أميرها يحيى بن تميم يقولون: إنهم يعملون الكيمياء، فأحضرهم عنده، وأمرهم أن يعملوا شيئاً يراه من صناعتهم، فقالوا: نعمل النقرة، فأحضر لهم ما طلبوا من آلة وغيرها، وقعد معهم هو والشريف أبو الحسن، وقائد جيشه واسمه إبراهيم، وكانا يختصان به، فلما رأى الكيماوية المكان خالياً من جمع ثاروا بهم، فضرب أحدهم يحيى بن تميم على رأسه، فوقعت السكين في عمامته فلم تصنع شيئاً، ورفسه يحيى فألقاه على ظهره، ودخل يحيى باباً وأغلقه على نفسه، فضرب الثاني الشريف فقتله، وأخذ القائد إبراهيم السيف فقاتل الكيماوية، ووقع الصوت، فدخل أصحاب الأمير يحيى فقتلوا الكيماوية، وكان زيهم زي أهل الأندلس، فقتل جماعة من أهل البلد على مثل زيهم، وقيل للأمير يحيى: إن هؤلاء رآهم بعض الناس عند المقدم بن خليفة، واتفق أن الأمير أبا الفتوح بن تميم، أخا يحيى، وصل تلك الساعة إلى القصر في أصحابه وقد لبسوا السلاح، فمنع من الدخول، فثبت عند الأمير يحيى أن ذلك بوضع منهما، فأحضر المقدم بن خليفة، وأمر أولاد أخيه فقتلوه قصاصاً، لأنه قتل أباهم، وأخرج الأمير أبا الفتوح وزوجته بلارة بنت القاسم بن تميم، وهي ابنة عمه، ووكل بهما في قصر زيادة بين المهدية وسفاقس، فبقي هناك إلى أن مات يحيى، وملك بعده ابنه علي سنة تسع وخمسمائة، فسير أبا الفتوح وزوجته بلارة إلى ديار مصر في البحر، فوصلا إلى إسكندرية، على ما نذكره إن شاء الله.
وفيها، في المحرم، قتل عبد الواحد بن إسماعيل بن أحمد بن محمد أبو المحاسن الروياني الطبري، الفقيه الشافعي، ومولده سنة خمس عشرة وأربعمائة، وكان حافظاً للمذهب، ويقول: لو احترقت كتب الشافعي لأمليتها من قلبي.
وفيها، في جمادى الآخرة، توفي الخطيب أبو زكرياء يحيى بن علي التبريزي، الشيباني، اللغوي، صاحب التصانيف المشهورة، وله شعر ليس بالجيد.
وفيها، في رجب، توفي السيد أبو هاشم زيد الحسني، العلوي، رئيس همذان، وكان نافذ الحكم، ماضي الأمر، وكانت مدة رئاسته لها سبعاً وأربعين سنة، وجده لأمه الصاحب أبو القاسم بن عباد، وكان عظيم المال جداً، فمن ذلك أنه أخذ منه السلطان محمد في دفعة واحدة سبع مائة ألف دينار لم يبع لأجلها ملكاً ولا استدان ديناراً، وأقام بعد ذلك بالسلطان محمد، عدة شهور، في جميع ما يريده، وكان قليل المعروف.
وفيها، في ذي الحجة، توفي أبو الفوارس الحسن بن علي الخازن، الكاتب المشهور بجودة الخط، وله شعر منه: من المديد
عنت الدنيا لطالبها، ... واستراح الزاهد الفطن
عرف الدنيا، فلم يرها ... وسواه حظاً الفتن
كل ملك نال زخرفها ... حظه مما حوى كفن
يقتني مالاً، ويتركه، ... في كلا الحالين مفتتن
أملي كوني على ثقة ... من لقاء الله مرتهن

أكره الدنيا، وكيف بها، ... والذي تسخو به وسن
لم تدم قبلي على أحد، ... فلماذا الهم والحزن؟
وقيل توفي سنة تسع وتسعين وأربعمائة، وقد ذكر هناك.
ثم دخلت سنة ثلاث وخمسمائة
ذكر ملك الفرنج طرابلس وبيروت
من الشام
في هذه السنة، حادي عشر ذي الحجة، ملك الفرنج طرابلس.
وسبب ذلك أن طرابلس كانت قد صارت في حكم صاحب مصر ونائبه فيها، والمدد يأتي إليها منه، وقد ذكرنا ذلك سنة إحدى وخمسمائة. فلما كانت هذه السنة، أول شعبان، وصل أسطول كبير من بلد الفرنج في البحر، ومقدمهم قمص كبير اسمه ريمند بن صنجيل ومراكبه مشحونة بالرجال، والسلاح، والميرة، فنزل على طرابلس، وكان نازلاً عليها قبله السرداني ابن أخت صنجيل، وليس بابن أخت ريمند هذا، بل هو قمص آخر، فجرى بينهما فتنة أدت إلى الشر والقتال، فوصل طنكري صاحب أنطاكية إليها، معونة للسرداني، ووصل الملك بغدوين، صاحب القدس، في عسكره، فأصلح بينهم، ونزل الفرنج جميعهم على طرابلس، وشرعوا في قتالها، ومضايقة أهلها، من أول شعبان، وألصقوا أبراجهم بسورها، فلما رأى الجند وأهل البلد ذلك سقط في أيديهم، وذلت نفوسهم، وزادهم ضعفاً تأخر الأسطول المصري عنهم بالميرة والنجدة.
وكان سبب تاخره: أنه فرغ منه، والحث عليه، واختلفوا فيه أكثر من سنة، وسار، فردته الريح، فتعذر عليهم الوصول إلى طرابلس ليقضي الله أمراً كان مفعولاً.
ومد الفرنج القتال عليها من الأبراج والزحف، فهجموا على البلد وملكوه عنوة وقهراً يوم الاثنين لإحدى عشرة ليلة خلت من ذي الحجة من السنة، ونهبوا ما فيها، وأسروا الرجال، وسبوا النساء والأطفال، ونهبوا الأموال، وغنموا من أهلها من الأموال، والأمتعة، وكتب دور العلم الموقوفة، ما لا يحد ولا يحصى، فإن أهلها كانوا من أكثر أهل البلاد أموالاً وتجارة، وسلم الوالي الذي كان بها، وجماعة من جندها كانوا التمسوا الأمان قبل فتحها، فوصلوا إلى دمشق، وعاقب الفرنج أهلها بأنواع العقوبات، وأخذت دفائنهم وذخائرهم في مكامنهم.
ذكر ملك الفرنج جبيل وبانياسلما فرغ الفرنج من طرابلس سار طنكري، صاحب أنطاكية، إلى بانياس، وحصرها، وافتتحها، وأمن أهلها، ونزل مدينة جبيل، وفيها فخر الملك بن عمار، الذي كان صاحب طرابلس، وكان القوت فيها قليلاً، فقاتلها إلى أن ملكها في الثاني والعشرين من ذي الحجة من السنة بالأمان، وخرج فخر الملك بن عمار سالماً.
ووصل، عقيب ملك طرابلس، الأسطول المصري بالرجال، والمال، والغلال، وغيرها، ما يكفيهم سنة، فوصل إلى صور بعد أخذها بثمانية أيام للقضاء النازل بأهلها، وفرقت الغلال التي فيه والذخائر في الجهات المنفذة إليها صور، وصيدا، وبيروت.
وأما فخر الملك بن عمار فإنه قصد شيزر، فأكرمه صاحبها الأمير سلطان بن علي بن منقذ الكناني، واحترمه، وسأله أن يقيم عنده، فلم يفعل، وسار إلى دمشق، فأنزله طغتكين صاحبها، وأجزل له في الحمل والعطية، وأقطعه أعمال الزبداني، وهو عمل كبير من أعمال دمشق، وكان ذلك في المحرم سنة اثنتين وخمسمائة.
ذكر الحرب بين محمد خان وساغربكفي هذه السنة عاد ساغربك وجمع العساكر الكثيرة من الأتراك وغيرهم وقصد أعمال محمد خان بسمرقند وغيرها، فأرسل محمد إلى سنجر يستنجده، فسير إليه الجنود، واجتمع معه أيضاً كثير من العساكر، وسار إلى ساغربك فالتقوا بنواحي الخشب واقتتلوا فانهزم ساغربك وعساكره وأخذت السيوف منهم مأخذها وكثر الأسر فيهم والنهب، فلما فرغوا من حربهم وأمن محمد خان من شر ساغربك عاد العسكر السنجري إلى خراسان فعبروا النهر إلى بلخ.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة، في المحرم، سير السلطان وزيره نظام الملك أحمد بن نظام الملك إلى قلعة ألموت لقتال الحسن بن الصباح ومن معه من الإسماعيلية، فحصروهم، وهجم الشتاء عليهم فعادوا ولم يبلغوا منه غرضاً.
وفيها، في ربيع الآخر، قدم السلطان إلى بغداد، وعاد عنها في شوال من السنة أيضاً.
وفيها، في شعبان، توجه الوزير نظام الملك إلى الجامع، فوثب به الباطنية، فضربوه بالسكاكين، وجرح في رقبته، فبقي مريضاً مدة، ثم برأ، وأخذ الباطني الذي جرحه فسقي الخمر حتى سكر، ثم سئل عن أصحابه، فأقر على جماعة بمسجد المأمونية، فأخذوا وقتلوا.

وفيها عزل وزير الخليفة، وهو أبو المعالي بن المطلب، ووزر بعده الزعيم أبو القاسم بن جهير، فخرج ابن المطلب من دار الخليفة مستتراً هو وأولاده واستجار بدار السلطان.
وفيها جهز يحيى بن تميم، صاحب إفريقية، خمسة عشر شينياً وسيرها إلى بلاد الروم، فلقيها أسطول الروم، وهو كبير، فقاتلوهم، وأخذوا ست قطع من شواني المسلمين، ولم ينهزم بعد ذلك ليحيى جيش في البحر والبر.
وسير ابنه أبا الفتوح إلى مدينة سفاقس والياً عليها، فثار به أهلها، فنهبوا قصره، وهموا بقتله، فلم يزل يحيى يعمل الحيلة عليهم، حتى فرق كلمتهم، وبدد شملهم، وملك رقابهم فسجنهم، وعفا عن دمائهم وذنوبهم.
وفيها توفي الأمير إبراهيم ينال، صاحب آمد، وكان قبيح السيرة، مشهوراً بالظلام، فجلا كثير من أهلها لجوره، وملك بعده ولده، وكان أصلح حالاً منه.
وفيها، في ثامن ذي القعدة، ظهر في السماء كوكب من الشرق له ذؤابة ممتدة إلى القبلة، وبقي يطلع إلى آخر ذي الحجة، ثم غاب.
ثم دخلت سنة أربع وخمسمائة
ذكر ملك الفرنج مدينة صيدا
في هذه السنة، في ربيع الآخر، ملك الفرنج مدينة صيدا، من ساحل الشام.
وسبب ذلك: أنه وصل في البحر إلى الشام ستون مركباً للفرنج مشحونة بالرجال والذخائر مع بعض ملوكهم ليحج البيت المقدس وليغزو بزعمه المسلمين، فاجتمع بهم بغدوين ملك القدس، وتقررت القاعدة بينهم أن يقصدوا بلاد الإسلام، فرحلوا من القدس، ونزلوا مدينة صيدا ثالث ربيع الآخر من هذه السنة، وضايقوها براً وبحراً.
وكان الأسطول المصري مقيماً على صور، فلم يقدر على إنجاد صيدا، فعمل الفرنج برجاً من الخشب، وأحكموه، وجعلوا عليه ما يمنع النار عنه والحجارة، وزحفوا به، فلما عاين أهل صيدا ذلك ضعفت نفوسهم، وأشفقوا أن يصيبهم مثل ما أصاب أهل بيروت، فأرسلوا قاضيها ومعه جماعة من شيوخها إلى الفرنج، وطلبوا من ملكهم الأمان فأمنهم على أنفسهم، وأموالهم، والعسكر الذي عندهم، ومن أراد المقام بها عندهم أمنوه، ومن أراد المسير عنهم لم يمنعوه، وحلف لهم على ذلك، فخرج الوالي، وجماعة كثيرة من أعيان أهل البلد، في العشرين من جمادى الأولى إلى دمشق، وأقام بالبلد خلق كثير تحت الأمان، وكانت مدة الحصار سبعة وأربعين يوماً.
ورحل بغدوين عنها إلى القدس، ثم عاد إلى صيدا، بعد مدة يسيرة، فقرر على المسلمين الذين أقاموا بها عشرين ألف دينار، فأفقرهم، واستغرق أموالهم.
ذكر استيلاء المصريين على عسقلانكانت عسقلان للعلويين المصريين، ثم إن الخليفة الآمر بأحكام الله استعمل عليها إنساناً يعرف بشمس الخلافة، فراسل بغدوين ملك الفرنج بالشام، وهادنه، وأدى إليه مالاً وعروضاً، فامتنع به من أحكام المصريين عليه، إلا فيما يريد من غير مجاهدة بذلك.
فوصلت الأخبار بذلك إلى الآمر بأحكام الله، صاحب مصر، وإلى وزيره الأفضل، أمير الجيوش، فعظم الأمر عليهما، وجهزا عسكراً وسيراه إلى عسقلان مع قائد كبير من قواده، وأظهرا أنه يريد الغزاة، ونفذا إلى القائد سراً أن يقبض على شمس الخلافة إذا حضر عندهم، ويقيم هو عوضه بعسقلان أميراً. فسار العسكر، فعرف شمس الخلافة الحال، فامتنع من الحضور عند العسكر المصري، وجاهر بالعصيان، وأخرج من كان عنده من عسكر مصر خوفاً منهم.
فلما عرف الأفضل ذلك خاف أن يسلم عسقلان إلى الفرنج، فأرسل إليه وطيب قلبه، وسكنه، وأقره على عمله، وأعاد عليه إقطاعه بمصر.
ثم إن شمس الخلافة خاف أهل عسقلان، فأحضر جماعة من الأرمن واتخذهم جنداً، ولم يزل على هذه الحال إلى آخر سنة أربع وخمسمائة، فأنكر الأمر أهل البلد، فوثب به قوم من أعيانه، وهو راكب، فجرجروه، فانهزم منهم إلى داره، فتبعوه وقتلوه، ونهبوا داره وجميع ما فيها، ونهبوا بعض دور غيره من أرباب الأموال بهذه الحجة، وأرسلوا إلى مصر بجلية الحال إلى الآمر والأفضل، فسرا بذلك، وأحسنا إلى الواصلين بالبشارة، وأرسلا إليه والياً يقيم به، ويستعمل مع أهل البلد الإحسان وحسن السيرة، فتم ذلك، وزال ما كانوا يخافونه.
ذكر ملك الفرنج حصن الأثارب

في هذه السنة جمع صاحب أنطاكية عساكره من الفرنج، وحشد الفارس والراجل، وسار نحو حصن الأثارب، وهو بالقرب من مدينة حلب بينهما ثلاثة فراسخ، وحصره، ومنع عنه الميرة، فضاق الأمر على من به من المسلمين، فنقبوا من القلعة نقباً، قصدوا أن يخرجوا منه إلى خيمة صاحب أنطاكية فيقتلوه، فلما فعلوا ذلك وقربوا من خيمته استأمن إليه صبي أرمني، فعرفه الحال، فاحتاط، واحترز منهم، وجد في قتالهم، حتى ملك الحصن قهراً وعنوة، وقتل من أهله ألفي رجل، وسبى وأسر الباقين.
ثم سار إلى حصن زردنا، فحصره، ففتحه، وفعل بأهله مثل الأثارب، فلما سمع أهل منبج بذلك فارقوها خوفاً من الفرنج، وكذلك أهل بالس، وقصد الفرنج البلدين فرأوهما وليس بهما أنيس، فعادوا عنهما.
وسار عسكر من الفرنج إلى مدينة صيدا، فطلب أهلها منهم الأمان، فأمنوهم وتسلموا البلد، فعظم خوف المسلمين منهم، وبلغت القلوب الحناجر، وأيقنوا باستيلاء الفرنج على سائر الشام لعدم الحامي له والمانع عنه، فشرع أصحاب البلاد الإسلامية بالشام في الهدنة معهم، فامتنع الفرنج من الإجابة إلا على قطيعة يأخذونها إلى مدة يسيرة، فصالحهم الملك رضوان، صاحب حلب، على اثنين وثلاثين ألف دينار، وغيرها من الخيول والثياب، وصالحهم صاحب صور على سبعة آلاف دينار، وصالحهم ابن منقذ، صاحب شيزر، على أربعة آلاف دينار، وصالحهم علي الكردي، صاحب حماة، على ألفي دينار، وكانت مدة الهدنة إلى وقت إدراك الغلة وحصادها.
ثم إن مراكب أقلعت من ديار مصر، فيها التجار ومعهم الأمتعة الكثيرة، فوقع عليها مراكب الفرنج، فأخذوها، وغنموا ما مع التجار، وأسروهم، فسار جماعة من أهل حلب إلى بغداد، مستنفرين على الفرنج. فلما وردوا بغداد اجتمع معهم خلق كثير من الفقهاء وغيرهم فقصدوا جامع السلطان، واستغاثوا، ومنعوا من الصلاة، وكسروا المنبر، فوعدهم السلطان بإنفاذ العساكر للجهاد، وسير من دار الخلافة منبراً إلى جامع السلطان. فلما كان الجمعة الثانية قصدوا جامع القصر بدار الخلافة، ومعهم أهل بغداد، فمنعهم حاجب الباب من الدخول، فغلبوه على ذلك، ودخلوا الجامع، وكسروا شباك المقصورة، وهجموا إلى المنبر فكسروه، وبطلت الجمعة أيضاً، فأرسل الخليفة إلى السلطان في المعنى يأمره بالاهتمام بهذا الفتق ورتقه، فتقدم حينئذ إلى من معه من الأمراء بالمسير إلى بلادهم، والتجهز للجهاد، وسير ولده الملك مسعوداً مع الأمير مودود، صاحب الموصل، وتقدموا إلى الموصل ليلحق بهم الأمراء ويسيروا إلى قتال الفرنج، وانقضت السنة، وساروا في سنة خمس وخمسمائة، وكان ما نذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة عزل نظام الملك أحمد من وزارة السلطان، ووزر بعده الخطير محمد بن الحسين الميبذي.
وفيها ورد رسول ملك الروم إلى السلطان يستنفره على الفرنج، ويحثه على قتالهم ودفعهم عن البلاد، وكان وصول أهل حلب، وكان أهل حلب يقولون للسلطان: أما تتقي الله تعالى أن يكون ملك الروم أكثر حمية منك للإسلام، حتى قد أرسل إليك في جهادهم.
وفيها، في رمضان، زفت ابنة السلطان ملكشاه إلى الخليفة، وزينت بغداد، وغلقت، وكان بها فرحة عظيمة لم يشاهد الناس مثلها.
وفيها هبت بمصر ريح سوداء أظلمت بها الدنيا، وأخذت بأنفاس الناس، ولم يقدر أحد أن يفتح عينيه، ومن فتحهما لا يبصر يده، ونزل على الناس رمل، ويئس الناس من الحياة، وأيقنوا بالهلاك، ثم تجلى قليلاً، وعاد إلى الصفوة، وكان ذلك من أول وقت العصر إلى بعد المغرب.
وفيها، في المحرم، توفي الكيا الهراس الطبري واسمه أبو الحسن علي بن محمد بن علي، وكان من أعيان الفقهاء الشافعية، أخذ الفقه عن إمام الحرمين الجويني، ودرس بعده في النظامية ببغداد، وتوفي بها، ودفن عند تربة الشيخ أبي إسحاق، ودرس بعده في النظامية الإمام أبو بكر الشاشي.
وفيها توفي أبو الحسين إدريس بن حمزة بن علي الرملي الفقيه الشافعي من أهل الرملة بفلسطين، تفقه على أبي الفتح نصر بن إبراهيم المقدسي، وعلى الشيخ أبي إسحاق الشيرازي، ودخل خراسان، وولي التدريس بسمرقند، فتوفي بها.
ثم دخلت سنة خمس وخمسمائة
ذكر مسير العساكر إلى قتال الفرنج

في هذه السنة اجتمعت العساكر التي أمرها السلطان بالمسير إلى قتال الفرنج، فكانوا: الأمير مودود، صاحب الموصل، والأمير سكمان القطبي، صاحب تبريز وبعض ديار بكر، والأميرين إيلبكي وزنكي ابني برسق، ولهما همذان وما جاورها، والأمير أحمديل، وله مراغة، وكوتب الأمير أبو الهيجاء، صاحب إربل، والأمير إيلغازي، صاحب ماردين، والأمراء البكجية، باللحاق بالملك مسعود، ومودود، فاجتمعوا، ما عدا الأمير إيلغازي فإنه سير ولده إياز وأقام هو، فلما اجتمعوا ساروا إلى بلدة سنجار، ففتحوا عدة حصون للفرنج، وقتل من بها منهم، وحصروا مدينة الرها مدة، ثم رحلوا عنها من غير أن يملكوها.
وكان سبب رحيلهم عنها أن الفرنج اجتمعت جميعها، فارسها وراجلها، وساروا إلى الفرات ليعبروه ليمنعوا الرها من المسلمين، فلما وصلوا إلى الفرات بلغهم كثرة المسلمين، فلم يقدموا عليه، وأقاموا على الفرات، فلما رأى المسلمون ذلك رحلوا عن الرها إلى حران ليطمع الفرنج ويعبروا الفرات إليهم ويقاتلوهم. فلما رحلوا عنها جاء الفرنج، ومعهم الميرة والذخائر، إلى الرها، فجعلوا فيها كل من فيه عجز وضعف وفقر، وعادوا إلى الفرات فعبروه إلى الجانب الشامي، وطرقوا أعمال حلب، فأفسدوا ما فيها، ونهبوها، وقتلوا فيها وأسروا، وسبوا خلقاً كثيراً.
وكان سبب ذلك أن الفرنج لما عبروا إلى الجزيرة خرج الملك رضوان، صاحب حلب، إلى ما أخذه الفرنج من أعمالها، فاستعاد بعضه، ونهب منهم وقتل، فلما عادوا وعبروا الفرات فعلوا بأعماله ما فعلوا.
وأما العسكر السلطاني فلما سمعوا بعود الفرنج وعبورهم الفرات، رحلوا إلى الرها وحصروها، فرأوا أمراً محكماً، قد قويت نفوس أهلها بالذخائر التي تركت عندهم، وبكثرة المقاتلين عنهم، ولم يجدوا فيهم مطمعاً، فرحلوا عنها، وعبروا الفرات، فحصروا قلعة تل باشر خمسة وأربعين يوماً، ورحلوا عنها ولم يبلغوا غرضاً.
ووصلوا إلى حلب، فأغلق الملك رضوان أبواب البلد، ولم يجتمع بهم، ثم مرض هناك الأمير سكمان القطبي، فعاد مريضاً، فتوفي في بالس، فجعله أصحابه في تابوت، وحملوه عائدين إلى بلاده، فقصدهم إيلغازي ليأخذهم، ويغنم ما معهم، فجعلوا تابوته في القلب، وقاتلوا بين يديه، فانهزم إيلغازي، وغنموا ما معه، وساروا إلى بلادهم.
ولما أغلق الملك رضوان أبواب حلب، ولم يجتمع بالعساكر السلطانية، رحلوا إلى معرة النعمان، واجتمع بهم طغتكين، صاحب دمشق، ونزل على الأمير مودود، فاطلع من الأمراء على نيات فاسدة في حقه، فخاف أن تؤخذ منه دمشق، فشرع في مهادنة الفرنج سراً وكانوا قد نكلوا عن قتال المسلمين، فلم يتم ذلك، وتفرقت العساكر.
وكان سبب تفرقهم أن الأمير برسق بن برسق الذي هو أكبر الأمراء كان به نقرس، فهو يحمل في محفة، ومات سكمان القطبي، كما ذكرنا، وأراد الأمير أحمديل، صاحب مراغة، العود، ليطلب من السلطان أن يقطعه ما كان لسكمان من البلاد، وأتابك طغتكين، صاحب دمشق، خاف الأمراء على نفسه، فلم ينصحهم، إلا أنه حصل بنيه وبين مودود، صاحب الموصل، مودة وصداقة، فتفرقوا لهذه الأسباب، وبقي مودود وطغتكين بالمعرة، فساروا منها، ونزلوا على نهر العاصي.
ولما سمع الفرنج بتفرق عساكر الإسلام طمعوا، وكانوا قد اجتمعوا كلهم، بعد الاختلاف والتباين، وساروا إلى أفامية، فسمع بهم سلطان بن منقذ، صاحب شيزر، فسار إلى مودود وطغتكين، وهون عليهما أمر الفرنج، وحرضهما على الجهاد، فرحلوا إلى شيزر، ونزلوا عليها، ونزل الفرنج بالقرب منهم، فضيق عليهم عسكر المسلمين الميرة، ولزوهم بالقتال، والفرنج يحفظون نفوسهم، ولا يعطون مصافاً، فلما رأوا قوة المسلمين عادوا إلى أفامية وتبعهم المسلمون، فتخطفوا من أدركوه في ساقتهم وعادوا إلى شيزر في ربيع الأول.
ذكر حصر الفرنج مدينة صورلما تفرقت العساكر اجتمعت الفرنج على قصد مدينة صور وحصرها، فساروا إليها مع الملك بغدوين، صاحب القدس، وحشدوا، وجمعوا، ونازلوها وحصروها في الخامس والعشرين من جمادى الأولى، وعملوا عليها ثلاثة أبراج خشب، علو البرج سبعون ذراعاً، وفي كل برج ألف رجل، ونصبوا عليها المجانيق، وألصقوا أحدها إلى سور البلد، وأخلوه من الرجال.

وكانت صور للآمر بأحكام الله العلوي ونائبه بها عز الملك الأعز، فأحضر أهل البلد، واستشارهم في حيلة يدفعون بها شر الأبراج عنهم، فقام شيخ من أهل طرابلس وضمن على نفسه إحراقها، وأخذ معه ألف رجل بالسلاح التام، ومع كل رجل منهم حزمة حطب، فقاتلوا الفرنج إلى أن وصلوا إلى البرج الملتصق بالمدينة، فألقى الحطب من جهاته، وألقى فيه النار، ثم خاف أن يشتغل الفرنج الذين في البرج بإطفاء النار، ويتخلصوا، فرماهم بجرب كان قد أعدها، مملوءة من العذرة، فلما سقطت عليهم اشتغلوا بها وبما نالهم من سوء الرائحة والتلويث، فتمكنت النار منه، فهلك كل من به، إلا القليل، وأخذ منه المسلمون ما قدروا عليه بالكلاليب، ثم أخذ سلال العنب الكبار، وترك فيها الحطب الذي قد سقاه بالنفط، والزفث، والكتان، والكبريت، ورماهم بسبعين سلة، وأحرق البرجين الآخرين.
ثم إن أهل صور حفروا سراديب تحت الأرض ليسقط فيها الفرنج إذا زحفوا إليهم، ولينخسف برج إن عملوه وسيروه إليهم، فاستأمن نفر من المسلمين إلى الفرنج، وأعلموهم بما عملوه، فحذروا منها.
وأرسل أهل البلد إلى أتابك طغتكين، صاحب دمشق، يستنجدونه، ويطلبونه ليسلموا البلد إليه، فسار في عساكره إلى نواحي بانياس، وسير إليهم نجدة مائتي فارس، فدخلوا البلد، فامتنع من في بهم، واشتد قتال الفرنج خوفاً من اتصال النجدات، ففني نشاب الأتراك، فقاتلوا بالخشب، وفني النفط، فظفروا بسرب تحت الأرض فيه نفط لا يعلم من خزنه.
ثم إن عز الملك، صاحب صور، أرسل الأموال إلى طغتكين ليكثر من الرجال، ويقصدهم ليملك البلد، فأرسل طغتكين طائراً فيه رقعة ليعلمه وصول المال، ويأمره أن يقيم مركباً بمكان ذكره لتجيء الرجال إليه، فسقط الطائر على مركب الفرنج، فأخذه رجلان: مسلم وفرنجي، فقال الفرنجي: نطلقه لعل فيه فرجاً لهم، فلم يمكنه المسلم، وحمله إلى الملك بغدوين، فلما وقف عليه سير مركباً إلى المكان الذي ذكره طغتكين، وفيه جماعة من المسلمين الذين استأمنوا إليه من صور، فوصل إليهم العسكر، فكلموهم بالعربية، فلم ينكرونهم، وركبوا معهم، فأخذوهم أسرى، وحملوهم إلى الفرنج، فقتلوهم وطمعوا في أهل صور، فكان طغتكين يغير على أعمال الفرنج من جميع جهاتها، وقصد حصن الحبيس في السواد، من أعمال دمشق، وهو للفرنج، فحصره، وملكه بالسيف، وقتل كل من فيه، وعاد إلى الفرنج الذين على صور.
وكان يقطع الميرة عنهم في البر، فأحضروها في البحر، وخندقوا عليهم، ولم يخرجوا إليه، فسار إلى صيدا، وأغار على ظاهرها، فقتل جماعة من البحرية، وأحرق نحو عشرين مركباً على الساحل، وهو مع ذلك يواصل أهل صور بالكتب يأمرهم بالصبر والفرنج يلازمون قتالهم، وقاتل أهل صور قتال من أيس من الحياة، فدام القتال إلى أوان إدراك الغلات، فخاف الفرنج أن طغتكين يستولي على غلات بلادهم، فساروا عن البلد، عاشر شوال، إلى عكة، وعاد عسكر طغتكين إليه، وأعطاهم أهل صور الأموال وغيرها، ثم أصلحوا ما تشعث من سورها وخندقها، وكان الفرنج قد طموه.
ذكر انهزام الفرنج بالأندلسفي هذه السنة خرج أذفونش الفرنجي، صاحب طليطلة بالأندلس، إلى بلاد الإسلام بها، يطلب ملكها، والاستيلاء عليها، وجمع وحشد فأكثر، وكان قد قوي طمعه فيها بسبب موت أمير المسلمين يوسف بن تاشفين، فسمع أمير المسلمين علي بن يوسف بن تاشفين الخبر، فسار إليه في عساكره وجموعه، فلقيه، فاقتتلوا، واشتد القتال، وكان الظفر للمسلمين، وانهزم الفرنج، وقتلوا قتلاً ذريعاً، وأسر منهم بشر كثير، وسبى منهم، وغنم من أموالهم ما يخرج من الأحصاء، فخرج الفرنج، بعد ذلك، وامتنعوا من قصد بلاده، وذل أذفونش حينئذ وعلم أن في البلاد حامياً لها، وذاباً عنها.
وفي هذه السنة، في جمادى الآخرة، توفي الإمام أبو حامد محمد بن محمد بن محمد الغزالي، الإمام المشهور.
ثم دخلت سنة ست وخمسمائةفي هذه السنة، في المحرم، سار مودود، صاحب الموصل، إلى الرها، فنزل عليها، ورعى عسكره زروعها، ورحل عنها إلى سروج، وفعل بها كذلك وأهمل الفرنج، ولم يحترز منهم، فلم يشعر إلا وجوسلين، صاحب تل باشر، قد كبسهم، وكانت دواب العسكر منتشرة في المرعى، فأخذ الفرنج كثيراً منها، وقتلوا كثيراً من العسكر، فلما تأهب المسلمون للقائه، عاد عنهم إلى سروج.

وفيها رحل السلطان محمد من بغداد، وكان مقامه هذه المرة خمسة أشهر، فلما وصل إلى أصبهان قبض على زي الملك أبي سعد القمي، وسلمه إلى الأمير كاميار لعداوة بينهما، فلما وصل إلى الري أركبه كاميار على ردابة بمركب ذهب، وأظهر أن السلطان خلع عليه على مال قرره عليه، فحصل بذلك مالاً كثيراً من أهل القمي، ثم صلبه، وكان سبب قبضه أنه كان يكثر الطعن على الخليفة والسلطان.
وفيها كان ببغداد رجل مغربي يعمل الكيمياء، بزعمه، اسمه أبو علي، فحمل إلى دار الخلافة، وكان آخر العهد به.
وفيها ورد إلى بغداد يوسف بن أيوب الهمذاني، الواعظ، وكان من الزهاد العابدين، فوعظ الناس بها، فقام إليه رجل متفقه، يقال له ابن السقاء، فآذاه في مسألة، وعاوده، فقال له: اجلس، فإني أجد من كلامك رائحة الكفر، ولعلك تموت على غير دين الإسلام، فاتفق بعد مديدة أن ابن السقاء خرج إلى بلاد الروم، وتنصر.
وفيها، في ذي القعدة، سمع ببغداد صوت هدة عظيمة، ولم يكن بالسماء غيم حتى يظن أنه صوت رعد، ولم يعلم أحد أي صوت كان.
وفيها توفي بسيل الأرمني، صاحب الدروب، ببلاد ابن لاون، فسار طنكري، صاحب أنطاكية، أول جمادى الآخرة، إلى بلاده طمعاً في أن يملكها، فمرض في طريقه، فعاد إلى أنطاكية، فمات ثامن جمادى الآخرة، وملكها بعده ابن أخته سرخالة، واستقام الأمر فيها، بعد أن جرى بين الفرنج خلف بسببه، فأصلح بينهم القسوس والرهبان.
وفيها توفي قراجة، صاحب حمص، وكان ظالماً، وقام ولده قرجان مكانه، وكان مثله في قبح السيرة.
وفي هذه السنة توفي المعمر بن علي أبو سعد بن أبي عمامة الواعظ البغدادي، ومولده سنة تسع وعشرين وأربعمائة، وكان له خاطر حاد، ومجون حسن، وكان الغالب على وعظه أخبار الصالحين.
وتوفي أحمد بن الفرج بن عمر الدينوري، والد شهدة، وكان يروي عن أبي يعلى بن الفراء، وابن المأمون، وابن المهتدي، وابن النقور، وغيرهم، وكان حسن السيرة متزهداً.
وتوفي أبو العلاء صاعد بن منصور بن إسماعيل بن صاعد، الخطيب النيسابوري، وكان من أعيان الفقهاء، وولي قضاء خوارزم، وكان يروي الحديث.
ثم دخلت سنة سبع وخمسمائة
ذكر قتال الفرنج وانهزامهم وقتل مودود
في هذه السنة، في المحرم، اجتمع المسلمون، وفيهم الأمير مودود بن التونتكين، صاحب الموصل، وتميرك، صاحب سنجار، والأمير إياز بن إيلغازي، وطغتكين، صاحب دمشق.
وكان سبب اجتماع المسلمين أن ملك الفرنج بغدوين تابع الغارات على بلد دمشق، ونهبه، وخربه، أواخر سنة ست وخمسمائة، وانقطعت المواد عن دمشق، فغلت الأسعار فيها، وقلت الأقوات، فأرسل طغتكين صاحبها إلى الأمير مودود يشرح له الحال، ويستنجده، ويحثه على سرعة الوصول إليه، فجمع عسكراً، وسار فعبر الفرات آخر ذي القعدة سنة ست وخمسمائة، فخافه الفرنج.
وسمع طغتكين خبره، فسار إليه، ولقيه بسلمية، واتفق رأيهم على قصد بغدوين، ملك القدس، فساروا إلى الأردن، فنزل المسلمون عند الأقحوانة، ونزل الفرنج مع ملكهم بغدوين وجوسلين، صاحب جيشهم، وغيرهما من المقدمين، والفرسان المشهورين، ودخلوا بلاد الفرنج مع مودود، وجمع الفرنج، فالتقوا عند طبرية ثالث عشر المحرم، واشتد القتال، وصبر الفريقان، ثم إن الفرنج انهزموا، وكثر القتل فيهم والأسر، وممن أسر ملكهم بغدوين، فلم يعرف، فأخذ سلاحه وأطلق فنجا، وغرق منهم في بحيرة طبرية ونهر الأردن كثير، وغنم المسلمون أموالهم وسلاحهم، ووصل الفرنج إلى مضيق دون طبرية، فلقيهم عسكر طرابلس وأنطاكية، فقويت نفوسهم بهم، وعاودوا الحرب، فأحاط بهم المسلمون من كل ناحية، وصعد الفرنج إلى جبل غرب طبرية، فأقاموا به ستة وعشرين يوماً، والمسلمون بإزائهم يرمونهم بالنشاب فيصيبون من يقرب منهم، ومنعوا الميرة عنهم لعلهم يخرجون إلى قتالهم، فلم يخرج منهم أحد، فسار المسلمون إلى بيسان، ونهبوا بلاد الفرنج بين عكا إلى القدس، وخربوها، وقتلوا من ظفروا به من النصارى، وانقطعت المادة عنهم لبعدهم عن بلادهم، فعادوا ونزلوا بمرج الصفر.

وأذن الأمير مودود للعساكر في العود والاستراحة، ثم الاجتماع في الربيع لمعاودة الغزاة، وبقي في خواصه ودخل دمشق في الحادي والعشرين من ربيع الأول ليقيم عند طغتكين إلى الربيع. فدخل الجامع يوم الجمعة في ربيع الأول، ليصلي فيه وطغتكين، فلما فرغوا من الصلاة، وخرج إلى صحن الجامع، ويده في يد طغتكين، وثب عليه باطني فضربه فجرحه أربح جراحات وقتل الباطني، وأخذ رأسه، فلم يعرفه أحد، فأحرق.
وكان صائماً، فحمل إلى دار طغتكين، واجتهد به ليفطر، فلم يفعل، وقال: لا لقيت الله إلا صائماً، فمات من يومه، رحمه الله، فقيل إن الباطنية بالشام خافوه وقتلوه، وقيل بل خافه طغتكين فوضع عليه من قتله.
وكان خيراً، عادلاً، كثير الخير، حدثني والدي قال: كتب ملك الفرنج إلى طغتكين، بعد قتل مودود، كتاباً من فصوله: أن أمّة قتلت عميدها. يوم عيدها. في بيت معبودها. لحقيق على الله أن يبيدها.
ولما قتل تسلم تميرك، صاحب سنجار، ما معه من الخزائن والسلاح وحملها إلى السلطان، ودفن مودود بدمشق في تربة دقاق صاحبها، وحمل بعد ذلك إلى بغداد، فدفن في جوار أبي حنيفة، ثم حمل إلى أصبهان.
ذكر الخلف بين السلطان سنجر ومحمد والصلح بينهمافي هذه السنة كثر الحديث عند سنجر: أن محمد خان بن سليمان بن داود قد مد يده إلى أموال الرعايا، وظلمهم ظلما كثيراً، وأنه خرب البلاد بظلمه وشره، وأنه قد صار يستخف بأوامر سنجر، ولا يلتفت إلى شيء منها، فتجهز سنجر وجمع عساكره وسار يريد قصده بما وراء النهر، فخاف محمد خان، فأرسل إلى الأمير قماج، وهو أكبر أمير مع سنجر، يسأله أن يصلح الحال بينه وبين سنجر، وأرسل أيضاً إلى خوارزمشاه بمثل ذلك، وسألهما في إرضاء السلطان عنه، واعترف بأنه أخطأ، فأجاب سنجر إلى صلحه على شرط أن يحضر عنده ويطأ بساطه، فأرسل محمد خان يذكر خوفه لسء صنيعه، ولكنه يحضر الخدمة، ويخدم السلطان، وبينهما نهر جيحون، ثم يعاود بعد ذلك الحضور عنده، والدخول إليه، فحسنوا الإجابة إلى ذلك، والاشتغال بغيره، فامتنع، ثم أجاب.
وكان سنجر على شاطيء جيحون من الجانب الغربي، وجاء محمد خان إلى الجانب الشرقي، فترجل وقبل الأرض وسنجر راكب، وعاد كل واحد منهما إلى خيامه، ورجعوا إلى بلادهم، وسكنت الفتنة بينهما.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة سار قفل عظيم من دمشق إلى مصر، فأتى الخبر إلى بغدوين ملك الفرنج، فسار إليه، وعارضه في البر، فأخذهم أجمعين، ولم ينج منهم إلا القليل، ومن سلم أخذه العرب.
وفي هذه السنة توفي الوزير أبو القاسم علي بن محمد بن جهير، وزير الخليفة المستظهر بالله، ووزر بعده الربيب أبو منصور ابن الوزير أبي شجاع محمد بن الحسين وزير السلطان.
وفيها توفي الملك رضوان بن تاج الدولة تتش بن ألب أرسلان، صاحب حلب، وقام بعده بحلب ابنه ألب أرسلان الأخرس، وعمره ست عشرة سنة، وكانت أمور رضوان غير محمودة: قتل أخويه أبا طالب وبهرام، وكان يستعين بالباطنية في كثير من أموره لقلة دينه، ولما ملك الأخرس استولى على الأمور لؤلؤ الخادم، ولم يكن للأخرس معه إلا اسم السلطنة، ومعناه للؤلؤ، ولم يكن ألب أرسلان أخرس، وإنما في لسانه حبسة وتمتمة، وأمه بنت باغي سيان الذي كان صاحب أنطاكية، وقتل الأخرس أخوين له أحدهما اسمه ملكشاه، وهو من أبيه وأمه، واسم الآخر مباركشاه، وهو من أبيه، وكان أبوه فعل مثله، فلما توفي قتل ولداه، مكافأة لما اعتمده مع أخويه.
وكان الباطنية قد كثروا بحلب في أيامه، حتى خافهم ابن بديع رئيسها، وأعيان أهلها، فلما توفي قال ابن بديع لألب أرسلان في قتلهم والإيقاع بهم، فأمره بذلك، فقبض على مقدمهم أبي طاهر الصائغ، وعلى جميع أصحابه، فقتل أبا طاهر وجماعة من أعيانهم، وأخذ أموال الباقين وأطلقهم، فمنهم من قصد الفرنج، وتفرقوا في البلاد.
وفي هذه السنة توفي ببغداد أبو بكر أحمد بن علي بن بدران الحلواني الزاهد، منتصف جمادى الأولى، روى الحديث عن القاضي أبي الطيب الطبري، وأبي محمد الجوهري، وأبي طالب العشاري وغيرهم، وروى عنه خلق كثير، ومن آخرهم أبو الفضل عبد الله بن الطوسي، خطيب الموصل.

وإسماعيل بن أحمد بن الحسين بن علي أبو علي بن أبي بكر البيهقي الإمام ابن الإمام، ومولده سنة ثمان وعشرين وأربعمائة، وتوفي بمدينة بيهق، ولوالده تصانيف كثيرة مشهورة.
وشجاع بن أبي شجاع فارس بن الحسين بن فارس أبو غالب الذهلي الحافظ، ومولده سنة ثلاثين وأربعمائة، وروى عن أبيه، وأبي القاسم، وابن المهتدي والجوهري وغيرهم.
والأديب أبو المظفر محمد بن أحمد بن محمد الأبيوردي الشاعر المشهور، وله ديوان حسن، ومن شعره:
تنكر لي دهري، ولم يدر أنني ... أعز، وأحداث الزمان تهون
وظل يريني الخطب كيف اعتداؤه ... وبت أريه الصبر كيف يكون
وله أيضاً:
ركبت طرفي، فأذرى دمعه أسفاً ... عند انصرافي منهم، مضمر الياس
وقال: حتام تؤذيني، فإن سنحت ... حوائج لك، فاركبني إلى الناس
وكانت وفاته بأصبهان، وهو ولد عنبسة بن أبي سفيان بن حرب الأموي.
وتوفي أبو بكر محمد بن أحمد بن الحسين بن عمر الشاشي، الإمام الفقيه الشافعي، في شوال، مولده سنة سبع وعشرين وأربعمائة، سمع أبا بكر الخطيب، وأبا يعلى بن الفراء، وغيرهما، وتفقه على أبي عبد الله محمد بن الكازروني بديار بكر، وعلى أبي إسحاق الشيرازي ببغداد، وعلى أبي نصر بن الصباغ.
وفيها توفي أبو نصر المؤتمن بن أحمد بن الحسن الساجي، الحافظ المقدسي، ومولده سنة خمس وأربعين وأربعمائة، وكان مكثراً من الحديث، وتفقه على أبي سحاق، وكان ثقة.
ثم دخلت سنة ثمان وخمسمائة
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://arabelalekat.yoo7.com
الشيخ عودة
الشيخ عودة
الشيخ عودة



عدد المساهمات : 1748
تاريخ التسجيل : 28/09/2008
العمر : 74

كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير - صفحة 7 Empty
مُساهمةموضوع: رد: كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير   كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير - صفحة 7 Emptyالثلاثاء فبراير 25, 2014 11:27 am

ذكر عدة حوادثفي هذه السنة عاد منصور بن صدقة بن مزيد إلى باب السلطان، فتقبله وأكرمه وكان قد هرب، بعد قتل والده، إلى الآن، والتحق أخوه بدران بن صدقة بالأمير مودود الذي أقطعه السلطان الموصل، فأكرمه وأحسن صحبته.
وفيها، في نيسان، زادت دجلة زيادة عظيمة، وتقطعت الطرق، وغرقت الغلات الشتوية والصيفية، وحدث غلاء عظيم بالعراق، بلغت كارة الدقيق الخشكار عشرة دنانير إمامية، وعدم الخبز رأساً، وأكل الناس التمر والباقلاء الخضراء، وأما أهل السواد فإنهم لم يأكلوا جميع شهر رمضان، ونصف شوال، سوى الحشيش والتوت.
وفيها، في رجب، عزل وزير الخليفة أبو المعالي هبة الله بن المطلب، ووزر أبو القاسم علي بن أبي نصر بن جهير.
وفيها، في شعبان، تزوج الخليفة المستظهر بالله ابنة السلطان ملكشاه، وهي أخت السلطان محمد، وكان الذي خطب خطبة النكاح القاضي أبو العلاء صاعد بن محمد النيسابوري، الحنفي، وكان المتولي لقبول العقد نظام الملك أحمد بن نظام الملك، وزير السلطان، بوكالة من الخليفة، وكان الصداق مائة ألف دينار، ونثرت الجواهر والدنانير، وكان العقد بأصبهان.
وفيها توفي مجاهد الدين بهروز شحنكية بغداد، وكان سبب ذلك أن السلطان محمداً كان قبض على أبي القاسم الحسين بن عبد الواحد، صاحب المخزن، وعلى أبي الفرج بن رئيس الرؤساء، واعتقلهما عنده، ثم أطلقهما الآن، وقرر عليهما مالاً يحملانه إليه، فأرسل مجاهد الدين بهروز لقبض المال، وأمره السلطان بعمارة دار المملكة، ففعل ذلك وعمر الدار، وأحسن إلى الناس، فلما قدم السلطان إلى بغداد ولاه شحنكية العراق جميعه، وخلع على سعيد بن حميد العمري، صاحب جيش صدقة، وولاه الحلة السيفية، وكان صارماً، حازماً، ذا رأي وجلد.
وفيها، في شوال، ملك الأمير سكمان القطبي، صاحب خلاط، مدينة ميافارقين بالأمان، بعد أن حصرها وضيق على أهلها عدة شهور، فعدمت الأقوات بها، واشتد الجوع بأهلها فسلموها.

وفي هذه السنة، في صفر، قتل قاضي أصبهان عبيد الله بن علي الخطيبي بهمذان، وكان قد تجرد، في أمر الباطنية، تجرداً عظيماً، وصار يلبس درعاً حذراً منهم، ويحتاط، ويحترز، فقصده إنسان أعجمي، يوم جمعة، ودخل بينه وبين أصحابه فقتله، وقتل صاعد بن محمد بن عبد الرحمن أبو العلاء قاضي نيسابور، يوم عيد الفطر، قتله باطني، وقتل الباطني، ومولده سنة ثمان وأربعين وأربعمائة، وسمع الحديث، وكان حنفي المذهب.
وفي هذه السنة سار قفل عظيم من دمشق إلى مصر، فأتى الخبر إلى ملك الفرنج، فسار إليه وعارضه في البر، وأخذ كل من فيه، ولم يسلم منهم إلا القليل، ومن سلم أخذه العرب.
وفيها، في فصح النصارى، ثار جماعة من الباطنية في حصن شيزر على حين غفلة من أهله في مائة رجل، فملكوه، وأخرجوا من كان فيه، وأغلقوا بابه، وصعدوا إلى القلعة فملكوها، وكان أصحابها بنو منقذ قد نزلوا منها لمشاهدة عيد النصارى، وكانوا قد أحسنوا، إلى هؤلاء الذين أفسدوا، كل الإحسان، فبادر أهل المدينة الباشورة، فأصعدهم النساء في الحبال من الطاقات، وصاروا معهم، وأدركهم الأمراء بنو منقذ، أصحاب الحصن، فصعدوا إليهم، فكبروا عليهم وقاتلوهم، فانخذل الباطنية، وأخذهم السيف من كل جانب، فلم يفلت منهم أحد، وقتل من كان على مثل رأيهم في البلد.
وفيها وصل إلى المهدية ثلاثة نفر غرباء، فكتبوا إلى أميرها يحيى بن تميم يقولون: إنهم يعملون الكيمياء، فأحضرهم عنده، وأمرهم أن يعملوا شيئاً يراه من صناعتهم، فقالوا: نعمل النقرة، فأحضر لهم ما طلبوا من آلة وغيرها، وقعد معهم هو والشريف أبو الحسن، وقائد جيشه واسمه إبراهيم، وكانا يختصان به، فلما رأى الكيماوية المكان خالياً من جمع ثاروا بهم، فضرب أحدهم يحيى بن تميم على رأسه، فوقعت السكين في عمامته فلم تصنع شيئاً، ورفسه يحيى فألقاه على ظهره، ودخل يحيى باباً وأغلقه على نفسه، فضرب الثاني الشريف فقتله، وأخذ القائد إبراهيم السيف فقاتل الكيماوية، ووقع الصوت، فدخل أصحاب الأمير يحيى فقتلوا الكيماوية، وكان زيهم زي أهل الأندلس، فقتل جماعة من أهل البلد على مثل زيهم، وقيل للأمير يحيى: إن هؤلاء رآهم بعض الناس عند المقدم بن خليفة، واتفق أن الأمير أبا الفتوح بن تميم، أخا يحيى، وصل تلك الساعة إلى القصر في أصحابه وقد لبسوا السلاح، فمنع من الدخول، فثبت عند الأمير يحيى أن ذلك بوضع منهما، فأحضر المقدم بن خليفة، وأمر أولاد أخيه فقتلوه قصاصاً، لأنه قتل أباهم، وأخرج الأمير أبا الفتوح وزوجته بلارة بنت القاسم بن تميم، وهي ابنة عمه، ووكل بهما في قصر زيادة بين المهدية وسفاقس، فبقي هناك إلى أن مات يحيى، وملك بعده ابنه علي سنة تسع وخمسمائة، فسير أبا الفتوح وزوجته بلارة إلى ديار مصر في البحر، فوصلا إلى إسكندرية، على ما نذكره إن شاء الله.
وفيها، في المحرم، قتل عبد الواحد بن إسماعيل بن أحمد بن محمد أبو المحاسن الروياني الطبري، الفقيه الشافعي، ومولده سنة خمس عشرة وأربعمائة، وكان حافظاً للمذهب، ويقول: لو احترقت كتب الشافعي لأمليتها من قلبي.
وفيها، في جمادى الآخرة، توفي الخطيب أبو زكرياء يحيى بن علي التبريزي، الشيباني، اللغوي، صاحب التصانيف المشهورة، وله شعر ليس بالجيد.
وفيها، في رجب، توفي السيد أبو هاشم زيد الحسني، العلوي، رئيس همذان، وكان نافذ الحكم، ماضي الأمر، وكانت مدة رئاسته لها سبعاً وأربعين سنة، وجده لأمه الصاحب أبو القاسم بن عباد، وكان عظيم المال جداً، فمن ذلك أنه أخذ منه السلطان محمد في دفعة واحدة سبع مائة ألف دينار لم يبع لأجلها ملكاً ولا استدان ديناراً، وأقام بعد ذلك بالسلطان محمد، عدة شهور، في جميع ما يريده، وكان قليل المعروف.
وفيها، في ذي الحجة، توفي أبو الفوارس الحسن بن علي الخازن، الكاتب المشهور بجودة الخط، وله شعر منه: من المديد
عنت الدنيا لطالبها، ... واستراح الزاهد الفطن
عرف الدنيا، فلم يرها ... وسواه حظاً الفتن
كل ملك نال زخرفها ... حظه مما حوى كفن
يقتني مالاً، ويتركه، ... في كلا الحالين مفتتن
أملي كوني على ثقة ... من لقاء الله مرتهن

أكره الدنيا، وكيف بها، ... والذي تسخو به وسن
لم تدم قبلي على أحد، ... فلماذا الهم والحزن؟
وقيل توفي سنة تسع وتسعين وأربعمائة، وقد ذكر هناك.
ثم دخلت سنة ثلاث وخمسمائة
ذكر ملك الفرنج طرابلس وبيروت
من الشام
في هذه السنة، حادي عشر ذي الحجة، ملك الفرنج طرابلس.
وسبب ذلك أن طرابلس كانت قد صارت في حكم صاحب مصر ونائبه فيها، والمدد يأتي إليها منه، وقد ذكرنا ذلك سنة إحدى وخمسمائة. فلما كانت هذه السنة، أول شعبان، وصل أسطول كبير من بلد الفرنج في البحر، ومقدمهم قمص كبير اسمه ريمند بن صنجيل ومراكبه مشحونة بالرجال، والسلاح، والميرة، فنزل على طرابلس، وكان نازلاً عليها قبله السرداني ابن أخت صنجيل، وليس بابن أخت ريمند هذا، بل هو قمص آخر، فجرى بينهما فتنة أدت إلى الشر والقتال، فوصل طنكري صاحب أنطاكية إليها، معونة للسرداني، ووصل الملك بغدوين، صاحب القدس، في عسكره، فأصلح بينهم، ونزل الفرنج جميعهم على طرابلس، وشرعوا في قتالها، ومضايقة أهلها، من أول شعبان، وألصقوا أبراجهم بسورها، فلما رأى الجند وأهل البلد ذلك سقط في أيديهم، وذلت نفوسهم، وزادهم ضعفاً تأخر الأسطول المصري عنهم بالميرة والنجدة.
وكان سبب تاخره: أنه فرغ منه، والحث عليه، واختلفوا فيه أكثر من سنة، وسار، فردته الريح، فتعذر عليهم الوصول إلى طرابلس ليقضي الله أمراً كان مفعولاً.
ومد الفرنج القتال عليها من الأبراج والزحف، فهجموا على البلد وملكوه عنوة وقهراً يوم الاثنين لإحدى عشرة ليلة خلت من ذي الحجة من السنة، ونهبوا ما فيها، وأسروا الرجال، وسبوا النساء والأطفال، ونهبوا الأموال، وغنموا من أهلها من الأموال، والأمتعة، وكتب دور العلم الموقوفة، ما لا يحد ولا يحصى، فإن أهلها كانوا من أكثر أهل البلاد أموالاً وتجارة، وسلم الوالي الذي كان بها، وجماعة من جندها كانوا التمسوا الأمان قبل فتحها، فوصلوا إلى دمشق، وعاقب الفرنج أهلها بأنواع العقوبات، وأخذت دفائنهم وذخائرهم في مكامنهم.
ذكر ملك الفرنج جبيل وبانياسلما فرغ الفرنج من طرابلس سار طنكري، صاحب أنطاكية، إلى بانياس، وحصرها، وافتتحها، وأمن أهلها، ونزل مدينة جبيل، وفيها فخر الملك بن عمار، الذي كان صاحب طرابلس، وكان القوت فيها قليلاً، فقاتلها إلى أن ملكها في الثاني والعشرين من ذي الحجة من السنة بالأمان، وخرج فخر الملك بن عمار سالماً.
ووصل، عقيب ملك طرابلس، الأسطول المصري بالرجال، والمال، والغلال، وغيرها، ما يكفيهم سنة، فوصل إلى صور بعد أخذها بثمانية أيام للقضاء النازل بأهلها، وفرقت الغلال التي فيه والذخائر في الجهات المنفذة إليها صور، وصيدا، وبيروت.
وأما فخر الملك بن عمار فإنه قصد شيزر، فأكرمه صاحبها الأمير سلطان بن علي بن منقذ الكناني، واحترمه، وسأله أن يقيم عنده، فلم يفعل، وسار إلى دمشق، فأنزله طغتكين صاحبها، وأجزل له في الحمل والعطية، وأقطعه أعمال الزبداني، وهو عمل كبير من أعمال دمشق، وكان ذلك في المحرم سنة اثنتين وخمسمائة.
ذكر الحرب بين محمد خان وساغربكفي هذه السنة عاد ساغربك وجمع العساكر الكثيرة من الأتراك وغيرهم وقصد أعمال محمد خان بسمرقند وغيرها، فأرسل محمد إلى سنجر يستنجده، فسير إليه الجنود، واجتمع معه أيضاً كثير من العساكر، وسار إلى ساغربك فالتقوا بنواحي الخشب واقتتلوا فانهزم ساغربك وعساكره وأخذت السيوف منهم مأخذها وكثر الأسر فيهم والنهب، فلما فرغوا من حربهم وأمن محمد خان من شر ساغربك عاد العسكر السنجري إلى خراسان فعبروا النهر إلى بلخ.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة، في المحرم، سير السلطان وزيره نظام الملك أحمد بن نظام الملك إلى قلعة ألموت لقتال الحسن بن الصباح ومن معه من الإسماعيلية، فحصروهم، وهجم الشتاء عليهم فعادوا ولم يبلغوا منه غرضاً.
وفيها، في ربيع الآخر، قدم السلطان إلى بغداد، وعاد عنها في شوال من السنة أيضاً.
وفيها، في شعبان، توجه الوزير نظام الملك إلى الجامع، فوثب به الباطنية، فضربوه بالسكاكين، وجرح في رقبته، فبقي مريضاً مدة، ثم برأ، وأخذ الباطني الذي جرحه فسقي الخمر حتى سكر، ثم سئل عن أصحابه، فأقر على جماعة بمسجد المأمونية، فأخذوا وقتلوا.

وفيها عزل وزير الخليفة، وهو أبو المعالي بن المطلب، ووزر بعده الزعيم أبو القاسم بن جهير، فخرج ابن المطلب من دار الخليفة مستتراً هو وأولاده واستجار بدار السلطان.
وفيها جهز يحيى بن تميم، صاحب إفريقية، خمسة عشر شينياً وسيرها إلى بلاد الروم، فلقيها أسطول الروم، وهو كبير، فقاتلوهم، وأخذوا ست قطع من شواني المسلمين، ولم ينهزم بعد ذلك ليحيى جيش في البحر والبر.
وسير ابنه أبا الفتوح إلى مدينة سفاقس والياً عليها، فثار به أهلها، فنهبوا قصره، وهموا بقتله، فلم يزل يحيى يعمل الحيلة عليهم، حتى فرق كلمتهم، وبدد شملهم، وملك رقابهم فسجنهم، وعفا عن دمائهم وذنوبهم.
وفيها توفي الأمير إبراهيم ينال، صاحب آمد، وكان قبيح السيرة، مشهوراً بالظلام، فجلا كثير من أهلها لجوره، وملك بعده ولده، وكان أصلح حالاً منه.
وفيها، في ثامن ذي القعدة، ظهر في السماء كوكب من الشرق له ذؤابة ممتدة إلى القبلة، وبقي يطلع إلى آخر ذي الحجة، ثم غاب.
ثم دخلت سنة أربع وخمسمائة
ذكر ملك الفرنج مدينة صيدا
في هذه السنة، في ربيع الآخر، ملك الفرنج مدينة صيدا، من ساحل الشام.
وسبب ذلك: أنه وصل في البحر إلى الشام ستون مركباً للفرنج مشحونة بالرجال والذخائر مع بعض ملوكهم ليحج البيت المقدس وليغزو بزعمه المسلمين، فاجتمع بهم بغدوين ملك القدس، وتقررت القاعدة بينهم أن يقصدوا بلاد الإسلام، فرحلوا من القدس، ونزلوا مدينة صيدا ثالث ربيع الآخر من هذه السنة، وضايقوها براً وبحراً.
وكان الأسطول المصري مقيماً على صور، فلم يقدر على إنجاد صيدا، فعمل الفرنج برجاً من الخشب، وأحكموه، وجعلوا عليه ما يمنع النار عنه والحجارة، وزحفوا به، فلما عاين أهل صيدا ذلك ضعفت نفوسهم، وأشفقوا أن يصيبهم مثل ما أصاب أهل بيروت، فأرسلوا قاضيها ومعه جماعة من شيوخها إلى الفرنج، وطلبوا من ملكهم الأمان فأمنهم على أنفسهم، وأموالهم، والعسكر الذي عندهم، ومن أراد المقام بها عندهم أمنوه، ومن أراد المسير عنهم لم يمنعوه، وحلف لهم على ذلك، فخرج الوالي، وجماعة كثيرة من أعيان أهل البلد، في العشرين من جمادى الأولى إلى دمشق، وأقام بالبلد خلق كثير تحت الأمان، وكانت مدة الحصار سبعة وأربعين يوماً.
ورحل بغدوين عنها إلى القدس، ثم عاد إلى صيدا، بعد مدة يسيرة، فقرر على المسلمين الذين أقاموا بها عشرين ألف دينار، فأفقرهم، واستغرق أموالهم.
ذكر استيلاء المصريين على عسقلانكانت عسقلان للعلويين المصريين، ثم إن الخليفة الآمر بأحكام الله استعمل عليها إنساناً يعرف بشمس الخلافة، فراسل بغدوين ملك الفرنج بالشام، وهادنه، وأدى إليه مالاً وعروضاً، فامتنع به من أحكام المصريين عليه، إلا فيما يريد من غير مجاهدة بذلك.
فوصلت الأخبار بذلك إلى الآمر بأحكام الله، صاحب مصر، وإلى وزيره الأفضل، أمير الجيوش، فعظم الأمر عليهما، وجهزا عسكراً وسيراه إلى عسقلان مع قائد كبير من قواده، وأظهرا أنه يريد الغزاة، ونفذا إلى القائد سراً أن يقبض على شمس الخلافة إذا حضر عندهم، ويقيم هو عوضه بعسقلان أميراً. فسار العسكر، فعرف شمس الخلافة الحال، فامتنع من الحضور عند العسكر المصري، وجاهر بالعصيان، وأخرج من كان عنده من عسكر مصر خوفاً منهم.
فلما عرف الأفضل ذلك خاف أن يسلم عسقلان إلى الفرنج، فأرسل إليه وطيب قلبه، وسكنه، وأقره على عمله، وأعاد عليه إقطاعه بمصر.
ثم إن شمس الخلافة خاف أهل عسقلان، فأحضر جماعة من الأرمن واتخذهم جنداً، ولم يزل على هذه الحال إلى آخر سنة أربع وخمسمائة، فأنكر الأمر أهل البلد، فوثب به قوم من أعيانه، وهو راكب، فجرجروه، فانهزم منهم إلى داره، فتبعوه وقتلوه، ونهبوا داره وجميع ما فيها، ونهبوا بعض دور غيره من أرباب الأموال بهذه الحجة، وأرسلوا إلى مصر بجلية الحال إلى الآمر والأفضل، فسرا بذلك، وأحسنا إلى الواصلين بالبشارة، وأرسلا إليه والياً يقيم به، ويستعمل مع أهل البلد الإحسان وحسن السيرة، فتم ذلك، وزال ما كانوا يخافونه.
ذكر ملك الفرنج حصن الأثارب

في هذه السنة جمع صاحب أنطاكية عساكره من الفرنج، وحشد الفارس والراجل، وسار نحو حصن الأثارب، وهو بالقرب من مدينة حلب بينهما ثلاثة فراسخ، وحصره، ومنع عنه الميرة، فضاق الأمر على من به من المسلمين، فنقبوا من القلعة نقباً، قصدوا أن يخرجوا منه إلى خيمة صاحب أنطاكية فيقتلوه، فلما فعلوا ذلك وقربوا من خيمته استأمن إليه صبي أرمني، فعرفه الحال، فاحتاط، واحترز منهم، وجد في قتالهم، حتى ملك الحصن قهراً وعنوة، وقتل من أهله ألفي رجل، وسبى وأسر الباقين.
ثم سار إلى حصن زردنا، فحصره، ففتحه، وفعل بأهله مثل الأثارب، فلما سمع أهل منبج بذلك فارقوها خوفاً من الفرنج، وكذلك أهل بالس، وقصد الفرنج البلدين فرأوهما وليس بهما أنيس، فعادوا عنهما.
وسار عسكر من الفرنج إلى مدينة صيدا، فطلب أهلها منهم الأمان، فأمنوهم وتسلموا البلد، فعظم خوف المسلمين منهم، وبلغت القلوب الحناجر، وأيقنوا باستيلاء الفرنج على سائر الشام لعدم الحامي له والمانع عنه، فشرع أصحاب البلاد الإسلامية بالشام في الهدنة معهم، فامتنع الفرنج من الإجابة إلا على قطيعة يأخذونها إلى مدة يسيرة، فصالحهم الملك رضوان، صاحب حلب، على اثنين وثلاثين ألف دينار، وغيرها من الخيول والثياب، وصالحهم صاحب صور على سبعة آلاف دينار، وصالحهم ابن منقذ، صاحب شيزر، على أربعة آلاف دينار، وصالحهم علي الكردي، صاحب حماة، على ألفي دينار، وكانت مدة الهدنة إلى وقت إدراك الغلة وحصادها.
ثم إن مراكب أقلعت من ديار مصر، فيها التجار ومعهم الأمتعة الكثيرة، فوقع عليها مراكب الفرنج، فأخذوها، وغنموا ما مع التجار، وأسروهم، فسار جماعة من أهل حلب إلى بغداد، مستنفرين على الفرنج. فلما وردوا بغداد اجتمع معهم خلق كثير من الفقهاء وغيرهم فقصدوا جامع السلطان، واستغاثوا، ومنعوا من الصلاة، وكسروا المنبر، فوعدهم السلطان بإنفاذ العساكر للجهاد، وسير من دار الخلافة منبراً إلى جامع السلطان. فلما كان الجمعة الثانية قصدوا جامع القصر بدار الخلافة، ومعهم أهل بغداد، فمنعهم حاجب الباب من الدخول، فغلبوه على ذلك، ودخلوا الجامع، وكسروا شباك المقصورة، وهجموا إلى المنبر فكسروه، وبطلت الجمعة أيضاً، فأرسل الخليفة إلى السلطان في المعنى يأمره بالاهتمام بهذا الفتق ورتقه، فتقدم حينئذ إلى من معه من الأمراء بالمسير إلى بلادهم، والتجهز للجهاد، وسير ولده الملك مسعوداً مع الأمير مودود، صاحب الموصل، وتقدموا إلى الموصل ليلحق بهم الأمراء ويسيروا إلى قتال الفرنج، وانقضت السنة، وساروا في سنة خمس وخمسمائة، وكان ما نذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة عزل نظام الملك أحمد من وزارة السلطان، ووزر بعده الخطير محمد بن الحسين الميبذي.
وفيها ورد رسول ملك الروم إلى السلطان يستنفره على الفرنج، ويحثه على قتالهم ودفعهم عن البلاد، وكان وصول أهل حلب، وكان أهل حلب يقولون للسلطان: أما تتقي الله تعالى أن يكون ملك الروم أكثر حمية منك للإسلام، حتى قد أرسل إليك في جهادهم.
وفيها، في رمضان، زفت ابنة السلطان ملكشاه إلى الخليفة، وزينت بغداد، وغلقت، وكان بها فرحة عظيمة لم يشاهد الناس مثلها.
وفيها هبت بمصر ريح سوداء أظلمت بها الدنيا، وأخذت بأنفاس الناس، ولم يقدر أحد أن يفتح عينيه، ومن فتحهما لا يبصر يده، ونزل على الناس رمل، ويئس الناس من الحياة، وأيقنوا بالهلاك، ثم تجلى قليلاً، وعاد إلى الصفوة، وكان ذلك من أول وقت العصر إلى بعد المغرب.
وفيها، في المحرم، توفي الكيا الهراس الطبري واسمه أبو الحسن علي بن محمد بن علي، وكان من أعيان الفقهاء الشافعية، أخذ الفقه عن إمام الحرمين الجويني، ودرس بعده في النظامية ببغداد، وتوفي بها، ودفن عند تربة الشيخ أبي إسحاق، ودرس بعده في النظامية الإمام أبو بكر الشاشي.
وفيها توفي أبو الحسين إدريس بن حمزة بن علي الرملي الفقيه الشافعي من أهل الرملة بفلسطين، تفقه على أبي الفتح نصر بن إبراهيم المقدسي، وعلى الشيخ أبي إسحاق الشيرازي، ودخل خراسان، وولي التدريس بسمرقند، فتوفي بها.
ثم دخلت سنة خمس وخمسمائة
ذكر مسير العساكر إلى قتال الفرنج

في هذه السنة اجتمعت العساكر التي أمرها السلطان بالمسير إلى قتال الفرنج، فكانوا: الأمير مودود، صاحب الموصل، والأمير سكمان القطبي، صاحب تبريز وبعض ديار بكر، والأميرين إيلبكي وزنكي ابني برسق، ولهما همذان وما جاورها، والأمير أحمديل، وله مراغة، وكوتب الأمير أبو الهيجاء، صاحب إربل، والأمير إيلغازي، صاحب ماردين، والأمراء البكجية، باللحاق بالملك مسعود، ومودود، فاجتمعوا، ما عدا الأمير إيلغازي فإنه سير ولده إياز وأقام هو، فلما اجتمعوا ساروا إلى بلدة سنجار، ففتحوا عدة حصون للفرنج، وقتل من بها منهم، وحصروا مدينة الرها مدة، ثم رحلوا عنها من غير أن يملكوها.
وكان سبب رحيلهم عنها أن الفرنج اجتمعت جميعها، فارسها وراجلها، وساروا إلى الفرات ليعبروه ليمنعوا الرها من المسلمين، فلما وصلوا إلى الفرات بلغهم كثرة المسلمين، فلم يقدموا عليه، وأقاموا على الفرات، فلما رأى المسلمون ذلك رحلوا عن الرها إلى حران ليطمع الفرنج ويعبروا الفرات إليهم ويقاتلوهم. فلما رحلوا عنها جاء الفرنج، ومعهم الميرة والذخائر، إلى الرها، فجعلوا فيها كل من فيه عجز وضعف وفقر، وعادوا إلى الفرات فعبروه إلى الجانب الشامي، وطرقوا أعمال حلب، فأفسدوا ما فيها، ونهبوها، وقتلوا فيها وأسروا، وسبوا خلقاً كثيراً.
وكان سبب ذلك أن الفرنج لما عبروا إلى الجزيرة خرج الملك رضوان، صاحب حلب، إلى ما أخذه الفرنج من أعمالها، فاستعاد بعضه، ونهب منهم وقتل، فلما عادوا وعبروا الفرات فعلوا بأعماله ما فعلوا.
وأما العسكر السلطاني فلما سمعوا بعود الفرنج وعبورهم الفرات، رحلوا إلى الرها وحصروها، فرأوا أمراً محكماً، قد قويت نفوس أهلها بالذخائر التي تركت عندهم، وبكثرة المقاتلين عنهم، ولم يجدوا فيهم مطمعاً، فرحلوا عنها، وعبروا الفرات، فحصروا قلعة تل باشر خمسة وأربعين يوماً، ورحلوا عنها ولم يبلغوا غرضاً.
ووصلوا إلى حلب، فأغلق الملك رضوان أبواب البلد، ولم يجتمع بهم، ثم مرض هناك الأمير سكمان القطبي، فعاد مريضاً، فتوفي في بالس، فجعله أصحابه في تابوت، وحملوه عائدين إلى بلاده، فقصدهم إيلغازي ليأخذهم، ويغنم ما معهم، فجعلوا تابوته في القلب، وقاتلوا بين يديه، فانهزم إيلغازي، وغنموا ما معه، وساروا إلى بلادهم.
ولما أغلق الملك رضوان أبواب حلب، ولم يجتمع بالعساكر السلطانية، رحلوا إلى معرة النعمان، واجتمع بهم طغتكين، صاحب دمشق، ونزل على الأمير مودود، فاطلع من الأمراء على نيات فاسدة في حقه، فخاف أن تؤخذ منه دمشق، فشرع في مهادنة الفرنج سراً وكانوا قد نكلوا عن قتال المسلمين، فلم يتم ذلك، وتفرقت العساكر.
وكان سبب تفرقهم أن الأمير برسق بن برسق الذي هو أكبر الأمراء كان به نقرس، فهو يحمل في محفة، ومات سكمان القطبي، كما ذكرنا، وأراد الأمير أحمديل، صاحب مراغة، العود، ليطلب من السلطان أن يقطعه ما كان لسكمان من البلاد، وأتابك طغتكين، صاحب دمشق، خاف الأمراء على نفسه، فلم ينصحهم، إلا أنه حصل بنيه وبين مودود، صاحب الموصل، مودة وصداقة، فتفرقوا لهذه الأسباب، وبقي مودود وطغتكين بالمعرة، فساروا منها، ونزلوا على نهر العاصي.
ولما سمع الفرنج بتفرق عساكر الإسلام طمعوا، وكانوا قد اجتمعوا كلهم، بعد الاختلاف والتباين، وساروا إلى أفامية، فسمع بهم سلطان بن منقذ، صاحب شيزر، فسار إلى مودود وطغتكين، وهون عليهما أمر الفرنج، وحرضهما على الجهاد، فرحلوا إلى شيزر، ونزلوا عليها، ونزل الفرنج بالقرب منهم، فضيق عليهم عسكر المسلمين الميرة، ولزوهم بالقتال، والفرنج يحفظون نفوسهم، ولا يعطون مصافاً، فلما رأوا قوة المسلمين عادوا إلى أفامية وتبعهم المسلمون، فتخطفوا من أدركوه في ساقتهم وعادوا إلى شيزر في ربيع الأول.
ذكر حصر الفرنج مدينة صورلما تفرقت العساكر اجتمعت الفرنج على قصد مدينة صور وحصرها، فساروا إليها مع الملك بغدوين، صاحب القدس، وحشدوا، وجمعوا، ونازلوها وحصروها في الخامس والعشرين من جمادى الأولى، وعملوا عليها ثلاثة أبراج خشب، علو البرج سبعون ذراعاً، وفي كل برج ألف رجل، ونصبوا عليها المجانيق، وألصقوا أحدها إلى سور البلد، وأخلوه من الرجال.

وكانت صور للآمر بأحكام الله العلوي ونائبه بها عز الملك الأعز، فأحضر أهل البلد، واستشارهم في حيلة يدفعون بها شر الأبراج عنهم، فقام شيخ من أهل طرابلس وضمن على نفسه إحراقها، وأخذ معه ألف رجل بالسلاح التام، ومع كل رجل منهم حزمة حطب، فقاتلوا الفرنج إلى أن وصلوا إلى البرج الملتصق بالمدينة، فألقى الحطب من جهاته، وألقى فيه النار، ثم خاف أن يشتغل الفرنج الذين في البرج بإطفاء النار، ويتخلصوا، فرماهم بجرب كان قد أعدها، مملوءة من العذرة، فلما سقطت عليهم اشتغلوا بها وبما نالهم من سوء الرائحة والتلويث، فتمكنت النار منه، فهلك كل من به، إلا القليل، وأخذ منه المسلمون ما قدروا عليه بالكلاليب، ثم أخذ سلال العنب الكبار، وترك فيها الحطب الذي قد سقاه بالنفط، والزفث، والكتان، والكبريت، ورماهم بسبعين سلة، وأحرق البرجين الآخرين.
ثم إن أهل صور حفروا سراديب تحت الأرض ليسقط فيها الفرنج إذا زحفوا إليهم، ولينخسف برج إن عملوه وسيروه إليهم، فاستأمن نفر من المسلمين إلى الفرنج، وأعلموهم بما عملوه، فحذروا منها.
وأرسل أهل البلد إلى أتابك طغتكين، صاحب دمشق، يستنجدونه، ويطلبونه ليسلموا البلد إليه، فسار في عساكره إلى نواحي بانياس، وسير إليهم نجدة مائتي فارس، فدخلوا البلد، فامتنع من في بهم، واشتد قتال الفرنج خوفاً من اتصال النجدات، ففني نشاب الأتراك، فقاتلوا بالخشب، وفني النفط، فظفروا بسرب تحت الأرض فيه نفط لا يعلم من خزنه.
ثم إن عز الملك، صاحب صور، أرسل الأموال إلى طغتكين ليكثر من الرجال، ويقصدهم ليملك البلد، فأرسل طغتكين طائراً فيه رقعة ليعلمه وصول المال، ويأمره أن يقيم مركباً بمكان ذكره لتجيء الرجال إليه، فسقط الطائر على مركب الفرنج، فأخذه رجلان: مسلم وفرنجي، فقال الفرنجي: نطلقه لعل فيه فرجاً لهم، فلم يمكنه المسلم، وحمله إلى الملك بغدوين، فلما وقف عليه سير مركباً إلى المكان الذي ذكره طغتكين، وفيه جماعة من المسلمين الذين استأمنوا إليه من صور، فوصل إليهم العسكر، فكلموهم بالعربية، فلم ينكرونهم، وركبوا معهم، فأخذوهم أسرى، وحملوهم إلى الفرنج، فقتلوهم وطمعوا في أهل صور، فكان طغتكين يغير على أعمال الفرنج من جميع جهاتها، وقصد حصن الحبيس في السواد، من أعمال دمشق، وهو للفرنج، فحصره، وملكه بالسيف، وقتل كل من فيه، وعاد إلى الفرنج الذين على صور.
وكان يقطع الميرة عنهم في البر، فأحضروها في البحر، وخندقوا عليهم، ولم يخرجوا إليه، فسار إلى صيدا، وأغار على ظاهرها، فقتل جماعة من البحرية، وأحرق نحو عشرين مركباً على الساحل، وهو مع ذلك يواصل أهل صور بالكتب يأمرهم بالصبر والفرنج يلازمون قتالهم، وقاتل أهل صور قتال من أيس من الحياة، فدام القتال إلى أوان إدراك الغلات، فخاف الفرنج أن طغتكين يستولي على غلات بلادهم، فساروا عن البلد، عاشر شوال، إلى عكة، وعاد عسكر طغتكين إليه، وأعطاهم أهل صور الأموال وغيرها، ثم أصلحوا ما تشعث من سورها وخندقها، وكان الفرنج قد طموه.
ذكر انهزام الفرنج بالأندلسفي هذه السنة خرج أذفونش الفرنجي، صاحب طليطلة بالأندلس، إلى بلاد الإسلام بها، يطلب ملكها، والاستيلاء عليها، وجمع وحشد فأكثر، وكان قد قوي طمعه فيها بسبب موت أمير المسلمين يوسف بن تاشفين، فسمع أمير المسلمين علي بن يوسف بن تاشفين الخبر، فسار إليه في عساكره وجموعه، فلقيه، فاقتتلوا، واشتد القتال، وكان الظفر للمسلمين، وانهزم الفرنج، وقتلوا قتلاً ذريعاً، وأسر منهم بشر كثير، وسبى منهم، وغنم من أموالهم ما يخرج من الأحصاء، فخرج الفرنج، بعد ذلك، وامتنعوا من قصد بلاده، وذل أذفونش حينئذ وعلم أن في البلاد حامياً لها، وذاباً عنها.
وفي هذه السنة، في جمادى الآخرة، توفي الإمام أبو حامد محمد بن محمد بن محمد الغزالي، الإمام المشهور.
ثم دخلت سنة ست وخمسمائةفي هذه السنة، في المحرم، سار مودود، صاحب الموصل، إلى الرها، فنزل عليها، ورعى عسكره زروعها، ورحل عنها إلى سروج، وفعل بها كذلك وأهمل الفرنج، ولم يحترز منهم، فلم يشعر إلا وجوسلين، صاحب تل باشر، قد كبسهم، وكانت دواب العسكر منتشرة في المرعى، فأخذ الفرنج كثيراً منها، وقتلوا كثيراً من العسكر، فلما تأهب المسلمون للقائه، عاد عنهم إلى سروج.

وفيها رحل السلطان محمد من بغداد، وكان مقامه هذه المرة خمسة أشهر، فلما وصل إلى أصبهان قبض على زي الملك أبي سعد القمي، وسلمه إلى الأمير كاميار لعداوة بينهما، فلما وصل إلى الري أركبه كاميار على ردابة بمركب ذهب، وأظهر أن السلطان خلع عليه على مال قرره عليه، فحصل بذلك مالاً كثيراً من أهل القمي، ثم صلبه، وكان سبب قبضه أنه كان يكثر الطعن على الخليفة والسلطان.
وفيها كان ببغداد رجل مغربي يعمل الكيمياء، بزعمه، اسمه أبو علي، فحمل إلى دار الخلافة، وكان آخر العهد به.
وفيها ورد إلى بغداد يوسف بن أيوب الهمذاني، الواعظ، وكان من الزهاد العابدين، فوعظ الناس بها، فقام إليه رجل متفقه، يقال له ابن السقاء، فآذاه في مسألة، وعاوده، فقال له: اجلس، فإني أجد من كلامك رائحة الكفر، ولعلك تموت على غير دين الإسلام، فاتفق بعد مديدة أن ابن السقاء خرج إلى بلاد الروم، وتنصر.
وفيها، في ذي القعدة، سمع ببغداد صوت هدة عظيمة، ولم يكن بالسماء غيم حتى يظن أنه صوت رعد، ولم يعلم أحد أي صوت كان.
وفيها توفي بسيل الأرمني، صاحب الدروب، ببلاد ابن لاون، فسار طنكري، صاحب أنطاكية، أول جمادى الآخرة، إلى بلاده طمعاً في أن يملكها، فمرض في طريقه، فعاد إلى أنطاكية، فمات ثامن جمادى الآخرة، وملكها بعده ابن أخته سرخالة، واستقام الأمر فيها، بعد أن جرى بين الفرنج خلف بسببه، فأصلح بينهم القسوس والرهبان.
وفيها توفي قراجة، صاحب حمص، وكان ظالماً، وقام ولده قرجان مكانه، وكان مثله في قبح السيرة.
وفي هذه السنة توفي المعمر بن علي أبو سعد بن أبي عمامة الواعظ البغدادي، ومولده سنة تسع وعشرين وأربعمائة، وكان له خاطر حاد، ومجون حسن، وكان الغالب على وعظه أخبار الصالحين.
وتوفي أحمد بن الفرج بن عمر الدينوري، والد شهدة، وكان يروي عن أبي يعلى بن الفراء، وابن المأمون، وابن المهتدي، وابن النقور، وغيرهم، وكان حسن السيرة متزهداً.
وتوفي أبو العلاء صاعد بن منصور بن إسماعيل بن صاعد، الخطيب النيسابوري، وكان من أعيان الفقهاء، وولي قضاء خوارزم، وكان يروي الحديث.
ثم دخلت سنة سبع وخمسمائة
ذكر قتال الفرنج وانهزامهم وقتل مودود
في هذه السنة، في المحرم، اجتمع المسلمون، وفيهم الأمير مودود بن التونتكين، صاحب الموصل، وتميرك، صاحب سنجار، والأمير إياز بن إيلغازي، وطغتكين، صاحب دمشق.
وكان سبب اجتماع المسلمين أن ملك الفرنج بغدوين تابع الغارات على بلد دمشق، ونهبه، وخربه، أواخر سنة ست وخمسمائة، وانقطعت المواد عن دمشق، فغلت الأسعار فيها، وقلت الأقوات، فأرسل طغتكين صاحبها إلى الأمير مودود يشرح له الحال، ويستنجده، ويحثه على سرعة الوصول إليه، فجمع عسكراً، وسار فعبر الفرات آخر ذي القعدة سنة ست وخمسمائة، فخافه الفرنج.
وسمع طغتكين خبره، فسار إليه، ولقيه بسلمية، واتفق رأيهم على قصد بغدوين، ملك القدس، فساروا إلى الأردن، فنزل المسلمون عند الأقحوانة، ونزل الفرنج مع ملكهم بغدوين وجوسلين، صاحب جيشهم، وغيرهما من المقدمين، والفرسان المشهورين، ودخلوا بلاد الفرنج مع مودود، وجمع الفرنج، فالتقوا عند طبرية ثالث عشر المحرم، واشتد القتال، وصبر الفريقان، ثم إن الفرنج انهزموا، وكثر القتل فيهم والأسر، وممن أسر ملكهم بغدوين، فلم يعرف، فأخذ سلاحه وأطلق فنجا، وغرق منهم في بحيرة طبرية ونهر الأردن كثير، وغنم المسلمون أموالهم وسلاحهم، ووصل الفرنج إلى مضيق دون طبرية، فلقيهم عسكر طرابلس وأنطاكية، فقويت نفوسهم بهم، وعاودوا الحرب، فأحاط بهم المسلمون من كل ناحية، وصعد الفرنج إلى جبل غرب طبرية، فأقاموا به ستة وعشرين يوماً، والمسلمون بإزائهم يرمونهم بالنشاب فيصيبون من يقرب منهم، ومنعوا الميرة عنهم لعلهم يخرجون إلى قتالهم، فلم يخرج منهم أحد، فسار المسلمون إلى بيسان، ونهبوا بلاد الفرنج بين عكا إلى القدس، وخربوها، وقتلوا من ظفروا به من النصارى، وانقطعت المادة عنهم لبعدهم عن بلادهم، فعادوا ونزلوا بمرج الصفر.

وأذن الأمير مودود للعساكر في العود والاستراحة، ثم الاجتماع في الربيع لمعاودة الغزاة، وبقي في خواصه ودخل دمشق في الحادي والعشرين من ربيع الأول ليقيم عند طغتكين إلى الربيع. فدخل الجامع يوم الجمعة في ربيع الأول، ليصلي فيه وطغتكين، فلما فرغوا من الصلاة، وخرج إلى صحن الجامع، ويده في يد طغتكين، وثب عليه باطني فضربه فجرحه أربح جراحات وقتل الباطني، وأخذ رأسه، فلم يعرفه أحد، فأحرق.
وكان صائماً، فحمل إلى دار طغتكين، واجتهد به ليفطر، فلم يفعل، وقال: لا لقيت الله إلا صائماً، فمات من يومه، رحمه الله، فقيل إن الباطنية بالشام خافوه وقتلوه، وقيل بل خافه طغتكين فوضع عليه من قتله.
وكان خيراً، عادلاً، كثير الخير، حدثني والدي قال: كتب ملك الفرنج إلى طغتكين، بعد قتل مودود، كتاباً من فصوله: أن أمّة قتلت عميدها. يوم عيدها. في بيت معبودها. لحقيق على الله أن يبيدها.
ولما قتل تسلم تميرك، صاحب سنجار، ما معه من الخزائن والسلاح وحملها إلى السلطان، ودفن مودود بدمشق في تربة دقاق صاحبها، وحمل بعد ذلك إلى بغداد، فدفن في جوار أبي حنيفة، ثم حمل إلى أصبهان.
ذكر الخلف بين السلطان سنجر ومحمد والصلح بينهمافي هذه السنة كثر الحديث عند سنجر: أن محمد خان بن سليمان بن داود قد مد يده إلى أموال الرعايا، وظلمهم ظلما كثيراً، وأنه خرب البلاد بظلمه وشره، وأنه قد صار يستخف بأوامر سنجر، ولا يلتفت إلى شيء منها، فتجهز سنجر وجمع عساكره وسار يريد قصده بما وراء النهر، فخاف محمد خان، فأرسل إلى الأمير قماج، وهو أكبر أمير مع سنجر، يسأله أن يصلح الحال بينه وبين سنجر، وأرسل أيضاً إلى خوارزمشاه بمثل ذلك، وسألهما في إرضاء السلطان عنه، واعترف بأنه أخطأ، فأجاب سنجر إلى صلحه على شرط أن يحضر عنده ويطأ بساطه، فأرسل محمد خان يذكر خوفه لسء صنيعه، ولكنه يحضر الخدمة، ويخدم السلطان، وبينهما نهر جيحون، ثم يعاود بعد ذلك الحضور عنده، والدخول إليه، فحسنوا الإجابة إلى ذلك، والاشتغال بغيره، فامتنع، ثم أجاب.
وكان سنجر على شاطيء جيحون من الجانب الغربي، وجاء محمد خان إلى الجانب الشرقي، فترجل وقبل الأرض وسنجر راكب، وعاد كل واحد منهما إلى خيامه، ورجعوا إلى بلادهم، وسكنت الفتنة بينهما.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة سار قفل عظيم من دمشق إلى مصر، فأتى الخبر إلى بغدوين ملك الفرنج، فسار إليه، وعارضه في البر، فأخذهم أجمعين، ولم ينج منهم إلا القليل، ومن سلم أخذه العرب.
وفي هذه السنة توفي الوزير أبو القاسم علي بن محمد بن جهير، وزير الخليفة المستظهر بالله، ووزر بعده الربيب أبو منصور ابن الوزير أبي شجاع محمد بن الحسين وزير السلطان.
وفيها توفي الملك رضوان بن تاج الدولة تتش بن ألب أرسلان، صاحب حلب، وقام بعده بحلب ابنه ألب أرسلان الأخرس، وعمره ست عشرة سنة، وكانت أمور رضوان غير محمودة: قتل أخويه أبا طالب وبهرام، وكان يستعين بالباطنية في كثير من أموره لقلة دينه، ولما ملك الأخرس استولى على الأمور لؤلؤ الخادم، ولم يكن للأخرس معه إلا اسم السلطنة، ومعناه للؤلؤ، ولم يكن ألب أرسلان أخرس، وإنما في لسانه حبسة وتمتمة، وأمه بنت باغي سيان الذي كان صاحب أنطاكية، وقتل الأخرس أخوين له أحدهما اسمه ملكشاه، وهو من أبيه وأمه، واسم الآخر مباركشاه، وهو من أبيه، وكان أبوه فعل مثله، فلما توفي قتل ولداه، مكافأة لما اعتمده مع أخويه.
وكان الباطنية قد كثروا بحلب في أيامه، حتى خافهم ابن بديع رئيسها، وأعيان أهلها، فلما توفي قال ابن بديع لألب أرسلان في قتلهم والإيقاع بهم، فأمره بذلك، فقبض على مقدمهم أبي طاهر الصائغ، وعلى جميع أصحابه، فقتل أبا طاهر وجماعة من أعيانهم، وأخذ أموال الباقين وأطلقهم، فمنهم من قصد الفرنج، وتفرقوا في البلاد.
وفي هذه السنة توفي ببغداد أبو بكر أحمد بن علي بن بدران الحلواني الزاهد، منتصف جمادى الأولى، روى الحديث عن القاضي أبي الطيب الطبري، وأبي محمد الجوهري، وأبي طالب العشاري وغيرهم، وروى عنه خلق كثير، ومن آخرهم أبو الفضل عبد الله بن الطوسي، خطيب الموصل.

وإسماعيل بن أحمد بن الحسين بن علي أبو علي بن أبي بكر البيهقي الإمام ابن الإمام، ومولده سنة ثمان وعشرين وأربعمائة، وتوفي بمدينة بيهق، ولوالده تصانيف كثيرة مشهورة.
وشجاع بن أبي شجاع فارس بن الحسين بن فارس أبو غالب الذهلي الحافظ، ومولده سنة ثلاثين وأربعمائة، وروى عن أبيه، وأبي القاسم، وابن المهتدي والجوهري وغيرهم.
والأديب أبو المظفر محمد بن أحمد بن محمد الأبيوردي الشاعر المشهور، وله ديوان حسن، ومن شعره:
تنكر لي دهري، ولم يدر أنني ... أعز، وأحداث الزمان تهون
وظل يريني الخطب كيف اعتداؤه ... وبت أريه الصبر كيف يكون
وله أيضاً:
ركبت طرفي، فأذرى دمعه أسفاً ... عند انصرافي منهم، مضمر الياس
وقال: حتام تؤذيني، فإن سنحت ... حوائج لك، فاركبني إلى الناس
وكانت وفاته بأصبهان، وهو ولد عنبسة بن أبي سفيان بن حرب الأموي.
وتوفي أبو بكر محمد بن أحمد بن الحسين بن عمر الشاشي، الإمام الفقيه الشافعي، في شوال، مولده سنة سبع وعشرين وأربعمائة، سمع أبا بكر الخطيب، وأبا يعلى بن الفراء، وغيرهما، وتفقه على أبي عبد الله محمد بن الكازروني بديار بكر، وعلى أبي إسحاق الشيرازي ببغداد، وعلى أبي نصر بن الصباغ.
وفيها توفي أبو نصر المؤتمن بن أحمد بن الحسن الساجي، الحافظ المقدسي، ومولده سنة خمس وأربعين وأربعمائة، وكان مكثراً من الحديث، وتفقه على أبي سحاق، وكان ثقة.
ثم دخلت سنة ثمان وخمسمائة
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://arabelalekat.yoo7.com
الشيخ عودة
الشيخ عودة
الشيخ عودة



عدد المساهمات : 1748
تاريخ التسجيل : 28/09/2008
العمر : 74

كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير - صفحة 7 Empty
مُساهمةموضوع: رد: كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير   كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير - صفحة 7 Emptyالثلاثاء فبراير 25, 2014 11:28 am

ذكر مسير آقسنقر البرسقي إلى الشام لحرب الفرنج
في هذه السنة سير السلطان محمد الأمير آقسنقر البرسقي إلى الموصل وأعمالها، والياً عليها، لما بلغه قتل مودود، وسير معه ولده الملك مسعوداً في جيش كثيف، وأمره بقتال الفرنج، وكتب إلى سائر الأمراء بطاعته، فوصل إلى الموصل، واتصلت به عساكرها، وفيهم عماد الدين زنكي بن آقسنقر، الذي ملك هو وأولاده الموصل بعد ذلك، وكان له الشجاعة في الغاية.
واتصل به أيضاً تميرك صاحب سنجار وغيرهما، فسار البرسقي إلى جزيرة ابن عمر، فسلمها إليه نائب مودود بها، وسار معه إلى ماردين، فنازلها البرسقي، حتى أذعن له إيلغازي صاحبها، وسير معه عسكراً مع ولده إياز، فسار عنه البرسقي إلى الرها في خمسة عشر ألف فارس، فنازلها في ذي الحجة، وقاتلها، وصبر له الفرنج، وأصابوا من بعض المسلمين غرة، فأخذوا منهم تسعة رجال وصلبوهم على سورها، فاشتد القتال حينئذ، وحمي المسلمون، وقاتلوا، فقتلوا من الفرنج خمسين فارساً من أعيانهم، وأقام عليها شهرين وأياماً.
وضاقت الميرة على المسلمين، فرحلوا من الرها إلى سميساط، بعد أن خربوا بلد الرها وبلد سروج وبلد سميساط وأطاعه صاحب مرعش على ما نذكره، ثم عاد إلى شحنان، فقبض على إياز بن إيلغازي، حيث لم يحضر أبوه، ونهب سواد ماردين.
ذكر طاعة صاحب مرعش وغيرها البرسقيفي هذه السنة توفي بعض كنود الفرنج، ويعرف بكواسيل، وهو صاحب مرعش، وكيسوم، ورعبان وغيرها، فاستولت زوجته على المملكة، وتحصنت من الفرنج، وأحسنت إلى الأجناد، وراسلت آقسنقر البرسقي، وهو على الرها، واستدعت منه بعض أصحابه لتطيعه، فسير إليها الأمير سنقرجة دزدار، صاحب الخابور، فلما وصل إليها أكرمته، وحملت إليه مالاً كثيراً.
وبينما هو عندها إذ جاء جمع من الفرنج، فواقعوا أصحابه، وهم نحو مائة فارس، واقتتلوا قتالاً شديداً ظفر فيه المسلمون بالفرنج، وقتلوا منهم أكثرهم، وعاد سنقرجة دزدار، وقد أصحبته الهدايا للملك مسعود والبرسقي، وأذعنت بالطاعة، ولما عرف الفرنج ذلك عاد كثير ممن عندها إلى أنطاكية.
ذكر الحرب بين البرسقي وإيلغازي وأسر إيلغازيلما قبض البرسقي على إياز بن إيلغازي سار إلى حصن كيفا، وصاحبها الأمير ركن الدولة داود ابن أخيه سقمان، فاستنجده، فسار معه في عسكره وأحضر خلقاً كثيراً من التركمان، وسار إلى البرسقي، فلقيه، أواخر السنة، واقتتلوا قتالاً شديداً صبروا فيه، فانهزم البرسقي وعسكره، وخلص إياز بن إيلغازي من الأسر، فأرسل السلطان إليه يتهدده، فخافه، وسار إلى الشام إلى حميه طغتكين، صاحب دمشق، فأقام عنده أياماً.

وكان طغتكين أيضاً قد استوحش من السلطان لأنه نسب إليه قتل مودود، فاتفقا على الامتناع، والالتجاء إلى الفرنج، والاحتماء بهم، فراسلا صاحب أنطاكية، وحالفاه، فحضر عندهما على بحيرة قدَس، عند حمص، وجددوا العهود، وعاد إلى أنطاكية، وعاد طغتكين إلى دمشق، وسار إيلغازي إلى الرستن على عزم قصد ديار بكر، وجمع التركمان والعود، فنزل بالرستن ليستريح، فقصده الأمير قرجان بن قراجة، صاحب حمص، وقد تفرق عن إيلغازي أصحابه، فظفر به قرجان وأسره ومعه جماعة من خواصه، وأرسل إلى السلطان يعرفه ذلك، ويسأله تعجيل إنفاذ العساكر لئلا يغلبه طغتكين على إيلغازي.
ولم بلغ طغتكين الخبر عاد إلى حمص، وأرسل في إطلاقه، فامتنع قرجان، وحلف: إن لم يعد طغتكين لنقتلن إيلغازي، فأرسل إيلغازي إلى طغتكين: إن الملاجة تؤذيني، وتسفك دمي، والمصلحة عودك إلى دمشق. فعاد.
وانتظر قرجان وصول العساكر السلطانية، فتأخرت عنه، فخاف أن ينخدع أصحابه لطغتكين، ويسلموا إليه حمص، فعدل إلى الصلح مع إيلغازي على أن يطلقه، ويأخذ ابنه إياز رهينة، ويصاهره، ويمنعه من طغتكين وغيره، فأجابه إلى ذلك، فأطلقه، وتحالفا، وسلم إليه ابنه إياز، وسار عن حمص إلى حلب، وجمع التركمان، وعاد إلى حمص، وطالب بولده إياز، وحصر قرجان إلى أن وصلت العساكر السلطانية، فعاد إيلغازي على ما نذكره.
ذكر وفاة علاء الدولة بن سبكتكين
وملك ابنه وما كان منه مع السلطان سنجر
في هذه السنة، في شوال، توفي الملك علاء الدولة أبو سعد مسعود بن أبي المظفر إبراهيم بن أبي سعد مسعود بن محمود بن سبكتكين، صاحب غزنة، بها، وملك بعده ابنه أرسلانشاه، وأمه سلجوقية، وهي أخت السلطان ألب أرسلان بن داود، فقبض على إخوته وسجنهم، وهرب أخ له اسمه بهرام إلى خراسان، فوصل إلى السلطان سنجر بن ملكشاه، فأرسل إلى أرسلانشاه في معناه، فلم يسمع منه، ولا أصغى إلى قوله، فتجهز سنجر للمسير إلى غزنة، وإقامة بهرامشاه في الملك.
فأرسل أرسلانشاه إلى السلطان محمد يشكو من أخيه سنجر، فأرسل السلطان إلى أخيه سنجر يأمره بمصالحة أرسلانشاه، وترك التعرض له، وقال للرسول: إن رأيت أخي وقد قصدهم، وسار نحوهم، أو قارب أن يسير، فلا تمنعه، ولا تبلغه الرسالة، فإن ذلك يفت في عضده ويوهنه، ولا يعود، ولأن يملك أخي الدنيا أحب إلي. فوصل الرسول إلى سنجر، وقد جهز العساكر إلى غزنة، وجعل على مقدمته الأمير أنر، متقدم عسكره، ومعه الملك بهرامشاه، فساروا حتى بلغوا بست، واتصل بهم فيها أبو الفضل نصر بن خلف، صاحب سجستان.
وسمع أرسلانشاه الخبر، فسير جيشاً كثيفاً، فهزماه، ونهباه، وعاد من سلم إلى غزنة على أسوأ حال، فخضع حينئذ أرسلانشاه وأرسل إلى الأمير أنر يضمن له الأموال الكثيرة ليعود عنه، ويحسن للملك سنجر العود عنه، فلم يفعل.
وتجهز السلطان سنجر، بعد أنر، للمسير بنفسه، فأرسل إليه أرسلانشاه امرأة عمه نصر تسأله الصفح والعود عن قصده، وهي أخت الملك سنجر من السلطان بركيارق، وكان علاء الدولة أبو سعد قد قتل زوجها، ومنعها من الخروج عن غزنة وتزوجها، فسيرها الآن أرسلانشاه، فلما وصلت إلى أخيه أوصلت ما معها من الأموال والهدايا، وكان معها مائتا ألف دينار، وغير ذلك، وطلب من سنجر أن يسلم أخاه بهرام إليه.

وكانت موغرة الصدر من أرسلانشاه، فهونت أمره على سنجر، وأطمعته في البلاد، وسهلت الأمر عليه، وذكرت له ما فعل بإخوته، وكان قتل بعضاً وكحل بعضاً من غير خروج منهم عن الطاعة. فسار الملك سنجر، فلما وصل إلى بست أرسل خادماً من خواصه إلى أرسلانشاه في رسالة، فقبض عليه في بعض القلاع، فسار حينئذ سنجر مجداً، فلما سمع بقربه منه أطلق الرسول، ووصل سنجر إلى غزنة، ووقع بينهما المصاف على فرسخ من غزنة، بصحراء شهراباذ، وكان أرسلانشاه في ثلاثين ألف فارس، وخلق كثير من الرجالة، ومعه مائة وعشرون فيلاً، على كل فيل أربعة نفر، فحملت الفيلة على القلب، وفيه سنجر، فكان من فيه ينهزمون، فقال سنجر لغلمانه الأتراك ليرموها بالنشاب، فتقدم ثلاثة آلاف غلام، فرموا الفيلة رشقاً واحداً جميعاً، فقتلوا منها عدة، فعدلت الفيلة عن القلب إلى الميسرة، وبها أبو الفضل صاحب سجستان، وجالت عليهم، فضعف من في الميسرة، فشجعهم أبو الفضل، وخوفهم من الهزيمة مع بعد ديارهم، وترجل عن فرسه بنفسه، وقصد كبير الفيلة ومتقدمها، ودخل تحتها فشق بطنها، وقتل فيلين آخرين.
ورأى الأمير أنر، وهو في الميمنة، ما في الميسرة من الحرب، فخاف عليها، فحمل من وراء عسكر غزنة، وقصد الميسرة، واختلط بهم، وأعانهم، فكانت الهزيمة على الغزنوية، وكان ركاب الفيلة قد شدوا أنفسهم عليها بالسلاسل، فلما عضتهم الحرب، وعمل فيهم السيف، ألقوا أنفسهم، فبقوا معلقين عليها.
ودخل السلطان سنجر غزنة في العشرين من شوال سنة عشر وخمسمائة، ومعه بهرامشاه. فأما القلعة الكبيرة المشتملة على الأموال، وبينها وبين البلد تسعة فراسخ، وهي عظيمة، فلا مطمع فيها، ولا طريق عليها.
وكان أرسلانشاه قد سجن فيها أخاه طاهراً الخازن، وهو صاحب بهرامشاه، واعتقل بها أيضاً زوجة بهرامشاه، فلما انهزم أرسلانشاه استمال أخوه طاهر المستحفظ بها، فبذل له وللأجناد الزيادات، فسلموا القلعة إلى الملك سنجر.
وأما قلعة البلد فإن أرسلانشاه كان اعتقل بها رسول سنجر، فلما أطلقه بقي غلمانه بها، فسلموا القلعة أيضاً بغير قتال.
وكان قد تقرر بين بهرامشاه وبين سنجر أن يجلس بهرام على سرير جده محمود بن سبكتكين وحده، وأن تكون الخطبة بغزنة للخليفة، وللسلطان محمد، وللملك سنجر، وبعدهم لبهرامشاه. فلما دخلوا غزنة كان سنجر راكباً، وبهرامشاه بين يديه راجلاً، حتى جاء السرير، فصعد بهرامشاه فجلس عليه، ورجع سنجر، وكان يخطب له بالملك، ولبهرامشاه بالسلطان، على عادة آبائه، فكان هذا من أعجب ما يسمع به.
وحصل لأصحاب سنجر من الأموال ما لا يحد ولا يحصى من السلطان والرعايا، وكان في دور لملوكها عدة دور على حيطانها ألواح الفضة، وسواقي المياه إلى البساتين من الفضة أيضاً، فقلع من ذلك أكثره، ونهب، فلما سمع سنجر ما يفعل منه عنه بجهده، وصلب جماعة حتى كف الناس.
وفي جملة ما حصل للملك سنجر خمسة تيجان قيمة أحدها تزيد على ألفي ألف دينار، وألف وثلاثمائة قطعة مصاغة مرصعة، وسبعة عشر سريراً من الذهب والفضة. وأقام بغزنة أربعين يوماً، حتى استقر بهرامشاه، وعاد نحو خراسان، ولم يخطب بغزنة لسلجوقي قبل هذا الوقت، حتى إن السلطان ملكشاه مع تمكنه وكثرة ملكه لم يطمع فيه، وكان كلما رام ذلك منع منه نظام الملك.
وأما أرسلانشاه فإنه لما انهزم قصد هندوستان واجتمع عليه أصحابه، فقويت شوكته، فلما عاد سنجر إلى خراسان توجه إلى غزنة، فلما عرف بهرامشاه قصده إياه توجه إلى باميان، وأرسل إلى الملك سنجر يعلمه الحال، فأرسل إليه عسكراً.
وأقام أرسلانشاه بغزنة شهراً واحداً، وسار يطلب أخاه بهرامشاه، فبلغه وصول عسكر سنجر، فانهزم بغير قتال للخوف الذي باشر قلوب أصحابه، ولحق بجبال أوغنان، فسار أخوه بهرامشاه وعسكر سنجر في أثره، وخربوا البلاد التي هو فيها، وأرسلوا إلى أهلها يتهددونهم، فسلموه بعد المضايقة، فأخذه متقدم جيش الملك سنجر، وأراد حمله إلى صاحبه، فخاف بهرامشاه من ذلك، فبذل له مالاً، فسلمه إليه، فخنقه ودفنه بتربة أبيه بغزنة، وكان عمره سبعاً وعشرين سنة، وكان أحسن إخوته صوراً، وكان قتله في جمادى الآخرة سنة اثنتي عشرة وخمسمائة، وإنما ذكرناه هاهنا لتتصل الحادثة.
ذكر عدة حوادث

في هذه السنة، في جمادى الآخرة، كانت زلزلة شديدة بديار الجزيرة، والشام، وغيرها، فخربت كثيراً من الرها، وحزان، وسميساط، وبالس وغيرها، وهلك خلق كثير تحت الهدم.
وفيها قتل تاج الدولة ألب أرسلان بن رضوان، صاحب حلب، قتله غلمانه بقلعة حلب، وأقاموا بعده أخاه سلطان شاه بن رضوان، وكان المستولي عليه لؤلؤ الخادم.
وفيها توفي الشريف النسيب أبو القاسم علي بن إبراهيم بن العباس الحسيني، في ربيع الآخر بدمشق.
ثم دخلت سنة تسع وخمسمائة
ذكر انهزام عسكر السلطان من الفرنج
قد ذكرنا ما كان من عصيان إيلغازي وطغتكين على السلطان، وقوة الفرنج، فلما اتصل ذلك بالسلطان محمد جهز عسكراً كثيراً، وجعل مقدمهم الأمير برسق بن برسق، صاحب همذان، ومعه الأمير جيوش بك والأمير كنتغدي، وعساكر الموصل والجزيرة، وأمرهم بالبداية بقتال إيلغازي وطغتكين، فإذا فرغوا منهما قصدوا بلاد الفرنج، وقاتلوهم، وحصروا بلادهم.
فساروا في رمضان من سنة ثمان وخمسمائة، وكان عسكراً كثير العدة، وعبروا الفرات، آخر السنة، عند الرقة، فلما قاربوا حلب راسلوا المتولي لأمرها لؤلؤاً الخادم، ومقدم عسكرها المعروف بشمس الخواص، يأمرونهما بتسليم حلب، وعرضوا عليهما كتب السلطان بذلك، فغالطا في الجواب، وأرسلا إلى إيلغازي وطغتكين يستنجدانهما، فسارا إليهم في ألفي فارس، ودخلا حلب، فامتنع من بها حينئذ عن عسكر السلطان، وأظهروا العصيان، فسار الأمير برسق بن برسق إلى مدينة حماة، وهي في طاعة طغتكين، وبها ثقله، فحصرها، وفتحها عنوة، ونهبها ثلاثة أيام، وسلمها إلى الأمير قرجان، صاحب حمص.
وكان السلطان قد أمر أن يسلم إليه كل بلد يفتحونه، فلما رأى الأمراء ذلك فشلوا وضعفت نياتهم في القتال، بحيث تؤخذ البلاد وتسلم إلى قرجان، فلما سلموا حماة إلى قرجان سلم إليهم إياز بن إيلغازي، وكان قد سار إيلغازي، وطغتكين، وشمس الخواص، إلى أنطاكية واستجاروا بصاحبها روجيل، وسألوه أن يساعدهم على حفظ مدينة حماة، ولم يكن بلغهم فتحها.
ووصل إليهم بأنطاكية بغدوين، صاحب القدس، وصاحب طرابلس، وغيرهما من شياطين الفرنج، واتفق رأيهم على ترك اللقاء لكثرة المسلمين، وقالوا إنهم عند هجوم الشتاء يتفرقون، واجتمعوا بقلعة أفامية، وأقاموا نحو شهرين، فلما انتصف أيلول، ورأوا عزم المسلمين على المقام، تفرقوا، فعاد إيلغازي إلى ماردين، وطغتكين إلى دمشق، والفرنج إلى بلادها.
وكانت أفامية وكفرطاب للفرنج، فقصد المسلمون كفرطاب وحصروها، فلما اشتد الحصر على الفرنج، ورأوا الهلاك، قتلوا أولادهم ونساءهم وأحرقوا أموالهم، ودخل المسلمون البلد عنوة وقهراً، وأسروا صاحبه، وقتلوا من بقي فيه من الفرنج، وساروا إلى قلعة أفامية، فرأوها حصينة، فعادوا عنها إلى المعرة، وهي للفرنج أيضاً، وفارقهم الأمير جيوش بكل إلى وادي بزاعة فملكه.
وسارت العساكر عن المعرة إلى حلب، وتقدمهم ثقلهم ودوابهم، على جاري العادة، والعساكر في أثره متلاحقة، وهم آمنون لا يظنون أحداً يقدم على القرب منهم.
وكان روجيل، صاحب أنطاكية، لما بلغه حصر كفرطاب، سار في خمسمائة فارس وألفي راجل للمنع، فوصل إلى المكان الذي ضربت فيه خيام المسلمين، على غير علم بها، فرآها خالية من الرجال المقاتلة، لأنهم لم يصلوا إليها، فنهب جميع ما هناك، وقتل كثيراً من السوقية، وغلمان العسكر، ووصلت العساكر متفرقة، فكان الفرنج يقتلون كل من وصل إليهم.
ووصل الأمير برسق في نحو مائة فارس، فرأى الحال، فصعد تلاً هناك، ومعه أخوه زنكي، وأحاط بهم من السوقية والغلمان، واحتموا بهم، ومنعوا الأمير برسق من النزول، فأشار عليه أخوه ومن معه بالنزول والنجاة بنفسه، فقال: لا أفعل، بل أقتل في سبيل الله، وأكون فداء المسلمين، فغلبوه على رأيه، فنجا هو ومن معه، فتبعهم الفرنج نحو فرسخ، ثم عادوا وتمموا الغنيمة والقتل، وأحرقوا كثيراً من الناس. وتفرق العسكر، وأخذ كل واحد جهة.
ولما سمع الموكلون بالأسرى المأخوذين من كفرطاب ذلك قتلوهم، وكذلك فعل الموكل بإياز بن إيلغازي قتله أيضاً، وخاف أهل حلب وغيرها من بلاد المسلمين التي بالشام، فإنهم كانوا يرجون النصر من جهة هذا العسكر، فأتاهم ما لم يكن في الحساب، وعادت العساكر عنهم إلى بلادها.

وأما برسق وأخوه زنكي فإنهما توفيا في سنة عشر وخمسمائة، وكان برسق خيراً، ديناً، وقد ندم على الهزيمة، وهو يتجهز للعود إلى الغزاة، فأتاه أجله.
ذكر ملك الفرنج رفنية وأخذها منهمفي هذه السنة، في جمادى الآخرة، ملك الفرنج رفنية من أرض الشام، وهي لطغتكين، صاحب دمشق، وقووها بالرجال والذخائر، وبالغوا في تحصينها، فاهتم طغتكين لذلك، وقوي عزمه على قصد بلاد الفرنج بالنهب لها والتخريب، فأتاه الخبر عن رفنية بخلوها من عسكر يمنع عنها، وليس هناك إلا الفرنج الذين رتبوا لحفظها، فسار إليها جريدة، فلم يشعر من بها إلا وقد هجم عليهم البلد فدخله عنوة وقهراً، وأخذ كل من فيه من الفرنج أسيراً، فقتل البعض، وترك البعض، وغنم المسلمون من سوادهم، وكراعهم، وذخائرهم ما امتلأت منه أيديهم، وعادوا إلى بلادهم سالمين.
ذكر وفاة يحيى بن تميم
وولاية ابنه علي
في هذه السنة توفي يحيى بن تميم بن المعز بن باديس، صاحب إفريقية، يوم عيد الأضحى، فجأة، وكان منجم قد قال له في منستير مولده إن عليه قطعاً في هذا اليوم، فلا يركب، فلم يركب، وخرج أولاده وأهل دولته إلى المصلى، فلما انقضت الصلاة حضروا عنده للسلام عليه وتهنئته، وقرأ القراء، وأنشد الشعراء، وانصرفوا إلى الطعام، فقام يحيى من باب آخر ليحضر معهم على الطعام، فلم يمش غير ثلاث خطا حتى وقع ميتاً وكان ولده علي بمدينة سفاقس، فأحضر وعقدت له الولاية، ودفن يحيى بالقصر، ثم نقل إلى التربة بمنستير، وكان عمره اثنتين وخمسين سنة وخمسة عشر يوماً، وكانت ولايته ثماني سنين وخمسة أشهر وخمسة وعشرين يوماً، وخلف ثلاثين ولداً، فقال عبد الجبار بن محمد بن حمديس الصقلي يرثيه ويهنيء ابنه علياً بالملك:
ما أغمد العضب إلا جرد الذكر، ... ولا اختفى قمر حتى بدا قمر
بموت يحيى أميت الناس كلهم، ... حتى إذا ما علي جاءهم نشروا
إن يبعثوا بسرور من تملكه ... فمن منية يحيى بالأسى قبروا
أوفى علي، فسن الملك ضاحكة، ... وعينها من أبيه دمعها همر
شقت جيوب المعالي بالأسى فبكت ... في كل أفق عليه الأنجم الزهر
وقل لابن تميم حزن ما دهما، ... فكل حزن عظيم فيه محتقر
قام الدليل ويحيى لا حياة له، ... إن المنية لا تبقي، ولا تذر
وكان يحيى عادلاً في رعيته، ضابطاً لأمور دولته، مدبراً لجميع أحواله، رحيماً بالضعفاء والفقراء، يكثر الصدقة عليهم، ويقرب أهل العلم والفضل، وكان عالماً بالأخبار، وأيام الناس، والطب، وكان حسن الوجه، أشهل العين، إلى الطول ما هو.
ولما استقر علي في الملك جهز أسطولاً إلى جزيرة جربة، وسببه أن أهلها كانوا يقطعون الطريق، ويأخذون التجار، فحصرها، وضيق على من فيها فدخلوا تحت طاعته، والتزموا ترك الفساد، وضمنوا إصلاح الطريق، وكف عنهم عند ذلك، وصلح أمر البحر، وأمن المسافرون.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة، في رجب، قدم السلطان محمد بغداد، ووصل إليه أتابك طغتكين، صاحب دمشق، في ذي القعدة، وسأل الرضا عنه، فرضي عنه السلطان، وخلع عليه، ورده إلى دمشق.
وفيها أمر الإمام المستظهر بالله ببيع البدرية، وهي منسوبة إلى بدر غلام المعتضد بالله، وكانت من أحسن دور الخلفاء، وكان ينزلها الراضي بالله، ثم تهدمت وصارت تلاً، فأمر القادر بالله أن يسور عليها سور، لأنها مع الدار الإمامية، ففعل ذلك، فلما كان الآن أمر ببيعها فبيعت، وعمرها الناس.
وفيها، في شعبان، وقعت الفتنة بين العامة، وسببها أن الناس لما عادوا من زيارة مصعب اختصموا على من يدخل أولاً، فاقتتلوا، وقتل بينهم جماعة، وعادت الفتن بين أهل المحال كما كانت، ثم سكنت.
وفيها أقطع السلطان محمد الموصل وما كان بيد آقسنقر البرسقي للأمير جيوش بك، وسير ولده الملك مسعوداً، وأقام البرسقي بالرحبة، وهي إقطاعه، إلى أن توفي السلطان محمد، وكان ما نذكره إن شاء الله تعالى.
وفيها توفي إسماعيل بن محمد بن أحمد بن ملة الأصبهاني، أبو عثمان بن أبي سعيد الواعظ، سمع الكثير، وحدس ببغداد وغيرها، وعبد الله بن المبارك بن موسى السقطي، أبو البركات، له رحلة، وله تصانيف، وكان أديباً.

ثم دخلت سنة عشر وخمسمائة
ذكر قتل أحمديل بن وهسوذان
في هذه السنة، أول المحرم، حضر أتابك طغتكين، صاحب دمشق، دار السلطان محمد ببغداد، وحضر جماعة الأمراء، ومعهم أحمديل بن إبراهيم بن وهسوذان الروادي، الكردي، صاحب مراغة وغيرها من أذربيجان، وهو جالس إلى جانب طغتكين، فأتاه رجل متظلم، وبيده رقعة، وهو يبكي، ويسأله أن يوصلها إلى السلطان، فأخذها من يده، فضربه الرجل بسكين، فجذبه أحمديل وتركه تحته، فوثب رفيق للباطني وضرب أحمديل سكيناً أخرى، فأخذتهما السيوف، وأقبل رفيق لهما وضرب أحمديل ضربة أخرى، فعجب الناس من إقدامه بعد قتل صاحبيه، وظن طغتكين والحاضرون أن طغتكين كان المقصود بالقتل، وأنه بأمر السلطان، فلما علموا أنهم باطنية زال هذا الوهم.
ذكر وفاة جاولي سقاوو
وحال بلاد فارس معه
في هذه السنة توفي جاولي سقاوو، وكان السلطان ببغداد عازماً على المقام بها، فاضطر إلى المسير إلى أصبهان ليكون قريباً من فارس، لئلا تختلف عليه، وقد ذكرنا حال جاولي بالموصل إلى أن ملكت منه وأخذها السلطان، فلما قصد السلطان ورضي عنه أقطعه بلاد فارس، فسار جاولي إليها، ومعه ولد السلطان جغري، وهو طفل له من العمر سنتان، وأمره بإصلاحها، وقمع المفسدين بها، فسار إليها، فأول ما اعتمده فيها أنه لم يتوسط بلاد الأمير بلدجي، وهو من كبار مماليك السلطان ملكشاه، ومن جملة بلاده كليل وسرماه، وكان متمكناً بتلك البلاد.
وراسله جاولي ليحضر خدمة جغري، ولد السلطان، وعلم جغري أن يقول بالفارسية خذوه، فلما دخل بلدجي قال جغري، على عادته: خذوه، فأخذ وقتل، ونهبت أمواله.
وكان لبلدجي، من جملة حصونه، قلعة إصطخر، وهي من أمنع القلاع وأحصنها، وكان بها أهله وذخائره، وقد استناب في حفظها وزيراً له يعرف بالجهرمي، فعصى عليه، وأخرج إليه أهله وبعض المال، ولم تزل في يد الجهرمي حتى وصل جاولي إلى فارس فأخذها منه، وجعل فيها أمواله.
وكان بفارس جماعة من أمراء الشوانكارة، وهم خلق كثير لا يحصون، ومقدمهم الحسن بن المبارز، المعروف بخسرو، وله فسا وغيرها، فراسله جاولي ليحضر خدمة جغري، فأجاب: إنني عبد السلطان، وفي طاعته، فأما الحضور فلا سبيل إليه، لأنني قد عرفت عادتك مع بلدجي وغيره، ولكنني أحمل إلى السلطان ما يؤثره. فلما سمع جاولي جوابه علم أنه لا مقام له بفارس معه، فأظهر العود إلى السلطان، وحمل أثقاله على الدواب، وسار كأنه يطلب السلطان، ورجع الرسول إلى خسرو فأخبره، فاغتر وقعد للشرب، وأمن.
وأما جاولي فإنه عاد من الطريق إلى خسرو جريدة في نفر يسير، فوصل إليه وهو مخمور نائم، فكبسه، فأنبهه أخوه فضلوه، فلم يستيقظ، فصب عليه الماء البارد، فأفاق، وركب من وقته وانهزم، وتفرق أصحابه، ونهب جاولي ثقله وأمواله، وأكثر القتل في أصحابه، ونجا خسرو إلى حصنه، وهو بين جبلين، يقال لأحدهما أنج.
وسار جاولي إلى مدينة فسا فتسلمها، ونهب كثيراً من بلاد فارس منها جهرم، وسار إلى خسرو، وحصره مدة، وضيق عليه، فرأى من امتناع حصنه وقوته، وكثرة ذخائره ما علم معه أن المدة تطول عليه، فصالحه ليشتغل بباقي بلاد فارس، ورحل عنه إلى شيراز، فأقام بها، ثم توجه إلى كارزون فملكها، وحصر أبا سعد محمد بن مما في قلعته، وأقام عليها سنتين صيفاً وشتاء، فراسله جاولي في الصلح، فقتل الرسول، فأرسل إليه قوماً من الصوفية، فأطعمهم الهريسة والقطائف، ثم أمر بهم فخيطت أدبارهم وألقوا في الشمس فهلكوا، ثم نفذ ما عند أبي سعد، فطلب الأمان فأمنه، وتسلم الحصن.
ثم إن جاولي أساء معاملته، فهرب، فقبض على أولاده، وبث الرجال في أثره، فرأى بعضهم زنجياً يحمل شيئاً، فقال: ما معك؟ فقال: زادي، ففتشه، فرأى دجاجاً، وحلواء السكر، فقال: ما هذا من طعامك! فضربه، فأقر على أبي سعد، وأنه يحمل ذلك إليه، فقصدوه، وهو في شعب جبل، فأخذه الجندي وحمله إلى جاولي فقتله.
وسار إلى داربجرد، وصاحبها اسمه إبراهيم، فهرب صاحبها منه إلى كرمان خوفاً منه، وكان بينه وبين صاحب كرمان صهر، وهو أرسلانشاه بن كرمانشاه بن أرسلان بك بن قاورت، فقال له: لو تعاضدنا لم يقدر علينا جاولي، وطلب منه النجدة.

وسار جاولي بعد هربه منه إلى حصار رتيل رننه، يعني مضيق رننه، وهو موضع لم يؤخذ قهراً قط، لأنه واد نحو فرسخين، وفي صدره قلعة منيعة على جبل عال، وأهل داربجرد يتحصنون به إذا خافوا، فأقاموا به، وحفظوا أعلاه.
فلما رأى جاولي حصانته سار يطلب البرية نحو كرمان، كاتماً أمره، ثم رجع من طريق كرمان إلى داربجرد، مظهراً أنه من عسكر الملك أرسلانشاه، صاحب كرمان، فلم يشك أهل الحصن أنهم مدد لهم مع صاحبهم، فأظهروا السرور، وأذنوا له في دخول المضيق، فلما دخله وضع السيف فيمن هناك، فلم ينج غير القليل، ونهب أموال أهل داربجرد وعاد إلى مكانه، وراسل خسرو يعلمه أنه عازم على التوجه إلى كرمان، ويدعوه إليه، فلم يجد بداً من موافقته، فنزل إليه طائعاً، وسار مع إلى كرمان، وأرسل إلى صاحبها القاضي أبا طاهر عبد الله بن طاهر قاضي شيراز، يأمره بإعادة الشوانكارة لأنهم رعية السلطان، يقول: إنه متى أعادهم عاد عن قصد بلاده، وإلا قصده، فأعاد صاحب كرمان جواب الرسالة يتضمن الشفاعة فيهم، حيث استجاروا به.
ولما وصل الرسول إلى جاولي أحسن إليه، وأجزل له العطاء، وأفسده على صاحبه، وجعله عيناً له عليه، وقرر معه إعادة عسكر كرمان ليدخل البلاد وهم غارون، فلما عاد الرسول وبلغ السيرجان، وبها عساكر صاحب كرمان، ووزيره مقدم الجيش، أعلم الوزير ما عليه جاولي من المقاربة، وأنه يفارق ما كرهوه، وأكثر من هذا النوع، وقال: لكنه مستوحش من اجتماع العساكر بالسيرجان، وإن أعداء جاولي طمعوا فيه بهذا العسكر، والرأي أن تعاد العساكر إلى بلادها.
فعاد الوزير والعساكر، وخلت السيرجان، وسار جاولي في أثر الرسول، فنزل بفرج، وهي الحد بين فارس وكرمان، فحاصرها، فلما بلغ ذلك ملك كرمان أحضر الرسول وأنكر عليه إعادة العسكر، فاعتذر إليه. وكان مع الرسول فراش لجاولي ليعود إليه بالأخبار، فارتاب به الوزير، فعاقبه، فأقر على الرسول، فصلب، ونهبت أمواله، وصلب الفراش، وندب العساكر إلى المسير إلى جاولي، فساروا في ستة آلاف فارس.
وكانت الولاية التي هي الحد بين فارس وكرمان بيد إنسان يسمى موسى، وكان ذا رأي ومكر، فاجتمع بالعسكر، وأشار عليهم بترك الجادة المسلوكة، وقال: إن جاولي محتاط منها، وسلك بهم طريقاً غير مسلوكة، بين جبال ومضايق.
وكان جاولي يحاصر فرج، وقد ضيق على من بها، وهو يدمن الشرب، فسير أميراً في طائفة من عسكره ليلقى العسكر المنفذ من كرمان، فسار الأمير، فلم ير أحداً، فظن أنهم قد عادوا، فرجع إلى جاولي وقال: إن العسكر كان قليلاً، فعاد خوفاً منا، فاطمأن حينئذ جاولي، وأدمن شرب الخمر.
ووصل عسكر كرمان إليه ليلاً، وهو سكران، نائم، فأيقظه بعض أصحابه وأخبره، فقطع لسانه، فأتاه غيره وأيقظه وعرفه الحال، فاستيقظ وركب وانهزم، وقد تفرق عسكره منهزمين، فقتل منهم وأسر كثير، وأدركه خسرو وابن أبي سعد الذي قتل جاولي أباه، فسارا معه في أصحابهما، فلم ير معه أحداً من أصحابه الأتراك، فخاف على نفسه منهم، فقالا له: إنا لا نغدر بك، ولن ترى منا إلا الخير والسلامة، وسارا معه، حتى وصل إلى مدينة فسا، واتصل به المنهزمون من أصحابه، وأطلق صاحب كرمان الأسرى وجهزهم، وكانت هذه الوقعة في شوال سنة ثمان وخمسمائة.
وبينما جاولي يدبر الأمر ليعاود كرمان، ويأخذ بثأره، توفي الملك جغري ابن السلطان محمد، وعمره خمس سنين، وكانت وفاته في ذي الحجة سنة تسع وخمسمائة، ففت ذلك في عضده، فأرسل ملك كرمان رسولاً إلى السلطان، وهو ببغداد، يطلب منه منع جاولي عنه، فأجابه السلطان أنه لا بد من إرضاء جاولي وتسليم فرج إليه، فعاد الرسول في ربيع الأول سنة عشر وخمسمائة، فتوفي جاولي، فأمنوا ما كانوا يخافونه، فلما سمع السلطان سار عن بغداد إلى أصبهان، خوفاً على فارس من صاحب كرمان.
ذكر فتح جبل وسلات وتونسفي هذه السنة حصر عسكر علي بن يحيى، صاحب إفريقية، مدينة تونس، وبها أحمد بن خراسان، وضيق على من بها، فصالحه على ما أراد.

وفيها فتح أيضاً جبل وسلات بإفريقية، واستولى عليه، وهو جبل منيع، ولم يزل أهله، طول الدهر، يفتكون بالناس، ويقطعون الطريق، فلما استمر ذلك منهم سير إليهم جيشاً، فكان أهل الجبل ينزلون إلى الجيش، ويقاتلون أشد قتال، فعمل قائد الجيش الحيلة في الصعود إلى الجبل من شعب لم يكن أحد يظن أنه يصعد منه، فلما صار في أعلاه، في طائفة من أصحابه، ثار إليه أهل الجبل، فصبر لهم، وقاتلهم فيمن مع أشد قتال، وتتابع الجيش في الصعود إليه، فانهزم أهل الجبل، وكثر القتل فيهم، ومنهم من رمى نفسه فتكسر، ومنهم من أفلت، واحتمى جماعة كثيرة بقصر في الجبل، فلما أحاط بهم الجيش طلبوا أن يرسل إليهم من يصلح حالهم، فأرسل إليهم جماعة من العرب والجند، فثار بهم أولئك بالسلاح، فقتلوا بعضهم، وطلع الباقون إلى أعلى القصر، ونادوا أصحابهم من الجيش، فأتوهم وقاتلوهم: بعضهم من أعلى القصر، وبعضهم من أسفله، فألقى من فيه من أهل الجبل أيديهم، فقتلوا كلهم.
ذكر الفتنة بطوسفي هذه السنة، في عاشوراء، كانت فتنة عظيمة بطوس، في مشهد علي بن موسى الرضا عليه السلام.
وسببها: أن علوياً خاصم، في المشهد، يوم عاشوراء، بعض فقهاء طوس، فأدى ذلك إلى مضاربة، وانقطعت الفتنة، ثم استعان كل منهما بحزبه، فثارت فتنة عظيمة حضرها جميع أهل طوس، وأحاطوا بالمشهد وخربوه، وقتلوا من وجدوا، فقتل بينهم جماعة ونهبت أموال جمة، وافترقوا.
وترك أهل المشهد الخطبة أيام الجمعات فيه، فبنى عليه عضد الدين فرامرز بن علي سوراً منيعاً يحتمي به من بالمشهد على من يريده بسوء، وكان بناؤه سنة خمس عشرة وخمسمائة.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة وقعت النار في الحظائر المجاورة للمدرسة النظامية ببغداد، فاحترقت الأخشاب التي بها، واتصل الحريق إلى درب السلسلة، وتطاير الشرر إلى باب المراتب، فاحترقت منه عدة دور، واحترقت خزانة كتب النظامية، وسلمت الكتب، لأن الفقهاء لما أحسوا بالنار نقلوها.
وفيها توفي عبد الله بن يحيى بن محمد بن بهلول أبو محمد الأندلسي، السرقسطي، وكان فقيهاً، فاضلاً، ورد العراق نحو سنة خمسمائة، وسار إلى خراسان، فسكن مرو الروذ، فمات بها، وله شعر حسن، فمنه:
ومهفهف يختال في أبراده، ... مرح القضيب اللدن تحت البارح
أبصرت في مرآة فكري خده، ... فحكيت فعل جفونه بجوارحي
ما كنت أحسب أن فعل توهمي ... يقوى تعديه، فيجرح جارحي
لا غرو إن جرح التوهم خده، ... فالسحر يعمل في البعيد النازح
وفيها، في شعبان، توفي أبو القاسم علي بن محمد بن أحمد بن بيان الرزاز، ومولده في صفر سنة ثلاث عشرة وأربعمائة، وهو آخر من حدث عن أبي الحسن بن مخلد، وأبي القاسم بن بشران.
وفيها توفي أبو بكر محمد بن منصور بن محمد بن عبد الجبار السمعاني، رئيس الشافعية، بمرو، ومولده سنة ست وأربعين وأربعمائة، وسمع الحديث الكثير وصنف فيه، وله فيه أمال حسنة، وتكلم على الحديث، فأحسن ما شاء.
وفيها توفي محفوظ بن أحمد بن الحسن الكلوذاني أبو الخطاب الفقيه الحنبلي، ومولده سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة، وتفقه على أبي يعلى بن الفراء.
ثم دخلت سنة إحدى عشرة وخمسمائة
ذكر وفاة السلطان محمد
وملك ابنه محمود
في هذه السنة، في الرابع والعشرين من ذي الحجة، توفي السلطان محمد ابن ملكشاه بن ألب أرسلان، وكان ابتداء مرضه في شعبان، وانقطع عن الركوب، وتزايد مرضه، ودام، وأرجف عليه بالموت، فلما كان يوم عيد النحر حضر السلطان، وحضر ولده السلطان محمود على السماط، فنهبه الناس، ثم أذن لهم فدخلوا إلى السلطان محمد، وقد تكلف القعود لهم، وبين يديه سماط كبير، فأكلوا وخرجوا. فلما انتصف ذو الحجة أيس من نفسه، فأحضر ولده محموداً، وقبله، وبكى كل واحد منهما، وأمره أن يخرج ويجلس على تخت السلطنة، وينظر في أمور الناس، وعمره إذ ذاك قد زاد على أربع عشرة سنة، فقال لوالده: إنه يوم غير مبارك، يعني من طريق النجوم، فقال: صدقت، ولكن على أبيك، وأما عليك فمبارك بالسلطنة. فخرج وجلس على التخت بالتاج والسوارين.

وفي يوم الخميس الرابع والعشرين أحضر الأمراء وأعلموا بوفاته، وقرئت وصيته إلى ولده محمود يأمره بالعدل والإحسان، وفي الجمعة الخامس والعشرين منه خطب لمحمود بالسلطنة.
وكان مولد السلطان محمود ثامن عشر شعبان من سنة أربع وسبعين وأربعمائة، وكان عمره سبعاً وثلاثين سنة وأربعة أشهر وستة أيام، وأول ما دعي له بالسلطنة، ببغداد، في ذي الحجة سنة اثنتين وتسعين، وقطعت خطبته عدة دفعات على ما ذكرناه، ولقي من المشاق والأخطار ما لا حد له، فلما توفي أخوه بركيارق صفت له السلطنة، عظمت هيبته، وكثرت جيوشه وأمواله، وكان اجتمع الناس عليه اثنتي عشرة سنة وستة أشهر.
ذكر بعض سيرتهكان عادلاً، حسن السيرة، شجاعاً، فمن عدله أنه اشترى مماليك من بعض التجار، وأحالهم بالثمن على عامل خوزستان، فأعطاهم البعض، ومطل بالباقي، فحضروا مجلس الحكم، وأخذوا معهم غلمان القاضي، فلما رآهم السلطان قال لحاجبه: انظر ما حال هؤلاء، فسألهم عن حالهم، فقالوا: لنا خصم يحضر معنا مجلس الحكم، فقال: من هو؟ قالوا: السلطان، وذكروا قصتهم، فأعلمه ذلك، فاشتد عليه وأكره، وأمر بإحضار العامل، وأمره بإيصال أموالهم، والجعل الثقيل، ونكل به حتى يمتنع غيره عن مثل فعله، ثم إنه كان يقول بعد ذلك: لقد ندمت ندماً عظيماً حيث لم أحضر معهم مجلس الحكم، فيقتدي بي غيري، ولا يمتنع أحد عن الحضور فيه وأداء الحق.
فمن عدله: أنه كان له خازن يعرف بأبي أحمد القزويني قتله الباطنية، فلما قتل أمر بعرض الخزانة، فعرض عليه فيها درج فيه جوهر كثير نفيس، فقال إن هذا الجوهر عرضه علي، منذ أيام، وهو في ملك أصحابه، وسلمه إلي خادم ليحفظه وينظر من أصحابه فيسلم إليهم، فسأل عنهم، وكانوا تجاراً غرباء، وقد تيقنوا ذهابه وأيسوا منه، فسكتوا، فأحضرهم وسلمه إليهم.
ومن عدله، أنه أطلق المكوس والضرائب في جميع البلاد، ولم يعرف منه فعل قبيح، وعلم الأمراء سيرته، فلم يقدم أحد منهم على الظلم، وكفوا عنه.
ومن محاسن أعماله ما فعله مع الباطنية على ما نذكره.
ذكر حال الباطنية أيام السلطان محمدقد تقدم ذكر ما اعتمده من حصر قلاعهم، ونحن نذكر هاهنا زيادة اهتمامه بأمرهم، فإنه، رحمه الله تعالى، لما علم أن مصالح البلاد والعباد منوطة بمحو آثارهم، وإخراب ديارهم، وملك حصونهم وقلاعهم، جعل قصدهم دأبه.
وكان، في أيامه، المقدم عليهم، ولقيهم بأمرهم الحسن بن الصباح الرازي، صاحب قلعة ألموت، وكانت أيامه قد طالت، وله منذ ملك قلعة ألموت ما يقارب ستاً وعشرين سنة، وكان المجاورون له في أقبح صورة من كثرة غزاته عليهم، وقتله وأسره رجالهم، وسبي نسائهم، فسير إليه السلطان العساكر، على ما ذكرناه، فعادت من غير بلوغ غرض. فلما أعضل داؤه ندب لقتاله الأمير أنوشتكين شيركير، صاحب آبة، وساوة، وغيرهما، فملك منهم عدة قلاع منها قلعة كلام، ملكها في جمادى الأولى سنة خمس وخمسمائة، وكان مقدمها يعرف بعلي بن موسى، فأمنه ومن معه، وسيرهم إلى ألموت، وملك منهم أيضاً قلعة بيرة، وهي على سبعة فراسخ من قزوين، وأمنهم، وسيرهم إلى ألموت أيضاً.
وسار إلى قلعة ألموت فيمن معه من العساكر، وأمده السلطان بعدة من الأمراء، فحصرهم، وكان هو، من بينهم، صاحب القريحة والبصيرة في قتالهم، مع جودة رأي وشجاعة، فبنى عليها مساكن يسكنها هو ومن معه، وعين لكل طائفة من الأمراء أشهراً يقيمونها، فكانوا ينيبون، ويحضرون، وهو ملازم الحصار، وكان السلطان ينقل إليه الميرة، والذخائر، والرجال، فضاق الأمر على الباطنية، وعدمت عندهم الأقوات وغيرها، فلما اشتد عليهم الأمر نزلوا نساءهم وأبناءهم مستأمنين، وسألوا أن يفرج لهم ولرجالهم عن الطريق، ويؤمنوا، فلم يجابوا إلى ذلك، وأعادهم إلى القلعة، قصداً، ليموت الجميع جوعاً.

وكان ابن الصباح يجري لكل رجل منهم، في اليوم، رغيفاً، وثلاث جوزات، فلما بلغ بهم الأمر إلى الحد الذي لا مزيد عليه، بلغهم موت السلطان محمد، فقويت نفوسهم، وطابت قلوبهم، ووصل الخبر إلى العسكر المحاصر لهم بعدهم بيوم، وعزموا على الرحيل، فقال شيركير: إن رحلنا عنهم، وشاع الأمر، نزلوا إلينا، وأخذوا ما أعددناه، من الأقوات والذخائر، والرأي أن نقيم على قلعتهم حتى نفتحها، وإن لم يكن المقام، فلا بد من مقام ثلاثة أيام، حتى ينفد منا ثقلنا وما أعددناه، ونحرق ما نعجز عن حمله لئلا يأخذه العدو.
فلما سمعوا قوله علموا صدقه، فتعاهدوا على الاتفاق والاجتماع، فلما أمسوا رحلوا من غير مشاورة، ولم يبق غير شيركير، ونزل إليه الباطنية من القلعة، فدافعهم وحمى من تخلف من سوقة العسكر وأتباعه، ولحق بالعسكر، فلما فارق القلعة غنم بالباطنية ما تخلف عندهم.
؟؟
ذكر حصار قابس والمهدية
في هذه السنة جهز علي بن يحيى، صاحب إفريقية، أسطولاً في البحر إلى مدينة قابس، وحصرها.
وسبب ذلك أن صاحبها رافع بن مكن الدهماني أنشأ مركباً بساحلها ليحمل التجار في البحر، وكان ذلك آخر أيام الأمير يحيى، فلم ينكر يحيى ذلك، جرياً على عادته في المداراة، فلما ولي علي الأمر، بعد أبيه، أنف من ذلك وقال: لا يكون لأحد من أهل إفريقية أن يناوئني في إجراء المراكب في البحر بالتجار، فلما خاف رافع أن يمنعه علي التجأ إلى اللعين رجار ملك الفرنج بصقلية، واعتضد به، فوعده رجار أن ينصره ويعينه على إجراء مركبه في البحر، وأنفذ في الحال أسطولاً إلى قابس، فاجتازوا بالمهدية، فحينئذ تحقق علي اتفاقهما، وكان يكذبه.
فلما جاز أسطول رجار بالمهدية أخرج علي أسطوله في أثره، فتوافى الجميع إلى قابس، فلما رأى صاحبها أسطول الفرنج والمسلمين لم يخرج مركبه، فعاد أسطول الفرنج، وبقي أسطول علي يحصر رافعاً بقابس مضيقاً عليها.
ثم عادوا إلى المهدية، وتمادى رافع في المخالفة لعلي، وجمع قبائل العرب، وسار بهم، حتى نزل على المهدية محصراً لها، وخادع علياً، وقال: إنني إنما جئت للدخول في الطاعة، وطلب من يسعى في الصلح، وأفعاله تكذب أقواله، فلم يجبه عن ذلك بحرف، وأخرج العساكر، وحملوا على رافع ومن معه حملة منكرة، فألحقوهم بالبيوت، ووصل العسكر إلى البيوت، فلما رأى ذلك النساء صحن، وولولن، فغارت العرب، وعاودت القتال، واشتد حينئذ الأمر إلى المغرب، ثم افترقوا، وقد قتل من عسكر رافع بشر كثير، ولم يقتل من جند علي غير رجل واحد من الرجالة.
ثم خرج عسكر علي مرة أخرى، فاقتتلوا أشد من القتال الأول، وكان الظهور فيه لعسكر علي، فلما رأى رافع أنه لا طاقة له بهم رحل عن المهدية ليلاً إلى القيروان، فمنعه أهلها من دخولها، فقاتلهم أياماً قلائل، ثم دخلها، فأرسل علي إليه عسكراً من المهدية، فحصروه فيها إلى أن خرج عنها، وعاد إلى قابس، ثم إن جماعة من أعيان إفريقية، من العرب وغيرهم، سألوا علياً في الصلح، فامتنع، ثم أجاب إلى ذلك، وتعاهد عليه.
ذكر الوحشة بين رجار والأمير عليكان رجار، صاحب صقلية، بينه وبين الأمير علي، صاحب إفريقية، مودة وكيدة، إلى أن أعان رافعاً كما تقدم قبل، فاستوحش كل منهما من صاحبه، ثم بعد ذلك خاطبه رجار بما لم تجر عادتهم به، فتأكدت الوحشة، فأرسل رجار رسالة فيها خشونة، فاحترز علي منه، وأمر بتجديد الأسطول، وإعداد الأهبة للقاء العدو، وكاتب المرابطين بمراكش في الاجتماع معه على الدخول إلى صقلية، فكف رجار عما كان يعتمده.
ذكر قتل صاحب حلب واستيلاء إيلغازي عليهافي هذه السنة قتل لؤلؤ الخادم، وكان قد استولى على قلعة حلب وأعمالها، بعد وفاة الملك رضوان، وولي أتابكية ولده ألب أرسلان، فلما مات أقام بعده في الملك سلطانشاه بن رضوان، وحكم في دولته أكثر من حكمه في دولة أخيه، فلما كانت هذه السنة سار منها إلى قلعة جعبر ليجتمع بالأمير سالم بن مالك صاحبها، فلما كان عند قلعة نادر نزل يريق الماء، فقصده جماعة من أصحابه الأتراك، وصاحوا: أرنب، أرنب! وأوهموا أنهم يتصيدون، ورموه بالنشاب، فقتل، فلما هلك نهبوا خزانته، فخرج إليهم أهل حلب، فاستعادوا ما أخذوه.

وولي أتابكية سلطانشاه بن رضوان شمس الخواص يارو قتاش، فبقي شهراً، وعزلوه، وولي بعده أبو المعالي بن الملحي الدمشقي، ثم عزلوه وصادروه.
وقيل: كان سبب قتل لؤلؤ أنه أراد قتل سلطانشاه، كما قتل أخاه ألب أرسلان قبله، ففطن به أصحاب سلطانشاه، فقتلوه، وقيل كان قتله سنة عشر وخمسمائة، والله أعلم.
ثم إن أهل حلب خافوا من الفرنج، فسلموا البلد إلى نجم الدين إيلغازي، فلما تسلمه لم يجد فيه مالاً، ولا ذخيرة، لأن الخادم كان قد فرق الجميع، وكان الملك رضوان قد جمع فأكثر، فرزقه الله غير أولاده، فلما رأى إيلغازي خلو البلد من الأموال صادر جماعة من الخدم بمال صانع به الفرنج، وهادنهم مدة يسيرة تكون بمقدار مسيره إلى ماردين، وجمع العساكر والعود، لما تمت الهدنة سار إلى ماردين، على هذا العزم، واستخلف بحلب ابنه حسام الدين تمرتاش.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة، في رابع عشر، انخسف القمر انخسافاً كلياً.
وفي هذه الليلة هجم الفرنج على ربض حماة من الشام، وقتلوا من أهلها ما يزيد على مائة رجل وعادوا.
وفيها، في يوم عرفة، كانت زلزلة بالعراق، والجزيرة، وكثير من البلاد، وخربت ببغداد دور كثيرة بالجانب الغربي.
وفيها مات أحمد العربي ببغداد، وكان من عباد الله الصالحين، له كرامات، وقبر يزار بها.
وفي هذه السنة، في شوال، توفي أبو علي محمد بن سعد بن إبراهيم بن نبهان الكاتب، وعمره مائة سنة، وكان عالي الإسناد، وروى عن أبي علي بن شاذان وغيره، والحسن بن أحمد بن جعفر أبو عبد الله الشقاق الفرضي، الحاسب، وكان واحد عصره في علم الفرائض والحساب، وسمع الحديث من أبي الحسين بن المهتدي وغيره.
وفيها مات الكزايكس ملك القسطنطينية، وملك بعده ابنه يوحنا، وسلك سيرته.
وفيها مات دوقس أنطاكية، وكفى الله شره.
ثم دخلت سنة اثنتي عشرة وخمسمائة
ذكر ما فعله السلطان محمود بالعراق
وولاية البرسقي شحنكية بغداد
لما توفي السلطان محمد، وملك بعده ابنه محمود، ودبر دولته الوزير الربيب أبو منصور، أرسل إلى الخليفة المستظهر بالله يطلب أن يخطب له ببغداد، فخطب له في الجمعة ثالث عشر المحرم، وكان شحنة بغداد بهروز.
ثم إن الأمير دبيس بن صدقة كان عند السلطان محمد، مذ قتل والده، على ما ذكرناه، فأحسن إليه، وأقطعه إقطاعاً كثيراً، فلما توفي السلطان محمد خاطب السلطان محموداً في العود إلى بلده الحلة، فأذن له في ذلك، فعاد إليها، فاجتمع عليه خلق كثير من العرب، والأكراد، وغيرهم، وكان آقسنقر البرسقي مقيماً بالرحبة، وهي إقطاعه، وليس بيده من الولايات شيء، فاستخلف عليها ابنه عز الدين مسعود، وسار إلى السلطان محمد، قبل موته، عازماً على مخاطبته في زيادة إقطاعه، فبلغه وفاة السلطان محمد قبل وصوله إلى بغداد.
وسمع مجاهد الدين بهروز بقربه من بغداد، فأرسل إليه يمنعه من دخولها، فسار إلى السلطان محمود، فلقيه توقيع السلطان بولاية شحنكية بغداد، وهو بحلوان، وعزل بهروز.
وكان الأمراء عند السلطان يريدون البرسقي، ويتعصبون له، ويكرهون مجاهد الدين بهروز، ويحسدونه للقرب الذي كان له عند السلطان محمد، وخافوا أن يزداد تقدماً عند السلطان محمود وحكماً. فلما ولي البرسقي شحنكية بغداد هرب بهروز إلى تكريت، وكانت له.
ثم إن السلطان ولى شحنكية بغداد الأمير منكوبرس، وهو من أكابر الأمراء، وقد حكم في دولة السلطان محمود، فلما أعطي الشحنكية سير إليها ربيبه الأمير حسين بن أزبك، أحد الأمراء الأتراك، وهو صاحب أسداباذ، لينوب عنه ببغداد والعراق، وفارق السلطان من باب همذان، واتصل به جماعة الأمراء البكجية وغيرهم.
فلما سمع البرسقي خاطب الخليفة المستظهر بالله ليأمره بالتوقف إلى أن يكاتب السلطان، ويفعل ما يرد به الأمر عليه، فأرسل إليه الخليفة، فأجاب: إن يرسم الخليفة بالعود عدت، وإلا فلا بد من دخول بغداد. فجمع البرسقي أصحابه وسار إليه، فالتقوا واقتتلوا، فقتل أخ لحسين، وانهزم هو ومن معه، وعادوا إلى عسكر السلطان، فكان ذلك في شهر ربيع الأول، قبل وفاة المستظهر بالله بأيام.
ذكر وفاة المستظهر بالله

في هذه السنة، سادس عشر ربيع الآخر، توفي المستظهر بالله أبو العباس أحمد بن المقتدي بأمر الله، وكان مرضه التراقي، وكان عمره إحدى وأربعين سنة وستة أشهر وستة أيام، وخلافته أربعاً وعشرين سنة وثلاثة أشهر وأحد عشر يوماً، ووزر له عميد الدولة أبو منصور بن جهير، وسديد الملك أبو المعالي المفضل بن عبد الرزاق الأصبهاني، وزعيم الرؤساء أبو القاسم بن جهير، ومجد الدين أبو المعالي هبة الله بن المطلب، ونظام الدين أبو منصور الحسين بن محمد، وناب عن الوزارة أمين الدولة أبو سعد بن الموصلايا، وقاضي القضاة أبو الحسن علي بن الدامغاني، ومضى، في أيامه، ثلاثة سلاطين خطب لهم بالحضرة، وهم: تاج الدولة تتش بن ألب أرسلان، والسلطان بركيارق، ومحمد ابنا ملكشاه.
ومن غريب الاتفاق أنه لما توفي السلطان ألب أرسلان توفي بعده القائم بأمر الله، ولما توفي السلطان ملكشاه توفي بعده المقتدي بأمر الله، ولما توفي السلطان محمد توفي بعده المستظهر بالله.
ذكر بعض أخلاقه وسيرتهكان، رضي الله عنه، لين الجانب، كريم الأخلاق، يحب اصطناع الناس، ويفعل الخير، ويسارع إلى أعمال البر والمثوبات، مشكور المساعي لا يرد مكرمة تطلب منه.
وكان كثير الوثوق بمن يوليه، غير مصغ إلى سعاية ساع، ولا ملتفت إلى قوله، ولم يعرف منه تلون، وانحلال عزم، بأقوال أصحاب الأغراض.
وكانت أيامه أيام سرور للرعية، فكأنها من حسنها أعياد، وكان إذا بلغه ذلك فرح به وسره، وإذا تعرض سلطان أو نائب له لأذى أحد بالغ في إنكار ذلك والزجر عنه.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://arabelalekat.yoo7.com
الشيخ عودة
الشيخ عودة
الشيخ عودة



عدد المساهمات : 1748
تاريخ التسجيل : 28/09/2008
العمر : 74

كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير - صفحة 7 Empty
مُساهمةموضوع: رد: كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير   كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير - صفحة 7 Emptyالثلاثاء فبراير 25, 2014 11:28 am

وكان حسن الحظ، جيد التوقعات، لا يقاربه فيها أحد، يدل على فضل غزير، وعلم واسع، ولما توفي صلى عليه ابنه المسترشد بالله، وكبر أربعاً، ودفن في حجرة له كان يألفها. ومن شعره قوله:
أذاب حر الهوى في القلب ما جمدا ... لما مددت إلى رسم الوداع يدا
وكيف أسلك نهج الاصطبار وقد ... أرى طرائق في مهوى الهوى قددا
قد أخلف الوعد بدر قد شغفت به، ... من بعد ما قد وفى دهري بما وعدا
إن كنت أنقض عهد الحب في خلدي ... من بعد هذا، فلا عاينته أبدا
ذكر خلافة الإمام المسترشد باللهلما توفي المستظهر بالله بويع ولده المسترشد بالله أبو منصور الفضل بن أبي العباس أحمد بن المستظهر بالله، وكان ولي عهد قد خطب له ثلاثاً وعشرين سنة، فبايعه أخواه ابنا المستظهر بالله، وهما أبو عبد الله محمد، وأبو طالب العباس، وعمومته بنو المقتدي بأمر الله، وغيرهم من الأمراء، والقضاة، والأئمة، والأعيان.
وكان المتولي لأخذ البيعة القاضي أبو الحسن الدامغاني، وكان نائباً عن الوزارة، فأقره المسترشد بالله عليها، ولم يأخذ البيعة قاض غير هذا، وأحمد بن أبي داود، فإنه أخذها للواثق بالله، والقاضي أبو علي إسماعيل بن إسحاق، أخذها للمعتضد بالله.
ثم إن المسترشد عزل قاضي القضاة عن نيابة الوزارة، واستوزر أبا شجاع محمد بن الربيب أبي منصور، وزير السلطان محمود، وكان والده خطب في معنى ولده، حتى استوزر، وقبض على صاحب المخزن أبي طاهر يوسف بن أحمد الحزي.
ذكر هرب الأمير أبي الحسن
أخي المسترشد وعوده
لما اشتغل الناس ببيعة المسترشد بالله، ركب أخوه الأمير أبو الحسن بن المستظهر بالله سفينة، ومعه ثلاثة نفر، وانحدر إلى المدائن، وسار منها إلى دبيس بن صدقة بالحلة، فكرمه دبيس، وعلم منه وفاة المستظهر بالله، وأقام له الإقامات الكثيرة، فلما علم المسترشد بالله خبره أهمه ذلك وأقلقه، وأرسل إلى دبيس يطلب منه إعادته، فأجاب بأنني عبد الخليفة، وواقف عند أمره، ومع هذا، فقد استذم بي، ودخل منزلي، فلا أكرهه على أمر أبداً.
وكان الرسول نقيب النقباء شرف الدين علي بن طراد الزينبي، فقصد الأمير أبا الحسن، وتحدث معه في عوده، وضمن له عن الخليفة كل ما يريده، فأجاب إلى العود، وقال: إنني لم أفارق أخي لشر أريده، وإنما الخوف حملني على مفارقته، فإذا أمنتني قصدته. وتكفل دبيس بإصلاح الحال بنفسه، والمسير معه إلى بغداد، فعاد النقيب وأعلم الخليفة الحال، فأجاب إلى ما طلبه منه.
ثم حدث من أمر البرسقي ودبيس ومنكوبرس ما ذكرناه، فتأخر الحال.

وأقام الأمير أبو الحسن عند دبيس إلى ثاني عشر صفر سنة ثلاث عشرة وخمسمائة، ثم سار عن الحلة إلى واسط، وكثر جمعه وقوي الإرجاف بقوته، وملك مدينة واسط، وخيف جانبه، فتقدم الخليفة المسترشد بالله بالخطبة لولي عهده ولده أبي جعفر المنصور، وعمره حينئذ اثنتا عشرة سنة، فخطب له ثاني ربيع الآخر ببغداد، وكتب إلى البلاد بالخطبة له، وأرسل إلى دبيس بن مزيد في معنى الأمير أبي الحسن، وأنه الآن فارق جواره، ومد يده إلى بلاد الخليفة وما يتعلق به، وأمره بقصده ومعاجلته قبل قوته، فأرسل دبيس العساكر إليه، ففارق واسط، وقد تحير هو وأصحابه، فضلوا الطريق، ووصلت عساكر دبيس، فصادفوهم عند الصلح، فنهبوا أثقاله، وهرب الأكراد من أصحابه، والأتراك، وعاد الباقون إلى دبيس.
وبقي الأمير أبو الحسن في عشرة من أصحابه وهو عطشان، وبينه وبين الماء خمسة فراسخ، وكان الزمان قيظاً، فأيقن بالتلف، وتبعه بدويان، فأراد الهرب منهما، فلم يقدر، فأخذاه، وقد اشتد به العطش، فسقياه، وحملاه إلى دبيس، فسيره إلى بغداد، وحمله إلى الخليفة، بعد أن بذل له عشرين ألف دينار، فحمل إلى الدار العزيزة، وكان بين خروجه عنها وعوده إليها أحد عشر شهراً.
ولما دخل على المسترشد بالله قبل قدمه، وقبله المسترشد، وبكيا، وأنزله داراً حسنة كان هو يسكنها قبل أن يلي الخلافة، وحمل إليه الخلع، والتحف الكثيرة، وطيب نفسه وأمنه.
ذكر مسير الملك مسعود وجيوش بك إلى العراق وما كان بينهما وبين البرسقي ودبيس
في هذه السنة، في جمادى الأولى، برز البرسقي، ونزل بأسفل الرقة، في عسكره ومن معه، وأظهر أنه على قصد الحلة وإجلاء دبيس بن صدقة عنها.
وجمع دبيس جموعاً كثيرة من العرب والأكراد، وفرق الأموال الكثيرة والسلاح.
وكان الملك مسعود ابن السلطان محمد بالموصل مع أتابكه أي أبه جيوش بك، فأشار عليهما جماعة ممن عندهما بقصد العراق فإنه لا مانع دونه، فسارا في جيوش كثيرة، ومع الملك مسعود وزيره فخر الملك أبو علي بن عمار، صاحب طرابلس، وقسيم الدولة زنكي بن آقسنقر جد ملوكنا الآن بالموصل، وكان من الشجاعة في الغاية، ومعهم أيضاً صاحب سنجار، وأبو الهيجاء، صاحب إربل، وكرباوي بن خراسان التركماني، صاحب البوازيج. فلما علم البرسقي قربهم خافهم.
وكان البرسقي قديماً قد جعله السلطان محمد أتابك ولده مسعود، على ما ذكرناه، وإنما كان خوفه من جيوش بك، فلما قاربوا بغداد سار إليهم ليقاتلهم ويصدهم، فلما علم مسعود وجيوش بك ذلك أرسلا إليه الأمير كرباوي في الصلح، وأعلمه أنهم إنما جاءوا نجدة له على دبيس، واصطلحوا، وتعاهدوا، واجتمعوا.
ووصل مسعود إلى بغداد، ونزل بدار المملكة، ووصلهم الخبر بوصول الأمير عماد الدين منكبرس، المقدم ذكره، في جيش كثير، فسار البرسقي عن بغداد ليحاربه ويمنعه عنها، فلما علم به منكبرس قصد النعمانية، وعبر دجلة هناك، واجتمع هو ودبيس بن صدقة.
وكان دبيس قد خاف من الملوك مسعود والبرسقي، فبنى أمره على المحاجزة والملاطفة، فأهدى لمسعود هدية حسنة، وللبرسقي، وجيوش بك، فلما وصله خبر وصول منكبرس راسله، واستماله، واستحلفه، واتفقا على التعاضد والتناصر، واجتمعا، وكل واحد منهما قوي بصاحبه، فلما اجتمعا سار الملك مسعود، والبرسقي، وجيوش بك، ومن معهم، إلى المدائن للقاء دبيس ومنكبرس، فلما وصلوا المدائن أتتهم الأخبار بكثرة الجمع معهما، فعاد البرسقي، والملك مسعود، وعبرا نهر صرصر، وحفظا المخاضات عليه، ونهبت الطائفتان السواد نهباً فاحشاً: نهر الملك، ونهر صرصر، ونهر عيسى، وبعض دجيل، واستباحوا النساء.
فأرسل المسترشد بالله إلى الملك مسعود والبرسقي ينكر هذه الحال، ويأمرهما بحقن الدماء، وترك الفساد، ويأمر بالموادعة والمصالحة، وكان الرسل: سديد الدولة بن الأنباري، والإمام الأسعد الميهني، مدرس النظامية، فأنكر البرسقي أن يكون جرى منهما شيء من ذلك، وأجاب إلى العود إلى بغداد، فوصل من أخبره أن منكبرس ودبيساً قد جهزا ثلاثة آلاف فارس مع منصور أخي دبيس، والأمير حسين بن أزبك، ربيب منكبرس، وسيروهم، وعبروا عند درزيجان ليقطعوا مخاضة عند ديالى إلى بغداد، لخلوها من عسكر يحميها ويمنع عنها.

فعاد البرسقي إلى بغداد، وعبر الجسر لئلا يخاف الناس، ولم يعلموا الخبر، وخلف ابنه عز الدين مسعوداً على عسكره بصرصر، واستصحب معه عماد الدين زنكي بن آقسنقر، فوصل إلى ديالى، ومنع عسكر منكبرس من العبور، فأقام يومين، فأتاه كتاب ابنه عز الدين مسعود يخبره أن الصلح قد استقر بين الفريقين، فانكسر نشاطه، حيث جرى هذا الأمر ولم يعلم به، وعاد نحو بغداد، وعبر إلى الجانب الغربي، وعبر منصور وحسين فسارا في عسكرهما خلفه، فوصلا بغداد عند نصف الليل، فنزلا عند جامع السلطان.
وسار البرسقي إلى الملك مسعود فأخذ بركه وماله وعاد إلى بغداد، فخيم عند القنطرة العتيقة، وأصعد الملك مسعود، وجيوش بك، فنزلا عند البيمارستان، وأصعد دبيس ومنكبرس فخيما تحت الرقة، وأقام عز الدين مسعود بن البرسقي عند منكبرس منفرداً عن أبيه.
وكان سبب هذا الصلح أن جيوش بك كان قد أرسل إلى السلطان محمود يطلب الزيادة له وللملك مسعود، فوصل كتاب الرسول من العسكر يذكر أنه لقي من السلطان إحساناً كثيراً، وأنه أقطعهما أذربيجان، فلما بلغه رحيلهما إلى بغداد اعتقد أنهما قد عصيا عليه، فعاد عما كان استقر، ويقول إن السلطان قد جهز عسكراً إلى الموصل. فوقع الكتاب بيد منكبرس، فأرسله إلى جيوش بك، وضمن له إصلاح السلطان له وللملك مسعود، وكان منكبرس متزوجاً بأم الملك مسعود، واسمها سرجهان، وكان يؤثر مصلحته لذلك، واستقر الصلح، وخافا من البرسقي أن يمنع منه، فاتفقا على إرسال العسكر إلى درزيجان لينفذ في مقابلته البرسقي ليخلو العسكر منه، ويقع الاتفاق، فكان الأمر في مسيره على ما تقدم.
وكان البرسقي محبوباً لدى أهل بغداد لحسن سيرته فيهم، فلما استقر الصلح، ووصلوا إلى بغداد تفرق عن البرسقي أصحابه وجموعه، وبطل ما كان يحدث به نفسه من التغلب على العراق بغير أمر السلطان، وسار عن العراق إلى الملك مسعود، فأقام معه، واستقر منكبرس في شحنكية بغداد، وودعه دبيس بن صدقة، وعاد إلى الحلة، بعد أن طالب بدار أبيه بدرب فيروز، وكانت قد دخلت في جامع القصر ببغداد، فصولح عنها بمال.
وأقام منكبرس ببغداد يظلم ويعسف بالرعية، ويصادرهم، فاختفى أرباب الأموال، وانتقل جماعة إلى حريم دار الخلافة خوفاً منه، وبطلت معايش الناس، وأكثر أصحابه الفساد، حتى إن بعض أهل بغداد زفت إليه امرأة تزوجها، فعلم بعض أصحاب منكبرس، فأتاه وكسر الباب وجرح الزوج عدة جراحات، وابتنى بزوجته، فكثر الدعاء ليلاً ونهاراً، واستغاث الناس لهذه الحال، وأغلقوا الأسواق، فأخذ الجندي إلى دار الخلافة فاعتقل أياماً ثم أطلق.
وسمع السلطان بما يفعله منكبرس ببغداد، فأرسل إليه يستدعيه، ويحثه على اللحوق به، وهو يغالط ويدافع، وكلما طلبه السلطان لج في جمع الأموال والمصادرات. فلما علم أهل بغداد تغير السلطان عليه، واستدعاءه إياه، طمعوا فيه، فسار حينئذ منكبرس عنهم خوفاً أن يثوروا به، وكفى الناس شره، وظهر من كان مستتراً.
ذكر وفاة ملك الفرنج
وما كان بين الفرنج وبين المسلمين
في ذي الحجة من سنة إحدى عشرة وخمسمائة توفي بغدوين ملك القدس، وكان قد سار إلى ديار مصر في جمع الفرنج، قاصداً ملكها والتغلب عليها، وقوي طمعه في الديار المصرية، وبلغ مقابل تنيس، وسبح في النيل، فانتقض جرح كان به، فلما أحس بالموت عاد إلى القدس، فمات، ووصى ببلاده للقمص صاحب الرها، وهو الذي كان أسره جكرمش، وأطلقه جاولي سقاوو، واتفق أن هذا القمص كان قد سار إلى القدس يزور بيعة قمامة، فلما وصى إليه بالملك قبله، واجتمع له القدس والرها.
وكان أتابك طغتكين قد سار عن دمشق لقتال الفرنج، فنزل بين دير أيوب وكفر بصل باليرموك، فخفيت عنه وفاة بغدوين، حتى سمع الخبر بعد ثمانية عشر يوماً، وبينهم نحو يومين، فأتته رسل ملك الفرنج يطلب المهادنة، فاقترح عليه طغتكين ترك المناصفة التي بينهم من جبل عوف، والحنانة، والصلت، والغور، فلم يجب إلى ذلك، وأظهر القوة، فسار طغتكين إلى طبرية فنهبها وما حولها، وسار منها نحو عسقلان.

وكانت للمصريين وبها عساكرهم، كانوا قد سيروها لما عاد ملك القدس المتوفى عن مصر، وكانوا سبعة آلاف فارس، فاجتمع بهم طغتكين، وأعلمه المقدم عليهم أن صاحبهم تقدم إليه بالوقوف عند رأي طغتكين، والتصرف على ما يحكم به، فأقاموا بعسقلان نحو شهرين، ولم يؤثروا في الفرنج أثراً، فعاد طغتكين إلى دمشق، فأتاه الصريخ بأن مائة وثلاثين فارساً من الفرنج أخذوا حصناً من أعماله يعرف بالحبس، يعرف بحصن جلدك، سلمه إليهم المستحفظ به وقصدوا أذرعات فنهبوها، فأرسل إليهم تاج الملوك بوري بن طغتكين، فانحازوا عنه إلى جبل هناك، فنازلهم، فأتاه أبوه ونهاه عنهم، فلم يفعل، وطمع فيهم، فلما أيس الفرنج قاتلوا قتال مستقتل، فنزلوا من الجبل وحملوا على المسلمين حملة صادقة هزموهم بها، وأسروا وقتلوا خلقاً كثيراً، وعاد الفل إلى دمشق على أسوأ حال.
فسار طغتكين إلى حلب، وبها إيلغازي، فاستنجده، وطلب منه التعاضد على الفرنج، فوعده بالمسير معه، فبينما هو بحلب أتاه الخبر بأن الفرنج قصدوا حوران من أعمال دمشق، فنهبوا وقتلوا وسبوا وعادوا، فاتفق رأي طغتكين وإيلغازي على عود طغتكين إلى دمشق، وحماية بلاده، وعود إيلغازي إلى ماردين، وجمع العساكر، والاجتماع على حرب الفرنج، فصالح إيلغازي من يليه من الفرنج على ما تقدم ذكره، وعبر إلى ماردين لجمع العساكر، وكان ما نذكره سنة ثلاث عشرة، إن شاء الله تعالى.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة انقطع الغيث، وعدمت الغلات في كثير من البلاد، وكان أشده بالعراق، فغلت الأسعار، وأجلى أهل السواد، وتقوت الناس بالنخالة، وعظم الأمر على أهل بغداد بما كان يفعله منكبرس بهم.
وفيها أسقط المسترشد بالله من الإقطاع المختص به كل جور، وأمر أن لا يؤخذ إلا ما جرت به العادة القديمة، وأطلق ضمان غزل الذهب، وكان صناع السقلاطون، والممزج، وغيرهم ممن يعمل منه، يلقون شدة من العمال عليها، وأذى عظيماً.
وفيها تأخر مسير الحجاج تأخراً أرجف بسببه بانقطاع الحج من العراق، فرتب الخليفة الأمير نظر، خادم أمير الجيوش يمن، وولاه من أمر الحج ما كان يتولاه أمير الجيوش، وأعطاه من المال ما يحتاج إليه في طريقه، وسيره، فأدركوا الحج وظهرت كفاية نظر.
وفيها وصل مركبان كبيران فيهما قوة ونجدة للفرنج بالشام، فغرقا، وكان الناس قد خافوا ممن فيهما.
وفيها وصل رسول إيلغازي، صاحب حلب وماردين، إلى بغداد يستنفر على الفرنج، ويذكر ما فعلوا بالمسلمين في الديار الجزرية، وأنهم ملكوا قلعة عند الرها، وقتلوا أميرها ابن عطير، فسيرت الكتب بذلك إلى السلطان محمود.
وفيها نقل المستظهر إلى الرصافة، وجميع من كان مدفوناً بدار الخلافة، وفيهم جدة المستظهر أم المقتدي، وكانت وفاتها بعد المستظهر، ورأت البطن الرابع من أولادها.
وفيها كثر أمر العيارين بالجانب الغربي من بغداد، فعبر إليهم نائب الشحنة في خمسين غلاماً أتراكاً، فقاتلهم، فانهزم منهم، ثم عبر إليهم من الغد في مائتي غلام، فلم يظفر بهم، ونهب العيارون يومئذ قطفتا.
وفي هذه السنة، في شعبان، توفي أبو الفضل بكر بن محمد بن علي بن الفضل الأنصاري من ولد جابر بن عبد الله، وهو من بلد بخارى، وكان من أعيان الفقهاء الحنفية، حافظاً للمذهب.
وتوفي أبو طالب الحسين بن محمد بن علي بن الحسن الزينبي، نقيب النقباء ببغداد، في صفر، واستقال من النقابة، فوليها أخوه طراد، وكان من أكابر الحنفية، وروى الحديث الكثير.
وفيها، في ذي الحجة، توفي أبو زكرياء يحيى بن عبد الوهاب بن مندة الأصبهاني، المحدث المشهور من بيت الحديث، وله فيه تصانيف حسنة.
وفيها توفي أبو الفضل أحمد بن الخازن، وكان أديباً، ظريفاً، له شعر حسن، فمنه قوله، وقد قصد زيارة صديق له، فلم يره، فأدخله غلمانه إلى بستان في الدار، وحمام، فقال في ذلك:
وافيت منزله، فلم أر صاحباً ... إلا تلقاني بوجه ضاحك
والبشر في وجه الغلام نتيجة ... لمقدمات ضياء وجه المالك
ودخلت جنته، وزرت جحيمه ... فشكرت رضواناً ورأفة مالك
ثم دخلت سنة ثلاث عشرة وخمسمائة
ذكر عصيان الملك طغرل على أخيه
السلطان محمود

كان الملك طغرل بن محمد لما توفي والده بقلعة سرجهان، وكان مولده سنة ثلاث وخمسمائة في المحرم، وأقطعه والده، سنة أربع، ساوة وآوة وزنجان، وجعل أتابكه الأمير شيركير الذي تقدم ذكره في حصار قلاع الإسماعيلية، فازداد ملك طغرل بما فتحه شيركير من قلاعهم، فأرسل إليه السلطان محمود الأمير كنتغدي ليكون أتابكاً له، ومدبراً لأمره، ويحمله إليه، فلما وصل إليه حسن له مخالفة أخيه، وترك المجيء إليه، واتفقا على ذلك.
وسمع السلطان محمود الخبر، فأرسل شرف الدين أنوشروان بن خالد، ومعه خلع وتحف وثلاثون ألف دينار، ووعد أخاه بإقطاع كثير، زيادة على ما له، إذا قصده، واجتمع به، فلم تقع الإجابة إلى الاجتماع، وأجاب كنتغدي بأننا في طاعة السلطان، وأي جهة أراد قصدناها، ومعنا من العساكر ما نقاوم بها من يرسم بقصده.
فبينما الخوض معهم في ذلك ركب السلطان محمود من باب همذان في عشرة آلاف فارس، جريدة، في جمادى الأولى، وكتم مقصده، وعزم على أن يكبس أخاه، والأمير كنتغدي، فرأى أحد خواصه تركياً من أصحاب الملك طغرل، فأعلم السلطان به، فقبض عليه، فعلم رفيق كان معه الحال، فسار عشرين فرسخاً في ليلة، ووصل إلى الأمير كنتغدي، وهو سكران، فأيقظه بعد جهد، وأعلمه الحال، فقصد الملك طغرل، فعرفه ذلك، وأخذ متخفياً، وقصد قلعة سميران، فضلاً عن الطريق إلى قلعة سرجهان، وكانا قد فارقاها، وجمع العساكر، وكان ضلالهما هداية لهما إلى السلامة، فإن السلطان محموداً جعل طريقه على سميران، وقال: إنها حصنهما الذي فيه الذخائر والأموال، وإذا علما بوصوله إليهما سارا إليها، فربما صادفهما في الطريق، فسلما منه بما ظناه عطباً لهما.
ووصل السلطان إلى العسكر، فكبسه، ونهبه، وأخذ من خزانة أخيه ثلاثمائة ألف دينار، وذلك المال الذي أنفذه له، وأقام السلطان محمود بزنجان، وتوجه منها إلى الري، ونزل طغرل من سرجهان، ولحق هو وكنتغدي بكنجة وقصده أصحابه، فقويت شوكته، وتمكنت الوحشة بينه وبين أخيه محمود.
ذكر الحرب بين سنجر والسلطان محمودفي هذه السنة، في جمادى الأولى، كانت حرب شديدة بين سنجر وابن أخيه السلطان محمود، ونحن نذكر سياقة ذلك: قد ذكرنا سنة ثمان وخمسمائة مسير السلطان سنجر إلى غزنة، وفتحها وما كان منه فيها، ثم عاد عنها إلى خراسان، فلما بلغه وفاة أخيه السلطان محمد، وجلوس ولده السلطان محمود في السلطنة، وهو زوج ابنة سنجر، لحقه حزن عظيم لموت أخيه، وأظهر من الجزع والحزن ما لم يسمع بمثله، وجلس للعزاء على الرماد، وأغلق البلد سبعة أيام، وتقدم إلى الخطباء بذكر السلطان محمد بمحاسن أعماله من قتال الباطنية، وإطلاق المكوس، وغير ذلك.
وكان سنجر يلقب بناصر الدين، فلما توفي أخوه محمد تلقب بمعز الدين، وهو لقب أبيه ملكشاه، وعزم على قصد بلد الجبال والعراق وما بيد محمود ابن أخيه، فندم على قتل وزيره أبي جعفر محمد بن فخر الملك أبي المظفر بن نظام الملك.
وكان سبب قتله أنه وحش الأمراء، واستخف بهم، فأبغضوه وكرهوه، وشكوا منه إلى السلطان، وهو بغزنة، فأعلمهم أنه يؤثر قتله، وليس يمكنه فعل ذلك بغزنة.
وكان سنجر قد تغير على وزيره لأسباب منها: أنه أشار عليه بقصد غزنة، فلما وصل إلى بست أرسل أرسلانشاه صاحبها إلى الوزير، وضمن له خمسمائة ألف دينار ليثني سنجر عن قصده، فأشار عليه بمصالحته والعود عنه، وفعل مثل ذلك بما وراء النهر، ومنها: أنه نقل عنه أنه أخذ من غزنة أموالاً جليلة عظيمة المقدار، ومنها: ما ذكر من إيحاشه الأمراء وغير هذه الأسباب.
فلما عاد إلى بلخ قبض عليه، وقتله وأخذ ماله، وكان له من الجواهر والأموال ما لا حد عليه، والذي وجد له من العين ألفا ألف دينار، فلما قتله استوزر بعده شهاب الإسلام عبد الرزاق ابن أخي نظام الملك، ويعرف بابن الفقيه، إلا أنه لم تكن له منزلة ابن فخر الملك عند الناس في علو المنزلة. فلما اتصل به وفاة أخيه ندم على قتله لأنه كان يبلغ به من الأغراض والملك ما لا يبلغه بكثرة العساكر لميل الناس إليه، ومحله عندهم.

ثم إن السلطان محموداً أرسل إلى عمه سنجر شرف الدين أنوشروان بن خالد وفخر الدين طغايرك بن اليزن، ومعهما الهدايا والتحف، وبذل له النزول عن مازندران، وحمل مائتي ألف دينار كل سنة، فوصلا إليه وأبلغاه الرسالة، فتجهز ليسير إلى الري، فأشار عليه شرف الدين أنوشروان بترك القتال والحرب، فكان جوابه في ذلك: أن ولد أخي صبي، وقد تحكم عليه وزيره والحاجب علي.
فلما سمع السلطان محمود بمسير عمه نحوه، ووصول الأمير أنر في مقدمته إلى جرجان، تقدم إلى الأمير علي بن عمر، وهو أمير حاجب السلطان محمد، وبعده صار أمير حاجب السلطان محمود، بالمسير، وضم إليه جمعاً كثيراً من العساكر والأمراء، فاجتمعوا في عشرة آلاف فارس، فساروا إلى أن قاربوا مقدمة سنجر التي عليها الأمير أنر، فراسله الأمير علي بن عمر يعرفه وصية السلطان محمد بتعظيم سنجر والرجوع إلى أمره ونهيه، والقبول منه، وأنه ظن أن سنجر يحفظ السلطنة على ولده السلطان محمود، وأخذ علينا بذلك العهود، فليس لنا أن نخالفه، وحيث جئتم إلى بلادنا لا نحتمل ذلك، ولا نغضي عليه، وقد علمت أن معك خمسة آلاف فارس، فأنا أرسل إليك أقل منهم لتعلم أنكم لا تقاوموننا، ولا تقوون بنا.
فلما سمع الأمير أنر ذلك عاد عن جرجان ولحقه بعض عسكر السلطان محمود. فأخذوا قطعة من سواده، وأسروا عدة من أصحابه.
وكان السلطان محمود قد وصل إلى الري، وهو بها، وعاد الأمير علي بن عمر إليه، فشكره على فعله، وأثنى عليه وعلى عسكره الذين معه.
وأشير على السلطان محمود بملازمة الري، والمقام بها، وقيل: إن عساكر خراسان إذا علموا بمقامك فيها لا يفارقون حدودهم، ولا يتعدون ولايتهم. فلم يقبل ذلك وضجر المقام، وسار إلى جرجان.
ووصل السلطان محمود والأمير منكبرس من العراق في عشرة آلاف فارس، والأمير منصور بن صدقة أخو دبيس، والأمراء البكجية، وغيرهم، وسار محمود إلى همذان، وتوفي بها وزيره الربيب، واستوزر أبا طالب السميرمي، وبلغه وصول عمه سنجر إلى الري، فسار نحوه قاصداً قتاله، فالتقيا بالقرب من ساوة ثاني جمادى الأولى من السنة، وكان عسكر السلطان محمود قد عرفوا المفازة التي بين يدي عسكر سنجر، وهي ثمانية أيام، فسبقوهم إلى الماء وملكوه عليهم.
وكان العسكر الخراساني في عشرين ألفاً، ومعهم ثمانية عشر فيلاً اسم كبيرها باذهو، ومن الأمراء الكبار: ولد الأمير أبي الفضل، صاحب سجستان. وخوارزمشاه محمد، والأمير أنر، والأمير قماج، واتصل به علاء الدولة كرشاسف بن فرامرز بن كاكويه، صاحب يزد، وهو صهر السلطان محمد وسنجر على أختهما، وكان أخص الناس بالسلطان محمد، فلما تولى السلطان محمود تأخر عنه، فأقطع بلده لقراجة الساقي الذي صار صاحب بلاد فارس، فسار حينئذ علاء الدولة إلى سنجر، وهو من ملوك الديلم، وعرف سنجر الأحوال، والطريق إلى قصد البلاد، وما فعله الأمراء من أخذ الأموال، وما هم عليه من اختلاف الأهواء، وحسن قصد البلاد، وما فعله الأمراء من أخذ الأموال، وما هم عليه من اختلاف الأهواء، وحسن قصد البلاد.
وكان عسكر السلطان محمود ثلاثين ألفاً، ومن الأمراء الكبار: الأمير علي بن عمر، أمير حاجب، والأمير منكبرس، وأتابكه غزغلي، وبنو برسق، وسنقر البخاري، وقراجة الساقي، ومعه تسعمائة حمل من السلاح.
واستهان عسكر محمود بعسكر عمه بكثرتهم وشجاعتهم، وكثرة خيلهم، فلما التقوا ضعفت نفوس الخراسانية لما رأوا لهذا العسكر من القوة والكثرة، فانهزمت ميمنة سنجر وميسرته، واختلط أصحابه، واضطرب أمرهم، وساروا منهزمين لا يلوون على شيء، ونهب من أثقالهم شيء كثير، وقتل أهل السواد كثيراً منهم.

ووقف سنجر بين الفيلة في جمع من أصحابه، وبإزائه السلطان محمود، ومعه أتابكه غزغلي، فألجأت سنجر الضرورة، عند تعاظم الخطب عليه، أن يقدم الفيلة للحرب، وكان من بقي معه قد أشاروا عليه بالهزيمة، فقال: إما النصر أو القتل، وأما الهزيمة فلا. فلما تقدمت الفيلة، ورآها خيل محمود، تراجعت بأصحابها على أعقابها، فأشفق سنجر على السلطان محمود في تلك الحال، وقال لأصحابه: لا تفزعوا الصبي بحملات الفيلة، فكفوها عنهم، وانهزم السلطان محمود ومن معه في القلب، وأسر أتابكه غزغلي، فكان يكاتب السلطان، ويعده أنه يحمل إليه ابن أخيه، فعاتبه على ذلك، فاعتذر بالعجز، فقتله، وكان ظالماً قد بالغ في ظلم أهل همذان، فعجل الله عقوبته.
ولما تم النصر والظفر للسلطان سنجر أرسل من أعاد المنهزمين من أصحابه إليه، ووصل الخبر إلى بغداد في عشرة أيام، فأرسل الأمير دبيس بن صدقة إلى المسترشد بالله في الخطبة للسلطان سنجر، فخطب له في السادس والعشرين من جمادى الأولى، وقطعت خطبة السلطان محمود.
وأما السلطان محمود فإنه سار من الكسرة إلى أصبهان، ومعه وزيره أبو طالب السميري، والأمير علي بن عمر وقراجة.
وأما سنجر فإنه سار إلى همذان، فرأى قلة عسكره، واجتماع العساكر على ابن أخيه، فراسله في الصلح، وكانت والدته تشير عليه بذلك، وتقول: قد استوليت على غزنة وأعمالها، وما وراء النهر، وملكت ما لا حد عليه، وقررت الجميع على أصحابه، فاجعل ولد أخيك كأحدهم.
وكانت والدة سنجر هي جدة السلطان محمود، فأجاب إلى قولها، ثم كثرت العساكر عند سنجر منهم البرسقي، وكان عند الملك مسعود بأذربيجان من حين خروجه عن بغداد إلى هذه الغاية، فقوي بهم. فعاد الرسول وأبلغه عن الأمراء الذين مع السلطان محمود أنهم لا يصالحونه حتى يعود إلى خراسان، فلم يجب إلى ذلك، وسار من همذان إلى كرج، وأعاد مراسلة السلطان محمود في الصلح، ووعده أن يجعله ولي عهده، فأجاب إلى ذلك، واستقر الأمير بينهما، وتحالفا عليه.
وسار السلطان محمود إلى عمه سنجر في شعبان، فنزل على جدته والدة سنجر، وأكرمه عمه، وبالغ في ذلك، وحمل له السلطان محمود هدية عظيمة، فقبلها ظاهراً، وردها باطناً، ولم تقبل منه سوى خمسة أفراس عربية، وكتب السلطان سنجر إلى سائر الأعمال التي بيده كخراسان وغزنة، وما وراء النهر، وغيرها من الولايات، بأن يخطب للسلطان محمود بعده، وكتب إلى بغداد مثل ذلك، وأعاد عليه جميع ما أخذ من البلاد سوى الري، وقصد بأخذها أن تكون له في هذه الديار لئلا يحدث السلطان محمود نفسه بالخروج.
ذكر غزاة إيلغازي بلاد الفرنجفي هذه السنة سار الفرنج من بلادهم إلى نواحي حلب، فملكوا بزاعة وغيرها، وخربوا بلد حلب ونازلوها، ولم يكن بحلب من الذخائر ما يكفيها شهراً واحداً، وخافهم أهلها خوفاً شديداً، ولوا مكنوا من القتال لم يبق بها أحد، لكنهم منعوا من ذلك، وصانع الفرنج أهل حلب على أن يقاسموهم على أملاكهم التي بباب حلب. فأرسل أهل البلد إلى بغداد يستغيثون، ويطلبون النجدة، فلم يغاثوا.
وكان الأمير إيلغازي، صاحب حلب، ببلد ماردين يجمع العساكر والمتطوعة للغزاة، فاجتمع عليه نحو عشرين ألفاً، وكان معه أسامة بن المبارك بن شبل الكلابي، والأمير طغان أرسلان بن المكر، صاحب بدليس وأرزن، وسار بهم إلى الشام، عازماً على قتال الفرنج.
فلما علم الفرنج قوة عزمهم على لقائهم، وكانوا ثلاثة آلاف فارس، وتسعة آلاف راجل، ساروا فنزلوا قريباً من الأثارب، بموضع يقال له تل عفرين، بين جبال ليس لها طريق إلا من ثلاث جهات، وفي هذا الموضع قتل شرف الدولة مسلم بن قريش.

وظن الفرنج أن أحداً لا يسلك إليهم لضيق الطريق، فأخلدوا إلى المطاولة، وكانت عادة لهم، إذا رأوا قوة من المسلمين، وراسلوا إيلغازي يقولون له: لا تتعب نفسك بالمسير إلينا، فنحن واصلون إليك، فأعلم أصحابه بما قالوه، واستشارهم فيما يفعل، فأشاروا بالركوب من وقته، وقصدهم، ففعل ذلك، وسار إليهم، ودخل الناس من الطرق الثلاثة، ولم تعتقد الفرنج أن أحداً يقدم عليهم، لصعوبة المسلك إليهم، فلم يشعروا إلا وأوائل المسلمين قد غشيتهم، فحمل الفرنج حملة منكرة، فولوا منهزمين، فلقوا باقي العسكر متتابعة، فعادوا معهم، وجرى بينهم حرب شديدة، وأحاطوا بالفرنج من جميع جهاتهم، وأخذهم السيف من سائر نواحيهم، فلم يفلت منهم غير نفر يسير، وقتل الجميع، وأسروا.
وكان من جملة الأسرى نيف وسبعون فارساً من مقدميهم، وحملوا إلى حلب، فبذلوا في نفوسهم ثلاثمائة ألف دينار، فلم يقبل منهم، وغنم المسلمون منهم الغنائم الكثيرة.
وأما سيرجال، صاحب أنطاكية، فإنه قتل وحمل رأسه، وكانت الوقعة منتصف شهر ربيع الأول، فمما مدح به إيلغازي في هذه الوقعة قول العظيمي:
قل ما تشاء، فقولك المقبول، ... وعليك بعد الخالق التعويل
واستبشر القرآن حين نصرته، ... وبكى لفقد رجاله الإنجيل
ثم تجمع من سلم من المعركة مع غيرهم، فلقيهم إيلغازي أيضاً، فهزمهم، وفتح منهم حصن الأثارب، وزردنا، وعاد إلى حلب، وقرر أمرها، وأصلح حالها، ثم عبر الفرات إلى ماردين.
ذكر وقعة أخرى من الفرنجفي هذه السنة سار جوسلين، صاحب تل باشر، في جمع من الفرنج، نحو مائتي فارس، من طبرية، فكبس طائفة من طي يعرفون ببني خالد، فأخذهم، وأخذ غنائمهم، وسألهم عن بقية قومهم من بني ربيعة، فأخبروه أنهم من وراء الحزن، بوادي السلالة، بين دمشق وطبرية، فقدم جوسلين مائة وخمسين فارساً من أصحابه، وسار هو في خمسين فارساً على طريق آخر، وواعدهم الصبح ليكبسوا بني ربيعة، فوصلهم الخبر بذلك، فأرادوا الرحيل، فمنعهم أميرهم من بني ربيعة، وكانوا في مائة وخمسين فارساً، فوصلهم المائة وخمسون من الفرنج، معتقدين أن جوسلين قد سبقهم أو سيدركهم، فضل الطريق، وتساوت العدتان، فاقتتلوا، وطعنت العرب خيولهم، فجعلوا أكثرهم رجالة، وظهر من أميرهم شجاعة، وحسن تدبير، وجودة رأي، فقتل من الفرنج سبعون، وأسر اثنا عشر من مقدميهم، بذل كل واحد منهم في فداء نفسه مالاً جزيلاً وعدة من الأسرى.
وأما جوسلين فإنه ضل في الطريق، وبلغه خبر الوقعة، فسار إلى طرابلس، فجمع جمعاً، وأسرى إلى عسقلان، فأغار على بلدها، فهزمه المسلمون هناك، فعاد مفلولاً.
ذكر قتل منكوبرسفي هذه السنة قتل الأمير منكوبرس الذي كان شحنة بغداد، وقد تقدم حاله.
وكان سبب قتله: أنه لما انهزم مع السلطان محمود وعاد إلى بغداد، ونهب عدة مواضع من طريق خراسان، وأراد دخول بغداد، فسير إليه دبيس بن صدقة من منعه ، فعاد وقد استقر الصلح بين السلطانين سنجر ومحمود، فقصد السلطان سنجر، فدخل إليه ومعه سيف وكفن، فقال له: أنا لا أؤاخذ أحداً، وسلمه إلى السلطان محمود، وقال: هذا مملوكك، فاصنع به ما تريد! فأخذه.
وكان في نفسه منه غيظ شديد لأسباب منها: أنه لما توفي السلطان محمد أخذ سريته، والدة الملك مسعود، قهراً، قبل انقضاء عدتها، ومنها: جرأته عليه، واستبداده بالأمور دونه، ومسيره إلى شحنكية بغداد، والسلطان كاره لذلك لكنه لم يقدر على منعه، ومنها: ما فعله بالعراق من الظلم، إلى غير ذلك، فقتله صبراً، وأراح العباد والبلاد من شره.
ذكر قتل الأمير علي بن عمرفي هذه السنة أيضاً قتل الأمير علي بن عمر، حاجب السلطان محمد، وكان قد صار أكبر أمير مع السلطان محمود، وانقادت العساكر له، فحسده الأمراء، وأفسدوا حاله مع السلطان محمود، وحسنوا له قتله، فعلم، فهرب إلى قلعة برجين، وهي بين بروجرد وكرج، وكان بها أهله وماله، وسار منها في مائتي فارس إلى خوزستان، وكانت بيد أقبوري بن برسق، وابني أخويه: أرغلي بن يلبكي، وهندو بن زنكي، فأرسل إليهم وأخذ عهودهم بأمانه وحمايته.

فلما سار إليهم أرسلوا عسكراً منعوه من قصدهم، فلقوه على ستة فراسخ من تستر، فاقتتلوا، فانهزم هو وأصحابه، فوقف به فرسه، فانتقل إلى غيره، فتشبث ذيله بسرجه الأول، فأزاله، فعاود التعلق، فأبطأ، فأدركوه وأسروه، وكاتبوا السلطان محموداً في أمره، فأمرهم بقتله، فقتل وحمل رأسه إليه.
ذكر الفتنة بين المرابطين وأهل قرطبةفي هذه السنة، وقيل سنة أربع عشرة، كانت فتنة بني عسكر أمير المسلمين علي بن يوسف وبين أهل قرطبة.
وسببها: أن أمير المسلمين استعمل عليها أبا بكر يحيى بن رواد، فلما كان يوم الأضحى خرج الناس متفرجين، فمد عبد من عبيد أبي بكر يده إلى امرأة فأمسكها، فاستغاثت بالمسلمين، فأغاثوها، فوقع بين العبيد وبين أهل البلد فتنة عظيمة، ودامت جميع النهار، والحرب بينهم قائمة على ساق، فأدركهم الليل، فتفرقوا، فوصل الخبر إلى الأمير أبي بكر، فاجتمع إليه الفقهاء والأعيان، فقالوا: المصلحة أن تقتل واحداً من العبيد الذين أثاروا الفتنة، فأنكر ذلك، وغضب منه، وأصبح من الغد، وأظهر السلاح والعدد يريد قتال أهل البلد، فركب الفقهاء والأعيان والشبان من أهل البلد، وقاتلوه فهزموه، وتحصن بالقصر، فحصروه، وتسلقوا إليه، فهرب منهم بعد مشقة وتعب، فنهبوا القصر، وأحرقوا جميع دور المرابطين، ونهبوا أموالهم، وأخرجوهم من البلد على أقبح صورة.
واتصل الخبر بأمير المسلمين فكره ذلك واستعظمه، وجمع العساكر من صنهاجة، وزناتة، والبربر، وغيرهم، فاجتمع له منهم جمع عظيم، فعبر إليهم سنة خمس عشرة وخمسمائة، وحصر مدينة قرطبة، فقاتله أهلها قتال من يريد أن يحمي دمه وحريمه وماله، فلما رأى أمير المسلمين شدة قتالهم دخل السفراء بينهم، وسعوا في الصلح، فأجابهم إلى ذلك على أن يغرم أهل قرطبة المرابطين ما نهبوه من أموالهم، واستقرت القاعدة على ذلك، وعاد عن قتالهم.
ذكر ملك علي بن سكمان البصرةفي هذه السنة استولى علي بن سكمان على البصرة.
وسبب ذلك: أن السلطان محمداً كان قد أقطع البصرة الأمير آقسنقر البخاري، فاستخلف بها نائباً يعرف بسنقر البياتي، فأحسن السيرة إلى حد أن الماء بالبصرة ملح، فأقام سفناً وجراراً للضعفاء والسابلة، تحمل لهم الماء العذب. فلما توفي السلطان محمد عزم هذا الأمير سنقر على القبض على أمير اسمه غزغلي، مقدم الأتراك الإسماعيلية، وهو مذكور، وحج بالناس على البصرة عدة سنين، وعلى أمير آخر اسمه سنقر ألب، وهو مقدم الأتراك البلدقية، فاجتمعا عليه، وقبضاه وقيداه، وأخذا القلعة وما وجداه له.
ثم إن سنقر ألب أراد قتله، فمنعه غزغلي، فلم يقبل منه، فلما قتله وثب غزغلي على سنقر ألب فقتله، ونادى في الناس بالسكون، واطمأنوا.
وكان أمير الحاج من البصرة هذه السنة، أمير اسمه علي بن سكمان أحد الأمراء البلدقية، وكان في نفس غزغلي عليه حقد، حيث تم الحج على يده، ولأنه خاف أن يأخذ بثأر سنقر ألب، إذ هو مقدم البلدقية، فأرسل غزغلي إلى عرب البرية يأمرهم بقصد الحجاج ونهبهم، فطمعوا بذلك، وقصدوا الحجاج فقاتلوهم، وحماهم ابن سكمان، وأبلى بلاء حسناً، وجعل يقاتلهم وهو سائر نحو البصرة إلى أن بقي بينه وبين البصرة يومان، فأرسل إليه غزغلي يمنعه من قصد البصرة، فقصد العوني، أسفل دجلة، هذا، والعرب يقاتلونه، فلما وصل إلى العوني حمل على العرب حملة صادقة، فهزمهم.
وسار غزغلي إلى علي بن سكمان في عدد كثير، وكان علي في قلة، فتحاربا، واقتتلت الطائفتان، فأصابت فرس غزغلي نشابة فسقط وقتل، وسار علي إلى البصرة، فدخلها، وملك القلعة، وأقر عمال آقسنقر البخاري ونوابه، وكاتبه بالطاعة، وكان عند السلطان، وسأله أن يكون نائباً عنه بالبصرة، فلم يجبه آقسنقر إلى ذلك، فطرد حينئذ نواب آقسنقر، واستولى على البلد، وتصرف تصرُّف الأصحاب، مستبداً، واستقر فيه، وأحسن السيرة إلى سنة أربع عشرة، فسير السلطان محمود الأمير آقسنقر البخاري في عسكر إلى البصرة، فأخذها من علي بن سكمان.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة أمر السلطان سنجر بإعادة مجاهد الدين بهروز سجنكية العراق، وكان بها نائب دبيس بن صدقة، فعزل عنها.

وفيها، في ربيع الأول، توفي الوزير ربيب الدولة، وزير السلطان محمود، ووزر بعده الكمال السميرمي، وكان ولد ربيب الدولة، وزير المسترشد، فعزل، واستعمل بعده عميد الدولة أبو علي بن صدقة، ولقب جلال الدين، وهذا الوزير، وهو عماد الملك الوزير جلال الدين أبي الرضا صدقة، الذي وزر للراشد، والأتابك زنكي على ما نذكره.
وفيها ظهر قبر إبراهيم الخليل، وقبرا ولديه إسحاق ويعقوب، عليهم السلام، بالقرب من البيت المقدس، ورآهم كثير من الناس لم تبلَ أجسادهم، وعندهم في المغارة قناديل من ذهب وفضة، هكذا ذكره حمزة بن أسد التميمي في تاريخه، والله أعلم.
وفيها، في المحرم، توفي قاضي القضاة أبو الحسن علي بن محمد الدامغاني، ومولده في رجب سنة تسع وأربعين وأربعمائة، وولي القضاء بباب الطاق من بغداد إلى الموصل وله من العمر ست وعشرون سنة، وهذا شيء لم يكن لغيره، ولما توفي ولي قضاء القضاة الأكمل أبو القاسم علي بن أبي طالب الحسين بن محمد الزينبي، وخلع عليه ثالث صفر.
وفيها هدم تاج الخليفة على دجلة للخوف من انهدامه، وهذا التاج بناه أمير المؤمنين المكتفي بعد سنة تسعين ومائتين.
وفيها تأخر الحج، فاستغاث الناس، وأرادوا كسر المنبر بجامع القصر، فأرسل الخليفة إلى دبيس بن صدقة ليساعد الأمير نظر على تسيير الحجاج، فأجاب إلى ذلك، وكان خروجهم من بغداد ثاني عشر ذي القعدة، وتوالت عليهم الأمطار إلى الكوفة.
وفيها أرسل دبيس بن صدقة القاضي أبا جعفر عبد الواحد بن أحمد الثقفي، قاضي الكوفة، إلى إيلغازي بن أرتق بماردين، يخطب ابنته، فزوجها منه إيلغازي، وحملها الثقفي معه إلى الحلة، واجتاز بالموصل.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://arabelalekat.yoo7.com
الشيخ عودة
الشيخ عودة
الشيخ عودة



عدد المساهمات : 1748
تاريخ التسجيل : 28/09/2008
العمر : 74

كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير - صفحة 7 Empty
مُساهمةموضوع: رد: كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير   كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير - صفحة 7 Emptyالثلاثاء فبراير 25, 2014 11:29 am

وفيها، في جمادى الأولى، توفي أبو الوفا علي بن عقيل بن محمد بن عقيل، شيخ الحنابلة، في وقته، ببغداد، وكان حسن المناظرة، سريع الخاطر، وكان قد اشتغل بمذهب المعتزلة في حداثته على أبي الوليد، فأراد الحنابلة قتله، فاستجار بباب المراتب عدة سنين، ثم أظهر التوبة حتى تمكن من الظهور، وله مصنفات من جملتها كتاب الفنون.
ثم دخلت سنة أربع عشرة وخمسمائة
ذكر عصيان الملك مسعود على أخيه محمود
والحرب بينهما
في هذه السنة، في ربيع الأول، كان المصاف بين السلطان محمود وأخيه الملك مسعود، ومسعود حينئذ له الموصل وأذربيجان.
وكان سبب ذلك أن دبيس بن صدقة كان يكاتب جيوش بك أتابك مسعود، يحثه على طلب السلطنة للملك مسعود، ويعده المساعدة، وكان غرضه أن يختلفوا فينال من الجاه وعلو المنزلة ما ناله أبوه باختلاف السلطانين بركيارق ومحمد ابني ملكشاه على ما ذكرناه.
وكان قسيم الدولة البرسقي، أتابك الملك مسعود، قد فارق شحنكية بغداد، وقد أقطعه مسعود مراغة، مضافة إلى الرحبة، وبينه وبين دبيس عداوة محكمة، فكاتب دبيس جيوش بك يشير عليه بقبض البرسقي، وينسبه إلى الميل إلى السلطان محمود، وبذل له مالاً كثيراً على قبضه، فعلم البرسقي ذلك، ففارقهم إلى السلطان محمود، فأكرمه وأعلى محله وزاد في تقديمه.
واتصل الأستاذ أبو إسماعيل الحسين بن علي الأصبهاني الطغرائي بالملك مسعود، فكان ولده أبو المؤيد، محمد بن أبي إسماعيل، يكتب الطغراء مع الملك، فلما وصل والده استوزره مسعود، بعد أن عزل أبا علي بن عمار، صاحب طرابلس، سنة ثلاث عشرة بباب خوي، فحسن ما كان دبيس يكاتب به من مخالفة السلطان محمود والخروج عن طاعته.
وظهر ما هم عليه من ذلك، فبلغ السلطان محموداً الخبر، فكتب إليهم يخوفهم إن خالفوه، ويعدهم الإحسان إن أقاموا على طاعته وموافقته، فلم يصغوا إلى قوله، وأظهروا ما كانوا عليه، وما يسرونه، وخطبوا للملك مسعود بالسلطنة، وضربوا له النوب الخمس، وكان ذلك على تفرق من عساكر السلطان محمود، فقوي طمعهم، وأسرعوا السير إليه ليلقوه وهو مخفف من العساكر، فاجتمع إليه خمسة عشر ألفاً، فسار أيضاً إليهم، فالتقوا عند عقبة أسداباذ، منتصف ربيع الأول، واقتتلوا من بكرة إلى آخر النهار.

وكان البرسقي في مقدمة السلطان محمود، وأبلى يومئذ بلاء حسناً، فانهزم عسكر الملك مسعود، آخر النهار، وأسر منهم جماعة كثيرة من أعيانهم ومقدميهم، وأسر الأستاذ أبو إسماعيل وزير مسعود، فأمر السلطان بقتله، وقال: قد ثبت عندي فساد دينه واعتقاده، فكانت وزارته سنة وشهراً، وقد جاوز ستين سنة، وكان حسن الكتابة والشعر، يميل إلى صنعة الكيمياء، وله فيها تصانيف قد ضيعت من الناس أموالاً لا تحصى.
وأما الملك مسعود فإنه لما انهزم أصحابه وتفرقوا قصد جبلاً بينه وبين الوقعة اثنا عشر فرسخاً، فاختفى فيه ومعه غلمان صغار، فأرسل ركابية عثمان إلى أخيه يطلب له الأمان، فسار إلى السلطان محمود وأعلمه حال أخيه مسعود، فرق له، وبذل له الأمان، وأمر آقسنقر البرسقي بالمسير إليه، وتطييب قلبه، وإعلامه بعفوه عنه، وإحضاره، فكان مسعود بعد أن أرسل يطلب الأمان قد وصل بعض الأمراء إليه، وحسن له اللحاق بالموصل، وكانت له، ومعها أذربيجان، وأشار عليه بمكاتبة دبيس بن صدقة ليجتمع به، ويكثر جمعه، ويعاود طلب السلطنة، فسار معه من مكانه.
ووصل البرسقي فلم يره، فأخبر بمسيره، فسار في أثره، وعزم على طلبه ولو إلى الموصل، وجد في السير، فأدركه على ثلاثين فرسخاً من مكانه ذلك، وعرفه عفو أخيه عنه، وضمن له ما أراد، وأعاده إلى العسكر، فأمر السلطان محمود العساكر باستقباله وتعظيمه، ففعلوا ذلك، وأمر السلطان أن ينزل عند والدته، وجلس له، وأحضره، واعتنقا، وبكيا، وانعطف عليه محمود، ووفى له بما بذله، وخلطه بنفسه في كل أفعاله، فعد ذلك من مكارم محمود، وكانت الخطبة بالسلطنة لمسعود بأذربيجان، وبلد الموصل، والجزيرة، ثمانية وعشرين يوماً.
وأما أتابكه جيوش بك فإنه سار إلى عقبة أسادباذ، وانتظر الملك مسعوداً، فلم يره، وانتظر بمكان آخر، فلم يصل إليه، فلما أيس منه سار إلى الموصل، ونزل بظاهرها، وجمع الغلات من السواد إليها، واجتمع إليه عسكره، فلما سمع بما فعله السلطان مع أخيه، وأنه عنده، علم أنه لا مقام له على هذا الحال، فسار كأنه يريد الصيد، فوصل إلى الزاب، وقال لمن معه: إنني قد عزمت على قصد السلطان محمود، وأخاطر بنفسي، فسار إليه، فوصل وهو بهمذان، ودخل إليه، فطيب قلبه وأمنه، وأحسن إليه.
وأما دبيس بن مزيد فإنه كان بالعراق، فلما بلغه خبر انهزام الملك مسعود نهب البلاد وخربها، وفعل فيها الأفاعيل القبيحة، إلى أن أتاه رسول السلطان محمود، وطيب قلبه، فلم يلتفت.
ذكر حال دبيس وما كان منهلما كان منه ببغداد وسوادها من النهب والقتل والفساد ما لم يجر مثله، أرسل إليه الخليفة المسترشد بالله رسالة ينكر عليه، ويأمره بالكف، فلم يفعل، فأرسل إليه السلطان وطيب قلبه، وأمره بمنع أصحابه عن الفساد، فلم يقبل، وسار بنفسه إلى بغداد، وضرب سرادقه بإزاء دار الخلافة، وأظهر الضغائن التي في نفسه، وكيف طيف برأس أبيه، وتهدد الخليفة، وقال: إنك أرسلت تستدعي السلطان، فإن أعدتموه، وإلا فعلت وصنعت. فأعيد جواب رسالته: أن عود السلطان، وقد سار عن همذان، غير ممكن، ولكنا نصلح حالك معه.
وكان الرسول شيخ الشيوخ إسماعيل، فكف على أن تسير الرسل في الاتفاق بينه وبين السلطان، وعاد عن بغداد في رجب.
ووصل السلطان في رجب إلى بغداد، فأرسل دبيس زوجته ابنة عميد الدولة بن جهير إليه، ومعها مال كثير، وهدية نفيسة، وسأل الصفح عنه، فأجيب إلى ذلك على قاعدة امتنع منها، ولزم لجاجه، ونهب جشيراً للسلطان. فسار السلطان عن بغداد، في شوال، إلى قصد دبيس بالحلة، واستصحب ألف سفينة ليعبر فيها، فلما علم دبيس مسير السلطان أرسل يطلب الأمان، فأمنه، وكان قصده أن يغالطه ليتجهز، فأرسل نساءه إلى البطيحة، وأخذ أمواله وسار عن الحلة، بعد أن نهبها، إلى إيلغازي ملتجأً إليه، ووصل السلطان إلى الحلة، فلم ير أحداً، فبات بها ليلة واحدة وعاد.

وأقام دبيس عند إيلغازي، وتردد معه، ثم إنه أرسل أخاه منصوراً في جيش من قلعة جعبر إلى العراق، فنظر الحلة، والكوفة، وانحدر إلى البصرة، وأرسل إلى يرنقش الزكوي يسأله أن يصلح حاله مع السلطان، فلم يتم أمره، فأرسل إلى أخيه دبيس يعرفه ذلك، ويدعوه إلى العراق، فسار من قلعة جعبر إلى الحلة سنة خمس عشرة، فدخلها وملكها، وأرسل إلى الخليفة والسلطان يعتذر، ويعد من نفسه الطاعة، فلم يجب إلى ذلك.
وسيرت إليه العساكر، فلما قاربوه فارق الحلة، ودخل إلى الأزير، وهو نهر سنداد، ووصل العسكر إليها وهي فارغة قد أجلي أهلها عنها، وليس بها إقامة، فكانت الميرة تنقل من بغدد، وكان مقدم العسكر سعد الدولة يرنقش الزكوي، فترك بالحلة خمسمائة فارس، وبالكوفة جماعة أخرى تحفظ الطريق على دبيس، وأرسل إلى عسكر واسط يحفظ طريق البطيحة، ففعلوا ذلك، وعبر عسكر السلطان إلى دبيس، فبقي بين الطائفتين نهر يخاض فيه مواضع، فتراسل يرنقش ودبيس، واتفقا على أن يرسل دبيس أخاه منصوراً رهيناً، ويلازم الطاعة، ففعل، وعاد العسكر إلى بغداد سنة ست عشرة.
ذكر خروج الكرج إلى بلاد الإسلام وملك تفليسفي هذه السنة خرج الكرج، وهم الخزر، إلى بلاد الإسلام، وكانوا قديماً يغيرون، فامتنعوا أيام السلطان ملكشاه إلى آخر أيام السلطان محمد، فلما كانت هذه السنة خرجوا ومعهم قفجاق وغيرهم من الأمم المجاورة لهم، فتكاتب الأمراء المجاورون لبلادهم، واجتمعوا، منهم: الأمير إيلغازي، ودبيس بن صدقة، وكان عنده، والملك طغرل بن محمد، وأتابكه كنتغدي، وكان لطغرل بلد أران، ونقجوان إلى أرس، فاجتمعوا وساروا إلى الكرج، فلما قاربوا تفليس، وكان المسلمون في عسكر كثير يبلغون ثلاثين ألفاً، التقوا واصطفت الطائفتان للقتال، فخرج من القفجاق مائتا رجل، فظن المسلمون أنهم مستأمنون، فلم يحترزوا منهم، ودخلوا بينهم، ورموا بالنشاب، فاضطرب صف المسلمين، فظن من بعد أنها هزيمة، فانهزموا، وتبع الناس بعضهم بعضاً منهزمين، ولشدة الزحام صدم بعضهم بعضاً، فقتل منهم عالم عظيم.
وتبعهم الكفار عشرة فراسخ يقتلون ويأسرون، فقتل أكثرهم، وأسروا أربعة آلاف رجل، ونجا الملك طغرل، وإيلغازي، ودبيس، وعاد الكرج فنهبوا بلاد الإسلام، وحصروا مدينة تفليس، واشتد قتالهم لمن بها، وعظم الأمر، وتفاقم الخطب على أهلها، ودام الحصار إلى سنة خمس عشة فملكوها عنوة.
وكان أهلها لما أشرفوا على الهلاك قد أرسلوا قاضيها وخطيبها إلى الكرج في طلب الأمان، فلم تصغ الكرج إليهما فأخرقوا بهما، ودخلوا البلد قهراً وغلبة، واستباحوه ونهبوه، ووصل المستنفرون منهم إلى بغداد مستصرخين ومستنصرين سنة ست عشرة، فبلغهم أن السلطان محموداً بهمذان، فقصدوه واستغاثوا به فسار إلى أذربيجان، وأقام بمدينة تبريز شهر رمضان، وأنفذ عسكراً إلى الكرج، وسيرد ذكر ما كان منهم، إن شاء الله تعالى.
ذكر غزوات إيلغازي هذه السنةفي هذه السنة أرسل المسترشد بالله خلعاً مع سديد الدولة بن الأنباري لنجم الدين إيلغازي، وشكره على ما يفعله من غزو الفرنج، ويأمره بإبعاد دبيس عنه، وسار أبو علي بن عمار الذي كان صاحب طرابلس، مع ابن الأنباري إلى إيلغازي ليقيم عنده، يعبر الأوقات بما ينعم به عليه، فاعتذر عن إبعاد دبيس، ووعد به، ثم سار إلى الفرنج، وكان قد جمع لهم جمعاً، فالتقوا بموضع اسمه ذات البقل من أعمال حلب، فاقتتلوا، واشتد القتال، وكان الظفر له.
ثم اجتمع إيلغازي وأتابك طغتكين، صاحب دمشق، وحصروا الفرنج في معرة قنسرين يوماً وليلة، ثم أشار أتابك طغتكين بالإفراج عنهم، كيلا يحملهم الخوف على أن يستقتلوا ويخرجوا إلى المسلمين، فربما ظفروا، وكان أكثر خوفه من دبر خيل التركمان، وجودة خيل الفرنج، فأفرج لهم إيلغازي، فساروا عن مكانهم وتخلصوا، وكان إيلغازي لا يطيل المقام في بلد الفرنج لأنه كان يجمع التركمان للطمع، فيحضر أحدهم ومعه جراب فيه دقيق، وشاة، ويعد الساعات لغنيمة يتعجلها، ويعود، فإذا طال مقامهم تفرقوا، ولم يكن له من الأموال ما يفرقها فيهم.
ذكر ابتداء أمر محمد بن تومرت
وعبد المؤمن وملكهما

في هذه السنة كان ابتداء أمر المهدي أبي عبد الله محمد بن عبد الله بن تومرت العلوي، الحسني، وقبيلته من المصامدة، تعرف بهرغة في جبل السوس، من بلاد المغرب، نزلوا به لما فتحه المسلمون مع موسى بن نصير، ونذكر أمره وأمر عبد المؤمن هذه السنة إلى أن فرغ من ملك المغرب لنتبع بعض الحادثة بعضاً.
وكان ابن تومرت قد رحل في شبيبته إلى بلاد الشرق في طلب العلم، وكان فقيهاً، فاضلاً، عالماً بالشريعة، حافظاً للحديث، عارفاً بأصولي الدين والفقه، متحققاً بعلم العربية، وكان ورعاً، ناسكاً، ووصل في سفره إلى العراق، واجتمع بالغزالي، والكيا، واجتمع بأبي بكر الطرطوشي بالإسكندرية، وقيل إنه جرى له حديث مع الغزالي فيما فعله بالمغرب من التملك، فقال له الغزالي: إن هذا لا يتمشى في هذه البلاد، ولا يمكن وقوعه لأمثالنا.
كذا قال بعض مؤرخي المغرب، والصحيح أنه لم يجتمع به، فحج من هناك وعاد إلى المغرب، ولما ركب البحر من الإسكندرية، مغرباً، غير المنكر في المركب، وألزم من به بإقامة الصلاة، وقراءة القرآن، حتى انتهى إلى المهدية، وسلطانها حينئذ يحيى بن تميم، سنة خمس وخمسمائة، فنزل بمسجد قبلي مسجد السبت، وليس له سوى ركوة، وعصاً، وتسامع به أهل البلد، فقصدوه يقرأون عليه أنواع العلوم، وكان إذا مر به منكر غيره وأزاله، فلما كثر ذلك منه أحضره الأمير يحيى مع جماعة من الفقهاء، فلما رأى سمته وسمع كلامه أكرمه واحترمه، وسأله الدعاء.
ورحل عن المدينة وأقام بالمنستير مع جماعة من الصالحين، مدة، وسار إلى بجاية ففعل فيها مثل ذلك، فأخرج منها إلى قرية بالقرب منها اسمها ملالة، فلقيه بها عبد المؤمن بن علي، فرأى فيه من النجابة والنهضة ما تفرس فيه التقدم، والقيام بالأمر، فسأله عن اسمه وقبيلته، فأخبره أنه من قيس عيلان، ثم من بني سليم، فقال ابن تومرت: هذا الذي بشر به النبي، صلى الله عليه وسلم، حين قال: " إن الله ينصر هذا الدين، في آخر الزمان، برجل من قيس " ، فقيل: من أي قيس؟ فقال: " من بني سليم " . فاستبشر بعبد المؤمن وسر بلقائه، وكان مولد عبد المؤمن في مدينة تاجرة، من أعمال تلمسان، وهو عائذ، قبيل من كومرة، نزلوا بذلك الإقليم سنة ثمانين ومائة.
ولم يزل المهدي ملازماً للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في طريقه إلى أن وصل إلى مراكش دار مملكة أمير المسلمين يوسف بن تاشفين، فرأى فيها من المنكرات أكثر مما عاينه في طريقه، فزاد في أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، فكثر أتباعه، وحسنت ظنون الناس فيه، فبينما هو في بعض الأيام في طريقه، إذ رأى أخت أمير المسلمين في موكبها، ومعها من الجواري الحسان عدة كثيرة، وهن مسفرات، وكانت هذه عادة الملثمين يسفر نساؤهم عن وجوههن، ويتلثم الرجال، فحين رأى النساء كذلك أنكر عليهن، وأمرهن بستر وجوههن وضرب هو وأصحابه دوابهن، فسقطت أخت أمير المسلمين عن دابتها، فرفع أمره إلى أمير المسلمين علي بن يوسف، فأحضره، وأحضر الفقهاء ليناظروه، فأخذ يعظه ويخوفه، فبكى أمير المسلمين، وأمر أن يناظره الفقهاء، فلم يكن فيهم من يقوم له لقوة أدلته في الذي فعله.
وكان عند أمير المسلمين بعض وزرائه يقال له مالك بن وهيب، فقال: يا أمير المسلمين، إن هذا والله لا يريد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإنما يريد إثارة فتنة، والغلبة على بعض النواحي، فاقتله وقلدني دمه. فلم يفعل ذلك، فقال: إن لم تقتله فاحبسه، وخلده في السجن، وإلا أثار شراً لا يمكن تلافيه. فأراد حبسه، فمنعه رجل من أكابر الملثمين يسمى بيان بن عثمان، فأمر بإخراجه من مراكش، فسار إلى أغمات، ولحق بالجبل، فسار فيه، حتى التحق بالسوس الذي فيه قبيلة هرغة وغيرهم من المصامدة سنة أربع عشرة، فأتوه، واجتمعوا حوله.

وتسامع به أهل تلك النواحي، فوفدوا عليه، وحضر أعيانهم بين يديه، وجعل يعظهم، ويذكرهم بأيام الله، ويذكر لهم شرائع الإسلام، وما غير منها، وما حدث من الظلم والفساد، وأنه لا يجب طاعة دولة من هذه الدول لاتباعهم الباطل، بل الواجب قتالهم، ومنعهم عما هم فيه، فأقام على ذلك نحو سنة، وتابعته هرغة قبيلته، وسمى أتباعه الموحدين، وأعلمهم أن النبي صلى الله عليه وسلم، بشر بالمهدي الذي يملأ الأرض عدلاً، وأن مكانه الذي يخرج منه المغرب الأقصى، فقام إليه عشرة رجال، أحدهم عبد المؤمن، فقالوا لا يوجد هذا إلا فيك فأنت المهدي، فبايعوه على ذلك.
فانتهى خبره إلى أمير المسلمين، فجهز جيشاً من أصحابه وسيرهم إليه، فلما قربوا من الجبل الذي هو فيه قال لأصحابه: إن هؤلاء يريدونني، وأخاف عليكم منهم، فالرأي أن أخرج بنفسي إلى غير هذه البلاد لتسلموا أنتم. فقال له ابن توفيان من مشايخ هرغة: هل تخاف شيئاً من السماء؟ فقال: لا، بل من السماء تنصرون، فقال ابن توفيان: فليأتنا كل من في الأرض. ووافقه جميع قبيلته، فقال المهدي: أبشروا بالنصر بهذه الشرذمة، وبعد قليل تستأصلون دولتهم، وترثون أرضهم. فنزلوا من الجبل، ولقوا جيش أمير المسلمين، فهزموهم، وأخذوا أسلابهم، وقوي ظنهم في صدق المهدي، حيث ظفروا كما ذكر لهم.
وأقبلت إليه أفرواج القبائل، من الحلل التي حوله، شرقاً وغرباً، وبايعوه، وأطاعته قبيلة هنتانة، وهي من أقوى القبائل، فأقبل عليهم، واطمأن إليهم، وأتاه رسل أهل تين ملل بطاعتهم، وطلبوه إليهم، فتوجه إلى جبل تين ملل واستوطنه، وألف لهم كتاباً في التوحيد، وكتاباً في العقيدة، ونهج لهم طريق الأدب بعضهم مع بعض، والاقتصار على القصير من الثياب، القليل الثمن، وهو يحرضهم على قتال عدوهم، وإخراج الأشرار من بين أظهرهم.
وأقام بتين ملل وبنى له مسجداً خارج المدينة، فكان يصلي فيه وجمع ممن معه عنده، ويدخل البلد بعد العشاء الآخرة، فلما رأى كثرة أهل الجبل، وحصانة المدينة، خاف أن يرجعوا عنه، فأمرهم أن يحضروا بغير سلاح، ففعلوا ذلك عدة أيام، ثم أمر أصحابه أن يقتلوهم، فخرجوا عليهم وهم غارون فقتلوهم في ذلك المسجد، ثم دخل المدينة فقتل فيها وأكثر، وسبى الحريم ونهب الأموال، فكان عدة القتلى خمسة عشر ألفاً، وقسم المساكن والأرض بين أصحابه، وبنى على المدينة سوراً، وقلعة على رأس جبل عال.
وفي جبل تين ملل أنهار جارية، وأشجار، وزروع، والطريق إليه صعب، فلا جبل أحصن منه، وقيل: إنه لما خاف أهل تين ملل نظر، فرأى كثير من أولادهم شقراً زرقاً، والذي يغلب على الآباء السمرة، وكان لأمير المسلمين عدة كثيرة من المماليك الفرنج والروم، ويغلب على ألوانهم الشقرة، وكانوا يصعدون الجبل في كل عام مرة، ويأخذون ما لهم فيه من الأموال المقررة لهم من جهة السلطان، فكانوا يسكنون بيوت أهله، ويخرجون أصحابها منها، فلما رأى المهدي أولادهم سألهم: مالي أراكم سمر الألوان، وأرى أولادكم شقراً، زرقاً؟ فأخبروه خبرهم مع مماليك أمير المسلمين، فقبح الصبر على هذا، وأزرى عليهم، وعظم الأمر عندهم، فقالوا له: فكيف الحيلة في الخلاص منهم، وليس لنا بهم قوة؟ فقال: إذا حضروا عندكم في الوقت المعتاد، وتفرقوا في مساكنهم، فليقم كل رجل منكم إلى نزيله فيقتله، واحفظوا جبلكم، فإنه لا يرام ولا يقدر عليه. فصبروا حتى حضر أولئك العبيد، فقتلوهم على ما قرر لهم المهدي، فلما فعلوا ذلك خافوا على نفوسهم من أمير المسلمين، فامتنعوا في الجبل، وسدوا ما فيه من طريق يسلك إليهم، فقويت نفس المهدي بذلك.
ثم إن أمير المسلمين أرسل إليهم جيشاً قوياً، فحصروهم في الجبل، وضيقوا عليهم، ومنعوا عنهم الميرة، فقلت عند أصحاب المهدي الأقوات، حتى صار الخبز معدوماً عندهم، وكان يطبخ لهم كل يوم من الحساء ما يكفيهم، فكان قوت كل واحد منهم أن يغمس يده في ذلك الحساء ويخرجها، فما علق عليها قنع به ذلك اليوم، فاجتمع أعيان أهل تين مل، وأرادوا إصلاح الحال مع أمير المسلمين، فبلغ الخبر بذلك المهدي بن تومرت، وكان معه إنسان يقال له أبو عبد الله الونشريشي، يظهر البله، وعدم المعرفة بشيء من القرآن والعلم، وبزاقه يجري على صدره، وهو كأنه معتوه، ومع هذا فالمهدي يقربه، ويكرمه، ويقول: إن لله سراً في هذا الرجل سوف يظهر.

وكان الونشريشي يلزم الاشتغال بالقرآن والعلم في السر بحيث لا يعلم أحد ذلك منه، فلما كان سنة تسع عشرة وخاف المهدي من أهل الجبل، خرج يوماً لصلاة الصبح، فرأى إلى جانب محرابه إنساناً حسن الثياب، طيب الريح، فأظهر أنه لا يعرفه، وقال: من هذا؟ فقال: أنا أبو عبد الله الونشريشي! فقال له المهدي: إن أمرك لعجب! ثم صلى، فلما فرغ من صلاته نادى في الناس فحضروا، فقال: إن هذا الرجل يزعم أنه الونشريشي، فانظروه، وحققوا أمره. فلما أضاء النهار عرفوه، فقال له المهدي: ما قصتك؟ قال: إنني أتاني الليلة ملك من السماء، فغسل قلبي، وعلمني الله القرآن، والموطأ، وغيره من العلوم والأحاديث. فبكى المهدي بحضرة الناس، ثم قال له: نحن نمتحنك، فقال: افعل.
وابتدأ يقرأ القرآن قراءة حسنة من أي موضع سئل، وكذلك الموطأ، وغيره من كتب الفقه والأصول، فعجب الناس من ذلك، واستعظموه.
ثم قال لهم: إن الله تعالى قد أعطاني نوراً أعرف به أهل الجنة من أهل النار، وآمركم أن تقتلوا أهل النار، وتتركوا أهل الجنة، وقد أنزل الله تعالى ملائكة إلى البئر التي في المكان الفلاني يشهدون بصدقي.
فسار المهدي، والناس معه وهم يبكون، إلى تلك البئر، وصلى المهدي عند رأسها، وقال: يا ملائكة الله، إن أبا عبد الله الونشريشي قد زعم كيت وكيت، فقال من بها: صدق! وكان قد وضع فيها رجالاً يشهدون بذلك، فلما قيل ذلك من البئر، قال المهدي: إن هذه مطهرة مقدسة قد نزل إليها الملائكة، والمصلحة أن تطم لئلا يقع فيها نجاسة، أو ما لا يجوز، فألقوا فيها من الحجارة والتراب ما طمها، ثم نادى في أهل الجبل بالحضور إلى ذلك المكان، فحضروا للتمييز، فكان الونشريشي يعمد إلى الرجل الذي يخاف ناحيته، فيقول: هذا من أهل النار، فيلقى من الجبل مقتولاً، وإلى الشاب الغر، ومن لا يخشى، فيقول: هذا من أهل الجنة، فيترك على يمينه، فكان عدة القتلى سبعين ألفاً. فلما فرغ من ذلك أمن على نفسه وأصحابه واستقام أمره.
هكذا سمعت جماعة من فضلاء المغاربة يذكرون في التمييز، وسمعت منهم من يقول: إن ابن تومرت لما رأى كثرة أهل الشر والفساد في أهل الجبل، أحضر شيوخ القبائل، وقال لهم: إنكم لا يصح لكم دين، ولا يقوى إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإخراج المفسد من بينكم، فابحثوا عن كل ما عندكم من أهل الشر والفساد، فانهوهم عن ذلك، فإن انتهوا، وإلا فاكتبوا أسماءهم وارفعوها إلي لأنظر في أمرهم. ففعلوا ذلك، وكتبوا له أسماءهم من كل قبيلة، ثم أمرهم بذلك مرة ثانية، وثالثة، ثم جمع المكتوبات فأخذه منها ما تكرر من الأسماء فأثبتها عنده، ثم جمع الناس قاطبة، ورفع الأسماء التي كتبها، ودفعها إلى الونشريشي المعروف بالبشير، وأمره أن يعرض القبائل، ويجعل أولئك المفسدين في جهة الشمال، ومن عداهم في جهة اليمين، ففعل ذلك، وأمر أن يكتف من على شمال الونشريشي، فكتفوا، وقال: إن هؤلاء أشقياء قد وجب قتلهم، وأمر كل قبيلة أن يقتلوا أشقياءهم، فقتلوا عن آخرهم فكان يوم التمييز.
ولما فرغ ابن تومرت من التمييز، رأى أصحابه الباقين على نيات صادقة، وقلوب متفقة على طاعته، فجهز منهم جيشاً وسيرهم إلى جبال أغمات، وبها جمع من المرابطين، فقاتلوهم، فانهزم أصحاب ابن تومرت، وكان أميرهم أبو عبد الله الونشريشي، وقتل منهم كثير، وجرح عمر الهنتاتي، وهو من أكبر أصحابه، وسكن حسه ونبضه، فقالوا: مات! فقال الونشريشي: أما إنه لم يمت، ولا يموت حتى يملك البلاد. فبعد ساعة فتح عينيه، وعادت قوته إليه، فافتتنوا به، وعادوا منهزمين إلى ابن تومرت، فوعظهم، وشكرهم على صبرهم.
ثم لم يزل بعدها يرسل السرايا في أطراف بلاد المسلمين، فإذا رأوا عسكراً تعلقوا بالجبل فأمنوا. وكان المهدي قد رتب أصحابه مراتب، فالأولى يسمون أيت عشرة يعني أهل عشرة، وأولهم عبد المؤمن، ثم أبو حفص الهنتاتي، وغيرهما، وهم أشرف أصحابه، وأهل الثقة عنده، والسابقون إلى متابعته، والثانية: أيت خمسين، يعني أهل خمسين، وهم دون تلك الطبقة، وهم جماعة من رؤساء القبائل، والثالثة: أيت سبعين، يعني أهل سبعين، وهم دون التي قبلها، وسمي عامة أصحابه والداخلين في طاعته موحدين، فإذا ذكر الموحدون في أخبارهم فإنما يعنى أصحابه وأصحاب عبد المؤمن بعده.

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://arabelalekat.yoo7.com
الشيخ عودة
الشيخ عودة
الشيخ عودة



عدد المساهمات : 1748
تاريخ التسجيل : 28/09/2008
العمر : 74

كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير - صفحة 7 Empty
مُساهمةموضوع: رد: كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير   كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير - صفحة 7 Emptyالثلاثاء فبراير 25, 2014 11:31 am

ولم يزل أمر ابن تومرت يعلو إلى سنة أربع وعشرين، فجهز المهدي جيشاً كثيفاً يبلغون أربعين ألفاً، أكثرهم رجالة، وجعل عليهم الونشريشي، وسير معهم عبد المؤمن، فنزلوا وساروا إلى مراكش فحصروها، وضيقوا عليها، وبها أمير المسلمين علي بن يوسف، فبقي الحصار عليها عشرين يوماً، فأرسل أمير المسلمين إلى متولي سجلماسة يأمره أن يحضر ومعه الجيوش، فجمع جيشاً كثيراً وسار، فلما قارب عسكر المهدي خرج أهل مراكش من غير الجهة التي أقبل منها، فاقتتلوا، واشتد القتال، وكثر القتل في أصحاب المهدي، فقتل الونشريشي أميرهم، فاجتمعوا إلى عبد المؤمن وجعلوه أميراً عليهم.
ولم يزل القتال بينهم عامة النهار، وصلى عبد المؤمن صلاة الخوف، الظهر والعصر، والحرب قائمة، ولم تصل بالمغرب قبل ذلك، فلما رأى المصامدة كثرة المرابطين، وقوتهم، أسندوا ظهورهم إلى بستان كبير هناك، والبستان يسمى عندهم البحيرة، فلهذا قيل وقعة البحيرة، وعام البحيرة، وصاروا يقاتلون من جهة واحدة إلى أن أدركهم الليل، وقد قتل من المصامدة أكثرهم، وحين قتل الونشريشي دفنه عبد المؤمن، فطلبه المصامدة، فلم يروه في القتلى، فقالوا: رفعته الملائكة، ولما جنهم الليل سار عبد المؤمن ومن سلم من القتلى إلى الجبل.
ذكر وفاة المهدي وولاية عبد المؤمنلما سير الجيش إلى حصار مراكش مرض مرضاً شديداً، فلما بلغه خبر الهزيمة اشتد مرضه، وسأل عن عبد المؤمن، فقيل: هو سالم، فقال: ما مات أحد، الأمر قائم، وهو الذي يفتح البلاد. ووصى أصحابه باتباعه، وتقديمه، وتسليم الأمر إليه، والانقياد له، ولقبه أمير المؤمنين.
ثم مات المهدي، وكان عمره إحدى وخمسين سنة، وقيل: خمساً وخمسين سنة، ومدة ولايته عشرين سنة، وعاد عبد المؤمن إلى تين ملل، وأقام بها يتألف القلوب، ويحسن إلى الناس، وكان جواداً مقداماً في الحروب، ثابتاً في الهزاهز، إلى أن دخلت سنة ثمان وعشرين وخمسمائة، فتجهز وسار في جيش كثير، وجعل يمشي مع الجبل إلى أن وصل إلى تادلة، فمانعه أهلها، وقاتلوه، فقهرهم، وفتحها وسائر البلاد التي تليها ومشى في الجبال يفتح ما امتنع عليه، وأطاعته صنهاجة الجبل.
وكان أمير المسلمين قد جعل ولي عهده ابنه سير، فمات، فأحضر أمير المسلمين ابنه تاشفين من الأندلس، وكان أميراً عليها، فلما حضر عنده جعله ولي عهده سنة إحدى وثلاثين، وجعل معه جيشاً، وصار يمشي في الصحراء قبالة عبد المؤمن في الجبال.
وفي سنة اثنتين وثلاثين كان عبد المؤمن في النواظر، وهو جبل عال مشرف، وتاشفين في الوطأة، وكان يخرج من الطائفتين قوم يترامون ويتطاردون، ولم يكن بينهما لقاء، ويسمى عام النواظر.
وفي سنة ثلاث وثلاثين توجه عبد المؤمن، مع الجبل، في الشعراء، حتى انتهى إلى جبل كرناطة، فنزل في أرض صلبة، بين شجر، ونزل تاشفين قبالته، في الوطأة، في أرض لا نبات فيها، وكان الفصل شاتياً، فتوالت الأمطار أياماً كثيرة لا تقلع، فصارت الأرض التي فيها تاشفين وأصحابه كثيرة الوحل، تسوخ فيها قوائم الخيل إلى صدورها، ويعجز الرجل عن المشي فيها، وتقطعت الطرق عنهم، فأوقدوا رماحهم، وقرابيس سروجهم، وهلكوا جوعاً وبرداً وسوء حال.
وكان عبد المؤمن وأصحابه في أرض خشنة صلبة في الجبل، لا يبالون بشيء، والميرة متصلة إليهم، وفي ذلك الوقت سير عبد المؤمن جيشاً إلى وجرة من أعمال تلمسان، ومقدمهم أبو عبد الله محمد بن رقو، وهو من أيت خمسين، فبلغ خبرهم إلى محمد بن يحيى بن فانوا، متولي تلمسان، فخرج في جيش من الملثمين، فالتقوا بموضع يعرف بخندق الخمر، فهزمهم جيش عبد المؤمن، وقتل محمد بن يحيى وكثير من أصحابه، وغنموا ما معهم ورجعوا، فتوجه عبد المؤمن بجميع جيشه إلى غمارة، فأطاعوه قبيلة بعد قبيلة، وأقام عندهم مدة.
وما برح يمشي في الجبال، وتاشفين يحاذيه في الصحاري، فلم يزل عبد المؤمن كذلك إلى سنة خمس وثلاثين، فتوفي أمير المسلمين علي بن يوسف بمراكش وملك بعده ابنه تاشفين، فقوي طمع عبد المؤمن في البلاد، إلا أنه لم ينزل الصحراء.

وفي سنة ثمان وثلاثين توجه عبد المؤمن إلى تلمسان، فنازلها، وضرب خيامه في جبل بأعلاها، ونزل تاشفين على الجانب الآخر من البلد، وكان بينهم مناوشة، فبقوا كذلك إلى سنة تسع وثلاثين، فرحل عبد المؤمن عنها إلى جبل تاجرة، ووجه جيشاً مع عمر الهنتاتي إلى مدينة وهران، فهاجمها بغتة، وحصل هو وجيشه فيها، فسمع بذلك تاشفين فسار إليها، فخرج منها عمر، ونزل تاشفين بظاهر وهران، على البحر، في شهر رمضان سنة تسع وثلاثين، فجاءت ليلة سبع وعشرين منه، وهي ليلة يعظمها أهل المغرب، وبظاهر وهران ربوة مطلة على البحر، وبأعلاها ثنية يجتمع فيها المتعبدون، وهو موضع معظم عندهم، فسار إليه تاشفين في نفر يسير من أصحابه متخفياً، لم يعلم به إلا النفر الذين معه، وقصد التبرك بحضور ذلك الموضع مع أولئك الجماعة الصالحين، فبلغ الخبر إلى عمر بن يحيى الهنتاتي، فسار لوقته بجميع عسكره إلى ذلك المتعبد، وأحاطوا به، وملكوا الربوة، فلما خاف تاشفين على نفسه أن يأخذوه ركب فرسه وحمل عليه إلى جهة البحر، فسقط من جرف عال على الحجارة فهلك، ورفعت جثته على خشبة، وقتل كل من كان معه.
وقيل إن تاشفين قصد حصناً هناك على رابية، وله فيه بستان كبير فيه من كل الثمار، فاتفق أن عمر الهنتاتي، مقدم عسكر عبد المؤمن، سير سرية إلى ذلك الحصن، يعلمهم بضعف من فيه، ولم يعلموا أن تاشفين فيه، فألقوا النار في بابه فاحترق، فأراد تاشفين الهرب، فركب فرسه، فوثب الفرس من داخل الحصن إلى خارج السور، فسقط في النار، فأخذ تاشفين، فاعترف، فأرادوا حمله إلى عبد المؤمن، فمات في الحال لأن رقبته كانت قد اندقت، فصلب، وقتل كل من معه، وتفرق عسكره ولم يعد لهم جماعة. وملك بعده أخوه إسحاق بن علي بن يوسف.
ولما قتل تاشفين أرسل عمر إلى عبد المؤمن بالخبر، فجاء من تاجَرة في يومه بجميع عسكره، وتفرق عسكر أمير المسلمين، واحتمى بعضهم بمدينة وهران، فلما وصل عبد المؤمن دخلها بالسيف، وقتل فيها ما لا يحصى. ثم سار إلى تلمسان، وهما مدينتان بينهما شوط فرس، إحداهما تاهرت، وبها عسكر المسلمين، والأخرى أقادير، وهي بناء قديم، فامتنعت أقادير، وغلقت أبوابها، وتأهب أهلها للقتال.
وأما تاهرت، فكان فيها يحيى بن الصحراوية، فهرب منها بعسكره إلى مدينة فاس، وجاء عبد المؤمن إليها، فدخلها لما فر منها العسكر، ولقيه أهلها بالخضوع والاستكانة، فلم يقبل منهم ذلك، وقتل أكثرهم، ودخلها عسكره، ورتب أمرها، ورحل عنها، وجعل على أقادير جيشاً يحصرها، وسار إلى مدينة فاس سنة أربعين فنزل على جبل مطل عليها، وحصرها تسعة أشهر، وفيها يحيى بن الصحراوية، وعسكره الذين فروا من تلمسان، فلما طال مقام عبد المؤمن عمد إلى نهر يدخل البلد فسكره بالأخشاب والتراب وغير ذلك، فمنعه من دخول البلد، وصار بحيرة تسير فيها السفن، ثم هدم السكر، فجاء الماء دفعة واحدة فخرب سور البلد، وكل ما يجاور النهر من البلد، وأراد عبد المؤمن أن يدخل البلد، فقاتله أهله خارج السور، فتعذر عليه ما قدره من دخوله.
وكان بفاس عبد الله بن خيار الجياني عاملاً عليها وعلى جميع أعمالها، فاتفق هو وجماعة من أعيان البلد، وكاتبوا عبد المؤمن في طلب الأمان لأهل فاس، فأجابهم إليه، ففتحوا له باباً من أبوبها، فدخلها عسكره، وهرب يحيى بن الصحراوية، وكان فتحها آخر سنة أربعين وخمسمائة، وسار إلى طنجة، ورتب عبد المؤمن أمر مدينة فاس، وأمر فنودي في أهلها: من ترك عنده سلاحاً وعدة قتال حل دمه، فحمل كل من في البلد ما عندهم من سلاح إليه، فأخذه منهم.
ثم رجع إلى مكناسة، ففعل بأهلها مثل ذلك، وقتل من بها من الفرسان والأجناد. وأما العسكر الذي كان على تلمسان فإنهم قاتلوا أهلها، ونصبوا المجانيق، وأبراج الخشب، وزحفوا بالدبابات، وكان المقدم على أهلها الفقيه عثمان، فدام الحصار نحو سنة، فلما اشتد الأمر على أهل البلد اجتمع جماعة منهم وراسلوا الموحدين أصحاب عبد المؤمن، بغير علم الفقيه عثمان، وأدخلوهم البلد، فلم يشعر أهله إلا والسيف يأخذهم، فقتل أكثر أهله، وسبيت الذرية والحريم، ونهب من الأموال ما لا يحصى، ومن الجوهر ما لا تحد قيمته، ومن لم يقتل بيع بأوكس الأثمان، وكان عدة القتلى مائة ألف قتيل، وقيل: إن عبد المؤمن هو الذي حصر تلمسان، وسار منها إلى فاس، والله أعلم.

وسير عبد المؤمن سرية إلى مكناسة، فحصروها مدة، ثم سلمها إليهم أهلها بالأمان فوفوا لهم.
وسار عبد المؤمن من فاس إلى مدينة سلا ففتحها، وحضر عنده جماعة من أعيان سبتة، فدخلوا في طاعته، فأجابهم إلى بذل الأمان، وكان ذلك سنة إحدى وأربعين.
ذكر ملك عبد المؤمن مدينة مراكشلما فرغ عبد المؤمن من فاس، وتلك النواحي، سار إلى مراكش، وهي كرسي مملكة الملثمين، وهي من أكبر المدن وأعظمها، وكان صاحبها حينئذ إسحاق بن علي بن يوسف بن تاشفين، وهو صبي، فنازلها، وكان نزوله عليها سنة إحدى وأربعين، فضرب خيامه في غربيها على جبل صغير، وبنى عليه مدينة له ولعسكره، وبنى بها جامعاً وبنى له بناء عالياً يشرف منه على المدينة، ويرى أحوال أهلها، وأحوال المقاتلين من أصحابه، وقاتلها قتالاً كثيراً، وأقام عليها أحد عشر شهراً، فكان من بها من المرابطين يخرجون يقاتلونهم بظاهر البلد، واشتد الجوع على أهله، وتعذرت الأقوات عندهم.
ثم زحف إليهم يوماً، وجعل لهم كميناً، وقال لهم: إذا سمعتم صوت الطبل فاخرجوا، وجلس هو بأعلى المنظرة التي بناها يشاهد القتال، وتقدم عسكره، وقاتلوا، وصبروا، ثم إنهم انهزموا لأهل مراكش ليتبعوهم إلى الكمين الذي لهم، فتبعهم الملثمون إلى أن وصلوا إلى مدينة عبد المؤمن، فهدموا أكثر سورها، وصاحت المصامدة بعبد المؤمن ليأمر بضرب الطبل ليخرج الكمين، فقال لهم: اصبروا حتى يخرج كل طامع في البلد، فلما خرج أكثر أهله أمر بالطبل فضرب وخرج الكمين عليهم، ورجع المصامدة المنهزمون إلى الملثمين فقتلوهم كيف شاءوا، وعادت الهزيمة على الملثمين، فمات في زحمة الأبواب ما لا يحصيه إلا الله سبحانه.
وكان شيوخ الملثمين يدبرون دولة إسحاق بن علي بن يوسف لصغر سنة، فاتفق أن إنساناً من جملتهم يقال له عبد الله بن أبي بكر خرج إلى عبد المؤمن مستأمناً وأطلعه على عوراتهم وضعفهم، فقوي الطمع فيهم، واشتد عليهم البلاء، ونصب عليهم المنجنيقات والأبراج، وفنيت أقواتهم، وأكلوا دوابهم، ومات من العامة بالجوع ما يزيد على مائة ألف إنسان، فأنتن البلد من ريح الموتى.
وكان بمراكش جيش من الفرنج كان المرابطون قد استنجدوا بهم، فجاءوا إليهم نجدة، فلما طال عليهم الأمر راسلوا عبد المؤمن يسألون الأمان، فأجابهم إليه، ففتحوا له باباً من أبواب البلد يقال له باب أغمات، فدخلت عساكره بالسيف، وملكوا المدينة عنوة، وقتلوا من وجدوا، ووصلوا إلى دار أمير المسلمين، فأخرجوا الأمير إسحاق وجميع من معه من أمراء المرابطين، فقتلوا، وجعل إسحاق يرتعد رغبة في البقاء، ويدعو لعبد المؤمن ويبكي، فقام إليه الأمير سير بن الحاج، وكان إلى جانبه مكتوفاً، فبزق في وجهه، وقال: تبكي على أبيك وأمك؟ اصبر صبر الرجال، فهذا رجل لا يخاف الله ولا يدين بدين. فقام الموحدون إليه بالخشب فضربوه حتى قتلوه، وكان من الشجعان المعروفين بالشجاعة، وقدم إسحاق، على صغر سنه، فضربت عنقه سنة اثنتين وأربعين، وآخر ملوك المرابطين وبه انقرضت دولتهم، وكانت مدة ملكهم سبعين سنة، وولي منهم أربعة: يوسف وعلي وتاشفين وإسحاق.
ولما فتح عبد المؤمن مراكش أقام بها، واستوطنها واستقر ملكه. ولما قتل عبد المؤمن من أهل مراكش فأكثر فيهم القتل اختفى كثير من أهلها، فلما كان بعد سبعة أيام أمر فنودي بأمان من بقي من أهلها، فخرجوا، فأراد أصحابه المصامدة قتلهم، فمنعهم، وقال: هؤلاء صناع، وأهل الأسواق من ننتفع به، فتركوا، وأمر بإخراج القتلى من البلد، فأخرجوهم، وبنى بالقصر جامعاً كبيراً، وزخرفه فأحسن عمله، وأمر بهدم الجامع الذي بناه أمير المسلمين يوسف بن تاشفين.
ولقد أساء يوسف بن تاشفين في فعله بالمعتمد بن عباد، وارتكب بسجنه على الحالة المذكورة أقبح مركب، فلا جرم سلط الله عليه في عقابه من أربى في الأخذ عليه وزاد، فتبارك الحي الدائم الملك، الذي لا يزول ملكه، وهذه سنة الدنيا، فأف لها، ثم أف، نسأل الله أن يختم أعمالنا بالحسنى، ويجعل خير أيامنا يوم نلقاه بمحمد وآله.
ذكر ظفر عبد المؤمن بدكالة

في سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة سار بعض المرابطين من الملثمين إلى دكالة، فاجتمع إليه قبائلها، وصاروا يغيرون على أعمال مراكش، وعبد المؤمن لا يلتفت إليهم، فلما كثر ذلك منهم سار إليهم سنة أربع وأربعين، فلما سمعت دكالة بذلك انحشروا كلهم إلى ساحل البحر في مائتي ألف راجل وعشرين ألف فارس، وكانوا موصوفين بالشجاعة.
وكان مع عبد المؤمن من الجيوش ما يخرج عن الحصر، وكان الموضع الذي فيه دكالة كثير الحجر والحزونة، فكمنوا فيه كمناء ليخرجوا على عبد المؤمن إذا سلكه، فمن الاتفاق الحسن له أنه قصدهم من غير الجهة التي فيها الكمناء، فانحل عليهم ما قدروه، وفارقوا ذلك الموضع، فأخذهم السيف، فدخلوا البحر، فقتل أكثرهم، وغنمت إبلهم وأغنامهم وأموالهم، وسبيت نساؤهم وذراريهم، فبيعت الجارية الحسناء بدراهم يسيرة، وعاد عبد المؤمن إلى مراكش مظفراً منصوراً، وثبت ملكه، وخافه الناس في جميع المغرب، وأذعنوا له بالطاعة.
ذكر حصر مدينة كتندةفي هذه السنة، يعني سنة أربع عشرة وخمسمائة، وخرج ملك من ملوك الفرنج بالأندلس، يقال له ابن ردمير، فسار حتى انتهى إلى كتندة، وهي بالقرب من مرسية، في شرق الأندلس، فحصرها، وضيق على أهلها، وكان أمير المسلمين علي بن يوسف حينئذ بقرطبة، ومعه جيش كثير من المسلمين والأجناد المتطوعة، فسيرهم إلى ابن ردمير، فالتقوا واقتتلوا أشد القتال، وهزمهم ابن أردمير هزيمة منكرة، وكثر القتل في المسلمين، وكان فيمن قتل أبو عبد الله بن الفراء، قاضي المرية، وكان من العلماء العاملين، والزهاد في الدنيا العادلين في القضاء.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة كسر بلك بن أرتق عفراس الرومي، وقتل من الروم خمسة آلاف رجل على قلعة سرمان من بلد الدكان وأسر عفراس وكثير من عسكره.
وفيها أغار جوسلين الفرنجي، صاحب الرها، على جيوش العرب والتركمان، وكانوا نازلين بصفين، غربي الفرات، وغنم من أموالهم وخيلهم ومواشيهم شيئاً كثيراً، ولما عاد خرب بزاعة.
وفيها تسلم أتابك طغتكين، صاحب دمشق، مدينة تدمر والشقيف.
وفيها أمر السلطان محمود الأمير جيوش بك بالمسير إلى حرب أخيه طغرل، فسار إليه، فسمع طغرل وأتابكه كنتغدي ذلك، فسارا إلى كنجة من بين يدي العسكر، ولم يجر قتال.
وفيها، في المحرم، توفي خالصة الدولة أبو البركات أحمد بن عبد الوهاب بن السيبي صاحب المخزن ببغداد، وولي مكانه الكمال أبو الفتوح حمزة بن طلحة، المعروف بابن البقشلام، والد علم الدين الكاتب المعروف.
وفي جمادى الأولى منها توفي أبو سعد عبد الرحيم بن عبد الكريم بن هوزان القشيري، الإمام ابن الإمام، وكان أخذ العلم من قرابته، والطريقة أيضاً، ثم استفاد أيضاً من إمام الحرمين أبي المعالي الجويني، وسمع الحديث من جماعة، ورواه، وكان حسن الوعظ، سريع الخاطر، ولما توفي جلس الناس في البلاد البعيدة للعزاء به، حتى في بغداد برباط شيخ الشيوخ.
ثم دخلت سنة خمس عشرة وخمسمائة
ذكر إقطاع البرسقي الموصل
في هذه السنة، في صفر، أقطع السلطان محمود مدينة الموصل وأعمالها، وما ينضاف إليها، كالجزيرة، وسنجار، وغيرهما، الأمير آقسنقر البرسقي.
وسبب ذلك: أنه كان في خدمة السلطان محمود، ناصحاً له، ملازماً له في حروبه كلها، وكان له الأثر الحسن في الحرب المذكورة بين السلطان محمود وأخيه الملك مسعود، وهو الذي أحضر الملك مسعوداً عند أخيه السلطان محمود، فعظم ذلك عند السلطان محمود، ولما حضر جيوش بك عند السلطان محمود وبقيت الموصل بغير أمير ولي عليها البرسقي، وتقدم إلى سائر الأمراء بطاعته، وأمره بمجاهدة الفرنج وأخذ البلاد منهم، فسار إليها في عسكر كثير وملكها، وأقام بطاعته، وأمره بمجاهدة الفرنج وأخذ البلاد منهم، فسار إليها في عسكر كثير وملكها، وأقام يدبر أمورها، ويصلح أحوالها.
ذكر وفاة الأمير علي وولاية ابنه الحسن إفريقية

في هذه السنة توفي الأمير علي بن يحيى بن تميم، صاحب إفريقية، في العشر الأخير من ربيع الآخر، وكان مولده بالمهدية، وقد تقدم من حروبه وأعماله ما يستدل به على علو همته، ولما توفي ولي الملك بعده ابنه الحسن، بعهد أبيه، وقام بأمر دولته صندل الخصي، لأنه كان عمره حينئذ اثنتي عشرة سنة لا يستقل بتدبير الملك، فقام صندل في الحفظ والاحتياط، فلم تطل أيامه حتى توفي، فوقع الاختلاف بين أصحابه وقواده، كل منهم يقول: أنا المقدم على الجميع، وبيدي الحل والشد، فلم يزالوا كذلك إلى أن فوض أمور دولته إلى قائد من أصحاب أبيه يقال له أبو عزيز موفق، فصلحت الأمور.
ذكر قتل أمير الجيوشفي هذه السنة، في الثالث والعشرين من رمضان، قتل أمير الجيوش الأفضل بن بدر الجمالي، وهو صاحب الأمر والحكم بمصر، وكان ركب إلى خزانة السلاح ليفرقه على الأجناد، على جاري العادة في الأعياد، فسار معه عالم كثير من الرجالة والخيالة، فتأذى بالغبار، فأمر بالبعد عنه، وسار منفرداً، معه رجلان، فصادفه رجلان بسوق الصياقلة، فضرباه بالسكاكين فجرحاه، وجاء الثالث من ورائه، فضربه بسكين في خاصرته، فسقط عن دابته، ورجع أصحابه فقتلوا الثلاثة، وحملوه إلى دار الأفضل، فدخل عليه الخليفة، وتوجع له، وسأله عن الأموال، فقال: أما الظاهر منها فأبو الحسن بن أسامة الكاتب يعرفه، وكان من أهل حلب، وتولى أبوه قضاء القاهرة، وأما الباطن فابن البطائحي يعرفه، فقالا: صدق.
فلما توفي الأفضل نقل من أمواله ما لا يعلمه إلا الله تعالى، وبقي الخليفة في داره نحو أربعين يوماً، والكتاب بين يديه، والدواب تحمل وتنقل ليلاً ونهاراً، ووجد له من الأعلاق النفيسة، والأشياء الغريبة القليلة الوجود، ما لا يوجد مثله لغيره، واعتقل أولاده، وكان عمره سبعاً وخمسين سنة، وكانت ولايته بعد أبيه ثمانياً وعشرين سنة، منها: آخر أيام المستنصر، وجميع أيام المستعلي، إلى هذه السنة من أيام الآمر.
وكان الإسماعيلية يكرهونه لأسباب منها: تضييقه على إمامهم، وتركه ما يجب عندهم سلوكه معهم، ومنها ترك معارضة أهل السنة في اعتقدهم، والنهي عن معارضتهم، وإذنه للناس في إظهار معتقداتهم والمناظرة عليها، فكثر الغرباء ببلاد مصر.
وكان حسن السيرة، عادلاً، حكي أنه لما قتل، وظهر الظلم بعده، اجتمع جماعة واستغاثوا بالخليفة، وكان من جملة قولهم: إنهم لعنوا الأفضل، فسألهم عن سبب لعنهم إياه، فقالوا: إنه عدل، وأحسن السيرة، ففارقنا بلادنا وأوطاننا، وقصدنا بلده لعدله، فقد أصابنا بعده هذا الظلم، فهو كان سبب ظلمنا. فأحسن الخليفة إليهم، وأمر بالإحسان إلى الناس.
ومنها أن صاحبه الآمر بأحكام الله، صاحب مصر، وضع منه، وسبب ذلك ما ذكرناه قبل، ففسد الأمر بينهما، فأراد الآمر أن يضع عليه من يقتله إذا دخل عليه قصره للسلام، أو في أيام الأعياد، فمنعه من ذلك ابن عمه أبو الميمون عبد المجيد، وهو الذي ولي الأمر بعده بمصر، وقال له: في هذا الفعل شناعة، وسوء سمعة، لأنه قد خدم دولتنا هو وأبوه خمسين سنة، ولم يعلم الناس منهما إلا النصح لنا، والمحبة لدولتنا، وقد سار ذلك في أقطار البلاد، فلا يجوز أن يظهر منا هذه المكافأة الشنيعة، ومع هذا فلا بد وأن نقيم غيره مكانه ونعتمد عليه في منصبه، متمكن مثله، وأو ما يقاربه، فيخاف أن نفعل به مثل فعلنا بهذا، فيحذر من الدخول إلينا خوفاً على نفسه، وإن دخل علينا كان خائفاً مستعداً للامتناع، وفي هذا الفعل منهم ما يسقط المنزلة، والرأي أن تراسل أبا عبد الله البطائحي، فإنه الغالب على أمر الأفضل، والمطلع على سره، وتعده أن توليه منصبه، وتطلب منه أن يدبر الأمر في قتله لمن يقاتله، إذا ركب، فإذا ظفرنا بمن قتله قتلناه، وأظهرنا الطلب بدمه، والحزن عليه، فنبلغ غرضنا، ويزول عنا قبح الأحدوثة. ففعلوا ذلك فقتل كما ذكرناه.
ولما قتل ولي بعده أبو عبد الله بن البطائحي الأمر، ولقب المأمون، وتحكم في الدولة، فبقي كذلك حاكماً في البلاد إلى سنة تسع عشرة، فصلب كما نذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر عصيان سليمان بن إيلغازي على أبيه

في هذه السنة عصى سليمان بن إيلغازي بن أرتق على أبيه بحلب، وقد جاوز عمره عشرين سنة، حمله على ذلك جماعة من عنده، فسمع والده الخبر، فسار مجداً لوقته، فلم يشعر به سليمان حتى هجم عليه، فخرج إليه معتذراً، فأمسك عنه، وقبض على من كان أشار عليه بذلك، منهم: أمير كان قد التقطه أرتق، والد إيلغازي، ورباه، اسمه ناصر، فقلع عينيه، وقطع لسانه، ومنهم: إنسان من أهل حماة من بيت قرناص، كان قد قدمه إيلغازي على أهل حلب، وجعل إليه الرئاسة، فجزاه بذلك، وقطع يديه ورجليه، وسمل عينيه، فمات.
وأحضر ولده، وهو، سكران، فأراد قتله، فمنعه رقة الوالد، فاستبقاه، فهرب إلى دمشق، فأرسل طغتكين يشفع فيه، فلم يجبه إلى ذلك، واستناب بحلب سليمان ابن أخيه عبد الجبار بن أرتق، ولقبه بدر الدولة، وعاد إلى ماردين.
ذكر إقطاع ميافارقين إيلغازيفي هذه السنة أقطع السلطان محمود مدينة ميافارقين للأمير إيلغازي.
وسبب ذلك أنه أرسل ولده حسام الدين تمرتاش، وعمره سبع عشرة سنة، إلى السلطان ليشفع في دبيس بن صدقة، ويبذل عنه الطاعة، وحمل الأموال، والخيل، وغيرها، وأن يضمن الحلة كل يوم بألف دينار وفرس، وكان المتحدث عنه القاضي بهاء الدين أبو الحسن علي بن القاسم بن الشهرزوري، فتردد الخطاب في ذلك، ولم ينفصل حال، فلما أراد العود أقطع السلطان أباه مدينة ميافارقين، وكانت مع الأمير سكمان، صاحب خلاط، فتسلمها إيلغازي، وبقيت في يده، ويد أولاده، إلى أن ملكها صلاح الدين يوسف بن أيوب سنة ثمانين وخمسمائة، وسنذكر ذلك إن شاء الله تعالى.
ذكر حصر بلك بن بهرام الرها
وأسر صاحبها
في هذه السنة سار بلك بن بهرام، ولد أخي إيلغازي، إلى مدينة الرها، فحصرها وبها الفرنج، وبقي على حصرها مدة، فلم يظفر بها، فرحل عنها، فجاءه إنسان تركماني وأعلمه أن جوسلين، صاحب الرها وسروج، قد جمع من عنده من الفرنج، وهو عازم على كبسه، وكان قد تفرق عن بلك أصحابه، وبقي في أربعمائة فارس، فوقف مستعداً لقتالهم.
وأقبل الفرنج، فمن لطف الله تعالى بالمسلمين أن الفرنج وصلوا إلى أرض قد نضب عنها الماء، فصارت وحلاً غاصت خيولهم فيه فلم تتمكن، مع ثقل السلاح والفرسان، من الإسراع والجري، فرماهم أصحاب بلك بالنشاب، فلم يفلت منهم أحد، وأسر جوسلين وجعل في جلد جمل، وخيط عليه، وطلب منه أن يسلم الرها، فلم يفعل، وبذل في فداء نفسه أموالاً جزيلة، وأسرى كثيرة، فلم يجبه إلى ذلك، وحمله إلى قلعة خرتبرت فسجنه بها، وأسر معه ابن خالته، واسمه كليام، وكان من شياطين الكفار، وأسر أيضاً جماعة من فرسانه المشهورين، فسجنهم معه.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة توفيت جدة السلطان محمود لأبيه، والدة السلطان سنجر، وكانت تركية تعرف بخاتون السفرية، وكان موتها بمرو، فجلس محمود ببغداد للعزاء بها، وكان عزاء لم يشاهد مثله الناس.
وفيها توفي الخطير محمد بن الحسين الميبذي ببلاد فارس، وهو في وزارة الملك سلجوق ابن السلطان محمد، وكان قديماً وزر للسلطانين بركيارق ومحمد، وكان جواداً حليماً، سمع أن الأبيوردي هجاه، فلما سمع الهجو مضه، فعض على إبهامه، وصفح عنه، وخلع عليه ووصله.
وفيها توفي الشهاب أبو المحاسن عبد الرزاق بن عبد الله وزير السلطان سنجر، وهو ابن أخي نظام الملك، وكان يتفقه قديماً على إمام الحرمين الجويني فكان يفتي ويوقع، ووزر بعده أبو طاهر سعد بن علي بن عيسى القمي، وتوفي بعد شهور، فوزر بعده عثمان القمي.
وفيها، في جمادى الأولى، أوقع أتابك طغتكين بطائفة من الفرنج، فقتل منهم وأسر وأرسل الأسرى والغنيمة للسلطان وللخليفة.
وفيها تضعضع الركن اليماني من البيت الحرام، زاده الله شرفاً، من زلزلة، وانهدم بعضه، وتشعث بعض حرم النبي صلى الله عليه وسلم، وتشعث غيرها من البلاد، وكان بالموصل كثير منها.
وفيها احترقت دار السلطان، كان قد بناها مجاهد الدين بهروز للسلطان محمد، ففرغت قبل وفاته بيسير، فلما كان الآن احترقت.

وسبب الحريق أن جارية كانت تختضب ليلاً، فأسندت شمعة إلى الخيش فاحترق، وعلقت النار منه في الدار، واحترق فيها من زوجة السلطان محمود بنت السلطان سنجر ما لا حد له من الجواهر، والحلى، والفرش، والثياب، وأقيم الغسالون يخلصون الذهب وما أمكن تخليصه، وكان الجوهر جميعه قد هلك إلا الياقوت الأحمر.
وترك السلطان الدار لم تجدد عمارتها، وتطير منها، لأن أباه لم يتمتع بها، ثم احترق فيها، من أموالهم، الشيء العظيم، واحترق قبلها بأسبوع جامع أصبهان، وهو من أعظم الجوامع وأحسنها، وأحرقه قوم من الباطنية ليلاً، وكان السلطان قد عزم على أخذ حق البيع، وتجديد المكوس بالعراق، بإشارة الوزير السميرمي عليه بذلك، فتجدد من هذين الحريقين ما هاله، واتعظ فأعرض عنه.
وفيها، في ربيع الآخر، انقض كوكب عشاء، وصار له نور عظيم، وتفرق منه أعمدة عند انقضاضه، وسمع عند ذلك صوت هدة عظيمة كالزلزلة.
وفيها ظهر بمكة إنسان علوي، وأمر بالمعروف، فكثر جمعه، ونازع أمير مكة ابن أبي هاشم، وقوي أمره، وعزم على أن يخطب لنفسه، فعاد بان أبي هاشم وظفر به، ونفاه عن الحجاز إلى البحرين، وكان هذا العلوي من فقهاء النظامية ببغداد.
وفيها ألزم السلطان أهل الذمة ببغداد بالغيار، فجرى فيه مراجعات انتهت إلى أن قرر عليهم للسلطان عشرون ألف دينار، وللخليفة أربعة آلاف دينار.
وفيها حضر السلطان محمود وأخوه الملك مسعود عند الخليفة، فخلع عليهما، وعلى جماعة من أصحاب السلطان، منهم: وزيره أبو طالب السميرمي، وشمس الملك عثمان بن نظام الملك، والوزير أبو نصر أحمد بن محمد بن حامد المستوفي، وعلى غيرهم من الأمراء.
وفيها، في ذي القعدة، وهو الحادي والعشرون من كانون الثاني، سقط بالعراق جميعه من البصرة إلى تكريت ثلج كبير، وبقي على الأرض خمسة عشر يوماً، وسمكه ذراع، وهلكت أشجار النارنج، والأترج، والليمون، فقال فيه بعض الشعراء:
يا صدور الزمان ليس بوفر ... ما رأيناه في نواحي العراق
إنما عماد الملك ظلمكم سائر الخل ... ق، فشابت ذوائب الآفاق
وفيها هبت بمصر ريح سوداء ثلاثة أيام، فأهلكت كثيراً من الناس، وغيرهم من الحيوانات.
وفيها توفي أبو محمد القاسم بن علي بن محمد بن عثمان الحريري، صاحب المقامات المشهورة، وهزارسب بن عوض الهروي، وكان قد سمع الحديث كثيراً.
ثم دخلت سنة ست عشرة وخمسمائة
ذكر طاعة الملك طغرل لأخيه محمود
وفي المحرم من هذه السنة أطاع الملك طغرل أخاه السلطان محموداً، وكان قد خرج عن طاعته، كما ذكرناه، وقصد أذربيجان في السنة الخالية ليتغلب عليها، وكان أتابكه كنتغدي يحسن له ذلك، ويقويه عليه، فاتفق أنه مرض، وتوفي في شوال سنة خمس عشرة.
وكان الأمير آقسنقر الأحمديلي، صاحب مراغة، عند السلطان محمود ببغداد، فاستأذنه في المضي إلى إقطاعه، فأذن له، فلما سار عن السلطان ظن أنه يقوم مقام كنتغدي من الملك طغرل، فسار إليه، واجتمع به، وأشار عليه بالمكاشفة لأخيه السلطان محمود، وقال له: إذا وصلت إلى مراغة اتصل كب عشرة آلاف فارس وراجل. فسار معه، فلما وصلوا إلى أردبيل أغلقت أبوابها دونهم، فساروا عنها إلى قريب تبريز، فأتاهم الخبر أن السلطان محموداً سير الأمير جيوش بك إلى أذربيجان، وأقطعه البلاد، وأنه نزل مراغة في عسكر كثيف من عند السلطان.
فلما تيقنوا ذلك عدلوا إلى خونج، وانتفض عليهم ما كانوا فيه، وراسلوا الأمير شيركير الذي كان أتابك طغرل، أيام أبيه، يدعونه إلى إنجادهم، وقد كان كنتغدي قبض عليه بعد موت السلطان محمد على ما ذكرناه، ثم أطلقه السلطان سنجر، فعاد إلى إقطاعه، أبهر، وزنجان، وكاتبوه فأجابهم، واتصل بهم، وسار معهم إلى أبهر، فلم يتم لهم ما أرادوا، فراسلوا السلطان بالطاعة، فأجابهم إلى ذلك، فاستقرت القاعدة أول هذه السنة، وتمت.
ذكر حال دبيس بن صدقة وما كان منهقد ذكرنا سنة أربع عشرة حال دبيس بن صدقة، وصلحه على يد يرنقش الزكوي، ومقامه بالحلة، وعود يرنقش إلى السلطان ومعه منصور بن صدقة، أخو دبيس، وولده، رهينة، فلما علم الخليفة بذلك لم يرض به، وراسل السلطان محموداً في إبعاد دبيس عن العراق إلى بعض النواحي.

وتردد الخطاب في ذلك، وعزم السلطان على المسير إلى همذان، فأعاد الخليفة الشكوى من دبيس، وذكر أنه يطالب الناس بحقوده، منها قتل أبيه، وأشار أن يحضر السلطان آقسنقر البرسقي من الموصل، ويوليه شحنكية بغداد والعراق، ويجعله في وجه دبيس، ففعل السلطان ذلك، وأحضر البرسقي، فلما وصل إليه زوجه والدة الملك مسعود، وجعله شحنة بغداد، وأمره بقتال دبيس إن تعرض للبلاد.
وسار السلطان عن بغداد في صفر من هذه السنة، وكان مقامه ببغداد سنة وسبعة أشهر وخمسة عشر يوماً، فلما فارق بغداد والعراق تظاهر دبيس بأمور تأثر بها المسترشد بالله، وتقدم إلى البرسقي بالمسير إليه، وإزعاجه عن الحلة، فأرسل البرسقي إلى الموصل، وأحضر عساكره، وسار إلى الحلة، وأقبل دبيس نحوه، فالتقوا عند نهر بشير، شرقي الفرات، واقتتلوا، فانهزم عسكر البرسقي.
وكان سبب الهزيمة أنه رأى في مسيرته خللاً، وبها الأمراء البكجية، فأمر بإلقاء خيمته، وأن تنصب عند الميسرة، ليقوي قلوب من بها، فلما رأوا الخيمة وقد سقطت ظنوها عن هزيمة، فانهزموا، وتبعهم الناس والبرسقي.
وقيل: بل أعطي رقعة فيها: إن جماعة من الأمراء، منهم إسماعيل البكجي، يريدون الفتك به، فانهزم،، وتبعه العسكر، ودخل بغداد ثاني ربيع الآخر، وكان في جملة العسكر نصر بن النفيس بن مهذب الدولة أحمد بن أبي الجبر، وكان ناظراً بالبطيحة لريحان محكويه، خادم السلطان، لأنها كانت من جملة إقطاعه، وحضر أيضاً المظفر بن حماد بن أبي الجبر، وبينهما عداوة شديدة، فالتقيا عند الانهزام بساباط نهر ملك، فقتله المظفر ومضى إلى واسط وسار منها إلى البطيحة، وتغلب عليها وكاتب دبيساً وأطاعه.
وأما دبيس فإنه لم يعرض لنهر ملك، ولا غيره، وأرسل إلى الخليفة أنه على الطاعة، ولولا ذلك لأخذ البرسقي وجميع من معه، وسأل أن يخرج الناظر إلى القرى التي لخاص الخليفة لقبض دخلها.
وكانت الوقعة في حزيران، وحمى البلد، فأحمد الخليفة فعله، وترددت الرسل بينهما، فاستقرت القاعدة أن يقبض المسترشد بالله على وزيره جلال الدين أبي علي بن صدقة ليعود إلى الطاعة، فقبض على الوزير، ونهبت داره ودور أصحابه والمنتمين إليه، وهرب ابن أخيه جلال الدين أبو الرضا إلى الموصل.
ولما سمع السلطان خبر الوقعة قبض على منصور بن صدقة، أخي دبيس، وولده ورفعهما إلى قلعة برحين وهي تجاور كرج.
ثم إن دبيساً أمر جماعة من أصحابه بالمسير إلى أقطاعهم بواسط، فساروا إليها، فمنعهم أتراك واسط، فجهز دبيس إليهم عسكراً مقدمهم مهلهل ابن أبي العسكر، وأرسل إلى المظفر بن أبي الجبر بالبطيحة ليتفق مع مهلهل ويساعده على قتال الواسطيين، فاتفقا على أن تكون الوقعة تاسع رجب، وأرسل الواسطيون إلى البرسقي يطلبون منه المدد، فأمدهم بجيش من عنده، وعجل مهلهل في عسكره دبيس، ولم ينتظر المظفر ظناً منه أنه بمفرده ينال منهم ما أراد، وينفرد بالفتح، فالتقى هو والواسطيون، ثامن رجب، فانهزم مهلهل وعسكره، وظفر الواسطيون، وأخذ مهلهل أسيراً وجماعة من أعيان العسكر، وقتل ما يزيد على ألف قتيل، ولم يقتل من الواسطيين غير رجل واحد.
وأما المظفر بن أبي الجبر فإنه أصعد من البطيحة ونهب وأفسد، وجرى من أصحابه القبيح، فلما قارب واسطاً سمع بالهزيمة، فعاد منحدراً.
وكان في جملة ما أخذ العسكر الواسطي من مهلهل تذكرة بخط دبيس يأمره فيها بقبض المظفر بن أبي الجبر ومطالبته بأموال كثيرة أخذها من البطيحة، فأرسلوا الخط إلى المظفر، وقالوا: هذا خط الذي تختاره، وقد أسخطت الله تعالى والخلق كلهم لأجله، فمال إليهم وصار معهم، فلما جرى على أصحاب دبيس من الواسطيين ما ذكرناه شمر عن ساعده في الشر، وبلغه أن السلطان كحل أخاه، فجز شعره، ولبس السواد، ونهب البلاد، وأخذ كل ما للخليفة بنهر الملك، فأجلى الناس إلى بغداد.
وسار عسكر واسط إلى النعمانية، فأجلوا عنها عسكر دبيس واستولوا عليها، وجرى بينهم هناك وقعة كان الظفر فيها للواسطيين، وتقدم الخليفة إلى البرسقي بالتبريز إلى حرب دبيس، فبرز في رمضان، وكان ما نذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر قتل السميرمي

وفي هذه السنة قتل الوزير الكمال أبو طالب السميرمي، وزير السلطان محمود، سلخ صفر، وكان قد برز مع السلطان ليسير إلى همذان، فدخل إلى الحمام، وخرج بين يديه الرجالة والخيالة، وهو في موكب عظيم، فاجتاز بسوق المدرسة التي بناها خمارتكين التتشي، واجتاز في منفذ ضيق فيه حظائر الشوك، فتقدم أصحابه لضيق الموضع، فوثب عليه باطني وضربه بسكين، فوقعت في البغلة، وهرب إلى دجلة، وتبعه الغلمان، فخلا الموضع، فظهر رجل آخر فضربه بسكين في خاصرته، وجذبه عن البغلة إلى الأرض، وضربه عدة ضربات.
وعاد أصحاب الوزير، فحمل عليهم رجلان باطنيان، فانهزموا منهما، ثم عادوا وقد ذبح الوزير مثل الشاة، فحمل قتيلاً وبه نيف وثلاثون جراحة، وقتل قاتلوه.
ولما كان في الحمام كان المنجمون يأخذون له الطالع ليخرج، فقالوا: هذا وقت جيد، وإن تأخرت يفت طالع السعد، فأسرج وركب، وأراد أن يأكل طعاماً، فمنعوه لأجل الطالع، فقتل ولم ينفعه قولهم.
وكانت وزارته ثلاث سنين وعشرة أشهر، وانتهب ماله، وأخذ السلطان خزانته، ووزر بعده شمس الملك بن نظام الملك، وكانت زوجة السميرمي قد خرجت هذا اليوم في موكب كبير، معها نحو مائة جارية، وجمع من الخدم، والجميع بمراكب الذهب، فلما سمعن بقتله عدن حافيات حاسرات، وقد تبدلن بالعز هواناً، وبالمسرة أحزاناً. فسبحان من لا يزول ملكه.
وكان السميرمي ظالماً، كثير المصادرة للناس، سيء السيرة، فلما قتل أطلق السلطان ما كان جدده من المكوس، وما وضعه على التجار والباعة.
ذكر القبض على ابن صدقة وزير الخليفة
ونيابة علي بن طراد
في جمادى الأولى قبض الخليفة على وزيره جلال الدين بن صدقة، وقد تقدم ذكره قبل، وأقيم نقيب النقباء شرف الدين علي بن طراد الزينبي في نيابة الوزارة، فأرسل السلطان إلى المسترشد بالله في معنى وزارة نظام الملك أبي نصر أحمد بن نظام الملك، وكان أخو شمس الملك عثمان بن نظام الملك وزير السلطان محمود، فأجيب إلى ذلك، واستوزر في شعبان.
وكان قد وزر للسلطان محمد سنة خمسمائة، ثم عزل، ولزم داراً استجدها ببغداد إلى الآن. فلما خلع على نظام الملك، وجلس في الديوان، طلب أن يخرج ابن صدقة عن بغداد، فلما علم ابن صدقة ذلك طلب من الخليفة أن يسير إلى حديثة عانة ليكون عند الأمير سليمان بن مهارش، فأجيب إلى ما طلب.
وسار إلى الحديثة، فخرج عليه في الطريق إنسان من مفسدي التركمان يقال له يونس الحرامي، فأسره ونهب أصحابه، فخاف الوزير أن يعلم دبيس فأرسل إلى يونس وبذل له مالاً يأخذه منه للعداوة التي بينهما، فقرر أمره مع يونس على ألف دينار يعجل منها ثلاثمائة، ويؤخر الباقي إلى أن يرسله من الحديثة.
وراسل عامل بلد الفرات في تخليصه، وإنفاذ من يضمن الباقي الذي عليه، فأعمل العامل الحيلة في ذلك، فأحضر إنساناً فلاحاً وألبسه ثياباً فاخرة وطيلساناً، وأركبه وسير معه غلماناً، وأمره أن يمضي إلى يونس ويدعي أنه قاضي بلد الفرات، ويضمن الوزير منه ما بقي من المال، فسار السوادي إلى يونس، فلما حضر عند الوزير ويونس احترماه، وضمن السوادي الوزير منه، وقال له: أقيم عندك إلى أن يصل المال مع صاحب لك تنفذه مع الوزير، فاعتقد يونس صدق ذلك وأطلق الوزير ومعه جماعة من أصحابه، فلما وصل الحديثة قبض على من معه منهم، فأطلق يونس ذلك السوادي، والمال الذي أخذه، حتى أطلق الوزير أصحابه، وعلم الحيلة التي تمت عليه.
ولما سار الوزير من عند يونس لقي إنساناً أنكره، فأخذه، فرأى معه كتاباً من دبيس إلى يونس يبذل ستة آلاف دينار ليسلم الوزير إليه، وكان خلاصه من أعجب الأشياء.
ذكر قتل جيوش بكفي هذه السنة قتل الأمير جيوش بك الذي كان صاحب الموصل، وقد ذكرنا خروجه على السلطان محمود، وعوده إلى خدمته، فلما رضي عنه أقطعه أذربيجان وجعله مقدم عسكره، فجرى بينه وبين جماعة من الأمراء منافرة ومنازعات، فأغروا به السلطان، فقتله في رمضان على باب تبريز.

وكان تركياً من مماليك السلطان محمد، عادلاً، حسن السيرة، ولما ولي الموصل والجزيرة كان الأكراد بتلك الأعمال قد انتشروا، وكثر فسادهم، وكثرت قلاعهم، والناس معهم في ضيق، والطريق خائفة، فقصدهم، وحصر قلاعهم، وفتح كثيراً منها ببلد الهكارية، وبلد الزوزان، وبلد البشنوية، وخافه الأكراد، وتولى قصدهم بنفسه، فهربوا منه في الجبال والشعاب والمضايق، وأمنت الطرق، وانتشر الناس واطمأنوا وبقي الأكراد لا يجسرون أن يحملوا السلاح لهيبته.
ذكر وفاة إيلغازي وأحوال حلب بعدهفي هذه السنة، في شهر رمضان، توفي إيلغازي بن أرتق بميافارقين، وملك ابنه حسام الدين تمرتاش قلعة ماردين، وملك ابنه سليمان ميافارقين، وكان بحلب ابن أخيه بدر الدولة سليمان بن عبد الجبار بن أرتق، فبقي بها إلى أن أخذها ابن عمه.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة أقطع السلطان محمود الأمير آقسنقر البرسقي مدينة واسط وأعمالها، مضافاً إلى ولاية الموصل وغيرها مما بيده، وشحنكية العراق، فلما أقطعها البرسقي سير إليها عماد الدين زنكي بن آقسنقر الذي كان والده صاحب حلب، وأمره بحمايتها، فسار إليها في شعبان ووليها، وقد ذكرنا أخبار زنكي في كتاب الباهر في ذكر ملكه وملك أولاده الذين هم ملوكنا الآن، فينظر منه.
وفيها ظهر معدن نحاس بديار بكر قريباً من قلعة ذي القرنين.
وفيها زاد الفرات زيادة عظيمة لم يعهد مثلها، فدخل الماء إلى ربض قلعة جعبر، وكان الفرات، حينئذ بالقرب منها، فغرق أكثر دوره ومساكنه، وحمل فرساً من الربض وألقاه من فوق السور إلى الفرات.
وفيها بنيت مدرسة بحلب لأصحاب الشافعي.
وفيها توفيت ابنة السلطان سنجر زوج السلطان محمود.
وفيها، في شعبان، قدم إلى بغداد البرهان أبو الحسن علي بن الحسين الغزنوي وعقد مجلس الوعظ في جميع المواضع، وورد بعده أبو القاسم علي بن يعلى العلوي، ونزل رباط شيخ الشيوخ، فوعظ في جامع القصر، والتاجية، ورباط سعادة، وصار له قبول عند الحنابلة، وحصل له مال كثير لأنه أظهر موافقتهم.
وورد بعده أبو الفتوح الأسفراييني، ونزل برباط شيخ الشيوخ أيضاً، ووعظ في هذه المواضع، وفي النظامية، وأظهر مذهب الأشعري، فصار له قبول كثير عند الشافعية، وحضر مجلسه الخليفة المسترشد بالله، وسلم إليه رباط الأرجونية، والدة المقتدي بالله، بدرب زاخي.
وفيها توفي عبد الله بن أحمد بن عمر أبو محمد السمرقندي، أخو أبي القاسم بن السمرقندي، ومولده بدمشق سنة أربع وأربعين وأربعمائة، ونشأ ببغداد، وسمع الصريفني وابن النقور وغيرهما، وسافر الكثير، وكان حافظاً للحديث عالماً به.
وفي ذي الحجة توفي عبد القادر بن محمد بن عبد القادر بن محمد بن يوسف أبو طالب، ومولده سنة ست وثلاثين وأربعمائة، وسمع البرمكي، والجوهري، والعشاري، وكان ثقة، حافظاً للحديث.
ثم دخلت سنة سبع عشرة وخمسمائة
ذكر مسير المسترشد بالله لحرب دبيس
في هذه السنة كانت الحرب بين الخليفة المسترشد بالله، وبين دبيس بن صدقة.
وكان سبب ذلك: أن دبيساً أطلق عفيفاً خادم الخليفة، وكان مأسوراً عنده، وحمله رسالة فيها تهديد للخليفة بإرسال البرسقي إلى قتاله، وتقويته بالمال، وأن السلطان كحل أخاه، وبالغ في الوعيد، ولبس السواد، وجز شعره، وحلف لينهبن بغداد، ويخربها، فاغتاظ الخليفة لهذه الرسالة، وغضب، وتقدم إلى البرسقي بالتبريز إلى حرب دبيس، فبرز في رمضان سنة ست عشرة.
وتجهز الخليفة، وبرز من بغداد، واستدعى العساكر، فأتاه سليمان بن مهارش، صاحب الحديثة، في عقيل، وأتاه قرواش بن مسلم، وغيرهما، وأرسل دبيس إلى نهر ملك فنهب، وعمل أصحابه كل عظيم من الفساد، فوصل أهله إلى بغداد، فأمر الخليفة فنودي ببغداد لا يتخلف من الأجناد أحد، ومن أحب الجندية من العامة فليحضر، فجاء خلق كثير، ففرق فيهم الأموال والسلاح.

فلما علم دبيس الحال كتب إلى الخليفة يستعطفه ويسأله الرضاء عنه، فلم يجب إلى ذلك، وأخرجت خيام الخليفة في العشرين من ذي الحجة من سنة ست عشرة، فنادى أهل بغداد: النفير النفير، الغزاة الغزاة! وكثر الضجيج من الناس، وخرج منهم عالم كثير لا يحصون كثرة، وبرز الخليفة رابع عشر ذي الحجة، وعبر دجلة وعليه قباء أسود، وعمامة سوداء، وطرحة، وعلى كتفه البردة، وفي يده القضيب، وفي وسطه منطقة حديد صيني، ونزل الخيام ومعه وزير نظام الدين أحمد بن نظام الملك، ونقيب الطالبيين، ونقيب النقباء علي بن طراد، وشيخ الشيوخ صدر الدين إسماعيل وغيرهم من الأعيان.
وكان البرسقي قد نزل بقرية جهار طاق، ومعه عسكره، فلما بلغهم خروج الخليفة عن بغداد عادوا إلى خدمته، فلما رأوا الشمسة ترجلوا بأجمعهم، وقبلوا الأرض بالبعد منه.
ودخلت هذه السنة، فنزل الخليفة، مستهل المحرم، بالحديثة، بنهر الملك، واستدعى البرسقي والأمراء، واستحلفهم على المناصحة في الحرب، ثم ساروا إلى النيل، ونزلوا بالمباركة، وعبأ البرسقي أصحابه، ووقف الخليفة من وراء الجميع في خاصته، وجعل دبيس أصحابه صفاً واحداً، ميمنة، وميسرة، وقلباً، وجعل الرجالة بين أيدي الخيالة بالسلاح، وكان قد وعد أصحابه بنهب بغداد، وسبي النساء، فلما تراءت الفئتان بادر أصحاب دبيس، وبين أيديهم الإماء يضربن بالدفوف، والمخانيث بالملاهي، ولم ير في عسكر الخليفة غير قاريء، ومسبح، وداع، فقامت الحرب على ساق.
وكان مع أعلام الخليفة الأمير كرباوي بن خراسان، وفي الساقة سليمان ابن مهارش، وفي ميمنة عسكر البرسقي الأمير أبو بكر بن إلياس مع الأمراء البكجية، فحمل عنتر بن أبي العسكر في طائفة من عسكر دبيس على ميمنة البرسقي، فتراجعت على أعقابها، وقتل ابن أخ للأمير أبي بكر البكجي، وعاد عنتر وحمل حملة ثانية على هذه الميمنة، فكان حالها في الرجوع على أعقابها كحالها الأول، فلما رأى عسكر واسط ذلك، ومقدمهم الشهيد عماد الدين زنكي بن آقسنقر، حلم وهم معه على عنتر ومن معه، وأتوهم من ظهورهم فبقي عنتر في الوسط، وعماد الدين وعسكر واسط من ورائه، والأمراء البكجية بين يديه، فأسر عنتر، وأسر معه بريك بن زائدة وجميع من معهما ولم يفلت أحد.
وكان البرسقي واقفاً على نشز من الأرض، وكان الأمير آق بوري في الكمين في خمسمائة فارس، فلما اختلط الناس خرج الكمين على عسكر دبيس، فانهزموا جميعهم وألقوا نفوسهم في الماء، فغرق كثير منهم، وقتل كثير.
ولما رأى الخليفة اشتداد الحرب جرد سيفه وكبر وتقدم إلى الحرب، فلما انهزم عسكر دبيس وحملت الأسرى إلى بين يديه أمر الخليفة أن تضرب أعناقهم صبراً.
وكان عسكر دبيس عشرة آلاف فارس، واثني عشر ألف راجل، وعسكر البرسقي ثمانية آلاف فارس، وخمسة آلاف راجل، ولم يقتل من أصحاب الخليفة غير عشرين فارساً، وحصل نساء دبيس وسراريه تحت الأسر سوى بنت إيلغازي، وبنت عميد الدولة بن جهير، فإنه كان تركهما في المشهد.
وعاد الخليفة إلى بغداد، فدخلها يوم عاشوراء من هذه السنة. ولما عاد الخليفة إلى بغداد ثار العامة بها، ونهبوا مشهد باب التبن، وقلعوا أبوابه، فأنكر الخليفة ذلك، وأمر نظر أمير الحاج بالركوب إلى المشهد، وتأديب من فعل ذلك، وأخذ ما نهب، وفعل وأعاد البعض وخفي الباقي عليه.
وأما دبيس بن صدقة فإنه لما انهزم نجا بفرسه وسلاحه، وأدركته الخيل، ففاتها وعبر الفرات، فرأته امرأة عجوز وقد عبر، فقالت له: دبير جئت؟ فقال: دبير من لم يجيء. واختفى خبره بعد ذلك، وأرجف عليه بالقتل، ثم ظهر أمره أنه قصد غزية من عرب نجد، فطلب منهم أن يحالفوه، فامتنعوا عليه وقالوا: إنا نسخط الخليفة والسلطان، فرحل إلى المنتفق، واتفق معهم على قصد البصرة وأخذها، فساروا إليها ودخلوها، ونهبوا أهلها، وقتل الأمير سخت كمان مقدم عسكرها، وأجلي أهلها.
فأرسل الخليفة إلى البرسقي يعاتبه على إهماله أمر دبيس، حتى تم له من أمر البصرة ما أخربها، فتجهز البرسقي للانحدار إليه، فسمع دبيس ذلك، ففارق البصرة، وسار على البر إلى قلعة جعبر، والتحق بالفرنج، وحضر معهم حصار حلب، وأطمعهم في أخذها، فلم يظفروا بها، فعادوا عنها، ثم فارقهم والتحق بالملك طغرل ابن السلطان محمد، وأقام معه، وحسن له قصد العراق، وسنذكره سنة تسع وعشرين، إن شاء الله تعالى.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://arabelalekat.yoo7.com
الشيخ عودة
الشيخ عودة
الشيخ عودة



عدد المساهمات : 1748
تاريخ التسجيل : 28/09/2008
العمر : 74

كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير - صفحة 7 Empty
مُساهمةموضوع: رد: كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير   كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير - صفحة 7 Emptyالثلاثاء فبراير 25, 2014 11:32 am

ذكر ملك الفرنج حصن الأثارب
في هذه السنة، في صفر، ملك الفرنج حصن الأثارب، من أعمال حلب.
وسبب ذلك: أنهم كانوا قد أكثروا قصد حلب وأعمالها بالإغارة، والتخريب، والتحريق، وكان بحلب حينئذ بدر الدولة سليمان بن عبد الجبار بن أرتق، وهو صاحبها، ولم يكن له بالفرنج قوة، وخافهم، فهادنهم على أن يسلم الأثارب ويكفوا عن بلاده، فأجابوه إلى ذلك، وتسلموا الحصن، وتمت الهدنة بنيهم، واستقام أمر الرعية بأعمال حلب، وجلبت إليهم الأقوات وغيرها، ولم تزل الأثارب بأيدي الفرنج إلى أن ملكها أتابك زنكي بن آقسنقر، على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر ملك بلك حران وحلبفي هذه السنة، في ربيع الأول، ملك بلك بن بهرام مدينة حران، وكان قد حصرها، فلما ملكها سار منها إلى مدينة حلب.
وسبب مسيره إليها: أنه بلغه أن صاحبها بدر الدولة قد سلم قلعة الأثارب إلى الفرنج، فعظم ذلك عليه، وعلم عجزه عن حفظ بلاده، فقوي طمعه في ملكها، فسار إليها، ونازلها في ربيع الأول، وضايقها، ومنع الميرة عنها، وأحرق زروعها، فسلم إليه ابن عمه البلد والقلعة بالأمان، غرة جمادى الأولى من السنة، وتزوج ابنة الملك رضوان، وبقي مالكاً لها إلى أن قتل على ما نذكره.
ذكر الحرب بين الفرنج والمسلمين بإفريقيةقد ذكرنا أن الأمير علي بن يحيى، صاحب إفريقية، لما استوحش من رجار صاحب صقلية، جدد الأسطول الذي له، وكثر عَدده وعُدده، وكاتب أمير المسلمين علي بن يوسف بن تاشفين بمراكش بالاجتماع معه على قصد جزيرة صقلية، فلما علم رجار ذلك كف عن بعض ما كان يفعله.
فاتفق أن علياً مات سنة خمس عشرة، وولي ابنه الحسن، وقد ذكرناه، فلما دخلت سنة ست عشرة وخمسمائة سير أمير المسلمين أسطولاً، ففتحوا نقوطرة بساحل بلاد قلورية، فلم يشك رجار أن علياً كان سبب ذلك، فجد في تعمير الشواني والمراكب، وحشد فأكثر، ومنع من السفر إلى إفريقية وغيرها من بلاد الغرب، فاجتمع له من ذلك ما لم يعهد مثله، قيل: كان ثلاثمائة قطعة، فلما انقطعت الطريق عن إفريقية توقع الأمير الحسن بن علي خروج العدو إلى المهدية، فأمر باتخاذ العدد، وتجديد الأسوار، وجمع المقاتلة، فأتاه من أهل البلاد ومن العرب جمع كثير.
فلما كان جمادى الآخرة سنة سبع عشرة سار الأسطول الفرنجي في ثلاثمائة قطعة، فيها ألف فارس وفرس واحد، إلا أنهم لما ساروا من مرسى علي فرقتهم الريح، وغرق منهم مراكب كثيرة، ونازل من سلم منهم جزيرة قوصرة ففتحوها، وقتلوا من بها، وسبوا وغنموا، وساروا عنها، فوصلوا إلى إفريقية، ونازلوا الحصن المعروف بالديماس أواخر جمادى الأولى، فقاتلهم طائفة من العرب كانوا هناك، والديماس حصن منيع، في وسطه حصن آخر، وهو مشرف على البحر.
وسير الحسن من عنده من الجموع إلى الفرنج، وأقام هو بالمهدية في جمع آخر يحفظها، وأخذ الفرنج حصن الديماس، وجنود المسلمين محيطة بهم، فلما كان بعد ليال اشتد القتال على الحصن الداخل، فلما كان الليل صاح المسلمون صيحة عظيمة ارتجت لها الأرض، وكبروا، فوقع الرعب في قلوب الفرنج، فلم يشكوا أن المسلمين يهجمون عليهم، فبادروا إلى شوانيهم، وقتلوا بأيديهم كثيراً من خيولهم، وغنم المسلمون منها أربعمائة فرس، ولم يسلم معهم غير فرس واحد، وغنم المسلمون جميع ما تخلف عن الفرنج، وقتلوا كل من عجز عن الطلوع إلى المراكب.
فلما صعد الفرنج إلى مراكبهم أقاموا بها ثمانية أيام لا يقدرون على النزول إلى الأرض، فلما أيسوا من خلاص أصحابهم الذين في الديماس ساروا والمسلمون يكبرون عليهم ويصيحون بهم، وأقامت عساكر المسلمين على حصن الديماس في أمير داذ لا يحصون كثرة، فحصروه، فلم يمكنهم فتحه لحصانته وقوته، فلما عدم الماء على من به من الفرنج، وضجروا من مواصلة القتال ليلاً ونهاراً، فتحوا باب الحصن وخرجوا، فقتلوا عن آخرهم، وذلك يوم الأربعاء منتصف جمادى الآخرة من السنة، وكانت مدة إقامتهم في الحصن ستة عشر يوماً.
ولما رجع الفرنج مقهورين أرسل الأمير الحسن البشري إلى سائر البلاد، وقال الشعراء في هذه الحادثة فأكثروا، تركنا ذلك خوف التطويل.
ذكر استيلاء الفرنج على خرتبرت
وأخذها منهم
في هذه السنة، في ربيع الأول، استولى الفرنج على خرتبرت من بلاد ديار بكر.

وسبب ذلك: أن بلك بن بهرام بن أرتق كان صاحب خرتبرت، فحضر قلعة كركر، وهي تقارب، خرتبرت، فسمع الفرنج بالشام الخبر، فسار بغدوين ملك الفرنج في جموعه إليه ليرحله عنها، خوفاً أن يقوى بملكها، فلما سمع بلك بقربه منه رحل إليه، والتقيا في صفر، واقتتلا، فانهزم الفرنج، وأسر ملكهم ومعه جماعة من أعيان فرسانهم، وسجنهم بقلعة خرتبرت، وكان بالقلعة أيضاً جوسلين، صاحب الرها، وغيره من مقدمي الفرنج كان قد أسرهم سنة خمس عشرة، وسار بلك عن خرتبرت إلى حران في ربيع الأول فملكها، فأعمل الفرنج الحيلة باستمالة بعض الجند، فظهروا وملكوا القلعة.
فأما الملك بغدوين فإنه اتخذ الليل جملاً ومضى إلى بلاده، واتصل الخبر ببلك صاحبها، فعاد في عساكره إليها وحصرها، وضيق على من بالقلعة، واستعادها من الفرنج، وجعل فيها من الجند من يحفظها، وعاد عنها.
ذكر قتل وزير السلطان
وعود ابن صدقة إلى وزارة الخلافة
في هذه السنة قبض السلطان محمود على وزيره شمس الملك عثمان بن نظام الملك وقتله.
وسبب ذلك: أنه لما أشار على السلطان بالعود عن حرب الكرج، وخالفه، وكانت الخيرة في مخالفته، تغير عليه، وذكره أعداؤه بالسوء، ونبهوا على تهوره، وقلة تحصيله ومعرفته بمصالح الدولة، ففسد رأي السلطان فيه.
ثم إن الشهاب أبا المحاسن، وزير السلطان سنجر، كان قد توفي، وهو ابن أخي نظام الملك، ووزر بعده أبو طاهر القمي، وهو عدو للبيت النظامي، فسعى مع السلطان سنجر، حتى أرسل إلى السلطان محمود يأمره بالقبض على وزيره شمس الملك، فصادف وصول الرسول وهو متغير عليه، فقبض عليه وسلمه إلى طغايرك، فبعثه إلى بلده خلخال، فحبسه فيها.
ثم إن أبا نصر المستوفي، الملقب بالعزيز، قال للسلطان محمود: لا نأمن أن يرسل السلطان سنجر يطلب الوزير، ومتى اتصل به لا نأمن شراً يحدث منه. وكان بينهما عداوة، فأمر السلطان بقتله، فلما دخل عليه السياف ليقتله قال: أمهلني حتى أصلي ركعتين، ففعل، فلما صلى جعل يرتعد، وقال للسياف: سيفي أجود من سيفك، فاقتلني به ولا تعذبني، فقتل ثاني جمادى الآخرة. فلما سمع الخليفة المسترشد بالله ذلك عزل أخاه نظام الدين أحمد من وزارته، وأعاد جلال الدين أبا علي بن صدقة إلى الوزارة، وأقام نظام الدين بالمثمنة التي في المدرسة النظامية ببغداد.
وأما العزيز المستوفي فإنه لم تطل أيامه حتى قتل، على ما نذكره، جزاء لسعيه في قتل الوزير.
ذكر ظفر السلطان محمود بالكرجفي هذه السنة اشتدت نكاية الكرج في بلد الإسلام، وعظم الأمر على الناس، لا سيما أهل دربند شروان، فسار منهم جماعة كثيرة من أعيانهم إلى السلطان، وشكوا إليه ما يلقون منهم، وأعلموه بما هم عليه من الضعف والعجز عن حفظ بلادهم، فسار إليهم والكرج قد وصلوا إلى شماخي، فنزل السلطان في بستان هناك، وتقدم الكرج إليه، فخافهم العسكر خوفاً شديداً.
وأشار الوزير شمس الملك عثمان بن نظام الملك على السلطان بالعود من هناك، فلما سمع أهل شروان بذلك قصدوا السلطان وقالوا له: نحن نقاتل ما دمت عندنا، وإن تأخرت عنا ضعفت نفوس المسلمين وهلكوا، فقبل قولهم، وأقام بمكانه.
وبات العسكر على وجل عظيم، وهم بنية المصاف، فأتاهم الله بفرج من عنده، وألقى بين الكرج وقفجاق اختلافاً وعداوة، فاقتتلوا تلك الليلة ورحلوا شبه المنهزمين، وكفى الله المؤمنين القتال، وأقام السلطان بشروان مدة، ثم عاد إلى همذان فوصلها في جمادى الآخرة.
ذكر الحرب بين المغاربة وعسكر مصرفي هذه السنة وصل جمع كثير من لواثة من الغرب إلى ديار مصر، فأفسدوا فيها ونهبوها، وعملوا أعمالاً شنيعة، فجمع المأمون بن البطائحي، الذي وزر بمصر بعد الأفضل، عسكر مصر، وسار إليهم فقاتلهم فهزمهم، وأسر منهم وقتل خلقاً كثيراً، وقرر عليهم خرجاً معلوماً كل سنة يقومون به، وعادوا إلى بلادهم، وعاد المأمون إلى مصر مظفراً منصوراً.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة، في صفر، أمر المسترشد بالله بناء سور بغداد، وأن يجبى ما يخرج عليه من البلد، فشق ذلك على الناس، وجمع من ذلك مال كثير، فلما علم الخليفة كراهة الناس لذلك أمر بإعادة ما أخذ منهم، فسروا بذلك، وكثر الدعاء له.

وقيل: إن الوزير أحمد بن نظام الملك بذل من ماله خمسة عشر ألف دينار، وقال: نقسط الباقي على أرباب الدولة.
وكان أهل بغداد يعملون بأنفسهم فيه، وكانوا يتناوبون العمل: يعمل أهل كل محلة منفردين بالطبول والزمور، وزينوا البلد، وعملوا فيه القباب.
وفيها عزل نقيب العلويين، وهدمت دار علي بن أفلح، وكان الخليفة يكرمه،، فظهر أنهما عين لدبيس يطالعانه بالأخبار، وجعل الخليفة نقابة العلويين إلى علي بن طراد، نقيب العباسيين.
وفيها جمع الأمير بلك عساكره وسار إلى غزاة بالشام، فلقيه الفرنج، فاقتتلوا، فانهزم الفرنج وقتل منهم وأسر بشر كثير من مقدميهم ورجالتهم.
وفيها كان أكثر في البلاد غلاء شديد، وكان أكثره بالعراق، فبلغ ثمن كارة الدقيق الخشكار ستة دنانير وعشرة قراريط، وتبع ذلك موت كثير، وأمراض زائدة هلك فيها كثير من الناس.
وفيها، في صفر، توفي قاسم بن أبي هاشم العلوي الحسني أمير مكة، وولي بعده ابنه أبو فليته، وكان أعدل منه، وأحسن السيرة، فأسقط المكوس، وأحسن إلى الناس.
وفيها توفي عبد الله بن الحسن بن أحمد بن الحسين أبو نعيم بن أبي علي الحداد الأصبهاني، ومولده سنة ثلاث وستين وأربعمائة، وهو من أعيان المحدثين، سافر الكثير في طلب الحديث.
وفيها سار طغتكين، صاحب دمشق، إلى حمص، فهاجم المدينة ونهبها وأحرق كثيراً منها وحصرها، وصاحبها قرجان بالقلعة، فاستمد صاحبها طغان أرسلان، فسار إليه في جمع كثير، فعاد طغتكين إلى دمشق.
وفيها لقي أسطول مصر أسطول البنادقة من الفرنج، فاقتتلوا، وكان الظفر للبنادقة، وأخذ من أسطول مصر عدة قطع، وعاد الباقي سالماً.
وفيها سار الأمير محمود بن قراجة، صاحب حماة، إلى حصن أفامية، فهجم على الربض بغتة، فأصابه سهم من القلعة في يده، فاشتد ألمه، فعاد إلى حماة، وقلع الزج من يده، ثم عملت عليه، فمات منه، واستراح أهل عمله من ظلمه وجوره، فلما سمع طغتكين، صاحب دمشق، الخبر سير إلى حماة عسكراً، فملكها وصارت في جملة بلاده، ورتب فيها والياً وعسكراً لحمايتها.
ثم دخلت سنة ثماني عشرة وخمسمائة
ذكر قتل بلك بن بهرام بن أرتق
وملك تمرتاش حلب
في هذه السنة، في صفر، قبض بلك بن بهرام بن أرتق، صاحب حلب، على الأمير حسان البعلبكي، صاحب منبج، وسار إليها فحصرها، فملك المدينة، وحصر القلعة، فامتنعت عليه، فسار الفرنج إليه ليرحلوه عنها لئلا يقوى بأخذها، فلما قاربوه ترك على القلعة من يحصرها، وسار في باقي عسكره إلى الفرنج، فلقيهم وقاتلهم، فكسرهم وقتل منهم خلقاً كثيراً، وعاد إلى منبج فحصرها، فبينما هو يقاتل من بها أتاه سهم فقتله، لا يدرى من رماه، واضطرب عسكره وتفرقوا، وخلص حسان من الحبس، فكان حسام الدين تمرتاش بن إيلغازي بن أرتق مع ابن عمه بلك، فحمله مقتولاً إلى ظاهر حلب، وتسلمها في العشرين من ربيع الأول من هذه السنة، وزال الحصار عن قلعة منبج، وعاد إليها صاحبها حسان، واستقر تمرتاش بحلب واستولى عليها.
ثم إنه جعل فيها نائباً له يثق به، ورتب عنده ما يحتاج إليه من جند وغيرهم وعاد إلى ماردين، لأنه رأى الشام كثيرة الحرب مع الفرنج، وكان رجلاً يحب الدعة والرفاهية، فلما عاد إلى ماردين أخذت حلب منه، على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر ملك الفرنج مدينة صور بالشامكانت مدينة صور للخلفاء العلويين بمصر، ولم تزل كذلك إلى سنة ست وخمسمائة، فكان بها وال من جهة الأفضل أمير الجيوش، وزير الآمر بأحكام الله العلوي، يلقب عز الملك، وكان الفرنج قد حصروها، وضيقوا عليها، ونهبوا بلدها غير مرة، فلما كانت سنة ست تجهز ملك الفرنج، وجمع عساكره ليسير إلى صور، فخافهم أهل صور، فأرسلوا إلى أتابك طغتكين، صاحب دمشق، يطلبون منه أن يرسل إليهم أميراً من عنده يتولاهم ويحميهم، ويكون البلد له، وقالوا له: إن أرسلت إلينا والياً، وعسكراً، وإلا سلمنا البلد إلى الفرنج، فسير إليهم عسكراً، وجعل عندهم والياً اسمه مسعود، وكان شهماً، شجاعاً، عارفاً بالحرب ومكايدها، وأمده بعسكر، وسير إليهم ميرة ومالاً فرقه فيهم.

وطابت نفوس أهل البلد، ولم تغير الخطبة للآمر، صاحب مصر، ولا السكة، وكتب إلى الأفضل بمصر يعرفه صورة الحال، ويقول: متى وصل إليها من مصر من يتولاها، ويذب عنها، سلمتها إليه، ويطلب أن الأسطول لا ينقطع عنها بالرجال والقوة. فشكره الأفضل على ذلك، وأثنى عليه، وصوب رأيه فيما فعله، وجهز أسطولاً، وسيره إلى صور، فاستقامت أحوال أهلها. ولم يزل كذلك إلى سنة ست عشرة، بعد قتل الأفضل، فسير إليها أسطول، على جاري العادة، وأمروا المقدم على الأسطول أن يعمل الحيلة على الأمير مسعود الوالي بصور من قبل طغتكين، ويقبض عليه، ويتسلم البلد منه.
وكان السبب في ذلك: أن أهل صور أكثروا الشكوى منه إلى الآمر بأحكام الله، صاحب مصر، بما يعتمده من مخالفتهم، والإضرار بهم، ففعلوا ذلك، وسار الأسطول فأرسي عند صور، فخرج مسعود إليه للسلام على المقدم عليه، فلما صعد إلى المركب الذي فيه المقدم اعتقله، ونزل البلد، واستولى عليه، وعاد الأسطول إلى مصر، وفيه الأمير مسعود، فأكرم وأحسن إليه، وأعيد إلى دمشق.
وأما الوالي من قبل المصريين فإنه طيب قلوب الناس، وراسل طغتكين يخدمه بالدعاء والاعتضاد، وأن سبب ما فعل هو شكوى أهل صور من مسعود، فأحسن طغتكين الجواب، وبذل من نفسه المساعدة.
ولما سمع الفرنج بانصراف مسعود عن صور قوي طمعهم فيها، وحدثوا نفوسهم بملكها، وشرعوا في الجمع والتأهب للنزول عليها وحصرها، فسمع الوالي بها للمصريين الخبر، فعلم أنه لا قوة له، ولا طاقة على دفع الفرنج عنها، لقلة من بها من الجند والميرة، فأرسل إلى الآمر بذلك، فرأى أن يرد ولاية صور إلى طغتكين، صاحب دمشق، فأرسل إليه بذلك، فملك صور، ورتب بها من الجند وغيرهم ما ظن فيه كفاية.
وسار الفرنج إليهم ونازلوهم في ربيع الأول من هذه السنة، وضيقوا عليهم، ولازموا القتال، فقلت الأقوات، وسئم من بها القتال، وضعفت نفوسهم وسار طغتكين إلى بانياس ليقرب منهم، ويذب عن البلد، ولعل الفرنج إذا رأوا قربه منهم رحلوا، فلم يتحركوا، ولزموا الحصار، فأرسل طغتكين إلى مصر يستنجدهم، فلم ينجدوه، وتمادت الأيام، وأشرف أهلها على الهلاك، فراسل حينئذ طغتكين، صاحب دمشق، وقرر الأمر على أن يسلم المدينة إليهم، ويمكنوا من بها من الجند والرعية من الخروج منها بما يقدرون عليه من أموالهم ورحالهم وغيرها، فاستقرت القاعدة على ذلك، وفتحت أبواب البلد، وملكه الفرنج، وفارقه أهله، وتفرقوا في البلاد، وحملوا ما أطاقوا، وتركوا ما عجزوا عنه، ولم يعرض الفرنج لأحد منهم، ولم يبق إلا الضعيف عجز عن الحركة.
وملك الفرنج البلد في الثالث والعشرين من جمادى الأولى من السنة، وكان فتحه وهناً عظيماً على المسلمين، فإنه من أحصن البلاد وأمنعها، فالله يعيده إلى الإسلام، ويقر أعين المسلمين بفتحه، بمحمد وآله.
ذكر عزل البرسقي عن شحنكية العراق
وولاية يرنقش الزكوي
في هذه السنة عزل البرسقي عن شحنكية العراق، ووليها سعد الدولة يرنقش الزكوي.
وسبب ذلك: أن البرسقي نفر عنه المسترشد بالله، فأرسل إلى السلطان محمود يلتمس منه أن يعزل البرسقي عن العراق ويعيده إلى الموصل، فأجابه السلطان إلى ذلك، وأرسل إلى البرسقي يأمره بالعود إلى الموصل، والاشتغال بجهاد الفرنج، فلما علم البرسقي الخبر شرع في جباية الأموال، ووصل نائب يرنقش، فسلم إليه البرسقي الأمر، وأرسل السلطان ولداً له صغيراً مع أمه إلى البرسقي ليكون عنده، فلما وصل الصغير إلى العراق خرجت العساكر والمواكب إلى لقائه، وحملت له الإقامات، وكان يوم دخوله يوماً مشهوداً، وتسلمه البرسقي، وسار إلى الموصل، وهو ووالدته معه.
ولما سار البرسقي إلى الموصل كان عماد الدين زنكي بن آقسنقر بالبصرة قد سيره البرسقي إليها ليحميها، فظهر من حمايته لها ما عجب منه الناس، ولم يزل يقصد العرب ويقاتلهم في حللهم، حتى أبعدوا إلى البر، فأرسل إليه البرسقي يأمره باللحاق به، فقال لأصحابه: قد ضجرنا مما نحن فيه: كل يوم للموصل أمير جديد، ونريد نخدمه، وقد رأيت أن أسير إلى السلطان فأكون معه، فأشاروا عليه بذلك، فسار إليه، فقدم عليه بأصبهان فأكرمه، وأقطعه البصرة وأعاده إليها.
ذكر ملك البرسقي مدينة حلبفي هذه السنة، في ذي الحجة، ملك آقسنقر البرسقي مدينة حلب وقلعتها.

وسبب ذلك: أن الفرنج لما ملكوا مدينة صور، على ما ذكرناه، طمعوا، وقويت نفوسهم، وتيقنوا الاستيلاء على بلاد الشام، واستكثروا من الجموع، ثم وصل إليهم دبيس بن صدقة، صاحب الحلة، فأطمعهم طمعاً ثانياً، لا سيما في حلب، وقال لهم: إن أهلها شيعة، وهم يميلون إلي لأجل المذهب، فمتى رأوني سلموا البلد إلي. وبذل لهم على مساعدته بذولاً كثيرة، وقال: إنني أكون هاهنا نائباً عنكم ومطيعاً لكم. فساروا معه إليها وحصروها، وقاتلوا قتالاً شديداً، ووطنوا نفوسهم على المقام الطويل، وأنهم لا يفارقونها حتى يملكوها، وبنوا البيوت لأجل البرد والحر.
فلما رأى أهلها ذلك ضعفت نفوسهم، وخافوا الهلاك، وظهر لهم من صاحبهم تمرتاش الوهن والعجز، وقلت الأقوات عندهم، فلما رأوا ما دفعوا إليه من هذه الأسباب، أعملوا الرأي في طريق يتخلصون به، فرأوا أنه ليس لهم غير البرسقي، صاحب الموصل، فأرسلوا إليه يستنجدونه ويسألونه المجيء إليهم ليسلموا البلد إليه. فجمع عساكره وقصدهم، وأرسل إلى من بالبلد، وهو في الطريق، يقول: إنني لا أقدر على الوصول إليكم، والفرنج يقاتلونكم، إلا إذا سلمتم القلعة إلى نوابي، وصار أصحابي فيها، فإنني لا أدري ما يقدره الله تعالى إذا أنا لقيت الفرنج، فإن انهزمنا منهم وليست حلب بيد أصحابي حتى أحتمي أنا وعسكري بها، لم يبق منا أحد، وحينئذ تؤخذ حلب وغيرها.
فأجابوه إلى ذلك، وسلموا القلعة إلى نوابه، فلما استقروا فيها، واستولوا عليها، سار في العساكر التي معه، فلما أشرف عليها رحل الفرنج عنها، وهو يراهم، فأراد من في مقدمة عسكره أن يحمل عليهم، فمنعهم هو بنفسه، وقال: قد كفينا شرهم، وحفظنا بلدنا منهم، والمصلحة تركهم حتى يتقرر أمر حلب ونصلح حالها، ونكثر ذخائرها، ثم حينئذ نقصدهم ونقاتلهم. فلما رحل الفرنج خرج أهل حلب ولقوه، وفرحوا به، وأقام عندهم حتى أصلح الأمور وقررها.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة انقطعت الأمطار في العراق، والموصل، وديار الجزيرة، والشام، وديار بكر، وكثير من البلاد، فقلت الأقوات، وغلت الأسعار في جميع البلاد، ودام إلى سنة تسع عشرة.
وفيها وصل منصور بن صدقة أخو دبيس إلى بغداد تحت الاستظهار، فمرض بها، فأحضر الخليفة الأطباء وأمرهم بمعالجته، وأحضره عنده، وجعل في حجرة، وأدخل أصحابه إليه.
وفيها سار دبيس من الشام، بعد رحيله عن حلب، وقصد الملك طغرل، فأغراه بالخليفة، وأطعمه في العراق، وكان ما نذكره سنة تسع عشرة إن شاء الله تعالى.
وفيها مات الحسن بن الصباح، مقدم الإسماعيلية، صاحب ألموت، وقد تقدم من أخباره ما يعلم به محله من الشجاعة والرأي والتجربة.
وفيها أيضاً توفي داود ملك الأبخاز، وشمس الدولة بن نجم الدين إيلغازي.
وفيها ثار أهل آمد بمن فيها من الإسماعيلية، وكانوا قد كثروا، فقتلوا منهم نحو سبعمائة رجل، فضعف أمرهم بها بعد هذه الوقعة.
وفيها، في صفر، توفي محمد بن مرزوق بن عبد الرزاق الزعفراني، وهو من أصحاب الخطيب البغدادي.
وفيها توفي أحمد بن علي بن برهان أبو الفتح، الفقيه المعروف بابن الحمامي لأن أباه كان حمامياً، وكان حنبلياً، تفقه على ابن عقيل، ثم صار شافعياً، وتفقه على الغزالي والشاشي.
ثم دخلت سنة تسع عشرة وخمسمائة
ذكر وصول الملك طغرل إلى العراق
قد ذكرنا مسير دبيس بن صدقة إلى الملك طغرل من الشام، فلما وصل إليه لقيه، وأكرمه، وأحسن إليه، وجعله من أعيان خواصه وأمرائه، فحسن له دبيس قصد العراق، وهون أمره عليه، وضمن له أنه يملكه، فسار معه إلى العراق، فوصلوا دقوقا في عساكر كثيرة. فكتب مجاهد الدين بهروز من تكريت يخبر الخليفة خبرهما، فتجهز للمسير ومنعهما، وأمر يرنقش الزكوي، شحنة العراق، أن يكون مستعداً للحرب، وجمع العساكر، والأمراء البكجية، وغيرهم، فبلغت عدة العساكر اثني عشر ألفاً سوى الرجالة، وأهل بغداد، وفرق السلاح.
وبرز خامس صفر وبين يديه أرباب الدولة رجالة، وخرج من باب النصر، وكان قد أمر بفتحه تلك الأيام، وسماه باب النصر، ونزل صحراء الشماسية، ونزل يرنقش عند السبتي، ثم سار فنزل الخالص تاسع صفر.

فلما سمع طغرل بخروج الخليفة عدل إلى طريق خراسان، وتفرق أصحابه في النهب والفساد، ونزل هو رباط جلولاء، فسار إليه الوزير جلال الدين بن صدقة في عسكر كثير، فنزل الدسكرة، وتوجه طغرل ودبيس إلى الهارونية وسار الخليفة فنزل بالدسكرة هو والوزير، واستقر الأمر بين دبيس وطغرل أن يسيرا حتى يعبرا ديالى وتامرا، ويقطعا جسر النهروان، ويقيم دبيس ليحفظ المعابر، ويتقدم طغرل إلى بغداد فيملكها وينهبها، فسارا على هذه القاعدة، فعبرا تامرا، ونزل طغرل بينه وبين ديالى.
وسار دبيس على أن يلحقه طغرل، فقدر الله تعالى أن الملك طغرل لحقه حمى شديدة، ونزل عليهم من المطر ما لم يشاهدوا مثله، وزادت المياه وجاءت السيول والخليفة بالدسكرة، وسار دبيس في مائتي فارس، وقصد معرة النهروان وهو تعبان سهران، وقد لقي أصحابه من المطر والبل ما آذاهم وليس معهم ما يأكلون، ظناً منهم أن طغرل وأصحابه يلحقونهم، فتأخروا لما ذكرناه، فنزلوا جياعاً قد نالهم البرد، وإذا قد طلع عليهم ثلاثون جملاً تحمل الثياب المخيطة، والعمائم، والأقبية، والقلانس، وغيرها من الملبوس، وتحمل أيضاً أنواع الأطعمة المصنوعة، قد حملت من بغداد إلى الخليفة، فأخذ دبيس الجميع، فلبسوا الثياب الجدد، ونزعوا الثياب الندية، وأكلوا الطعام، وناموا في الشمس مما نالهم تلك الليلة.
وبلغ الخبر أهل بغداد، فلبسوا السلاح، وبقوا يحرسون الليل والنهار، ووصل الخبر إلى الخليفة والعسكر الذين معه أن دبيساً قد ملك بغداد، فرحل من الدسكرة، ووقعت الهزيمة على العسكر إلى النهروان، وتركوا أثقالهم ملقاة بالطريق لا يلتفت إليها أحد، ولولا أن الله تعالى لطف بهم بحمى الملك طغرل وتأخره لكان قد هلك العسكر، والخليفة أيضاً، وأخذوا، وكانت السواقي مملوءة بالوحل والماء من السيل، فتمزقوا، ولو لحقهم مائة فارس لهلكوا.
ووصلت رايات الخليفة ودبيس وأصحابه نيام، وتقدم الخليفة، وأشرف على ديالى، ودبيس نازل غرب النهروان، والجسر ممدودة شرق النهروان، فلما أبصر دبيس الخليفة قبل الأرض بين يدي الخليفة وقال: أنا العبد المطرود، فليعف أمير المؤمنين عن عبده. فرق الخليفة له، وهم بصلحه، حتى وصل الوزير ابن صدقة فثناه عن رأيه، وركب دبيس، ووقف بإزاء عسكر يرنقش الزكوي يحادثهم ويتماجن معهم، ثم أمر الوزير الرجالة فعبروا ليمدوا الجسر آخر النهار، فسار حينئذ دبيس عائداً إلى الملك طغرل، وسير الخليفة عسكراً مع الوزير في أثره، وعاد إلى بغداد فدخلها، وكانت غيبته خمسة وعشرين يوماً.
ثم إن الملك طغرل ودبيساً عادا وسارا إلى السلطان سنجر، فاجتازا بهمذان، فقسطا على أهلها مالاً كثيراً، وأخذاه وغابا في تلك الأعمال، فبلغ خبرهم السلطان محموداً، فجد السير إليهم، فانهزموا من بين يديه، وتبعتهم العساكر، فدخلوا خراسان إلى السلطان سنجر، وشكوا إليه من الخليفة ويرنقش الزكوي.
ذكر فتح البرسقي كفر طاب
وانهزامه من الفرنج
في هذه السنة جمع البرسقي عساكره وسار إلى الشام، وقصد كفر طاب وحصرها، فملكها من الفرنج، وسار إلى قلعة عزاز، وهي من أعمال حلب من جهة الشمال، وصاحبها جوسلين، فحصرها، فاجتمعت الفرنج، فارسها وراجلها، وقصدوه ليرحلوه عنها، فلقيهم وضرب معهم مصافاً، واقتتلوا قتالاً شديداً صبروا كلهم فيه، فانهزم المسلمون وقتل منهم وأسر كثير.
وكان عدد القتلى أكثر من ألف قتيل من المسلمين، وعاد منهزماً إلى حلب، فخلف بها ابنه مسعوداً، وعبر الفرات إلى الموصل ليجمع العساكر ويعاود القتال، وكان ما نذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر قتل المأمون بن البطائحيفي هذه السنة، في رمضان، قبض الآمر بأحكام الله العلوي، صاحب مصر، على وزيره أبي عبد الله بن البطائحي، الملقب بالمأمون، وصلبه وإخوته.
وكان ابتداء أمره أن أباه كان من جواسيس الأفضل بالعراق، فمات ولم يخلف شيئاً، فتزوجت أمه وتركته فقيراً، فاتصل بإنسان يتعلم البناء بمصر، ثم صار يحمل الأمتعة بالسوق الكبير، فدخل مع الحمالين إلى دار الأفضل أمير الجيوش، مرة بعد أخرى، فرآه الأفضل خفيفاً رشيقاً، حسن الحركة، حلو الكلام، فأعجبه، فسأل عنه، فقيل هو ابن فلان، فاستخدمه مع الفراشين، ثم تقدم عنده، وكبرت منزلته، وعلت حالته، حتى صار وزيراً.

وكان كريماً، واسع الصدر، قتالاً، سفاكاً للدماء، وكان شديد التحرز، كثير التطلع إلى أحوال الناس من العامة والخاصة من سائر البلاد: مصر، والشام، والعراق، وكثر الغمازون في أيامه.
وأما سبب قتله فإنه كان قد أرسل الأمير جعفراً أخا الآمر ليقتل الآمر ويجعله خليفة، وتقررت القاعدة بينهما على ذلك، فسمع بذلك أبو الحسن بن أبي أسامة، وكان خصيصاً بالآمر، قريباً منه، وقد ناله من الوزير أذى واطراح، فحضر عند الآمر وأعلمه الحال، فقبض عليه وصلبه، وهذا جزاء من قابل الإحسان بالإساءة.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة توفي شمس الدولة سالم بن مالك، صاحب قلعة جعبر، وتعرف قديماً بقلعة دوس.
وفيها قتل القاضي أبو سعد محمد بن نصر بن منصور الهروي بهمذان، قتله الباطنية، وكان قد مضى إلى خراسان في رسالة الخليفة إلى السلطان سنجر، فعاد فقتل، وكان ذا مروءة غزيرة، وتقدم كثير في الدولة السلجوقية.
وفي هذه السنة توفي هلال بن عبد الرحمن بن شريح بن عمر بن أحمد، وهو من ولد بلال بن رباح، مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكنيته أبو سعد، طاف البلاد، وسمع وقرأ القرآن، وكان موته بسمرقند.
ثم دخلت سنة عشرين وخمسمائة
ذكر حرب الفرنج والمسلمين بالأندلس
في هذه السنة عظم شأن ابن ردمير الفرنجي بالأندلس، واستطال على المسلمين، فخرج في عساكر كثيرة من الفرنج، وجاس في بلاد الإسلام، وخاضها، حتى وصل إلى قريب قرطبة، وأكثر النهب والسبي والقتل، فاجتمع المسلمون في جيش عظيم زائد الحد في الكثرة، وقصدوه، فلم يكن له بهم طاقة، فتحصن منهم في حصن منيع له اسمه أرنيسول، فحصروه، وكبسهم ليلاً، فانهزم المسلمون، وكثر القتل فيهم، وعاد إلى بلاده.
ذكر قصد بلاد الإسماعيلية بخراسانفي هذه السنة أمر الوزير المختص أبو نصر أحمد بن الفضل، وزير السلطان سنجر، بغزو الباطنية، وقتلهم أين كانوا، وحيثما ظفر بهم، ونهب أموالهم، وسبي حريمهم، وجهز جيشاً إلى طريثيت، وهي لهم، وجيشاً إلى بيهق من أعمال نيسابور، وكان في هذه الأعمال قرية مخصوصة بهم اسمها طرز، ومقدمهم بها إنسان اسمه الحسن بن سمين.
وسير إلى كل طرف من أعمالهم جمعاً من الجند، ووصاهم أن يقتلوا من لقوه منهم، فقصد كل طائفة إلى الجهة التي سيرت إليها. فأما القرية التي بأعمال بيهق فقصدها العسكر، فقتلوا كل من بها، وهرب مقدمهم، وصعد منارة المسجد وألقى نفسه منها فهلك، وكذلك العسكر المنفذ إلى طريثيت قتلوا من أهلها فأكثروا، وغنموا من أموالهم وعادوا.
ذكر ملك الإسماعيلية قلعة بانياسفي هذه السنة عظم أمر الإسماعيلية بالشام، وقويت شوكتهم، وملكوا بانياس في ذي القعدة منها.
وسبب ذلك أن بهرام ابن أخت الأسداباذي، لما قتل خاله ببغداد، كما ذكرناه، هرب إلى الشام، وصار داعي الإسماعيلية فيه، وكان يتردد في البلاد، ويدعو أوباش الناس وطغامهم إلى مذهبه، فاستجاب له منهم من لا عقل له، فكثر جمعه، إلا أنه يخفي شخصه فلا يعرف، وأقام بحلب مدة، ونفر إلى إيلغازي صاحبها.
وأراد إيلغازي أن يعتضد به لاتقاء الناس شره وشر أصحابه، لأنهم كانوا يقتلون كل من خالفهم، وقصد من يتمسك بهم، وأشار إيلغازي على طغتكين، صاحب دمشق، بأن يجعله عنده لهذا السبب. فقبل رأيه، وأخذه إليه، فأظهر حينئذ شخصه، وأعلن دعوته، فكثر أتباعه من كل من يريد الشر والفساد، وأعانه الوزير أبو طاهر بن سعد المرغيناني قصداً للاعتضاد به على ما يريد، فعظم شره واستفحل أمره، وصار أتباعه أضعاف ما كانوا، فلولا أن عامة دمشق يغلب عليهم مذاهب أهل السنة، وأنهم يشددون عليه فيما ذهب إليه لملك البلد.
ثم إن بهرام رأى من أهل دمشق فظاظة وغلظة عليه، فخاف عاديتهم، فطلب من طغتكين حصناً يأوي إليه هو ومن اتبعه، فأشار الوزير بتسليم قلعة بانياس إليه، فسلمت إليه، فلما سار إليها اجتمع إليه أصحابه من كل ناحية، فعظم حينئذ خطبه، وجلت المحنة بظهوره، واشتد الحال على الفقهاء والعلماء وأهل الدين، لا سيما أهل السنة والستر والسلامة، إلا أنهم لا يقدرون على أن ينطقوا بحرف واحد، خوفاً من سلطانهم أولاً، ومن شر الإسماعيلية ثانياً، فلم يقدم أحد على إنكار هذه الحال، فانتظروا بهم الدوائر.
ذكر قتل البرسقي وملك ابنه عز الدين مسعود

في هذه السنة، ثامن ذي القعدة، قتل قسيم الدولة آقسنقر البرسقي، صاحب الموصل، بمدينة الموصل، قتلته الباطنية يوم جمعة بالجامع، وكان يصلي الجمعة مع العامة، وكان قد رأى تلك الليلة في منامه أن عدة كلاب ثارت به، فقتل بعضها، ونال منه الباقي ما آذاه، فقص رؤياه على أحصابه، فأشاروا عليه بترك الخروج من داره عدة أيام، فقال: لا أترك الجمع لشيء أبداً، فغلبوا على رأيه، ومنعوه من قصد الجمعة، فعزم على ذلك، فأخذ المصحف يقرأ فيه، فأول ما رأى: " وكان أمر الله قدراً مقدوراً " ، فركب إلى الجامع على عادته، وكان يصلي في الصف الأول، فوثب عليه بضعة عشر نفساً عدة الكلاب التي رآها، فجرحوه بالسكاكين، فجرح هو بيده منهم ثلاثة، وقتل رحمه الله.
وكان مملوكاً تركياً، خيراً، يحب أهل العلم والصالحين، ويرى العدل ويفعله، وكان من خير الولاة يحافظ على الصلوات في أوقاتها، ويصلي من الليل متهجداً.
حكى لي والدي، رحمه الله، عن بعض من كان يخدمه قال: كنت فراشاً معه، فكان يصلي كل ليلة كثيراً، وكان يتوضأ هو بنفسه، ولا يستعين بأحد، ولقد رأيته في بعض ليالي الشتاء بالموصل، وقد قام من فراشه، وعليه فرجية صغيرة وبر، وبيده إبريق، فمشى نحو دجلة ليأخذ ماء، فمنعني البرد من القيام، ثم إنني خفته، فقمت إلى بين يديه لآخذ الإبريق منه، فمنعني وقال: يا مسكين! ارجع إلى مكانك، فإن برد، فاجتهدت لآخذ الإبريق، فلم يعطني، وردني إلى مكاني ثم توضأ وقام يصلي.
ولما قتل كان ابنه عز الدين مسعود بحلب يحفظها من الفرنج، فأرسل إليه أصحاب أبيه بالخبر، فسار إلى الموصل ودخلها أول ذي الحجة، وأحسن إلى أصحاب أبيه بها، وأقر وزيره المؤيد أبا غالب بن عبد الخالق بن عبد الرزاق على وزارته، وأطاعه الأمراء والأجناد، وانحدر إلى خدمة السلطان محمود، فأحسن إليه وأعاده، ولم يختلف عليه أحد من أهل بلاد أبيه.
ووقع البحث عن حال الباطنية، والاستقصاء عن أخبارهم، فقيل إنهم كانوا يجلسون إلى إسكاف بدرب إيليا، فأحضر ووعد الإحسان إن أقر، فلم يقر، فهدد بالقتل، فقال: إنهم وردوا من سنين لقتله، فلم يتمكنوا منه إلى الآن، فقطعت يداه ورجلاه وذكره، ورجم بالحجارة فمات.
ومن العجب أن صاحب أنطاكية أرسل إلى عز الدين بن البرسقي يخبره بقتل والده قبل أن يصل إليه الخبر، وكان قد سمعه الفرنج قبله لشدة عنايتهم بمعرفة الأحوال الإسلامية.
ولما استقر عز الدين في الولاية قبض على الأمير بابكر بن ميكائيل، وهو من أكابر الأمراء، وطلب منه أن يسلم ابن أخيه قلعة إربل إلى الأمير فضل وأبي علي، ابني أبي الهيجاء، وكان ابن أخيه قد أخذها منه سنة سبع عشرة، فراسل ابن أخيه، فسلم إربل إلى المذكورين.
ذكر الاختلاف الواقع بين المسترشد بالله والسلطان محمودكان قد جرى بين يرنقش الزكوي، شحنة بغدادن وبين نواب الخليفة المسترشد بالله نفرة تهدده الخليفة فيها، فخافه على نفسه، فسار عن بغداد إلى السلطان محمود في رجب من هذه السنة، وشكا إليه، وحذره جانب الخليفة وأعلمه أنه قد قاد العساكر، ولقي الحروب، وقويت نفسه، ومتى مل تعاجله بقصد العراق ودخول بغداد، ازداد قوة وجمعاً، ومنعه عنه، وحينئذ يتعذر عليه ما هو الآن بيده.
فتوجه السلطان نحو العراق، فأرسل إليه الخليفة يعرفه ما هي البلاد وأهلها عليه من الضعف والوهن، بسبب دبيس، وإفساد عسكره فيها، وأن الغلاء قد اشتد بالناس لعدم الغلات والأقوات، لهرب الأكرة عن بلادهم، ويطلب منه أن يتأخر هذه الدفعة إلى أن ينصلح حال البلاد ثم يعود إليها، فلا مانع له عنها، وبذل له على ذلك مالاً كثيراً.

فلما سمع السلطان هذه الرسالة قوي عنده ما قرره الزكوي، وأبى أن يجيب إلى التأخر، وصمم العزم وسار إليها مجداً. فلما بلغ الخليفة الخبر عبر هو وأهله وحرمه ومن عنده من أولاد الخلفاء إلى الجانب الغربي في ذي القعدة، مظهراً للغضب والانتزاح عن بغداد إن قصدها السلطان، فلما خرج من داره بكى الناس جميعهم بكاء عظيماً لم يشاهد مثله. فلما علم السلطان ذلك اشتد عليه، وبلغ منه كل مبلغ، فأرسل يستعطف الخليفة، ويسأله العود إلى داره، فأعاد الجواب أنه لا بد من عودك هذه الدفعة، فإن الناس هلكى بشدة الغلاء، وخراب البلاد، وأنه لا يرى في دينه أن يزداد ما بهم، وهو يشاهدهم، فإن عاد السلطان، وإلا رحل هو عن العراق لئلا يشاهد ما يلقى الناس بمجيء العساكر.
فغضب السلطان لقوله، ورحل نحو بغداد، وأقام الخليفة بالجانب الغربي، فلما حضر عيد الأضحى خطب الناس، وصلى بهم، فبكى الناس لخطبته، وأرسل عفيفاً الخادم، وهو من خواصه، في عسكر إلى واسط ليمنع عنها نواب السلطان، فأرسل السلطان إليه عماد الدين زنكي بن آقسنقر، وكان له حينئذ البصرة، وقد فارق البرسقي، واتصل بالسلطان، فأقطعه البصرة.
فلما وصل عفيف إلى واسط سار إليه عماد الدين، فنزل بالجانب الشرقي، وكان عفيف بالجانب الغربي، فأرسل إليه عماد الدين يحذره القتال، ويأمره بالانتزاح عنها، فأبى ولم يفعل، فعبر إليه عماد الدين، واقتتلوا، فانهزم عسكر عفيف، وقتل منهم مقتلة عظيمة، وأسر مثلهم، وتغافل عن عفيف حتى نجا لمودة كانت بينهما.
ثم إن الخليفة جمع السفن جميعها إليه، ويسد أبواب دار الخلافة سوى باب التوبي، وأمر حاجب الباب ابن الصاحب بالمقام فيه لحفظ الدار، ولم يبق من حواشي الخليفة بالجانب الشرقي سواه.
ووصل السلطان إلى بغداد في العشرين من ذي الحجة، ونزل بباب الشماسية، ودخل بعض عسكره إلى بغداد، ونزلوا في دور الناس، فشكا الناس ذلك إلى السلطان، فأمر بإخراجهم، وبقي فيها من له دار، وبقي السلطان يراسل الخليفة بالعود، ويطلب الصلح، وهو يمتنع.
وكان يجري بين العسكرين مناوشة، والعامة من الجانب الغربي يسبون السلطان أفحش سب. ثم إن جماعة من عسكر السلطان دخلوا دار الخلافة، ونهبوا التاج، وحجر الخليفة، أول المحرم سنة إحدى وعشرين، وضج أهل بغداد من ذلك، فاجتمعوا ونادوا الغزاة، فأقبلوا من كل ناحية، ولما رآهم الخليفة خرج من السرادق والشمسة على رأسه، والوزير بين يديه، وأمر بضرب الكوسات والبوقات، ونادى بأعلى صوته: يا آل هاشم! وأمر بتقديم السفن، ونصب الجسر وعبر الناس دفعة واحدة، وكان له في الدار ألف رجل مختفين في السراديب، فظهروا، وعسكر السلطان مشتغلون بالنهب، فأسر منهم جماعة من الأمراء، ونهب العامة دار وزير السلطان، ودور جماعة من الأمراء، ودار عزيز الدين المستوفي، ودار الحكيم أوحد الزمان الطبيب، وقتل منهم خلق كثير في الدروب.
ثم عبر الخليفة إلى الجانب الشرقي، ومعه ثلاثون ألف مقاتل من أهل بغداد والسواد، وأمر بحفر الخنادق، فحفرت بالليل، وحفظوا بغداد من عسكر السلطان، ووقع الغلاء عند العسكر، واشتد الأمر عليهم، وكان القتال كل يوم عليهم عند أبواب البلد وعلى شاطيء دجلة، وعزم عسكر الخليفة على أن يكبسوا عسكر السلطان، فغدر بهم الأمير أبو الهيجاء الكردي، صاحب إربل، وخرج كأنه يريد القتال، فالتحق هو وعسكره بالسلطان.

وكان السلطان قد أرسل إلى عماد الدين بواسط يأمره أن يحضر هو بنفسه، ومعه المقاتلة في السفن، وعلى الدواب في البر، فجمع كل سفينة في البصرة إلى بغداد، وشحنها بالرجال المقاتلة، وأكثر من السلاح، وأصعد، فلما قارب بغداد أمر كل من معه في السفن وفي البر بلبس السلاح، وإظهار ما عندهم من الجلد والنهضة، فسارت السفن في الماء، والعسكر في البر على شاطيء دجلة قد انتشروا وملأوا الأرض براً وبحراً، فرأى الناس منظراً عجيباً، كبر في أعينهم، وملأ صدورهم، وركب السلطان والعسكر إلى لقائهم، فنظروا إلى ما لم يروا مثله، وعظم عماد الدين في أعينهم، وعزم السلطان على قتال بغداد حينئذ، والجد في ذلك في البر والماء. فلما رأى الإمام المسترشد بالله الأمر على هذه الصورة، وخروج الأمير أبي الهيجاء من عنده، أجاب إلى الصلح، وترددت الرسل بينهما، فاصطلحا، واعتذر السلطان مما جرى، وكان حليماً يسمع سبه بأذنه فلا يعاقب عليه، وعف عن أهل بغداد جميعهم.
وكان أعداء الخليفة يشيرون على السلطان بإحراق بغداد، فلم يفعل، وقال: لا تساوي الدنيا فعل مثل هذا. وأقام ببغداد إلى رابع شهر ربيع الآخر سنة إحدى وعشرين، وحمل الخليفة من المال إليه كما استقرت القاعدة عليه، وأهدى له سلاحاً وخيلاً وغير ذلك، فمرض السلطان ببغداد، فأشار عليه الأطباء بمفارقتها، فرحل إلى همذان، فلما وصلها عوفي.
ذكر مصاف بين طغتكين أتابك والفرنج بالشامفي هذه السنة اجتمعت الفرنج وملوكها وقمامصتها وكنودها وساروا إلى نواحي دمشق فنزلوا بمرج الصفر عند قرية يقال لها سقحبا بالقرب من دمشق، فعظم الأمر على المسلمين واشتد خوفهم، وكاتب طغتكين أتابك صاحبها أمراء التركمان من ديار بكر وغيرها وجميعهم وكان هو قد سار عن دمشق إلى جهة الفرنج واستخلف بها ابنه تاج الملوك بوري فكان بها، كما جاءت طائفة أحسن ضيافتهم وسيرهم إلى أبيه، فلما اجتمعوا سار بهم طغتكين إلى الفرنج فالتقوا أواخر ذي الحجة واقتتلوا، واشتد القتال، فسقط طغتكين على فرسه، فظن أصحابه أنه قتل، فانهزموا وركب طغتكين فرسه ولحقهم وتبعهم الفرنج وبقي التركمان لم يقدروا أن يلحقوا بالمسلمين في الهزيمة فتخلفوا، فلما رأوا فرسان الفرنج قد تبعوا المنهزمين وأن معسكرهم وراجلهم ليس له منع ولا حام حملوا على الرجالة فقتلوهم ولم يسلم منهم إلا الشريد، ونهبوا معسكر الفرنج وخيامهم وأموالهم وجميع ما معهم وفي جملته كنيسة وفيها من الذهب والجواهر ما لا يقوم كثرة فنهبوا ذلك جميعه وعادوا إلى دمشق سالمين لم يعدم منهم أحد. ولما رجع الفرنج من أثر المنهزمين ورأوا رجالتهم قتلى وأموالهم منهوبة تموا منهزمين لا يلوي الأخ على أخيه، وكان هذا من الغريب أن طائفتين تنهزمان كل واحدة منهما من صاحبتها.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة حصر الفرنج رفنية من أرض الشام، وهي بيد المسلمين، وضيقوا عليها فملكوها.
وفيها توفي أبو الفتح أحمد بن محمد بن محمد الغزالي، الواعظ، وهو أخو الإمام أبي حامد محمد، وقد ذمه أبو الفرج بن الجوزي بأشياء كثيرة منها: روايته في وعظه الأحاديث التي ليست له بصحيحة، والعجب أنه يقدح فيه بهذا، وتصانيفه هو ووعظه محشو به، مملوء منه، نسأل الله أن يعيذنا من الوقيعة في الناس، ثم يا ليت شعري أما كان للغزالي حسنة تذكر مع ما ذكر من المساويء التي نسبها إليه لئلا ينسب إلى الهوى والغرض؟
ثم دخلت سنة إحدى وعشرين وخمسمائة
ذكر ولاية أتابك زنكي شحنكية العراق
في هذه السنة، في ربيع الآخر، أسند السلطان محمود شحنكية العراق إلى عماد الدين زنكي بن آقسنقر.

وكان سبب ذلك: أن عماد الدين لما أصعد من واسط في التجمل والجمع الذي ذكرناه، وقام في حفظ واسط والبصرة وتلك النواحي القيام الذي عجز غيره عنه، عظم في صدر السلطان وصدور أمرائه، فلما عزم السلطان على المسير عن بغداد نظر فيمن يصلح أن يلي شحنكية العراق ويأمن معه من الخليفة، فاعتبر أمراءه، وأعيان دولته، فلم ير فيهم من يقوم في هذا الأمر مقام عماد الدين، فاستشار في ذلك، فكل أشار به، وقالوا: لا نقدر على رفع هذا الخرق، وإعادة ناموس هذه الولاية، ولا تقوى نفس أحد على ركوب هذا الخطر غير عماد الدين زنكي. فوافق ما عنده، فأسند إليه الولاية وفوضها إليه مضافة إلى ما له من الأقطاع، وسار عن بغداد وقد اطمأن قلبه من جهة العراق، فكان الأمر كما ظن.
ذكر عود السلطان عن بغداد وزارة أنوشروان بن خالدفي هذه السنة، في عاشر ربيع الآخر، سار السلطان محمود عن بغداد، بعد تقرير القواعد بها، ولما عزم على المسير حمل إليه الخليفة الخلع، والداوب الكثيرة، فقبل ذلك جميعه وسار.
ولما أبعد عن بغداد قبض على وزيره أبي القاسم علي بن القاسم الأنساباذي في رجب، لأنه اتهمه بممالأة المسترشد بالله لقيامه في أمره وإتمام الصلح مقاماً ظهر أثره، فسعى به أعداؤه، فلما قبض عليه أرسل السلطان إلى بغداد فأحضر شرف الدين أنوشروان بن خالد، وكان مقيماً بها، فلما علم بذلك جاءته الهدايا من كلا أحد، حتى من الخليفة، وسار عن بغداد خامس شعبان، فوصل إلى السلطان، وهو بأصبهان، فخلع عليه خلع الوزارة، وبقي فيها نحو عشرة أشهر، ثم استعفى منها، وعزل نفسه، وعاد إلى بغداد في شعبان سنة اثنتين وعشرين وخمسمائة.
وأما الوزير أبو القاسم فإنه بقي مقبوضاً إلى أن خرج السلطان سنجر إلى الري سنة اثنتين وعشرين، فأخرجه من الحبس في ذي الحجة، وأعاده إلى وزارة السلطان محمود، وهي الوزارة الثانية.
ذكر وفاة عز الدين بن البرسقي
وولاية عماد الدين زنكي الموصل وأعمالها
في هذه السنة توفي عز الدين مسعود بن البرسقي، وهو صاحب الموصل، وكان موته بمدينة الرحبة، وسبب مسيره إليها: أنه لما استقامت أموره في ولايته، وراسل السلطان محموداً، وخطب له ولاية ما كان أبوه يتولاه من الموصل وغيرها، أجاب السلطان إلى ما طلب، فرتب الأمور وقررها. فكثر جنده، وكان شجاعاً، شهماً، فطمع في التغلب على بلاد الشام، فجمع عساكره وسار إلى الشام يريد قصد دمشق، فابتدأ بالرحبة، فوصل إليها ونازلها، وقام يحاصرها، فأخذه مرض حاد وهو محاصر لها، فتسلم القلعة ومات بعد ساعة، فندم من بها على تسليمها إليه.
ولما مات بقي مطروحاً على بساط لم يدفن، وتفرق عنه عسكره، ونهب بعضهم بعضاً، فشغلوا عنه، ثم دفن بعد ذلك، وقام بعده أخ له صغير، واستولى على البلاد مملوك للبرسقي يعرف بالجاولي، ودبر أمر الصبي، وأرسل إلى السلطان يطلب أن يقرر البلاد على ولد البرسقي، وبذل الأموال الكثيرة على ذلك.
وكان الرسول في هذا الأمر القاضي بهاء الدين أبو الحسن علي بن القاسم الشهرزوري، وصلاح الدين محمد أمير حاجب البرسقي، فحضرا دركاه السلطان ليخاطبا في ذلك، وكانا يخافان جاولي، ولا يرضيان بطاعته والتصرف بما يحكم به، فاجتمع صلاح الدين، ونصير الدين جقر الذي صار نائباً عن أتابك عماد الدين بالموصل، وكان بينهما مصاهرة، وذكر له صلاح الدين ما ورد فيه، وأفشى إليه سره، فخوفه نصير الدين من جاولي، وقبح عنده طاعته، وقرر في نفسه أنه إنما أبقاه وأمثاله لحاجته إليهم، ومتى أجيب إلى مطلوبه لا يبقي على أحد منهم.

وتحدث معه في المخاطبة في ولاية عماد الدين زنكي، وضمن له الولايات والأقطاع الكثيرة، وكذلك للقاضي بهاء الدين الشهرزوري، فأجابه إلى ذلك، وأحضره معه عند القاضي بهاء الدين، وخاطباه في هذا الأمر، وضمنا له كل ما أراده فوافقهما على ما طلبا، وركب هو وصلاح الدين إلى دار الوزير، وهو حينئذ شرف الدين أنوشروان بن خالد، وقالا له: قد علمت أنت والسلطان أن ديار الجزيرة والشام قد تمكن الفرنج منها، وقويت شوكتهم بها، فاستولوا على أكثرها، وقد أصبحت ولايتهم من حدود ماردين إلى عريش مصر، ما عدا البلاد الباقية بيد المسلمين، وقد كان البرسقي مع شجاعته، وتجريبه، وانقياد العساكر إليه، يكف بعض عاديتهم وشرهم، فمذ قتل ازداد طمعهم، وهذا ولده طفل صغير، ولا بد للبلاد من رجل شهم، شجاع، ذي رأي وتجربة، يذب عنها ويحفظها ويحمي حوزتها، وقد أنهينا الحال لئلا يجري خلل، أو وهن على الإسلام والمسلمين، فيختص اللوم بنا، ويقال: ألا أنهيتم إلينا جلية الحال؟ .
فرفع الوزير قولهما إلى السلطان، فاستحسنه، وشكرهما عليه، وأحضرهما، واستشارهما فيمن يصلح للولاية، فذكرا جماعة منهم عماد الدين زنكي، وبذلا عنه، تقرباً إلى خزانة السلطان، مالاً جليلاً، فأجاب السلطان إلى توليته، لما يعلمه من كفايته لما يليه، فأحضره وولاه البلاد كلها، وكتب منشورة بها.
وسار فبدأ بالبوازيج ليم
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://arabelalekat.yoo7.com
الشيخ عودة
الشيخ عودة
الشيخ عودة



عدد المساهمات : 1748
تاريخ التسجيل : 28/09/2008
العمر : 74

كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير - صفحة 7 Empty
مُساهمةموضوع: رد: كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير   كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير - صفحة 7 Emptyالثلاثاء فبراير 25, 2014 11:34 am

ذكر ملك عماد الدين زنكي مدينة حلب
في هذه السنة، أول المحرم، ملك عماد الدين زنكي بن آقسنقر مدينة حلب وقلعتها، ونحن نذكر كيف كان سبب ملكها، فنقول: قد ذكرنا ملك البرسقي لمدينة حلب وقلعتها سنة ثماني عشرة، واستخلافه بها ابنه مسعوداً، ولما قتل البرسقي سار مسعود عنها إلى الموصل وملكها، واستناب بحلب أميراً اسمه قومان، ثم إنه ولى عليها أميراً اسه قتلغ أبه، وسيره بتوقيع إلى قومان بتسليمها، فقال: بيني وبين عز الدين علامة لم أرها، ولا أسلم إلا بها، وكانت العلامة بينهما صورة غزال، وكان مسعود بن البرسقي حسن التصوير، فعاد قتلغ أبه إلى مسعود، وهو يحاصر الرحبة، فوجده قد مات، فعاد إلى حلب مسرعاً.
وعرف الناس موته، فسلم الرئيس فضائل بن بديع البلد، وأطاعه المقدمون به، واستنزلوا قومان من القلعة، بعد أن صح عنده وفاة صاحبه مسعود، وأعطوه ألف دينار، فتسلم قتلغ القلعة في الرابع والعشرين من جمادى الآخرة سنة إحدى وعشرين، فظهر منه بعد أيام جور شديد، وظلم عظيم، ومد يده إلى أموال الناس، لا سيما التركات، فإنه أخذها، وتقرب إليه الأشرار، فنفرت قلوب الناس منه.
وكان بالمدينة بدر الدولة سليمان بن عبد الجبار بن أرتق الذي كان قديماً صاحبها، فأطاعه أهلها، وقاموا ليلة الثلاثاء ثاني شوال فقبضوا على كل من كان بالبلد من أصحاب قتلغ أبه، وكان أكثرهم يشربون في البلد صبخة العيد، وزحفوا إلى القلعة، فتحصن قتلغ أبه فيها بمن معه، فحصروه، ووصل إلى حلب حسان صاحب منبج، وحسن صاحب بزاعة، لإصلاح الأمر فلم ينصلح.
وسمع الفرنج بذلك، فتقدم جوسلين بعسكره إلى المدينة، فصونع بمال، فعاد عنها، ثم وصل بعده صاحب أنطاكية في جمع من الفرنج، فخندق الحلبيون حول القلعة، فمنع الداخل والخارج إليها من ظاهر البلد، وأشرف الناس على الخطر العظيم إلى منتصف ذي الحجة من السنة.

وكان عماد الدين قد ملك الموصل والجزيرة، فسير إلى حلب الأمير سنقرجة دراز، والأمير حسن قراقوش، وهما من أكابر أمراء البرسقي، وقد صاروا معه في عسكر قوي، ومعه التوقيع من السلطان بالموصل، والجزيرة، والشام، فاستقر الأمر أن يسير بدر الدولة بن عبد الجبار وقتلغ أبه إلى الموصل إلى عماد الدين، فسارا إليه، وأقام حسن قراقوش بحلب والياً عليها ولاية مستعارة، فلما وصل بدر الدولة وقتلغ أبه إلى عماد الدين أصلح بينهما، ولم يرد واحداً منهما إلى حلب، وسير حاجبه صلاح الدين محمداً الياغيسياني إليها في عسكر، فصعد القلعة، ورتب الأمور، وجعل فيها والياً.
وسار عماد الدين زنكي إلى الشام في جيوشه وعساكره، فملك في طريقه مدينة منبج وبزاعة، وخرج أهل حلب إليه، فالتقوه، واستبشروا بقدومه، ودخل البلد واستولى عليه، ورتب أموره، وأقطع أعماله الأجناد والأمراء، فلما فرغ من الذي أراده قبض على قتلغ أبه وسلمه إلى ابن بديع، فكحله بداره بحلب، فمات قتلغ أبه، واستوحش ابن بديع، فهرب إلى قلعة جعبر واستجار بصاحبها، فأجاره.
وجعل عماد الدين في رئاسة حلب أبا الحسن علي بن عبد الرزاق، ولولا أن الله تعالى من على المسلمين بملك أتابك ببلاد الشام لملكها الفرنج لأنهم كانوا يحصرون بعض البلاد الشامية، وإذا علم ظهير الدين طغتكين بذلك جمع عساكره وقصد بلادهم وحصرها وأغار عليها، فيضطر الفرنج إلى الرحيل لدفعه عن بلادهم، فقدر الله تعالى أنه توفي هذه السنة، فخلا لهم الشام من جميع جهاته من رجل يقوم بنصرة أهله، فلطف الله بالمسلمين بولاية عماد الدين، ففعل الفرنج ما نذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر قدوم السلطان سنجر إلى الريفي هذه السنة خرج السلطان سنجر من خراسان إلى الري في جيش كثير.
وكان سبب ذلك: أن دبيس بن صدقة لما وصل إليه هو والملك طغرل، على ما ذكرناه، لم يزل يطمعه في العراق، ويسهل عليه قصده، ويلقي في نفسه أن المسترشد بالله والسلطان محمود متفقان على الامتناع منه، ولم يزل به حتى أجابه إلى المسير إلى العراق، فلما ساروا وصل إلى الري، وكان السلطان محمود بهمذان، فأرسل إليه السلطان سنجر يستدعيه إليه لينظر هل هو على طاعته أم قد تغير على ما زعم دبيس، فلما جاءه الرسول بادر إلى المسير إلى عمه، فلما وصل إليه أمر العسكر جميعه بلقائه، وأجلسه معه على التخت، وبالغ في إكرامه، وأقام عنده إلى منتصف ذي الحجة، ثم عاد السلطان سنجر إلى خراسان، وسلم دبيساً إلى السلطان محمود، ووصاه بإكرامه وإعادته إلى بلده، ورجع محمود إلى همذان ودبيس معه، ثم سارا إلى العراق، فلما قاربا بغداد خرج الوزير إلى لقائه، وكان قدومه تاسع المحرم سنة ثلاث وعشرين.
وكان الوزير أبو القاسم الأنساباذي قد قبض السلطان محمود عليه، فلما اجتمع بالسلطان سنجر أمر بإطلاقه فأطلقه، وقرره سنجر في وزارته ابنته التي زوجها بالسلطان محمود، فلما وصل معه إلى بغداد أعاده محمود إلى وزارته في الرابع والعشرين من المحرم، وهي وزارته الثانية.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة ثامن صفر توفي أتابك طغتكين، صاحب دمشق، وهو مملوك الملك تتش بن ألب أرسلان، وكان عاقلاً، خيراً، كثير الغزوات والجهاد للفرنج، حسن السيرة في رعيته، مؤثراً للعدل فيهم، وكان لقبه ظهير الدين، ولما توفي ملك بعده ابنه تاج الملوك بوري، وهو أكبر أولاده، بوصية من والده بالملك، وأقر وزير أبيه أبو علي طاهر بن سعد المزدقاني على وزارته.
وفيها، مستهل رجب، توفي الوزير جلال الدين أبو علي بن صدقة، وزير الخليفة، وكان حسن السيرة، جميل الطريقة، متواضعاً، محباً لأهل العلم، مكرماً لهم، وله شعر حسن ، فمنه في مدح المسترشد بالله:
وجدت الورى كالماء طعماً ورقة، ... وأن أمير المؤمنين زلاله
وصورت معنى العقل شخصاً مصوراً، ... وأن أمير المؤمنين مثاله
ولولا طريق الدين والشرع والتقى ... لقلت من الإعظام جل جلاله
وأقيم في النيابة بعده شرف الدين علي بن طراد الزينبي، ثم جعل وزيراً، وخلع عليه آخر شهر ربيع الآخر من سنة ثلاث وعشرين ولم يزِر للخلفاء من بني العباس هاشمي غيره.

وفيها هبت ريح شديدة اسودت لها الآفاق، وجاءت بتراب أحمر يشبه الرمل، وظهر في السماء أعمدة كأنها نار، فخاف الناس، وعدلوا إلى الدعاء والاستغفار، فانكشف عنهم ما يخافونه.
ثم دخلت سنة ثلاث وعشرين وخمسمائة
ذكر قدوم السلطان محمود إلى بغداد
في هذه السنة، في المحرم، قدم السلطان محمود بغداد، بعد عوده من عند عمه السلطان سنجر، ومعه دبيس بن صدقة، ليصلح حاله مع الخليفة المسترشد بالله، فتأخر دبيس عن السلطان، ثم دخل بغداد، ونزل بدار السلطان، واسترضى عنه الخليفة، فامتنع الخليفة من الإجابة إلى أن يولي دبيس شيئاً من البلاد، وبذل مائة ألف دينار لذلك.
وعلم أتابك زنكي أن السلطان يريد أن يولي دبيس الموصل، فبذل مائة ألف دينار، وحضر بنفسه إلى خدمة السلطان، فلم يشعر السلطان به إلا وهو عند الستر، وحمل معه الهدايا الجليلة، فأقام عند السلطان ثلاثة أيام، وخلع عليه، وأعاده إلى الموصل.
وخرج السلطان يتصيد، فعمل له شيخ المزرفة دعوة عظيمة امتار منها جميع عسكر السلطان، وأدخله إلى حمام في داره، وجعل فيه عوض الماء ماء الورد، فأقام السلطان إلى رابع جمادى الآخرة، وسار عنها إلى همذان، وجعل بهزور على شحنكية بغداد، وسلمت إليه الحلة أيضاً.
ذكر ما فعله دبيس بالعراق
وعود السلطان إلى بغداد
لما رحل السلطان إلى همذان ماتت زوجته، وهي ابنة السلطان سنجر، وهي التي كانت تعنى بأمر دبيس، وتدافع عنه، فلما ماتت انحل أمر دبيس.
ثم إن السلطان مرض مرضاً شديداً، فأخذ دبيس ابناً له صغيراً وقصد العراق، فلما سمع المسترشد بالله بذلك جند الأجناد وحشد، وكان بهروز بالحلة، فهرب منها، فدخلها دبيس في شهر رمضان، فلما سمع السلطان الخبر عن دبيس أحضر الأميرين قزل، والأحمديلي، وقال: أنتما ضمنتما دبيساً مني، وأريده منكما. فسار الأحمديلي إلى العراق، إلى دبيس، ليكف شره عن البلاد، ويحضره إلى السلطان، فلما سمع دبيس الخبر أرسل إلى الخليفة يستعطفه، ويقول: إن رضيت عني فأنا أرد أضعاف ما أخذت، وأكون العبد المملوك، فتردد الرسل ودبيس يجمع الأموال، والرجال، فاجتمع معه عشرة آلاف فارس، وكان قد وصل في ثلاثمائة فارس، ووصل الأحمديلي بغداد في شوال، وسار في أثر دبيس.
ثم إن السلطان سار إلى العراق، فلما سمع دبيس بذلك أرسل إليه هدايا جليلة المقدار، وبذل ثلاثمائة حصان منعلة بالذهب، ومائتي ألف دينار، ليرضى عنه السلطان والخليفة، فلم يجبه إلى ذلك، ووصل السلطان إلى بغداد في ذي القعدة، فلقيه الوزير الزينبي وأرباب المناصب، فلما تيقن دبيس وصوله رحل إلى البرية، وقصد البصرة وأخذ منها أموالاً كثيرة، وما للخليفة والسلطان هناك من الدخل، فسير السلطان إثره عشرة آلاف فارس، ففارق البصرة ودخل البرية.
ذكر قتل الإسماعيلية بدمشققد ذكرنا فيما تقدم قتل إبراهيم الأسداباذي ببغداد، وهرب ابن أخته بهرام إلى الشام، وملكه قلعة بانياس، ومسيره إليها، ولما فارق دمشق أقام له بها خليفة يدعو الناس إلى مذهبه، فكثروا وانتشروا، وملك هو عدة حصون من الجبال منها القدموس وغيره، وكان بوادي التيم، من أعمال بعلبك، وأصحاب مذاهب مختلفة من النصيرية، والدرزية، والمجوس، وغيرهم، وأميرهم اسمه الضحاك، فسار إليهم بهرام سنة اثنتين وعشرين وحصرهم وقاتلهم، فخرج إليه الضحاك في ألف رجل، وكبس عسكر بهرام فوضع السيف فيهم، وقتل منهم مقتلة كثيرة، وقتل بهرام، وانهزم من سلم، وعادوا إلى بانياس على أقبح صورة.
وكان بهرام قد استخلف في بانياس رجلاً من أعيان أصحابه اسمه إسماعيل، فقام مقامه، وجمع شمل من عاد إليه منهم، وبث دعاته في البلاد، وعاضده المزدقاني أيضاً، وقوى نفسه على ما عنده من الامتعاض بهذه الحادثة، والهم بسببها.

ثم إن المزدقاني أقام بدمشق عوض بهرام إنساناً اسمه أبو الوفاء، فقوي أمره وعلا شأنه وكثر أتباعه، وقام بدمشق، فصار المستولي على من بها من المسلمين، وحكمه أكثر من حكم صاحبها تاج الملوك. ثم إن المزدقاني راسل الفرنج ليسلم إليهم مدينة دمشق، ويسلموا إليه مدينة صور، واستقر الأمر بينهم على ذلك، وتقرر بينهم الميعاد يوم جمعة ذكروه، وقرر المزدقاني مع الإسماعيلية أن يحتاطوا ذلك اليوم بأبواب الجامع فلا يمكنوا أحداً من الخروج منه ليجيء الفرنج ويملكوا البلاد. فبلغ الخبر تاج الملوك، صاحب دمشق، فاستدعى المزدقاني إليه، فحضر، وخلا معه، فقتله تاج الملوك، وعلق رأسه على باب القلعة، ونادى في البلد بقتل الباطنية، فقتل منهم ستة آلاف نفس، وكان ذلك منتصف رمضان من السنة، وكفى الله المسلمين شرهم، ورد على الكافرين كيدهم.
ولما تمت هذه الحادثة بدمشق على الإسماعيلية خاف إسماعيل والي بانياس أن يثور به وبمن معه الناس فيهلكوا، فراسل الفرنج، وبذل لهم تسليم بانياس إليهم، والانتقال إلى بلادهم، فأجابوه، فسلم القلعة إليهم، وانتقل هو ومن معه من أصحابه إلى بلادهم، ولقوا شدة وذلة وهواناً، وتوفي إسماعيل أوائل سنة أربع وعشرين، وكفى الله المؤمنين شرهم.
ذكر حصر الفرنج دمشق وانهزامهملما بلغ الفرنج قتل المزدقاني والإسماعيلية بدمشق عظم عليهم ذلك، وتأسفوا على دمشق حيث لم يتم لهم ملكها، وعمتهم المصيبة، فاجتمعوا كلهم: صاحب القدس، وصاحب أنطاكية، وصاحب طرابلس، وغيرهم من الفرنج وقمامصتهم، ومن وصل إليهم في البحر للتجارة والزيارة، فاجتمعوا في خلق عظيم نحو ألفي فارس، وأما الراجل فلا يحصى، وساروا إلى دمشق ليحصروها.
ولما سمع تاج الملوك بذلك جمع العرب والتركمان، فاجتمع معهم ثمانية آلاف فارس، ووصل الفرنج في ذي الحجة، فنازلوا البلد، وأرسلوا إلى أعمال دمشق لجمع الميرة والإغارة على البلاد، فلما سمع تاج الملوك أن جمعاً كثيراً قد ساروا إلى حوران لنهبه، وإحضاره الميرة، سير أميراً من أمرائه، يعرف بشمس الخواص، في جمع من المسلمين إليهم، وكان خروجهم في ليلة شاتية، كثيرة المطر، ولقوا الفرنج من الغد، فواقعوهم، واقتتلوا، وصبر بعضهم لبعض، فظفر بهم المسلمون وقتلوهم، فلم يفلت منهم غير مقدمهم ومعه أربعون رجلاً، وأخذوا ما معهم، وهي عشرة آلاف دابة موقَرة، وثلاثمائة أسير، وعادوا إلى دمشق لم يمسسهم قرح. فلما علم من عليها من الفرنج ذلك ألقى الله في قلوبهم الرعب، فرحلوا عنها شبه المنهزمين، وأحرقوا ما تعذر عليهم حمله من سلاح وميرة وغير ذلك، وتبعهم المسلمون، والمطر شديد، والبرد عظيم، يقتلون كل من تخلف منهم، فكثر القتلى منهم، وكان نزولهم ورحيلهم في ذي الحجة من هذه السنة.
ذكر ملك عماد الدين زنكي مدينة حماةفي هذه السنة ملك عماد الدين زنكي بن آقسنقر، صاحب الموصل، مدينة حماة.
وسبب ذلك: أنه عبر الفرات إلى الشام، وأظهر أنه يريد جهاد الفرنج، وأرسل إلى تاج الملوك بوري بن طغتكين، صاحب دمشق، يستنجده، ويطلب منه المعونة على جهادهم، فأجاب إلى المراد، وأرسل من أخذ له العهود والمواثيق، فلما وصلت التوثقة جرد عسكراً من دمشق مع جماعة من الأمراء، وأرسل إلى ابنه سونج، وهو بمدينة حماة، يأمره بالنزول إلى العسكر، والمسير معهم إلى زنكي، ففعل ذلك، فساروا جميعهم، فوصلوا إليه، فأكرمهم، وأحسن لقاءهم، وتركهم أياماً.
ثم إنه غدر بهم، فقبض على سونج ولد تاج الملوك، وعلى جماعة الأمراء المقدمين، ونهب خيامهم وما فيها من الكراع، واعتقلهم بحلب، وهرب من سواهم، وسار من يومه إلى حماة، فوصل إليها وهي خالية من الجند الحماة الذابين، فملكها واستولى عليها، ورحل عنها إلى حمص، وكان صاحبها قرجان بن قراجة معه في عسكره، وهو الذي أشار عليه بالغدر بولد تاج الملوك، فقبض عليه، ونزل على حمص وحصرها، وطلب من قرجان صاحبها أن يأمر نوابه وولده الذين فيها بتسليمها، فأرسل إليهم بالتسليم، فلم يقبلوا منه، ولا التفتوا إلى قوله، فأقام عليها محاصراً لها، ومقاتلاً لمن فيها مدة طويلة، فلم يقدر على ملكها، فرحل عنها عائداً إلى الموصل، واستصحب معه سونج بن تاج الملوك ومن معه من الأمراء الدمشقيين.

وترددت الرسل في إطلاقهم بينه وبين تاج الملوك، واستقر الأمر على خمسين ألف دينار، فأجاب تاج الملوك إلى ذلك، ولم ينتظم بينهم أمر.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة ملك بيمند، صاحب أنطاكية، حصن القدموس من المسلمين.
وفي هذه السنة أيضاً وثب الإسماعيلية على عبد اللطيف بن الخجندي، رئيس الشافعية بأصبهان، فقتلوه، وكان ذا رئاسة عظيمة وتحكم كثير.
وفي هذه السنة توفي الإمام أبو الفتح أسعد بن أبي نصر الميهني، الفقيه الشافعي، مدرس النظامية ببغداد، وله طريقة مشهورة في الخلاف، وتفقه على أبي المظفر السمعاني، وكان له قبول عظيم عند الخليفة، والسلطان، وسائر الناس.
وفيها توفي حمزة بن هبة الله بن محمد بن الحسن الشريف العلوي، الحسني، النيسابوري، سمع الحديث الكثير، ورواه، ومولده سنة تسع وعشرين وأربعمائة، وجمع مع شرف النسب شرف النفس والتقوى، وكان زيدي المذهب.
ثم دخلت سنة أربع وعشرين وخمسمائة
ذكر ملك السلطان سنجر مدينة سمرقند
من محمد خان وملك محمود بن محمد خان المذكور
في هذه السنة، في ربيع الأول، ملك السلطان سنجر مدينة سمرقند.
وسبب ذلك: أنه كان قد رتب فيها، لما ملكها أولاً، أرسلان خان محمد بن سليمان بن بغراجان داود، فأصابه فالج، فاستناب ابناً له يعرف بنصرخان، وكان شهماً، شجاعاً، وكان بسمرقند إنسان علوي، فقيه، مدرس، إليه الحل والعقد، والحكم في البلد، فاتفق هو ورئيس البلد على قتل نصر خان، فقتلاه ليلاً، وكان أبوه محمد خان غائباً، فعظم عليه واشتد، وكان له ابن آخر غائب في بلاد تركستان. فأرسل إليه واستدعاه، فلما قارب سمرقند خرج العلوي ورئيس البلد إلى استقباله، فقتل العلوي في الحال، وقبض على الرئيس.
وكان والده أرسلان خان قد أرسل إلى السلطان سنجر رسولاً يستدعيه، ظناً منه أن ابنه لا يتم أمره مع العلوي والرئيس، فتجهز سنجر وسار يريد سمرقند، فلما ظفر ابن أرسلان خان بهما ندم على استدعاء السلطان سنجر، فأرسل إليه يعرفه أنه قد ظفر بالعلوي والرئيس، وأنه وابنه على الطاعة، ويسأله العود إلى خراسان، فغضب سنجر من ذلك، وأقام أياماً، فبينما هو في الصيد إذ رأى اثني عشر رجلاً في السلاح التام، فقبض عليهم وعاقبهم، فأقروا أن محمد خان أرسلهم ليقتلوه، فقتلهم، ثم سار إلى سمرقند فملكها عنوة، ونهب بعضها، ومنع من الباقي، وتحصن منه محمد خان ببعض تلك الحصون، فاستنزله السلطان سنجر بأمان، بعد مدة، فلما نزل إليه أكرمه وأرسله إلى ابنته زوجة السلطان سنجر، فبقي عندها إلى أن توفي.
وأقام سنجر بسمرقند مدة حتى أخذ المال والسلاح والخزائن، وسلم البلد إلى الأمير حسن تكين، وعاد إلى خراسان، فلم يلبث حسن تكين أن مات، فملك سنجر بعده عليها محمود بن محمد خان بن سليمان بن داود، المقدم ذكره، وقيل إن السبب غير ما ذكرناه، وسيرد ذكره سنة ست وثلاثين للحاجة إلى ذكره هناك.
ذكر فتح عماد الدين حصن الأثارب
وهزيمة الفرنج
لما فرغ عماد الدين زنكي من أمر البلاد الشامية، حلب وأعمالها، وما ملكه، وقرر قواعده، عاد إلى الموصل، وديار الجزيرة، ليستريح عسكره، ثم أمرهم بالتجهز للغزاة، فتجهزوا وأعدوا واستعدوا، وعاد إلى الشام، وقصد حلب، فقوي عزمه على قصد حصن الأثارب، ومحاصرته، لشدة ضرره على المسلمين.
وهذا الحصن بينه وبين حلب نحو ثلاثة فراسخ، بينها وبين أنطاكية، وكان من به من الفرنج يقاسمون حلب على جميع أعمالها الغربية، حتى على رحى لأهل حلب بظاهر باب الجنان، بينها وبين البلد عرض الطريق، وكان أهل البلد معهم في ضر شديد، وضيق، كل يوم قد أغاروا عليهم، ونهبوا أموالهم. فلما رأى الشهيد هذه الحال صمم العزم على حصر هذا الحصن، فسار إليه ونازله.
فلما علم الفرنج بذلك جمعوا فارسهم وراجلهم، وعلموا أن هذه وقعة لها ما بعدها، فحشدوا وجمعوا، ولم يتركوا من طاقتهم شيئاً إلا استنفدوه، فلما فرغوا من أمرهم ساروا نحوه، فاستشار أصحابه فيما يفعل، وكل أشار بالعود عن الحصن، فإن لقاء الفرنج في بلادهم خطر لا يدرى على أي شيء تكون العاقبة. فقال لهم: إن الفرنج متى رأونا قد عدنا من أيديهم طمعوا وساروا في أثرنا، وخربوا بلادنا، ولا بد من لقائهم على كل حال.

ثم ترك الحصن وتقدم إليهم، فالتقوا، واصطفوا للقتال، وصبر كل فريق لخصمه، واشتد الأمر بينهم، ثم إن الله تعالى أنزل نصره على المسلمين، فظفروا، وانهزم الفرنج أقبح هزيمة، ووقع كثير من فرسانهم في الأسر، وقتل منهم خلق كثير، وتقدم عماد الدين إلى عسكره بالإنجاز، وقال: هذا أول مصاف عملناه معهم، فلنذقهم من بأسنا ما يبقى رعبه في قلوبهم، ففعلوا ما أمرهم، ولقد اجتزت بتلك الأرض سنة أربع وثمانين وخمسمائة ليلاً، فقيل لي: إن كثيراً من العظام باق إلى ذلك الوقت.
فلما فرغ المسلمون من ظفرهم عادوا إلى الحصن فتسلموه عنوة، وقتلوا وأسروا كل من فيه، وأخربه عماد الدين، وجعله دكاً، وبقي إلى الآن خراباً، ثم سار منه إلى قلعة حارم، وهي بالقرب من أنطاكية، فحصرها، وهي أيضاً للفرنج، فبذل له أهلها نصف دخل بلد حارم، وهادنوه، فأجابهم إلى ذلك، وعاد عنهم وقد استدار المسلمون بتلك الأعمال، وضعفت قوى الكافرين، وعلموا أن البلاد قد جاءها ما لم يكن لهم في حساب، وصار قصاراهم حفظ ما بأيديهم بعد أن كانوا قد طمعوا في ملك الجميع.
ذكر ملك عماد الدين مدينة سرجيلما فرغ من أمر الأثارب وتلك النواحي، عاد إلى ديار الجزيرة، وكان قد بلغه عن حسام الدين تمرتاش بن إيلغازي، صاحب ماردين، وابن عمه ركن الدولة داود بن سقمان، صاحب حصن كيفا، قوارص، فعاد إليهم، وحصر مدينة سرجي، وهي بين ماردين ونصيبين، فاجتمع حسام الدين، وركن الدولة، وصاحب آمد، وغيرهم، وجمعوا خلقاً كثيراً من التركمان بلغت عدتهم عشرين ألفاً، وساروا إليه، فتصافوا بتلك النواحي، فهزمهم عماد الدين وملك سرجي.
فحكى لي ولدي وقال: لما انهزم ركن الدولة داود قصد بلد جزيرة ابن عمر ونهبه، فبلغ الخبر إلى عماد الدين، فسار نحو الجزيرة، وأراد دخول بلد داود، ثم عاد عنه لضيق مسالكه، وخشونة الجبال التي في الطريق، وسار إلى دارا فملكها، وهي من القلاع في تلك الأعمال.
ذكر وفاة الآمر وخلافة الحافظ العلويفي هذه السنة، ثاني ذي القعدة، قتل الآمر بأحكام الله أبو علي بن المستعلي العلوي، صاحب مصر، خرج إلى متنزه له، فلما عاد وثب عليه الباطنية فقتلوه، لأنه كان سيء السيرة في رعيته، وكانت ولايته تسعاً وعشرين سنة وخمسة أشهر، وعمره أربعاً وثلاثين سنة، وهو العاشر من ولد المهدي عبيد الله الذي ظهر بسجلماسة وبنى المهدية بإفريقية، وهو أيضاً العاشر من الخلفاء العلويين من أولاد المهدي أيضاً.
ولما قتل لم يكن له ولده بعده، فولي بعده ابن عمه الميمون عبد المجيد ابن الأمير أبي القاسم بن المستنصر بالله، ولم يبايع بالخلافة، وإنما بويع له لينظر في الأمر نيابة، حتى يكشف عن حمل إن كان للآمر فتكون الخلافة فيه، ويكون هو نائباً عنه.
ومولد الحافظ بعسقلان، لأن أباه خرج من مصر إليها في الشدة، فأقام بها، فولد ابنه عبد المجيد هناك، ولما ولي استوزر أبا علي أحمد بن الأفضل بن بدر الجمالي، واستبد بالأمر، وتغلب على الحافظ، وحجر عليه، وأودعه في خزانة، ولا يدخل إليه إلا من يريده أبو علي، وبقي الحافظ له اسم لا معنى تحته، ونقل أبو علي كل ما في القصر إلى داره من الأموال وغيرها، ولم يزل الأمر كذلك إلى أن قتل أبو علي سنة ست وعشرين فاستقامت أمور الحافظ، وحكم في دولته، وتمكن من ولايته وبلاده.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة توفيت الخاتون ابنة السلطان سنجر، وهي زوجة السلطان محمود.
وفيها قتل بيمند الفرنجي صاحب أنطاكية.
وفيها توفي نصير الدين محمود بن مؤيد الملك بن نظام الملك، في شعبان، ببغداد، ووقع الحريق في داره بعد وفاته، وفي حظائر الحطب، والسوق التتشي، فذهب من الناس أموال كثيرة.
وفيها وزر الرئيس أبو الذواد المفرج بن الحسن بن الصوفي لصاحب دمشق تاج الملوك.
وفيها كان الرصد بالدار السلطانية، شرقي بغداد، تولاه البديع الاصطرلابي، ولم يتم.
وفيها ظهر ببغداد عقارب طيارة ذوات شوكتين، فنال الناس منها خوف شديد، وأذى عظيم.

وفيها، في ذي الحجة، خرج الملك مسعود بن محمد من خراسان، وكان عند عمه السلطان سنجر، ووصل إلى ساوة، ووقع الإرجاف أن عزمه على مخالفة أخيه السلطان محمود قوي، وأن عمه سنجر أمره بذلك، فاستشعر السلطان محمود، وسار عن بغداد إلى همذان، فلما وصل إلى كرمانشاهان وصل إليه أخوه الملك مسعود وخدمه، ولم يظهر للإرجاف أثر، فأقطعه السلطان مدينة كنجة وأعمالها وسيره إليها.
وفيها كانت زلزلة عظيمة، في ربيع الأول، بالعراق، وبلد الجبل، والموصل، والجزيرة، فخربت كثيراً.
وفيها ملك السلطان محمود قلعة ألموت.
وفيها توفي إبراهيم بن عثمان بن محمد أبو إسحاق الغزي من أهل غزة، مدينة بفلسطين من الشام، ومولده سنة إحدى وأربعين وأربعمائة، وهو من الشعراء المجيدين، فمن قوله من قصيدة يصف فيها الأتراك:
في فتية من جيوش الترك ما تركت ... للرعد كراتهم صوتاً ولا صيتا
قوم إذا قوبلوا كانوا ملائكةً ... حسناً، وإن قوتلوا كانوا عفاريتا
وله في الزهد:
إنما هذه الحياة متاع، ... والسفيه الغوي من يصطفيها
ما مضى فات والمؤمل غيبٌ ... ولك الساعة التي أنت فيها
وفيها توفي الحسين بن محمد بن عبد الوهاب بن أحمد بن محمد الدباس ابو عبد الله النحوي، الشاعر، المعروف بالبارع، أخو أبي الكرم بن فاخر النحوي لأمه، ولد سنة ثلاث وأربعين وأربعمائة، وله شعر مليح، فمنه قوله:
ردي علي الكرى ثم اهجري سكني ... فقد قنعت بطيف منك في الوسن
لا تحسبي النوم قد أوشحت أطلبه، ... إلا رجاء خيال منك يؤنسني
تركتني والهوى فرداً أغالبه، ... ونام ليلك عن هم يؤرقني
وهي طويلة.
وفيها توفي هبة الله بن القاسم بن محمد بن عطا بن محمد أبو سعد المهرواني، النيسابوري، ومولده سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة، وكان محدثاً، حافظاً، صالحاً.
ثم دخلت سنة خمس وعشرين وخمسمائة
ذكر أسر دبيس بن صدقة
وتسليمه إلى عماد الدين زنكي
في هذه السنة، في شعبان، أسر تاج الملوك بوري بن طغتكين، صاحب دمشق، الأمير دبيس بن صدقة، صاحب الحلة، وسلمه إلى أتابك الشهيد زنكي بن آقسنقر.
وسبب ذلك: أنه لما فارق البصرة، على ما ذكرناه، جاءه قاصد من الشام، من صرخد، يستدعيه إليها، لأن صاحبها كان خصياً، فتوفي هذه السنة، وخلف جارية سرية له، فاستولت على القلعة وما فيها، وعلمت أنها لا يتم لها ذلك إلا بأن تتصل برجل له قوة ونجدة، فوصف لها دبيس بن صدقة وكثرة عشيرته، وذكر لها حاله، وما هو عليه بالعراق، فأرسلت تدعوه إلى صرخد لتتزوج به، وتسلم القلعة وما فيها من مال وغيره إليه. فأخذ الأدلاء معه، وسار من أرض العراق إلى الشام، فضل به الأدلاء بنواحي دمشق، فنزل بناس من كلب كانوا شرقي الغوطة، فأخذوه وحملوه إلى تاج الملوك، صاحب دمشق، فحبسه عنده.
وسمع أتابك عماد الدين زنكي الخبر، وكان دبيس يقع فيه وينال منه، فأرسل إلى تاج الملوك يطلب منه دبيساً ليسلمه إليه، ويطلق ولده، ومن معه من الأمراء المأسورين، وإن امتنع من تسليمه سار إلى دمشق وحصرها وخربها ونهب بلدها، فأجاب تاج الملوك إلى ذلك، وأرسل أتابك سونج بن تاج الملوك، والأمراء الذين معه، وأرسل تاج الملوك دبيساً، فأيقن دبيس بالهلاك، ففعل زنكي معه خلاف ما ظن، وأحسن إليه، وحمل له الأقوات، والسلاح والدواب وسائر أمتعة الخزائن، وقدمه حتى على نفسه، وفعل معه ما يفعل أكابر الملوك.
ولما سمع المسترشد بالله بقبضه بدمشق أرسل سديد الدولة بن الأنباري، وأبا بكر بن بشر الجزري، من جزيرة ابن عمر، إلى تاج الملوك يطلب منه أن يسلم دبيساً إليه، لما كان متحققاً به من عداوة الخليفة، فسمع سديد الدولة ابن الأنباري بتسليمه إلى عماد الدين، وهو في الطريق، فسار إلى دمشق ولم يرجع، وذم أتابك زنكي بدمشق، واستخف به، وبلغ الخبر عماد الدين، فأرسل إلى طريقه من يأخذه إذا عاد، فلما رجع من دمشق قبضوا عليه، وعلى ابن بشر، وحملوهما إليه، فأما ابن بشر فأهانه وجرى في حقه مكروه، وأما ابن الأنباري فسجنه.
ثم إن المسترشد بالله شفع فيه فأطلق، ولم يزل دبيس مع زنكي حتى انحدر معه إلى العراق، على ما نذكره إن شاء الله تعالى.

ذكر وفاة السلطان محمود
وملك ابنه داود
في هذه السنة، في شوال، توفي السلطان محمود ابن السلطان محمد بهمذان، وكان قبل مرضه قد خاف وزيره أبو القاسم الأنساباذي من جماعة من الأمراء وأعيان الدولة، منهم: عزيز الدين أبو نصر أحمد بن حامد المستوفي، والأمير أنوشتكين المعروف بشيركير، وولده عمر، وهو أمير حاجب السلطان، وغيرهم، فأما عزيز الدين فأرسله مقبوضاً عليه إلى مجاهد الدين بهروز بتكريت، ثم قتل بها، وأما شيركير وولده فقتلا في جمادى الآخرة.
ثم إن السلطان مرض وتوفي في شوال، وأقعد ولده الملك داود في السلطنة باتفاق من الوزير أبي القاسم وأتابكه آقسنقر الأحمديلي، وخطب له في جميع بلاد الجبل وأذربيجان، ووقعت الفتنة بهمذان وسائر بلاد الجبل، ثم سكنت، فلما اطمأن الناس وسكنوا سار الوزير بأمواله إلى الري، فأمن فيها حيث هي للسلطان سنجر.
وكان عمر السلطان محمود لما توفي نحو سبع وعشرين سنة، وكانت ولايته للسلطنة اثنتي عشرة سنة وتسعة أشهر وعشرين يوماً، وكان حليماً، كريماً، عاقلاً، يسمع ما يكره ولا يعاقب عليه، مع القدرة، قليل الطمع في أموال الرعايا، عفيفاً عنها، كافاً لأصحابه عن التطرق إلى شيء منها.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة ثار الباطنية بتاج الملوك بوري بن طغتكين، صاحب دمشق، فجرحوه جرحين، فبرأ أحدهما، وتنسر الآخر، وبقي فيه ألمه، إلا أنه يجلس للناس، ويركب معهم على ضعف فيه.
وفيها توفي الأمير أبو الحسن بن المستظهر بالله أخو المسترشد بالله في رجب.
وفيها، في شوال، توفي الحسن بن سليمان بن عبد الله أبو علي الفقيه الشافعي الواعظ، مدرس النظامية ببغداد، وأصله من الزوزان.
والخطيب أبو نصر أحمد بن عبد القاهر المعروف بابن الطوسي، خطيب الموصل، توفي في ربيع الأول.
وحماد بن مسلم الدباس الرحبي الزاهد المشهور، صاحب الكرامات، وسمع الحديث، وله أصحاب وتلامذة كثيرون ساروا، ورأيت الشيخ أبا الفرج بن الجوزي قد ذمه وثلبه، ولهذا الشيخ أسوة بغيره من الصالحين، فإن ابن الجوزي قد صنف كتاباً سماه تلبيس إبليس لم يبق فيه على أحد من سادة المسلمين وصالحيهم.
وهبة الله بن محمد بن عبد الواحد بن الحصين الشيباني الكاتب، ومولده سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة، سمع أبا علي بن المهذب، وأبا طالب بن غيلان وغيرهما، وهو راوي مسند أحمد بن حنبل والغيلانيات وغيرهما.
ومحمد بن الحسن بن علي بن الحسن أبو غالب الماوردي، ولد سنة خمسين وأربعمائة بالبصرة، وسمع الحديث الكثير، وروى سنن أبي داود السجستاني، وكان صالحاً.
ثم دخلت سنة ست وعشرين وخمسمائة
ذكر قتل أبي علي وزير الحافظ
ووزارة يانس وموته
في هذه السنة، في المحرم، قتل الأفضل أبو علي بن الأفضل بن بدر الجمالي وزير الحافظ لدين الله العلوي، صاحب مصر.
وسبب قتله: أنه كان قد حجر على الحافظ، ومنعه أن يحكم في شيء من الأمور، قليل أو جليل، وأخذ ما في قصر الخلافة إلى داره، وأسقط من الدعاء ذكر إسماعيل الذي هو جدهم، وإليه تنسب الإسماعيلية، وهو ابن جعفر بن محمد الصادق، وأسقط من الأذان حي على خير العمل، ولم يخطب للحافظ، وأمر الخطباء أن يخطبوا له بألقاب كتبها لهم، وهي: السيد الأفضل الأجل، سيد مماليك أرباب الدول، والمحامي عن حوزة الدين، وناشر جناح العدل على المسلمين الأقربين والأبعدين، ناصر إمام الحق في حالتي غيبته وحضوره، والقائم بنصرته بماضي سيفه وصائب رأيه وتدبيره، أمين الله على عباده، وهادي القضاة إلى اتباع شرع الحق واعتماده، ومرشد دعاة المؤمنين بواضح بيانه وإرشاده، مولى النعم، ورافع الجور عن الأمم، ومالك فضيلتي السيف والقلم، أبو علي أحمد بن السيد الأجل الأفضل، شاهنشاه أمير الجيوش.
وكان إمامي المذهب، يكثر ذم الآمر، والتناقص به، فنفرت منه شيعة العلويين ومماليكهم، وكرهوه، وعزموا على قتله، فخرج في العشرين من المحرم من هذه السنة إلى الميدان يلعب بالكرة مع أصحابه، فكمن له جماعة منهم مملوك فرنجي كان للحافظ، فخرجوا عليه، فحمل الفرنجي عليه، فطعنه فقتله، وحزوا رأسه، وخرج الحافظ من الخزانة التي كان فيها، ونهب الناس دار أبي علي، وأخذ منها ما لا يحصى، وركب الناس والحافظ إلى داره، فأخذ ما بقي فيها وحمله إلى القصر.

وبويع يومئذ الحافظ بالخلافة، وكان قد بويع له بولاية العهد، وأن يكون كافلاً لحمل إن كان للآمر، فلما بويع بالخلافة استوزر أبا الفتح يانس الحافظي في ذلك اليوم بعينه، ولقب أمير الجيوش، وكان عظيم الهيبة، بعيد الغور، كثير الشر، فخافه الحافظ على نفسه، وتخيل منه أنس، فاحتاط، ولم يأكل عنده شيئاً، ولا شرب، فاحتال عليه الحافظ بأن وضع له فراشه في بيت الطهارة ماء مسموماً، فاغتسل به، فوقع الدود في سفله، وقيل له: متى قمت من مكانك هلكت، فكان يعالج بأن يجعل اللحم الطري في المحل، فيعلق به الدود فيخرج ويجعل عوضه، فقارب الشفاء، فقيل للحافظ: إنه قد صلح، وإن تحرك هلك، فركب إليه الحافظ كأنه يعوده، فقام له ومشى إلى بين يديه، وقعد الحافظ عنده، ثم خرج من عنده، فتوفي من ليلته، وكان موته في السادس والعشرين من ذي الحجة من هذه السنة.
ولما مات يانس استوزر الحافظ ابنه حسناً، وخطبه له بولاية العهد، وسيرد ذكر قتله سنة تسع وعشرين.
وإنما ذكرت ألقاب أبي علي تعجباً منها، ومن حماقة ذلك الرجل، فإن وزير صاحب مصر وحدها إذا كان هكذا فينبغي أن يكون وزير السلاطين السلجوقية كنظام الملك وغيره يدعون الربوبية، على أن تربة مصر هكذا تولد، ألا ترى إلى فرعون يقول: " أنا ربكم الأعلى " ، وإلى أشياء أخر لا نطيل ذكرها.
ذكر حال السلطان مسعود والملكين سلجوقشاه وداود واستقرار السلطنة بالعراق لمسعود
لما توفي السلطان محمود ابن السلطان محمد، وخطب، ببلاد الجبل وأذربيجان، لولده الملك داود، على ما ذكرناه، سار الملك داود من همذان في ذي القعدة من سنة خمس وعشرين إلى زنجان، فأتاه الخبر أن عمه السلطان مسعوداً قد سار من جرجان ووصل إلى تبريز واستولى عليها، فسار الملك داود إليه وحصره بها، وجرى بينهما قتال، إلى سلخ المحرم سنة ست وعشرين ثم اصطلحا.
وتأخر الملك داود مرحلة، وخرج السلطان مسعود من تبريز، واجتمع عليه العساكر، وسار إلى همذان، وأرسل يطلب الخطبة ببغداد، وكانت رسل الملك داود قد تقدمت في طلب الخطبة، فأجاب المسترشد بالله أن الحكم في الخطبة إلى السلطان سنجر من أراد خطب له، وأرسل إلى السلطان سنجر أن لا يأذن لأحد في الخطبة، فإن الخطبة ينبغي أن تكون له وحده، فوقع ذلك منه موقعاً حسناً.
ثم إن السلطان مسعوداً كاتب عماد الدين زنكي، صاحب الموصل وغيرها، يستنجده، ويطلب مساعدته، فوعده النصر، فقويت بذلك نفس مسعود على طلب السلطنة.
ثم إن الملك سلجوقشاه ابن السلطان محمد سار أتابكه قراجة الساقي، صابح فارس وخوزستان، في عسكر كثير إلى بغداد، فوصل إليها قبل وصول السلطان مسعود، ونزل في دار السلطان، وأكرمه الخليفة، واستحلفه لنفسه.
ثم وصل رسول السلطان مسعود يطلب الخطبة، ويتهدد إن منعها، فلم يجب إلى ما طلبه، فسار حتى نزل عباسية الخالص، وبرز عسكر الخليفة وعسكر سلجوقشاه وقراجة الساقي نحو مسعود إلى أن يفرغ من حرب أتابك عماد الدين زنكي، وسار يوماً وليلة إلى المعشوق، وواقع عماد الدين زنكي فهزمه، وأسر كثيراً من أصحابه، وسار زنكي منهزماً إلى تكريت، فعبر فيها دجلة، وكان الدزدار بها حينئذ نجم الدين أيوب، فأقام له المعابر، فلما عبر أمن الطلب، وسار إلى بلاده لإصلاح حاله وحال رجاله، وهذا الفعل من نجم الدين أيوب كان سبباً لاتصاله به والمصير في جملته، حتى آل بهم الأمر إلى ملك مصر والشام وغيرهما على ما نذكره.
وأما السلطان مسعود فإنه سار من العباسية إلى الملكية، ووقعت الطلائع بعضها على بعض، ثم لم تزل المناوشة تجري بينه وبين أخيه سلجوقشاه يومين.
وأرسل سلجوقشاه إلى قراجة يستحثه على المبادرة، فعاد سريعاً وعبر دجلة إلى الجانب الشرقي، فلما علم السلطان مسعود بانهزام عماد الدين زنكي رجع إلى ورائه، وأرسل إلى الخليفة يعرفه وصول السلطان سنجر إلى الري، وأنه عازم على قصد الخليفة وغيره، وإن رأيتم أن نتفق على قتاله ودفعه عن العراق، ويكون العراق لوكيل الخليفة، فأنا موافق على ذلك. فأعاد الخليفة الجواب يستوقفه.

وترددت الرسل في الصلح، فاصطلحوا على أن يكون العراق لوكيل الخليفة، وتكون السلطنة لمسعود، ويكون سلجوقشاه ولي عهده، وتحالفوا على ذلك، وعاد السلطان مسعود إلى بغداد، فنزل بدار السلطان، ونزل سلجوقشاه في دار الشحنكية، وكان اجتماعهم في جمادى الأولى.
ذكر الحرب بين السلطان مسعود وعمه السلطان سنجرلما توفي السلطان محمود سار السلطان سنجر إلى بلاد الجبال، ومعه الملك طغرل ابن السلطان محمد، وكان عنده قد لازمه، فوصل إلى الري، ثم سار منها إلى همذان، فوصل الخبر إلى الخليفة المسترشد بالله والسلطان مسعود بوصوله إلى همذان، فاستقرت القاعدة بينهما على قتاله، وأن يكون الخليفة معهم، وتجهز الخليفة، فتقدم قراجة الساقي، والسلطان مسعود، وسلجوقشاه نحو السلطان سنجر، وتأخر المسترشد بالله عن المسير معهم، فأرسل إلى قراجة، وألزمه، وقال: إن الذي تخاف من سنجر آجلاً أنا أفعله عاجلاً. فبرز حينئذ وسار على تريث، وتوقف إلى أن بلغ إلى خانقين وأقام بها.
وقطعت خطبة سنجر من العراق جميعه، ووصلت الأخبار بوصول عماد الدين زنكي ودبيس بن صدقة إلى قريب بغداد، فأما دبيس فإنه ذكر أن السلطان سنجر أقطعه الحلة، وأرسل إلى المسترشد بالله يضرع ويسأل الرضا عنه، فامتنع من إجابته إلى ذلك.
وأما عماد الدين زنكي فإنه ذكر أن السلطان سنجر قد أعطاه شحنكية بغداد، فعاد المسترشد بالله إلى بغداد، وأمر أهلها بالاستعداد للمدافعة عنها، وجند أجناداً جعلهم معهم.
ثم إن السلطان مسعوداً وصل إلى دادمرج، فلقيهم طلائع السلطان سنجر في خلق كثير، فتأخر السلطان مسعود إلى كرمانشاهان، ونزل السلطان سنجر في أسداباذ في مائة ألف فارس، فسار مسعود وأخوه سلجوقشاه إلى جبلين يقال لهما: كاو، وماهي، فنزلا بينهما، ونزل السلطان سنجر وكنكور، فلما سمع بانحرافهم أسرع في طلبهم، فرجعوا إلى ورائهم مسيرة أربعة أيام في يوم وليلة، فالتقى العسكران بعولان، عند الدينور، وكان مسعود يدافع الحرب انتظاراً لقدوم المسترشد، فلما نازله السلطان سنجر لم يجدا من المصاف، وجعل سنجر على ميمنته طغرل ابن أخيه محمد، وقماج، وأمير أميران، وعلى ميسرته خوارزمشاه أتسز بن محمد مع جمع من الأمراء، وجعل مسعود على ميمنته قراجة الساقي، والأمير قزل، وعلى ميسرته يرنقش بازدار، ويوسف جاووش، وغيرهما، وكان قزل قد واطأ سنجر على الانهزام.
ووقعت الحرب، وقامت على ساق، وكان يوماً مشهوداً، فحمل قراجة الساقي على القلب، وفيه السلطان سنجر في عشرة آلاف فارس من شجعان العسكر، وبين يديه الفيلة، فلما حمل قراجة على القلب، رجع الملك طغرل، وخوارزمشاه إلى وراء ظهره، فصار قراجة في الوسط، فقاتل إلى أن جرح عدة جراحات، وقتل كثير من أصحابه وأخذ هو أسيراً وبه جراحات كثيرة، فلما رأى السلطان مسعود ذلك انهزم وسلم من المعركة، وقتل يوسف جاووش، وحسنين أزبك، وهما من أكابر الأمراء، وكانت الوقعة ثامن رجب من هذه السنة.
فلما تمت الهزيمة على مسعود نزل سنجر وأحضر قراجة، فلما حضر قراجة سبه وقال له: يا مفسد أي شيء كنت ترجو بقتالي؟ قال: كنت أرجو أن أقتلك وأقيم سلطاناً أحكم عليه. فقتله صبراً، وأرسل إلى السلطان مسعود يستدعيه، فحضر عنده، وكان قد بلغ خونج، فلما رآه قبله، وأكرمه، وعاتبه على العصيان عليه، ومخالفته، وأعاده إلى كنجة، وأجلس الملك طغرل ابن أخيه محمد في السلطنة، وخطب له في جميع البلاد، وجعل في وزارته أبا القاسم الأنساباذي، وزير السلطان محمود، وعاد إلى خراسان، فوصل إلى نيسابور في العشرين من رمضان سنة ست وعشرين.
وأما المسترشد بالله فكان منه ما نذكره.
ذكر مسير عماد الدين إلى بغداد

لما سار المسترشد بالله من بغداد، وبلغه انهزام السلطان مسعود، عزم على العود إلى بغداد، فأتاه الخبر بوصول عماد الدين زنكي إلى بغداد، ومعه دبيس بن صدقة، وكان السلطان سنجر قد كاتبهما، وأمرهما بقصد العراق، والاستيلاء عليه فلما علم الخليفة بذلك أسرع العود إليها، وعبر إلى الجانب الغربي، وسار فنزل بالعباسية، ونزل عماد الدين بالمنارية من دجيل، والتقيا بحصن البرامكة في السابع والعشرين من رجب، فابتدأ زنكي فحمل على ميمنة الخليفة، وبها جمال الدولة إقبال، فانهزموا منه، وحمل نظر الخادم من ميسرة الخليفة على ميمنة عماد الدين ودبيس، وحمل الخليفة بنفسه، واشتد القتال، فانهزم دبيس، وأراد عماد الدين الصبر، فرأى الناس قد تفرقوا عنه، فانهزم أيضاً، وقتل من العسكر جماعة، وأسر جماعة، وبات الخليفة هناك ليلته، وعاد من الغد إلى بغداد.
ذكر حال دبيس بعد الهزيمةوفيها عاد دبيس، بعد انهزامه المذكور، يلوذ ببلاد الحلة وتلك النواحي، وجمع جمعاً، وكانت تلك الولاية بيد إقبال المسترشدي، فأمد بعسكر من بغداد، فالتقى هو ودبيس، فانهزم دبيس واختفى في أجمة هناك، وبقي ثلاثة أيام لم يطعم شيئاً، ولم يقدر على التخلص منها، حتى أخرجه حمّاس على ظهره.
ثم جمع جمعاً وقصد واسط، وانضم إليه عسكرها، وبختيار وشاق، وابن أبي الجبر، ولم يزل فيها إلى أن دخلت سنة سبع وعشرين، فنفذ إليهم يرنقش بازدار، وأقبال الخادم المسترشدي، في عسكر، فاقتتلوا في الماء والبر، فانهزم الواسطيون ودبيس، وأسر بختيار وشاق وغيره من الأمراء.
ذكر وفاة تاج الملوك صاحب دمشقفي هذه السنة، في رجب، توفي تاج الملوك بوري بن طغتكين، صاحب دمشق.
وسبب موته أن الجرح الذي كان به من الباطنية، وقد ذكرناه، اشتد عليه الآن، وأضعفه، وأسقط قوته، فتوفي في الحادي والعشرين من رجب، ووصى بالملك بعده لولده شمس الملوك إسماعيل، ووصى بمدينة بعلبك وأعمالها لولده شمس الدولة محمد.
وكان بوري كثير الجهاد، شجاعاً، مقدماً، سد مسد أبيه، وفاق عليه، وكان ممدحاً، أكثر الشعراء مدائحه، لا سيما ابن الخياط، وملك بعده ابنه شمس الملوك، وقام بتدبير الأمر بني يديه الحاجب يوسف بن فيروز، شحنة دمشق، وهو حاجب أبيه، واعتمد عليه، وابتدأ أمره بالرفق بالرعية، والإحسان إليهم، فكثر الدعاء له والقصاد عليه.
ذكر ملك شمس الملوك حصن اللبوة
وحصن رأس وحصره بعلبك
في هذه السنة ملك شمس الملوك إسماعيل، صاحب دمشق، حصن اللبوة، حصن راس.
وسبب ذلك: أنهما كانا لأبيه تاج الملوك، وفي كل واحد منهما مستحفظ يحفظه، فلما ملك شمس الملوك بلغه أن أخاه شمس الدولة محمداً، صاحب بعلبك، قد راسلهما، واستمالهما إليه، فسلما الحصنين إليه، وجعل فيهما من الجند ما يكفيهما، فلم يظهر بذلك أثر بل راسل أخاه بلطف يقبح هذه الحال، ويطلب أن يعيدهما إليه، فلم يفعل، فأغضى على ذلك، وتجهز من غير أن يعلم أحداً.
وسار هو وعسكره، آخر ذي القعدة، فطلب جهة الشمال، ثم عاد مغرباً، فلم يشعر من بحصن اللبوة إلا وقد نزل عليهم، وزحف لوقته، فلم يتمكنوا من نصب منجنيق ولا غيره، فطلبوا الأمان، فبذله لهم، وتسلم الحصن من يومه، وسار من آخر النهار إلى حصن راس، فبغتهم، وجرى الأمر فيه على تلك القضية، وتسلمه، وجعل فيهما من يحفظهما.
ثم رحل إلى بعلبك وحصرها، وفيها أخوه شمس الدولة محمد، وقد استعد، وجمع في الحصن ما يحتاج إليه من رجال وذخائر، فحصرهم شمس الملوك، وزحف في الفارس والراجل، وقاتله أهل البلد على السور، ثم زحف عدة مرات، فملك البلد بعد قتال شديد، وقتلى كثيرة، وبقي الحصن، فقاتله، وفيه أخوه، ونصب المجانيق، ولازم القتال، فلما رأى أخوه شمس الدولة شدة الأمر أرسل يبذل الطاعة، ويسأل أن يقر على ما بيده، وجعله أبوه باسمه، فأجابه إلى مطلوبه، وأقر عليه بعلبك وأعمالها، وتحالفوا وعاد شمس الملوك إلى دمشق وقد استقامت له الأمور.
ذكر الحرب بين السلطان طغرل والملك داود

في هذه السنة، في رمضان، كانت الحرب بين الملك طغرل وبين أخيه الملك داود بن محمود، وكان سببها: أن السلطان سنجر أجلس الملك طغرل في السلطنة، كما ذكرناه، وعاد إلى خراسان لأنه بلغه أن صاحب ما وراء النهر أحمد خان قد عصى عليه، فبادر إلى العود لتلافي ذلك الخرق، فلما عاد إلى خراسان عصى الملك داود على عمه طغرل، وخالفه، وجمع العساكر بأذربيجان، وبلاد كنجة، وسار إلى همذان، فنزل، مستهل رمضان، عند قرية يقال لها وهان، بقرب همذان.
وخرج إليه طغرل، وعبأ كل واحد منهما أصحابه ميمنة وميسرة، وكان على ميمنة السلطان طغرل ابن برسق، وعلى ميسرته قزل، وعلى مقدمته قراسنقر، وكان على ميمنة داود يرنقش الزكوي، ولم يقاتل، فلما رأى التركمان ذلك نهبوا خيمه وبركه جميعه، ووقع الخلف في عسكر داود، فلما رأى أتابكه آقسنقر الأحمديلي ذلك ولى هرباً، وتبعه الناس في الهزيمة، وقبض طغرل على يرنقش الزكوي، وعلى جماعة من الأمراء.
وأما الملك داود فإنه لما انهزم بقي متحيزاً إلى أوائل ذي القعدة، فقدم بغداد ومعه أتابكه آقسنقر الأحمديلي، فأكرمه الخليفة وأنزله بدار السلطان، وكان الملك مسعود بكنجة، فلما سمع بانهزام الملك داود توجه نحو بغداد، على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة قبض المسترشد بالله على وزيره شرف الدين علي بن طراد الزينبي، واستوزر أنوشروان بن خالد، بعد أن امتنع، وسأل الإقالة.
وفي هذه السنة قتل أحمد بن حامد بن محمد أبو نصر مستوفي السلطان محمود، الملقب بالعزيز، بقلعة تكريت، وقد تقدم سبب ذلك سنة خمس وعشرين.
وفي المحرم منها قتل محمد بن محمد بن الحسين أبو الحسين بن أبي يعلى بن الفراء الحنبلي، مولده في شعبان سنة إحدى وخمسين وأربعمائة، وسمع الحديث من الخطيب أبي بكر، وابن الحسين بن المهتدي، وغيرهما، وتفقه، قتله أصحابه غيلة، وأخذوا ماله.
وفي جمادى الأولى توفي أحمد بن عبيد الله بن كادش أبو العز العكبري، وكان محدثاً مكثراً.
وتوفي فيها أبو الفضل عبد الله بن المظفر بن رئيس الرؤساء، وكان أديباً، وله شعر حسن، فمنه ما كتبه إلى جلال الدين بن صدقة الوزير:
أمولانا جلال الدين، يا من ... أذكّره بخدمتي القديمة
ألم تك قد عزمت على اصطناعي، ... فماذا صدقة عن تلك العزيمة؟
ثم دخلت سنة سبع وعشرين وخمسمائة
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://arabelalekat.yoo7.com
الشيخ عودة
الشيخ عودة
الشيخ عودة



عدد المساهمات : 1748
تاريخ التسجيل : 28/09/2008
العمر : 74

كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير - صفحة 7 Empty
مُساهمةموضوع: رد: كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير   كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير - صفحة 7 Emptyالثلاثاء فبراير 25, 2014 11:35 am

ذكر ملك شمس الملوك بانياس
في هذه السنة، في صفر، ملك شمس الملوك، صاحب دمشق، حصن بانياس من الفرنج.
وسبب ذلك: أن الفرنج استضعفوه وطمعوا فيه، وعزموا على نقض الهدنة التي بينهم، فتعرضوا إلى أموال جماعة من تجار دمشق بمدينة بيروت وأخذوها، فشكا التجار إلى شمس الملوك، فراسل في إعادة ما أخذوه، وكرر القول فيه، فلم يردوا شيئاً، فحملته الأنفة من هذه الحالة، والغيظ، على أن جمع عسكره وتأهب، ولا يعلم أحد أين يريد.
ثم سار، وسبق خبره، أواخر المحرم من هذه السنة، ونزل على بانياس أول صفر، وقاتلها لساعته، وزحف إليها زحفاً متتابعاً، وكانوا غير متأهبين، وليس فيها من المقاتلة من يقوم بها، وقرب من سور المدينة، وترجل بنفسه، وتبعه الناس من الفارس والراجل، ووصلوا إلى السور فنقبوه ودخلوا البلد عنوة، والتجأ من كان من جند الفرنج إلى الحصن وتحصنوا به، فقتل من البلد كثير من الفرنج، وأسر كثير، ونهبت الأموال، وقاتل القلعة قتالاً شديداً ليلاً ونهاراً، فملكها رابع صفر بالأمان، وعاد إلى دمشق فوصلها سادسه.
وأما الفرنج فإنهم لما سمعوا نزوله على بانياس شرعوا يجمعون عسكراً يسيرون به إليه، فأتاهم خبر فتحها، فبطل ما كانوا فيه.
ذكر حرب بين المسلمين والفرنج

في هذه السنة، في صفر، سار ملك الفرنج، صاحب البيت المقدس، في خيالته ورجالته إلى أطراف أعمال حلب، فتوجه إليه الأمير أسوار، النائب بحلب، في من عنده من العسكر، وانضاف إليه كثير من التركمان، فاقتتلوا عند قنسرين، فقتل من الطائفتين جماعة كثيرة، وانهزم المسلمون إلى حلب، وتردد ملك الفرنج في أعمال حلب، فعاد أسوار وخرج إليه فيمن معه من العسكر، فوقع على طائفة منهم، فأوقع بهم، وأكثر القتل فيهم والأسر، فعاد من سلم منهزماً إلى بلادهم، وانجبر ذلك المصاب بهذا الظفر، ودخل أسوار حلب، ومعه الأسرى، ورؤوس القتلى، وكان يوماً مشهوداً.
ثم إن طائفة من الفرنج من الرها قصدوا أعمال حلب للغارة عليها، فسمع بهم أسوار، فخرج إليهم هو والأمير حسان البعلبكي، فأوقعوا بهم، وقتلوهم عن آخرهم في بلد الشمال، وأسروا من لم يقتل، ورجعوا إلى حلب سالمين.
ذكر عود السلطان مسعود إلى السلطنة
وانهزام الملك طغرل
قد تقدم ذكر انهزام السلطان مسعود من عمه السلطان سنجر، وعوده إلى كنجة، وولاية الملك طغرل السلطنة، وأنه تحارب هو والملك داود ابن أخيه محمود، وانهزام داود ودخوله بغداد، فلما بلغ السلطان مسعوداً انهزام داود وقصده بغداد ، سار هو إلى بغداد أيضاً، فلما قاربها لقيه داود، وترجل له وخدمه، ودخلا بغداد.
ونزل مسعود بدار السلطنة في صفر من هذه السنة، وخاطب في الخطبة له، فأجيب إلى ذلك، وخطب له ولداود بعده، وخلع عليهما، ودخلا إلى الخليفة فأكرمهما، ووقع الاتفاق على مسير مسعود وداود إلى أذربيجان، وأن يرسل الخليفة معهما عسكراً، فساروا، فلما وصلوا إلى مراغة حمل آقسنقر الأحمديلي مالاً كثيراً، وإقامة عظيمة، وملك مسعود سائر بلاد أذربيجان، وانهزم من بها من الأمراء مثل آقسنقر وغيره من بين يديه، وتحصن منه كثير منهم بمدينة أردبيل، فقصدهم وحصرهم بها، وقتل منهم مقتلة عظيمة، وانهزم الباقون.
ثم سار بعد ذلك إلى همذان لمحاربة أخيه الملك طغرل، فلما سمع طغرل بقربه برز إلى لقائه، فاقتتلوا إلى الظهر، ثم انهزم طغرل وقصد الري، واستولى السلطان مسعود على همذان في شعبان، ولما استقر مسعود بهمذان قُتل آقسنقر الأحمديلي، قتله الباطنية، فقيل إن السلطان مسعوداً وضع عليه من قتله.
ثم إن طغرل لما بلغ قم عاد إلى أصبهان ودخلها، وأراد التحصن بها، فسار إليه أخوه مسعود ليحاصره بها، فرأى طغرل أن أهل أصبهان لا يطاوعونه على الحصار، فرحل عنهم إلى بلاد فارس، واستولى مسعود على أصبهان، وفرح أهلها به، وسار من أصبهان نحو فاسر يقتص أثر أخيه طغرل، فوصل إلى موضع بقرب البيضاء، فاستأمن إليه أمير من أمراء أخيه معه أربعمائة فارس، فأمنه، فخاف طغرل من عسكره أن ينحازوا إلى أخيه، فانهزم من بين يديه، وقصد الري في رمضان، وقتل وزيره أبو القاسم الأنساباذي في الطريق، في شوال، قتله غلمان الأمير شيركير الذي سعى في قتله، كما تقدم ذكره.
وسار السلطان مسعود يتبعه، فلحقه بموضع يقال له ذكراور، فوقع بينهما المصاف هناك، فلما اشتبكت الحرب انهزم الملك طغرل، فوقع عسكره في أرض قد نضب عنها الماء، وهي وحل، فأسر منهم جماعة من الأمراء منهم: الحاجب تنكر، وابن بغرا، فأطلقهم السلطان مسعود، ولم يقتل في هذا المصاف إلا نفر يسير ورجع السلطان مسعود إلى همذان.
ذكر حصر المسترشد بالله الموصلفي هذه السنة حصر المسترشد بالله مدينة الموصل في العشرين من شهر رمضان، وسبب ذلك ما تقدم من قصد الشهيد زنكي بغداد على ما ذكرناه قبل. فلما كان الآن قصد جماعة من الأمراء السلجوقية باب المسترشد بالله وصاروا معه فقوي بهم.
واشتغل السلاطين السلجوقية بالخلف الواقع بينهم، فأرسل الخليفة الشيخ بهاء الدين أبا الفتوح الأسفراييني الواعظ إلى عماد الدين زنكي برسالة فيها خشونة وزادها أبو الفتوح زيادة ثقة بقوة الخليفة وناموس الخلافة، فقبض عليه عماد الدين زنكي وأهانه ولقيه بما يكره، فأرسل المسترشد بالله إلى السلطان مسعود يعرفه الحال الذي جرى من زنكي ويعلمه أنه على قصد الموصل وحصرها، وتمادت الأيام إلى شعبان فسار عن بغداد في النصف منه في ثلاثين ألف مقاتل.

فلما قارب الموصل فارقها أتابك زنكي في بعض عسكره وترك الباقي بها مع نائبه نصير الدين جقر دزدارها والحاكم في دولته وأمرهم بحفظها، ونازلها الخليفة وقاتلها وضيق على من بها، وأما عماد الدين فإنه سار إلى سنجار وكان يركب كل ليلة ويقطع الميرة عن العسكر ومتى ظفر بأحد من العسكر أخذه ونكل به.
وضاقت الأمور بالعسكر أيضاً وتواطأ جماعة من الجصاصين بالموصل على تسليم البلد فسعي بهم فأخذوا وصلبوا.
وبقي الحصار على الموصل نحو ثلاثة أشهر ولم يظفر منها بشيء ولا بلغه عمن بها وهن ولا قلة ميرة وقوت، فرحل عنها عائداً إلى بغداد، فقيل إن نظر الخادم وصل إليه من عسكر السلطان وأبلغه عن السلطان مسعود ما أوجب مسيره وعوده إلى بغداد، وقيل بل بلغه أن السلطان مسعوداً عزم على قصد العراق فعاد بالجملة وأنه رحل عنها منحدراً في شبارة في دجلة فوصل إلى بغداد يوم عرفة.
ذكر ملك شمس الملوك مدينة حماةوفي هذه السنة أيضاً، في شوال، ملك شمس الملوك إسماعيل بن تاج الملوك صاحب دمشق مدينة حماة وقلعتها، وهي لأتابك زنكي بن آقسنقر أخذها من تاج الملوك كما ذكرناه. ولما ملك شمس الملوك قلعة بانياس أقام بدمشق إلى شهر رمضان من هذه السنة وسار منها إلى حماة في العشر الأخير منه.
وسبب طمعه أنه بلغه أن المسترشد بالله يريد أن يحصر الموصل فطمع، وكان الوالي بحماة قد سمع الخبر فتحصن واستكثر من الرجال والذخائر، ولم يبق أحد من أصحاب شمس الملوك إلا وأشار عليه بترك قصدها لقوة صاحبها، فلم يسمع منهم، وسار إليها وحصر المدينة وقاتل من بها يوم العيد، وزحف إليها من وقته، فتحصنوا منه وقاتلوه فعاد عنهم ذلك اليوم.
فلما كان الغد بكر إليهم وزحف إلى البلد من جوانبه فملكه قهراً وعنوة، وطلب من به الأمان فأمنهم وحصر القلعة، ولم تكن في الحصانة والعلو على ما هي عليه اليوم، فإن تقي الدين عمر ابن أخي صلاح الدين قطع جبلها وعملها هكذا في سنين كثيرة، فلما حصرها عجز الوالي بها عن حفظها فسلمها إليه، فاستولى عليها وعلى ما بها من ذخائر وسلاح وغير ذلك، وسار منها إلى قلعة شيزر وبها صاحبها من بني منقذ فحصرها ونهب بلدها، فراسله صاحبها وصانعه بمال حمله إليه فعاد عنه إلى دمشق فوصل إليها في ذي القعدة من السنة المذكورة.
ذكر هزيمة صاحب طرابلس الفرنجيوفي هذه السنة عبر إلى الشام جمع كثير من التركمان من بلاد الجزيرة، وأغاروا على بلاد طرابلس وغنموا وقتلوا كثيراً، فخرج القمص صاحب طرابلس في جموعه فانزاح التركمان من بين يديه، فتبعهم فعادوا إليه وقاتلوه فهزموه وأكثروا القتل في عسكره، ومضى هو ومن سلم معه إلى قلعة بعرين فتحصنوا فيها وامتنعوا على التركمان، فحصرهم التركمان فيها. فلما طال الحصار عليهم نزل صاحب طرابلس ومعه عشرون فارساً من أعيان أصحابه سراً فنجوا وساروا إلى طرابلس وترك الباقين في بعرين يحفظونها، فلما وصل إلى طرابلس كاتب جميع الفرنج فاجتمع عنده منهم خلق كثير وتوجه بهم نحو التركمان ليرحلهم عن بعرين، فلما سمع التركمان بذلك قصدوهم والتقوهم وقتل بينهم خلق كثير وأشرف الفرنج على الهزيمة، فحملوا نفوسهم ورجعوا على حامية إلى رفنية فتعذر على التركمان اللحاق بهم إلى وسط بلادهم فعادوا عنهم.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة اشترى الإسماعيلية بالشام حصن القدموس من صاحبه ابن عمرون، وصعدوا إليه وقاموا بحرب من يجاورهم من المسلمين والفرنج وكانوا كلهم يكرهون مجاورتهم.
وفيها، في جمادى الآخرة، أغار الأمير أسوار مقدم عسكر زنكي بحلب على ولاية تل باشر فغنم الكثير، فخرج إليه الفرنج في جمع كثير فقاتلوه، فظفر بهم وأكثر القتل فيهم، وكان عدة القتلى نحو ألف قتيل، وعاد سالماً.
وفيها، تاسع ربيع الآخر، وثب على شمس الملوك صاحب دمشق بعض مماليك جده طغدكين، فضربه بسيف فلم يعمل فيه شيئاً، وتكاثر عليه مماليك شمس الملوك فأخذوه وقرر ما الذي حمله على ما فعل فقال: أردت إراحة المسلمين من شرك وظلمك، ولم يزل يضرب حتى أقر على جماعة أنهم وضعوه على ذلك، فقتلهم شمس الملوك من غير تحقيق، وقتل معهم أخاه سونج، فعظم ذلك على الناس ونفروا عنه.
وفيها توفي الشيخ أبو الوفاء الفارسي، وكان له جنازة مشهودة حضرها أعيان بغداد.

وفيها، في رجب، توفي القاضي أبو العباس أحمد بن سلامة بن عبد الله ابن مخلد المعروف بابن الرطبي الفقيه الشافعي قاضي الكرخ، وتفقه على أبي إسحاق وأبي نصر بن الصباغ، وسمع الحديث ورواه، وكان قريباً من الخليفة يؤدب أولاده.
وتوفي أبو الحسين علي بن عبد الله بن نصر المعروف بابن الزاغوني الفقيه الحنبلي الواعظ، وكان ذا فنون، توفي في المحرم.
وتوفي علي بن يعلى بن عوض بن القاسم الهروي العلوي، كان واعظاً، وله بخراسان قبول كثير، وسمع الحديث الكثير، ومحمد بن أحمد بن علي أبو عبد الله العثماني الديباجي، وهو من أولاد محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان. وكان محمد يلقب بالديباج لحسنه، وأصله من مكة، وهو من أهل نابلس، وكان مغالياً في مذهب الأشعري، وكان يعظ. توفي في صفر.
وفيها توفي أبو فليتة أمير مكة، وولي الإمارة بعده ابنه القاسم.
وفيها توفي العزيز بن هبة الله بن علي الشريف العلوي الحسيني فجأة بنيسابور. وكان جده نقيب النقباء بخراسان. وعرض على العزيز هذا نقابة العلويين بنيسابور فامتنع، وعرض عليه وزارة السلطان فامتنع، ولزم الانقطاع والاشتغال بأمر آخرته.
وفيها توفي قاضي قضاة خراسان أبو سعيد محمد بن أحمد بن صاعد، وكان خيراً صالحاً.
ثم دخلت سنة ثمان وعشرين وخمسمائة
ذكر ملك شمس الملوك شقيف تيرون
ونهبه بلد الفرنج
في هذه السنة، في المحرم، سار شمس الملوك إسماعيل من دمشق إلى شقيف تيرون وهو في الجبل المطل على بيروت وصيدا، وكان بيد الضحاك بن جندل رئيس وادي التيم، قد تغلب عليه وامتنع به، فتحاماه المسلمون والفرنج، يحتمي على كل طائفة بالأخرى، فسار شمس الملوك إليه في هذه السنة، وأخذه منه في المحرم، وعظم أخذه على الفرنج لأن الضحاك كان لا يتعرض لشيء من بلادهم المجاورة له، فخافوا شمس الملوك، فشرعوا في جمع عساكرهم، فلما اجتمعت ساروا إلى بلد حوران، فخربوا أمهات البلد، ونهبوا ما أمكنهم نهبه نهبة عظيمة.
وكان شمس الملوك، لما رآهم يجمعون، جمع هو أيضاً وحشد وحضر عنده جمع كثير من التركمان وغيرهم، فنزل بإزاء الفرنج، وجرت بينهم مناوشة عدة أيام، ثم إن شمس الملوك نهض ببعض عسكره، وجعل الباقي قبالة الفرنج، وهم لا يشعرون، وقصد بلادهم طبرية والناصرة وعكا وما يجاورها من البلاد، فنهب وخرب وأحرق وأهلك أكثر البلاد وسبى النساء والذرية، وامتلأت أيدي من معه من الغنائم، واتصل الخبر بالفرنج، فانزعجوا، ورحلوا في الحال لا يلوي أخ على أخيه وطلبوا بلادهم.
وأما شمس الملوك فإنه عاد إلى عسكره على غير الطريق الذي سلكه الفرنج، فوصل سالماً ووصل الفرنج إلى بلادهم ورأوها خراباً ففت في أعضادهم وتفرقوا، وراسلوا في تجديد الهدنة فتم ذلك في ذي القعدة للسنة.
ذكر عود الملك طغرل إلى الجبل
وانهزام الملك مسعود
في هذه السنة عاد الملك طغرل بن محمد بن ملكشاه ملك بلاد الجبل جميعها وأجلى عنها أخاه السلطان مسعوداً.
وسبب ذلك أن مسعوداً لما عاد من حرب أخيه بلغه عصيان داود ابن أخيه السلطان محمود بأذربيجان، فسار إليه وحصره بقلعة روئين دز وكان قد تحصن بها واشتغل بحصره، فجمع الملك طغرل العساكر ومال إليه بعض الأمراء الذين مع السلطان مسعود ولم يزل يفتح البلاد، فكثرت عساكره وقصد مسعوداً، فلما قارب قزوين سار مسعود نحوه، فلما تراءى العسكران فارق مسعوداً من أمرائه من كان قد استماله طغرل فبقي في قلة من العسكر، فولى منهزماً أواخر رمضان.
وأرسل المسترشد بالله في القدوم إلى بغداد، فأذن له، وكان نائبه بأصفهان البقش السلاحي، ومعه الملك سلجوقشاه، فلما سمع بانهزام مسعود قصد بغداد أيضاً، فنزل سلجوقشاه بدار السلطان، فأكرمه الخليفة، وأنفذ إليه عشرة آلاف دينار، ثم قصد مسعود بغداد وأكثر أصحابه ركاب جمال لعدم ما يركبونه، ولقي في طريقه شدة، فأرسل إليه الخليفة الدواب والخيام والآلات وغيرها من الأموال والثياب، فدخل الدار السلطانية ببغداد منتصف شوال وأقام طغرل بهمذان.
ذكر حصر أتابك زنكي آمد
والحرب بينه وبين داود وملك زنكي قلعة صور

في هذه السنة اجتمع أتابك زنكي صاحب الموصل وتمرتاش صاحب ماردين وقصدا مدينة آمد فحصراها، فأرسل صاحبها إلى داود بن سقمان بن أرتق صاحب حصن كيفا يستنجده، فجمع من أمكنه جمعه وسار نحو آمد ليرحلهما عنها، فالتقوا على باب آمد، وتصافوا في جمادى الآخرة، فانهزم داود، وعاد مفلولاً، وقتل جماعة من عسكره.
وأقام زنكي وتمرتاش على آمد محاصرين لها، وقطعا الشجر، وشعثا البلد وعادا عنها من غير بلوغ غرض، فقصد زنكي قلعة الصور من ديار بكر وحصرها وضايقها، فملكها في رجب من هذه السنة، واتصل به ضياء الدين أبو سعيد بن الكفرتوثي فاستوزره زنكي، وكان حسن الطريقة، عظيم الرئاسة والكفاية، محباً للخير وأهله.
ذكر ملك زنكي قلاع الأكراد الحميديةفي هذه السنة استولى عماد الدين زنكي على جميع قلاع الأكراد الحميدية منها قلاع العقر وقلعة شوش وغيرهما.
وكان لما ملك الموصل أقر صاحبها الأمير عيسى الحميدي على ولايتها وأعمالها، ولم يعترضه على شيء مما هو بيده، فلما حصر المسترشد بالله الموصل حضر عيسى هذا عنده وجمع الأكراد عنده فأكثر، فلما رحل المسترشد بالله عن الموصل أمر زنكي أن تحصر قلاعهم فحصرت مدة طويلة وقوتلت قتالاً شديداً إلى أن ملكت هذه السنة، فاطمأن إذاً أهل سواد الموصل المجاورون لهؤلاء القوم فإنهم كانوا معهم في ضائقة كبيرة من نهب أموالهم وخراب البلاد.
ذكر ملك قلاع الهكارية وكواشيوحكي عن بعض العلماء من الأكراد ممن له معرفة بأحوالهم أن أتابك زنكي لما ملك قلاع الحميدية وأجلاهم عنها خاف أبو الهيجاء بن عبد الله صاحب قلعة أشب والجزيرة ونوشي، فأرسل إلى أتابك زنكي من استحلفه له وحمل إليه مالاً، وحضر عند زنكي بالموصل فبقي مدة ثم مات فدفن بتل توبة. ولما سار عن أشب إلى الموصل أخرج ولده أحمد بن أبي الهيجاء منها خوفاً أن يتغلب عليها، وأعطاه قلعة نوشى، وأحمد هذا هو والد علي ابن أحمد المعروف بالمشطوب من أكابر أمراء صلاح الدين بن أيوب بالشام.
ولما أخرجه أبوه من أشب استناب بها كردياً يقال له باو الأرجي، فلما مات أبو الهيجاء سار ولده أحمد بن نوشى إلى أشب ليملكها، فمنعه باو، وأراد حفظها لولد صغير لأبي الهيجاء اسمه علي، فسار زنكي بعسكره فنزل على أشب وملكها.
وسبب ملكهم أن أهلها نزلوا كلهم إلى القتال، فتركهم زنكي حتى قاربوه واستجرهم حتى أبعدوا عن القلعة ثم عطف عليهم فانهزموا، فوضع السيف فيهم، فأكثر القتل والأسر، وملك زنكي القلعة في الحال وأحضر جماعة من مقدمي الأكراد فيهم باو فقتلهم وعاد عنها إلى الموصل، ثم سار عنها، ففي غيبته أرسل نصير الدين جقر نائب زنكي وخرب أشب وخلى كهيجة ونوشى وقلعة الجلاب، وهي قلعة العمادية، وأرسل إلى قلعة الشعباني وفرح وكوشر والزعفران وألقى ونيروة، وهي حصون المهرانية، فحصرها فملك الجميع، واستقام أمر الجبل والزوزان، وأمنت الرعايا من الأكراد.
وأما باقي قلاع الهكارية جل صورا، وهرور، والملاسي، ومابرما وبابوخا وباكزا ونيسباس، فإن قراجة صاحب العمادية فتحها من مدة طويلة بعد قتل زنكي، وقراجة هذا كان أميراً قد أقطعه زين الدين علي بلد الهكارية بعد قتل زنكي، ولم أعلم تاريخ فتح هذه القلاع فلهذا ذكرته هاهنا.
وحكى غير هذا بعض فضلاء الأكراد وخالف فيه فقال: إن زنكي لما فتح قلعة أشب وخربها وبنى قلعة العمادية ولم يبق في الهكارية إلا صاحب جل صورا وصاحب هرور، ولم يكن لهما شوكة يخاف منها، عاد إلى الموصل، فخافه أصحاب القلاع الجبلية، فاتفق أن عبد الله بن عيسى بن إبراهيم صاحب الربية وألقى وفرح وغيرها وملكها بعده ولده علي، وكانت والدته خديجة بنت الحسن أخت إبراهيم وعيسى، وهما من الأمراء، مع زنكي، وكانا بالموصل، فأرسلها ولدها علي إلى أخويها وطلبا له الأمان من زنكي وحلفاه له ففعل، ونزل إلى خدمة زنكي وأقره على قلاعه واشتغل زنكي بفتح قلاع الهكارية، وكان الشعباني بيد أمير من المهرانية اسمه الحسن بن عمر، فأخذه منه وقربه منه لكبره وقلة أعماله.

وكان نصير الدين جقر يكره علياً صاحب الربية وغيرها، فحسن لزنكي القبض عليه، فأذن له في ذلك، فقبض عليه ثم ندم زنكي على قبضه فأرسل إلى نصير الدين أن يطلقه فرآه قد مات، قيل إن نصير الدين قتله. ثم أرسل العسكر إلى قلعة الربية فنازلوهاا بغتة، فملكوها في ساعة، وأسروا كل من بها من ولد علي وإخوته وأخواته، وكانت والدة علي خديجة غائبة فلم توجد، فلما سمع زنكي الخبر بفتح الربية سره، وأمر أن تيسر العساكر إلى باقي القلاع التي لعلي، فسارت العساكر، فحصروها، فرأوها منيعة، فراسلهم زنكي ووعدهم الإحسان، فأجابوه إلى التسليم على شرط أن يطلق كل من في السجن منهم، فلم يجبهم إلى ذلك، إلا أن يسلموا أيضاً قلعة كواشى، فمضت خديجة والدة علي إلى صاحب كواشى واسمه خول وهرون وهو من المهرانية، فسألته النزول عن كواشى، فأجابها إلى ذلك، وتسلم زنكي القلاع وأطلق الأسرى، فلم يسمع بمثل هذا، فقال ينزل من مثل كواشى لقول امرأة فإما أن يكون أعظم الناس مروءة لا يرد من دخل بيته، وإما أن يكون أقل الناس عقلاً، واستقامت ولاية الجبال.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة أوقع الدانشمند صاحب ملطية بالفرنج الذين بالشام، فقتل كثيراً منهم وأسر كثيراً، وفيها اصطلح الخليفة وأتابك زنكي، وفيها، في ربيع الأول، عزل شرف الدين أنوشروان بن خالد عن وزارة الخليفة، وفيها توفيت أم المسترشد بالله، وفيها سير المسترشد بالله عسكراً إلى تكريت فحصروا مجاهد الدين بهروز فصانع عنها بمال فعادوا عنه.
وفيها اجتمع جمع من العساكر السنجرية مع الأمير أرغش، وحصروا قلعة كردكوه بخراسان، وهي للإسماعيلية، وضيقوا على أهلها وطال حصرها، وعدمت عندهم الأقوات، فأصاب أهلها تشنج وكزاز، وعجز كثير منهم عن القيام فضلاً عن القتال، فلما ظهرت أمارات الفتح رحل الأمير أرغش فقيل إنهم حملوا إليه مالاً كثيراً وأعلاقاً نفيسة، فرحل عنهم.
وفيها توفي الأمير سليمان بن مهارش العقيلي أمير بني عقيل وولي الإمارة بعده أولاده مع صغر سنهم، وطيف بهم في بغداد رعاية لحق جدهم مهارش، فإنه هو الذي كان الخليفة القائم بأمر الله عنده في الحديثة لما فعل به البساسيري ما ذكرنا.
وفيها، في المحرم، توفي الفقيه أبو علي الحسن بن إبراهيم بن فرهون الشافعي الفارقي، ومولده بميافارقين سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة، وتفقه بها على أبي عبد الله الكازروني، فلما توفي الكازروني انحدر إلى بغداد وتفقه على أبي إسحاق الشيرازي وأبي نصر الصباغ، وولي القضاء بواسط، وكان خيراً فاضلاً لا يواري ولا يحابي أحداً في الحكم.
وفيها توفي عبد الله بن محمد بن أحمد بن الحسن أبو محمد بن أبي بكر الفقيه الشافعي، تفقه على أبيه وأفتى وناظر، وكان يعظ ويكثر في كلامه من التجانس، فمن ذلك قوله: أين القدود العالية، والخدود الوردية، ملئت بها والله العالية والوردية، وهما مقبرتان بنهر المعلى، ومن شعره:
الدمع دماً يسيل من أجفاني ... إن عشت مع البكا فما أجفاني
سجني شجني وهمني سماني ... العاذل بالملام قد سماني
والذكر لهم يزيد في أشجاني ... والنوح مع الحمام قد أشجاني
ضاقت ببعاد منيتي أعطاني ... والبين يد الهموم قد أعطاني
وفيها توفي ابن أبي الصلت الشاعر، ومن شعره يذم ثقيلاً:
لي صديق عجبت كيف استطاعت ... هذه الأرض والجبال ثقله
أنا أرعاه مكرماً وبقلبي ... منه ما ينسف الجبال أقله
هو مثل المشيب أكره رؤيا ... ه ولكن أصونه وأجله
وله أيضاً:
ساد صغار الناس في عصرنا ... لا دام من عصر ولا كانا
كالدست مهما هم أن ينقضي ... صار به البيدق فرزانا
وفيها توفي محمد بن علي بن عبد الوهاب أبو رشيد الفقيه الشافعي من أهل طبرستان، وسمع الحديث أيضاً ورواه، وكان زاهداً عابداً أقام بجزيرة في البحر سنين منفرداً يعبد الله، سبحانه وتعالى، وعاد إلى آمل فتوفي فيها وقبره يزار.
ثم دخلت سنة تسع وعشرين وخمسمائة
ذكر وفاة الملك طغرل
وملك مسعود بلد الجبل

قد ذكرنا قدوم السلطان مسعود إلى بغداد منهزماً من أخيه الملك طغرل بن محمد، فلما وصل إلى بغداد أكرمه الخليفة وحمل إليه ما يحتاج إليه مثله، وأمره بالمسير إلى همذان وجمع العساكر ومنازعة أخيه طغرل في السلطنة والبلاد، ومسعود يعد ويدافع الأيام، والخليفة يحثه على ذلك، ووعده أن يسير معه بنفسه، وأمر أن تبرز خيامه إلى باب الخليفة.
وكان قد اتصل الأمير البقش السلاحي وغيره من الأمراء بالخليفة، وطلبوا خدمته، فاستخدمهم واتفق معهم. واتفق أن إنساناً أخذ فوجد معه ملطفات من طغرل إلى هؤلاء الأمراء وخاتمه بالإقطاع لهم، فلما رأى الخليفة ذلك قبض على أمير منهم اسمه أغلبك ونهب ماله، فاستشعر غيره من الأمراء الذين مع الخليفة، فهربوا إلى عسكر السلطان مسعود، فأرسل الخليفة إلى مسعود في إعادتهم إليه، فلم يفعل واحتج بأشياء، فعظم ذلك على الخليفة وحدث بينهما وحشة أوجبت تأخره عن المسير معه، وأرسل إليه يلزمه بالمسير معه أمراً جزماً، فبينما الأمر على هذا إذ جاءه الخبر بوفاة أخيه طغرل، وكانت وفاته في المحرم من هذه السنة، وكان مولده سنة ثلاث وخمسمائة في المحرم، وكان خيراً عاقلاً عادلاً قريباً إلى الرعية محسناً إليها، وكان قبل موته قد خرج من داره يريد السفر إلى أخيه السلطان مسعود فدعا له الناس، فقال: ادعو بخيرنا للمسلمين.
ولما توفي ووصل الخبر إلى مسعود سار من ساعته نحو همذان، وأقبلت العساكر جميعها إليه، واستوزر شرف الدين أنوشروان بن خالد، وكان قد خرج في صحبته هو وأهله، ووصل مسعود إلى همذان واستولى عليها وأطاعته البلاد جميعها وأهلها.
ذكر قتل شمس الملوك وملك أخيهفي هذه السنة، رابع عشر ربيع الآخر، قتل شمس الملوك إسماعيل بن تاج الملوك بوري بن طغدكين صاحب دمشق، وسبب قتله أنه ركب طريقاً شنيعاً من الظلم ومصادرات العمال وغيرهم من أعمال البلد، وبالغ في العقوبات لاستخراج الأموال، وظهر منه بخل زائد ودناءة نفس بحيث أنه لا يأنف من أخذ الشيء الحقير بالعدوان، إلى غير ذلك من الأخلاق الذميمة وكرهه أهله وأصحابه ورعيته.
ثم ظهر عنه أنه كاتب عماد الدين زنكي يسلم إليه دمشق ويحثه على سرعة الوصول، وأخلى المدينة من الذخائر والأموال، ونقل الجميع إلى صرخد، وتابع الرسل إلى زنكي يحثه على الوصول إليه ويقول له: إن أهملت المجيء سلمتها إلى الفرنج، فسار زنكي، وظهر الخبر بذلك في دمشق فامتعض أصحاب أبيه وجده لذلك وأقلقهم، وأنهوا الحال لوالدته فساءها وأشفقت منه، ووعدتهم بالراحة من هذا الأمر.
ثم إنها ارتقبت الفرصة في الخلوة من غلمانه، فلما رأته على ذلك أمرت غلمانها بقتله فقتل، وأمرت بإلقاءه في موضع من الدار ليشاهده غلمانه وأصحابه، فلما رأوه قتيلاً سروا لمصرعه وبالراحة من شره.
وكان مولده ليلة الخميس سابع جمادى الآخرة سنة ستة وخمسمائة، وقيل كان سبب قتله أن والده كان له حاجب اسمه يوسف بن فيروز وكان متمكناً منه حاكماً في دولته، ثم في دولة شمس الملوك، فاتهم بأم شمس الملوك، ووصل الخبر إليه بذلك فهم بقتل يوسف فهرب منه إلى تدمر، وتحصن بها، وأظهر الطاعة لشمس الملوك، فأراد قتله أمه، فبلغها الخبر فقتلته خوفاً منه، والله أعلم.
ولما قتل ملك بعده أخوه شهاب الدين محمود بن تاج الملوك بوري وجلس في منصبه وحلف له الناس كلهم واستقر في الملك، والله أعلم.
ذكر حصر أتابك زنكي دمشقفي هذه السنة حصر أتابك زنكي دمشق، وكان نزوله عليها أول جمادى الأولى، وسببه ما ذكرنا من إرسال شمس الملوك صاحبها إليه واستدعاءه ليسلمها إليه، فلما وصلت كتبه ورسله بذلك سار إليها، فقتل شمس الملوك قبل وصوله، ولما عبر الفرات أرسل إليه رسلاً في تقرير قواعد التسليم، فرأوا الأمر قد فاته إلا أنهم أكرموا وأحسن إليهم وأعيدوا بأجمل جواب، وعرف زنكي قتل شمس الملوك، وأن القواعد عندهم مستقرة لشهاب الدين، والكلمة متفقة على طاعته، فلم يحفل زنكي بهذا الجواب، وسار إلى دمشق فنازلها، وأجفل أهل السواد إلى دمشق، واجتمعوا فيها على محاربته.

ونزل أولاً شماليها ثم انتقل إلى ميدان الحصار، وزحف وقاتل، فرأى قوة ظاهرة وشجاعة عظيمة واتفاقاً تاماً على محاربته، وقام معين الدين أنز مملوك جده طغدكين في الحادثة بدمشق قياماً مشهوداً، وظهر من معرفته بأمور الحصار والقتال وكفايته ما لم ير وما كان سبب تقدمه واستيلاءه على الأمور بأسرها، على ما نذكر إن شاء الله تعالى.
فبينما هو يحاصرها ووصل رسول الخليفة المسترشد بالله وهو أبو بكر بن بشر الجزري من جزيرة ابن عمر بخلع لأتابك زنكي، ويأمره بمصالحة صاحب دمشق الملك ألب أرسلان محمود الذي مع أتابك زنكي، فرحل عنها لليلتين بقيتا من جمادى الأولى من السنة المذكورة.
ذكر قتل حسن بن الحافظقد ذكرنا سنة ست وخمسمائة أن الحافظ لدين الله صاحب مصر استوزر ابنه حسناً، وخطب له بولاية العهد، فبقي إلى هذه السنة ومات مسموماً، وسبب ذلك أن أباه الحافظ استوزه وكان جريئاً على سفك الدماء، وكان في نفس الحافظ على الأمراء الذين أعانوا أبا علي بن الأفضل حقد، ويريد الانتقام منهم من غير أن يباشر ذلك بنفسه، فأمر ابنه حسناً بذلك، فتغلب على الأمر جميعه، واستبد به، ولم يبق لأبيه معه حكم، وقتل من الأمراء المصريين ومن أعيان البلاد أيضاً حتى إنه قتل في ليلته واحدة أربعين أميراً.
فلما رأى أبوه تغلبه عليه أخرج له خادما من من خدم القصر الأكابر، فجمع الجموع وحشد من الرجالة خلقاً كثيرا، وتقدم إلى البلد، فأخرج إليهم حسن جماعة من خواصه وأصحابه، فقاتلوهم، فانهزم الخادم وقتل من الرجالة الذين معه خلق كثير، وعبر الباقون إلى بر الجزيرة، فاستكان الحافظ، فصبر تحت الحجر. ثم إن الباقين من الأمراء المصريين اجتمعوا واتفقوا على قتل حسن، وأرسلوا إلى أبيه الحافظ وقالوا له: إما أنك تسلم ابنك إلينا لنقتله أو نقتلكما جميعاً، فاستدعى ولده إليه واحتاط عليه، وأرسل إلى الأمراء بذلك، فقالوا: لا نرضى إلا بقتله. فرأى أنه إن سلمه إليهم طمعوا فيه وليس إلى إبقائه سبيل، فأحضر طبيبين كانا له أحدهما مسلم والآخر يهودي، فقال لليهودي: نريد سماً نسقيه لهذا الولد ليموت ونخلض من هذه الحادثة. فقال: أنا لا أعرف غير التقوع وماء الشعير وما شاكل هذا من الأدوية. فقال: أنا أريد ما أخلص به من هذه المصيبة. فقال له: لا أعرف شيئاً. فأحضر الطبيب المسلم وسأله عن ذلك، فصنع له شيئاً فسقاه الولد فمات لوقته، فأرسل الحافظ إلى الجند يقول لهم: إنه قد مات. فقالوا: نريد أن ننظر إليه، فأحضر بعضهم عنده فرأوه وظنوه قد عمل حيلة، فجرحوا أسافل رجليه فلم يجر منها دم، فعلموا موته وخرجوا.
ودفن حسن وأحضر الحافظ الطبيب المسلم وقال له: ينبغي أن تخرج من عندنا من القصر، وجميع ما لك من الإنعام والجامكية باق عليك، وأحضر اليهودي وزاده وقال له: أعلم أنك تعرف ما طلبته منك ولكنك عاقل فتقيم في القصر عندنا.
وكان حسن سيء السيرة ظالماً جريئاً على سفك الدماء وأخذ الأموال، فهجاه الشعراء، فمن ذلك ما قال المعتمد بن الأنصاري صاحب الترسل المشهور:
لم تأت يا حسن بين الورى حسناً ... ولم تر الحق في دنيا ولا دين
قتل النفوس بلا جرم ولا سبب ... والجور في أخذ أموال المساكين
لقد جمعت بلا علم ولا أدب ... تيه الملوك وأخلاق المجانين
وقيل إن الحافظ لما رأى ابنه تغلب على الملك وضع عليه من سقاه السم فمات، والله أعلم.
ولما مات حسن استوزر الحافظ الأمير تاج الدولة بهرام، وكان نصرانياً، فتحكم واستعمل الأرمن على الناس، فاستذلوا المسلمين، وسيأتي ذكر ذلك سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة إن شاء الله تعالى.
ذكر مسير المسترشد بالله إلى حرب السلطان مسعود وانهزامه

في هذه السنة كانت الحرب بين الخليفة المسترشد بالله وبين السلطان مسعود في شهر رمضان، وسبب ذلك أن السلطان مسعوداً لما سافر من بغداد إلى همذان، بعد موت أخيه طغرل، وملكها، فارقه جماعة من أعيان الأمراء منهم يرنقش بازدار وقزل آخر وسنقر الخمارتكين والي همذان، وعبد الرحمن بن طغايرك، وغيرهم، خائفين منه، مستوحش، ومعهم عدد كثير وانضاف إليهم دبيس بن صدقة. وأرسلوا إلى الخليفة يطلبون منه الأمان ليحضروا خدمته، فقيل له: إنها مكيدة لأن دبيساً معهم، وساروا نحو خوزستان، واتفقوا مع برسق بن برسق، فأرسل الخليفة إليهم سديد الدولة ابن الأنباري بتوقيعات إلى الأمراء المذكورين بتطييب نفوسهم والأمر بحضورهم.
وكان الأمراء المذكورون قد عزموا على قبض دبيس والتقرب إلى الخليفة بحمله إليه، فبلغه ذلك فهرب إلى السلطان مسعود. وسار الأمراء إلى بغداد في رجب، فأكرمهم الخليفة وحمل إليهم الإقامات والخلع، وقطعت خطب السلطان مسعود من بغداد، وبرز الخليفة في العشرين من رجب على عزم المسير إلى قتال مسعود وأقام في الشفيعي، فعصى عليه بكبه صاحب البصرة فهرب إليها، فراسله وبذل له الأمان فلم إليه.
وتريث الخليفة عن المسير وهؤلاء الأمراء يحسنون له الرحيل، ويسهلون عليه الأمر، ويضعفون عنده أمر السلطان مسعود، فسير مقدمته إلى حلوان فنهبوا البلاد، وأفسدوا ولم ينكر عليهم أحد شيئاً، ثم سار الخليفة ثامن شعبان ولحق به في الطريق الأمير برسق بن برسق فبلغت عدتهم سبعة آلاف فارس، وتخلف بالعراق مع إقبال خادم المسترشد بالله ثلاثة آلاف فارس.
وكان السلطان مسعود بهمذان في نحو ألف وخمس مائة فارس، وكان أكثر اصحاب الأطراف يكاتبون الخليفة ويبذلون له الطاعة، فتريث في طريقه، فاستصلح السلطان مسعود اكثرهم حتى صاروا في نحو خمسة عشر الف فارس، وتسلل جماعة كثيرة من عسكر الخليفة حتى بقي في خمسة آلاف، وارسل أتابك زنكي نجدة فلم تلحق.
وأرسل الملك داود ابن السلطان محمود وهو بأذربيجان إلى الخليفة يشير بالميل إلى الدينور ليحضر بنفسه وعسكره، فلم يفعل المسترشد ذلك وسار حتى بلغ دايمرج، وعبأ أصحابه، فجعل في الميمنة يرنقش بازدار ونور الدولة سنقرجة وقزل آخر وبرسق بن برسق، وجعل في الميسرة جاولي وبرسق شراب سلار وأغلبك الذي كان الخليفة قد قبض عليه وأخرجه من محبسه.
ولما بلغ السلطان مسعوداً خبرهم سار إليه مجداً، فواقعهم بدايمرج عاشر رمضان، وانحازت ميسرة الخليفة مخامرة عليه إلى السلطان مسعود فصارت معه، واقتتلت ميمنته وميسرة السلطان قتالاً ضعيفاً، ودار به عسكر السلطان وهو ثابت لم يتحرك من مكانه، وانهزم عسكره وأخذ هو أسيراً ومعه جمع كثير من أصحابه منهم الوزير شرف الدين علي بن طراد الزينبي وقاضي القضاة وصاحب المخزن ابن طلحة، وابن الأنباري والخطباء والفقهاء والشهود وغيرهم، وأنزل الخليفة في خيمة وغنموا ما في معسكره وكان كثيراً، فحمل الوزير وقاضي القضاة وابن الأنباري وصاحب المخزن وغيرهم من الأكابر إلى قلعة سرجهان، وباعوا الباقين بالثمن الطفيف، ولم يقتل في هذه المعركة أحد وهذا من أعجب ما يحكى.
وعاد السلطان إلى همذان وأمر فنودي: من تبعنا إلى همذان من البغداديين قتلناه، فرجع الناس كلهم على أقبح حالة لا يعرفون طريقاً وليس معهم ما يحملهم، وسير السلطان الأمير بك أبه المحمودي إلى بغداد شحنة فوصلها سلخ رمضان ومعه عبيد، فقبضوا جميع أملاك الخليفة وأخذوا غلاتها.
وثار جماعة من عامة بغداد، فكسروا المنبر والشباك، ومنعوا من الخطبة، وخرجوا إلى الأسواق يحثون التراب على رؤوسهم ويبكون ويصيحون، وخرج النساء حاسرات في الأسواق يلطمن، واقتتل أصحاب الشحنة وعامة بغداد فقتل من العامة ما يزيد على مائة وخمسين قتيلاً، وهرب الوالي وحاجب الباب.
وأما السلطان فإنه سار في شوال من همذان إلى مراغة لقتال الملك داود ابن أخيه محمود، وكان قد عصى عليه، فنزل على فرسخين من مراغة، والمسترشد معه، فترددت الرسل بين الخليفة وبين السلطان في الصلح، فاستقرت القاعدة على ما نذكره إن شاء الله، والله الموفق.
ذكر قتل المسترشد بالله
وخلافة الراشد بالله

لما قبض المسترشد بالله أبو منصور بن الفضل بن المستظهر بالله أبي العباس أحمد، على ما ذكرناه، أنزله السلطان مسعود في خيمة، ووكل به من يحفظه، وقام بما يجب من الخدمة، وترددت الرسل بينهما في الصلح وتقرير القواعد على مال يؤديه الخليفة، وأن لا يعود يجمع العساكر وأن لا يخرج من داره. فأجاب السلطان إلى ذلك، وأركب الخليفة وحمل الغاشية بين يديه ولم يبق إلا أن يعود إلى بغداد. فوصل الخبر أن الأمير قران خوان قد قدم رسولاً من السلطان سنجر، فتأخر مسير المسترشد لذلك، وخرج الناس والسلطان مسعود إلى لقائه، وفارق الخليفة بعض من كان موكلاً به، وكانت خيمته منفردة عن العسكر، فقصده أربعة وعشرون رجلاً من الباطنية ودخلوا عليه فقتلوه، وجرحوه ما يزيد على عشرين جراحة، ومثلوا به فجدعوا أنفه وأذنيه وتركوه عرياناً، فقتل معه نفر من أصحابه منهم أبو عبد الله بن سكينة، وكان قتله يوم الخميس سابع عشر ذي القعدة على باب مراغة، وبقي حتى دفنه أهل مراغة.
وأما الباطنية فقتل منهم عشرة، وقيل: بل قتلوا جميعهم، والله أعلم. وكان عمره لما قتل ثلاثاً وأربعين سنة وثلاثة أشهر، وكانت خلافته سبع عشرة سنة وستة أشهر وعشرين يوماً.
وأمه أم ولد، وكان شهماً شجاعاً، كثير الإقدام، بعيد الهمة، وأخباره المذكورة تدل على ما ذكرناه. وكان فصيحاً بليغاً حسن الحظ، ولقد رأيت خطه في غاية الجودة ورأيت أجوبته على الرقاع من أحسن ما يكتب وأفصحه.
ولما قتل المسترشد بالله بويع ولده أبو جعفر المنصور، ولقب الراشد بالله، وكان المسترشد قد بايع له بولاية العهد في حياته، وجددت له البيعة بعد قتله يوم الاثنين السابع والعشرين من ذي القعدة، وكتب السلطان مسعود إلى بك أبه الشحنة ببغداد فبايع له، وحضر الناس البيعة، وحضر بيعته أحد وعشرون رجلاً من أولاد الخلفاء، وبايع له الشيخ أبو النجيب، ووعظه، وبالغ في الموعظة. وأما جمال الدولة إقبال فإنه كان ببغداد في طائفة من العسكر، فلما جرت هذه الحادثة عبر إلى الجانب الغربي، وأصعد إلى تكريت وراسل مجاهد الدين بهروز، وحلفه وصعد إليه بالقلعة.
ذكر مسير السلطان سنجر إلى غزنةفي هذه السنة، في ذي القعدة، سار السلطان سنجر من خراسان إلى غزنة، وسبب ذلك أنه نقل إليه عن صاحبها بهرام شاه أنه تغير عن طاعته، وأنه قد مد يده إلى ظلم الرعايا واغتصاب أموالهم.
وكان السلطان سنجر هو الذي ملك غزنة، وقد ذكرناه سنة تسع وخمسمائة، فلما سمع هذه الأخبار المزعجة سار إلى غزنة ليأخذها أو يصلحه، فلما سلك الطريق وأبعد أدركهم شتاء شديد البرد، كثير الثلج، وتعذرت عليهم الأقوات والعلوفات، فشكا العسكر إلى السلطان ذلك وذكروا له ما هم فيه من الضيق وتعذر ما يحتاجون إليه، فلم يجدوا عنده غير التقدم أمامه، فلما قارب غزنة أرسل بهرام شاه رسلاً يضرع إلى سنجر ويسأل الصفح عن جرمه، والعفو عن ذنبه، فأرسل إليه سنجر المقرب جوهراً الخادم، وهو أكبر أميرعنده، ومن جملة أقطاعه مدينة الري، في جواب رسالته يجيبه عن العفو عنه إن حضر عنده وعاد إلى طاعته، فلما وصل إلى بهرام شاه أجابه إلى ما طلب منه من الطاعة وحمل المال والحضور بنفسه في خدمته، وأظهر من الطاعة والانقياد لما يحكم به السلطان سنجر شيئاً كثيراً.

وعاد المقرب جوهر ومعه بهرام شاه إلى سنجر، فسبقه المقرب إلى السلطان سنجر وأعلمه بوصول بهرام شاه، وأنه بكرة غد يكون عنده، وعاد المقرب إلى بهرام شاه ليجيء بين يديه، وركب سنجر من الغد في موكبه لتلقيه، وتقدم بهرام شاه ومعه المقرب إلى سنجر، فلما عاين موكب سنجر والجتر على رأسه نكص على عقبيه عائداً، فأمسك المقرب عنانه وقبح فعله، وخوفه عاقبة ذلك، فلم يرجع وولى هارباً ولم يصدق بنجاته ظناً منه أن سنجر يأخذه ويملك بلده، وتبعه طائفة من أصحابه وخواصه، ولم يعرج على غزنة، وسار سنجر إلى غزنة فدخلها وملكها واحتوى على ما فيها وجبى أموالها، وكتب إلى بهرام شاه كتاباً يلومه على ما فعله ويحلف له أنه ما أراد به سوءاً، ولا له في بلده مطمع، ولا هو ممن يكدر صنيعته وتعقب حسنته معه بسيئة، وإنما قصده لإصلاحه، فأعاد بهرام شاه الجواب يعتذر ويتنصل ويقول إن الخوف منعه من الحضور، ولا لوم على من خاف مثل السلطان، ويضرع في عوده إلى الإحسان، فأجابه سنجر إلى إعادة بلده إليه وفارق غزنة عائداً إلى بلاده، فوصل إلى بلخ في شوال سنة ثلاثين وخمسمائة واستقر ملك غزنة لبهرام شاه ورجع إليها مالكاً لها ومستولياً عليها.
ذكر قتل دبيس بن صدقة بالتاريخفي هذه السنة قتل السلطان مسعود دبيس بن صدقة على باب سرادقه بظاهر خونج، أمر غلاماً أرمنياً بقتله، فوقف على رأسه وهو ينكت الأرض بإصبعه، فضرب رقبته وهو لا يشعر، وكان ابنه صدقة بالحلة، فاجتمع إليه عسكر أبيه ومماليكه، وكثر جمعه واستأمن إليه الأمير قتلغ تكين، وأمر السلطان مسعود بك أبه أن يأخذ الحلة، فسار بعض عسكره إلى المدائن، وأقاموا مدة ينتظرون لحاق بك أبه بهم فلم يسر إليهم جبناً وعجزاً عن قصد الحلة لكثرة العسكر بها مع صدقة. وبقي صدقة بالحلة إلى أن قدم السلطان مسعود إلى بغداد سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة فقصده وأصلح حاله معه ولزم خدمته.
ومثل هذه الحادثة تقع كثيراً وهي قرب موت المتعاديين، فإن كان دبيساً كان يعادي المسترشد بالله ويكره خلافته، ولم يكن يعلم أن السلاطين إنما كانوا يبقون عليه ليجعلوه عدة لمقاومة المسترشد، فلما زال السبب زال المسبب، والله أعلم بذلك.
ذكر حصر عسكر يحيى المهديةفي هذه السنة سير يحيى بن العزيز بن حماد صاحب بجاية عسكراً ليحصروا المهدية، وبها صاحبها الحسن بن علي بن تميم بن المعز بن باديس، وكان سبب ذلك أن الحسن أحب ميمون بن زياد أمير طائفة كبيرة من العرب، وزاده على سائر العرب، فحسده العرب فسار أمراؤها إلى يحيى بن العزيز بأولادهم، وجعلوهم رهائن عنده، وطلبوا منه أن يرسل معهم عسكراً ليملكوا له المهدية، فأجابهم إلى ذلك وهو متباطيء. فاتفق أنه وصله كتب من بعض مشايخ المهدية بمثل ذلك، فوثق بما أتاه وسير عسكراً كثيفاً واستعمل عليهم قائداً كبيراً من فقهاء أصحابه يقال له مطرف بن حمدون.
وكان يحيى هذا هو وآباؤه يحسدون أولاد المنصور أبي الحسن هذا، فسارت العساكر الفارس والراجل ومعهم من العرب جمع كثير حتى نزلوا على المهدية وحصروها براً وبحراً. وكان مطرف ظهر التقشف والتورع عن الدماء، وقال: إنما أتيت الآن لأتسلم البلد بغير قتال، فخاف ظنه، فبقي أياماً لا يقاتل، ثم إنهم باشروا القتال فظهر أهل المهدية عليهم وأثروا فيهم، وتوالى القتال وفي كل ذلك الظفر لأهل البلد، وقتل من الخارجين جمادى غفير.
وجمع مطرف عسكره وزحف براً وبحراً لما يئس من التسليم، وقاتل أشد قتال، فملكت شوانيه شاطيء البحر، وقربوا من السور، فاشتد الأمر، فأمر الحسن بفتح الباب من الشاطيء وخرج أول الناس، وحمل هو ومن معه عليهم وقال: أنا الحسن! فلما سمع من يقاتله دعواه سلموا عليه، وانهزموا عنه إجلالاً له، ثم أخرج الحسن شوانيه تلك الساعة من الميناء، فأخذ من تلك الشواني أربع قطع، وهزم الباقي.
ثم وصلته نجدة من رجار الفرنجي، صاحب صقلية، في البحر، في عشرين قطعة، فحصرت شواني صاحب بجاية، فأمرهم الحسن بإطلاقها فأطلقوها، ثم وصل ميمون بن زياد في جمع كثير من العرب لنصرة الحسن، فلما رأى ذلك مطرف وأن النجدات تأتي الحسن في البر والبحر، علم أنه لا طاقة له بهم، فرحل عن المهدية خائباً، وأقام رجار الفرنجي مظهراً للحسن أنه مهادنه وموافقه وهو مع ذلك يعمر الشواني ويكثر عددها.

ذكر استيلاء الفرنج على جزيرة جربة
كانت جزيرة جربة من بلاد إفريقية قد استولت في كثرة عمارتها وخيراتها، غير أن أهلها طغوا فلا يدخلون تحت طاعة السلطان، ويعرفون بالفساد وقطع الطريق، فخرج إليها جمع من الفرنج، أهل صقلية، في أسطول كثير وجم غفير، فيه من مشهوري فرسان الفرنج جماعة، فنزلوا بساحتها وأداروا المراكب بجهاتها.
واجتمع أهلها وقاتلوا قتالاً شديداً، فوقع بين الفريقين حرب شديد، فثبت أهل جربة، فقتل منهم بشر كثير، فانهزموا وملك الفرنج الجزيرة، وغنموا أموالها وسبوا نساءها وأطفالها، وهلك أكثر رجالها، ومن بقي منهم أخذوا لأنفسهم أماناً من رجار ملك صقلية، وافتكوا أسراهم وسبيهم وحريمهم، والله أعلم بذلك.
ذكر ملك الفرنج حصن روطة من بلاد الأندلسفي هذه السنة اصطلح المستنصر بالله بن هود والسليطين الفرنجي صاحب طليطلة من بلاد الأندلس مدة عشر سنين. وكان السليطين قد أدمن غزو بلاد المستنصر وقتاله، حتى ضعف المستنصر عن مقاومته لقلة جنوده وكثرة الفرنج، فرأى أن يصالحه مدة يستريح فيها هو وجنوده، ويعتدون للمعاودة، فترددت الرسل بينهم، فاستقر الصلح على أن يسلم المستنصر إلى السليطين حصن روطة من الأندلس، وهو من أمنع الحصون وأعظمها، فاستقرت القاعدة واصطلحوا وتسلم منه الفرنج الحصن، وفعل المستنصر فعلة لم يفعلها قبله أحد.
ذكر حصر ابن ردمير مدينة أفراغة وهزيمته وموتهوفي هذه السنة حصر ابن ردمير الفرنجي مدينة أفراغة من شرق الأندلس، وكان الأمير يوسف بن تاشفين بن علي بن يوسف بمدينة قرطبة، فجهز الزبير بن عمرو اللمتوني والي قرطبة ومعه ألفا فارس وسير معه ميرة كثيرة إلى أفراغة.
وكان يحيى بن غانية، الأمير المشهور، أمير مرسية وبلنسية من شرق الأندلس ووالي أمرها لأمير المسلمين علي بن يوسف، فتجهز في خمس مائة فارس، وكان عبد الله بن عياض صاحب مدينة لاردة، فتجهز في مائتي فارس، فاجتمعوا وحملوا الميرة وساروا حتى أشرفوا على مدينة أفراغة، وجعل الزبير الميرة أمامه وابن غانية أمام الميرة، وابن عياض أمام غانية، وكان شجاعاً بطلاً وكذلك جميع من معه.
وكان ابن ردمير في اثني عشر ألف فارس، فاحتقر جميع الواصلين من المسلمين، فقال لأصحابه: اخرجوا وخذوا هذه الهدية التي أرسلها المسلمون إليكم، وأدركه العجب، ونفذ قطعة كبيرة من جيشه. فلما قربوا من المسلمين حمل عليهم ابن عياض وكسرهم، ورد بعضهم على بعض، وقتل فيهم، والتحم القتال، وجاء ابن ردمير بنفسه وعساكره جميعها مدلين بكثرتهم وشجاعتهم، فحمل ابن غانية وابن عياض في صدورهم واستحر الأمر بينهم وعظم القتال فكثر القتل في الفرنج، وخرج في الحال أهل أفراغة ذكرهم وأنثاهم، صغيرهم وكبيرهم، إلى خيام الفرنج، فاشتتغل الرجال بقتل من وجدوا في المخيم، واشتغل النساء بالنهب، فحمل جميع ما في المخيم إلى المدينة من قوت وعدد وآلات وسلاح وغير ذلك.
وبينما المسلمون والفرنج في القتال إذ وصل إليهم الزبير في عسكره فانهزم ابن ردمير وولى هارباً واستولى القتل على جميع عسكره فلم يسلم منهم إلا القليل، ولحق ابن ردمير بمدينة سرقسطة، فلما رأى ما قتل من أصحابه مات مفجوعاً بعد عشرين يوماً من الهزيمة، وكان أشد ملوك الفرنج بأساً، وأكثرهم تجرداً لحرب المسلمين، وأعظمهم صبراً، كان ينام على طارقته بغير وطاء، وقيل له: هلا تسريت من بنات أكابر المسلمين اللاتي سبيت؟ فقال: الرجل المحارب ينبغي أن يعاشر الرجال لا النساء، وأراح الله منه وكفى المسلمين شره.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة، في شوال، زلزت الأرض بالعراق والموصل وبلاد الجبل وغيرها، وكانت الزلزلة شديدة، وهلك فيها كثير من الناس، والله أعلم.
المجلد السابع
بسم الله الرحمن الرحيم
ثم دخلت سنة ثلاثين وخمسمائة
الحرب بين عسكر ا
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://arabelalekat.yoo7.com
الشيخ عودة
الشيخ عودة
الشيخ عودة



عدد المساهمات : 1748
تاريخ التسجيل : 28/09/2008
العمر : 74

كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير - صفحة 7 Empty
مُساهمةموضوع: رد: كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير   كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير - صفحة 7 Emptyالثلاثاء فبراير 25, 2014 11:36 am

قد تقدم أن الفرنج أرسلوا إلى ملك القسطنطينية يستصرخون به ويعرفونه ما فعله زنكي فيهم ويحثونه على لحاق البلاد قبل أن تملك، ولا ينفعه حينئذ المجيء، فتجهز وسار مجداً فابتدأ وركب البحر وسار إلى مدينة أنطاليا، وهي له على ساحل البحر، فأرسى فيها، وأقام ينتظر وصول المراكب التي فيها أثقاله وسلاحه، فلما وصلت سار عنها إلى مدينة نيقية وحصرها، فصالحه أهلها على مال يؤدونه إليه، وقيل: بل ملكها وسار عنها إلى مدينة أدنة ومدينة المصيصة، وهما بيد ابن ليون الأرمني، صاحب قلاع الدروب، فحصرهما وملكهما.
ورحل إلى عين زربة فملكها عنوة، وملك تل حمدون، وحمل أهله إلى جزيرة قبرس، وعبر ميناء الإسكندرونة ثم خرج إلى الشام فحصر مدينة أنطاكية في ذي القعدة، وضيق على أهلها، وبها صاحبها الفرنجي ريمند، فترددت الرسل بينهما، فتصالحا ورحل عنها إلى بغراص، ودخل منها بلد ابن ليون الأرمني، فبذل له ابن ليون أموالاً كثيرة ودخل في طاعته، والله أعلم.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة، وفي الرابع والعشرين من أيار، ظهر بالشام سحاب أسود أظلمت له الدنيا، وصار الجو كالليل الظلم، ثم طلع بعد ذلك سحاب أحمر كأنه نار أضاءت له الدنيا، وهبت ريح عاصف ألقت كثيراً من الشجر، وكان أشد ذلك بحوران ودمشق، وجاء بعده مطر شديد وبرد كبار وفيها عاد مؤيد الدين أبو الفوارس المسيب بن علي بن الحسين المعروف بابن الصوفي من صرخد إلى دمشق. وكان قد أخرج هو وأهله من دمشق إلى صرخد، فبقوا فيها إلى الآن، وعادوا، وولي أبو الفوارس الرئاسة بدمشق، وكان محبوباً عند أهلها، وتمكن تمكناً عظيماً، وكان ذا رئاسة عظيمة ومروءة ظاهرة.
وفيها كثرت الأمراض ببغداد وكثر الموت فجأة بأصفهان وهمذان.
وفيها سار أتابك زنكي إلى دقوقا فحصرها وملكها بعد أن قاتل على قلعتها قتالاً شديداً.
وفيها توفي أبو سعيد أحمد بن محمد بن ثابت الخجندي رئيس الشافعية بأصفهان، وتفقه على والده، ودرس بالنظامية بأصفهان.
وتوفي هبة الله بن أحمد بن عمر الحريري، ومولده يوم عاشوراء سنة خمس وثلاثين وأربعمائة، وهو أخر من روى عن أبي الحسن زوج الحرة. وقد روى الخطيب أبو بكر بن ثابت عن زوج الحرة أيضاً، وكانت وفاة الخطيب سنة ثلاث وستين وأربعمائة.
ثم دخلت سنة اثنتين وثلاثين وخمسمائة
ذكر ملك أتابك زنكي حمص
وغيرها من أعمال دمشق
وفي هذه السنة، في المحرم، وصل أتابك إلى حماة وسار منها إلى بقاع بعلبك، فملك حصن المجدل، وكان لصاحب دمشق، وراسله مستحفظ بانياس وأطاعه، وهو أيضاً لصاحب دمشق، وسار إلى حمص فحصرها، وأدام قتالها، فلما نازل ملك الروم حلب رحل عنها إلى سلمية، فلما انجلت حادثة الروم، على ما ذكرناه، عاود منازلة حمص، وأرسل إلى شهاب الدين صاحب دمشق يخطب إليه أمه ليتزوجها، واسمها زمرد خاتون، ابنة جاولي، وهي التي قتلت ابنها شمس الملوك، وهي التي بنت المدرسة بظاهر دمشق المطلة على وادي شقرا ونهر بردى، فتزوجها، وتسلم حمص مع قلعتها.
وحملت خاتون إليه في رمضان، وإنما حمله على التزوج بها ما رأى من تحكمها في دمشق فظن أنه يملك البلد بالاتصال بها، فلما تزوجها خاب أمله ولم يحصل على شيء فأعرض عنها.
ذكر وصول ملك الروم إلى الشام
وملكه بزاعة وما فعله بالمسلمين
قد ذكرنا سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة خروج ملك الروم من بلاده واشتغاله بالفرنج وابن ليون، فلما دخلت هذه السنة وصلت إلى الشام وخافه الناس خوفاً عظيماً، وقصد بزاعة فحصرها، وهي مدينة لطيفة على ستة فراسخ من حلب، فمضى جماعة من أعيان حلب إلى أتابك زنكي وهو يحاصر حمص، فاستغاثوا به واستنصروه، فسير معهم كثيراً من العساكر، فدخلوا إلى حلب ليمنعوها من الروم إن حصروها.
ثم إن ملك الروم قاتل بزاعة، ونصب عليها منجنبقات، وضيق على من بها فملكها بالأمان في الخامس والعشرين من رجب، ثم غدر بأهلها فقتل منهم وأسر وسبى. وكان عدة من جرح فيها من أهلها خمسة آلاف وثمانمائة نفس، وتنصر قاضيها وجماعة من أعيانها نحو أربع مائة نفس.
وأقام الروم بعد ملكها عشرة أيام يتطلبون من أختفى، فقيل لهم: إن جمعاً كثيراً من أهل هذه الناحية قد نزلوا إلى المغارات، فدخنوا عليهم، وهلكوا في المغاور.

ثم رحلوا إلى حلب فنزلوا على قويق ومعهم الفرنج الذين بساحل الشام، وزحفوا إلى حلب من الغد في خيلهم ورجلهم، فخرج إليهم أحداث حلب، فقاتلوهم قتالاً شديداً، فقتل من الروم وجرح خلق كثير، وقتل بطريق جليل القدر عندهم، وعادوا خاسرين، وأقاموا ثلاثة أيام فلم يروا فيها طمعاً، فرحلوا إلى قلعة الأثارب، فخاف من فيها من المسلمين، فهربوا عنها تاسع شعبان فملكها الروم وتركوا فيها سبايا بزاعة والأسرى ومعهم جمع من الروم يحفظونهم ويحمون القلعة وساروا، فلما سمع الأمير أسوار بحلب ذلك رحل فيمن عنده من العسكر إلى الأثارب، فأوقع بمن فيها من الروم، فقتلهم، وخلص السبي والأسرى وعاد إلى حلب.
وأما عماد الدين زنكي فإنه فارق حمص وسار إلى سلمية فنازلها، وعبر ثقله الفرات إلى الرقة، وأقام جريدة ليتبع الروم ويقطع عنهم الميرة، وأما الروم فإنهم قصدوا قلعة شيزر، فإنها من أمنع الحصون، وإنما قصدوها لأنها لم تكن لزنكي، فلا يكون له في حفظها الاهتمام العظيم، وإنما كانت للأمير أبي العساكر سلطان بن علي بن مقلد بن نصر بن منقذ الكناني، فنازلوها وحصروها، ونصبوا عليها ثمانية عشر منجنيقاً، فأرسل صاحبها إلى زنكي يستنجده، فسار إليه فنزل على نهر العاصي بالقرب منها، بينها وبين حماة، وكان يركب كل يوم ويسير إلى شيزر هو و عساكره ويقفون بحيث يراهم الروم، ويرسل السرايا فتأخذ من ظفرت به منهم.
ثم إنه أرسل إلى ملك الروم يقول له: إنكم قد تحصنتم مني بهذه الجبال، فأنزلوا منها إلى الصحراء حتى نلتقي، فإن ظفرت بكم أرحت المسلمين منكم، وإن ظفرتم استرحتم وأخذتم شيزر وغيرها. ولم يكن له بهم قوة وإنما كلن يرهبهم بهذا القول وأشباهه، فأشار فرنج الشام على ملك الروم بمصافته،وهونوا أمره عليه، فلم يفعل، وقال: أتظنون أنه ليس له من العسكر إلا ما ترون ؟إنما هو يريد أن تلقوه فيجيئه من نجدات المسلمين ما لا حد له.
وكان زنكي يرسل أيضاً إلى ملك الروم يوهمه بأن فرنج الشام خائفون منه، فلو فارق مكانه لتخلوا عنه، ويرسل إلى فرنج الشام يخوفهم من ملك الروم ويقول لهم :إن ملك بالشام حصناً واحداً ملك بلادكم جميعاً؛ فاستشعر كل من صاحبه، فرحل ملك الروم عنها في رمضان، وكان مقامه عليها أربعة و عشرين يوماً، وترك المجانيق و آلات الحصار بحالها، فسار أتابك زنكي يتبع ساقة العسكر، فظفر بكثير ممن تخلف منهم، وأخذ جميع ما تركوه.
ولما كان الفرنج على بزاعة أرسل زنكي القاضي كمال الدين أبا الفضل محمد بن عبد الله بن قاسم الشهرزوري إلى السلطان مسعود يستنجده، ويطلب العساكر، فمضى إلى بغداد، وانهى الحال إلى السلطان، وعرفه عاقبة الإهمال، وأنه ليس بينه و بين الروم إلا أن يملكوا حلب و ينحدروا مع الفرات إلى بغداد، فلم يجد عنده حركة، فوضع إنساناً من أصحابه، يوم جمعة، فمضى إلى جامع القصر، و معه جماعة من رنود العجم، وأمر أن يثور بهم إذا صعد الخطيب المنبر، ويصيح و يصيحوا معه: وا إسلامه، وا دين محمداه ! ويشق ثيابه، ويرمي عمامته من رأسه، ويخرج إلى دار السلطان والناس معه يستغيثون،كذلك ووضع إنساناً آخر يفعل بجامع السلطان مثله. فلما صعد الخطيب المنبر قام ذلك الرجل ولطم رأسه، وألقى عمامته وشق ثوبه، وأولئك معه، وصاحوا، فبكى الناس وتركوا الصلاة، ولعنوا السلطان، وساروا من الجامع يتبعون الشيخ إلى دار السلطان فوجدوا الناس في جامع السلطان كذلك، وأحاط الناس بدار السلطان يستغيثون ويبكون، فخاف السلطان، فقال أحضروا إلي ابن الشهرزوري، فأحضر، فقال كمال الدين :لقد خفت منه مما رأيت، فلما دخلت عليه قال لي :أي فتنة أثرت ؟فقلت ما فعلت شيئاً. أنا كنت في بيتي، وإنما الناس يغارون للدين والإسلام، ويخافون عاقبة هذا التواني، فقال: اخرج إلى الناس ففرقهم عنا واحضر غداً واختر من العسكر من تريد، ففرقت الناس وعرفتهم ما أمر به من تجهيز العساكر وحضرت من الغد إلى الديوان، فجهزوا لي طائفة عظيمة من الجيش ن فأرسلت إلى نصير الدين بالموصل أعرفه ذلك، وأخوفه من العسكر إن طرقوا البلاد، فإنهم يملكونها، فأعاد الجواب يقول: البلاد لا شك مأخوذة فلأن يأخذها المسلمون خير من أن يأخذها الكافرون.

فشرعنا في التحميل للرحيل، وإذ قد وصلني كتاب أتابك زنكي من الشام يخبر برحيل ملك الروم ويأمرني بأن لا استصحب من العسكر أحداً، فعرفت السلطان ذلك فقال: العسكر قد تجهز، ولابد من الغزاة إلى الشام، فبعد الجهد وبذل الخدمة العظيمة له ولأصحابه أعاد العسكر.
ولما عاد ملك الروم عن شيزر مدح الشعراء أتابك زنكي وأكثروا، فمن ذلك ما قاله المسلم بن خضر بن قسيم الحموي من قصيدة أولها :
بعزمك أيها الملك العظيم ... تذل لك الصعاب وتستقيم
ومنها :
ألم تر أن كلب الروم لما ... تبين أنه الملك الرحيم
فجاء يطبق الفلوات خيلاً ... كأن الجحفل الليل البهيم
وقد نزل الزمان على رضاه ... ودان لخطبه الخطب العظيم
فحين رميته بكفي خميس ... تيقن أن ذلك لا يدوم
وأبصر في المفاضة منك جيشاً ... فأحرب لا يسير ولا يقيم
كأنك في العجاج شهاب نور ... توقد وهو شيطان رجيم
أراد بقاء مهجته فولى ... وليس سوى الحمام له حميم
وهي قصيدة طويلة، ومن عجيب ما يحكى أن ملك الروم لما عزم على حصر شيزر سمع من بها ذلك، فقال الأمير مرشد بن علي أخو صاحبها وهو يفتح مصحفاً: اللهم بحق من أنزلته عليه إن قضيت بمجيء ملك الروم فاقبضني إليك ! فتوفي بعد أيام.
الحرب بين السلطان مسعود والملك داود
ذكر الحرب بين السلطان مسعود والملك داود ومن معه من الأمراء
لما فارق الراشد بالله أتابك زنكي من الموصل سار نحو أذربيجان، فوصل مراغة، وكان الأمير منكبرس صاحب فارس، ونائبه بخوزستان الأمير بوزابة، والأمير عبد الرحمن طغايرك صاحب خلخال، والملك داود ابن السلطان محمود، مستشعرين من السلطان مسعود،خائفين منه،فتجمعوا ووافقوا الراشد على الاجتماع معهم لتكون أيديهم واحدة، ويردوه إلى الخلافة، فأجابهم إلى ذلك إلا أنه لم يجتمع معهم.
ووصل الخبر إلى السلطان مسعود وهو ببغداد باجتماعهم، فسار عنها في شعبان نحوهم، فالتقوا ببنجن كشت، فاقتتلوا، فهزمهم السلطان مسعود، وأخذ الأمير منكبرس أسيرا ًفقتل بين يديه صبراً، وتفرق عسكر مسعود في النهب واتباع المنهزمين.
وكان بوزابة وعبد الرحمن طغايرك على نشز من الأرض، فرأيا السلطان مسعودا ًوقد تفرق عسكره عنه، فحملا عليه وهو في قلة فلم يثبت لهما وانهزم، وقبض بوزابة على جماعة من الأمراء: منهم صدقة بن دبيس صاحب الحلة، ومنهم ولد أتابك قراسنقر صاحب أذربيجان، وعنتر بن أبي العسكر وغيرهم وتركهم عنده. فلم ا بلغه قتل صاحبه منكبرس قتلهم جميعاً وصار العسكران مهزومين، وكان هذا من أعجب الاتفاق.
وقصد السلطان مسعود أذربيجان، وقصد الملك داود همذان، ووصل إليها الراشد بعد الوقعة فاختلفت آراء الجماعة، فبعضهم أشار بقصد العراق والتغلب عليه، وبعضهم أشار باتباع السلطان مسعود للفراغ منه، فإن ما بعده يهون عليهم. وكان بوزابة أكبر الجماعة فلم ير ذلك، وكان عرضه المسير إلى بلاد فارس وأخذها بعد قتل صاحبها منكبرس قبل أن يمتنع من بها عليه، فبطل عليهم ما كانوا فيه، وسار إليها فملكها، وصارت له مع خوزستان.
وسار سلجوق شاه ابن السلطان محمد إلى بغداد ليملكها، فخرج إليه البقش الشحنة بها ونظر الخادم أمير الحاج وقاتلوه ومنعوه، وكان عاجزاً مستضعفاً، ولما قتل صدقة بن دبيس أقر السلطان مسعود الحلة على أخيه محمد بن دبيس وجعل معه مهلهل بن ابي العسكر أخا عنتر المقتول يدبر أمره.
ولما كان البقش شحنة بغداد يقاتل سلجوقشاه ثار العيارون ببغداد ونهبوا الأموال، وقتلوا الرجال، وزاد أمرهم حتى كانوا يقصدون أرباب الأموال ظاهراً، ويأخذون منهم ما يريدون، ويحملون الأمتعة على رؤوس الحمالين، فلما عاد الشحنة قتل منهم وصلب، وغلت الأسعار وكثر الظلم منه، وأخذ المستورين بحجة العيارين، فجلا الناس عن بغداد إلى المصل وغيرها من البلاد.
ذكر قتل الراشد بالله

لما وصل الراشد بالله إلى همذان، وبها الملك داود وبوزابة ومن معهما من المراء والعساكر بعد انهزام السلطان مسعود وتفرق العساكر، على ما تقدم ذكره، سار الرشد بالله إلى خوزستان مع الملك داود، ومعه خوارزم شاه، فقاربا الحويزة، فسار السلطان مسعود إلى بغداد ليمنعهم عن العراق، فعاد الملك داود إلى فارس وعاد خوارزم شاه إلى بلاده، وبقي الراشد وحده، فلما أيس من عساكر العجم سار إلى أصفهان.
فلما كان الخامس والعشرون من رمضان وثب عليه نفر من الخراسانية الذين كانوا في خدمته، فقتلوه وهو يريد القيلولة، وكان في أعقاب مرض وقد برىء منه، ودفن بظاهر أصفهان بشهرستان، فركب من معه فقتلوا الباطنية.
ولما وصل الخبر إلى بغداد جلسوا للعزاء به في بيت النوبة يوماً واحداً. وكان أبيض أشقر، حسن اللون مليح الصورة، مهيباً شديد القوة والبطش.
قال أبو بكر الصولي: الناس يقولون إن كل سادس يقوم بأمر الناس من أول الإسلام لا بد من أن يخلع، وربما قتل. قال: فتأملت ذلك، فرأيته كما قيل، فإن أول من قام بأمر هذه الأمة محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي والحسن، رضي الله عنهم، فخلع ثم معاوية ويزيد ابنه، ومعاوية بن يزيد، ومروان، وعبد الملك بن مروان، وعبد الله بن الزبير،فخلع وقتل؛ثم الوليد بن عبد الملك، وأخوه سليمان، وعمر بن عبد العزيز، ويزيد، وهشام ابنا عبد الملك،والوليد بن يزيد ابن عبد الملك،فخلع وقتل؛ ثم لم ينتظم أمر بني أمية؛ثم ولي السفاح،والمنصور والمهدي والهادي والرشيد والأمين،فخلع وقتل؛ والمأمون والمعتصم والواثق والمتوكل والمنتصر والمستعين، فخلع وقتل؛ والمعتز والمهتدي والمعتمد والمعتضد والمكتفي والمقتدر،فخلع، ثم رد، ثم قتل، ثم القاهر والراضي والمتقي والمستكفي والمطيع والطائع، فخلع؛ ثم القادر والقائم والمقتدي والمستظهر والمسترشد والراشد،، فخلع وقتل. قلت: وفي هذا نظر لأن البيعة لأبن الزبير كانت قبل البيعة لعبد الملك بن مروان ، وكونه جعله بعده لا وجه له ، والصولي إنما ذكر إلى أيام المقتدر بالله ومن بعده ذكره غيره.
ذكر حال ابن بكران العيارفي هذه السنة، في ذي الحجة، عظم أمر ابن بكران العيار بالعراق، وكثر أتباعه، وصار يركب ظاهرً في جمع من المفسدين، وخافه الشريف أبو الكرم الوالي ببغداد، فأمر ابا القاسم ابن أخيه حامي باب الأزج أن يشتد عليه ليأمن شره.
وكان ابن بكران يكثر المقام بالسواد، ومعه رفيق له يعرف بابن البزاز، فانتهى أمرهما إلى أنهما أرادا أن يضربا باسمهما سكة في الأنبار، فأرسل الشحنة والوزير شرف الدين الزينبي إلى الوالي أبي الكرم وقالا: إما أن تقتل ابن بكران، وإما أن نقتلك؛ فأحضر ابن أخيه وعرفه ما جرى، وقال له: إما أن تختارني ونفسك، وإما أن تختار أبن بكران؛ فقال أنا أقتله. وكان لابن بكران عادة يجيء في بعض الليالي إلى ابن أخي أبي الكرم، فيقيم في داره ويشرب عنده،فلما جاء على عادته وشرب، أخذ أبو القاسم سلاحه ووثب به فقتله وأراح الناس من شره، ثم أخذ بعده بيسير ، رفيقه ابن البزاز ، وصلب، وقتل معه جماعة من الحرامية، فسكن الناس واطمأنوا وهدأت الفتنة.
ذكر قتل الوزير الدركزيني ووزارة الخازنفي هذه السنة قبض السلطان مسعود على وزيره العماد أبي البركات بن سلمة الدركزيني، واستوزر بعده كمال الدين محمد بن الحسين الخازن، وكان الكمال شهماً، شجاعاً، عادلاً، نافذ الحكم، حسن السيرة، أزال المكوس ورفع المظالم، وكان يقيم مؤونة السلطان ووظائفه، وجمع له خزائن كثيرة، وكشف أشياء كثيرة كانت مستورة يخان فيها ويسرق، فثقل على المتصرفين وأرباب الأعمال، فأوقعوا بينه وبين الأمراء، لاسيما قراسنقر صاحب اذربيجان فإنه فارق السلطان وأرسل يقول: إما أن تنفذ رأس الوزير وإلا خدمنا سلطاناً آخر. فاشار من حضر من الأمراء بقتله، وحذروه فتنة لا تتلافى، فقتله على كره منه، وأرسل إلى قراسنقر فرضي. وكانت وزارته سبعة أشهر، وكان قتله سنة ثلاث وثلاثين وخمسمائة.
ووزر بعده أبو العز طاهر بن محمد البروجردي وزير قراسنقر، ولقب عز الملك، وضاقت الأمور على السلطان مسعود، واستقطع الأمراء البلاد بغير اختياره، ولم يبق له شيء من البلاد البتة إلا اسم السلطنة لا غير.؟؟؟
ذكر عدة حوادث

في هذه السنة ملك حسام الدين تمرتاش إيلغازي، صاحب ماردين، قلعة الهتاخ من بلاد ديار بكر، أخذها من بعض بني مروان الذين كانوا ملوك ديار بكر جميعها، وهذا أخر من بقي منهم له ولاية، فسبحان الحي الدائم الذي لا يزول ملكه ولا يتطرق إليه النقص ولا التغيير.
وفيما انقطعت كسوة الكعبة، لما ذكرناه من الاختلاف، فقام بكسوتها رامشت التاجر الفارسي، كساها من الثياب الفاخرة بكل ما وجد إليه سبيل، فبلغ ثمن الكسوة ثمانية عشر ألف دينار مصرية؛ وهو من التجار المسافرين إلى الهند كثير المال.
وفيها توفيت زبيدة خاتون ابنة السلطان بركيارق، زوج السلطان مسعود، وتزوج بعدها سفري ابنة دبيس بن صدقة في جمادى الأولى، وتزوج ابنة قاروت، وهو من البيت السلجوقي، إلا أنه كان لا يزال يعاقر الخمر ليلاً ونهاراً، فلهذا سقط اسمه وذكره.
وفيها قتل السلطان مسعود ابن البقش السلاحي شحنة بغداد، وكان قد ظلم الناس وعسفهم، وفعل ما لم يفعله غيره من الظلم، فقبض عليه وسيره إلى تكريت، فسجنه بها عند مجاهد الدين بهروز، ثم أمر بقتلهن فلما أرادوا قتله ألقى بنفسه في دجلة فغرق، فأخذ رأسه وحمل إلى السلطان، وجعل السلطان شحنة العراق مجاهد الدين بهروز، فعمل أعمالاً صالحة منها: أنه عمل مسناة النهروان وأشباهها، وكان حسن السيرة كثير الإحسان.
وفيها درس الشيخ أبو منصور بن الرزاز بالنظامية في بغداد.
وأرسل إلى أتابك زنكي في إطلاق قاضي القضاة الزينبي، فأطلق وانحدر إلى بغداد، فخلع عليه الخليفة وأقره على منصبه.
وفيها كان بخراسان غلاء شديد طالت مدته، وعظم أمره، حتى أكل الناس الكلاب والسنانير وغيرهما من الدواب، وتفرق أكثر أهل البلاد من الجوع.
وفيها توفي طغان أرسلان صاحب بدليس وأرزن من ديار بكر وولي بعده ابنه فرني واستقام له الأمر.
وفيها، في شهر صفر، جاءت زلزلة عظيمة بالشام والجزيرة وديار بكر والموصل والعراق وغيرها من البلاد، فخربت كثيراً منها، وهلك تحت الهدم عالم كثير.
وفيها توفي أحمد بن محمد بن أبي بكر بن أبي الفتح الدينوري الفقيه الحنبلي ببغداد، وكان ينشد كثيراً هذه الأبيات:
تمنيت أن تمسي فقيهاً مناظراً ... بغير عياء والجنون فنون
وليس اكتساب المال دون مشقة ... تلقيتها فالعلم كيف يكون
وفيها توفي محمد بن عبد الملك بن عمر أبو الحسن الكرخي، ومولده سنة ثمان وخمسين وأربعمائة، وكان فقيهاً محدثاً سمع الحديث بكرخ وأصفهان وهمذان وغيرها.
وفي شعبان منها توفي القاضي أبو العلاء صاعد بن الحسين بن إسماعيل ابن صاعد، وهو ابن عم القاضي أبي سعيد، وولي القضاء بنيسابور بعد أبي سعيد.
ثم دخلت سنة ثلاث وثلاثين وخمسمائة
ذكر الحرب بين السلطان سنجر وخوارزم شاه
في هذه السنة، في المحرم، سار السلطان سنجر بن ملكشاه إلى خوارزم محارباً لخوارزم شاه أتسز بن محمد. وسبب ذلك أن سنجر بلغه أن أتسز يحدث نفسه بالامتناع عليه وترك الخدمة له، وأن هذا الأمر قد ظهر على كثير من أصحابه وأمرائه، فأوجب ذلك قصده واخذ خوارزم منه، فجمع عساكره وتوجه نحوه،فلما قرب من خوارزم خرج خوارزم شاه إليه في عساكره، فلقيه مقابلاً وعبأ كل واحد منهما عساكره وأصحابه، فاقتتلوا، فلم يكن للخوارزمية قوة بالسلطان، فلم يثبتوا، وولوا منهزمين، وقتل منهم خلق كثير، ومن جملة القتلى ولد لخوارزم شاه، فحزن عليه أبوه حزناً عظيماً، ووجد وجداً شديداً.
وملك سنجر خوارزمن وأقطعها غياث الدين سليمان شاه ولد أخيه محمد، ورتب له وزيراً وأتابكاً وحاجباً، وقرر قواعده، وعاد إلى مرو في جمادى الأخرى من هذه السنة؛ فلما فارق خوارزم عائداً انتهز خوارزم شاه الفرصة فرجع إليها، وكان أهلها يكرهون العسكر السنجري ويؤثرون عودة خوارزم شاه، فلما عاد أعانوه على ملك البلد، ففارقهم سليمان شاه ومن معه ورجع إلى عمه السلطان سنجر، وفسد الحال بين سنجر وخوارزم واختلفا بعد الاتفاق، ففعل خوارزم شاه في خراسان سنة ست وثلاثين وخمسمائة ما نذكره إن شاء الله.
ذكر قتل محمود صاحب دمشق
وملك أخيه محمد

في هذه السنة،في شوال، قتل شهاب الدين محمود بن تاج الملوك بوري بن طغدكين،صاحب دمشق، على فراشه غيلة، قتله ثلاثة من غلمانه هم خواصه واقرب الناس منه في خلوته وجلوته،وكانوا ينامون عنده ليلاً، فقتلوه وخرجوا من القلعة وهربوا، فنجا أحدهم وأخذ الآخران فصلبا.
وكتب من بدمشق إلى أخيه جمال الدين محمد بن بوري صاحب بعلبك، بصورة الحال واستدعوه ليملك بد أخيه، فحضر في أسرع وقت، فلما دخل البلد جلس للعزاء بأخيه، وحلف له الجند وأعيان الرعية، وسكن الناس، وفوض أمر دولته إلى معين الدين أنز،مملوك جده،وزاد في علو مرتبته، وصار هو الجملة والتفصيل؛ وكان أنز خيراً عاقلاً حسن السيرة فجرت الأمور عنده على أحسن نظام.
ذكر ملك زنكي بعلبكفي هذه السنة، في ذي القعدة، سار عماد الدين أتابك زنكي بن آقسنقر إلى بعلبك،فحصرها ثم ملكها؛ وسبب ذلك أن محموداً صاحب دمشق لما قتل كانت والدته زمرد خاتون عند اتابك زنكي بحلب، قد تزوجها،فوجدت لقتل ولدها وجداً شديداً، وحزنت عليه، وأرسلت إلى زنكي وهو بديار الجزيرة تعرفه الحادثة، وتطلب منه أن يقصد دمشق ويطلب بثأر ولدها. فلما وقف على هذه الرسالة بادر في الحال من غير توقف ولا تريث، وسار مجداً ليجعل ذلك طريقاً إلى ملك البلد، وعبر الفرات عازماً على قصد دمشق، فاحتاط من بها، واستعدوا، واستكثروا من الذخائر، ولم يتركوا شيئاً مما يحتاجون إليه ألا وبذلوا الجهد في تحصيله، وأقاموا ينتظرون وصوله إليهم، فتركهم وسار إلى بعلبك.
وقيل: كان السبب في ملكها أنها كانت لمعين الدين أنز، كما ذكرناه، وكان له جارية يهواها، فلما تزوج أم جمال الدين سيرها إلى بعلبك، فلما سار زنكي إلى الشام عازماً على قصد دمشق سير إلى أنز يبذل له البذول العظيمة ليسلم إليه دمشق، فلم يفعل.
وسار أتابك إلى بعلبك فوصل إليها في العشرين من ذي الحجة من السنة فنازلها في عساكره، وضيق عليها، وجد في محاربتها، ونصب عليها من المنجنيقات أربعة عشر عدداً ترمي ليلاً ونهاراً، فأشرف من بها على الهلاك، وطلبوا الأمان، وسلموا إليه المدينة، وبقيت القلعة وبها جماعة من شجعان الأتراك، فقاتلهم، فلما أيسوا من معين ونصير طلبوا الأمان فأمنهم، فسلموا القلعة إليه، فلما نزلوا منها وملكها غدر بهم وأمر بصلبهم فصلبوا ولم ينج منهم إلا القليل، فاستقبح الناس ذلك من فعله واستعظموهن وخافه غيرهم وحذروه ولاسيما أهل دمشق فإنهم قالوا: لو ملكنا لو ملكنا لفعل بنا مثل فعله بهؤلاء؛ فازدادوا نفوراً وجداً في محاربته.
ولما ملك زنكي بعلبك أخذ الجارية التي كانت لمعين الدين أنز بها، فتزوجها بحلب، فلم تزل بها إلى أن قتل، فسيرها أبنه نور الدين محمود إلى معين الدين أنز، وهي كانت أعظم الأسباب في المودة بين نور الدين وبين أنز، والله أعلم.
ذكر استيلاء قراسنقر على بلاد فارس وعوده عنهاوفي هذه السنة جمع أتابك قراسنقر صاحب أذربيجان عساكر كثيرة وحشد، وسار طالباً بثأر أبيه الذي قتله بوزابة في الصاف المقدم ذكره، فلما قارب السلطان مسوداً أرسل إليه يطلب منه قتل وزيره الكمال، فقتله كما ذكرناه، فلما قتل سار قراسنقر إلى بلاد فارس، فلما قاربها تحصن بوزابة منه في القلعة البيضاء، ووطىء قراسنقر البلاد، وتصرف فيها، وليس له فيها دافع ولا مانع إلا أنه لم يمكنه المقام، وملك المدن التي في فارس، فسلم البلاد إلى سلجوقشاه ابن السلطان محمود وقال له: هذه البلاد لك فاملك الباقي؛ وعاد إلى أذربيجان فنزل حينئذ بوزابة من القلعة سنة أربع وثلاثين، وهزم سلجوقشاه وملك البلاد، واسر سلجوقشاه وسجنه في قلعة بفارس.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة، في صفر، توفي الوزير شرف الدين أنو شروان بن خالد معزولاً ببغداد، وحضر جنازته وزير الخليفة فمن دونه، ودفن في داره، ثم نقل إلى الكوفة، فدفن في مشهد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، عليه السلام. وكان فيه تشيع، وهو كان السبب في عمل المقامات الحريرية، وكان رجلاً عاقلاً شهماً، ديناً خيراً، ووزر للخليفة المسترشد وللسلطان محمود وللسلطان مسعود، وكان يستقيل من الوزارة فيجاب إلى ذلك ثم يخطب إليها فيجيب كارهاً.

وفيها قدم السلطان مسعود بغداد في ربيع الأول، وكان الزمان شتاء، وصار يشتي بالعراق، ويصيف بالجبال، ولما قدمها أزال المكوس، وكتب الألواح بإزالتها، ووضعت على أبواب الجوامع وفي الأسواق، وتقدم أن لا ينزل جندي في دار عامي من أهل بغداد إلا بإذن، فكثر الدعاء له والثناء عليه، وكان السبب في ذلك الكمال الخازن وزير السلطان.
وفيها، في صفر، كانت زلازل كثيرة هائلة بالشام والجزيرة وكثير من البلاد، وكان أشدها بالشام، وكانت متوالية، كل ليلة عدة دفعات، فخرب كثير من البلاد، ولاسيما حلب فإن أهلها لما كثرت عليهم فارقوا بيوتهم، وخرجوا إلى الصحراء، وعدوا ليلة واحدة جاءتهم ثمانين مرة، ولم تزل بالشام تتعاهدهم من رابع صفر إلى التاسع عشر منه، وكان معها صوت وهزة شديدة.
وفيها أغار الفرنج على أعمال بانياس، فسار عسكر دمشق في أثرهم، فلم يدركوهم فعادوا.
وفيها توفي أبو القاسم زاهر بن طاهر الشحامي النيسابوري بها، ومولده سنة ست وأربعين وأربعمائة، وكان إماماً في الحديث، مكثراً عالي الإسناد.
وتوفي عبد الله بن أحمد بن عبد القادر بن محمد بن يوسف أبو القاسم ابن أبي الحسين البغدادي بها، ومولده سنة اثنتين وخمسين وأربع مائة؛ وعبد العزيز بن عثمان بن إبراهيم أبو محمد الأسدي البخاري، كان قاضي بخارى، وكان من الفقهاء أولاد الأئمة حسن السيرة.
وتوفي محمد بن شجاع بن أبي بكر بن علي بن إبراهيم اللفتواني الأصفهاني بأصفهان في جمادى الأخرة، ومولده سنة سبع وتسعين وأربعمائة، وسمع الحديث الكثير بأصفهان وبغداد وغيرهما.
ثم دخلت سنة أربع وثلاثين وخمسمائة
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://arabelalekat.yoo7.com
الشيخ عودة
الشيخ عودة
الشيخ عودة



عدد المساهمات : 1748
تاريخ التسجيل : 28/09/2008
العمر : 74

كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير - صفحة 7 Empty
مُساهمةموضوع: رد: كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير   كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير - صفحة 7 Emptyالثلاثاء فبراير 25, 2014 11:37 am

ذكر حصار أتابك زنكي دمشق
في هذه السنة حصر أتابك زنكي دمشق مرتين، فأما المرة الأولى فإنه سار إليها في ربيع الأول من بعلبك بعد الفراغ من أمرها، وتقرير قواعدها وإصلاح ما تشعث منها، ليحصرها، فنزل في البقاع، وأرسل إلى جمال الدين صاحبها يبذل له بلداً يقترحه ليسلم إليه دمشق، فلم يجبه إلى ذلك، فرحل وقصد دمشق، فنزل على داريا ثالث عشر ربيع الأول فالتفت الطلائع واقتتلوا، وكان الظفر لعسكر زنكي وعاد الدمشقيون منهزمين، فقتل كثير منهم .
ثم تقدم زنكي إلى دمشق، فنزل هناك، ولقيه جمع كثير من جند دمشق وأحداثها ورجالة الغوطة، فقاتلوه، فانهزم الدمشقيون، وأخذهم السيف، فقتل فيهم وأكثر، وأسر كذلك، ومن سلم عاد جريحاً. وأشرف البلد ذلك اليوم على أن يملك، اكن عاد زنكي عن القتال وأمسك عنه عدة أيام، وتابع الرسل إلى صاحب دمشق، وبذل له بعلبك وحمص وغيرهما مما يختاره من البلاد، فمال إلى التسليم، وامتنع غيره من أصحابه من ذلك، وخوفوه عاقبة فعله، وأن يغدر به كما غدر بأهل بعلبك، فلما لم يسلموا إليه عاود القتال والزحف.
ثم إن جمال الدين صاحب دمشق مرض ومات ثامن شعبان، وطمع زنكي حينئذ في البلد، وزحف إليه زحفاً شديداً ظناً منه أنه ربما يقع بين المقدمين والأمراء خلاف فيبلغ غرضه، وكان ما أمله بعيداً، فلما مات جمال الدين ولي بعده مجير الدين أبق ولده، وتولى تدبير دولته معين الدين أنز فلم يظهر لموت أبيه أثر مع أن عدوهم على باب المدينة؛ فلما رأى أنز أن زنكي لا يفارقهم، ولا يزول عن حصرهم، راسل الفرنج، واستدعاهم إلى نصرته، وأن يتفقوا على منع زنكي عن دمشق، وبذل لهم بذولاً من جملتها أن يحصر بانياس ويأخذها ويسلمها إليهم، وخوفهم من زنكي إن ملك دمشق؛ فعملوا صحة قوله إنه إن ملكها لم يبق لهم معه بالشام مقام، فاجتمعت الفرنج وعزموا على السير إلى دمشق ليجتمعوا مع صاحبها وعسكرها على قتال زنكي، فحين علم زنكي بذلك سار إلى حوران خامس رمضان، عازماً على قتال الفرنج قبل أن يجتمعوا بالدمشقيين، فلما سمع الفرنج خبره لم يفارقوا بلادهم، فلما رآهم كذلك عاد إلى حصر دمشق ونزل بعذرا شماليها سادس شوال، فأحرق عدة قرى من المرج والغوطة ورحل عائداً إلى بلاده.

ووصل الفرنج إلى دمشق واجتمعوا بصاحبها وقد رحل زنكي، فعادوا،فسار معين الدين أنز إلى بانياس في عسكر دمشق،وهي في طاعة زنكي،كما تقدم ذكرها، ليحصرها ويسلمها إلى الفرنج؛ وكان واليها قد سار قبل ذلك منها في جمع من جمعه إلى مدينة صور للإغارة على بلادها، فصادفه صاحب أنطاكية وهو قاصد إلى دمشق نجدة لصاحبها على زنكي، فاقتتلا، فانهزم المسلمون وأخذوا والي بانياس فقتل، ونجا من سلم منهم إلى بانياس، وجمعوا معهم كثيراً من البقاع وغيرها، وحفظوا القلعة، فنازلها معين الدين، فقاتلهم، وضيق عليهم، ومعه طائفة من الفرنج، فأخذها وسلمها إلى الفرنج.
وأما الحصر الثاني لدمشق، فإن أتابك لما سمع الخبر بحصر بانياس عاد إلى بعلبك ليدفع عنها من يحصرها، فأقام هناك، فلما عاد عسكر دمشق، بعد أن ملكوها وسلموها إلى الفرنج،فرق أتابك زنكي عسكره على الإغارة على حوران وأعمال دمشق، وسار هو جريدة مع خواصه، فنازل دمشق سحراً ولم يعلم به أحد من أهلها، فلما أصبح الناس ورأوا عسكره خافوا، وارتج البلد، واجتمع العسكر والعامة على السور وفتحت الأبواب وخرج الجند، والرجالة فقاتلوه، فلم يمكن زنكي عسكره من الإقدام في القتال لأن عامة عسكره تفرقوا في البلاد للنهب والتخريب، وإنما قصد دمشق لئلا يخرج منها عسكره إلى عسكرهم وهم متفرقون، فلما اقتتلوا ذلك اليوم قتل بينهم جماعة ثم أحجم زنكي عنهم وعاد إلى خيامه ورحل إلى مرج راهط، وأقام بنتظر عودة عسكره، فعادوا إليه وقد ملأوا أيديهم من الغنائم، لأنهم طرقوا البلاد وأهلها غافلون، فلما اجتمعوا عنده رحل بهم عائداً إلى بلادهم.
ذكر ملك زنكي شهرزور وأعمالهافي هذه السنة ملك أتابك زنكي شهرزور وأعمالها وما يجاورها من الحصون، وكانت بيد قفجاق بن أرسلان تاش التركماني، وكان حكمه نافذاً على قاضي التركمان ودانيهم، وكلمته لا تخالف، يرون طاعته فرضاً، فتحامى الملوك قصده، ولم يتعرضوا لولايته لهذا ولأنها منيعة كثيرة المضايق، فعظم شأنه وازداد جمعه، وأتاه التركمان من كل فج عميق.
فلما كان هذه السنة سير إله أتابك زنكي عسكراً، فجمع أصحابه ولقيهم فتصافوا واقتتلوا، فانهزم قفجاق واستبيح عسكره، وسار الجيش الأتابكي في أعقابهم فحصروا الحصون والقلاع فملكوها جميعها وبذلوا الأمان لقفجاق فصار إليهم، وانخرط في سلك العساكرولم يزلهو وبنوه في خدمة البيت الأتابكي على أحسن فضية إلى بعد سنة ستمائة بقليل وفارقوها.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة جرى بين أمير المؤمنين المقتفي لأمر الله وبين الوزير شرف الدين علي بن طراد الزينبي منافرة، وسببها أن الوزير كان يعترض الخليفة في كل ما يأمر به، فنفر الخليفة من ذلك،فغضب الوزير، ثم خاف فقصد دار السلطان في سميرية، وقت الظهر، ودخل إليها واحتمى بها، فأرسل إليه الخليفة في العود إلى منصبه، فامتنع؛ وكانت الكتب تصدر باسمه، واستنيب قاضي القضاة الزينبي، وهو ابن عم الوزير، وأرسل الخليفة إلى السلطان رسلاً في معنى الوزير، فأرخص له السلطان في عزله، فحينئذ أسقط أسمه من الكتب، وأقام بدار السلطان؛ ثم عزل الزينبي من النيابة وناب سديد الدولة بن الأنباري.
وفيها قتل المقرب جوهر وهو من خدم السلطان سنجر، وكان قد حكم في دولته جميعها، ومن جملة أقطاعه الري، ومن جملة مماليكه العباس صاحب الري، وكان سائر عسكر السلطان سنجر يخدمونه ويقفون ببابه وكان قتله بيد الباطنية، وقف له جماعة منهم بزي النساء واستغثن به، فوقف يسمع كلامهم فقتلوه، فلما قتل جمع صاحبه عباس العساكر وقصد الباطنية، فقتل منهم وأكثر، وفعل بهم ما لم يفعله غيره، ولم يزل يغزوهم ويقتل منهم ويخرب بلادهم إلى أن مات.
وفيها زلزلت كنجة وغيرها من أعمال أذربيجان وأران إلا أن أشدها كان بكنجة فخرب منها الكثير وهلك عالم لا يحصون كثرة. قيل: كان الهلكى مائتي ألف وثلاثين ألف، وكان من جملة الهلكى ابنان لقرابسنقر صاحب البلاد، وتهدمت قلعة هناك لمجاهد الدين بهروز، وذهب له فيها من الذخائر والأموال الشيء الكثير.

وفيها شرع مجاهد الدين في عمل النهروانات: سكر سكراً عظيما يرد الماء إلى مجراه الأول، وحفر مجرى الماء القديم، وخرق إليه مجراة تأخذ من ديالى ثم استحال بعد ذلك وجرى الماء ناحية السكر، وبقي السكر في البئر لا ينتفع به أحدا، ولم يتعرض أحد لرده إلى مجراه عند السكر إلى وقتنا هذا.
وفيها انقطع الغيث ببغداد والعراق، ولم يجيء غير مرة واحدة في آذار، ثم انقطع، ووقع الغلاء، وعدمت الأقوات بالعراق .
وفيها، في جمادى الأخرى، دخل الخليفة بفاطمة خاتون بنت السلطان مسعود، وكان يوم حملها إلى دار الخليفة يوماً مشهوداً، أغلقت بغداد عدة أيام وزينت وتزوج السلطان مسعود بابنة الخليفة المقتفي لأمر الله، وعقد عليها، واستقر أن يتأخر زفافها خمس سنين لصغرها؛ وفيها، في ربيع الأول، توفي القاضي أبو الفضل يحيى ابن قاضي دمشق المعروف بالزكي.
ثم دخلت سنة خمس وثلاثين وخمسمائة
ذكر مسير جهاردانكي إلى العراق
في هذه السنة أمر السلطان مسعود الأمير إسماعيل المعروف بجهاردانكي، والبقش كون خر، بالمسير إلى خوزستان وفارس وأذهما من بوزابة، وأطلق لهما نفقة على بغداد، فسار فيمن معهما إلى بغداد، فمنعهم مجاهد الدين بهروز من دخولها، فلم يقبلوا منه،فأرسل إلى المعابر فخسفها وغرقها، وجد في عمارة السور، وسد باب الظفرية وباب كلوازي، وأغلق باقي الأبواب، وعلق عليها السلاح وضرب الخيام للمقاتلة.
فلما علما بذلك عبرا بصرصر، وقصدا الحلة، فمنعا منها، فقصدا واسط، فخرج إليهما الأمير طرنطاي وتقاتلوا، فانهزم طرنطاي، ودخلوا واسط فنهبوها ونهبوا بلد فرسان والنعامية، وانضم طرنطاي إلى حماد بن أبي الخير صاحب البطيحة، ووافقهم عسكر البصرة، وفارق اسماعيل والبقش بعض عسكرهما وصارا مع طرنطاي، فضعف أولئك، فسار إلى تستر واستشفع إسماعيل إلى السلطان فعفا عنه.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة وصل رسول من السلطان سنجر، ومعه بردة النبي، صلى الله عليه وسلم، والقضيب، وكانا قد أخذا من المسترشد، فأعادهما الآن إلى المقتفي .
وفي هذه السنة توفي أتابك قراسنقر صاحب أذربيجان وأرانية بمدينة أردبيل، وكان مرضه السل، وطال به، وكان من مماليك الملك طغرل، وسلمت أذربيجان وأرانية إلى الأمير جاولي الطغرلي. وكان قراسنقر علا شأنه على سلطانه وخافه السلطان.
وفيها كان بين أتابك زنكي وبين داود سقمان، بن أرتق، صاحب حصن كيفا، حرب شديدة، وانهزم داود بن سقمان، وملك زنكي من بلاده قلعة بهمرد وأدركه الشتاء فعاد إلى الموصل.
وفيها ملك الإسماعلية حصن مصيات بالشام، وكان واليه مملوكاً لبني منقذ أصحاب شيزر، فاحتالوا عليه، ومكروا به حتى صعدوا إليه وقتلوه، وملكوا الحصن، وهو بأيديهم إلى الآن.
وفيها توفي سديد الدولة بن الأنباري واستوزر الخليفة بعده نظام الدين أبا نصر محمد بن محمد بن جهير، وكان قبل ذلك أستاذ الدار ز وفيها توفي يرنقش بازدار صاحب قزوين.
وفيها، في رجب، ظفر ابن الدانشمند، صاحب ملطية وغيرها من تلك النواحي، بجمع من الروم فقتلهم وغنم ما معهم.
وفيها، في رمضان، سارت طائفة من الفرنج بالشام إلى عسقلان ليغيروا على أعمالها، وهي لصاحب مصر، فخرج إليهم العسكر الذي بعسقلان فقاتلهم، فظفر المسلمون وقتلوا من الفرنج كثيراً، فعادوا منهزمين.
وفيها بنيت المدرسة الكمالية ببغداد، بناها كمال الدين أبو الفتوح بن طلحة صاحب المخزن، ولما فرغت درس فيها الشيخ أبو الحسن بن الخل، وحضره أرباب المناصب وسائر الفقهاء.
وفيها، في رجب، مات القاضي أبو بكر محمد بن عبد الباقي الأنصاري، قاضي المارستان، وغيرها من علوم الأوائل، وهو أخر من ؛دث في الدنيا عن أبي إسحق البرمكي والقاضي أبي الطيب الطبري وأبي طالب العشاري وأبي محمد الجوهري وغيرهم.
وتوفي الإمام الحافظ أبو القاسم إسماعيل بن محمد بن الفضل الأصفهاني عاشر ذي الحجة، ومولده سنة تسع وخمسين، وله التصانيف المشهورة.
وتوفي يوسف بن الحسن أبو يعقوب الهمذاني من أهل بروجرد، وسكن مرو، وتفقه على أبي إسحق الشيرازي، وروى الحديث واشتغل بالرياضيات والمجاهدات، ووعظ ببغداد، فقام إليه متفقه يقال له ابن السقاء وسأله وآذاه في السؤال فقال: اسكت، إني أشم فيك ريح الكفر! فسافر الرجل إلى بلد الروم وتنصر.

وفيها مات أبو القاسم علي بن أفلح الشاعر المشهور.
ثم دخلت سنة ست وثلاثين وخمسمائة
انهزام السلطان سنجر من الأتراك الخطا
ذكر انهزام السلطان سنجر من الأتراك الخطا وملكهم ما وراء النهر
قد ذكر أصحاب التواريخ في هذه الحادثة أقاويل نحن نذكرها جميعها للخروج من عهدتها، فنقول: في هذه السنة، في المحرم، انهزم السلطان سنجر من الترك الكفار. وسبب ذلك أن سنجر كان قتل ابناً لخوارزم شاه أتسز بن محمد، كما ذكرناه قبل، فبعث خوارزم شاه إلى الخطا، وهم بما وراء النهر، يطمعهم في البلاد ويروج عليهم أمرها، وتزوج إليهم، وحثهم على قصد مملكة السلطان سنجر، فساروا في ثلاثمائة ألف فارس، وسار إليهم سنجر في عساكره، فالتقوا بما وراء النهر، واقتتلوا أشد قتال، وانهزم سنجر في جميع عساكره، وقتل منهم مائة ألف قتيل، منهم أحد عشر ألف صاحب عمامة، وأربعة آلاف امرأة، وأسرت زوجة السلطان سنجر، وتم سنجر منهزماً إلى ترمذ، وسار منها إلى بلخ.
ولما انهزم سنجر قصد خوارزم شاه مدينة مرو، فدخلها مراغمة للسلطان سنجر، وقتل بها، وقبض على أبي الفضل الكرماني الفقيه الحنفي وعلى جماعة من الفقهاء وغيرهم من أعيان البلد.
ولم يزل السلطان سنجر مسعوداً إلى وقتنا هذا لم تنهزم له راية، ولما تمت عليه هذه الهزيمة أرسل إلى السلطان مسعود وأذن له في التصرف في الري وما يجري معها على قاعدة أبيه السلطان محمد، وأمره أن يكون مقيماً فيها بعساكره بحيث أن دعت حاجة استدعاه لأجل هذه الهزيمة، فوصل عباس صاحب الري إلى بغداد بعساكره، وخدم السلطان مسعوداً خدمة عظيمة، وسار السلطان إلى الري امتثالاً لأمر سنجر.
وقيل: إن بلاد تركستان، وهي كاشغر، وبلاساغون، وختن، وطراز وغيرها مما يجاورها من بلاد ما وراء النهر كانت بيد الملوك الخانية الأتراك، وهم مسلمون من نسل افراسياب التركي، إلا أنهم مختلفون، وكان سبب إسلام جدهم اظلول واسمه سبق قراخاقان أنه رأى في منامه كأن رجلاً نزل من السماء فقال بالتركية ما معناه: أسلم تسلم في الدنيا والآخرة، فأسلم في منامه، وأصبح فأظهر إسلامه، فلما مات قام مقامه ابنه موسى بن سبق، ولم يزل الملك بتلك الناحية في أولاده إلى أرسلان خان محمد ابن سليمان بن داود يغراخان بن إبراهيم الملقب بطمغاج خان بن أيلك الملقب بنصر أرسلان بن علي بن موسى بن سبق، فخرج على قدرخان فانتزع الملك منه، فقتل سنجر قدر خان، كما ذكرناه، سنة أربع وتسعين وأربعمائة، وأعاد الملك إلى أرسلان خان، وثبت قدمه، وخرج خوارج، فاستصرخ السلطان سنجر فنصره وأعاد ملكه أيضاً.
وكان من جنده نوع من الأتراك يقال لهم الفارغلية والأتراك الغزية الذين نهبوا خراسان على ما نذكره إن شاء الله، وهم نوعان: نوع يقال لهم أجق، وأميرهم طوطى بن دادبك؛ ونوع يقال لهم برق، وأميرهم قرعوت بن عبد الحميد، فحسن الشريف الأشرف بن محمد بن أبي شجاع العلوي السمرقندي لولد أرسلان خان المعروف بنصر خان طلب الملك من أبيه وأطعمه، فسمع محمد خان الخبر، فقتل الابن والشريف الأشرف.
وجرت بين أرسلان خان وبين جنده القارغلية وحشة دعتهم إلى العصيان عليه وانتزاع الملك منه، فعاود الاستغاثة بالسلطان سنجر، فعبر جيحون بعساكره سنة أربع وعشرين وخمسمائة، وكان بينهما مصاهرة، فوصل إلى سمرقند، وهرب القارغلية من بين يديه.
واتفق أن السلطان سنجر خرج إلى الصيد، فرأى خيالة، فقبض عليهم فأقروا بأن أرسلان خان وضعهم على قتله فعاد إلى سمرقند، فحصر أرسلان خان بالقلعة فملكها، وأخذه أسيراً، وسيره إلى بلخ فمات بها؛ وقيل قد غدر به سنجر، واستضعفه، فملك البلد منه فأشاع عنه ذلك.

فلما ملك سمرقند استعمل عليها بعده قلج طمغاج أبا المعلي الحسن بن علي بن علي بن عبد المؤمن المعروف بحسن تكين، وكان من أعيان بيت الخانية، إلا أ ن أرسلان خان اطرحه، فلما ولي سمرقند لم تطل أيامه، فمات عن قليل، فأقام سنجر مقامه الملك محمود بن أرسلان خان محمد بن سليمان بن داود بغراخان، و هو ابن الذي أخذ منه سنجر سمرقند، وكان محمود هذا ابن أخت سنجر، وكان قبل ذلك، سنة اثنتين وعشرين وخمسمائة، قد وصل الأعور الصيني إلى حدود كاشغر في عدد كثير لا يعلمهم إلا الله، فاستعد له صاحب كاشغر، وهو الخان أحمد بن الحسن، وجمع جنوده، فخرج إليه والتقوا، فاقتتلوا، وانهزم الأعور الصيني، وقتل كثير من أصحابه، ثم إنه مات، فقام مقامه كوخان الصيني.
وكو بلسان الصين لقب لأعظم ملوكهم، وخان لقب لملوك الترك فمعناه أعظم الملوك. وكان يلبس لبسة ملوكهم من المقنعة والخمار، وكان مانوي المذهب. ولما خرج من الصين إلى تركستان انضاف إليه الأتراك الخطا، وكانوا قد خرجوا قبله من الصين، وهم في خدمة الخانية أصحاب تركستان.
وكان أرسلان خان محمد بن سليمان يسير كل سنة عشرة آلاف خركاو وينزلهم على الدروب التي بينه وبين الصين، يمنعون أحداً من الملوك أن يتطرق إلى بلاده، وككان لهم على ذلك جرايات وإقطاعات، فاتفق أنه وجد عليهم في بعض السنين، فمنعهم عن نسائهم لئلا يتوالدوا، فعظم عليهم، ولم يعرفوا وجهاً يقصدونه وتحيروا، فاتفق أنه اجتاز بهم قفل عظيم فيه الأموال الكثيرة والأمتعة النفيسة، فأخذوه وأحضروا التجار وقالوا لهم: إن كنتم تريدون أموالكم فتعرفونا بلداً كثير المرعى فسيحاً يسعنا ومعنا أموالنا؛ فاتفق رأي التجارعلى بلد بلاساغون فوصفوه لهم، فأعادوا إليهم أموالهم، وأخذوا الموكلين بهم لمنعهم عن نسائهم وكتفوهم، وأخذوا نسائهم وساروا إلى بلاساغون، وكان أرسلان خان يغزوهم ويكثر جهادهم فخافوه خوفاً عظيماً.
فلما طال ذلك عليهم وخرج كوخان الصيني انضافوا إليه أيضاً، فعظم شأنهم وتضاعف جمعهم، وملكوا بلاد تركستان، وكانوا إذا ملكوا المدينة لا يغيرون على أهلها شيئاً، بل يأخذون من كل بيت ديناراً من أهل البلاد وغيرها من القرى، وأما المزروعات وغير ذلك فلأهله، وكل من أطاعهم من الملوك شد في وسطه شبه لوح فضة، فتلك علامة من أطاعهم.
ثم ساروا إلى بلاد ما راء النهر، فاستقبلهم الحاقان محمود بن محمد بن حدود خجندة في رمضان سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة، واقتتلوا، فانهزم الخاقان محمود بن محمد، وعاد إلى سمرقند، فعظم الخطب على أهلها، واشتد الخوف والحزن، وانتظروا البلاء صباحاً ومساء، وكذلك أهل بخارى وغيرها من بلاد ما وراء النهر، وأرسل الخاقان محمود إلى السلطان سنجر يستمده وينهي إليه ما لقي المسلمون، ويحثه على نصرتهم، فجمع العساكر، فاجتمع عنده ملوك خراسان: صاحب سجستان والغور، وملك غزنة، وملك مازندران وغيرهم، فاجتمع له أكثر من مائة ألف فارس وبقي العرض ستة أشهر.
وسار سنجر إلى لقاء الترك، فعبر إلى ما وراء النهر في ذي الحجة سنة خمساً وثلاثين وخمسمائة، فشكا إليه محمود بن محمد خان من الأتراك القارغلية، فقصدهم سنجر، فالتجأوا إلى كوخان الصيني ومن معه من الكفار، وأقام سنجر بسمرقند، فكتب إليه كوخان كتاباً يتضمن الشفاعة في الأتراك القارغلية، ويطلب منه أن يعفوا عنهم، فلم يشفعه فيهم، وكتب إليه يدعوه إلى الإسلام ويتهدده إن لم يجب غليه ويتوعده بكثرة عساكره، ووصفهم، وبالغ في قتالهم بأنواع السلاح حتى قال: وإنهم يشقون الشعر بسهامهم؛ فلم يرض هذا الكتاب وزيره طاهر بن فخر الملك بن نظام الملك، فلم يصغي إليه، وسير الكتاب، فلما قرأ الكتاب على كوخان أمر بنتف لحية الرسول، وأعطاه إبرة، وكلفه شق شعرة من لحيته فلم يقدر أن يفعل ذلك، فقال: كيف يشق غيرك شعرة بسهم وأنت عاجز عن شقها بإبرة؟ واستعد كوخان للحرب، وعنده جنود الترك والصين والخطا وغيرهم، وقصد السلطان سنجر، فالتقى العسكران، وكانا كالبحرين العظيمين،بموضع يقال له قطوان، وطاف بهم كوخان حتى ألجأهم إلى واد يقال له درغم، وكان على ميمنة سنجر الأمير قماج، وعلى ميسرته ملك سجستان، والأثقال ورائهم، فاقتتلوا خامس صفر سنة ست وثلاثين وخمسمائة.

وكانت الأتراك القارغلية الذين هربوا من سنجر من أشد الناس قتالاً، ولم يكن ذلك اليوم من عسكر السلطان سنجر أحسن قتالاً من صاحب سجستان، فأجلت الحرب عن هزيمة المسلمين، فقتل منهم ما لا يحصى من كثرتهم، واشتمل وادي درغم على عشرة آلاف من القتلى والجرحى، ومضى السلطان سنجر منهزماً، وأمر صاحب سجستان والأمير قماج وزوجة السلطان سنجر، وهي ابنة أرسلان خان، فأطلقهم الكفار، وممن قتل الحسام عمر بن عبد العزيز بن مازة البخاري الفقيه الحنفي المشهور. ولم يكن في الإسلام وقعة أعظم من هذه ولا أكثر ممن قتل فيها بخراسان.
واستقرت دولة الخطا والترك الكفار بما وراء النهر، وبقي كوخان إلى رجب من سنة سبع وثلاثين وخمسمائة فمات فيه. وكان جميلاً، حسن الصورة، لا يلبس إلا الحرير الصيني ، له هيبة عظيمة على أصحابه، ولم يسلط أميراً على أقطاع بل كان يعطيهم من عنده، ويقول: متى أخذوا الأقطاع ظلموا؛ وكان لا يقدم أميرا على أكثر من مائة فارس حتى لا يقدر على العصيان عليه؛ وكان ينهى أصحابه عن الظلم، وينهى عن السكر ويعاقب عليه، ولا ينهى عن الزنا ولا يقبحه.
وملك له بعده ابنة له فلم تطل مدتها حتى ماتت ، فملك بعدها أمها زوجة كوخان وابنة عمه، وبقي ما وراء النهر بيد الخطا إلى أن أخذه منهم علاء الدين محمد خوارزم شاه سنة اثنتي عشرة وستمائة، على ما نذكره إن شاء الله.
ذكر ما فعله خوارزم شاه بخراسانقد ذكرنا قبل قصد السلطان سنجر خوارزم، وأخذها من خوارزم شاه أتسز،وعوده إليها،وقتل ولد خوارزم شاه،وأنه هو الذي راسل الخطا وأطمعهم في بلاد الإسلام، فلما لقيهم السلطان سنجر وعاد منهزماً سار خوارزم شاه إلى خراسان، فقصد سرخس في ربيع الأول من السنة.
فلما وصل إليها لقيه الإمام أبو محمد الزيادي، وكان قد جمع بين الزهد والعلم، فأكرمه خوارزم شاه إكراماً عظيماً، ورحل من هناك إلى مرو الشاهجان، فقصده الإمام أحمد الباخرزي، وشفع في أهل مرو، وسأل ألا يتعرض لهم أحد من العسكر، فأجابه إلى ذلك، ونزل بظاهر البلد، واستدعى أبا الفضل الكرماني الفقيه وأعيان أهلها، فثار عامة مرو وقتلوا بعض أهل خوارزم شاه، وأخرجوا أصحابه من البلد، وأغلقوا أبوابه، واستعدوا للامتناع، فقاتلهم خوارزم شاه، ودخل مدينة مرو سابع عشر ربيع الأول من السنة، وقتل كثيراً من أهلها.
وممن قتل: إبراهيم المروزي الفقيه الشافعي وعلي بن محمد بن أرسلان، وكان ذا فنون كثيرة من العلم،وقتل الشريف علي بن إسحق الموسوي، وكان رأس فتنة وملقح شر، وقتل كثيراً من أعيان أهلها وعاد إلى خوارزم، واستصحب معه علماء كثيرين من أهلها منهم: أبو الفضل الكرماني وأبو منصور العبادي والقاضي الحسين بن محمد الأرسابندي وأبو محمد الخرقي الفيلسوف وغيرهم .
ثم سار في شوال من السنة إلى نيسابور، فخرج إليه جماعة من فقهائها وعلمائها وزهادها، وسألوه ألا يفعل بأهل نيسابور ما فعل بأهل مرو، فأجابهم إلى ذلك لكنه استقصى في البحث عن أموال أصحاب السلطان فأخذها، وقطع خطبة السلطان سنجر، أول ذي القعدة، وخطبوا له؛ فلما ترك الخطيب ذكر السلطان سنجر وذكر خوارزم شاه صاح الناس وثاروا، وكادت الفتنة تثور والشر يعود جديداً، وإنما منع الناس من ذلك ذوو الرأي والعقل نظراً في العاقبة، فقطعت إلى أول المحرم سنة سبع وثلاثين ثم أعيدت خطبة السلطان سنجر.
ثم سير خوارزم شاه جيشاً إلى أعمال بيهق، فأقاموا بها يقاتلون أهلها خمسة أيام، ثم سار عنها ذلك الجيش ينهبون البلاد، وعملوا بخراسان أعمالاً عظيمة، ومنع السلطان سنجر من مقاتلة أتسز خوارزم شاه خوفاً من قوة الخطا بما وراء النهر، ومجاورتهم خوارزم وغيرها من بلاد خراسان.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة ملك أتابك زنكي بن آقسنقر مدينة الحديثة، ونقل من كان بها من آل مهراش إلى الموصل، ورتب أصحابه فيها.
وفيها خطب لزنكي أيضاً بمدينة آمد، وصار صاحبها في طاعته، وكان قبل ذلك موافقاً لداود على قتال زنكي، فلما رأى قوة زنكي صار معه.

وفيها عزل مجاهد الدين بهروز عن شحنكية بغداد، ووليها قزل وهو من مماليك السلطان محمود، وان له برجرد والبصرة، فأضيف إليه شحنكية بغداد، ثم وصل السلطان مسعود إلى بغداد، فرأى من تبسط العيارين وفسادهم ما ساءه، فأعاد بهروز إلى الشحنكية، فتاب كثير نهم، ولم ينتفع الناس بذلك، لأن ولد الوزير وأخا امرأة السلطان كانا يقاسمان العيارين، فلم يقدر بهروز على منعهم.
وفيها تولى عبد الرحمن طغايرك حجبة السلطان، واستولى على المملكة وعزل الأمير تتر الطغرلي عنها، وآل أمره إلى أن يمشي في ركاب عبد الرحمن.
وفيها توفي إبراهيم السهاوي مقدم الإسماعيلية، فأحرقه ولد عباس صاحب الري في تابوته.
وفيها حج كمال الدين بن طلحة صاحب المخزن، وعاد وقد لبس ثياب الصوفية، وتخلى عن جميع ما كان فيه، وأقام في داره مرعي الجانب محروس القاعدة.
وفيها وصل السلطان إلى بغداد وكان الوزير الزينبي بدار السلطان، كما ذكرناه، فسأل السلطان أن يشفع فيه ليرده الخليفة إلى داره، فأرسل السلطان وزيره إلى دار الخلافة ومعه الوزير شرف الدين الزينبي، وشفع في أن يعود إلى داره، فأذن له في ذلك، وأعيد أخوه إلى نقابة النقباء، فلزم الوزير داره، ولم يخرج منها إلا إلى الجامع.
وفيها أغار عسكر أتابك زنكي من حلب على بلاد الفرنج، فنهبوا وأحرقوا وظفروا بسرية الفرنج، فقتلوا فيهم وأكثروا، فكان عدة القتلى سبع مائة رجل.
وفيها أفسد بنو خفاجة بالعراق، فسير السلطان مسعود سرية إليهم من العسكر، فنهبوا حلتهم، وقتلوا من ظفروا به منهم وعدوا سالمين.
وفيها سير رجال الفرنجي صاحب صقية أسطولاً إلى أطراف إفريقية، فأخوا مراكب سيرت من مصر إلى الحسن صاحب إفريقية، وغدر بالحسن، ثم راسله الحسن، وجدد الهدنة لأجل حمل الغلات من صقيلية إلى إفريقية لأن الغلاء كان فيها شديداً والموت كثيراً.
وفيها توفي أبو القاسم عبد الوهاب بن عبد الواحد الحنبلي الدمشقي، وكان عالماً صالحاً.
وفيها توفي ضياء الدين أبو سعيد بن الكفرتوثي وزير أتابك زنكي، وكان حسن السيرة في وزارته كريما رئيساً.
وفيها توفي أبو محمد بن طاووس إمام الجامع بدمشق في المحرم، وكان رجلاً صالحاً فاضلاً.
وفيها توفي أبو القاسم إسماعيل بن أحمد بن عمر بن أبي الأشعث المعروف بابن السمرقندي، ولد بدمشق سنة أربع وخمسين وأربعمائة، وكان مكثراً من الحديث.
ثم دخلت سنة سبع وثلاثين وخمسمائة
ذكر ملك أتابك زنكي قلعة أشب
وغيرها من الهكارية
في هذه السنة أرسل أتابك زنكي جيشاً إلى قلعة أشب، وكانت أعظم حصون الأكراد الهكارية وأمنعها، وبها أموالهم وأهلهم، فحصروها وضيقوا على من بها فملكوها، فأمر بإخرابها وبناء القلعة المعروفة بالعمادية عوضاً عنها.
وكانت العمادية حصناً عظيماً من حصونهم، فخربوه لكبره لأنه كبير جداً، وكانوا يعجزون عن حفظه، فخربت آلان أشب وعمرت العمادية، وإنما سميت العمادية نسبة إلى لقبه؛ وكان نصير الدين جقر نائبه بالموصل قد فتح أكثر القلاع الجبلية.
ذكر حصر الفرنج طرابلس الغربوفي هذه السنة سارت مراكب الفرنج من صقلية إلى طرابلس الغرب فحصروها، وسبب ذلك أن أهلها في أيام الأمير الحسن صاحب إفريقية، لم يدخلوا يداً في طاعته، ولم يزالوا مخالفين مشاقين له، قد قدموا عليهم من بني مطروح مشايخ يدبرن أمرهم، فلما رآهم ملك صقيلية كذلك جهز إليهم جيشاً في البحر، فوصلوا إليهم تاسع ذي الحجة، فنازلوا البلد وقاتلوه، وعلقوا الكلاليب في سوره ونقبوه.
فلما كان الغد وصل جماعة من العرب نجدة لأهل البلد، فقوي أهل طرابلس فيهم، فخرجوا إلى الأسطولية، فحملوا عليهم حملة منكرة، فانهزموا هزيمة فاحشة، وقتل منهم خلق كثير، ولحق الباقون بالأسطول، وتركوا الأسلحة والأثقال والدواب، فنهبها العرب وأهل البلد. ورجع الفرنج إلى صقيلية، فجددوا أسلحتهم وعادوا إلى المغرب، فوصلوا إلى جيجل، فلما رآهم أهل البلد هربوا إلى البراري والجبال، فدخلها الفرنج وسبوا من أدركوا فيها وهدموها، وأحرقوا القصر الذي بناه يحيى بن عبد العزيز بن حماد للنزهة ثم عادوا.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة خرج الأمير حسن أمير الأمراء على السلطان سنجر بخراسان.

وفيها توفي محمد بن دانشمند صاحب ملطية والثغر، واستولى على بلاده الملك مسعود بن قلج آرسلان صاحب قونية وهو من السلجوقية.
وفيها خرج من الروم عسكر كثير إلى الشام، فحصروا الفرنج بأنطاكية، فخرج صاحبها واجتمع بملك الروم وأصلح حاله معه، وعاد إلى مدينة انطاكية ومات في رمضان من هذه السنة؛ ثم إن ملك الروم بعد أن صالح صاحب أنطاكية سار إلى طرابلس فحصرها ثم سار عنها.
وفيها قبض السلطان مسعود على الأمير ترشك وهو من خواص الخليفة، ثم أطلقه السلطان حفظاً لقلب الخليفة.
وفيها كان بمصر وباء عظيم فهلك فيه أكثر أهل البلاد.
ثم دخلت سنة ثمان وثلاثين وخمسمائة
ذكر صلح الشهيد والسلطان مسعود
في هذه السنة وصل السلطان مسعود إلى بغداد على عادته في كل ستة، وجمع العساكر، وتجهز لقصد أتابك زنكي، وكان حقد عليه حقداً شديداً.وسبب ذلك أن أصحاب الأطراف الخارجين على السلطان مسعود كانوا يخرجون عليه على ما تقدم ذكره، فكان ينسب ذلك إلى أتابك زنكي ويقول إنه هو الذي سعى فيه وأشار به لعلمه أنهم كلهم كانوا يصدرون عن رايه؛ فكان أتابك زنكي لا شك يفعل ذلك لئلا يخلو السلطان فيتمكن منه ومن غيره؛ فلما تفرغ السلطان، هذه السنة، جمع العساكر ليسير إلى بلاده، فسير أتابك يستعطفه ويستميله، فأرسل إليه السلطان أبا عبد الله بن الأنباري في تقرير القواعد، فاستقرت القاعدة على مائة ألف دينار يحملها إلى السلطان ليعود عنه، فحمل عشرين ألف دينار أكثرها عروض؛ ثم تنقلت الأحوال بالسلطان إلى أن احتاج إلى مداراة أتابك وأطلق له الباقي استمالة له وحفظاً لقلبه، وكان أعظم الأسباب في قعود السلطان عنه ما يعلمه من حصانة بلاده وكثة عساكره وكثرة أمواله.
ومن جيد الرأي ما فعله الشهيد في هذه الحادثة، فإنه كان ولده الأكبر سيف الدين غازي لا يزال عند السلطان سفراً وحضراً بأمر والده، فأرسل إليه الآن يأمره بالهرب من عند السلطان إلى الموصل، فأرسل إلى نائبه بها نصير الدين جقر يقول له ليمنعه عن الدخول والوصول إليه، فهرب غازي. وبلغ الخبر والده، فأرسل إليه يأمره بالعود لى السلطان، ولم يجتمع به، وأرسل معه رسولاً إلى السلطان يقول له: إن ولدي هرب خوفاً من السلطان لما رأى تغيره علي، وقد أعدته إلى الخدمة، ولم أجتمع به، فإنه مملوكك، والبلاد لك، فحل ذلك من السلطان محلاً عظيماً.
ذكر ملك أتابك بعض ديار بكروفي هذه السنة سار أتابك زنكي لى ديار بكر ففتح منها عدة حصون، فمن ذلك: مدينة طنزة، ومدينة اسعرد، ومدينة حيزان، وحصن الروق، وحصن قطليس، وحصن ناتاسا، وحصن ذي القرنين، وغير ذلك مما لم يبلغ شهرة هذه الأماكن، وأخذ أيضاً من بلد ماردين مما هو بيد الفرنج حملين، والموزر، وتل موزن وغيرها من حصون جوسلين،ورتب أمور الجميع وجعل فيها من الأجناد من يحفظها، وقصد مدينة آمد وحاني فحصرهما، وأقام بتلك الناحية مصلحاً لما فتحه، ومحاصراً لما لم يفتحه.
ذكر أمر العيارين ببغدادوفي هذه السنة زاد أمر العيارين وكثروا لأمنهم من الطلب بسبب ابن الوزير وابن قاروت أخي زوجة السلطان، لأنهما كان لهما نصيب في الذي يأخذه العيارون .
وكان النائب في شحنكية بغداد يومئذ مملوك اسمه إيلدكز، وكان صارماً ، مقداماً، ظالماً، فحمله الإقدام إلى أن حضرعند السلطان، فقال له السلطان: إن السياسة قاصرة، والناس قد هلكوا، فقال: يا سلطان العالم إذا كان عقيد العيارين ولد وزيرك وأخا امرأتك فأي قدرة لي على المفسدين؟ وشرح له الحال، فقال له: الساعة تخرج وتكبس عليهما أين كانا، وتصلبهما، فإن فعلت وإلا صلبتك؛ فأخذ خاتمه وخرج فكبس على ابن الوزير فلم يجده، فأخذ من كان عنده، وكبس على ابن قاروت فأخذه وصلبه، فأصبح الناس وهرب ابن الوزير وشاع في الناس الأمر ورثي ابن قاروت مصلوباً، فهرب أكثر العيارين، وقبض على من أقام وكفى الناس شرهم،
ذكر حصر سنجر خوارزم
وصلحه مع خوارزم شاه
قد ذكرنا سنة اثنتين وثلاثين مسير سنجر إلى خوارزم، وملكه لها، وعود أتسز خوارزم شاه إليها وأخذها، وما كان منه بخراسان بعد ذلك؛ فلما كان في هذه السنة سار السلطان سنجر إلى خوارزم، فجمع خوارزم شاه عساكره، وتحصن بالمدينة، ولم يخرج منها لقتال، لعلمه أنه لا يقوى لسنجر.

وكان القتال يجري بين الفريقين من وراء السور، فاتفق في يوم من بعض الأيام ان هجم أمير من أمراء سنجر اسمه سنقر على البلد من الجانب الشرقي ودخله، ودخل أمير آخر اسمه مثقال التاجي من الجانب الغربي، فلم يبق غير ملكه قهراً وعنوة، انصرف مثقال عن البلد حسداً لسنقر، فقوي عليه خوارزم شاه أتسز، فأخرجه من البلد، وبقي سنقر وحده، واشتد في حفظه، فلما رأى السلطان قوة البلد وامتناعه عزم على العود إلى مرو، ولم يمكنه من غير قاعدة تستقر بينهما، فاتفق أن خوارزم شاه أرسل رسلاً يبذل المال والطاعة والخدمة ويعود إلى ما كان عليه من الانقياد، فأجابه إلى ذلك واصطلحا، وعاد سنجر إلى مرو وأقام خوارزم شاه بخوارزم.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة سير أتابك زنكي عسكراً إلى مدينة عانة من أعمال الفرات فملكوها.
وفيها، في المحرم توفي أبو البركات عبد الوهاب بن المبارك بن أحمد الأنباطي، الحافظ ببغداد، ومولده سنة اثنتين وستين وأربعمائة.
وفيها توفي أبو الفتوح محمد بن الفضل بن محمد الأسفراييني الوعظ، من أهل اسفرايين من خراسان، وأقام مدة ببغداد يعظ، وسار إلى خراسان، فمات ببسطام، وكان إماماً فاضلاً صالحاً وكان بينه وبين علي الغزنوي تحاسد، فلما مات حضر الغزنوي عزاءه ببغداد وبكى وأكثر، فقال بعض أصحاب أبي الفتوح للغزنوي كلا ماً أغلظ له فيه، فلما قام الغزنوي لامه بعض تلامذته على حضور العزاء وكثرة البكاء وقال له: كنت مهاجراً لهذا الرجل، فلما مات حضرت عزاءه وأكثرت البكاء وأظهرت الحزن؟ قال: كنت أبكي على نفسي، كان يقال فلان وفلان، فمن يعدم النظير أيقن بالرحيل؛ وأنشد هذه الأبيات:
ذهب المبرد وانقضت أيامه ... وسينقضي بعد المبرد ثعلب
بيت من الآداب أصبح نصفه ... خرباً وباق نصفه فسيخرب
فتزودوا من ثعلب فبمثل ما ... شرب المبرد عن قليل يشرب
أوصيكم أن تكتبوا أنفاسه ... إن كانت الأنفاس مما يكتب
وفيها توفي الوزير شرف الدين علي بن طراد الزينبي، في رمضان، معزولاً ودفن بداره بباب الآزج، ثم نقل إلى الحربية.
وفيها توفي أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري النحوي المفسر، وزمخشر إحدى قرى خوارزم.
ثم دخلت سنة تسع وثلاثين وخمسمائة
ذكر فتح الرها وغيرها من بلاد الجزيرة
مما كان بيد الفرنج
في هذه السنة، سادس جمادى الأخرة، فتح أتابك عماد الدين زنكي بن آقسنقر مدينة الرها من الفرنج، وفتح غيرها من حصونهم بالجزيرة أيضاً، وكان ضررهم قد عم بلاد الجزيرة وشرهم قد استطار فيها، ووصلت غاراتهم إلى أدانيها وأقاصيها، وبلغت آمد ونصيبين ورأس عين والرقة.
وكانت مملكتهم بهذه الديار من قريب ماردين إلى الفرات مثل الرها، وسروج، والبيرة، وسن ابن عطير ، وحملين، والموزر والقرادي وغير ذلك. وكانت هذه الأعمال مع غيرها مما هو غرب الفرات لجوسلين، وكان صاحب رأي الفرنج والمقدم على عساكرهم، لما هو عليه من الشجاعة والمكر.
وكان أتابك يعلم أنه متى قصد حصرها اجتمع فيها من الفرنج من يمنعها، فيتعذر عليه ملكها لا هي عليه من الحصانة، فاشتغل بديار بكر ليوهم الفرنج أنه غير متفرغ لقصد بلادهم. فلما رأوا أنه غير قادر على ترك الملوك الأرتقية وغيرهم من ملوك ديار بكر، حيث أنه محارب لهم، اطمأنوا، وفارق جوسلين الرها وعبر الفرات إلى بلاد الغربية، فجاءت عيون أتابك إليه فأخبرته فنادى العسكر بالرحيل وأن لا يتخلف عن الرها أحد من غد يومه،وجمع الأمراء عنده، وقال: قدموا الطعام؛ وقال: لا يأكل معي على مائدتي هذه إلا من يطعن غداً معي على باب الرها؛ فلم يتقدم إليه غير أمير واحد وصبي لا يعرف، لما يعلمون من إقدامه وشجاعته، وأن أحداً لا يقدر على مجاراته في الحرب، فقال الأمير لذلك الصبي: ما أنت في هذا المقام؟ فقال أتابك: دعه فوالله إني أرى وجهاً لا يتخلف عني.

وسار والعساكر معه، ووصل إلى الرها، وكان هو أول من حمل على الفرنج ومعه ذلك الصبي، وحمل فارس من خيالة الفرنج على أتابك عرضاً، فاعترضه ذلك الأمير فطعنه فقتله، وسلم الشهيد، ونازل البلد، وقاتله ثمانية وعشرين يوماً، فزحف إليه عدة دفعات، وقدم النقابين فنقبوا سور البلد، ولج في قتاله خوفاً من اجتماع الفرنج والمسير أليه واستنقاذ البلد منه، فسقطت البدنة التي نقبها النقابون وأخذ البلد عنوة وقهراً، وحصر قلعته فملكها أيضاً، ونهب الناس الأموال وسبوا الذرية وقتلوا الرجال.
فلما رأى أتابك البلد أعجبه، ورأى أن تخريب مثله لا يجوز في السياسة، فأمر فنودي في العساكر برد من أخذوه من الرجال والنساء والأطفال إلى بيوتهم، وإعادة ما غنموه من أثاثهم وأمتعتهم، فردوا الجميع عن آخره لم يفقد منهم أحد إلا الشاذ النادر الذي أخذ وفارق من أخذه العسكر،فعاد البلد إلى حاله الأول، وجعل فيه عسكراً يحفظه، وتسلم مدينة سروج وسائر الأماكن التي كانت بيد الفرنج شرقي الفرات ما عدا البيرة فإنها حصينة منيعة وعلى شاطئ الفرات، فسار إليها وحاصرها، وكانوا قد اكثروا ميرتها ورجالها، فبقي على حصارها إلى أن رحل عنها، على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
حكي أن بعض العلماء بالأنساب والتواريخ قال: كان صاحب جزيرة صقلية قد أرسل سرية في البحر إلى طرابلس الغرب وتلك الأعمال، فنهبوا وقتلوا، وكان بصقلية إنسان من العلماء المسلمين، وهو من أهل الصلاح، وكان صاحب صقلية يكرمه ويحترمه، ويرجع إلى قوله، ويقدمه على من عنده من القسوس والرهبان؛ وكان أهل ولايته يقولون إنه مسلم بهذا السبب.
ففي بعض الأيام كان جالساً في منظرة له تشرف على البحر وإذ قد أقبل مركب لطيف، وأخبره من فيه أن عسكر دخلوا بلاد الإسلام، وغنموا وقتلوا وظفروا؛ وكان المسلم إلى جانبه وقد أغفى، فقال له الملك: يأفلان! أما تسمع ما يقولون؟ قال: لا: إنهم يخبرون بكذا وكذا. أين كان محمد عن تلك البلاد وأهلها؟ فقال له: كان قد غلب عنهم، وشهد فتح أرها، وقد فتحها المسلمون الآن؛ فضحك منه من هناك من إفرنج، فقال الملك: لا تضحكوا، فالله ما يقول إلا الحق؛ فبعد أيام وصلت الأخبار من فزنج الشام بفتحها.
وحكى لي جماعة من أهل الدين والصلاح أن إنساناً صالحاً رأى الشهيد في منامه فقال له: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي بفتح ألرها.
ذكر قتل نصير الدين جقر وولاية زين الدين علي كوجك قلعة الموصلفي هذه السنة، في ذي القعدة، قتل نظير الدين جقر نائب أتابك زنكي بالموصل والأعمال جميعها التي شرق الفرات.
وسبب قتله أن الملك ألب أرسلان المعروف بالخفاجي، ولد السلطان محمود، كان عند أتابك الشهيد، وكان يظهر للخلفاء والسلطان مسعود .أصحاب الأطراف أن هذه البلاد لهذا الملك، وأنا نائبه فيها، وكان ينتظر وفاة السلطان مسعود ليخطب له بالسلطنة، ويملك البلاد باسمه، وكان هذا الملك بالموصل، هذه السنة، ونصير الدين يقصده كل يوم ليقوم بخدمة إن عرضت له، فحسن له بعض المفسدين طلب الملك، وقال له: إن قتلت نصير الدين ملكت الموصل وغيرها من البلاد، ولا يبقى مع أتابك زنكي فارس واحد. فوقع هذا منه موقعاً حسناً وظنه صدقاً، فلما دخل نصير الدين إليه وثب عليه من عنده من أجناد أتابك ومماليكه فقتلوه، وألقوا برأسه إلى أصحابه ظناً منهم أن أصحابه يتفرقون ويخرج الملك ويملك البلد.
وكان الأمر خلاف ما ظنوه، فإن أصحابه وأصحاب أتابك الذين في خدمته لما رأوا رأسه قاتلوا من بالدار مع الملك، واجتمع معهم الخلق الكثير، وكانت دولة أتابك مملوءة بالرجال والأجلاد ذوي الرأي والتجربة، ثم دخل إليه القاضي تاج الدين يحيى الشهرزوري ولم يزل به يخدعه، وكان فيما قال له حين رآه منزعجاً: يامولانا لم تحرد من هذا الكلب؟ هذا واستاذه مماليك، والحمد لله الذي أراحنا منه ومن صاحبه على يدك، وما الذي يقعدك في هذه الدار؟ قم لتصعد القلعة وتأخذ الأموال والسلاح وتملك البلد وتجمع الجند، وليس دون البلاد بعد الموصل مانع.
فقام معه وركب القلعة، فلما قاربها أراد من بها من النقيب والأجناد القتال، فتقدم إليهم تاج الدين وقال لهم: افتحوا الباب وتسلموه، وافعلوا به ما أردتم؟ ففتحوا الباب ودخل الملك والقاضي إليها ومعهما من أعان على قتل نصير الدين، فسجنوا ونزل القاضي.

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://arabelalekat.yoo7.com
الشيخ عودة
الشيخ عودة
الشيخ عودة



عدد المساهمات : 1748
تاريخ التسجيل : 28/09/2008
العمر : 74

كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير - صفحة 7 Empty
مُساهمةموضوع: رد: كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير   كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير - صفحة 7 Emptyالخميس فبراير 27, 2014 6:20 am

وبلغ الخبر أتابك زنكي وهو يحاصر قلعة البيرة، وقد أشرف على ملكها، فخاف أن تختلف البلاد الشرقية بعد قتل نصير الدين، ففارق البيرة وأرسل زين الدين علي بن بكتكين إلى قلعة الموصل والياً على ما كان نصير الدين يتولاه.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة قبض السلطان مسعود على وزيره البروجردي، ووزر بعده المرزبان ابن عبيد الله بن نصر الأصفهاني، وسلم إليه البروجردي، فاستخرج أمواله، ومات مقبوضاً.
وفيها كان أتابك عماد الدين زنكي يحاصر البيرة، وهي للفرنج شرق الفرات بعد ملك الرها، وهي من أمنع الحصون، وضيق عليها وقارب أن يفتحها، فجاءه خبر قتل نصير الدين نائبه بالموصل، فرحل عنها، وأرسل نائباً إلى الموصل، وأقام ينتظر الخبر، فخاف من بالبيرة من الفرنج أن يعود إليهم، وكانوا يخافونه خوفاً شديداً، فأرسلوا إلى نجم الدين صاحب ماردين وسلموها له، فملكها المسلمون.
وفيها خرج أسطول الفرنج من صقلية إلى ساحل إفريقية والغرب، ففتحوا مدينة برشك وقتلوا أهلها، وسبوا حريمهم وباعوه بصقلية على المسلمين.
وفيها توفي تاشفين بن علي بن يوسف صاحب الغرب، وكانت ولايته تزيد على أربع سنين، وولي بعده أخوه، وضعف أمر الملثمين، وقوي عبد المؤمن، وقد ذكرنا ذلك سنة أربع عشرة وخمسمائة.
وفيها، في شوال ظهر كوكب عظيم له ذنب من جانب المشرق، وبقي إلى نصف ذي القعدة، ثم غاب، ثم طلع من جانب الغرب، فقيل هو هو وقيل بل غيره.
وفيها كانت فتنة عظيمة بين الأمير هاشم بن فليتة بن القاسم العلوي الحسيني، أمير مكة، والأمير نظر الخادم أمير الحاج، فنهب أصحاب هاشم الحجاج وهم في المسجد يطوفون ويصلون، ولم يرقبوا فيهم إلاً ولا ذمة.
وفيها في ذي الحجة، توفي عبد الله بن أحمد بن محمد بن عبد الله بن حمدويه أبو المعالي المروزي بمرو، وسافر الكثير، وسمع الحديث الكثير، وبنى بمرو رباطاً، ووقف فيه كتباً كثيرة، وكان كثير الصدقة والعبادة.
وتوفي محمد بن عبد الملك بن حسن بن إبراهيم بن خيرون أبو منصور المقري، ومولده في رجب سنة أربع وخمسين وأربعمائة، وهو آخر من روى عن الجوهري بالإجازة، وتوفي في رجب.
وفي ذي الحجة منها توفي أبو منصور سعيد بن محمد بن عمر المعروف بابن الرزاز مدرس النظامية ببغداد، ومولده سنة اثنتين وأربعمائة، وتفقه على الغزالي والشامي ودفن في تربة الشيخ أبي إسحق.
ثم دخلت سنة أربعين وخمسمائة
ذكر اتفاق بوزابة وعباس على منازعة السلطان
في هذه السنة سار بوزابة، صاحب فارس وخوزستان، وعساكره إلى قاشان، ومعه الملك محمد ابن السلطان محمود، ووصل إليهما الملك سليمان شاه ابن السلطان محمد، واجتمع بوزابة والأمير عباس صاحب الري، واتفقا على الخروج عن طاعة السلطان مسعود وملكا كثيراً من بلاده.
ووصل الخبر إليه وهو ببغداد ومعه الأمير عبد الرحمن طغايرك، وهو أمير حاجب، حاكم في الدولة، وكان ميله إليهما، فسار السلطان في رمضان عن بغداد، ونزل بها الأمير مهلهل، ونظر،وجماعة من غلمان بهروز؛ وسار السلطان وعبد الرحمن معه، فتقارب العسكران، ولم يبق إلا المصاف، فلحق سليمان شاه بأخيه مسعود ، وشرع عبد الرحمن في تقرير الصلح على القاعدة التي أرادوها، وأضيف إلى عبد الرحمن ولاية أذربيجان وأرانية إلى ما بيده، وصار أبو الفتح بن دارست وزير السلطان مسعود، وهو وزير بوزابة، فصار السلطان معهم تحت الحجر، وأبعدوا بك أرسلان بن بلنكري المعروف بخاص بك، وهو ملازم السلطان وتربيته، وصار في خدمة عبد الرحمن ليحقن دمه، وصار الجماعة في خدمة السلطان صورة لا معنى تحتها والله أعلم .
ذكر استيلاء علي بن دبيس على الحلةفي هذه السنة سار علي بن دبيس هارباً، فملكها؛ وكان سبب ذلك أن السلطان لما أراد الرحيل من بغداد أشار عليه المهلهل أن يحبس علي ابن دبيس بقلعة تكريت، فعلم ذلك، فهرب في جماعة يسيرة نحو خمسة عشر، فمضى إلى الأزيز، وجمع بني أسد وغيرهم،وسار إلى الحلة وبها أخوه محمد بن دبيس، فقاتله، فانهزم محمد، وملك علي الحلة.
واستهان السلطان أمره أولاً، فاستفحل وضم إليه جمعاً من غلمانه وغلمان أبيه وأهل بيته وعساكرهم، وكثر جمعهم، فسار إليه مهلهل فيمن معه في بغداد من العسكر، وضربوا معه مصافاً، فكسرهم وعادوا منهزمين إلى بغداد.

وكان أهلها يتعصبون لعلي بن دبيس، وكانوا يصيحون، إذا ركب مهلهل وبعض أصحابه: يا علي! كله. وكثر ذلك منهم بحيث امتنع مهلهل من الركوب.
ومد علي يده في أقطاع الأمراء بالحلة، وتصرف فيها، وصار شحنة بغداد ومن فيها على وجل منه، وجمع الخليفة جماعة وجعلهم على السور لحفظه، وراسل علياً، فأعاد الجواب بأنني العبد المطيع مهما رسم لي فعلت؛ فسكن الناس، ووصلت الأخبار بعد ذلك أن السلطان مسعوداً تفرق خصومه عنه، فازداد سكون الناس
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة حج بالناس قايماز الأرجواني صاحب أمير الحاج نظر، واحتج نظر بأن بركة نهب في كسرة الحلة، وأن بينه وبين أمير مكة من الحروب ما لا يمكنه معه الحج.
وفيها اتصل بالخليفة عن أخيه أبي طالب ما كرهه، فضيق عليه، واحتاط على غيرهمن أقربه.
وفيها ملك الفرنج، لعنهم الله، مدينة شنترين، وباجة، وماردة، وأشبونة، وسائر المعاقل المجاورة لها من بلاد الأندلس، وكانت للمسلمين، فاختلفوا، فطمع العدو، وأخذ هذه المدن وقوي بها قوة تمكن معها وتيقن ملك سائر البلاد الإسلامية بالأندلس، فخيب الله ظنه وكان ما نذكره.
وفيها سار أسطول الفرنج من صقلية، ففتحوا جزيرة قرنة من إفريقية، فقتلوا رجالها، وسبوا حريمهم، فأرسل الحسن صاحب إفريقية إلى رجار ملك صقلية يذكره العهود التي بينهم، فاعتذر بأنهم غير مطيعين له.
وفي هذه السنة توفي مجاهد الدين بهروز الغياثي، وكان حاكماً قي العراق نيفاً وثلاثين سنة؛ ويرنقش الزكوي، صاحب أصفهان، وكان أيضاً شحنة بالعراق، وهو خادم أرمني لبعض التجار.
وتوفي الأمير إيلدكز شحنة بغداد، والشيخ أبو منصور موهوب بن أحمد بن محمد بن الخضر الجواليقي اللغوي، ومولده في ذي الحجة سنة خمس وستين وأربعمائة، وأخذ اللغة عن أبي زكرياء التبريزي، وكان يؤم بالمقتفي أمير المؤمنين.
وتوفي أحمد بن محمد بن الحسن بن علي بن أحمد بن سليمان أبو سعيد ابن أبي الفضل الأصفهاني، ومولده سنة ثلاث وستين وأربعمائة، وروى الحديث الكثير، وكان على سيرة السلف، كثير الاتباع للسنة، رحمة الله عليه.
ثم دخلت سنة إحدى وأربعين وخمسمائة
ذكر ملك الفرنج طرابلس الغرب
في هذه السنة ملك الفرنج، لعنهم الله، طرابلس الغرب، وسبب ذلك أن رجار ملك صقيلية جهز أسطولاً كثيراً وسيره إلى طرابلس الغرب، فأحاطوا بها براً وبحراً، ثالث المحرم، فخرج إليهم أهلها وأنشبوا القتال، فدامت الحرب بينهم ثلاثة أيام.
فلما كان اليوم الثالث سمع الفرنج بالمدينة ضجة عظيمة، وخلت الأسوار من المقاتلة، وسبب ذلك أن أهل طرابلس كانوا قبل وصول الفرنج بأيام يسيرة قد اختلفوا، فأخرج طائفة منهم بني مطروح، وقدموا عليهم رجلاً ملثماً قدم يريد الحج ومعه جماعة، فولوه أمرهم، فلما نازلهم الفرنج أعادت الطائفة الأخرى بني مطروح، فوقعت الحرب بين الطائفتين، وخلت الأسوار فانتهز الفرنج الفرصة ونصبوا السلالم، وصعدوا على السور، واشتد القتال فملكت الفرنج المدينة عنوة بالسيف، فسفكوا دماء أهلها وسبوا نساءهم، وهرب من قدر على الهرب، والتجأ إلى البربر والعرب، فنودي بالأمان في الناس كافة، فرجع كل من فر منها.
وأقام الفرنج ستة أشهر حتى حصنوا أسوارها وحفروا خندقها، ولما عادوا أخذوا رهائن أهلها، ومعهم بنو مطروح والملثم، ثم أعادوا رهائنهم، وولوا عليها رجلاً من بني مطروح، وتركوا رهائنه وحده، واستقامت أمور المدينة وألزم أهل صقيلية والروم بالسفر إليها فانعمرت سريعاً وحسن حالها.
ذكر حصر زنكي حصني جعبر وفنكوفي هذه السنة سار أتابك إلى حصن جعبر، وهو مطل على الفرات، وكان بيد سالمبن مالك العقيلي سلمه السلطان ملك شاه إلى أبيه لما أخذ منه حلب، وقد ذكرناه، فحصره وسير جيشاً إلى قلعة فنك، وهي تجاور جزيرة ابن عمر، بينها فرسخان، فحصرها أيضاً، وصاحبها حينئذ الأمير حسام الدين الكردي البشنوي.

وكان سبب ذلك أنه كان لا يريد أن يكون في وسط بلاده ما هو ملك غيره، حزماً واحتياطاً، فنازل قلعة جعبر وحصرها، وقاتله بها، فلما طال عليه ذاك أرسل إلىصاحبها، مع الأمير حسان المنبجي لمودة كانت بينهما، في معنى تسليمها، وقال له: تضمن عني الأقطاع الكثير والمال الجزيل، فإن أجاب إلى التسليم، وإلا فقلله: والله لأقيمن عليك إلى أن أملكها عنوة، ثم لا أبقي عليك، ومن الذي يمنعك مني؟ فصعد إليه حسان وأدى إليه الرسالة، ووعده، وبذل له ما قيل له، فامتنع من التسليم، فقال له حسان: فهو يقول لك من يمنعك مني؟ فقال: يمنعني منه الذي منعك من الأمير بللك. فعاد حسان وأخبر الشهيد بامتناعه، ولم يذكر لن هذا، فقتل أتابك بعد أيام.
وكانت قصة حسان مع بللك ابن أخي إيلغازي أن حسان كان صاحب منبج، فحصره بللك وضيق عليه، فبينما هو في بعض الأيام يقاتله، جاءه سهم لا يعرف من رماه فقتله، وخلص حسان من الحصر، وقد تقدم ذكره، وكان هذا القول من الاتفاق الحسن.ولما قتل أتابك زنكي رحل العسكر الذين كانوا يحاصرون قلعة فنك عنها، وهي بيد أعقاب صاحبها إلى الآن، وسمعتهم يذكرون أن لهم بها نحو ثلاثمائة سنة، ولهم مقصد، وفيهم وفاء وعصبية، يأخذون بيد كل من يلتجىء إليهم ويقصدهم، ولا يسلمونه كائن من كان.
ذكر قتل أتابك زنكي وشيء من سيرتهفي هذه السنة لخمس مضين من ربيع الأخر،قتل أتابك عماد الدين زنكي بن آقسنقر، صاحب الموصل والشام، وهو يحاصر قلعة جعبر، على ما ذكرناه، قتله جماعة من مماليكه غيلة، وهربوا إلى قلعة جعبر، فصاح من بها من أهلها إلى العسكر يعلمونهم بقتله، وأظهروا الفرح، فدخل أصحابه إليه، فأدركوه وبه رمق.
حدثني والدب عن بعض خواصه قال: دخلت إليه في الحال وهو حي، فحين رآني ظن أني أريد قتله، فأشار إلي بإصبعه السبابة يستعطفني، فوقعت مني هيبته، فقات يا مولاي من فعل بك هذا؟ فلم يقدر على الكلام، وفاضت نفسه لوقته، رحمه الله.
قال: وكان حسن الصورة ، أسمر اللون، مليح العينين، قد وخطه الشيب، وكان قد زاد عمره على ستين سنة، لأنه كان لما قتل والده صغيراً، كما ذكرناه قبل، ولما قتل دفن بالرقة.
وكان شديد الهيبة على عسكره ورعيته، عظيم السياسة، لا يقدر القوي على ظلم الضعيف؛ وكانت البلاد، قبل أن يملكها، خراباً من الظلم، وتنقل الولاة، ومجاورة الفرنج، فعمرها وامتلأت أهلاً وسكاناً.
حكى لي والدي قال: رأيت الموصل وأكثرها خراب، بحيث يقف الإنسان قريب محلة الطبالين ويرى الجامع العتيق، والعرصة ودار السلطان، ليس بين ذلك عمارة؛ وكان الإنسان لا يقدر على المشي إلى الجامع العتيق إلا ومعه من يحميه، لبعده عن العمارة، وهو الأن في وسط العمارة وليس في هذه البقاع المذكورة كلها أراض براح،وحدثني أيضاً أنه وصل إلى الجزيرة في الشتاء، فدخل الأمير عز الدين الدبيسي، هو من أكابر أمرائه، ومن جملة أقطاعه مدينة دقوقا،ونزل في دار إنسان يهودي، فاستغاث اليهودي إلى اتابك، وأنهى حاله إليه، فنظر إلى الدبيسي، فتأخر، ودخل البلد، وأخرج بركه وخيامه. قال: فلقد رأيت غلمانه ينصبون خيامه في الوحل، وقد جعلوا على الأرض تبناً يقيهم الطين، وخرج فنزلها، وكانت سياسته إلى هذا الحد.
وكانت الموصل من أقل بلاد الله فاكهة، فصارت في أيامه وما بعدها، من أكثر البلاد فواكه ورياحين وغير ذلك.
وكان أيضاً شديد الغيرة ولا سيما على نساء الأجناد، وكان يقول: إن لم نحفظ نساء الأجناد بالهيبة، وإلا فسدن لثرة غيبة أزواجهن في الأسفار.
وكان أشجع خلق الله؛ أما قبل أن يملك فيكفيه أنه حضر مع الأمير مودود صاحب الموصل مدينة طبرية، وهي للفرنج، فوصلت طعنته باب البلد وأثر فيه، وحما أيضاً على قلعة عقر الحميدية، وهي على جبل عال، فوصلت طعنته إلى سورها، إلى أشياء أخر.

وأما بعد الملك فقد كان الأعداء محدقين ببلاده، وكلهم يقصدها، ويريد أخذها، وهو لا يقنع بحفظها، حتى أنه لا ينقضي عليه عام إلا ويفتح من بلادهم. فقد كان الخليفة المسترشد بالله مجاوره في ناحية تكريت، وقصد الموصل وحصرها، ثم إلى جانبه ، من ناحية شهرزور ويلك الناحية، السلطان مسعود؛ ثم ابن سقمان صاحب خلاط؛ ثم داود بن سقمان صاحب حصن كيفا؛ ثم صاحب آمد وماردين؛ ثم الفرنج من مجاورة ماردين إلى دمشق؛ ثم أصحاب دمشق، فهذه الولايات قد أحاطت بولايته من كل جهاتها، فهو يقصد هذا مرة وهذا مرة، ويأخذ من هذا ويصنع هذا، إلى أن ملك من كل من يليه طرفاً من بلاده. وقد أتينا على أخباره في كتاب الباهر في تاريخ دولته ودولة أولاده، فيطلب من هناك.
ذكرملك ولديه سيف الدين ونور الدينلما قتل أتابك زنكي أخذ نور الدين محمود ولده خاتمه من يده، وكان حاضراً معه، وسار إلى حلب فملكها.
وكان حينئذ يتولى ديوان زنكي، ويحكم في دولته من أصحاب العمائم جمال الدين محمد بن علي وهو المنفرد بالحكم، ومعه أمير حاجب صلاح الدين محمد الياغيسياني، فاتفقا على حفظ الدولة، وكان مع الشهيد أتابك الملك ألب أرسلان ابن السلطان محمود، فركب ذلك اليوم، وأجمعت العساكر عليه، وحضر عنده جمال الدين وصلاح الدين وحسنا له الأشتغال بالشرب والمغنيات والجواري، وأدخلاه الرقة، فبقي فيها أياماً لا يظهر، ثم سار إلى ماكسين، فدخلها، وأقام بها أياماً، وجمال الدين يحلف الأمراء لسيف الدين غازي بن أتابك زنكي، ويسيرهم إلى الموصل.
ثم سار من ماكسين إلى سنجار، وكان سيف الدين قد وصل إلى الموصل، فلما وصلوا إلى سنجار أرسل جمال الدين إلى الدزدار يقول له ليرسل إلى ولد السلطان يقول له: إني مملوكك، ولكني تبع الموصل، فمتى ملكتها سلمت إليك سنجار. فسار إلى الموصل، فأخذه جمال الدين وقصد به مدينة بلد، وقد بقي معه من العسكر القليل، فأشار عليه بعبور دجلة، فعبرها إلى الشرق في نفر يسير.
وكان سيف الدين غازي بمدينة شهرزور، وهي إقطاعه،فأرسل إليه زين الدين بن علي كوجك نائب أبيه بالموصل أرسل إليه يعرفه قلة من مع الملك، فأرسل إليه بعض عسكره، فقبضوا عليه، وحبس في قلعة الموصل، واستقر ملك سيف الدين البلاد، وبقي أخوه نور الدين بحلب وهي له، وسار إليه صلاح الدين الياغسياني يدبر أمره ويقوم بحفظ دولته، وقد استقصينا شرح هذه الحادثة في التاريخ الباهر في الدولة الأتابكية،
ذكر عصيان الرها لما قتل أتابككان جوسلين الفرنجي الذي كان صاحب الرها في ولايته، وهي تل باشر وما يجاورها، فراسل أهل الرها وعامتهم من الأرمن وحملهم على العصيان، والامتناع على المسلمين، وتسليم البلد، فأجابوه إلى ذلك، وواعدهم يوماً يصل إليهم فيه، وسار في عساكره إلى الرها، وملك البلد، وامتنعت القلعة عليه بمن فيها من المسلمين، فقاتلهم، فبلغ الخبر إلى نور الدين محمود بن زنكي، وهو بحلب، فسار مجداً إليه في عسكره، فلما قاربها خرج جوسلين هارباً عائداً إلى بلده، ودخل نور الدين المدينة، ونهبها حينئذ، وسبى لأهلها.
وفي هذه الدفعة نهبت وخلت من أهلها، ولم يبق بها منهم إلا القليل، وكثير من الناس يظن أنها نهبت لما فتحها الشهيد، وليس كذلك.
وبلغ الخبر إلى سيف الدين غازي بعصيان الرها، فسير العساكر إليها، فسمعوا بملك نور الدين البلد واستباحته، وهم في الطريق، فعادوا.
ومن أعجب ما يروى أن زين الدين علياً، الذي كان نائب الشهيد وأولاده بقلعة الموصل، جاءه هدية أرسلها إليه نور الدين من هذا الفتح، وفي الجملة جارية، فلما دخل إليها، وخرج من عندها وقد اغتسل، قال لمن عنده: تعلمون ما جرى لي في يومنا هذا؟ قالوا لا! قال: لما فتحنا الرها مع الشهيد وقع في يدي من النهب جارية رائقة أعجبني حسنها ومال قلبي إليها، فلم يكن بأسرع من أن أمر الشهيد فنودي برد السبي والمال المنهوب، وكان مهيباً مخوفاً، فرددتها وقلبي متعلق بها، فلما كان الأن جاءتني هدية نور الدين وفيها عدة جوار منهن تلك الجارية فوطئتها خوفاً أن يقع رد تلك الدفعة.
ذكر استيلاء عبد المؤمن على جزيرة الأندلس

في هذه السنة سير عبد المؤمن جيشاً إلى جزيرة الأندلس، فملكوا ما فيها من بلاد الإسلام. وسبب ذلك أن عبد المؤمن لما كان يحاصر مراكش جاء إليه جماعة من أعيان الأندلس منهم أبو جعفر أحمد بن محمد بن حمدين، ومعهم مكتوب يتضمن بيعة أهل البلاد التي هم فيها لعبد المؤمن ودخولهم في زمرة أصحابه الموحدين، وإقامتهم لأمره، فقبل عبد المؤمن ذلك منهم، وشكرهم عليه، وطيب قلوبهم، وطلبوا منه النصرة على الفرنج، فجهز جيشاً كثيفاً وسيره معهم، وعمر أسطولاً وسيره في البحر، فسار الأسطول إلى الأندلس، وقصدوا مدينة إشبيلية،وصعدوا في نهرها، وبها جيش من الملثمين، فحصروها براً وبحراً وملكوها عنوة، وقتل فيها جماعة وأمن الناس فسكنوا واستولت العساكر على البلاد، وكان لعبد المؤمن من بها
ذكر قتل عبد الرحمن طغايرك
وعباس صاحب الري
في هذه السنة قتل السلطان مسعود أمير حاجب عبد الرحمن طغايرك، وهو صاحب خلخال وبعض أذربيجان والحاكم في دولة السلطان، وليس للسلطان معه حكم.
وكان سبب قتله لما ضيق عليه عبد الرحمن بقي معه شبه الأسير ليس له في البلاد حكم، حتى إن عبد الرحمن قصد غلاماً كان للسلطان، وهو بك أرسلان، المعروف بخاص بك بن بلنكري، وقد رباه السلطان وقربه فأبعده عنه، وصار لا يراه، وكان في خاص بك عقل وتدبير وجودة قريحة، وتوصل لما يريد أن يفعله، فجمع عبد الرحمن العساكر وخاص بك فيهم، وقد استقر بينه وبين السلطان مسعود أن يقتل عبد الرحمن، إلا رجلاً اسمه زنكي وكان جانداراً، فإنه بذل من نفسه أن يبدأه بالقتل،ووافق خاص بك على القيام في الأمر جماعة من الأمراء، فبينما عبد الرحمن في موكبه ضربه زنكي الجاندار بمقرعة حديد كانت في يده على رأسه، فسقط إلى الأرض، فأجهز عليه خاص بك، وأعانه على حماية زنكي والقائمين معه من كان واطأه على ذلك من الأمراء، وكان قتله بظاهر جنزة.
وبلغ الخبر إلى السلطان مسعود وهو ببغداد، ومعه الأمير عباس صاحب الري، وعسكره أكثر من عسكر السلطان، فأنكر ذلك، وامتعض منه، فداراه السلطان ولطف به، واستدعى الأمير البقش كونخر من اللحف وتتر الذي كان حاجباً فلما قوي بهما أحضر عباساً إليه في داره،فلما دخل إليه منع أصحابه من الدخول معه، وعدلوا به إلى حجرة، وقالوا له: اخلع الرزية؛ فقال: إن لي مع السلطان أيماناً وعهوداً؛ فلكموه، وخرج له غلمان أعدوا لذلك، فحينئذ تشاهد وخلع الرزية وألقاها، وضربوه بالسيوف، واحتزوا رأسه وألقوه إلى أصحابه، ثم ألقوا جسده، ونهب رحله وخيمه وانزعج البلد لذلك.
وكان عباس من غلمان السلطان محمود، حسن السيرة، عادلاً في رعيته، كثير الجهاد للباطنية، قتل منهم خلقاً كثيراً، وبنى من رؤوسهم منارة بالري، وحصر قلعة ألموت، ودخل إلى قرية من قراهم فألقى فيها النار فأحرق كل من فيها من رجل وامرأة وصبي وغير ذلك؛ فلما قتل دفن بالجانب الغربي، ثم أرسلت ابته فحملته إلى الري فدفنته هناك، وكان مقتله في ذي القعدة.
ومن الاتفاق العجيب أن العبادي كان يعظ يوماً، فحضره عباس، فأسمع بعض من في المجلس ورمى بنفسه نحو الأمير عباس ، فضربه أصحابه ومنعوه خوفاً عليه لأنه كان شديد احتراس من الباطنية لا يزال لابساً الزردية لا تفارقه الغلمان الأجلاد، فقال له العبادي: يا أمير إلام هذا الاحتراز؟ والله لئن قضي عليك بأمر لتحلن أنت بيدك أزرار الزردية فينفذ القضاء فيك.
وكان كما قال، وقد كان السلطان استوزر ابن دارست، وزير بوزابة، كارهاً على ما تقدم ذكره، فعزله الآن لأنه اختار العزل والعود إلى صاحبه بوزابة فلما عزله قرر معه أن يصلح له بوزابة، ويزيل ما عنده من الاستشعار بسبب قتل عبد الرحمن وعباس، فسار الوزير وهو لا يعتقد النجاة، فوصل إلى بوزابة وكان ما نذكره.
؟
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة حبس السلطان مسعود أخاه سليمان شاه بقلعة تكريت.
وفيها توفي الأمير جاولي الطغرلي صاحب آرانية وبعض أذربيجان، وكان قد تحرك للعصيان، وكان موته فجأة، مد قوساً فنزف دماً فمات.
وتوفي شيخ الشيوخ صدر الدين إسماعيل بن أبي سعد الصوفي، مات ببغداد ودفن بظاهر رباط الزوزني بباب البصرة، ومولده سنة أربع وستين وأربعمائة، وقام في منصبه ولده صدر الدين شيخ الشيوخ عبد الرحيم.

وفيها توفي نقيب النقباء محمد بن طراد الزينبي أخو شرف الدين الوزير.
وفيها ولي مسعود بن بلال شحنكية بغداد، وسار السلطان عنها.
وفيها كان بالعراق جراد كثير أحل أكثر البلاد.
وفيها ورد العبادي الواعظ رسولاً من السلطان سنجر إلى الخليفة، ووعظ ببغداد، وكان له قبول بها، وحضر مجلسه السلطان مسعود فمن دونه، وأما العامة فإنهم كانوا يتركون أشغالهم لحضور مجلسه والمسابقة إليه.
وفيها بعد قتل الشهيد زنكي بن آقسنقر قصد صاحب دمشق حصن بعلبك وحصره وكان به نجم الدين أيوب بن شاذي مستحفظاً لها، فخاف أن أولاد زنكي لا يمكنهم إنجاده بالعاجل، فصالحه وسلم القلعة إليه، وأخذ منه إقطاعاً ومالاً، وملكه عدة قرى من بلد دمشق، وانتقل أيوب إلى دمشق فسكنها وأقام فيها.
وفي هذه السنة، في ربيع الآخر، توفي عبد الله بن علي بن أحمد أبو محمد المقري ابن بنت الشيخ أبي منصور، ومولده في شعبان سنة أربع وستين وأربعمائة، وكان مقرئاً نحوياً محدثاً، وله تصانيف في القراءات.
؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
ثم دخلت سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة
ذكر قتل بوزابة
لما اتصل بالأمير بوزابة قتل عباس جمع عساكره من فارس وخوزستان وسار إلى أصفهان فحصرها، وسير عسكراً آخر إلى همذان، وعسكراً ثالثاً إلى قلعة الماهكي من بلد اللحف، فأما عسكره الذي بالماهكي فإنه سار إليهم الأمير البقش كون خر فدفعهم عن أعماله وكانت أقطاعة، ثم إن بوزابة سار عن أصفهان يطلب السلطان مسعوداً، فراسله السلطان في الصلح، فلم يجب إليه، وسار مجداً فالتقيا بمرج قراتكين، وتصافا، فاقتتل العسكران، فانهزمت ميمنة السلطان مسعود وميسرته؟ ، واقتتل القلبان أشد قتال وأعظمه، صبر فيه الفريقان، ودامت الحرب بينهما، فسقط بوزابة عن فرسه بسهم أصابه، وقيل بل عثر به الفرس فأخذ أسيراً وحمل إلى السلطان وقتل بين يديه، وانهزم أصحابه لما أخذ هو أسيراً.
وبلغت هزيمة العسكر السلطاني من الميمنة والميسرة إلى همذان، وقتل بين الفريقين خلق كثير، وكانت هذه الحرب من أعظم الحروب بين الأعاجم.
؟
ذكر طاعة أهل قابس للفرنج
وغلبة المسلمين عليها
كان صاحب مدينة قابس، قبل هذه السنة، إنساناً اسمه رشيد، توفي وخلف أولاداً، فعمد مولى له اسمه يوسف إلى ولده الصغير، واسمه محمد، فولاه الأمر، وأخرج ولده الكبير واسمه معمر، واستولى يوسف على البلد، وحكم على محمد لصغر سنه.
؟؟؟؟؟؟وجرى منه أشياء من التعرض إلى حرم سيده، والعهدة على ناقله، وكان من جملتهم امرأة من بني قرة، فأرسلت إلى أخوتها تشكو إليهم ما هي فيه، فجاء أخوتها لأخذهم فمنعهم، وقال: هذه حرمة مولاي؛ ولم يسلمها، فسار بنو قرة ومعمر بن رشيد إلى الحسن صاحب إفريقية،وشكوا إليه ما يفعل يوسف، فكاتبه الحسن في ذلك، فلم يجب إليه، وقال: ائن لم يكف الحسن عني وإلا سلمت قابس إلى صاحب صقيلية؛ فجهز الحسن العسكر إليه، فلما سمع يوسف بذلك أرسل إلى رجار الفرنجي، صاحب صقيلية، وبذل له الطاعة، وقال له: أريد منك خلعة وعهداً بولاية قابس لأكون نائباً عنك كما فعلت مع بني مطروح في طرابلس؛ فسير إليه رجار الخلعة والعهد، فلبسها وقرىء العهد بمجمع من الناس.
فجد حينئذ الحسن في تجهيز العسكر إلى قابس، فساروا إليها ونازلوها وحصروها، فثار أهل البلد بيوسف لما اعتمده من طاعة الفرنج، وسلموا البلد إلى عسكر الحسن، وتحصن يوسف في القصر، فقاتلوه حتى فتحوه، وأخذ يوسف أسيراً، فتولى عذابه معمر بن رشيد وبنو قرة، فقطعوا ذكره وجعلوه في فمه وعذب بأنواع العذاب.
وولي معمر قابس مكان أخيه محمد، وأخذ بنو قرة أختهم، وهرب عيسى أخو يوسف وولد يوسف وقصدوا رجار، صاحب صقيلية، فاستجاروا به وشكوا إليه ما لقوا من الحسن، فغضب لذلك، وكان ما نذكره سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة من فتح المهدية، إن شاء الله تعالى.
ذكر حادثة ينبغي أن يحتاط العاقل من مثلها

كان يوسف هذا صاحب قابس قد أرسل رسولاً إلى رجار بصقيلية، فاجتمع هو ورسول الحسن صاحب المهدية عنده، فجرى بين الرسولين مناظرة، فذكر رسول يوسف الحسن وما نال منه وذمه، ثم إنهما عادا في وقت واحد، وركبا البحر كل واحد منهما في مركبه ، فأرسل رسول الحسن رقعة إلى صاحبه على جناح طائر يخبره بما كان من رسول يوسف، فسير الحسن جماعة من أصحابه في البحر، فأخذوا رسول يوسف وأحضروه عند الحسن، فسبه وقال: ملكت الفرنج بلاد المسلمين وطولت لسانك بذمي! ثم أركبه جملاً وعلى رأسه طرطور بجلاجل وطيف به في البلد ونودي عليه: هذا جزاء من سعى أن يملك بلاد المسلمين؛ فلما توسط المهدية ثار به العامة فقتلوه بالحجارة،
ذكر ملك الفرنج المرية
وغيرها من بلاد الأندلس
في هذه السنة، في جمادى الأولى، حصر الفرنج مدينة المرية من الأندلس، وضيقوا عليها براً وبحراً، فملكوها عنوة، وأكثروا القتل بها والنهب، وملكوا أيضاً مدينة بياسة وولاية جيان، وكلها بالأندلس، ثم استعادها المسلمون بعد ذلك منهم، على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر ملك نور الدين محمود بن زنكي عدة مواضع من بلد الفرنجفي هذه السنة دخل محمود بن زنكي صاحب حلب، بلد الفرنج، ففتح منه مدينة ارتاح باسيف ونهبها وحصن مابولة وبصرفون وكفر لاثا. وكان الفرنج بعد قتل والده زنكي قد طمعوا، وظنوا أنهم بعده يستردون ما أخذه، فلما رأوا من نور الدين هذا الجد في أول أمره علموا أن ما أملوه بعيد.
ذكر أخذ الحلة من علي بن دبيس
وعوده إليها
في هذه السنة كثر فساد علي بن دبيس بالحاة وما جاورها، وكثرت الشكاوى منه، فأقطع السلطان مسعود الحلة للأمير سلار كرد، فسار إليها من همذان ومعه عسكر وانضاف إليهم جماعة من عسكر بغداد، وقصدوا الحلة، واحتاط على أهل علي ورجعت العساكر، وأقام هو بالحلة في مماليكه وأصحابه، وسار عليبن دبيس فلحق بالبقش كون خر، وكان بإقطاعه، في اللحف، متجنياً على السلطان، فاستنجده، فسار معه إلى واسط، واتفق هو والطرنطاي، وقصدوا الحلة فاستنقذوها من سلار كرد في ذي الحجة، وفارقها سلار كرد وعاد إلى بغداد.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة، في جمادى الأولى، خطب للمستنجد بالله يوسف بن المقتفي لأمر الله بولاية العهد.
وفيها ولي عون الدين يحيى بن هبيرة كتابة ديوان الزمام ببغداد، وولي زعيم الدين يحيى بن جعفر المخزن.
وفيها، في ربيع الأول ، مات أبو القاسم طاهر بن سعيد بن أبي سعيد بن أبي الخير الميهني شيخ رباط البسطامي ببغداد، وفي ربيع الآخر توفيت فاطمة خاتون بنت السلطان محمد زوجة المقتفي لأمر الله.
وفي رجب منها مات أبو الحسن محمد بن المظفر علي بن المسلمة، ابن رئيس الرؤساء، ومولده سنة أربع وثمانين، وكان قد تصوف، وجعل داره التي في القصر رباطاً للصوفية.
وفيها سار سيف الدين غازي بن زنكي إلى قلعة دارا، فملكها وغيرها من بلد ماردين، ثم سار إلى ماردين وحصرها وخرب بلدها ونهبه.
وكان سبب ذلك أن أتابك زنكي لما قتل تطاول صاحب ماردين وصاحب الحصن إلى ما كان قد فتحه من بلادهما فأخذاه، فلما ملك سيف الدين وتمكن سار إلى ماردين وحصرها، وفعل ببلدها الأفاعيل العظيمة، فلما رأى صاحبها، وهو حينئذ حسام الدين تمرتاش، ما يفعل في بلده قال: كنا نشكو من أتابك الشهيد، وأين أيامه؟ لقد كانت أعياداً. قد حصرنا غير مرة، فلم يأخذ هو ولا أحد من عسكره مخلاة تبن بغير ثمن، ولا تعد هو وعسكره حاصل السلطان، وأرى هذا ينهب البلاد ويخربها.
ثم راسله وصالحه، وزوجه ابنته، ورحل سيف الدين عنه وعاد إلى الموصل، وجهزت ابنة حسام الدين وسيرت إليه، فوصلت وهو مريض قد أشفى على الموت، فلم يدخل بها وبقيت عنده إلى أن توفي وملك قطب الدين مودود، فتزوجها، على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
وفيها أشتد الغلاء بإفريقية ودامت أيامه، فإن أوله كان سنة سبع وثلاثين وخمسمائة، وعظم الأمر على أهل البلاد حتى أكل بعضهم بعضاً، وقصد أهل البوادي المدن من الجوع، فأغلقها أهلها دونهم، وتبعه وباء وموت كثير، حتى خلت البلاد، وكان أهل البيت لا يبقى منهم أحد، وسار كثير منهم إلى صقيلية في طلب القوت، ولقوا أمراً عظيماً.
؟؟؟
ثم دخلت سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة

ذكر ملك الفرنج مدينة المهدية بإفريقية
قد ذكرنا سنة إحدى وأربعين وخمسمائة مسير أهل يوسف، صاحب قابس، إلى رجار ملك صقلية، واستغاثتهم به، فغضب لذلك، وكان بينه وبين الحسن بن علي بن يحيى بن تميم بن المعز بن باديس الصنهاجي صاحب إفريقية، صلح وعهود إلى مدة سنتين، وعلم أنه فاته فتح لبلاد في هذه الشدة التي أصابتهم، وكانت الشدة دوام الغلاء في جميع المغرب من سنة سبع وثلاثين إلى هذه السنة، وكان أشد ذلك سنة اثنتين وأربعين، فأن الناس فارقوا البلاد والقرى، ودخل أكثرهم إلى مدينة صقيلية، وأكل الناس بعضهم بعضاً، وكثر الموت في الناس، فاغتنم رجار هذه الشدة، فعمر الأسطول، وأكثر منه، فبلغ نحو مائتين وخمسين شينياً مملوءة رجالاً وسلاحاً وقوتاً.
وسار الأسطول عن صقلية إلى جزيرة قوصرة، وهي بين المهدية وصقلية، فصادفوا بها مركباً وصل من المهدية، فأخذ أهله وأحضروا بين يدي جرجي مقدم الأسطول، فسألهم عن حال إفريقية، ووجد في المركب قفص حمام، فسألهم هل أرسلوا منها، فحلفوا أنهم لم يرسلوا منها شيئاً، فأمر الرجل الذي كان الحمام صحبته أن يكتب بخطه: إننا لما وصلنا جزيرة قوصرة وجدنا بها مراكب من صقلية، فسألناهم عن الأسطول المخذول، فذكروا أنه أقلع إلى جزائر القسطنطينية.
وأطلق الحمام فوصل إلى المهدية، فسر الأمير الحسن والناس؛ وأراد جرجي بذلك أن يصل بغتة، ثم سار، وقدر وصولهم إلى المهدية وقت السحر ليحيط بها قبل أن يخرج أهلها، فلو تم له ذلك لم يسام منهم أحد، فقدر الله تعالى أن أرسل عليهم ريحاً هائلة عكستهم، فلم يقدروا على المسير إلا بالمقاذيف، فطلع النهار ثاني صفر في هذه السنة قبل وصولهم، فرآهم الناس، فلما وصلوا رأى جرجي ذلك وأن الخديعة فاتته، أرسل إلى الأمير الحسن يقول: إنما جئت بهذا الأسطول طالباً بثأر محمد بن رشيد صاحب قابس ورده إليها، وأما أنت فبيننا وبينك عهود وميثاق إلى مدة، ونريد منك عسكراً يكون معنا، فجمع الحسن الناس من الفقهاء والأعيان وشاورهم، فقالوا: نقاتل عدونا، فإن بلدنا حصين. فقال: أخاف أن ينزل إلى البر ويحصرنا براً وبحراً، ويحول بيننا وبين الميرة، وليس عندنا ما يقوتنا شهراً، فنؤخذ قهراً . وأنا أرى سلامة المسلمين من الأسر والقتل خيراً من الملك، وقد طلب مني عسكراً إلى قابس، فإذا فعلت فما يحل لي معونة الكفار على المسلمين، وإذا امتنعت يقول، انتقض ما بيننا من الصلح، وليس يريد إلا أن يثبطنا حتى يحول بيننا وبين البر، وليس لنا بقتاله طاقة، والرأي أن نخرج بالأهل والولد ونترك البلد، فمن أراد أن يفعل كفعلنا فليبادر معنا.
وأمر في الحال بالرحيل، وأخذ معه من حضره وما خف حمله، وخرج الناس على وجوههم بأهليهم وأولادهم وما خف من أموالهم وأثاثهم، ومن الناس من اختفى عند النصارى وفي الكنائس، وبقي الأسطول في البحر تمنعه الريح من الوصول إلى المهدية إلى ثلثي النهار، فلم يبق في البلد ممن عزم على الخروج أحد، فوصل الفرنج ودخلوا البلدبغير مانع ولا دافع، ودخل جرجي القصر فوجده على حاله لم يأخذ الحسن منه إلا ما خف من ذخائر الملوك، وفيه جماعة من حظاياه، ورأى الخزائنمملوءة من الذخائر النفيسة وكل شيىء غريب يقل وجود مثله، فختم عليه، وجمع سراري الحسن في قصره.وكان عدة من ملك منهم من زيري بن مناد إلى الحسن تسعة ملوك، ومدة ولايتهم مائتا سنة وثماني سنوات، من سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة إلى سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة؛ وكان بعض القواد قد أرسله الحسن إلى رجار برسالة، فأخذ لنفسه وأهله منه أماناً، فلم يخرج معهم، ولما ملك المدينة نهبت مقدار ساعتين، ونودي بالأمان ، فخرج من كان مستخفياً، وأصبح جرجي من الغد، لفأرسل إلى من قرب من العرب، فدخلوا إليه، فأحسن إليهم وأعطاهم أموالاً جزيلة، وأرسل من جند المهدية الذين تخافوا بها جماعة، ومعهم أمان لأهل المهدية الذين خرجوا منها، ودواب يحملون عليها الأطفال والنساء، وكانوا قد أشرفوا على الهلاك من الجوع، ولهم بالمهدية خبايا وودائع، فلما وصل إليهم الأمان رجعوا، فلم تمض جمعة حتى رجع أكثر أهل البلد.

وأما الحسن فإنه سار بأهله وأولاده، وكانوا اثني عشر ولداً ذكراً غير الإناث، وخواص خدمه، قاصداً إلى محرز بن زياد، وهو بالمعلقة ، فلقيه في طريقه أمير من العرب يسمى حسن بن ثعلب ، فطلب منه مالاً انكسر له في ديوانه، فلم يمكن الحسن إخراج مال لئلا يؤخذ، فسلم إليه ولده يحي رهينة وسار، فوصل في اليوم الثاني إلى محرز، وكان الحسن قد فضله على جميع العرب وأحسن إليه، ووصله بكثير من المال، فلقيه محرز لقاء جميلاً، وتوجع لما حل به، فأقام عنده شهوراً، والحسن كاره للإقامة، فأراد المسير فأراد المسير إلى ديار مصر إلى الخليفة الحافظ العلوي، واشترى مركباً لسفره، فسمع جرجي الفرنجي، فجهز شواني ليأخذه، فعاد الحسن عن ذلك، وعزم على المسير إلى عبد المؤمن بالمغرب، فأرسل كبار أولاده يحيى وتميماً وعلياً إلى يحيا بن عبد العزيز، وهو من بني حماد، وهما أولاد عم، يستأذنه في الوصول إليه، وتجديد العهد به، والمسير من عنده إلى عبد المؤمن، فأذن له يحيى، فسار إليه، فلما وصل لم يجتمع به يحيى وسيره إلى جزيرة بني مزغناي هو وأولاده ووكل به من يمنعهم من التصرف، فبقوا كذلك إلى أن ملك عبد المؤمن بجاية سنة سبع وأربعين، فحضر عنده وقد ذكرنا حاله هناك .
ولما استقر جرجي بالمهدية سير اسطولاً، بعد أسبوع، إلى مدينة سفاقس، وسير أسطولاً آخر إلى مدينة سوسة، فأما سوسة فإن أهلها لما سمعوا خبر المهدية، وكان واليها علي بن الحسن الأمير، فخرج إلى أبيه، وخرج الناس لخروجه، فدخلها الفرنج بلا قتال ثاني عشر صفر؛ وأما سفاقس فإن أهلها أتاهم كثير من العرب، فامتنعوا بهم، فقاتلهم الفرنج، فخرج إليهم أهل البلد فأظهر الفرنج الهزيمة، وتبعهم الناس حتى أبعدوا عن البلد، ثم عطفوا عليهم، فانهزم قوم إلى البلد وقوم إلى البرية، وقتل منهم جماعة، ودخل الفرنج البلد فملكوه بعد قتال شديد وقتلى كثيرة، وأسر من بقي من الرجال وسبي الحريم، وذلك في الثالث والعشرين من صفر، ثم نودي بالأمان، فعاد أهلها إليها، وافتكوا حرمهم وأولادهم، ورفق بهم وبأهل سوسة والمهدية، وبعد ذلك وصلت كتب من رجار لجميع أهل إفريقية بالأمان والمواعيد الحسنة.
ولما استقرت أحوال البلاد سار جرجي في أسطول إلى قلعة إقليبية، وهي قلعة حصينة، فلما وصل إليها سمعته العرب، فاجتمعوا إليها، ونزل إليهم الفرنج، فاقتتلوا فانهزم الفرنج وقتل منهم خلق كثير، فرجعوا خاسرين إلى المهدية، وصار للفرنج من طرابلس الغرب إلى قريب تونس ومن المغرب إلى دون القيروان، والله أعلم.
ذكر حصر الفرنج دمشق
وما فعل سيف الدين غازي بن زنكي
في هذه السنة سار ملك الألمان من بلاده في خلق كثير وجمع عظيم من الفرنج، عازماً على قصد بلاد الإسلام، وهو لا يشك في ملكها بأيسر قتال لكثرة جموعه، وتوفر أمواله وعدده، فلما وصل إلى الشام قصده من به من الفرنج وخدموه، وامتثلوا أمره ونهيه، فأمرهم بالمسير معهم إلى دمشق ليحصرها ويملكها بزعمه، فساروا معه ونازلوها وحصروها، وكان صاحبها مجير الدين أبق بن نوري بن طغدكين، وليس له من الأمر شيء، وإنما الحكم في البلدلمعين الدين أنر مملوك جده طغدكين، وهو الذي أقام مجير الدين؛ وكان معين الدين عاقلاً، عادلاً خيراً، حسن السيرة، فجمع العساكر وحفظ البلد.
وأقام الفرنج يحاصرونهم، ثم إنهم زحفوا سادس ربيع الأول بفارسهم وراجلهم، فخرج إليهم أهل البلد والعسكر فقاتلوهم، وصبروا لهم، وفيمن خرج للقتال الفقيه حجة الدين يوسف بن دي ناس الفندلاوي المغربي، وكان شيخاً كبيراً، فقيهاً عالماً، فلما رآه معين الدين،وهو راجل، قصده وسلم عليه، وقال له: ياشيخ أنت معذور لكبر سنك، ونحن نقوم بالذب عن المسلمين؛ سأله أن يعود، فلم يفعل وقال له: قد بعت واشترى مني، فوالله لا أقلته ولا استقلته؛ فعنى قول الله تعالى: (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة) وتقدم فقاتل الفرنج حتى قتل عند النيرب نحو نصف فرسخ عن دمشق

وقوي الفرنج وضعف السلمين، فتقدم ملك الألمان حتى نزل بالميدان الأخضر، فأيقن الناس بأنه يملك البلد. وكان معين الدين قد أرسل إلى سيف الدين غازي بن أتابك يدعوه إلى نصرة المسلمين وكف العدو عنهم، فجمع عساكره وسار إلى الشام، واستصحب معه أخاه نور الدين محمود من حلب، فنزلوا بمدينة حمص، وأرسل إلى معين الدين يقول له: قد حضرت ومعي كل من يحمل السلاح من بلادي، فأريد أن يكون نوابي بمدينة دمشق لأحضر وألقى الفرنج، فإن انهزمت دخلت أنا وعسكري البلد، واحتمينا به، وإن ظفرت فالبلد لكم لا أنازعكم فيه.
فأرسل إلى الفرنج يتهددهم إن لم يرحلوا عن البلد، فكف الفرنج عن القتال خوفاً من كثرة الجراح، وربما اضطروا إلى قتال سيف الدين، فأبقوا على نفوسهم، فقوي أهل البلد على حفظه، واستراحوا من لزوم الحرب، وأرسل معين الدين إلى الفرنج الغرباء: إن ملك المشرق قد حضر، فإن رحلتم، وإلا سلمت البلد إليه، وحينئذ تندمون؛ وأرسل إلى فرنج الشام يقوللهم: بأي عقل تساعدون هؤلاء علينا، وأنتم تعلمون أنهم إن ملكوا دمشق أخذوا ما بأيديكم من البلاد الساحلية، وأما أنا فإن رأيت الضعف عن حفظ البلد سلمته إلى سيف الدين،وأنتم تعلمون أنه إن ملك دمشق لا يبقى لكم معه مقام في الشام؛ فأجابوه إلى التخلي عن ملك الألمان، وبذل لهم تسليم حصن بانياس إليهم.
واجتمع الساحلية بملك الألمان، وخوفوه من سيف الدين وكثرة عساكره وتتابع الأمداد إليه، وأنه ربما أخذ دمشق وتضعف عن مقاومته؛ ولم يزالوا به حتى رحل عن البلد، وتسلموا قلعة بانياس، وعاد الفرنج الألمانية إلى بلادهم وهي من وراء القسطنطينية، وكفى الله المؤمنين شرهم.
وقد ذكر الحافظ أبو القاسم بن عساكر في تاريخ دمشق: أن بعض العلماء حكى له أنه رأى الفندلاوي في المنام، فقال له: ما فعل الله بك، وأين أنت؟ فقال غفر لي، وأنا في جنات عدن على سرر متقابلين.
ذكر ملك نور الدين محمود حصن العريمةلما سار الفرنج عن دمشق رحل نور الدين إلى حصن العريمة، وهو للفرنج، فملكه.
وسبب ذلك أن ملك الألمان لما خرج إلى الشام كان معه ولد الفنش، وهو من أولاد ملوك الفرنج، وكان جده هو الذي أخذ طرابلس الشام من المسلمين، فأخذ حصن العريمة وتملكه، وأظهر أته يريد أخذ طرابلس من القمص، فأرسل القمص إلى نور الدين محمود، وقد اجتمع هو ومعين الدين أنر ببعلبك، يقول له ولمعين الدين ليقصدا حصن العريمة ويملكاه من ولد الفنش،فسارا إليه مجدين في عساكرهما، وأرسلا إلى سيف الدين وهو بحمص يستنجدانه، فأمدهما بعسكر كثير مع الأمير عز الدين أبي بكر الدبيسي، صاحب جزيرة ابن عمر وغيرها، فنازلوا الحصن وحصروه، وبه ابن الفنش، فحماه وامتنع به، فزحف المسلمون إليه غير مرة، وتقدم إليه النقابون فنقبوا السور، فستسلم حينئذ من به من الفرنج، فملكه المسلمون وأخذوا كل من به من فارس وراجل وصبي وامرأة، وفيهم ابن الفنش كما قيل: خرجت النعامة تطلب قرنين فعادت بلا أذنين،
ذكر الخلف بين السلطان مسعود وجماعة من الأمراء
ووصولهم إلى بغداد وما كان منهم في العراق
في هذه السنة فارق السلطان مسعوداً جماعة من أكابر الأمراء، وهم من أذربيجان:إيلدكرالمسعودي، صاحب كنجة وأرانية، وقيصر، ومن الجبل: البقش كون خر، وتتر الحاجب، وهو من مماليك مسعود أيضًا، وطرنطاي المحمودي، شحنة واسط، والدكز، وقرقوب وابن طغايرك.
وكان سبب ذلك ميل السلطان إلى خاص بك واطراحه لهم، فخافوا أن يفعل بهم مثل فعله بعبد الرحمن وعباس وبوزابة، ففارقوه وساروا نحو العراق، وغلت الأسعار، وتقدم الإمام المقتفي لأمر الله بإصلاح السور وترميمه، وأرسل الخليفة إليهم بالعبادي الواعظ، فلم يرجعوا إلى قوله، ووصلوا إلى بغداد في ربيع الأخر، والملك محمد ابن السلطان محمود معه من ونزلوا بالجانب الشرقي، وفارق مسعود بلال شحنة بغداد البلد خوفاً من الخليفة، وسار إلى تكريت وكانت له، فعظم الأمر على أهل بغداد، ووصل إليهم علي بن دبيس صاحب الحلة، فنزل بالجانب الغربي، فجند الخليفة أجناداً يحتمي بهم.

ووقع القتال بين الأمراء وبين عامة بغداد ومن بها من العسكر، واقتتلوا عدة دفعات، ففي بعض الأيام انهزم الأمراء الأعاجم من عامة بغداد مكراً وخديعة، وتبعهم العامة، فلما أبعدوا عادوا عليهم وصار بعض العسكر من ورائهم، ووضعوا السيف فقتل من العامة خلق كثير، ولم يبقوا على صغير ولا كبير، وفتكوا فيهم، فأصيب أهل بغداد بما لم يصابوا بمثله، وكثر القتلى والجرحى وأسر منهم خلق كثير فقتل البعض وشهر البعض، ودفن الناس من عرفوا، ومن لم يعرف ترك طريحاً بالصحراء، وتفرق العسكر في المحال الغربية، فأخذوا من أهلها الأموال الكثيرة، ونهبوا بلد دجيل وغيره، وأخذوا النساء والولدان.
ثم إن الأمراء اجتمعوا ونزلوا مقابل التاج وقبلوا الأرض واعتذروا، وترددت الرسل بينهم وبين الخليفة إلى آخر النهار،وعادوا إلى خيامهم، ورحلوا إلى النهروان، فنهبوا البلاد، وافسدوا فيها، وعاد مسعود بلال شحنة بغداد من تكريت إلى بغداد.
ثم إن هؤلاء الأمراء تفرقوا وفارقوا العراق، وتوفي الأمير قيصر بأذربيجان، هذا كله والسلطان مسعود مقيم ببلد الجبل، والرسل بينه وبين عمه السلطان سنجر متصلة؛ وكان السلطان سنجر قد أرسل إليه يلومه على تقديم خاص بك، ويأمره بإبعاده، ويتهدده بأنه إن لم يفعل فسيقصده ويزيله عن السلطنة؛ وهو يغالط ولا يفعل، فسار السلطان سنجر إلى الري، فلما علم السلطان مسعود بوصوله سار إليه وترضاه، واستنزله عما في نفسه فسكن. وكان اجتماعهما سنة أربع وأربعين على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
؟؟
ذكر انهزام الفرنج بيغرى
في هذه السنة هزم نور الدين محمود بن زنكي الفرنج بمكان اسمه يغرى من أرض الشام ، وكانوا قد تجمعوا ليقصدوا أعمال حلب ليغيروا عليها، فعلم بهم، فسار إليهم في عسكره، فالتقوا بيغرى واقتتلوا قتالاً شديداً وأجلت المعركة عن انهزام الفرنج، وقتل كثير منهم، وأسر جماعة من مقدميهم، ولم ينج من ذلك الجمع إلا القليل؛ وأرسل من الغنيمة والأسارى إلى أخيه سيف الدين وإلى الخليفة ببغداد وإلى السلطان مسعود وغيرهم.
وفي هذه الوقعة يقول ابن القيسراني في قصيدته التي أولها:
ياليت أن الصد مصدود ... أولا، فليت النوم مردود
ومنها في ذكر نور الدين:
وكيف لا نثني على عيشنا ال ... محمود والسلطان محمود
وصارم الإسلام لا ينثني ... إلا وشلو الكفر مقدود
مكارم لم تك موجودة ... إلا ونور الدين موجود
وكم له من وقعة يومها ... عند الملوك ، الكفر مشهود
ذكر ملك الغورية غزنة وعودهم عنهافي هذه السنة قصد سوري بن الحسين ملك الغور مدينة غزنة فملكها. وسبب ذلك أن أخاه ملك الغورية قبله محمد بن الحسين كان قد صاهر بهرام شاه مسعود بن إبراهيم، صاحب غزنة، وهو من بيت سبكتكين، فعظم شأنه بالمصاهرة، وعلت همته، فجمع جموعاً كثيرة وسار إلى غزنة ليملكها، وقيل: إنما سار إليها مظهراً الخدمة والزيارة، وهو يريد المكر والغدر، فعلم به بهرام شاه، فأخذه وسجنه، ثم قتله، فعظم قتله على الغورية ، ولم يمكنهم الأخذ بثأره.
ولما قتل ملك بعده أخاه سام بن الحسين، فمات بالجدري، وملك بعده أخوه الملك سوري بن الحسين بلاد الغور، وقوي أمره، وتمكن في ملكه، فجمع عسكره من الفارس ومن الراجل وسار إلى غزنة طالباً بثأر أخيه المقتول وقاصداً ملك غزنة، فلما وصل إليها ملكها في جمادى الأولى، سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة.
وفارقها بهرام شاه إلى بلاد الهند ، وجمع جموعاً كثيرة ، وعاد إلى غزنة وعلى مقدمته السلار الحسن بن إبراهيم العلوي أمير هندوستان. وكان عسكر غزنة، الذين أقاموا مع سوري بن الحسين الغوري وخدموه، قلوبهم مع بهرام شاه، وإنما هم بظواهرهم مع سوري، فلما التقى سوري وبهررام شاه رجع عسكر غزنة إلى بهرام شاه وصاروا معه، وسلموا إلى سوري ملك الغورية، وملك بهرام شاه غزنة في المحرم سنة أربع وأربعين، وصلب الملك سوري مع السيد الماهياني في المحرم أيضاً من السنة.
وكان سوري أحد الأجواد، له الكرم الغزير، والمروءة العظيمة، حتى أنه كان يرمي الدراهم في المقاليع إلى الفقراء لتقع بيد من يتفق له.

ثم عاود الغورية وملكوها، وخربوها، وقد ذكرناه سنة سبع وأربعين وذكرنا هناك ابتداء دولة الغورية لأنهم في
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://arabelalekat.yoo7.com
الشيخ عودة
الشيخ عودة
الشيخ عودة



عدد المساهمات : 1748
تاريخ التسجيل : 28/09/2008
العمر : 74

كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير - صفحة 7 Empty
مُساهمةموضوع: رد: كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير   كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير - صفحة 7 Emptyالخميس فبراير 27, 2014 6:22 am

ذكر أخذ العرب الحجاج
في هذه السنة، رابع عشر المحرم، خرج العرب، زعب ومن انضم إليها، على الحجاج بالغرابي، بين مكة والمدينة، فأخذوهم ولم يسلم منهم إلا القليل.
وكان سبب ذلك أن نظر أمير الحاج لما عاد من الحلة على ما ذكرناه وسار على الحاج قايماز الأرجواني، وكان حدثاً غراً، سار بهم إلى مكة، فلما رأى أمير مكة قايماز استصغره وطمع في الحاج، وتلطف قايماز الحال معه إلى أن عادوا.
فلما سار عن مكة سمع باجتماع العرب، فقال للحاج: المصلحة أنا لا نمضي إلى المدينة؛ وضج العجم وتهدده بالشكوى منه إلى السلطان سنجر ، فقال لهم: فأعطوا العرب مالاً نستكف به شرهم! فامتنعوا من ذلك، فسار بهم إلى الغرابي، وهو منزل يخرج إليه من مضيق بين جبلين، فوقفوا على فم مضيق، وقاتلهم قايماز ومن معه، فلما رأى عجزه أخذ لنفسه أماناً، وظفروا بالحجاج، وغنموا أموالهم وجميع ما عندهم، وتفرق الناس في البر، وهلك منهم خلق كثير لا يحصون كثرة، ولم يسلم إلا القليل، فوصل بعضهم إلى المدينة وتحملوا منها إلى البلاد، وأقام بعضهم مع العرب حتى توصل إلى البلاد.
ثم إن الله تعالى انتصر للحاج من زعب فلم يزالوا في نقص وذلة، ولقد رأيت شاباً منهم بالمدينة سنة ست وسبعين وخمسمائة، وجرى بيني وبينه مفاوضة قلت له فيها: إنني والله كنت أميل إليك حتى سمعت أنك من زعب فنفرت وخفت شرك. فقال: ولم؟ فقلت: بسبب أخذكم الحاج. فقال لي: أنل لم أدرك ذلك الوقت، وكيف رأيت الله صنع بنا؟ والله ما أفلحنا، ولا نجحنا، قل العدد وطمع العدو فينا.
ذكر فتح حصن فاميافي هذه السنة فتح نور الدين محمود ابن الشهيد زنكي حصن فاميا من الفرنج وهو مجاور شيزر وحماة على تل عال من أحصن القلاع وأمنعها، فسار إليه نور الدين وحصره وبه الفرنج وقاتلهم وضيق على من به منهم، فاجتمع من الشام من الفرنج وساروا نحوه ليرحلوه عنهم فلم يصلوا إلا وقد ملكه وملأه ذخائر وسلاحاً ورجالاً وجميع ما يحتاج إليه، فلما بلغه مسير الفرنج إليه، رحل عنه وقد فرغ من أمر الحصن وسار إليهم يطلبهم، فحين رأوا أن الحصن قد ملك وقوة عزم نور الدين على لقائهم عدلوا عن طريقه ودخلوا بلادهم وراسلوه في المهادنة وعاد سالماً مظفراً ومدحه الشعراء وذكروا هذا الفتح، فمن ذلك قول ابن الرومي من قصيدة أولها:
أسنى الممالك ما أطلت منارها ... وجعلت مرهفة الدسار دسارها
وأحق من ملك البلاد وأهلها ... رؤف تكنف عدله أقطارها
ومنها في وصف الحصن:
أدركت ثأرك في البغاة وكنت يا ... مختار أمة أحمد مختارها

طابت نجومك فوقها ولربما ... باتت تنافثها النجوم سرارها
عارية الزمن المعير شمالها ... منك المعيرة واسترد معارها
أمست مع الشعري العبور وأصبحت ... شعراء تستغلي الفحول شوارها
وهي طويلة.
ذكر حصر الفرنج قرطبة ورحيلهم عنهافي هذه السنة سار السليطين، وهو الأذوفونش، وهو ملك طليطلة وأعمالها، وهو من ملوك الجلالقة، نوع من الفرنج، في أربعين ألف فارس إلى مدينة قرطبة، فحصرها، وهي في ضعف وغلاء، فبلغ الخبر إلى عبد المؤمن وهو في مراكش، فجهز عسكراً كثيراً، وجعل مقدمهم أبا ذكرياء يحيى بن يرموز ونفذهم إلى قرطبة، فلما قربوا منها لم يقدروا أن يلقوا عسكر السليطين في الوطاء وأرادوا الاجتماع بأهل قرطبة ليمنعوها لخطر العاقبة بعد القتال، فسلكوا الجبال الوعرة والمضايق المتشعبة، فساروا نحو خمسة وعشرين يوماً في الوعر في مسافة أربعة أيام في السهل، فوصلوا إلى جبل مطل على قرطبة، فلما رآهم السليطين وتححق أمرهم رحل عن قرطبة.
وكان فيها القائد أبو الغمرالسائبمن ولد القائد ابن غلبون، وهو من أبطال أهل الأندلس وأمرائها فلما رحل الفرنج خرج منها لوقته وصعد إلى ابن يرموز، وقال له:انزلوا عاجلاً وادخلوا البلد؛ ففعلوا، وباتوا فيها، فلما أصبحوا من الغد رأوا عسكر السليطين على رأس الجبل الذي كان فيه عسكر عبد المؤمن، فقال لهم أبو الغمر: هذا الذي خفته عليكم لأني علمت أن السليطين ما أقلع إلا طالباً لكم، فإن من الموضع الذي كان فيه إلى الجبل طريقاً سهلة، ولو لحقكم هناك لنال مراده منكم ومن قرطبة، فلما رأى السليطين أنهم قد فاتوه علم أنه لم يبق له طمع في قرطبة، فرحل عائداً إلى بلاده، وكان حصره لقرطبة ثلاثة أشهر، والله أعلم.
ذكر ملك الغورية هراةفي هذه السنة سار ملك الغور الحسن بن الحسين من بلاد الغور إلى هراة فحصرها، وكان أهلها قد كاتبوه، وطلبوا ان يسلموا إليه البلد هرباً من ظلم الأتراك لهم، وزوال هيبة السلطنة عنهم، فامتنع أهل هراة عليه ثلاثة أيام، ثم خرجوا إليه وسلموا البلد وأطاعوه، فأحسن إليهم، وأفاض عليهم النعم، وغمرهم بالعدل، وأظهر طاعة السلطان سنجر والقيام على الوفاء له والأنقياد إليه.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة أمر علاء الدين محمود بن مسعود، الغالب على أمر طريثيث التي بيد الإسماعيلية، بإقامة الخطبة للخليفة، ولبس السواد، ففعل الخطيب ذلك، فثار به عمه وأقاربه ومن وافقهم، وقاتلوه ، وكسروا المنبر وقتلوا الخطيب.
وكان فعل علاء الدين هذا لأن أباه كان مسلماً، فلما تغلب الإسماعيلية على طريثيث أظهر موافقتهم، وأبطن اعتقاد الشريعة، وكان يناظر على مذهب الشافعي، وازداد تقدماً بطريثيث وجرت أمورها بإرادته؛ فلما حضره الموت أوصى أن يغسله فقيه شافعي، وأوصى إلى ابنه علاء الدين، إن أمكنه أن يعيد فيها إظهار شريعة الإسلام فعل. فلما رأى من نفسه قوة فعله فلم يتم له.
وفيها كثر المرض بالعراق لا سيما بغداد، وكثر الموت أيضاً فيها، ففارقها السلطان مسعود.
وفيها توفي الأمير علي بن دبيس بن صدقة صاحب الحلة بأسدباد، واتهم طبيبه محمد بن صالح بالمواطأة عليه، فمات الطبيب بعده بقريب.وفيها استوزر عبد المؤمن صاحب بلاد المغرب أبا جعفر بن أبي أحمد الأندلسي، وكان ماسوراً عنده، فوصف له بالعقل وجودة الكتابة، فأخرجه من الحبس واستوزره، وهو أول وزير كان للموحدين.
وفي هذه السنة، في المحرم، جلس يوسف الدمشقي مدرساً في النظامية ببغداد، وكان جلوسه بغير أمر الخليفة، فمنع، يوم الجمعة، من دخول الجامع، فصلى في جامع السلطان ومنع من التدريس، فتقدم السلطان مسعود إلى الشيخ أبي النجيب بأن يدرس فيها، فامتنع بغير أمر الخليفة، فاستخرج السلطان إذن الخليفة في ذلك، فدرس منتصف المحرم من السنة.
وفيها توفي أبو عبد الله محمد بن علي مهران الفقيه الشافعي، تفقه على الهراسي، و ولي قضاء نصيبين، ثم ترك القضاء وتزهد فأقام بجزيرة ابن عمر، ثم انتقل إلى جبل ببلد الحصن، في زاوية ، وكان له كرامات ظاهرة.

وفيها مات الحسن بن ذي النون بن أبي القاسم بن أبي الحسن المسعري أبو المفاخر النيسابوري، سمع الحديث، سمع الحديث الكثير، وكان فقيهاً دائم الأشغال يعظ الناس، وكان مما ينشد:
مات الكرام وولوا وانقضوا ومضوا ... ومات من بعدهم تلك الكرامات
وخلفوني في قوم ذوي سفه ... لو أبصروا طيف ضيف في الكرى ماتوا
ثم دخلت سنة ست وأربعين وخمسمائة
ذكر انهزام نور الدين من جوسلين
وأسر جوسلين بعد ذلك
في هذه السنة جمع نور الدين محمود عسكره وسار إلى بلاد جوسلين الفرنجي، وهي شمالي حلبن منها تل باشر، وعين تاب، وإعزاز وغيرها، وعزم على محاصرتها وأخذها، وكان جوسلين لعنه الله، فارس الفرنج غير مدافع، قد جمع الشجاعة والرأي، فلما علم بذلك جمع الفرنج فأكثر، وسار نحو نور الدين فالتقوا واقتتلوا، فانهزم المسلمون وقتل منهم وأسر جمع كثير، وكان في جملة من أسر سلاح دار نور الدين، فأخذه جوسلين، ومعه سلاح نور الدين، فسيره إلى الملك مسعود بن قلج أرسلان، صاحب قونية، وأقصرا، وقال له : هذا سلاح زوج ابنتك، وسيأتيك بعده ما هو أعظم منه.
فلما علم نور الدين الحال عظم عليه ذلك، وأعمل الحيلة على جوسلين، وهجر الراحة ليأخذ بثأره، وأحضر جماعة من أمراء التركمان، وبذل لهم الرغائب إن هم ظفروا بجوسلين وسلموه إليه إما قتيلاً أو أسيراً لأنه علم أنه متى قصده بنفسه احتمى بجموعه وحصونه، فجعل التركمان عليه العيون،فخرج متصيداً، فلحقت به طائفة منهم وظفروا به فأخذوه أسيراً، فصانعهم على مال يؤديه إليهم، فأجابوه إلى إطلاقه إذا حضر المال، فأرسل في إحضاره،فمضى بعضهم إلى أبو بكر بن الداية، نائب نور الدين بحلب، فأعلمه الحال، فسير عسكراً معه، فكسبوا أولئك التركمان وجوسلين معهم، فأخذوه أسيراً وأحضروه عنده، وكان أسره من أعظم الفتوح لأنه كان شيطاناً عاتياً، شديداً على المسلمين، قاسي القلب، وأصيبت النصرانية كافة بأسره.
ولما أسر سار نور الدين إلى قلاعه فملكها، وهي تل باشر، وعين تاب، وإعزاز، وتل خالد، وقورس، والراوندان،وبرج الرصاص، وحصن البارة، وكفرسود، وكفرلاثا، ودلوك، ومرعش، ونهر الجوز، وغير ذلك من أعماله، في مدة يسيرة يرد تفصيلها.
وكان نور الدين كلما فتح منها حصناً نقل إليه من كل ما تحتاج إليه الحصون، خوفاً من نكسة تلحق بالمسلمين من الفرنج، فتكون بلادهم غير محتاجة إلى ما يمنعها من العدو؛ ومدحه الشعراء، فممن قال فيه القيسراني من قصيدة في ذكر جوسلين:
كما أهدت الأقدار للقمص أسره ... وأسعد قرن من حواه لك اسر
طغى وبغى عدواً على غلوائه ... فأوبقه الكفران عدواه والكفر
وأمست عزاز كاسمها بك عزة ... تشق على النسرين لو أنها وكر
فسر واملإ الدنيا ضياء وبهجة، ... فبالأفق الداجي إلى ذا السنة قفر
كأني بهذا العزم لا فل حده ... وأقصاه بالأقصى وقد قضي الأمر
وقد أصبح البيت المقدس طاهراً ... وليس سوى جاري الماء له طهر
ذكر حصر غرناطة والمرية من بلاد الأندلسفي هذه السنة سير عبد المؤمن جيشاً كثيفاً، نحو عشرين ألف فارس، إلى الأندلس مع أبي حفص عمر بن أبي يحيى الهنياتي، وسير معهم نساءهم، فكن يسرن مفردات عليهن البرانس السود، ليس معهن غير الخدم، ومتى قرب منهن رجل ضرب بالسياط.
فلما قطعوا الخليج ساروا إلى غرناطة وبها جمع المرابطون، فحصرها عمر وعسكره، وضيقوا عليها، فجاء إليه أحمد بن ملحان، صاحب مدينة آش وأعمالها، بجماعته، ووحدوا، وصاروا معه، وأتاهم إبراهيم ابن همشك ابن مردنيش، صاحب جيان، وأصحابه، ووحدوا، وصاروا أيضاً معه، فكثر جيشه، وحرضوه على المسارعة إلى ابن مردينش، ملك بلاد شرق الأندلس، ليبغته بالحصار قبل أن يتجهز.

فلما سمع ابن مردنيش ذلك خاف على نفسه، فأرسل إلى ملك برشلونة، من بلاد الفرنج، يخبره، ويستنجده، ويستحثه على الوصول إليه، فسار إليه الفرنجي في عشرة آلاف فارس، وسار عسكر عبد المؤمن، فوصلوا إلى حمة بلقوارة، وبينها وبين مرسية، التي هي مقر ابن مردنيش، مرحاة، فسمعوا بةصول الفرنج، فرجع وحصر مدينة المرية، وهي للفرنج، عدة شهور، فاشتد الغلاء بالعسكر، وعدمت الأقوات، فرحلوا عنها وعادوا إلى إشبيلية فأقاموا بها.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة، في ربيع الآخر، توفي العبادي الواعظ، واسمه المظفر ابن أردشير، بخوزستان، وكان الخليفة المقتفي أمر اللهقد سيره في رسالة إلى الملك محمد ابن السلطان محمود ليصلح بينه وبين الحويزي، فتوفي هناك وجلس ولده ببغداد للعزاء، وأقيم بحاجب من الديوان العزيز.
وكان يجلس ويعظ ويذكر والده ويبكي هو والناس كافة، ونقل العبادي إلى بغداد ودفن بالشويزي، ومولد سنة إحدى وتسعين وأربعمائة، وسمع الحديث من أبي بكر الشيروي، وزاهر الشحامي وغيرهما، ورواه.
وفيها انفجر بثق النهروان الذي أتمه بهروز بكثرة الزيادة في تامرا وإهمال أمرها، حتى عظم ذلك وتضرر به الناس.
وفيها سار الأمير قجق في طائفة من عسكر السلطان سنجر إلى طريثيث بخراسان، وأغار على بلاد الإسماعيلية، فنهب، وسبى وخرب، وأحرق المساكن، وفعل بهم أفاعيل عظيمة وعاد سالماً.
ثم دخلت سنة سبع وأربعين وخمسمائة
ذكر ملك عبد المؤمن بجاية وملك بني حماد
في هذه السنة سار عبد المؤمن بن علي إلى بجاية وملكها، وملك جميع ممالك بني حماد. وكان لما أراد قصدها سار من مراكش إلى سبتة سنة ست وأربعين، فأقام مدة يعمر الأسطول، ويجمع العساكر القريبة منه.
وأما ما هو على طريقه إلى بجاية من البلاد، فكتب إليهم ليتجهزوا ويكونوا على الحركة أي وقت طلبهم، والناس يظنون أنه يريد العبور إلى الأندلس، فأرسل في قطع السابلة عن بلاد شرق المغرب براً وبحراً.
وسار من سبتة في صفر سنة سبع وأربعين، فأسرع السير وطوى المراحل، والعساكر تلقاه في طريقه، فلم يشعر أهل بجاية إلا وهو في أعمالها، وكان ملكها يحيى بن العزيز بن حماد آخر ملوك بني حماد، وكان مولعاً بالصيد واللهم لا ينظر في شيء من أمور مملكته ، قد حكم فيها بني حمدون، فلما اتصل الخبر بميمون بن حمدون جمع العساكر وسار عن بجاية نحو عبد المؤمن، فلقيهم مقدمته، وهو يزيد على عشرين ألف فارس، فانهزم أهل بجاية من غير قتال، ودخلت مقدمة عبد المؤمن بجاية قبل وصول عبد المؤمن بيومين، وتفرق جميع عسكر يحيى بن عبد العزيز، وهبوا براً وبحراً، وتحصن يحيى بقلعة قسنطينة الهواء، وهرب أخواه الحارث وعبد الله إلى صقلية، ودخل عبد المؤمن بجاية، وملك جميع بلاد ابن العزيز بغير قتال.
ثم إن يحيى نزل إلى عبد المؤمن بالأمان، فأمنه، وكانيحيى قد فرح لما أخذت بلاد إفريقية من الحسن بن علي فرحاُ ظهر عليه، فكان يذمه، ويذكر معايبه، فلم تطل المدة حتى أخذت بلاده، ووصل الحسن بن علي إلى عبد المؤمن في جزائر بني مزغنان، وقد ذكرنا سنة ثلاث وأربعين سبب مصيره إليها، واجتمعا عنده، فأرسل عبد المؤمن يحيى ابن العزيز إلى بلاد المغرب، وأقام بها، وأجرى عليه شيئاً كثيراً.
وأما الحسن بن علي فإنه أحسن إليه، وألزمه صحبته، وأعلى مرتبته، فلزمه إلى أن فتح عبد المؤمن المهدية فجعله فيها، وأمر واليها أن يقتدي برأيه ويرجع إلى قوله.
ولما فتح عبد المؤمن بجاية لم يتعرض إلى مال أهلها ولا غيره، وسبب ذلك أن بني حمدون استأمنوا فوفى بأمانه.
ذكر ظفر المؤمن بصنهاجةلما ملك عبد المؤمن بجاية تجمعت صنهاجة في أمم لا يحصيها إلا الله تعالى، وتقدم عليهم رجل اسمه ابو قصبة، واجتمع معهم من كتامة ولواتة وغيرهما خلق كثير، وقصدوا حرب عبد المؤمن، فأرسل إليهم جيشاً كثيراً، ومقدمهم ابو سعيد يخلف، وهو من الخمسين، فالتقوا في عرض الجبلن شرقي بجاية، فانهزم أبو قصبة وقتل أكثر من معه، ونهبت اموالهم، وسبيت نسائهم وذراريهم.

ولما فرغوا من صنهاجة ساروا إلى قلعة بني حماد، وهي من أحصبن القلاع وأعلاها لا ترام، على رأس جبل شاهق يكاد الطرف لا يحققها لعلوها، ولكن القدر إذا جاء لا يمنع منه معقل ولا جيوش، فلما رأى أهلها عساكر الموحدين هربوا منها في رؤوس الجبال، وملكت القلعة، وأخذ جميع ما فيها من مال وغيره وحمل إلى عبد المؤمن فقسمه.
ذكر وفاة السلطان مسعود
وملك ملكشاه محمد بن محمود
في هذه السنة، أول رجب، توفي السلطان مسعود بن محمد بن ملكشاه بهمذان، وكان مرضه حمى حادة نحو أسبوع، وكان مولده سنة اثنتين وخمسمائة في ذي القعدة، ومات معه سعادة البيت الجوقي لم يقم له بعده راية يعتد بها ولا يلتفت إليها:
فما كان قيس هلكه هلك واحد ... ولكنه بنيان قوم تهدما
وكان رحمه الله حسن الأخلاق، كثير المزاح والانبساط مع الناس، فمن ذلك أن أتابك زنكي، صاحب الموصل، أرسل إليه القاضي كمال الدين محمد بن عبد الله بن القاسم الشهرزوري في رسالة، فوصل إليه وأقام معه في العسكر، فوقف يوماً على خيمة الوزير، حتى قارب أذان المغرب، فعاد إلى خيمته، فأذن المغرب وهو في الطريق، فرأى أنساناً فقيهاً في خيمة، فنزل إليه فصلى معه المغرب، ثم سأله كمال الدين من أين هو؟ فقال: أنا قاضي مدينة كذا. فقال له كمال الدين: القضاة ثلاثة قاضيان في النار، وهو أنا وأنت، وقاض في الجنة وهو من لم يعرف أبواب هؤلاء الظلمة ولا يراهم؛ فلما كان الغد أرسل السلطان وأحضر كمال الدين إليه،فلما دخل عليه ورآه ضحك وقال: القضاة ثلاثة. فقال كمال الدين: نعم يا مولانا. فقال: والله صدقت، ما أسعد من لا يرانا ولا نراه! ثم أمر أن تقضى حاجته وأعاده من يومه.وكان كريماً عفيفاً عن الأموال التي للرعايا، حسن السيرة فيهم، من أصلح السلاطين سيرة وألينهم عريكة، سهل الأخلاق لطيفاً، فمن ذلك أنه أجتاز يوماً في بعض أطراف بغداد، فسمع امرأة تقول لأخرى: تعالي انظري إلى السلطان؛ فوقف وقال: حتى تجيء هذه الست تنظر إلينا.
وله فضائل كثيرة ومناقب جمة، وكان عهد إلى ملكشاه ابن أخيه السلطان محمود، فلما توفي خطب لم الأمير خاص بك بن بلنكري بالسلطنة، ورتب الأمور، وقررها بين يديه، وأذعن له جميع العسكر بالطاعة.
ولما وصل الخبر إلى بغداد بموت السلطان مسعود هرب الشحنة بها، وهو مسعود بلال، إلى تكريت، واستظهر الخليفة المقتفي لأمر الله على داره، ودور أصحاب السلطان ببغداد، وأخذ كل ما لهم فيها، وكل من كان عنده وديعة لأحد منهم أحضرها بالديوان، وجمع الخليفة الرجال والعساكر وأكثر التجنيد، وتقدم بإراقة الخمور من مساكن أصحاب السلطان، ووجد في دار مسعود بلال، شحنة بغداد، كثير من الخمر، فأريق، ولم يكن الناس يظنون أنه شرب الخمر بعد الحج، وقبض على المؤيد الألوسي الشاعر، وعلى الحيص بيص الشاعر، ثم أطلق الحيص بيص، وأعيد عليه ما أخذ منه.
ثم إن السلطان ملكشاه سير سلار كرد في عسكر إلى الحلة، فدخلها، فسار إليه مسعود بلال ، شحنة بغداد، وأظهر له الأتفاق معه، فلما اجتمعا قبض عليه مسعود بلال وغرقه، واستبد بالحلة، فلما علم الخليفة ذلك سير العساكر إليه مع الوزير عون الدين بن هبيرة، فسار إليه، فلما قاربوا الحلة عبر مسعود بلال الفرات إليهم وقاتلهم، فانهزم من عسكر الخليفة، ونادى أهل الحلة بشعار الخليفة، فلم يدخلها، وتمت الهزيمة عليه وعلى أصحابه، فعاد إلى تكريت، وملك عسكر الخليفة الحلة، وسير الوزير عسكراً إلى الكوفة وعسكراً إلى واسط، فملكوها.
ثم إن عساكر السلطان وصلت إلى واسط، ففارقها عسكر الخليفة، فلما سمع الخليفة ذلك تجهز بنفسه وسار عن بغداد إلى واسط، ففارقها العسكر السلطاني، وملكها الخليفة، وسار منها إلى الحلة، ثم عاد إلى بغداد، فوصلها تاسع عشر ذي القعدة، وكانت غيبته خمسة وعشرين يوماً.
ثم إن خاص بك بن بلنكري قبض على الملك ملك شاه الذي خطب له بالسلطنة بعد مسعود، وأرسل إلى أخيه الملك محمد سنة ثمان وأربعين وهو بخوزستان يستدعيه، وكان قصده أن يحضر عنده فيقبضه ويخطب لنفسه بالسلطنة، فسار الملك محمد إليه، فلما وصل أجلسه على تخت السلطنة أوائل صفر، وخطب له بالسلطنة، وخدمه، وبالغ في خدمته، وحمل له هدايا عظيمة جليلة المقدار.

ثم إنه دخل الملك محمد ثاني يوم وصوله، فقتله محمد، وقتل معه زنكي الجاندار، وألقى برأسيهما، فتفرق أصحابهما، ولم ينتطح فيها عنزان، وكان إيدغدي التركماني المعروف بشملة مع خاص بك، فنهاه عن الدخول إلى الملك محمد، فلم ينته، فقتل ونجا شملة، فنهب جشير الملك محمد، ومضى طالباً خوزستان، وأخذ محمد من أموال خاص بك شيئاً كثيراً واستقر محمد في السلطنة وتمكن، وبقي خاص بك ملقى حتى أكلته الكلاب؛ وكان صبياً تركمانياً اتصل بالسلطان مسعود، فتقدم على سائر الأمراء وكان هذا خاتمة أمره.
ذكر الحرب بين نور الدين محمود والفرنجفي هذه السنة تجمعت الفرنج، وحشدت الفارس والراشد، وساروا نحو نور الدين، وهو ببلاد جوسلين، ليمنعوه عن ملكها، فوصلوا إليه وهو بدلوك، فلما قربوا منه رجع إليهم ولقيهم، وجرى المصاف بينهم عند دلوك، واقتتلوا أشد قتال رآه الناس، وصبر الفريقان، ثم انهزم الفرنج، وقتل منهم وأسر كثير، وعاد نور الدين إلى دلوك، فملكها واستولى عليها، ومما قيل في ذلك:
أعدت بعصرك هذا الأني ... ق فتوح النبي وأعصارها
فواطأت يا حبذا حديها ... وأسررت من بدر أبدارها
وكان مهاجرها تابعي ... ك وأنصار رأيك أنصارها
فجددت إسلام سلمانها ... وعمر جدك عمارها
وما يوم إنب إلا كذا ... ك بل طال بالبوع أشبارها
صدمت عزيمتها صدمة ... أذابت مع الماء أحجارها
وفي تل باشر باشرتهم ... بزحف تسور أسوارها
وإن دالكتهم دلوك فقد ... شددت فصدقت أخبارها
ذكر الحرب بين سنجر والغوريةفي هذه السنة كان بين السلطان سنجر والغورية حرب، وكانت دولتهم أول ما قد ظهرت، وأول من ملك منهم رجل أسمه الحسين بن الحسين ملك جبال الغور ومدينة فيروز كوه، وهي تقارب أعمال غزنة، وقوي أمره، وتلقب بعلاء الدين، وتعرض إلى أعمال؛ ثم جمع جيشاً عظيماً وقصد هراة محاصراً لها، فنهب عسكره ناب وأوبة ومارباج من هراة والروز، وسار إلى بلخ وحصرها، فقاتله الأمير قماج، ومعه جمع من الغز، فغدروا به، وصاروا مع الغوري فملك بلخ، فلما سمع السلطان سنجر بذلك سار إليه ليمنعه، فثبت له علاء الدين، واقتتلوا، فانهزم الغورية، وأسر علاء الدين، وقتل من الغورية خلق كثير ، لاسيما الرجالة، وأحضر السلطان سنجر علاء الدين بين يديه، وقال له يا حسين لو ظفرت بي ما كنت تفعل بي؟ فأخرج له قيد فضة وقال: كنت أقيدك بهذا وأحملك إلى فيروز كوه؛ فخلع عليه سنجر ورده إلى فيروز كوه فبقي بها مدة.
ثم إنه قصد غزنة وملكها حينئذ بهرام شاه بن إبراهيم بن مسعود بن محمود بن سبكتكين فلم يثبت بها بين يدي علاء الدين، بل فارقها إلى كرمان، وهي مدينة بين غزنة والهند وسكانها قوم يقال لهم أبغان، وليست هذه بالولاية المعروفة بكرمان. فلما فارق بهرام شاه غزنة ملكها علاء الدين الغوري، وأحسن السيرة في اهلها واستعمل عليهم أخاه سيف الدين سوري، وأجلسه على تخت المملكة، وخطب لنفسه ولأخيه سيف الدين بعده.
ثم عاد علاء الدين إلى بلد الغور، وأمر أخاه أن يخلع على أعيان البلد خلعاً نفيسة، ويصلهم بصلات سنية، ففعل ذلك وأحسن إليهم، فلما جاء الشتاء، ووقع الثلج، وعلم أهل غزنة أن الطريق قد انقطع إليهم كاتبو بهرام شاه الذي كان صاحبها،واستدعوه إليهم، فسار نحوهم في عسكره فلما قارب البلد ثار أهله على سيف الدين فأخذوه بغير قتال، وكان العلويون هم الذين تولوا أسره، وانهزم الذين كانوا معه، فمنهم من نجا ، ومنهم من أخذ، ثم إنهم سودوا وجه سيف الدين، وأركبوه بقرة وطافوا به البلد، ثم صلبوه، وقالوا فيه أشعاراً يهجونه بها وغنى بها حتى النساء

فلما بلغ الخبر إلى أخيه علاء الدين الحسين قال شعراً معناه: إن لم أقلع غزنة في مرة واحدة، فليت الحسين بن الحسين؛ ثم توفي بهرام شاه وملك بعده ابنه خسروشاه، وتجهز علاء الدين الحسين وسار إلى غزنة سنة خمسين وخمسمائة، فلما بلغ الخبر إلى خسروشاه سار عنها إلى لهاوور، وملكها علاء الدين، ونهبها ثلاثة أيام، واخذ العلويين الذين أسروا أخاه فألقاهم من رؤوس الجبال، وخرب المحلة التي صلب فيها أخوه، وأخذ النساء اللواتي قيل عنهم إنهن كن يغنين بهجاء أخيه والغورية، فأدخلهن حماماً ومنعهن من الخروج حتى متن فيه.
وأقام بغزنة حتى أصلحها، ثم عاد إلى فيروزكوه، ونقل معه من أهل غزنة خلقاً كثيراً،وحملهم المخالي مملوءة تراباً، فبنى به قلعة في فيروزكوه، وهي موجودة إلى الآن، وتلقب بالسلطان المعظم وحمل الجتر على عادة السلاطين السلجوقية، وقد تقدم سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة من أخبارهم، وفيه مخالفة لهذا في بعض الأمر، وكلا سمعناه ورأيناه في مصنفاتهم، فلهذا ذكرنا الأمرين، وأقام الحسين على ذلك مدة، واستعمل ابني أخيه، وهما غياث الدين وشهاب الدين.
ذكر ملك غياث الدين وشهاب الدين الغوريينلما قوي أمر عمهما علاء الدين الحسين بن الحسين استعمل العمال والأمراء على البلاد، وكان ابنا أخيه، وهما غياث الدين ابو الفتح محمد بن سام، وشهاب الدين أبو المظفر محمد بن شام، فيمن استعمل على بلد من بلاد الغور اسمه سنجة، وكان غياث الدين يلقب حينئذ شمس الدين، ويلقب الأخر شهاب الدين، فلما استعملهما احسنا السيرة في عملهما وعدلا، وبذلا الأموال، فمال الناس إليهما، وانتشر ذكرهما، فسعى بهما يحسدهما إلى عمهما علاء الدين، وقال: إنهما يريدان الوثوب بك، وقتلك، والاستيلاء على الملك، فأرسل عمهما يستدعيهما إليه، فامتنعا، وكانا قد بلغهما الخبر، فلما امتنعا عليه جهز إليهما عسكراً مع قائد يسمى خروش الغوري، فلما التقوا انهزم خروش ومن معه، وأسر هو، وأبقيا عليه، وأحسنا إليه، وخلعا عليه، وأظهرا عصيان عمهما وقطعا خطبته؛ فتوجه إليهما علاء الدين، وسارا هما أيضاً إليه، فالتقوا واقتتلوا قتالاً شديداً، فانهزم علاء الدين وأخذ أسيراً وانهزم عسكرهن فنادى فيهم ابنا أخيه بالأمان، فأحضرا عمهما وأجلساه على التخت، ووقفا في خدمته، فبكى علاء الدين وقال: هذان صبيان قد فعلا ما لو قدرت عليه منهما لم أفعله؛ ثم أحضر عمهما القاضي في الحال، وزوج غياث الدين بنتاً له، وجعله ولي عهده، وبقي كذلك إلى أن مات.
فلما توفي ملك غياث الدين بعده وخطب لنفسه في الغور وغزنة بالملك، وبقي كذلك إلى أن ملك الغز غزنة بعد موت علاء الدين، معوا فيها بموته، وبقيت بأيديهم خمس عشرة سنة يصبون على أهلها العذاب، ويتابعون اللم كعادتهم في كل بلدة ملكوها، ولو انهم لما ملكوا احسنوا السيرة في الرعايا لدام ملكهم، فلم يزل الغز بغزنة هذه المدة، وغياث الدين يقوي أمره، ويحسن السيرة، والناس يميلون إليه ويقصدونه.
ذكر ملك غياث الدين غزنة وما جاورهالما قوي أمر غياث الدين جهز جيشاً كثيفاً مع أخيه شهاب الدين إلى غزنة، فيه أصناف الغورية والخلج والخراسانية، فساروا إليها، فلقيهم الغز وقاتلوهم، فانهزم الغورية، وثبت شهاب الدين وسار الغز خلف المنهزمين فعطف شهاب الدين فيمن ثبت معه على صاحب علمهم فقتله وأخذ العلم، وتركه على حاله، فتراجع الغز، ولم يكونوا علموا ماكان من شهاب الدين، فجاؤوا يطلبون علمهم، فكلما جاء إليه طائفة قتلهم، فأتى على أكثرهم، ودخل غزنة وتسلمها واحسن السيرة في أهلها وأفاض العدل.
وسار من غزنة إلى كرمان وشنوران فملكهما، ثم تعدى إلى ماء السند وعمل على العبور إلى بلد الهند، وقصد لهاوور، وبها يومئذ خسروشاه ابن بهرام شاه المقدم ذكر والده؛ فلما سمع خسروشاه بذلك سار فيمن معه إلى ماء السند، فمنعه من العبور، فرجع عنه وقصد خرشابور فملكها وما يليها من جبال الهند، وأعمال الأبغان، والله أعلم.
ذكر ملك شهاب الدين لهاوور

لما ملك شهاب الدين جبال الهند قوي أمره وجنانه، وعظمت هيبته في قلوب الناس، وأحبوه لحسن سيرته، فلما خرج الشتاء، وأقبل الربيع من سنة تسع وسبعين وخمسمائة، سار نحو لهاوور في جمع عظيم، وحشد كثير من خراسان والغور وغيرهما، فعبر إلى لهاوور وحصرها، وأرسل إلى صاحبها خسروشاه وإلى أهلها يتهددهم إن منعوه، وأعلمهم أنه لايزول حتى يملك البلد، وبذل لخسروشاه الأمان على نفسه وأهله وماله، ومن الأقطاع ما أراد، وأن يزوج ابنته بابن خسروشاه على أن يطأ بساطه ويخطب لأخيه، فامتنع عليهن وأقام شهاب الدين محاصراً له، مضيقاً عليه، فلما رأى أهل البلد والعسكر ذلك ضعفت نياتهم في نصرة صاحبهم، فخذلوه،فأرسل لما رأى ذلك القاضي والخطيب يطلبان له الأمان، فأجابه شهاب الدين إلى ذلك وحلف له، وخرج إليه، ودخل الغورية إلى المدينة، وبقي كذلك شهرين مكرماً عند شهاب الدين، فورد رسول من غياث الدين إلى شهاب الدين يامره بإنفاذ خسروشاه إليه.
ذكر انقراض دولة سبكتكينلما أنفذ غياث الدين إلى أخيه شهاب الدين يطلب إنفاذ خسروشاه إليه أمره شهاب الدين بالتجهيز والمسير، فقال: أنا لا أعرف أخاك، ولا لي حديث إلا معك، ولا يمين إلا في عنقك، فمناه وطيب قلبه، وجهزه وسيره وسير معه ولده، وأصحبهما جيشاً يحفظونهما، فسارا كارهين؛ فلما بلغا فرشابور خرج أهلها إليهما يبكون ويدعون لهما، فزجرهم الموكلون بهما، وقالوا: سلطان يزور سلطان أخر، لأي شيء تبكون؟ وضربوهم فعادوا، وخرج ولد خطيبها إلى خسروشاه عن أبيه متوجعاً له، قال: فلما دخلت عليه أعلمته رسالة أبي، وقلت: أنه قد اعتزل الخطابة، ولا حاجة به إلى خدمة غيركم. فقال لي : سلم عليه. وأعطاني فرجية فوطاً ومصلى من عمل الصوفية، وقال: هذه تذكرة ابيه عند أبي، فسلمها إليه وقل له: در مع الدهر كيف دار؛ وأنشد بلسان فصيح:
وليس كعهد الدار يا أم مالك ... ولكن أحاطت بالرقاب السلاسل
قال: فانصرفت إلى أبي وعرفته الحال، فبكى، وقال: قد أيقن الرجل بالهلاك، ثم رحلوا. فلما بلغوا بلد الغور لم يجتمع بهما غياث الدين بل أمر بهما فرفعا إلى بعض القلاع، فكان آخر العهد بهما.
وهو آخر ملوك آل سبكتكين، وكان ابتداء دولتهم سنة ست وستين وثلاثمائة، فتكون مدة ولايتهم مائتي سنة وثلاث عشرة سنة تقريباً. وكان ملوكهم من أحسن الملوك سيرة، ولا سيما جده محمود، فإن آثاره في الجهاد معروفة، وأعماله للآخرة مشهورة:
لو كان يقعد فوق الشمس من كرم ... قوم بأولهم أو مجدهم قعدوا
فتبارك الذي لا يزول ملكه، ولا تغيره الدهور، فأف لهذه الدنيا الدنية، وكيف تفعل هذا بأبنائها؛ نسأل الله تعالى أن يكشف عن قلوبنا حتى نراها بعين الحقيقة، وأن يقبل بنا إليه، وأن يشغلنا به عما سواه، إنه على كل شيء قدير.
هكذا ذكر بعض فضلاء خراسان أن خسروشاه آخر ملوك آل سبكتكين،وقد ذكر غيره أنه توفي في الملك، وملك بعده ابنه ملكشاه. وسنذكره في سنة تسع وخمسين وخمسمائة، وبالجملة فابتداء دولة الغورية عندي فيه خلف لو ينكشف الحق فأصلحه إن شاء الله تعالى.
ذكر الخطبة لغياث الدين بالسلطنةلما استقر ملكهم بلهاوور واتسعت مملكتهم وكثرت عساكرهم وأمالهم كتب غياث الدين إلى أخيه شهاب الدين، فتلقب غياث الدين والدنيا معين الإسلام قسيم أمر المؤمنين؛ ولقب أخاه معز الدين، ففعل شهاب الدين ذلك وخطب له بالسلطنة.
ذكر ملك غياث الدين هراة
وغيرها من خراسان
لما فرغ شهاب الدين من إصلاح أمر لهاوور وتقرير قواعدها، سار إلى أخيه غياث الدين، فلما اجتمع به استقر رأيهما على المسير إلى خراسان وقصد مدينة هراة ومحاصرتها، فسارا في العساكر الكثيرة إليها، وكان بها جماعة من الأتراك السنجرية، فنازلا البلد وحصراه، وضيقا على من به، فاستسلموا إليهما، وأرسلوا يطلبون الأمان منهما، فأجاباهم إلى ذلك وأمناهم، فتسلما البل

وأخرجا من به من الأمراء السنجرية، واستناب فيه غياث الدين خزنك الغوري، وسار غياث الدين وأخوه إلى فوشنج فملكاها، ثم إلى باذغيس وكالين وبيوار فملكاها أيضاً، وتسلم ذلك جميعه غياث الدين وأحسن السيرة في أهل البلاد، ورجع إلى فيروزكوه، ورجع شهاب الدين إلى غزنة، وكان ينبغي أن حوادث الغورية تذكر بالسنين، وإنما جمعناها ليتلو بعضها بعضاً ولأن فيه ما لم يعرف تاريخه فتركناه بحاله.
ذكر ملك شهاب الدين مدينة آجرةلما رجع شهاب الدين من خراسان إلى غزنة أقام بها حتى أراح واستراح هو وعساكره، ثم سار إلى بلد الهند، فحاصر مدينة آجرة، وبها ملك من ملوك الهند، فلم يظفر منه بطائل، وكان للهندي زوجة غالبة على أمره، فراسلها شهاب الدين أنه يتزوجها، فأعادت الجواب أنها لا تصلح له، وأن لها ابنة جميلة تزوجه إياها، فأرسل إليها يجيبها إلى التزوج بابنتها، فسقت زوجها سماً فمات وسلمت البلد إليه.
فلما أخذ الصبية فأسلمت، وتزوجها وحماها إلى غزنة، وأجرى عليها الجرايات الوافرة، ووكل بها من علمها القرآن، وتشاغل عنها، فتوفيت والدتها، ثم توفيت هي بعد عشر سنين، ولم يرها ولم يقربها، فبنى لها مشهداً ودفنها فيه، وأهل غزنة يزورون قبرها.
ثم عاد إلى بلد الهند، فذل له صعابها، وتيسر له فتح الكثير من بلادهم، ودوخ ملوكهم، وبلغ منه ما لم يبلغه أحد قبله من ملوك المسلمين.
ذكر ظفر الهند على المسلمينلما اشتدت نكاية شهاب الدين في بلاد الهند وإثخانه في أهلها واستيلائه عليها، اجتمع ملوكهو وتآمروا بينهم، ووبخ بعضهم بعضاً، فاتفق رأيهم على الاجتماع والتعاضد على حربه، فجمعوا عساكرهم وحشدوا، وأقبل إليهم الهنود من كل فج عميق على الصعب والذلول، وجاؤوا بحدهم وحديدهم، وكان الحاكم على جميع الملوك المجتمعين امرأة هي من أكبر ملوكهم.
فلما سمع باجتماعهم ومسيرهم إليه تقدم هو إليهم في عسكر عظيم من الغورية والخلج والخراسانية وغيرهم، فالتقوا واقتتلوا، فلم يكن بينهم كثير قتال حتى انهزم المسلمون وركبهم الهنود يقتلون ويأسرون، وأثخنوا فيهم، وأصاب شهاب الدين ضربة بطلت منها يده اليسرى، وضربة أخرى على رأسه سقط منها على الأرض، وحجز الليل بين الفريقين، فأحس شهاب الدين جماعة من غلمانه الأتراك في ظلمة الليل وهم يطلبونه في القتلى ويبكون، وقد رجع الهنود إلى ورائهم، وكلمهم وهو على ما به من الجند، فجاؤوا إليه مسرعين، وحملوه على رؤوسهم رجالة يتناوبون حماه، حتى بلغوا مدينة آجرة مع الصباح.
وشاع خبر سلامته في الناس، فجاؤوا إليه يهنئونه من أقطار البلاد، فأول ما عمل أنه أخذ أمراؤهم وسألوه أن يكف عنهم، ويتركهم في مراعيهم، ويعطونه من كل بيت مائتي درهم فضة، فلم يجبهم إلى ذلك وشدد عليهم في الأنتزاح عن بلده، فعادوا عنه، واجتمعوا وقاتلوه، فانهزم قماج ونهبوا ماله ومال عسكره، وأكثروا القتل في العسكر والرعايا، واسترقوا النساء والأطفال، وعملوا كل عظيمة ، وقتلوا الفقهاء وخربوا المدارس.

وانتهت الهزيمة بقماج إلى مرو، وبها السلطان سنجر، فأعلمه الحال، فراسلهم سنجر ، يتهددهم، فأمرهم بمفارقة بلاده، فاعتذروا، وبذلوا بذلاً كثيراً ليكف عنهم ويتركهم في مراعيهم، فلم يجبهم إلى ذلك، وجمع عسلكره من أطراف البلاد، واجتمع معه ما يزيد على مائة ألف فارس، وقصدهم ووقع بينهم حرب شديدة، فانهزمت عساكر سنجر، وانهزم هو أيضاً، وتبعهم الغز قتلاً وأسراً، فصار قتلى العسكر كالتلال، وقتل علاء الدين قماج، وأسر السلطان سنجر، وأسر معه جماعة من الأمراء، فأما الأمراء فضربوا أعناقهم، وأما السلطان سنجر، فإن أمراء الغز اجتمعوا، وقبلوا الأرض بين يديه، وقالوا : نحن عبيدك لا نخرج عن طاعتك، فقد علمنا أنك لا ترد قتالنا، وإنما حملت عليه، فأنت السلطان ونحن العبيد؛ فمضى على ذلك شهران، أو ثلاثة، ودخلوا معه إلى مرو وهي كرسي ملك خراسان، وطلبها منه بختيار إقطاعاً، فقال السلطان: هذه دار الملك ولا يجوز أن تكون إقطاعاً لأحد. فضحكوا منه وحبق له بختيار بفمه، فلما رأى ذلك نزل عن سرير الملك ودخل خانكاه مرو وتاب عن الملك.واستولى الغز على البلاد، وظهر منهم من الجور ما لم يسمع بمثله، وولوا على نيسابور والياً، فقسط على الناس كثيراً وعصفهم وضربهم، وعلق في الأسواق ثلاث غرائر، وقال: أريد ملء هذه ذهباً، فثار عليه العامة وقتلوه ومن معه، فركب الغز ودخلوا نيسابور ونهبوها نهباً مجحفاً، وجعلوها قاعاً صفصفاً، وقتلوا الكبار والصغار وأحرقوها، وقتلوا القضاة والعلماء في البلاد كلها، فممن قتل الحسين بن محمد الأرسابندي، والقاضي علي بن مسعود، والشيخ محمد بن يحيى، وأكثر الشعراء في مراثي محمد بن يحيى فممن قال فيه علي بن إبراهيم الكاتب:
مضى الذي كان يجنى الدر من فيه ... يسيل بالفضل والإفضال واديه
مضى ابن يحيىالذي قد كان صوب حياً ... لأبرشهر ومصباحاً لداجيه
خلا خراسان من علم ومن ورع ... لما نعاه إلى الآفاق ناعيه
لما أماتوه مات الدين واأسفاً ... من ذا الذي بعد محي الدين يحييه
ويتعذر وصف ما جرى منهم على تلك البلاد جميعها، ولم يسلم من خراسان شيء لم تنهبه الغز غير هراة ودهستان لأنها كانت حصينة فامتنعت.
وقد ذكر بعض مؤرخي خراسان من أخبارهم ما فيه زيادة وضوح فقال: إن هؤلاء الغز قوم انتقلوا من ضواحي الثغر من أقاصي الترك إلى ما وراء النهر في أيام المهدي، وأسلموا واستنصر بهم المقنع صاحب المخاريق والشعبذة، حتى تم أمره، فلما سارت العساكر إليه خذله الغز وأسلموه، وهذه عادتهم في كل دولة كانوا فيها؛ وفعلوا مثل ذلك مع الملوك الخاقانية، إلا أن الأتراك القارغلية قمعوهم، وطردوهم عن أوطانهم، فجعاهم الأمير زنكي بن خليفة الشيباني المستولي على حدود طخارستان إليه، وأنزلهم بلاده، وكانت بينه وبين الأمير قماج عداوة أحكمتها الأيام للمجاورة التي بينهما، وكل منهما يريد أن يعلو على الآخر ويحكم عليه، فتقوى بهم زنكي، وساروا معه إلى بلخ لمحاربة قماج، فكاتبهم قماج، فمالوا إليه، وخذلوا زنكي عند الحرب، فأخذ زنكي وابنه أسيرين، فقتل قماج ابن زنكي، وجعل يطعم أباه لحمه، ثم قتل الأب أيضاً، وأقطع قماج الغز مواضع، وأباحهم مراعي بلاده.
فلما قام الحسين بن الحسين الغوري بغزنة وقصد بلخ خرج إليه قماج وعساكره ومعه الغز، ففارقه الغز وانضموا إلى الغوري حتى ملك مدينة بلخ، فسار السلطان سنجر إلى بلخ، ففارقها الغوري بعد قتال وانهزم منه، ثم دخل على السلطان سنجر لعجزه عن مقاومته، فرده إلى غزنة.
وبقي الغز بنواحي طخارستان وفي نفس قماج منهم الغيظ العظيم لما فعلوه معهن فأراد صرفهم عن بلاده، فتجمعوا، وانضم إليهم طوائف من الترك، وقدموا عليهم أرسلان بوقا التركي، فجمع قماج عسكره ولقيهم فاقتتلوا يوماً كاملاً إلى الليل، فانهزم قماج وعسكره، وأسر هو وابنه بكر، فقتلوهما، واستولوا على نواحي بلخ، وعاثوا فيها وافسدوا بالنهب والقتل والسلب.

وبلغ السلطان سنجر الخبر، فجمع عساكره وسار إليهم، فراسلوه يعتذرون ويتنصلون، فلم يقبل عذرهم، ووصل إليهم مقدمة السلطان، وفيها محمد بن أبي بكر بن قماج المقتول، والمؤيد أي أبه في المحرم من سنة ثمان وأربعين وخمسمائة، ووصل بعدهم السلطان سنجر، فالتقاه الغز بعد أن أرسلوا يعتذرون ويبذلون الأموال والطاعة والانقياد إلى كل ما يؤمرون به، فلم يقبل سنجر ذلك منهم، وسار إليهم، فلقوه وقاتلوه وصبروا له، ودام قتالهم، فانهزم عسكر سنجر وهو معهم، فتوجهوا إلى بلخ على أقبح صورة،وتبعهم الغز، واقتتلوا ثانية، فانهزم السلطان سنجر أيضاً، ومضى منهزماً إلى مرو في صفر من السنة، فقصد الغز إليها، فلما سمع أمراء الغورية الذين انهزموا عنه وأسلموه، فملأ مخالي خيلهم شعيراً، وحاف لئن لم يأكلوه ليضربن أعناقهم، فأكلوه ضرورة.
وبلغ الخبر إلى أخيه غياث الدين فكتب إليه يلومه على عجلته وإقدامه وانفذ إليه جيشاً عظيماً.
ذكر ظفر المسلمين بالهندلما سلم شهاب الدين وعاد إلى آجرة، وأتاه المدد من أخيه غياث الدين، عاد الهنود فجددوا سلاحهم، ووفروا جمعهم، وأقاموا عوض من قتل منهم، وسارت ملكتهم وهم معها في عدد يضيق عنه الفضاء، فراسلها شهاب الدين يخدعها بأنه يتزوجها، فلم تجبه إلى ذلك، وقالت: إما الحرب وإما أن تسلم بلاد الهند وتعود إلى غزنة؛ فأجابها إلى العود إلى غزنة، وأنه يستأذن أخاه غياث الدين فعل ذلك مكراً وخديعة.
وكان بين العسكرين نهر، وقد حفظ الهنود المخاضات، فلا يقدر أحد من المسلمين أن يجوزه، وأقاموا ينتظرون ما يكون من جواب غياث الدين بزعمهم، فبينما هم كذلك إذ وصل إنسان هندي إلى شهاب الدين وأعلمه بأنه يعرف مخاضاً قريباً من عسكر الهنود، وطلب أن يحضر جيشاً يعبرهم المخاض، ويكسبون الهنود وهم غارون غافلون، فخاف شهاب الدين أن تكون خديعة ومكراً، فأقام له ضمناء من أهل آجرة والمولتان، فأرسل معه جيشاً كثيفاً ، وجعل عليهم الأمير الحسين بن خرميل الغوري، وهو الذي صار بعد صاحب هراة، وكان من الشجاعة والرأي بالمنزلة المشهورة.
فسار الجيش مع الهندي، فعبروا النهر، فلم يشعر الهنود إلا وقد خالطهم المسلمون ووضعوا السيف فيهم، فاشتغل الموكلون بحفظ المخاضات، فعبر شهاب الدين وباقي العساكر، وأحاطوا بالهنود، وأكثروا القتل فيهم، ونادوا بشعار الإسلام، فلم ينج من الهنود إلا من عجز المسلمون عن قتله وأسره، وقتلت ملكتهم، وتمكن شهاب الدين بعد هذه الوقعة من بلاد الهند، وأمن معرة فسادهم، والتزموا له بالأموال وسلموا الرهائن وصالحوه، وأقطع مملوكه قطب الدين أيبك مدينة دهلي، وهي كرسي الممالك التي فتحها من الهند، فأرسل عسكراً من الخلج مع محمد بن بختيار، فملكوا من بلاد الهند مواضع ما وصل إليها مسلم قبله، حتى قاربوا حدود الصين من جهة المشرق.
وقد حدثني صديق لي من التجار بوقعتين تشبهان هاتين الوقعتين المذكورتين وبينهما بعض الخلاف، وقد ذكرناهما سنة ثمان وثمانين وخمسمائة.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة توفي يعقوب الكاتب ببغداد، وكان يسكن بالمدرسة النظامية، وحضر متولي المتروكات وختم على الغرفة التي كان يسكنها بالمدرسة، فثار الفقهاء وضربوا المتولي وأخذوا التركة، وهذه عادتهم فيمن يموت بها وليس له وارث، فقبض حاجب الباب على رجلين من الفقهاء وعاقبهما، وحبسهما، فأغلق الفقهاء المدرسة، وألقوا كرسي الوعاظ في الطريق، وصعدوا سطح المدرسة ليلاً، واستغاثوا وتركوا الأدب.
وكان حينئذ مدرسهم الشيخ أبا النجيب، فجاء وألقى نفسه تحت التاج يعتذر، فعفي عنه.
وفيها توفي حام الدين تمرتاش صاحب ماردين وميافارقين، وكانت ولايته نيفاً وثلاثين سنة، وتولى بعده ابنه نجم الدين البي.
وفيها مات أبو الفضل محمد بن عمر بن يوسف الأرموي الشافعي المحدث، ومولده سنة تسع وخمسين وأربعمائة.
وفيها توفي أبو الأسعد عبد الرحمن القشيري في شوال، وهو شيخ شيوخ خراسان.
وفيها، في المحرم باض ديك ببغداد بيضة.
ثم دخلت سنة ثمان وأربعين وخمسمائة
ذكر انهزام سنجر من الغز
ونهبهم خراسان وما كان منهم

في هذه السنة، في المحرم، انهزم السلطان سنجر من الأتراك الغز، وهم طائفة من الترك مسلمون، كانوا بما وراء النهر، فلما ملك الخطا أخرجوهم منه، كما ذكرنا، فقصدوا خراسان وكانوا خلقاً كثيراً، فأقاموا بنواحي بلخ يرعون في مراعيها، وكان لهم أمراء اسم أحدهم دينار، والآخر بختيار، والآخر طوطى، والآخر جغر، والآخر محمود، فأراد الأمير قماج وهو مقطع بلخ، إبعادهم، فصانعوه بشيء بذلوه له، فعاد عنهم، فأقاموا على حالة حسنة لا يؤذون أحداً، ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة.
ثم إن قماج عاودهم وأمرهم بالانتقال عن بلده، فامتنعوا، وانضم بعضهم إلى بعض، واجتمع معهم غيرهم من طوائف الترك، فسار قماج إليهم في عشرة آلاف فارس، فجاء إليه العسكر الخراساني بقربهم منهم أجفلوا من بين يديه هاربين لما دخل قلوبهم من خوفهم والرعب منهم؛ فلما فارقها السلطان والعسكر دخلها الغز ونهبوها أفحش نهب وأقبحه، وذلك في جمادى الأولى من السنة، وقتل بها كثير من أهلها وأعيانها، منهم قاضي القضاة الحسن بن محمد الأرسابندي، والقاضي علي بن مسعود وغيرهما من الأئمة والعلماء.
ولما خرج سنجر من مرو قصد اندرابة وأخذه الغز أسيراً، وأجلسوه على تخت السلطنة على عادته، وقاموا بين يديه، وبذلوا له الطاعة، ثم عاودوا الغارة على مرو في رجب من السنة، فمنعهم أهلها،وقاتلوهم قتالاً بذلوا فيه جهدهم وطاقتهم، ثم إنهم عجزوا، فاستسلموا إليهم، فنهبوها أقبح من النهب الأول ولم يتركوا بها شيئاً.
وكان قد فارق سنجر جميع أمراء خراسان ووزيره طاهر بن فخر الملك ابن نظام الملك، ولم يبق عنده غير نفر يسير من خواصه وخدمه؛ فلما وصلوا إلى نيسابور أحضروا الملك سليمان شاه ابن السلطان محمد، فوصل إلى نيسابور تاسع عشر من جمادى الآخرة من السنة، فاجتمعوا عليه، وخطبوا له بالسلطنة، وسار في هذا الشهر جماعة من العسكر السلطاني إلى طائفة كثيرة من الغز ، فأوقعوا بهم، وقتلوا منهم كثيراً، وانهزم الباقون إلى أمرائهم الغزية فاجتمعوا معهم.
ولما اجتمعت العساكر على الملك سليمان شاه ساروا إلى مرو يطلبون الغز، فبرز الغز إليهم، فساعة رآهم العسكر الخراساني انهزموا وولوا على أدبارهم، وقصدوا نيسابور، وتبعهم الغز، فمروا بطوس، وهي معدن العلماء والزهاد فنهبوها، وسبوا نسائها، وقتلوا رجالها، وخربوا مساجدها ومساكن أهلها، ولم يسلم من جميع ولاية طوس إلا البلد الذي فيه مشهد علي بن موسى الرضي، ومواضع أخر لها اسوار.
وممن قتل من أعيان أهلها محمد المارشكي، ونقيب العلويين بها علي الموسوي، وخطيبها إسماعيل بن المحسن، وشيخ شيوخها محمد بن محمد، وأفنوا من بها من الشيوخ الصالحين، وساروا منها إلى نيسابور، فوصلوا إليها في شوال سنة تسع وأربعين، ولم يجدوا دونها مانعاً ولا مدافعاً، فنهبوها نهباً ذريعاً ، وقتلوا أهلها، فأكثروا حتى ظنوا انهم لم يبقوا بها أحداً، حتى إنه أحصي في محلتين خمسة عشر ألف قتيل من الرجال دون النساء والصبيان، وسبوا نسائها وأطفالها، وأخذوا أموالهم، وبقي القتلى في الدروب كالتلال بعضهم فوق بعض، واجتمع أكثر أهلها بالجامع المنيعي وتحصنوا به، فحصرهم الغز فعجز أهل نيسابور عن منعهم، فدخل الغز إليهم فقتلوهم عن آخرهم، وكانوا يطلبون من الرجل المال، فإذا أعطاهم الرجل ماله قتلوه، وقتلوا كثيراً من أئمة العلماء والصالحين، منهم محمد بن يحيى الفقيه الشافعي الذي لم يكن في زمانه مثله، كان رحلة الناس من أقصى الغرب والشرق إليه، ورثاه جماعة من العلماء، منهم أبو الحسن علي بن أبي القاسم البيهقي فقال:
ياسافكاً دم عالم متبحر ... قد طار أقصى في الممالك صيته
بالله قل يا ظلوم ولا تخف ... من كان يحيي الدين كيف تميته

ومنهم الزاهد عبد الرحمن بن عبد الصمد الأكاف، وأحمد بن الحسين الكاتب سبط القشيري، وأبو البركات الفراوي، والإمام علي الصباغ المتكلم، وأحمد بن محمد بن حامد، وعبد الهاب الملقاباذي، والقاضي صاعد بن عبد المل
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://arabelalekat.yoo7.com
الشيخ عودة
الشيخ عودة
الشيخ عودة



عدد المساهمات : 1748
تاريخ التسجيل : 28/09/2008
العمر : 74

كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير - صفحة 7 Empty
مُساهمةموضوع: رد: كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير   كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير - صفحة 7 Emptyالخميس فبراير 27, 2014 6:23 am

ووزارة عباس
في هذه السنة، وفي المحرم، قتل العادل بن السلار وزير الظافر بالله، قتله ربيبه عباس بن أبي الفتوح بن يحيى الصنهاجي، وأشار عليه بذلك الأمير أسامة بن منقذ، ووافق عليه الخليفة الظافر بالله، فأمر ولده نصراً، فدخل على العادل وهو عند جدته أم عباس، فقتله وولي الوزارة بعده ربيبه عباس.

وكان عباس قد قدم من المغرب، كما ذكرناه، إلى مصر، وتعلم الخياطة، وكان خياطاً حسناً، فلما تزوج ابن السلار بأمه أحبه، وأحسن تربيته، فجازاه بأن قتله وولي بعده.
وكانت الوزارة في مصر لمن غلب، والخلفاء من وراء الحجاب، والوزراء كالمتملكين، وقل أن وليها أحد بعد الأفضل إلا بحرب وقتل وشاكل ذلك، فلذلك ذكرناهم في تراجم مفردة، والله أعلم.
ذكر الحرب بين العرب وعساكر عبد المؤمنفي هذه السنة، في صفر، كانت الحرب بين عسكر عبد المؤمن والعرب عند مدينة سطيف.
وسبب ذلك أن العرب، وهم بنو هلال والأبتح وعدي ورياح وزغب، وغيرهم من العرب، لما ملك عبد المؤمن بلاد حماد اجتمعوا من أرض طرابلس إلى أقصى المغرب، وقالوا: إن جاورنا عبد المؤمن أجلانا من المغرب، وليس الرأي إلا إلقاء الجد معه، وإخراجه من البلاد قبل أن يتمكن.
وتحالفوا على التعاون والتضافر، وأن لا يخون بعضهم بعضاً، وعزموا على لقائه بالرجال والأهل والمال ليقاتلوا قتال الحريم.
واتصل الخبر بالملك رجار الفرنجي، صاحب صقلية، فأرسل إلى أمراء العرب، وهم محرز بن زياد، وجبارة بن كامل، وحسن بن ثعلب، وعيسى ابن حسن وغيرهم، يحثهم على لقاء عبد المؤمن ويعرض عليهم أن يرسل إليهم خمسة آلف فارس من الفرنج يقاتلون معهم على شرط أن يرسلوا إليه الرهائن؛ فشكروه وقالوا: ما بنا حاجة إلى نجدته ولا نستعين بغير المسلمين.
وساروا في عدد لا يحصى، وكان عبد المؤمن قد رحل من بجاية إلى بلاد المغرب، فلما بلغه خبرهم جهز جيشاً من الموحدين يزيد على ثلاثين ألف فارس، واستعمل عليهم عبد الله بن عمر الهنتاني، وسعد الله بن يحيى، وكان العرب أضعافهم، فاستجرهم الموحدون وتبعهم العرب إلى أن وصلوا إلى أرض سطيف، بين جبال، فحمل عليهم جيش عبد المؤمن فجاءه والعرب على غير أهبة، والتقى الجمعان، واقتتلوا أشد قتال وأعظمه، فانجلت المعركة عن انهزام العرب ونصرة الموحدين.
وترك العرب جميع ما لهم من أهل ومال وأثاث ونعم، فأخذ الموحدون جميع ذلك، وعاد الجيش إلى عبد المؤمن بجميعه، فقسم جميع الأموال على عسكره، وترك النساء والأولاد تحت الاحتياط، وكل بهم من الخدم الخصيان من يخدمهم ويقوم بحوائجهم، وأمر بصيانتهم، فلما وصلوا معه إلى مراكش أنزلهم في المساكن الفسيحة، وأجرى لهم النفقات الواسعة، وأمر عبد المؤمن ابنه محمداً أن يكاتب أمراء العرب ويعلمهم أن نسائهم تحت الحفظ والصيانة، وأمرهم أن يحضروا ليسلم إليهم أبوه ذلك جميعه، وأنه قد بذل لهم الأمان والكرامة.
فلما وصل كتاب محمد إلى العرب سارعوا إلى المسير إلى مراكش، فلما وصلوا إليها أعطاهم عبد المؤمن نسائهم وأولادهم وأحسن إليهم وأعطاهم أموالاً جزيلة، فاسترق قلوبهم بذلك، وأقاموا عنده، وكان بهم حفياً، واستعان بهم على ولاية أبنه محمد للعهد، على ما نذكره سنة إحدى وخمسين.
ذكر ملك الفرنج مدينة بونة وموت رجار وملك ابنه غليالمفي هذه السنة سار أسطول رجار ملك الفرنج بصقلية إلى مدينة بونة، وكان المقدم عليهم فتاه فيلب المهدوي فحصرها واستعان بالعرب عليها، فأخذها في رجب، وسبى أهلها، وملك ما فيها، غير أنه أغضى عن جماعة من العلماء والصالحين، حتى خرجوا بأهليهم وأموالهم إلى القرى، فأقام بها عشرة أيام، وعاد إلى المهدية وبعض الأسرى معه، وعاد إلى صقلية فقبض رجار عليه لما اعتمده من الرفق بالمسلمين في بونة.
وكان فيلب، يقال أنه وجميع فتيانه مسلمون، يكتمونه ذلك، وشهدوا عليه أنه لا يصوم مع الملك، وأنه مسلم، فجمع رجار الأساقفة والقسوس والفرسان، فحكموا بأن يحرق، فأحرق في رمضان، وهذا أول وهن دخل على المسلمين بصقلية. ولم يمهل الله رجار بعده إلا يسيراً حتى مات في العشر الأول من ذي الحجة من السنة، وكان مرضه الخوانيق، وكان عمره قريب ثمانين سنة، وكان ملكه نحو ستين سنة؛ ولما مات ملك بعده ابنه غليالم، وكان فاسد التدبير سيء التصوير، فاستوزر مايو البرصاني، فأساء التدبير، فاختلفت عليه حصون من جزيرة صقلية، وبلاد فلورية، وتعدى الأمر إلى إفريقية على ما نذكره.
ذكر وفاة بهرام شاه صاحب غزنة

في هذه السنة، في رجب ، توفي السلطان بهرام شاه بن مسعود بن إبراهيم أبن مسعود بن محمود بن سبكتكين صاحب غزنة بها ، وقام بل ملك بعده ولد نظام الدين خسرو شاه ، وكانت ولاية بهرام شاه ستا وثلاثين سنة ، وكان عادلاً، حسن السيرة ، جميل الطريقة، محباً للعلماء، مكرماً لهم، باذلاً لهم الأموال الكثيرة ، جامعاً للكتب تقرأ بين يديه، ويفهم مضمونها؛ ولما مات ملك ولده خسروشاه.
ذكر ملك الفرنج مدينة عسقلانفي هذه السنة ملك الفرنج بالشام مدينة عسقلان، وكانت من جملة مملكة الظافر بالله العلوي المصري، وكان الفرنج كل سنة يقصدونها ويحصرونها، فلا يجدون إلى ملكها سبيلاً، وكان الوزراء بمصر لهم الحكم في البلاد،والخلفاء معهم اسم لا معنى تحته، وكان الوزراء كل سنة يرسلون إليها الذخائر والأسلحة والأموال والرجال من يقوم بحفظها، فلما كان في هذه السنة قتل ابن السلار الوزير، على ما ذكرناه، واختلفت الأهواء في مصر، وولي عباس الوزارة، إلى أن استقرت قاعدة، اغتنم الفرنج اشتغالهم عن عسقلان، فاجتمعوا وحصروها، فصبر أهلها، وقاتلوهم قتالاً شديداً، حتى إنهم بعض الأيام قاتلوا خارج السور، وردوا الفرنج إلى خيامهم مقهورين، وتبعهم أهل البلد إليها فأيس حينئذ الفرنج من ملكه.
فبينما هم على عزم الرحيل إذ أتاهم الخبر ان الخلف قد وقع بين أهله، وقتل بينهم قتلى، فصبروا؛ وكان سبب هذا الاختلاف أنهم لما عادوا عن قتال الفرنج قاهرين منصورين، أدعت كل طائفة منهم أن النصرة من جهتهم كانت، وأنهم هم الذين ردوا الفرنج خاسرين، فعظم الخصام بينهم إلى أن قتل من إحدى الطائفتين قتيل، واشتد الخطب حينئذ، وتفاقم الشر، ووقعت الحرب بينهم، فقتل بينهم قتلى، فطمع الفرنج، وزحفوا إليه وقاتلوهم عليه، فلم يجدوا من يمنعهم فملكوه.
ذكر حصر عسكر الخليفة تكريت وعودهم عنهافي هذه السنة سير الخليفة المقتفي لأمر الله عسكراً إلى تكريت ليحصروها، وأرسل معهم مقدماً عليهم أبا البدر ابن الوزير عون الدين بن هبيرة وترشك، وهو من خواص الخليفة،وغيرهما ، فجرى بين أبي البدر وترشك منافرة أوجبت أن كتب ابن الوزير يشكو من ترشك ، فأمر الخليفة بالقبض على ترشك ، فعرف ذلك ، فأرسل إلى مسعود بلال ، صاحب تكريت ، وصالحه وقبض على ابن الوزير ومن معه من المتقدمين ، وسلمهم إلى مسعود بلال فانهزم العسكر وغرق منه كثير وسار مسعود بلال وترشك من تكريت إلى طريق خراسان فنهبا وأفسدا ، فسار المقتفي عن بغداد لدفعهما، فهربا من بين يديه، فقصد تكريت، فحصرها أياماً وجرى له مع أهلها حروب من وراء السور، فقتل من العسكر جماعة بالنشاب، فعاد الخليفة عنها، ولم يملكها.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة وصلت مراكب من صقلية، فيها جمع من الفرنج، فنهبوا مدينة تنيس بالديار المصرية.
وفيها كان بين الكرج بأرمينية وبين صليق، صاحب أرزن الروم، مصاف وحرب شديدة، وانهزم صليق وأسره الكرخ ثم أطلقوه.
وفيها توفي أبو العباس أحمد بن أبي غالب الوراق المعروف بابن الطلاية الزاهد البغدادي بها، وكان من الصاحين، وله حديث ورواية.
وتوفي عبد الملك بن عبد الله بن أبي سهل أبو الفتح بن أبي القاسم الكروخي الهروي، راوي جامع الترمذي، ومولده سنة اثنتين وستين وأربعمائة، وتفي ببغداد في ذي الحجة.
ثم دخلت سنة تسع وأربعين وخمسمائة
ذكر قتل الظافر وخلافة ابنه الفائز
في هذه السنة، في المحرم، قتل الظاهر بالله أبو إسماعيل بن الحافظ لدين الله عبد المجيد العلوي، صاحب مصر.

وكان سبب قتله أن وزيره عباساً كان له ولد اسمه نصر، فأحبه الظافر، وجعله من ندمائه واحبابه الذين لا يقدر على فراقهم ساعة واحدة، فاتفق أن قدم من الشام مؤيد الدولة الأمير أسامة بن منقذ الكناني في وزارة ابن السلار، واتصل بعباس، فحسن له قتل العادل بن السلار زوج أمه، فقتله، وولاه الظافر الوزارة، فاستبد بالأمر، وتم له ذلك.وعلم الأمراء والأجناد أن ذلك من فعل أبن منقذ، فعزموا على قتله، فخلا بعباس وقال له: كيف تصبر على ما أسمع من قبيح القول؟ قال: وما ذلك؟ قال: الناس يزعمون أن الظافر يفعل بابنك نصر؛ وكان نصر خصيصاً بالظافر، وكان ملازماً له ليله ونهاره، وكان من أجمل الناس صورة، وكان الظافر يتهم به، فانزعج لذلك وعظم عليه، وقال: كيف الحيلة؟ قال: تقتله فيذهب عنك العار؛ فذكر الحال لولده نصر، فاتفقا على قتله .
وقيل أن الظافر أقطع نصر بن عباس قرية قليوب، وهي من أعظم قرى مصر، فدخل إليه مؤيد الدولة بن منقذ، وهو عند أبيه عباس. قال له نصر: قد أقطعني مولانا قرية قليوب. فقال له مؤيد الدولة: ما هي في مهرك بكثير؛ فعظم عليه وعلى أبيه، وأنف من هذه الحال، وشرع في قتل الظافر بأمر أبيه، فحضر نصر عند الظافر وقال له: أشتهي أن تجيء إلى داري لدعوة صنعتها، ولا تكثر من الجمع؛ فمشى معه في نفر يسير من الخدم ليلاً، فلما دخل الدار قتله وقتل من معه، وأفلت خادم صغير اختبأ فلم يروه، ودفن القتلى في داره.
وأخبر أخاه عباساً الخبر، فبكر إلى القصر، وطلب إلى الخدم الخصيصين بخدمة الظافر أن يطلبوا له إذناً في الدخول عليه لأمر يريد أن يأخذ رأيه فيه. فقالوا: إنه ليس في القصر. فقال: لا بد منه. وكان غرضه أن يفني التهمة عنه بقتله، وأن يقتل من بالقصر ممن يخاف أن ينازعه فيمن يقيمه في الخلافة؛ فلما ألح عليهم عجزوا عن إحضاره.
فبينما هم يطلبونه حائرين دهشين لا يدرون ما الخبر إذ وصل إليهم الخادم الصغير الذي شاهد قتله، وقد هرب من دار عباس عند غفلتهم عنه، وأخبرهم بقتل الظافر، فخرجوا إلى عباس، وقالوا له: سل ولدك عنه فإنه يعرف أين هو لأنهما خرجا جميعاً. فلما سمع ذلك منهم قال: أريد أن أعتبر القصر لئلا يكون قد اغتاله أحد من أهله؛ فاستعرض القصر، فقتل أخوين للظافر، وهما يوسف وجبريل، وأجلس الفائز بنصر الله أبا القاسم عيسى ابن الظافر بأمر إسماعيل ثاني يوم قتل أبوه، وله من العمر خمس سنين، فحمله عباس على كتفه وأجلسه على سرير الملك وبايع له الناس، وأخذ عباس من القصر من الأموال والجواهر والأعلاق النفيسة ما أراد، ولم يترك فيه إلا ما لا خير فيه.
ذكر وزارة الصالح طلائع بن رزيككان السبب في وزارة الصالح طلائع بن رزيك أن عباساً، لما قتل الظافر وأقام الفائز، ظن أن الأمر لم يتم له على ما يريده، فكان الحال خلاف ما أعتقده، فإن الكلمة اختلفت عليه، وثار به الجند والسودان، وصار إذا أمر بالأمر لا يلتفت إليه ولا يسمع قوله، فأرسل من بالقصر من النساء والخدم إلى الصالح طلائع بن رزيك يستغيثون به، وأرسلوا شعورهم طي الكتب؛ وكان في منية بني خصيب والياً عليها وعلى أعمالها، وليست من الأعمال الجليلة، وإنما كانت أقرب الأعمال إليهم،وكان فيه شهامة، فجمع ليقصد عباساً، وسار إليه، فلما سمع عباس ذلك خرج من مصر نحو الشام بما معه من الأموال التي لا تحصى كثرة، والتحف والأشياء التي لا توجد إلا هناك مما كان أخذه من القصر. فلما سار وقع به الفرنج فقتلوه وأخذوا جميع ما معه فتقووا به.
وسار الصالح فدخل القاهرة بأعلام سود وثياب سود حزناً على الظافر، والشعور التي أرسلت إليه من القصر على رؤوس الرماح، وكان هذا من الفأل العجيب، فإن الأعلام السود العباسية دخلتها وأزالت الأعلام العلوية بعد خمس عشر سنة.
ولما دخل الصالح القاهرة خلع عليه خلع الوزارة، واستقر في الأمر وأحضر الخادم الذي شاهد قتل الظافر، فأراه موضع دفنه، فأخرجه ونقله إلى مقابرهم في القصر.
ولما قتل الفرنج عباساً أسروا ابنه، فأرسل الصالح إلى الفرنج وبذل لهم مالاً وأخذه منهم، فسار من الشام مع أصحاب الصالح، فلم يكلم أحداً منهم كلمة إلى أن رأى القاهرة فأنشد:
بلى نحن كنا أهلها فأبادنا ... صروف الليالي والجدود العواثر

وادخل القصر، فكان أخر العهد به، فإنه قتل، وصلب على باب زويلة، واستقصى الصالح بيوت الكبار والأعيان بالديار المصرية فأهلك أهلها وأبعدهم عن ديارهم، وأخذ أموالهم، فمنهم من هلك ومنهم من تفرق في بلاد الحجاز واليمن وغيرهما؛ فعل ذلك خوفاً من أن يثوروا عليه وينازعوه في الوزارة؛ وكان ابن منقذ قد هرب مع عباس، فلما قتل هرب إلى الشام.
ذكر حصر تكريت ووقعة بكمزافي هذه السنة أرسل الخليفة المقتفي لأمر الله رسولاً إلى والي تكريت، بسبب من عندهم من المأسورين، وهم ابن الوزير وغيره، فقبضوا على الرسول، فسير الخليفة عسكراً إليهم، فخرج أهل تكريت، فقاتلوا العسكر ومنعوه من الدخول إلى البلد؛ فسار الخليفة بنفسه مستهل صفر فنزل على البلد، فهرب أهله، فدخل العسكر فشعثوا ونهبوا بعضه، ونصب على القلعة ثلاث عشر منجنيقاً، فسقط من أسوارها برج وبقي الحصر كذلك إلى الخامس والعشرين من ربيع الأول.
وأمر الخليفة بالقتال والزحف، فاشتد القتال، وكثر القتلى، ولم يبلغ منها غرضاً فرحل عائداً إلى بغداد، فدخلها أخر الشهر، ثم أمر الوزير عون الدين بن هبيرة بالعود إلى محاصرتها، والاستعداد، والاستكثار من الآلات للحصار، فسار إليها سادس ربيع الآخر، ونازلها وضيق عليها، فوصل الخبر بأن مسعود بلال وصل إلى شهربان ومعه البقش كون خر وترشك في عسكر كثير ونهبوا البلاد، فعاد الوزير إلى بغداد.
وكان سبب وصول هذا العسكر أنهم حثوا الملك محمداً ابن السلطان محمود على قصد العراق، فلم يتهيأ له ذلك، فسير هذا العسكر، وانضاف إليهم خلق كثير من التركمان ، فخرج الخليفة إليهم، فأرسل مسعود بلال إلى تكريت، وأخرج منها الملك أرسلان بن السلطان طغرل بن محمد، وكان محبوساً بتكريت، وقال: هذا السلطان نقاتل بين يديه إزاء الخليفة.
والتقى العسكران عند بكمزا بالقرب من بعقوبا، ودام بينهم المناوشة والمحاربة ثمانية عشر يوماًن ثم إنهم التقوا أخر رجب فاقتتلوا، فانهزمت ميمنة عسكر الخليفة وبعض القلب، حتى بلغت الهزيمة بغداد، ونهبت خزائنه، وقتل خازنه، فحمل الخليفة بنفسه هو وولي عهده وصاح: يا آل هاشم ! كذب الشيطان؛ وقرأ: (ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيراً)؛ وحمل باقي العسكر معه فانهزم مسعود والبقش وجميع من معهم، وتمت الهزيمة، وظفر الخليفة بهم، وغنم عسكره جميع مال التركمان من دواب وغنم وغير ذلك، فبيع كل كبش بدانق؛ وكانوا قد حضروا بنسائهم وأولادهم وخركاتهم وجميع ما لهم، فأخذ جميعه، ونودي: من أخذ من مال التركمان شيئاً فليرده؛ فردوه، فأخذ البقش كون خر الملك أرسلان، وانهزم إلى البلد اللحف وقلعة الماهكي.
وفي هذه الحرب غدر بنو عوف من عسكر الخليفة، ولحقوا بالعجم، ومضى هندي الكردي أيضاً معهم. وكان الملك محمد قد أرسل عسكراً مع خاص بك بن آقسنقر نجدة لكون خر، فلما وصلوا إلى الراذان بلغهم خبر الهزيمة فعادوا، ورجع الخليفة إلى بغداد فدخلها أوائل شعبان، فوصله الخبر أن مسعود بلال وترشك قصدا مدينة واسط فنهبا وخربا، فسير الخليفة الوزير بن هبيرة في عسكر خامس عشر شعبان، فانهزم العجم، فلقيهم عسكر الخليفة ونب نهم شيئاً كثيراً، وعادوا إلى بغداد، فلقب الوزير سلطان العراق ملك الجيوش.
وسير الخليفة عسكرأ إلى بلد اللحف فأخذه وصار في جملته، وأما الملك ألب أرسلان بن طغرل فإن البقش أخذه معه إلى بلده، فأرسل إليه الملك محمد يقول له ليحضر عنده وأرسلان معه، فمات البقش كون خر في رمضان في هذه السنة، وبقي أرسلان مع ابن البقش وحسن الجاندار، فحملاه إلى الجبل، فخاف الملك محمد أن يصل أرسلان إلى زوج أمه فصار معه، وهو أخو البهلوان بن إيلدكز لأمه، وطغرل الذي قتله خوارزمشاه ولد أرسلان هذا، وكان طغرل آخر السلجوقية.
ذكرملك نور الدين محمود مدينة دمشقفي هذه السنة، في صفر ، نور الدين محمود بن زنكي بن آقسنقر مدينة دمشق، وأخذها من صاحبها مجير الدينأبق بن محمد بن بوري بن طغدكين أتابك.

وكان سبب جده في ملكها أن الفرنج لما ملكوا في العام الماضي مدينة عسقلان لم يكن انور الدين طريق إلى أزعاجهم عنها لاعتراض دمشق بينه وبين عسقلان، فلما ملك الفرنج عسقلان طمعوا في دمشق، حتى أنهم استعرضوا كل من بها من مملوك وجارية من النصارى، فمن أراد المقام بها تركوه، ومن أراد العود إلى وطنه أخذوه قهراً شاء صاحبه أم أبى.
وكان لهم على أهلها كل سنة قطيعة يأخذونها منهم، فكان رسلهم يدخلون البلد ويأخذونها منهم، فلما رأى نور الدين ذلك خاف أن يملكها الفرنج فلا يبقى حينئذ بالشام مقام، فأعمل الحيلة في أخذها حيث علم أنها لا تملك قوة، لأن صاحبها متى رأى غلبه راسل الفرنج واستعان بهم فأعانوه لئلا يملكها من يقوى على قتالهم؛ فراسل مجير الدين صاحبها واستماله، وواصله بالهدايا، وأظهر له المودة حتى وثق به فكان نور الدين يقول له في بعض الأوقات: إن فلاناً قد كاتبني في تسليم دمشق؛ يعني بعض أمراء مجير الدين؛ فكان يبعد الذي قيل عنه ويأخذ أقطاعه، فلما لم يبق عنده من الأمراء أحد قدم أميراً يقال له عطا بن حفاظ السلمي الخادم، وكان شهماً شجاعاً، وفوض إليه أمر دولته، فكان نور الدين لا يتمكن معه من أخذ دمشق، فقبض عليه مجير الدين وقتله، فسار نور الدين حينئذ إلى دمشق، وكان قد كاتب من بها من الأحداث واستمالهم، فوعدوه بالتسليم إليه، فلما حصر نور الدين البلد أرسل مجير الدين إلى الفرنج يبذل لهم الأموال وتسليم قلعة بعلبك إليهم لينجدوه وليرحلوا نور الدين عنه، فشرعوا في جمع فارسهم وراجلهم ليرحلوا نور الدين عن البلد، فإلى أن اجتمع لهم ما يريدون تسلم نور الدين البلد، فعادوا بخفي حنين.
وأما كيفية تسليم دمشق فإنه لما حصرها ثار الأحداث الذين راسلهم، فسلموا إليه البلد من الباب الشرقي وملكه، وحصر مجير الدين في القلعة، وراسله في تسليمها وبذل له أقطاعاً من جملته مدينة حمص، فسلمها إليه وسار إلى حمص، ثم إنه راسل أهل دمشق ليسلموا إليه، فعلم نور الدين ذلك فخافه، فأخذ منه حمص، وأعطاه عوضاً عنها بالس، فلم يرضها، وسار منها إلى العراق، وأقام ببغداد وابتنى بها داراً بالقرب من النظامية، وتوفي بها.
ذكر قصد الإسماعيلية خراسان والظفر بهمفي هذه السنة، في ربيع الأخر، اجتمع جمع كثير من الإسماعيلية من قهستان، بلغت عدتهم سبعة آلاف رجل ما بين فارس وراجل، وساروا يريدون خراسان لاشتغال عساكرها بالغز، وقصدوا أعمال خواف وما يجاورها، فلقيهم الأمير فرخشاه بن محمود الكاساني في جماعة من حشمه وأصحابه، فعلم أنه لا طاقة له بهم، فتركهم وسار عنهم، وأرسل إلى الأمير محمد بن أنر، وهو من أكابر أمراء خراسان وأشجعهم، يعرفه الحال، وطلب منه المسير إليهم بعسكره ومن قدر عليه من الأمراء ليجتمعوا عليه ويقاتلوهم.
فسار محمد بن أنر في جماعة من الأمراء وكثير من العسكر، واجتمعوا هم وفرخشاه، وواقعوا الإسماعلية وقاتلوهم، وطالت الحرب بينهم، ثم نصر الله المسلمين وانهزم الإسماعيلية، وكثر القتل فيهم، وأخذهم بالسيف من كل مكان،وهلك أعيانهم وسادتهم: بعضهم قتل، وبعضهم أسر، ولم يسلم منهم إلا القليل الشريد، وخلت قلاعهم وحصونهم من حام ومانع، فلولا أشتغال العساكر بالغز لكانوا ملكوها بلا تعب ولا مشقة، وأراحوا المسلمين منهم، ولكن لله أمر هو بالغه.
ذكر ملك نور الدين تل باشرفي هذه السنة أو التي بعدها، ملك نور الدين محمود بن زنكي قلعة تل باشر، وهي شمالي حلب من أمنع القلاع.
وسبب ملكها أن الفرنج لما رأوا ملك نور الدين دمشق خافوه، وعلموا أنه يقوى عليهم، ولا يقدرون على الانتصاف منه، لما كانوا يرون منه قبل ملكها، فراسله من بهذه القلعة من الفرنج، وبذلوا له تسليمها، فسير إليهم الأمير حسان المنبجي، وهو من أكابر أمراءه، وكان أقطاعه ذلك الوقت مدينة منبج، وهي تقارب تل باشر، وأمره أن يسير إليها ويتسلمها، فسار إليهم وتسلمها منهم، وحصنها ورفع إليها من الذخائر ما يكفيها سنين كثيرة.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة مات أستاذ الدار أبو الفتوح عبد اله بن المظفر ابن رئيس الرؤساء، وكان له صدقات، ومعروف كثير، ومجالسة للفقراء. ولما مات ولى الخليفة ابنه الأكبر عضد الدين أبا الفرج محمد بن عبد الله ما كان إلى أبيه.

وتوفي عبد الرحمن بن عبد الصمد بن أحمد بن علي أبو القاسم الأكاف النيسابوري. كان زاهداً، عابداً، فقيهاً، مناظراً، وكان السلطان سنجر يزوره ويتبرك بدعائه، وكان ربما حجبه فلا يمكنه من الدخول إليه.
وفيها توفي ثقة الدولة أبو الحسن علي بن محمد الدويني، وكان يخدم أبا نصر أحمد بن الفرج الأبري، فرباه حتى قيل ابن الأبري، وزوجه ابنته شهدة الكاتبة، فقربه المقتفي لأمر الله، ووكله فبنى مدرسة بباب الأزج.
ثم دخلت سنة خمسين وخمسمائةفي هذه السنة سار الخليفة المقتفي لأمر الله إلى دقوتا فحصرها وقاتل من بها، ثم رحل عنها لأنه بلغه أن عسكر الموصل قد تجهزوا للمسير لمنعه عنها، فرحل ولم يبلغ غرضاً.
وفيها استولى شملة التركماني على خوزستان، وكان قد جمع جمعاً كثيراً من التركمان وسار يريد خوزستان، وصاحبه حينئذ ملكشاه بن محمد، فسير الخليفة إليه عسكراً، فلقيهم شملة في رجب، وقاتلهم، فانهزم عسكر الخليفة، وأسر وجوههم، ثم أحسن إليهم وأطلقهم، وأرسل يعتذر، فقبل عذره، وسار إلى خوزستان فملكها وأزاح عنها ملكشاه ابن السلطان محمود.
وفيها سار الغز إلى نيسابور، فملكوها بالسيف، فدخلوها وقتلوا محمد ابن يحيى الفقيه الشافعي ونحواً من ثلاثين ألفاً، وكان السلطان سنجر له اسم السلطنة، وهو معتقل لا يلتفت إليه، حتى إنه أراد كثيراً من الأيام أن يركب، فلم يكن له من يحمل سلاحه، فشده على وسطه وركب.
وكان إذا قدم له طعام يدخر منه ما يأكله وقتاً آخر، خوفاً من انقطاعه عنه، لتقصيرهم في واجبه، ولأنهم ليس هذا مما يعرفونه.
وفيها وثب قسوس الأرمن بمدينة آني فاخذوها من الأمير شداد وسلموها إلى أخيه فضلون.
وفيها، في ذي الحجة، قتل الأتراك القارغلية طمغاج خان بن محمد بما وراء النهر، وألقوه في الصحراء، ونسبوه ألى أشياء قبيحة؛ وكان مدة ملكه مستضعفاً غير مهيب.
وفيها كان في العراق وما جاوره من البلاد زلزلة كبيرة في ذي الحجة.
وفيها توفي يحيى الغساني النحوي الموصلي وكان فاصلاً خيراً؛ وتاج الدين أبو طاهر يحيى بن عبد الله بن القاسم الشهرزوري، قاضي جزيرة ابن عمر.
ثم دخلت سنة إحدى وخمسين وخمسمائة
عصيان الجزائر وإفريقية على ملك الفرنج
ذكر عصيان الجزائر وإفريقية على ملك الفرنج بصقلية وما كان منهم
قد ذكرنا سنة ثمان وأربعين وخمسمائة موت رجار ملك صقلية وملك ولده غليالم، وأنه كان فاسد التدبير، فخرج من حكمه عدة من حصون صقلية.
فلما كان هذه السنة قوي طمع الناس فيه، فخرج عن طاعته جزيرة جربة وجزيرة قرقنة، وأظهروا الخلاف عليه، وخالف عليه أهل إفريقية، فأول من أظهر الخلاف عليه، وخالف عليه أهل إفريقية، فأول من أظهر الخلاف عليه عمر بن أبي الحسين الفرياني بمدينة سفاقس، وكان رجار قد استعمل عليها، لما فتحها، أباه أبا الحسن، وكان من العلماء الصالحين، فأظهر العجز والضعف وقال: استعمل ولدي فاستعمله، وأخذ أباه رهينة إلى صقلية.
فلما أراد المسير إليها قال لولده عمر: إنني كبير السن، وقد قارب أجلي، فمتى أمكنتك الفرصة في الخلاف على العدو فافعل، ولا تراقبهم، ولا تنظر في أنني أقتل واحسب أني قد مت؛ فلما وجد هذه الفرصة دعا أهل المدينة إلى الخلاف وقال: يطلع جماعة منكم إلى السور، وجماعة يقصدون مساكن الفرنج والنصارى جميعهم، ويقتلونهم كلهم. فقالوا له : إن سيدنا الشيخ والدك نخاف عليه. قال: هو أمرني بهذا، وإذا قتل بالشيخ ألوف من الأعداء فما مات؛ فلم تطلع الشمس حتى قتلوا الفرنج عن آخرهم، وكان ذلك أول سنة إحدى وخمسين وخمسمائة.
ثم أتبعه أبو محمد بن مطروح بطرابلس وبعدهما محمد بن رشيد بقابس، وسار عسكر عبد المؤمن إلى بونة فملكها وخرج جميع إفريقية عن حكم الفرنج ما عدا المهدية وسوسة.

وأرسل عمر بن إبي الحسين إلى زويلة، وهي مدينة بينها وبين المهدية نحو ميدان، يحرضهم على الوثوب على من معهم فيها من النصارى، ففعلوا ذلك، وقدم عرب البلاد إلى زويلة، فأعانوا أهلها على من بالمهدية من الفرنج، وقطعوا الميرة عن المهدية.فلما اتصل الخبر بغليالم ملك صقلية أحضر أبا الحسين وعرفه ما فعل ابنه، فأمر أن يكتب إليه ينهاه عن ذلك، ويأمره بالعود إلى طاعته، ويخوفه عاقبة فعله، فقال: من قدم على هذا لم يرجع بكتاب؛ فأرسل ملك صقلية إليه رسولاً يتهدده، ويأمره بترك ما ارتكبه، فلم يمكنه عمر من دخول البلد يومه ذلك، فلما كان الغد خرج أهل البلد جميعهم ومعهم جنازة، والرسول يشاهدهم، فدفنوها وعادوا، وأرسل عمر إلى الرسول يقول له: هذا أبي قد دفنته، وقد جلست للعزاء به، فاصنعوا به ما أردتم.
فعاد الرسول إلى غليالم فأخبره بما صنع عمر بن أبي الحسين، فأخذ أباه وصلبه، فلم يزل يذكر الله تعالى حتى مات.
وأما أهل زويلة فإنهم كثر جمعهم بالعرب وأهل سفاقس وغيرهم، فحصروا المهدية وضيقوا عليها، وكانت الأقوات بالمهدية قليلة، فسير إليهم صاحب صقلية عشرين شينياً فيها الرجال والطعام والسلاح، فدخلوا البلد، وأرسلوا إلى العرب وبذلوا لهم مالاً لينهزموا، وخرجوا من الغد، فاقتتلوا هم وأهل زويلة، فانهزمت العرب، وبقي أهل زويلة وأهل سفاقس يقاتلون الفرنج بظاهر البلد، وأحاط بهم الفرنج، فانهزم أهل سفاقس وركبوا في البحر فنجوا، وبقي أهل زويلة، فحمل عليهم الفرنج فانهزموا إلى زويلة، فوجدوا أبوابها مغلقة فقاتلوا تحت السور، وصبروا حتى قتل أكثرهم ولم ينج إلا القليل فتفرقوا، ومضى بعضهم إلى عبد المؤمن.
فلما قتلوا هرب من بها من الحرم والصبيان والشيوخ في البر، ولم يعرجوا على شيء من أموالهم، ودخل الفرنج زويلة وقتلوا من وجدوا فيها من النساء والأطفال، ونهبوا الأموال، واستقر الفرنج بالمهدية إلى أن أخذها عبد المؤمن منهم على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر القبض على سليمان شاه وحبسه بالموصلفي هذه السنة قبض زين الدين علي كوجك نائب قطب الدين مودود ابن زنكي بن آقسنقر، صاحب الموصل، على الملك سليمان شاه ابن السلطان محمد بن ملكشاه عند عمه السلطان سنجر قديماً، وقد جعله ولي عهده، وخطب له في منابر خراسان، فلما جرى لسنجر مع الغز ما ذكرناه، وتقد م على عسكر خراسان، وضعفوا عن الغز، مضى إلى خوارزمشاه فزؤجه ابنة أخيه أقسيس، ثم بلغه عنه ما كرهه فأبعده، فجاء إلى أصفهان فمنعه شحنتها من الدخول، فضى إلى قاشان، فسير إليه محمد شاه ابن أخيه محمود بن محمد عسكراً أبعدوه عنها،فسار إلى خوزستان، فمنعه ملكشاه عنها، فقصد اللحف ونزل البندنيجين، وأرسل رسولاً إلى المقتفي يعلمه بوصوله، وترددت الرسل بينهما، إلى أن أستقر الأمر على أن يرسل زوجته تكون رهينة، فأرسلها إلى بغداد ومعها كثير من الجواري والأتباع، وقال: قد أرسلت هؤلاء رهائن، فإن أذن أمير المؤمنين في دخول بغداد فعلت وإلا رجعت.
فأكرم الخليفة زوجته ومن معها، وأذن له في القدوم إليه، فقدم ومعه عسكر خفيف يبلغون ثلاثمائة رجل، فخرج ولد الوزير ابن هبيرة يلتقيه، ومعه قاضي القضاة والنقيبان، ولم يترجل له ابن الوزير، ودخل بغداد وعلى رأسه الشمسة، وخلع عليه الخليفة، وأقام ببغداد إلى أن دخل المحرم من سنة إحدى وخمسين وخمسمائة فأحضر فيه سليمان شاه إلى دار الخلافة، وأحضر قاضي القضاة والشهود وأعيان العباسيين، وحلف للخليفة على النصح والموافقة ولزوم الطاعة، وأنه لا يتعرض إلى العراق بحال.
فلما حاف خطب له ببغداد ولقب ألقاب أبيه غياث الدنيا والدين وباقي ألقابه، وخلع عليه خلع السلطنة، وسير معه من عسكر بغداد ثلاثة آلاف فارس، وجعل الأمير قويدان صاحب الحلة أمير حاجب معه، وسار نحو بلاد الجبل في ربيع الأول، وسار الخليفة إلى حلوان، وأرسل إلى ملكشاه ابن السلطان محمود اخي السلطان محمد صاحب همذانوغيرها يدعوه إلى موافقته، فقدم في ألفي فارس، فحلف كل منهما لصاحبه وجعل ملكشاه ولي عهد سليمان شاه، وقواهما الخليفة بالمال والأسلحة وغيرها، فساروا واجتمعوا هم وإيلدكز، فصاروا في جمع كبير.

فلما سمع السلطان محمد خبرهم أرسل إلى قطب الدين مودود، صاحب الموصل ونائبه زين الدين يطلب منهما المساعدة والمعاضدة، ويبذل لهما البذول الكثيرة إن ظفر، فأجاباه إلى ذلك ووافقا، فقويت نفسه وسار إلى لقاء سليمان شاه ومن اجتمع معه من عساكره، ووقعت الحرب بينهم في جمادى الأولى، واشتد القتال بين الفريقين، فانهزم سليمان شاه ومن معه، وتشتت العسكر ووصل من عسكر الخليفة، وكانوا ثلاثة آلاف رجل، نحو من خمسين رجلاً، ولم يقتل منهم أحد، وإنما أخذت خيولهم وأموالهم، وتشتتوا وجاؤوا متفرقين.
وفارق سليمان شاه إيلدكز وسار نحو بغداد على شهرزور، فخرج إليه زين الدين علي في جماعة من عسكر الموصل، وكان بشهرزور الأمير بزان مقطعاً لها من جهة زين الدين، فخرج زين الدين وسار، فوقفا على طريق سليمان شاه، فأخذاه أسيراً، وحمله زين الدين إلى قلعة الموصل وحبسه بها مكرماً محترماً، إلى أن كان من أمره ما نذكره سنة خمس وخمسين أن شاء الله؛ فلما قبض سليمان شاه أرسل زين الدين إلى السلطان محمود يعرفه ذلك، ووعده المعاضدة على كل ما يريده منه.
ذكر حصر نور الدين قلعة حارمفي هذه السنة سار نور الدين محمود بن زنكي إلى قلعة حارم، وهي للفرنج، ثن لبيمند، صاحب أنطاكية، وهي تقارب أنطاكية من شرقيها، وحصرها وضيق على أهلها، وهي قلعة منيعة في نحور المسلمين، فاجتمعت الفرنج بالقرب منها ومن بعد، وساروا نحوه ليرحلوه عنها.
وكان بالحصن شيطان من شياطينهم يعرفون عقله ويرجعون إلى رأيه، فأرسل إليهم يقول: إننا نقدر على حفظ القلعة، وليس بنا ضعف، فلا تخاطروا أنتم باللقاء، فإنه إن هزمكم أخذها وغيرها، والرأي مطاولته؛ فأرسلوا إليه وصالحوه على أن يعطوه نصف أعمال حارم، فاصطلحوا على ذلك،ورحل عنهم، فقال بعض الشعراء:
ألبست دين محمد يا نوره ... عزاً له فوق السها آساد
ما زلت تشمله بمياد القنا ... حتى تثقف عوده المياد
لم يبق مذ أرهفت عزمك دونه ... عدد يراع به، ولا استعداد
إن المنابر لو تطيق تكلماً ... حمدتك عن خطبائها الأعواد
ملق بأطراف القريحة كلكلاً ... طرفاه ضرب صادق وجلاد
حاموا فلما عاينوا خطب الردى ... حاموا فرائس كيدهم أو كادوا
ورأى البرنس وقد تبرنس ذلة ... حزماً لحارم والمصاد مصاد
من منكر أن ينسف السيل الربى ... وأبوه ذلك العارض المداد
أو أن يعيد الشمس كاسفة السنا ... نار لها ذاك الشهاب زناد
لا ينفع الآباء ما سمكوا من ال ... علياء حتى يرفع الأولاد
وهي طويلة.
ذكر وفاة خوارزم شاه أتسز وغيره من الملوكفي هذه السنة، تاسع جمادى الآخرة، توفي خوارزمشاه أتسز بن محمد أبن أنوشتكين، وكان قد أصابه فالج، فتعالج منه، فلم يبرأ، فاستعمل أدوية شديدة الحرارة بغير أمر الأطباء، فاستد مرضه، وضعفت قوته، فتوفي، وكان يقول عند الموت: (ما أغنى عني ماليه. هلك عني سلطانيه). وكانت ولادته في رجب سنة تسعين وأربعمائة.
ولما توفي ملك بعده ابنه أرسلان، فقتل نفراً من أعمامه، وسمل أخاً له فمات بعد ثلاثة أيام؛ وقيل بل قتل نفسه.
وأرسل إلى السلطان سنجر، وكان قد هرب من أسر الغز، على ما نذكره، ببذل الطاعة والأنقياد، فكتب له منشوراً بولاية خوارزم، وسير له الخلع في رمضان، فبقي في ولايته ساكناً أمناً.
وكان أتسز حسن السيرة، كافأ عن أموال رعيته، منصفاً لهم محبوباً إليهم، مؤثراً للإحسان والخير إليهم، وكان الرعية معه بين أمن غامر وعدل شامل.
وفي سابع عشر الشهر الذكور توفي أبو الفوارس بن محمد بن أرسلان شاه ملك كرمان، وملك بعده ابنه سلجوقشاه.
وفيها توفي الملك مسعود بن قلج أرسلان بن سليمان بن قتلمش، صاحب قونية وما يجاورها من بلاد الروم، وملك بعده ابنه قلج أرسلان.
ذكر هرب السلطان سنجر من الغز

في هذه السنة ، في رمضان، هرب السلطان سنجر بن ملكشاه من أسر الغز هو وجماعة من الأمراء الذين معه، وسار إلى ترمذ، واستظهر بها على الغز،وكان خوارزمشاه أتسز بن محمد بن أنوشتكين، والخاقان محمود بن محمد، يقصدان الغز فيقاتلانهم فيمن معهما، فكانت الحرب بينهم سجالاً، وغلب كل واحد من الغز والخراسانيين على ناحية من خراسان، فهو يأكل دخلها، لا رأس لهم يجمعهم.
وسار السلطان سنجر من ترمذ إلى جيحون يريد العبور إلى خراسان، فاتفق أن مقدم الأتراك القارغلية، اسمه علي بك، توفي، وكان أشد شيء على السلطان سنجر وعلى غيره، من سائر الأمم من أقاصي البلاد وأدانيها، وعاد إلى دار ملكه في رمضان؛ فكانت مدة أسره مع الغز من سادس جمادى الأولى سنة ثمان وأربعين إلى رمضان سنة إحدى وخمسين وخمسمائة.
ذكر البيعة لمحمد بن عبد المؤمن
بولاية عهد أبيه
في هذه السنة أمر عبد المؤمن بالبيعة لولده محمد بولاية عهده، وكان الشرط والقاعدة بين عبد المؤمن وبين عمر هنتاني أن يلي عمر الأمر بعد عبد المؤمن؛ فلما تمكن عبد المؤمن من الملك وكثر أولاده أحب أن ينقل الملك إليهم، فأحضر أمراء العرب من هلال ورعبة وعبدي وغيرهم إليه ووصلهم وأحسن إليهم، ووضع عليهم من يقول لهم ليطلبوا من عبد المؤمن، ويقولوا له: نريد أن نجعل لنا ولي عهد من ولدك يرجع الناس إليه بعدك، ففعلوا ذلك، فلم يجبهم إكراماً لعمر هنتاني لعلو منزلته في الموحدين، وقال لهم: إن الأمر لأبي حفص عمر؛ فلما علم عمر ذلك خاف على نفسه، فحضر عند عبد المؤمن وأجاب إلى خلع نفسه، فحينئذ بويع لمحمد بولاية العهد، وكتب إلى جميع بلاده بذلك، وخطب له فيها جميعها، فأخرج عبد المؤمن من الأموال في ذلك اليوم شيئاً كثيراً.
ذكر استعمال عبد المؤمن أولاده على البلادفي هذه السنة استعمل عبد المؤمن أولاده على البلاد، فاستعمل ولده أبا محمد عبد الله على بجاية وأعمالها؛ واستعمل ابنه ابا الحسن علياً على فاس وأعمالها، واستعمل ابنه ابا حفص عمر على مدينة تلمسان وأعمالها، وولى ابنه ابا سعيد سبتة والجزيرة الخضراء ومالقة؛ وكذلك غيرهم.
ولقد سلك في استعمالهم طريقاً عجيباً، وذلك أنه كان قد استعمل على اللاد شيوخ الموحدين المشهورين من أصحاب المهدي محمد بن تومرت، وكان يتعذر عليه أن يعزلهم، فأخذ أولادهم، وتركهم عنده يشتغلون ي العلوم، فلما مهروا فيها وصاروا يقتدى بهم قال لآبائهم: إني أريد أن تكونوا عندي أستعين بكم على ما أنا بصدده، ويكون ألوادكم في الأعمال لأنهم علماء فقهاء؛ فأجابوا إلى ذلك وهم فرحون مسرورون، فولى أولادهم ثم وضع عليهم بعضهم ممن يعتمد عليه، فقال لهم: إني أرى أمراً عظيماً قد فعلتموه؛ فارقتم فيه الحزم والأدب. فقالوا وما هو؟ فقال: أولادكم في الأعمال وأولاد أمير المؤمنين ليس لهم منها شيء مع ما فيهم من العلم وحسن السياسة، وأني أخاف أن ينظر في هذا فتسقط منزلتكم عنده؛ فعلموا صدق القائل، فحضروا عند عبد المؤمن وقالوا: نحب أن تستعمل على البلاد السادة أولادك. فقال لا أفعل؛ فلم يزالوا به حتى فعل ذلك بسؤالهم.
ذكر حصر السلطان محمد بغدادفي هذه السنة، في ذي الحجة، حصر السلطان محمد بغداد، وسبب ذلك أن السلطان محمد بن محمود كان قد أرسل إلى الخليفة يطلب أن يخطب له ببغداد والعراق، فامتنع الخليفة من إجابته إلى ذلك، فسار من همذان في عساكر كثيرة نحو العراق، ووعده أتابك قطب الدين، صاحب الموصل، ونائبه زين الدين علي بإرسال العساكر إليه نجدة له على حصر بغداد، فقدم العراق في ذي الحجة سنة إحدى وخمسين، واضطرب الناس ببغداد، وأرسل الخليفة يجمع العساكر فأقبل خطلبرس من واسط وعصى أرغش، صاحب البصرة، وأخذ واسط، ورحل مهلهل إلى الحلة فأخذها، واهتم الخليفة وعمن الدين بن هبيرة بأمر الحصار، وجمع جميع السفن وقطع الجسر وجعل الجميع تحت التاج، ونودي، منتصف المحرم سنة اثنتين وخمسين، أن لا يقيم أحد بالجانب الغربي، فأجفل الناس وأهل السواد، ونقلت الأموال إلى حريم دار الخلافة، وخرب الخليفة قصر عيسى والمربعة والقرية والمستجدة والنجمي، ونهب أصحابه ما وجدوا؛ وخرب أصحاب محمد شاه نهر القلابين، والتوثة، وشارع ابن رزق الله وباب الميدان وقطفتا.

وأما أهل الكرخ وأهل باب البصرة فإنهم خرجوا إلى عسكر محمد، وكسبوا معهم أموالاً كثيرة.
وعبر السلطان محمد فوق حربي إلى الجانب الغربي، ونهبت أوانا، واتصل به زين الدين هناك، وساروا، فنزل محمد شاه عند الرملة، وفرق الخليفة السلاح على الجند والعامة، ونصب المجانيق والعرادات.
فلما كان في العشرين من المحرم ركب عسكر محمد شاه وزين الدين علي، ووقفوا عند الرقة، ورموا بالنشاب إلى ناحية التاج، فعبر إليهم عامة بغداد فقاتلوهم، ورموهم بالنفط وغيره، ثم جرى بينهم عدة حروب.
وفي ثالث صفر عاودوا القتال، واشتدت الحرب، وعبر كثير من أهل بغداد سباحة وفي السفن، فقتلوا؛ وكان يوماً مشهوداً.
ولم تزل الحرب بينهم كل وقت، وعمل الجسر على دجلة وعبر عليه أكثر العسكر إلى الجانب الشرقي، وصار القتال في الجانبين، وبقي زين الدين في الجانب الغربي، وأمر الخليفة فنودي: كل من جرح فله خمسة دنانير؛ فكان كلما جرح إنسان يحضر عند الوزير فيعطيه خمسة دنانير، فاتفق أن بعض العامة جرح جرحاً ليس بكبير، فحضر يطلب الدنانير، فقال له الوزير ليس هذا الجرح بشيء؛ فعاود القتال، فضرب فانشق جوفه وخرج شيء من شحمه، فحمل إلى الوزير فقال: يامولانا الوزير أيرضيك هذا؟ فضحك منه، وأضعف له، ورتب له من يعالج جراحته إلى أن برىء.
وتعذرت الأقوات في العسكر إلا أن اللحم والفواكه والخضر كثيرة، وكانت الغلات في بغداد كثيرة لأن الوزير كان يفرقها في الجند عوض الدنانير فيبيعونها، فلم تزل الأسعار عندهم رخيصة، إلا أن اللحم والخضر والفاكهة قليلة عندهم.
واشتد الحصار على أهل بغداد لانقطاع المواد عنهم وعدم المعيشة لأهلها؛ وكان زين الدين وعسكر الموصل غير مجدين في القتال لأجل الخليفة والمسلمين؛ وقيل لأن نور الدين محمودبن زنكي، وهو أخو قطب الدين، صاحب الموصل الأكبر، أرسل إلى زين الدين يلومه على قتال الخليفة، ففتر وأقصر.
فلم تزل الحروب في أكثر الأيام، وعمل السلطان محمد أربعمائة سلم ليصعد الرجال فيها إلى السور، وزحفوا، وقاتلوا، ففتح أهل بغداد أبواب البلد وقالوا: أي حاجة بكم إلى السلاليم؟ هذه الأبواب مفتحة فأدخلوا منها؛ فلم يقدروا على أن يقربوها. فبينما الأمر على ذلك إذ وصل الخبر إلى السلطان محمد أن أخاه ملكشاه وإيلدكز، صاحب بلاد آران، ومعه الملك أرسلان ابن الملك طغرل بن محمد، وهو ابن امرأة إيلدكز، قد دخلوا همذان واستولوا عليها، وأخذوا أهل الأمراء الذين مع محمد شاه وأموالهم، فلما سمع محمد شاه ذلك جد في القتال لعله يبلغ غرضاً، فلم يقدر على شيء ورحل عنها نحو همذان في الرابع والعشرين من ربيع الأول سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة.
وعاد زين الدين إلى الموصل، وتفرق ذلك الجمع على عزم العود إذا فرغ محمد شاه من إصلاح بلاده، فلم يعودوا يجتمعون؛ وفي كثرة حروبهم لم يقتل منهم إلا نفر يسير، وإنما الجراح كانت كثيرة، ولما ساروا نهبوا بعقوبا وغيرها من طريق خراسان.
ولما رحل العسكر من بغداد أصاب أهلها أمراض شديدة حادة، وموت كثير للشدة التي مرت بهم؛ وأما ملكشاه وإيلدكز ومن معهما فإنهم ساروا من همذان إلى الري، فخرج إليهم إينانج شحنتها وقاتلهم فهزموه، فأنفذ السلطان محمد الأمير سقمس بن قيماز الحرامي في عسكر نجدة لإينانج، فسار سقمس، وكان إيلدكز وملكشاه ومن معهما قد عادوا من الري يريدون محاصرة الخليفة، فلقيهم سقمس وقاتلهم، فهزموه ونهبوا عسكره وأثقالهم، فاحتاج السلطان محمد إلى الإسراع، فسار، فلما بلغ حلوان بلغه أن إيلدكز بالدينور، وأتاه رسول من نائبه إينانج أنه دخل همذان، وأعاد الخطبة له فيها، فقويت نفسه وهرب شملة،صاحب خوزستان، إلى بلاده، وتفرق أكثر جمع إيلدكز وملكشاه، وبقيا في خمسة آلاف فارس، فعاد إلى بلادهما شبه الهارب.
ولما رحل محمد شاه إلى همذان أراد التجهز لقصد بلاد إيلدكز، فابتدأ به مرض السل، وبقي به إلى أن مات.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة، في ربيع الأول، أطلق أبو البدر ابن الوزير ابن هبيرة من حبس تكريت؛ ولما قدم بغداد خرج أخوه والموكب يتلقونه، وكان يوماً مشهوداً، وكان مقامه في الحبس يزيد على ثلاث سنين.

وفيها احترقت بغداد في ربيع الآخر، وكثر الحريق بها، واحترق درب فراشا، ودرب الدواب ودرب اللبان، وخرابة ابن حربة، والظفرية، والخاتونية، ودار الخلافة، وباب الأزج، وسوق السلطان وغير ذلك.
وفيها في شوال، قصد الإسماعيلية طبس في خراسان، فأوقعوا بها وقعة عظيمة، وأسروا جماعة من أعيان دولة السلطان، ونهبوا أموالهم ودوابهم وقتلوا فيهم.
وفيها، في ذي القعدة، توفي شيخ الإسلام أبو المعالي الحسن بن عبيد الله بن أحمد بن محمد المعروف بابن الرزاز بنيسابور، وهو من أعيان الأفاضل.
وفي هذه السنة توفي مريد الدين بن نيسان رئيس آمد والحاكم فيها على صاحبها، وولي ما كان إليه بعده ابنه كمال الدين أبو القاسم.
وفيها توفي أبو الحسن علي بن الحسين الغزنوي، الواعظ المشهور، ببغداد، وكان قدم إليها سنة ستة عشرة وخمسمائة، وكان له قبول عظيم عند السلاطين والعامة والخلفاء، إلا أن المقتفي أعرض عنه بعد موت السلطان مسعود لإقبال السلطان عليه، وكان موته في المحرم.
وتوفي أبو الحسن بن الخل الفقيه الشافعي، شيخ الشافعية ببغداد، وهو من أصحاب أبي بكر الشاشي، وجمع بين العلم والعمل، وكان يؤم بالخليفة في الصلاة.
وتوفي ابن الآمدي الشاعر، وهو من أهل النيل من أعيان الشعراء في طبقة الغزي والأرجاني، وكان عمره قد زاد على تسعين سنة.
وفيها قتل مظفر بن حماد بن أبي الخير صاحب البطيحة، قتله نفيس ابن فضل بن أبي الخير في الحمام، وولي ابنه بعده.
وفيها توفي الوأواء الحلبي الشاعر المشهور.
وفيها، في رمضان، توفي الحكيم أبو جعفر محمد البخاري بأسفرايين، وكان صاحب معرفة بعلوم الحكماء الأوائل.
ثم دخلت سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة
ذكر الزلازل بالشام
في هذه السنة، في رجب، كان بالشام زلازل كثيرة قوية خربت كثيراً من البلاد، وهلك فيها ما لا يحصى كثرة، فخرب منها بالمرة حماة وشيزر وكفر طاب والمعرة وأفاميا وحمص وحصن الأكراد وعرقة واللاذقية وطرابلس وأنطاكية.
وأما ما لم يكثر فيه الخراب ولكن خرب أكثره فجميع الشام، وتهدمت أسوار البلاد والقلاع، فقال نور الدين محمود في ذلك المقام المرضي، وخاف على بلاد الإسلام من الفرنج حيث خربت الأسوار، فجمع عساكره وأقام بأطراف بلاده يغير على بلاد الفرنج ويعمل في الأسوار في سائر البلاد، فلم يزل كذلك حتى فرغ من جميع أسوار البلاد.
وأما كثرة القتلى، فيكفي فيه أن معلماً كان بالمدينة، وهي مدينة حماة، ذكر أنه فارق المكتب لمهم عرض له فجاءت الزلزلة فخربت البلد، وسقط المكتب على الصبيان جميعهم. قال المعلم: فلم يأت أحد يسأل عن صبي كان له.
ذكر ملك نور الدين حصن شيزرنبتدىء بذكر هذا الحصن، ولمن كان قبل أن يملكه نور الدين محمود بن زنكي، فنقول: هذا الحصن قريب من حماة، بينهما نصف نهار، وهو على جبل عال نميع لا يسلك إليه إلا من طريق واحدة. وكان لآل منقذ الكنانيين يتوارثونه من أيام صالح بن مرداس إلى أن انتهى الأمر إلى أبي المرهف بنصر بن علي بن المقلد بعد أبيه أبي الحسن علي، فبقي بيده إلى أن مات سنة إحدى وتسعين وأربعمائة، وكان شجاعاَ كريماً؛ فلما حضره الموت استخلف أخاه أبا سلامة مرشد بن علي، فقال: والله لا وليته ولأخرجن من الدنيا كما دخلتها.
وكان عالماً بالقرآن والأدب، وهو والد مؤيد الدولة أسامة بن منقذ، فولاها أخاه الأصغر سلطان بن علي، واصطحبا أجمل صحبة مدة من الزمان، فأولد مرشد عدة أولاد ذكور، وكبروا وسادوا، منهم: عز الدولة أبو الحسن علي، ومؤيد الدولة أسامة وغيرهما؛ ولم يولد لأخيه سلطان ولد ذكر إلى أن كبر فجاءه أولاد ذكور، فحسد أخاه على ذلك، وخاف أولاد أخيه على أولاده، وسعى بينهم المفسدون فغيروا كل اً منهما على أخيه، فكتب سلطان إلى أخيه مرشد شعر يعاتبه على أشياء بلغته عنه، فأجابه بشعر في معناه رأيت إثبات ما تمس الحاجة إليه منه، وهي هذه الأبيات:
ظلوم أبت في الظلم إلا تماديا ... وفي الصد والهجان إلا تناهيا
شكت هجرنا والذنب في ذاك ذنبها ... فيا عجباً من ظالم جاء شاكيا
وطاوعت الواشين في وطالما ... عصيت عذولاً في هواها وواشيا

ومال بها تيه الجمال إلى القلى ... وهيهات أن أمسي لها الدهر قاليا
ولا ناسياً ما أودعت من عهودها ... وإن هي أبدت جفوة وتناسيا
ولما أتاني من قريضك جوهر ... جمعت المعالي فيه والمعانيا
وكنت هجرت الشعر حيناً لأنه ... تولى برغمي حين ولى شبابيا
وأين من الستين لفظ مفوق ... إذا رمت منه أدنى القول عصانيا
وقلت: أخي ي
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://arabelalekat.yoo7.com
الشيخ عودة
الشيخ عودة
الشيخ عودة



عدد المساهمات : 1748
تاريخ التسجيل : 28/09/2008
العمر : 74

كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير - صفحة 7 Empty
مُساهمةموضوع: رد: كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير   كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير - صفحة 7 Emptyالخميس فبراير 27, 2014 6:29 am

وعوده وموته
في هذه السنة، في رجب، سار الملك أبو شجاع فرخشاه وهو يزعم أنه من أولاد بهرام جور، وقد تقدم ذكره أيام كسرى أبرويز، إلى ترمذ وحصرها.
وكان سبب ذلك أنه في طاعة السلطان سنجر. فلما خرج عليه الغز طلبه ليحضر معه حربه لهم، فجمع عسكره، وأظهر أنه واصل فيمن عنده من العساكر إليه، وأقام ينتظر ما يكون منه، فلما ظفر حضر، وقال له: سبقتني بالحرب؛ وإن كان الظفر للغز قال: إنما تأخرت محبة وإرادة أن تملكوا! فلما انهزم سنجر، وكان ما ذكرناه، بقي إلى الآن، فسار إلى ترمذ ليحصرها، فجمع صاحبها فيروز شاه أحمد بن أبي بكر بن قماج عسكره، ولقيه ليمنعه، فاقتتلوا فانهزم فيروزشاه، ومضى منهزماً لا يلوي على شيء، فأصابه في الطريق قولنج فمات منه.
ذكر عود المؤيد إلى نيسابور
وتخريب ما بقي مها
في هذه السنة عاد المؤيد أي أبه إلى نيسابور في عساكره ومعه الإمام المؤيد الموفقي الشافعي الذي تقدم ذكر الفتنة بينه وبين ذخر الدين نقيب العلويين وخروجه من نيسابور، فلما خرج منها صار مع المؤيد وحضر معه حصار نيسابور، وتحصن النقيب العلوي بشارستان واشتد الخطب وطالت الحرب وسفكت الدماء وهتكت الأستار وخربوا ما بقي من نيسابور من الدور وغيرها، وبالغ الشافعية ومن معهم بالانتقام فخربوا المدرسة الصندلية لأصحاب أبي حنيفة وخربوا غيرها وحصروا قهندز، وهذه الفتنة استأصلت نيسابور، ثم رحل المؤيد أي أبه عنها إلى بيهق في شوال من سنة أربع وخمسين وخمسمائة؛ كان ينبغي أن تكون هذه الحوادث الغزية الواقعة سنة أربع وخمسين مذكورة في سنتها وإنما قدمناها هاهنا ليتلو بعضها بعضاً فيكون أحسن لسياقتها.
ذكر ملك ملكشاه خوزستانفي هذه السنة ملك ملكشاه ابن السلطان محمود بلد خوزستان وأخذه من شملة التركماني، وسبب ذلك أن الملك محمداً بن السلطان محمود لما عاد من حصار بغداد، كما ذكرناه، مرض وبقي مريضاً في همذان، ومضى أخوه ملكشاه إلى قم وقاشان وما والاها، فنهبها جميعها، وصادر أهلها وجمع أموالاً كثيرة، فراسله أخوه محمد شاه يأمرم بالكف عن ذلك ليجعله ولي عهده في الملك، فلم يفعل، ومضى إلى أصفهان، فلما قاربها أرسل رسولاً إلى ابن الخجندي وأعيان البلد في تسليم البلد إليه، فامتنعوا من ذلك، وقالوا لأخيك في رقابنا يمين، ولا نغدر به، فحينئذ شرع ملكشاه في الفساد والمصادرة لأهل القرى.
فلما سمع محمد شاه الخبر سار عن همذان، وعلى مقدمته كرد بازوه الخادم، فتفرقت جموع ملكشاه فانهزم إلى بغداد، فلم يتبعه محمد شاه لمرضه، فنزل ملكشاه عند قرمسين، فلحق به قويدان، وكان قد فارق المقتفي لأمر الله، واتفق مع سنقر الهمذاني، فلحق كلاهما به، وحسنا له قصد بغداد، فسار عن بلد خزستان إلى واسط، ونزل بالجانب الشرقي، وهم على غاية الضر من الجوع ومن البرد، فنهبوا القرى نهباً فاحشاً، ففتح بثق بتلك الناحية فغرق منهم كثير، ونجا ملكشاه ومن سلم معه، وساروا إلى خوزستان، فمنعه شملة من العبور، فراسله ليمكنه من العبورإلى أخيه الملك محمد شاه، فلم يجبه إلى ذلك، وكاتب حينئذ الأكراد الكر الذين هناك، واستدعاهم إليه، ففرحوا به، ونزل إليه من تلك الجبال خلق كثير، فأطاعوه، فرحل ونزل على كرخايا، وطلب من شملة الحرب، فألان له شملة القول، وقال: أنا أخطب لك وأكون معك؛ فلم يقبل منه، فاضطر شملة إلى الحرب، فجمع عسكره وقصده، فلقيه ملكشاه ومعه سنقر الهمذاني وقويدان، وغيرهما من الأمراء، فاقتتلوا فانهزم شملة، وقتل كثير من أصحابه، وصعد إلى قلعة دندرزين، وملك ملك شاه البلاد، وجبى الأموال الكثيرة وأظهر العدل وتوجه إلى أرض فارس.
ذكر الحرب بين التركمان والإسماعيلية بخراسان

كان بنواحي قهستان طائفة من التركمان، فنزل إليهم جمع من الإسماعيلية من قلاعهم، وهم ألف وسبعمائة، فأوقعوا بالتركمان، فلم يجدوا الرجال، وكانوا قد فارقوا بيوتهم، فنهبوا الأموال، وأخذوا النساء والأطفال، وأحرقوا ما لم يقدروا على حمله.
وعاد التركمان ورأوا ما فعل بهم، فتبعوا أثر الإسماعيلية، فأدركوهم وهم يقتسمون الغنيمة، فكبروا وحملوا عليهم، ووضعوا فيهم السيف، فقتلوهم كيف شاؤوا، فانهزم الإسماعيلية وتبعهم التركمان حتى أفنوهم قتلاً وأسراً، ولم ينج إلا تسعة رجال.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة كثر فساد التركمان أصحاب برجم الإيوائي بالجبل، فسير إليهم من بغداد عسكر مقدمهم منكبرس المسترشدي، فلما قاربهم اجتمع التركمان، فالتقوا واقتتلوا هم ومنكبرس، فانهزم التركمان أقبح هزيمة، وقتا بعضهم ، وأسر بعض، وحملت الرؤوس والأسارى إلى بغداد.
وفيها حج الناس، فلما وصلوا إلى مدينة النبي، صلى الله عليه وسلم، أتاهم الخبر أن العرب قد اجتمعت لتأخذهم، فتركوا الطريق وسلكوا طريق خيبر، فوجدوا مشقة شديدة، ونجوا من العرب.
وفيها توفي الشيخ نصر بن منصور بن الحسين العطار أبو القاسم الحراني، ومولده بحران سنة أربع وثمانين وأربعمائة، وأقام ببغداد وكثر ماله وصدقاته أيضاً، وكان يقرأ القرآن؛ وهو والد ظهير الدين الذي حكم في دولة المستضيء بالله على ما نذكره إنشاء الله.
وفيها توفي أبو الوقت عبد الأول بن عيسى بن شعيب السجزي ببغداد، وهو سجزي الأصل، هروي المنشأ، وكان قدم إلى بغداد سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة يريد الحج، فسمع الناس به عليه صحيح البخاري؛ وكان عالي الأسناد، فتأخر لذلك عن الحج، فلما كان هذه السنة عزم على الحج فمات.
وفيها توفي يحيى بن سلامة بن الحسن بن محمد أبو الفضل الحصكفي الأديب بميافارقين، وله شعر حسن ورسائل جيدة مشهورة، وكان يتشيع؛ ومولده بطنزة، فمن شعره.
وخليع بت اعذله ... ويرى عذلي من العبث
قلت: إن الخمر مخبثة ... قال: حاشاها من الخبث
قلت: فالأرفاث تتبعها ... قال: طيب العيش في الرفث
قلت: منها القيء، قال: أجل ... شرفت عن مخرج الحدث
وسأسلوها، فقلت: متى؟ ... قال: عند الكون في الجدث
ثم دخلت سنة أربع وخمسين وخمسمائة
ذكر ملك عبد المؤمن مدينة المهدية من الفرنج وملكه جميع إفريقية
قد ذكرنا سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة ملك الفرنج مدينة المهدية من صاحبها الحسن بن تميم بن المعز بن باديس الصنهاجي، وقد ذكرنا أيضاً سنة إحدى وخمسين ما فعله الفرنج بالمسلمين في زويلة المدينة المجاورة للمهدية من القتل والنهب، فلما قتلهم الفرنج، ونهبوا أموالهم، هرب منهم جماعة وقصدوا عبد المؤمن صاحب المغرب، وهو بمراكش، يستجيرونه، فلما وصلوا إليه ودخلوا عليه أكرمهم، وأبروه بما جرى على المسلمين، وأنه ليس من ملوك الإسلام من يقصد سواه، ولا يكشف هذا الكرب غيره، فدمعت عيناه وأطرق، ثم رفع رأسه وقال: أبشروا، لأنصرنكم ولو بعد حين.
وأمر بإنزالهم وأطلق لهم ألفي دينار، ثم أمر بعمل الروايا والقرب والحياض وما يحتاج إليه العسكر في السفر، وكتب إلى جميع نوابه في المغرب، وكان قد ملك إلى قريب تونس، يأمرهم بحفظ ما يتحصل من الغلات، وأن يترك في سنبله، ويخزن في مواضعه، وأن يحفروا الأبار في الطرق، ففعلوا جميع ما أمرهم به، وجمعوا الغلات ثلاث سنين ونقلوها إلى المنازل، وطينوا عليها، فصارت كأنها تلال.
فلما كان في صفر من هذه السنة سار عن مراكش، وكان أكثر أسفاره في صفر، فسار يطلب إفريقية، واجتمع من العساكر مائة ألف مقاتل، ، ومن الأتباع والسوقة أمثالهم، وبلغ من حفظه لعساكره أنهم كانوا يمشون بين الزروع فلا تتأذى منهم سنبلة، وإذا نزلوا صلوا جميعهم مع إمام واحدد بتكبيرة واحدة، لا يتخلف منهم أحد كائن من كان.

وقدم بين يديه الحسن بن علي بن يحيى بن تميم بن المعز بن باديس الصنهاجي، الذي كان صاحب المهدية وإفريقية، وقد ذكرنا سبب مصيره عند عبد المؤمن، فلم يزل يسير إلى أن وصل إلى مدينة تونس في الرابع والعشرين من جمادى الآخرة من السنة، وبها صاحبها أحمد بن خراسان، وأقبل أسطوله في البحر في سبعين شينياً وطريدة وشلندى، فلما نازلها أرسل إلى أهلها يدعوهم إلى طاعته، فامتنعوا، فقاتلهم من الغد أشد قتال، فلم يبق إلا أخذها، ودخول الأسطول إليها، فجاءت ريح عاصف منعت الموحدين من دخول البلد، فرجعوا ليباكروا القتال ويملكوه.
فلما جن الليل نزل سبعة عشر رجلاً من أعيان أهلها إلى عبد المؤمن يسألونه الأمان لأهل بلدهم، فأجابهم إلى الأمان لهم في أنفسهم وأهليهم وأموالهم لمبادرتهم إلى الطاعة، وأما ما عداهم من أهل البلد فيؤمنهم في أنفسهم وأهاليهم، ويقاسمهم على أموالهم وأملاكهم نصفين، وأن يخرج صاحب البلد هو وأهله؛ فاستقر ذلك، وتسلم البلد، وأرسل إليه من يمنع العسكر من الدخول، وأرسل أمناءه ليقاسموا الناس على أموالهم، وأقام عليها ثلاثة أيام، وعرض الإسلام على من بها من اليهود والنصارى، فمن أسلم سلم، ومن امتنع قتل، وأقام أهل تونس بها بأجرة تؤخذ عن نصف مساكنهم.
وسار عبد المؤمن منها إلى المهدية والأسطول يحاذيه في البحر، فوصل إليها ثامن عشر رجب، وكان حينئذ بالمهدية أولاد ملوك الفرنج وأبطال الفرسان، وقد أخلوا زويلة، وبينها وبين المهدية غلوة سهم، فدخل عبد المؤمن زويلة، وامتلأت بالعساكر والسوقة فصارت مدينة معمورة في ساعة، ومن لم يكن له موضع من العسكر نزل بظاهرها، وانضاف إليه من صنهاجة والعرب وأهل البلاد ما يخرج عن الإحصاء، وأقبلوا يقاتلون المهدية مع الأيام، فلا يؤثر فيها لحصانتها وقوة سورها وضيق موقع القتال عليها، لأن البحر دائر بأكثرها، فكأنها كف في البحر، وزندها متصل بالبر.
وكانت الفرنج تخرج شجعانهم إلى أطراف العسكر، فتنال منه وتعود سريعاً؛ فأمر عبد المؤمن أن يبنى سور من غرب المدينة يمنعهم من الخروج، وأحاط الأسطول بها في البحر، وركب عبد المؤمن في شيني، ومعه الحسن ابن علي الذي كان صاحبها، وطاف بها في البحر، فهاله ما رأى من حصانتها، وعلم أنها لا تفتح بقتال براً ولا بحراً، وليس لها إلا المطاولة، وقال للحسن: كيف نزلت عن مثل هذا الحصن؟ فقال: لقلة ما يوثق به، وعدم القوت، وحكم القدر. فقال: صدقت! وعاد من البحر، وأمر بجمع الغلات والأقوات وترك القتال، فلم يمض غير قليل حتى صار في العسكر كالجبلين من الحنطة والشعير، فكان من يصل إلى العسكر من بعيد يقولون: متى حدثت هذه الجبال هاهنا؟ فيقال لهم: هي حنطة وشعير؛ فيعجبون من ذلك.
وتمادى الحصار، وفي مدته أطاع سفاقس عبد المؤمن، وكذلك مدينة طرابلس، وجبال نفوسة، وقصور إفريقية وما والاها، وفتح مدينة قابس بالسيف، وسير ابنه أبا محمد عبد الله في جيش ففتح بلاداً، ثم أن أهل مدينة قفصة لما رأوا تمكن عبد المؤمن أجمعوا على المبادرة إلى طاعته، وتسليم المدينة إليه، فتوجه صاحبها يحيى بن تميم بن المعز، ومعه جماعة من أعيانها، وقصدوا عبد المؤمن، فلما أعلمه حاجبه بهم قال له عبد المؤمن: قد اشتبه عليك، ليس هؤلاء أهل قفصة؛ فقال له: لم يشتبه علي؛ قال له عبد المؤمن: كيف يكون ذلك والمهدي يقول إن أصحابنا يقطعون أشجارها ويهدمون أسوارها، ومع هذا فنقبل منهم ونكف عنهم ليقضي الله أمراً كان مفعولاً.فأرسل إليهم طائفة من أصحابه، ومدحه شاعر بقصيدة أولها:
ما هز عطفيه بين البيض والأسل ... مثل الخليفة عبد المؤمن بن علي

فوصله بألف دينار، ولما كان في الثاني والعشرين من شعبان، من السنة جاء اسطول صاحب صقلية في مائة وخمسين شينياً غير الطرائد، وكان قدومه من جزيرة يابسة من بلاد الأندلس وقد سبى أهلها وأسرهم وحملهم معه، فأرسل إليهم ملك الفرنج يأمرهم بالمجيء إلى المهدية، فقدموا في التاريخ، فلما قاربوا المهدية حطوا شراعهم ليدخلوا الميناء، فخرج إليهم أسطول عبد المؤمن، وركب العسكر جميعه، ووقفوا على جانب البحر، فاستعظم الفرنج ما رأوه من كثرة العساكر، ودخل الرعب قلوبهم، وبقي عبد المؤمن يمرغ وجهه على الأرض، ويبكي ويدعوا للمسلمين بالنصر، واقتتلوا في البحر، فانهزمت شواني الفرنج، وأعادوا القلوع، وتبعهم المسلمون، فأخذوا منهم سبع شوان، ولو كان معهم قلوع لأخذوا أكثرها، وكان أمراً عجيباً، وفتحاً قريباً.
وعاد أسطول المسلمين مظفراً منصوراً، وفرق فيهم عبد المؤمن الأموال؛ ويئس أهل المهدية حينئذ من النجدة، وصبروا على الحصار ستة أشهر إلى آخر شهر ذي الحجة من السنة، فنزل حينئذ من فرسان الفرنج إلى عبد المؤمن عشرة، وسألوا الأمان لمن فيها من الفرنج على أنفسهم وأموالهم ليخرجوا منها ويعودوا إلى بلادهم، وكان قوتهم قد فني حتى أكلوا الخيل، فعرض عليهم الإسلام، ودعاهم إليه فلم يجيبوا، ولم يزالوا يترددون إليه أياماً واستعطفوه بالكلام اللين، فأجابهم إلى ذلك، وأمنهم وأعطاهم سفناً فركبوا فيها وساروا، وكان الزمان شتاء، فغرق أكثرهم ولم يصل منهم إلى صقلية غلا النفر اليسير.
وكان صاحب صقلية قد قال: إن قتل عبد المؤمن أصحابنا في المهدية قتلنا المسلمين الذين هم بجزيرة صقلية، وأخذنا حرمهم وأموالهم؛ فأهلك الله الفرنج غرقاً، وكانت مدة ملكهم المهدية اثنتي عشرة سنة.
ودخل عبد المؤمن المهدية بكرة عاشوراء من المحرم سنة خمس وخمسين وخمسمائة، وسماها عبد المؤمن سنة الأخماس، وأقام بالمهدية عشرين يوماً، فرتب أحوالها، وأصلح ما انثلم من سورها، ونقل إليها الذخائر من القوات والرجال والعدد، واستعمل عليها بعض أصحابه، وجعل معه الحسن بن علي الذي كان صاحبها، وأمره أن يقتدي برأيه في أفعاله، وأقطع الحسن بها أقطاعاً، وأعطاه دوراً نفيسة يسكنها، وكذلك فعل بأولاده، ورحل من المهدية أول صفر من السنة إلى بلاد الغرب.
ذكر إيقاع عبد المؤمن بالعربلما فرغ عبد المؤمن من أمر المهدية وأراد العود إلى الغرب جمع أمراء العرب من بني رياح الذين كانوا بإفريقية، وقال لهم: قد وجبت علينا نصرة الإسلام، فإن المشركين قد استفحل أمرهم بالأندلس، واستولوا على كثير من البلاد التي كانت بأيدي المسلمين، وما يقاتلهم أحد مثلكم، فبكم فتحت البلاد أول الإسلام، وبكم يدفع عنها العدو الآن، ونريد منكم عشرة ألاف فارس من أهل النجدة والشجاعة يجاهدون في سبيل الله. فأجابوا بالسمع والطاعة، فحلفهم على ذلك بالله تعالى، وبالمصحف، فحلفوا، ومشوا معه إلى مضيق جبل زغوان.
وكان منهم إنسان يقال له يوسف بن مالكن وهو من أمرائهم ورؤوس القبائل فيها، فجاء إلى عبد المؤمن بالليل وقال له سراً: إن العرب قد كرهت المسير إلى الأندلس، وقالوا ما غرضه إلا إخراجنا من بلادنا، وإنهم لا يفون بما حلفوا عليه؛ فقال: يأخذ الله، عز وجل الغادر. فلما كانت الليلة الثانية هربوا إلى عشائرهم، ودخلوا البر، ولم يبق منهم إلا يوسف بن مالك، فسماه عبد المؤمن يوسف الصادق.
ولم يحدث عبد المؤمن في أمرهم شيء، وسار مغرياً يحث السير حتى قرب القسنطينة، فنزل في موضع خصب يقال له. وادي النساء، والفصل ربيع، والكلأ مستحسن، فأقام به وضبط الطرق، فلا يسير من العسكر أحد البتة، ودام ذلك عشرين يوماً، فبقي الناس في جميع البلاد لا يعرفون لهذا العسكر خبراً مع كثرته وعظمه، ويقولون: ما أزعجه إلا خبر وصله من الأندلس، فحث لأجله السير، فعادت العرب الذين جفلوا منه من البرية إلى البلاد لما أمنوا جانبه، وسكنوا البلاد التي ألفوها، واستقروا في البلاد.
فلما علم عبد المؤمن برجوعهم جهز إليهم ولديه أبا محمد وأبا عبد الله في ثلاثين ألف مقاتل من أعيان الموحدين وشجعانهم، فجدوا السير، وقطعوا المفاوز، فما شعر العرب إلا والجيش قد أقبل بغتة من ورائهم، من جهة الصحراء، ليمنعوهم الدخول إليها إن راموا ذلك.

وكانوا قد نزلوا جنوباً من القيروان عند جبل يقال له جبل القرن، وهم زهاء ثمانين ألف بيت، والمشاهير من مقدميهم: أبو محفوظ محرز بن زياد، ومسعود بن زمام، وجبارة بن كامل، وغيرهم، فلما أطلت عليهم عساكر عبد المؤمن أضطربوا، واختلفت كلمتهم، ففر مسعود وجبارة بن كامل ومن معهما من عشائرهما، وثبت محرز بن زياد، وأمرهم بالثبات والقتال ، فلم يلتفتوا إليه، فثبت هو ومن معه من جمهور العرب ، فناجزهم الموحدون القتال في العشر الأوسط من ربيع الآخر من السنة، وثبت الجمعان، واشتد العراك بينهما وكثر القتل، فاتفق أن محرز بن زياد قتل، ورفع رأسه على رمح، فانهزمت جموع العرب عند ذلك، وأسلموا البيوت والحريم والأولاد والأموال، وحمل جميع ذلك إلى عبد المؤمن وهو بذلك المنزل، فأمر بحفظ النساء العربيات الصرائح، وحملهن معه تحت الحفظ والبر والصيانة إلى بلاد الغرب، وفعل معهم مثل ما فعل في حريم الأبثج.
ثم أقبلت إليه وفود رياح مهاجرين في طلب حريمهم كما فعل الأبثج، فأجمل الصنيع لهم، ورد الحريم إليهم، فلم يبق منهم أحد إلا وصار عنده، وتحت حكمه، وهو يخفض لهم الجناح ويبذل فيهم الإحسان، ثم إنه جهزهم إلى ثغور الأندلس على الشرط الأول، وجمعت عظام العرب المقتولين في هذه المعركة عند جبل القرن، فبقيت دهراً طويلاً كالتل العظيم يلوح للناظرين من مكان بعيد، وبقيت إفريقية مع نواب عبد المؤمن آمنة ساكنة لم يبق فيها من أمراء العرب خارجاً عن طاعته إلا مسعود بن زمام، وطائفته في أطراف البلاد.
ذكر غرق بغدادفي هذه السنة ، ثامن ربيع الآخر، كثرت الزيادة في دجلة، وخرق القورج فوق بغداد، وأقبل الد إلى البلد، فامتلأت الصحاري وخندق البلد، وأفسد الماء السور وأحدث فيه فتحة يوم السبت تاسع عشر الشهر، فوقع بعض السور عليها فسدها، ثم فتح الماء فتحة أخرى، وأهملوها ظناً أنها تنفث عن السور لئلا يقع، فغلب الماء، وتعذر سده، فغرق قراح ظفر، والأجمة، والمختارة، والمقتدية، ودرب القبار، وخرابة ابن جردة، والريان، وقراح القاضي، وبعض القطيعة، وبعض باب الأزج، وبعض المأمونية، وقراح أبي الشحم، وبعض قراح ابن رزين، وبعض الظفرية.
ودب الماء تحت الأرض إلى أماكن فوقعت وأخذ الناس يعبرون إلى الجانب الغربي، فبلغت المعبرة عدة دنانير، ولم يكن يقدر عليها، ثم نقص الماء وتهدم السور وبقي الماء الذي داخل السور يدب في المحال التي لم يركبها الماء، فكثر الخراب، وبقيت المحال لا تعرف إنما هي تلول، فأخذ الناس حدود دورهم بالتخمين.
وأما الجانب الغربي فغرقت فيه مقبرة أحمد بن حنبل وغيرها من المقابر، وانخسفت القبور المبنية، وخرج الموتى على رأس الماء، وكذلك المشهد والحربية، وكان أمراً عظيماً.
ذكر عود سنقر الهمذاني إلى اللحف وانهزامهفي هذه السنة عاد سنقر الهمذاني إلى إقطاعه، وهو قلعة الماهكي وبلد اللحف، وكان الخليفة قد أقطعه للأمير قايماز العميدي، ومعه أربعمائة فارس، فأرسل إليه يقول له: ارحل عن بلدي؛ فامتنع، فسار إليه، وجرى بينهم قتال شديد انهزم فيه العميدي، ورجع إلى بغداد بأسوء حال.
فبرز الخليفة، وسار في عساكره إلى سنقر، فوصل إلى العمانية وسير العساكر مع ترشك ورجع إلى بغداد، ومضى ترشك نحو سنقر الهمذاني، فتوغل سنقر في الجبال هارباً، ونهب ترشك ما وجد له ولعسكره من مال وسلاح وغير ذلك، وأسر وزيره، وقتل من رأى من أصحابه، ونزل على الماهكي وحصرها أياماً، ثم عاد إلى البندنيجين، وأرسل إلى بغداد بالبشارة.
وأما سنقر فإنه لحق بملكشاه فاستنجده، فسير معه خمس مائة فارس، فعاد ونزل على قلعة هناك، وأفسد أصحابه في البلاد، وأرسل ترشك إلى بغداد يطلب نجدة، فجاءته، فأراد سنقر أن يكبس ترشكن فعرف ذلك، فاحترز، فعدل سنقر إلى المخادعة، فأرسل رسولاً إلى ترشك يطلب منه أن يصلح حاله مع الخليفة، فاحتبس ترشك الرسول عنده وركب فيمن خف من أصحابه، فكبس سنقر ليلاً، فانهزم هو وأصحابه، وكثر القتل فيهم، وغنم ترشك أموالهم ودوابهم وكل ما لهم ونجا سنقر جريحا.
ذكر الفتنة بين عامة استراباذ

في هذه السنة وقع في استراباذ فتنة عظيمة بين العلويين ومن يتبعهم من الشيعة وبين الشافعية ومن معهم. وكان سببها أن الإمام محمداً الهروي وصل إلى استراباذ، فعقد مجلس الوعظ، وكان قاضيها أبو نصر سعد بن محمد بن إسماعيل النعيمي شافعي المذهب أيضاً فثار العلويين ومن يتبعهم من الشيعة بالشافعية ومن يتبعهم باستراباذ، ووقعت بين الطائفتين فتنة عظيمة انتصر فيها العلويون، فقتل من الشافعية جماعة، وضرب القاضي ونهبت داره ودور من معه، وجرى عليهم من الأمور الشنيعة ما لا حد عليه.
فسمع شاه مازندران الخبر فاستعظمه، وأنكر على العلويين فعلهم، وبالغ في الإنكار مع أنه شديد التشيع، وقطع عنهم جرايات كانت لهم، ووضع الجبايات والمصادرات على العامة، فتفرق كثير منهم وعاد القاضي إلى منصبه وسكنت الفتنة.
ذكر وفاة الملك محمد بن محمود بن ملكشاهفي هذه السنة، في ذي الحجة، توفي السلطان محمد بن محمود بن محمد، وهو الذي حاصر بغداد طالباً السلطنة وعاد عنها، فأصابه سل، وطال بهن فمات بباب همذان، وكان مولده في ربيع الآخر سنة اثنتين وعشرين وخمسمائة.
فلما حضره الموت أمر العساكر فركبت وأحضر أمواله وجواهره وحظاياه ومماليكه، فنظر إلى الجميع من طيارة تشرف على ما تحتها، فلما رآه بكى، وقال: هذه العساكر والأموال والمماليك والسراري ما أرى يدفعون عني مقدار ذرة، ولا يزيدون في أجلي لحظة. وأمر بالجميع فرفع بعد أن فرق منه شيئاً كثيراً.
وكان حليماً كريماً عاقلاً كثير التأني في أموره؛ وكان له ولد صغير، فسلمه إلى آقسنقر الأحمديلي وقال له: أنا أعلم أن العساكر لا تطيع مثل هذا الطفل، وهو وديعة عندك، فارحل به إلى بلادك. فرحل إلى مراغة، فلما مات اختلفت الأمراء، فطائفة طلبوا ملكشاه أخاه، وطائفة طلبوا سليمان شاه، وهم الأكثر، وطائفة طلبوا أرسلان الذي مع إيلدكز؛ فإما ملكشاه فإنه سار من خوزستان، ومعه دكلا صاحب فارسن وشملة التركماني وغيرهما، فوصل إلى أصفهان، فسلمها إليه ابن الخجندي، وجمع له مالاً أنفقه عليه، وأرسل إلى العساكر بهمذان يدعوهم إلى طاعته، فلم يجيبوه لعدم الاتفاق بينهم، ولأن أكثرهم كان يريد سليمان شاه.
ذكر أخذ حران من نور الدين
وعوده إليها
في هذه السنة مرض نور الدين محمود بن زنكي، صاحب حلب، مرضاً شديداً وأرجف بموته؛ وكان بقلعة حلب، ومعه أخوه الأصغر أمير أميران، فجمع الناس وحصر القلعة، وكان شيركوه، وهو أكبر أمرائه بحمص، فبلغه خبر موته، فسار إلى دمشق ليتغلب عليها وبها أخوه نجم الدين أيوب، فأنكر عليه أيوب ذلك وقال: أهلكتنا! والمصلحة أن تعود إلى حلب، فإن كان نور الدين حياً خدمته في هذا الوقت، وإن كان قد مات فإنا في دمشق نفعل ما نريد من ملكها، فعاد إلى حلب مجداً وصعد القلعة، وأجلس نور الدين في مكان يراه فيه الناس، وكلمهم، فلما رأوه حياً تفرقوا عن أخيه أمير أميران، فسار إلى حران فملكها.
فلما عوفي نور الدين قصد حران ليخلصها، فهرب أخوه منه، وترك أولاده بحران في القلعة، فملكها نور الدين، وسلمها إلى زين الدين علي نائب أخيه قطب الدين، صاحب الموصل، ثم سار نور الدين بعد أخذ حران إلى الرقة، وبها أولاد أميرك الجاندار، وهو من أعيان الأمراء، وقد توفي وبقي أولاده، فنازلها، فشفع جماعة من الأمراء فيهم، فغضب من ذلك، وقال: هلا شفعتم في أولاد أخي لما أخذت منهم حران، وكانت الشفاعة فيهم من أحب الأشياء إلي! فلم يشفعهم وأخذها منهم.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة مرض الخليفة المقتفي لأمر الله، واشتد مرضه، وعوفي فضربت البشائر ببغداد، وفرقت الصدقات من الخليفة ومن أرباب الدولة، وغلق البلد أسبوعاً.
وفيها عاد ترشك إلى بغداد، ولم يشعر به أحد إلا وقد ألقى نفسه تحت التاج ومعه سيف وكفن، وكان قد عصى الخليفة والتحق بالعجم، فعاد الآن فرضي عنه، وأذن له في دخول دار الخلافة وأعطي مالاً.

وفيها، في جمادى الأولى، أرسل محمد بن أنز صاحب قهستان عسكراً إلى بلد الإسماعيلية ليأخذ نهم الخراج الذي عليهم، فنزل عليهم الإسماعيلية من الجبال، فقتلوا كثيراً من العسكر، وأسروا الأمير الذي كان مقدماً عليهم اسمه قتيبة، وهو صهر ابن أنز، فبقي أسيراً عندهم عدة شهور، حتى زوج ابنته من رئيس الإسماعيلية علي بن الحسن، وخلص من الأسر.
وفيها توفي شرف الدين علي بن أبي القاسم منصور بن أبي سعيد الصاعدي قاضي نيسابور في شهر رمضان، وكان موته بالري، ودفن في مقبرة محمد ابن الحسن الشيباني، صاحب أبي حنيفة، رضي الله عنهما، وكان القاضي حنفياً أيضاً.
ثم دخلت سنة خمس وخمسين وخمسمائة
ذكر مسير سليمان شاه إلى همذان
في هذه السنة سار سليمان شاه من الموصل إلى همذان ليتولى السلطنة، وقد تقدم سبب قبضه وأخذه إلى الموصل.
وسبب مسيره إليها أن الملك محمدا ًابن السلطان محمود بن محمد بن ملكشاه لما مات أرسل أكابر الأمراء من همذان إلى أتابك قطب الدين مودود بن زنكي، صاحب الموصل، يطلبون منه إرسال الملك سليمان شاه ابن السلطان محمد بن ملك شاه إليهم ليولوه السلطنة، فاستقرت القاعدة بينهم أن يكون سليمان شاه سلطاناً وقطب الدين أتابكه، وجمال الدين وزير قطب الدين وزيراً للملك سليمان شاه، وزين الدين علي أمير العساكر الموصلية مقدم جيش سليمان شاه، وتحالفوا على هذا وجهز سليمان شاه بالأموال الكثيرة والبرك والدواب والآلات وغير ذلك مما يصلح للسلاطين، وسار ومعه زين الدين علي في عسكر الموصل إلى همذان .
فلما قاربوا بلاد الجبل أقبلت العساكر إليهم إرسالاً كل يوم يلقاه طائفة وأمير، فاجتمع مع سليمان شاه عسكر عظيم، فخافهم زين الدين على نفسه لأنه رأى من تسلطهم على السلطان واطراحهم للأدب معه ما أوجب الخوف منه، فعاد إلى الموصل، فحين عاد عنه لم ينتظم أمره، ولم يتم له ما أراده، وقبض العسكر عليه بهمذان في شوال سنة ست وخمسين، وخطبوا لأرسلان شاه ابن الملك طغرل، وهو الذي تزوج إيلدكز بأمه، وسيذكر مشروحاً إن شاء الله تعالى.
ذكر وفاة الفائز وولاية العاضد العلويينفي هذه السنة، في صفر، توفي الفائز بنصر الله أبو القاسم عيسى بن إسماعيل الظافر، صاحب مصر، وكانت خلافته ست سنين ونحو شهرين؛ وكان له لما ولي خمس سنين، كما ذكرناه. ولما مات دخل الصالح بن رزيك القصر، واستدعى خادماً كبيراً، وقال له: من هاهنا يصلح للخلافة؟ فقال: هاهنا جماعة؛ وذكر أسمائهم، وذكر له منهم إنسان كبير السن، فأمر بإحضاره، فقال له بعض أصحابه سراً: لا يكون عباس أحزم منك حيث اختار الصغير وترك الكبار واستبد بالأمر؛ فأعاد الصالح الرجل إلى موضعه، وأمر حينئذ بإحضار العاضد لدين الله أبي محمد عبد الله بن يوسف بن الحافظ، ولم يكن أبوه خليفة، وكان العاضد في ذلك الوقت مراهقاً قارب البلوغ، فبايع له بالخلافة، وزوجه الصالح ابنته، ونقل معها من الجهاز ما لا يسمع بمثله، وعاشت بعد موت العاضد وخروج الأمر من العلويين إلى الأتراك وتزوجت
؟
ذكر موت الخليفة المقتفي لأمر الله
وشيء من سيرته
في هذه السنة، ثاني ربيع الأول، توفي أمير المؤمنين المقتفي لأمر الله أبو عبد الله محمد بن المستظهر بالله أبي العباس أحمد بن المقتدي بأمر الله، رضي الله عنه، بعلة التراقي؛ وكان مولده ثاني عشر ربيع الآخر سنة تسع وثمانين وأربعمائة، وأمه أم ولد تدعى ياعي؛ وكانت خلافته أربعاً وعشرين سنة وثلاثة أشهر وستة عشر يوماً، ووافق أباه المستظهر بالله في علة التراقي وماتا جميعاً في ربيع الأول.
وكان حليماً كريماً عادلاً حسن السيرة من الرجال ذوي الرأي والعقل الكثير. وهو أول من استبد بالعراق منفرداً عن سلطان يكون معه من أول أيام الدليم إلى الآن، وأول خليفة تمكن من الخلافة وحكم على عسكره وأصحابه من حين تحكم المماليك على الخلفاء من عهد المستنصر إلى الآن، إلا أن يكون المعتضد، وكان شجاعاً مقداماً مباشراً للحروب بنفسه، وكان يبذل الأموال العظيمة لأصحاب الأخبار في جميع البلاد حتى كان لا يفوته شيءمنها.
؟
ذكر خلافة المستنجد بالله

وفي هذه السنة بويع المستنجد بالله أمير المؤمنين، واسمه يوسف، وأمه أم ولد تدعى طاووس، بعد موت والده؛ وكان للمقتفي حظية، وهي أم ولده أبي علي، فلما اشتد مرض المقتفي وأيست منه أرسلت إلى جماعة من الأمراء وبذلت لهم الإقطاعات الكثيرة والأموال الجزيلة ليساعدوها على أن يكون ولدها الأمير أبو علي خليفة. قالوا: كيف الحيلة مع ولي العهد؟ فقالت: إذا دخل على والده قبضت عليه. وكان يدخل على أبيه كل يوم. فقالوا: لا بد لنا من أحد من أرباب الدولة؛ فوقع اختيارهم على ابي المعالي ابن الكيا الهراسي، فدعوه إلى ذلك، فأجابهم على أن يكون وزيراً، فبذلوا له ما طلب.
فلما استقرت القاعدة بينهم وعلمت أم أبي علي أحضرت عدة من الجواري وأعطتهن السكاكين، وأمرتهن بقتل ولي العهد المستنجد بالله. وكان له خصي صغير يرسله كل وقت يتعرف أخبار والده، فرأى الجواري بأيديهن السكاكين، ورأى بيد أبي علي وأمه سيفين، فعاد إلى المستنجد فأخبره، وأرسلت هي إلى المستنجد تقول له إن والده قد حضره الموت ليحضر ويشاهده، فاستدعى أستاذ الدار عضد الدين وأخذه معه وجماعة من الفراشين، ودخل الدار وقد لبس الدرع وأخذ بيده السيف، فلما دخل ثارت به الجواري، فضرب واحدة منهن فجرحها، وكذلك أخرى، فصاح ودخل أستاذ الدار ومعه الفراشون، فهرب الجواري وأخذ أخاه أبا علي وأمه فسجنهما، وأخذ الجواري فقتل منهن، وغرق منهن ودفع الله عنه.
فلما توفي المقتفي لأمر الله جلس للبيعة، فبايعه أهله وأقاربه، وأولهم عمه أبو طالب، ثم أخوه أبو جعفر بن المقتفي، وكان أكبر من المستنجد، ثم بايعه الوزير بن هبيرة، وقاضي القضاة، وأرباب الدولة والعلماء، وخطب له يوم الجمعة، ونثرت الدراهم والدنانير.
حكى عنه الوزير عون الدين بن هبيرة أنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، في المنام منذ خمس عشرة سنة، وقال لي: يبقى أبوك في الخلافة خمس عشرة سنة؛ فكان كما قال، صلى الله عليه وسلم. قال: ثم رأيته قبل موت أبي المقتفي بأربعة أشهر، فدخل بي في باب كبير، ثم ارتقى إلى رأس جبل، وصلى بي ركعتين، ثم ألبسني قميصاً، ثم قال لي: قل اللهم اهدني فيمن هديت؛ وذكر دعاء القنوت.
ولما ولي الخلافة أقر ابن هبيرة على وزارته وأصحاب الولايات على ولاياتهم، وأزال المكوس والضرائب، وقبض على القاضي ابن الرخم وقال: وكان بئس الحاكم، وأخذ منه مالاً كثيراً، وأخذت كتبه فأحرق منها في الرحبة ما كان من علوم الفلاسفة، فكان منها كتاب الشفاء لابن سينا، وكتاب أخوان الصفا، وما شاكلهما، وقدم عضد الدين بن رئيس الرؤساء، وكان أستاذ الدار يمكنه، وتقدم إلى الوزير أن يقوم له، وعزل قاضي القضاة أبا الحسن علي بن أحمد الدامغاني، ورتب مكانه أبا جعفر عبد الواحد الثقفي، وخلع عليه.
ذكر الحرب بين عسكر خوارزم والأتراك البرزيةفي هذه السنة، في ربيع الأول، سار طائفة من عسكر خوارزم إلى أجحه، وهجموا على يغمر خان بن أودك ومن معه من الأتراك البرزية، فأوقعوا بهم، وأكثروا القتل، فانهزم يغمرخان، وقصد السلطان محمد بن محمد الخان والأتراك الغزية الذين معه وتوسل إليهم بالقرابة، وظن يغمرخان أن أختيار الدين إيثاق هو الذي هيج الخوارزمية عليه، فطلب من الغز إنجاده.
ذكر أحوال المؤيد بخراسان هذه السنةقد ذكرنا سنة ثلاث وخمسين عود المؤيد أي أبه إلى نيسابور، وتمكنه منها، وأن ذلك كان سنة أربع وخمسين؛ فلما دخلت سنة خمس وخمسين وخمسمائة، ورأى المؤيد تحكمه في نيسابور وتمكنه في دولته، وكثرة جنده وعسكره، أحسن السيرة في الرعية، ولا سيما أهل نيسابور، فإنه جبرهم وبالغ في الإحسان إليهم، وشرع في إصلاح أعمالها وولاياتها، فسير طائفة من عسكره إى ناحية اسقيل، وكان بها جمع قد تمردوا أكثروا العيث والفساد في البلاد، وطال تماديهم في طغيانهم، فأرسل إليهم المؤيد يدعوهم إلى ترك الشر والفساد ومعاودة الطاعة والصلاح، فلم يقبلوا، ولم يرجعوا عما هم عليه، فسير إليهم سرية كثيرة، فقاتلهم وأذاقهم عاقبة ما صنعوا فأكثروا القتل فيهم وخربوا حصنهم.

وسار المؤيد من نيسابور إلى بيهق، فوصلها رابع عشر ربيع الأخر من السنة، وقصد منها حصن خسروجرد، وهو حصن منيع بناه كيخسرو الملك قبل فراغه من قتل افراسياب، وفيه رجال شجعان، فامتنعوا على المؤيد، فحصرهم ونصب عليهم الجانيق، وجد في القتال، فصبر أهل الحصن حتى نفذ صبرهم، ثم ملك المؤيد القلعة وأخرج كل من فيها ورتب فيها من يحفظها، وعاد منها إلى نيسابور في الخامس والعشرين من جمادى الأولى من السنة.
ثم سار إلى هراة، فلم يبلغ منها غرضاً، فعاد إلى نيسابور، وقصد مدينة كندر، وهي من أعمال طريثيث، وقد تغلب عليها رجل اسمه أحمد كان خربندة، واجتمع معه جماعة من الرنود وقطاع الطريق والمفسدين، فخربوا الكثير من البلاد، وقتلوا كثيراً من الخلق، وغنموا من الأموال ما لا يحصى.
وعظمت المصيبة بهم على خراسان وزاد البلاء، فقصدهم المؤيد، فتحصنوا بالحصن الذي لهم، فقوتلوا أشد قتال، ونصب عليهم العرادات والمنجنيقات، فأذعن هذا الخربندة أحمد إلى طاعة المؤيد والانخراط في سلك أصحابه وأشياعه، فقبله أحسن قبول، وأحسن إليه وأنعم عليه.
ثم إنه عصى المؤيد، وتحصن بحصنه، فأخذه منه المؤيد قهراً وعنوة، وقيده، واحتاط عليه، ثم قتله وأراح المسلمين منه ومن شره وفساده، وقصد المؤيد في شهر رمضان ناحية بيهق عازماً على قتالهم لخروجهم عن طاعته، فلما قاربها أتاه زاهد من أهلها ودعاه إلى العفو عنهم والحلم عن ذنوبهم، ووعظه وذكره، فأجابه إلى ذلك ورحل عنهم؛ فأرسل السلطان ركن الدين محمود بن محمد الخان إلى المؤيد بتقرير نيسابور وطوس وأعمالها عليه، ورد الحكم فيها إليه، فعاد إلى نيسابور رابع ذي القعدة من السنة، ففرح الناس بما تقرر بينه وبين الملك محمود وبين الغز من إبقاء نيسابور عليه ليزول الخلف والفتن عن الناس.
ذكر الحرب بين شاه مازندران ويغمرخانلما قصد يغمرخان الغز وتوسل إليهم لينصروه على إيثاق لظنه انه هو الذي حسن للخوارزمية قصده، أجابوه إلى ذلك، وساروا معه على طريق نسا وأبيورد، ووصلوا إلى الأمير إيثاق فلم يجد لنفسه بهم قوة، فاستنجد شاه مازندران، فجاءه ومعه من الأكراد والديلم والأتراك والتركمان الذين يسكنون نواحي ابسكون جمع كثير، فاقتتلوا ودامت الحرب بينهم، وانهزم الأتراك الغزية والبرزية من شاه مازندران خمس مرات ويعودون.
وكان على ميمنة الأمير مازندران الأمير إيثاق، فحملت الأتراك الغزية عليه لما أيسوا من الظفر بقلب شاه مازندران، فانهزم إيثاق وتبعه باقي العسكر، ووصل شاه مازندران إلى سارية، وقتل من عسكره أكثرهم.
وحكي أن بعض التجار كفن ودفن من هؤلاء القتلى سبعة آلاف رجل.
وأما إيثاق فإنه قصد في هربه خوارزم وأقام بها، وسار الغز من المعركة إلى دهستان، وكان الحرب قريباً منها، فنقبوا سورها، وأوقعوا بأهلها ونهبوهم أوائل سنة ست وخمسين وخمسمائة، بعد أن خربوا جرجان وفرقوا أهلها وعادوا إلى خراسان.
ذكر وفاة خسرشاه صاحب غزنة وملك ابنه بعدهفي هذه السنة، في رجب، توفي السلطان خسروشاه بن بهرام شاه بن مسعود بن إبراهيم بن مسعود بن محمود سبكتكين، صاحب غزنة، وكان عادلاً، حسن السيرة في رعيته، محباً للخير وأهله، مقرباً للعلماء محسناً إليهم راجعاً إلى قولهم؛ وكان ملكه تسع سنين.
وملك بعده ابنه ملكشاه فلما ملك نزل علاء الدين الحسين، ملك الغور، إلى غزنة فحصرها، وكان الشتاء شديداً والثلج كثيراً، قلم يمكنه المقام عليها، فعاد إلى بلاده في صفر سنة ست وخمسين.
ذكر الحرب بين إيثاق وبغراتكينفي هذه السنة، منتصف شعبان، كان بين الأمير إيثاق والأمير بغراتكين برغش الجركاني حرب، وكان إيثاق قد سار إلى بغراتكين في آخر أعمال جوين، فنهبه، واخذ أمواله وكل ما له، وكان ذا نعمة عظيمة وأموال جسيمة، فانهزم بغراتكين عنها وخلاها فافتتحها إيثاق واستغنى بها، وقويت نفسه بسببها، وكثرت جموعه، وقصده الناس. وأما بغراتكين فإنه راسل المؤيد صاحب نيسابور، وصار في جملته ومعدوداً من أصحابه، فتلقاه المؤيد بالقبول.
ذكر وفاة ملكشاه بن محمود

في هذه السنة توفي ملكشاه ابن السلطان محمود بن محمد بن ملكشاه بن ألب أرسلان بأصفهان مسموماً؛ وكان سبب ذلك انه لما كثر جمعه بأصفهان أرسل إلى بغداد وطلب أن يقطعوا خطبة عمه سليمان شاه ويخطبوا له ويعيدوا القواعد بالعراق إلى ما كانت عليه أولاً، وإلا قصدهم، فوضع الوزير عون الدين بن هبيرة خصياً كان خصيصاً به، يقال له أغلبك الكوهراييني، فمضى إلى بلاد العجم، واشترى جارية من قاضي همذان بألف دينار، وباعها من ملكشاه، وكان قد وضعها على سمه ووعدها أموراً عظيمة، ففعلت ذلك وسمته في لحم مشوي فأصبح ميتاً، وجاء الطبيب إلى دكلا وشملة فعرفهما انه مسموم، فعرفوا أن ذلك من فعل الجارية، فأخذت وضربت وأقرت، وهرب أغلبك، ووصل إلى بغداد، ووفى له الوزير بجميع ما استقر الحال عليه.
ولما مات أخرج أهل أصفهان أصحابه من عندهم، وخطبوا لسليمان شاه واستقر ملكه بتلك البلاد، وعاد شملة إلى خوزستان فأخذ ما كان ملكشاه تغلب عليه منها.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة حج أسد الدين شيركوه بن شاذي مقدم جيوش نور الدين محمود بن زنكي صاحب الشام؛ وشيركوه هذا هو الذي ملك الديار المصرية، وسير ذكره إن شاء اله تعالى.
وفيها أرسل زين الدين علي نائب قطب الدين، صاحب الموصل، رسولاً إلى المستنجد يعتذر مما جناه من مساعدة محمد شاه في حصار بغداد، ويطلب أن يؤذن له في الحج، فأرسل إليه يوسف الدمشقي، مدرس النظامية، وسليمان بن قتلمش يطيبان قلبه عن الخليفة ويعرفانه الإذن في الحج، فحج ودخل إلى الخليفة، فأكرمه وخلع عليه.
وفيها توفي قايماز الأرجواني أمير الحاج، سقط عن الفرس وهو يلعب بالأكرة، فسال مخه من منخريه وأذنيه فمات.
وفيها، في ربيع الأول، توفي محمد بن يحيى بن علي بن مسلم أبو عبد الله الزبيدي، من أهل زبيد وهي مدينة مشهورة باليمن، وقدم بغداد سنة تسع وخمسمائة، وكان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر؛ وكان نحوياً واعظاً، وصحبه الوزير ابن هبيرة مدة، وكان موته ببغداد.
ثم دخلت سنة ست وخمسين وخمسمائة
ذكر الفتنة ببغداد
في هذه السنة ، في ربيع الأول، خرج الوزير ابن هبيرة من داره إلى الديوان، والغلمان يطرقون له، وأرادوا أن يردوا باب المدرسة الكمالية بدار الخليفة، فمنعهم الفقهاء وضربوهم بالآجر، فشهر أصحاب الوزير السيوف وأرادوا ضربهم، فمنعهم الوزير، ومضى إلى الديوان، فكتب الفقهاء مطالعة يشكون أصحاب الوزير، فأمر الخليفة بضرب الفقهاء وتأديبهم ونفيهم من الدار، فمضى أستاذ الدار وعاقبهم هناك، واختفى مدرسهم الشيخ أبو طالب، ثم إن الوزير أعطى كل فقير ديناراً، واستحل منهم، وأعادهم إلى المدرسة وظهر مدرسهم.
ذكر قتل ترشكفي هذه الأيام قصد جمع من التركمان إلى البندنيجين، فأمر الخليفة بتجهيز عسكر إليهم، وأن يكون مقدمهم الأمير ترشك، وكان في أقطاعه بلد اللحف، فأرسل إلى الخليفة يستدعيه، فامتنع من المجيء إلى بغداد وقال: يحضر العسكر فأنا أقاتل بهم؛ وكان عازماً على الغدر؛ فجهز العسكر وساروا إليه، وفيهم جماعة من الأمراء، فلما اجتمعوا بترشك قتلوه، وأرسلوا رأسه إلى بغداد، وكان قتل مملوكاً للخليفة، فدعا أولياء القتيل وقيل لهم: إن أمير المؤمنين قد اقتص لأبيكم ممن قتله.
ذكر قتل سليمان شاه والخطبة لأرسلان

في هذه السنة، في ربيع الآخر، قتل السلطان سليمان شاه ابن السلطان محمد بن ملكشاه، وسبب ذلك أنه كان فيه تهور وخرق، وبلغ به شرب الخمر حتى أنه شربها في رمضان نهاراً، وكان يجمع المساخر ولا يلتفت إلى الأمراء، فأهمل العسكر أمره، وصاروا لا يحضرون بابه، وكان قد رد جميع الأمور إلى شرف الدين كردبازو الخادم، وهو من مشايخ الخدم السلجوقية يرجع إلى دين وعقل وحسن تدبير، فكان الأمراء يشكون إليه وهو يسكنهم.فاتفق أنه شرب يوماً بظاهر همذان في الكشك الأخضر فحضر عنده كردبازو، فلامه على فعله، فأمر سليمان شاه من عنده من المساخر فعبثوا بكردبازو، حتى أن بعضهم كشف له عن سوءته، فخرج مغضباً، فلما صحا سليمان أرسل له يعتذر، فقبل عذره، إلا أنه تجنب الحضور عنده، فكتب سليمان إلى إينانج صاحب الري يطلب منه أن ينجده على كردبازو، فوصل الرسول وإينانج مريض، فأعاد الجواب يقول: إذا أفقت من مرضي حضرت إليك بعسكري؛ فبلغ الخبر كردبازو، فازداد استيحاشاً، فأرسل إليه سليمان يوماً يطلبه، فقال: إذا جاء إينانج حضرت؛ وأحضر الأمراء واستحلفهم على طاعته، وكانوا كارهين لسليمان، فحلفوا له، فأول ما عمل أن قتل المساخرة الذين لسليمان، وقال: إنما أفعل ذلك صيانة لملكك؛ ثم اصطلحا، وعمل كردبازو دعوة عظيمة حضرها السلطان والأمراء، فلما صار السلطان سليمان شاه في داره قبض عليه كردبازو وعلى وزيره ابن القاسم محمود بن عبد العزيز الحامدي، وعلى أصحابه، في شوال سنة خمس وخمسين وخمسمائة، فقتل وزيره وخواصه، وحبس سليمان شاه في قلعة، ثم أرسل إليه من خنقه؛ وقيل بل حبسه في دار مجد الدين العلوي رئيس همذان، وفيها قتل؛ وقيل بل سقي سماً فمات، والله اعلم.
وأرسل إلى إيلدكز، صاحب آران وأكثر بلاد أذربيجان، يستدعيه إليه ليخطب للملك أرسلان شاه الذي معه، وبلغ الخبر إلى إينانج صاحب بلاد الري، فسار ينهب البلاد إلى أن وصل إلى همذان، فتحصن كردبازو، فطلب منه إينانج أن يعطيه مصافاً، فقال: أنا لا أحاربك حتى يصل الأتابك الأعظم إيلدكز. وسار إيلدكو في عساكره جميعاً يزيد على عشرين ألف فارس، ومعه أرسلان شاه بن طغرل بن محمد بن ملكشاه، فوصل إلى همذان، فلقيهم كردبازو، وأنزله دار المملكة، وخطب لأرسلان شاه بالسلطنة بتلك البلاد، وكان إيلدكز قد تزوج بأم أرسلان شاه، وهي أم البهلوان بن إيلدكز، وكان إيلدكز أتابكه، والبهلوان حاجبه، وهو أخوه لأمه، وكان إيلدكز هذا أحد مماليك السلطان مسعود واشتراه في أول أمره، فلما ملك أقطعه أران وبعض أذربيجان؛ واتفق الحروب والاختلاف، فلم يحضر عنده أحد من السلاطين السلجوقية، وعظم شأنه وقوي أمره، وتزوج بأم الملك أرسلان شاه، فولدت له أولاداً منهم البهلوان محمد، وقزل أرسلان عثمان.
وقد ذكرنا سبب انتقال أرسلان شاه إليهن وبقي عنده إلى الآن، فلما خطب له بهمذان أرسل إيلدكز إلى بغداد يطلب الخطبة لأرسلان شاه أيضاً، وأن تعاد القواعد إلى ما كانت عليه أيام السلطان مسعود، فأهين رسوله وأعيد إليه على أقبح حالة؛ وأما إيناننج صاحب الري فإن إيلدكز راسله ولاطفه فاصطلحا وتحالفا على الاتفاق، وتزوج البهلوان بن إيلدكز بابنة إينانج ونقلت إليه بهمذان.
ذكر الحرب بين ابن آقسنقر وعسكر إيلدكزلما استقر الصلح بين إيلدكز وإينانج أرسل إلى ابن آقسنقر الأحمديلي، صاحب مراغة، يدعوه إلى الحضور في خدمة السلطان أرسلان شاه، فامتنع من ذلك وقال: إن كففتم عني، وإلا فعندي سلطان، وكان عنده ولد محمد شاه بن محمود، كما ذكرناه، وكان الوزير ابن هبيرة قد كاتبه يطمعه بالخطبة لولد محمد شاه، فجهز إيلدكز عسكراً مع ولده البهلوان، فبلغ الخبر إلى ابن آقسنقر فأرسل إلى شاه أرمن، صاحب خلاط، وحالفه، وصارا يداً واحدة، فسير إليه شاه أرمن عسكراً كثيراً، واعتذر عن تأخره بنفسه لأنه في ثغر لا يمكنه مفارقته، فقوي بهم ابن آقسنقر، وكثر جمعه، وسار نحو البهلوان، فالتقيا على نهر اسبيرود، فاشتد القتال بينهم، فانهزم البهلوان أقبح هزيمةن ووصل هو وعسكره إلى همذان على أقبح صورة، واستأمن أكثر أصحابه إلى أقسنقر، وعاد إلى بلده منصوراً.
ذكر الحرب بين إيلدكز وإينانج

لما مات ملكشاه ابن السلطان محمود، كما ذكرناه، أخذ طائفة من أصحابه ابنه محموداً وانصرفوا به نحو بلاد فارس، فخرج عليهم صاحبها زنكي بن دكلا السلغري فأخذه منهم وتركه في قلعة إصطخر، فلما ملك إيلدكز والسلطان أرسلان شاه الذي معه البلاد، وأرسل إيلكز إلى بغداد يطلب الخطبة للسلطان، كما ذكرناهن شرع الوزير عون الدين أبو المظفر يحيى بن هبيرة، وزير الخليفة، في إثارة أصحاب الأطراف عليه، وراسل الأحمديلي، وكان ما ذكرناه، وكاتب زنكي بن دكلا صاحب بلاد فارس يبذل له أن يخطب للملك الذي عندهن وهو ابن ملكشاه، وعلق الخطبة له بظفره بإيلدكزن فخطب ابن دكلا للملك الذي عنده، وأنزله من القلعة، وضرب الطبل على بابه خمس نوب، وجمع عساكره وكاتب إينانج صاحب الري يطلب منه الموافقة.
وسمع الخبر إيلدكز، فحشد وجمع، وكثر عسكره وجموعه فكانت أربعين ألفاً، وسار إلى أصفهان يريد بلاد فارس، وأرسل إلى زنكي بن دكلا يطلب منه الموافقة على أن يعود يخطب لأرسلان شاه، فلم يفعل، وقال: إن الخليفة قد أقطعني بلاده وأنا سائر إليه، فرحل إيلدكز، وبلغه أن لأرسلان بوقا، وهو أمير من أمراء زنكي، وفي أقطاعه أرجان، بالقرب منه، فأنفذ سرية للغارة عليه، فاتفق أن أرسلان بوقا عزم على تغيير الخيل التي معه لضعفها، وأخذ عوضها من ذلك الجشير، فسار في عسكره إلى الجشير، فصادف العسكر الذي سيره إيلدكز لأخذ دوابه، فقاتلهم وأخذهم وقتلهم، وأرسل الرؤوس إلى صاحبه، فكتب بذلك إلى بغداد وطلب المدد، فوعد بذلك.
وكان الوزير عون الدين أيضاً قد كاتب الأمراء الذين مع إيلدكز يوبخهم على طاعته، ويضعف رأيهم، ويحرضهم على مساعدة زنكي ابن دكلا وإينانج؛ وكان إينانج قد برز من الري في عشرة آلاف فارس، فأرسل إليه ابن آقسنقر الأحمديلي خمسة آلاف فارس، وهرب ابن البا
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://arabelalekat.yoo7.com
الشيخ عودة
الشيخ عودة
الشيخ عودة



عدد المساهمات : 1748
تاريخ التسجيل : 28/09/2008
العمر : 74

كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير - صفحة 7 Empty
مُساهمةموضوع: رد: كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير   كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير - صفحة 7 Emptyالخميس فبراير 27, 2014 6:30 am

ذكر ملك الكرج مدينة آني
في هذه السنة، في شعبان، اجتمعت الكرج مع ملكهم، وساروا إلى مدينة آني من بلاد آران وملكوها، وقتلوا فيها خلقاً كثيراً، فانتدب لهم شاه أرمن بن إبراهيم بن سكمان صاحب خلاط، وجمع العساكر، واجتمع معه من المتطوعة خلق كثير، وسار إليهم، فلقوه وقاتلوه، فانهزم المسلمون، وقتل أكثرهم، وأسر كثير منهم، وعاد شاه ارمن مهزوماً لم يرجع معه غير أربع مائة فارس من عسكره.
ذكر ولاية عيسى مكة حرسها اللهكان أمير مكة، هذه السنة، قاسم بن فليتة بن قاسم بن أبي هاشم العلوي الحسنين فلما سمع بقرب الحجاج من مكة صادر المجاورين وأعيان أهل مكة، وأخذ كثيراً من أموالهم، وهرب من مكة خوفاً من أمير الحاج أرغش.
وكان قد حج هذه السنة زين الدين علي بن بكتكين، صاحب جيش الموصل، ومعه طائفة صالحة من العسكر، فلما وصل أمير الحاج إلى مكة رتب مكان قاسم بن فليتة عمه عيسى بن قاسم بن أبي هاشم، فبقي كذلك إلى شهر رمضان، ثم إن قاسم بن فليتة جمع جمعاً كثيراً من العرب أطمعهم في مال له في مكة، فاتبعوه، فسار بهم إليها، فلما سمع عمه عيسى فارقها، ودخلها قاسم فأقام بها أميراً أياماً، ولم يكن له مال يوصله إلى العرب، ثم إنه قتل قائداً كان معه أحسن السيرة، فتغيرت نيات أصحابه عليه، وكاتبوا عمه عيسى، فقدم عليهم، فهرب وصعد جبل أبي قبيس، فسقط عن فرسه، فأخذه أصحاب عيسى وقتلوه، فعظم عليه قتله، فأخذه وغسله ودفنه بالمعلى عند أبيه فليتة، واستقر الأمر لعيسى، والله أعلم.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة سار عبد المؤمن، صاحب المغرب، إلى جبل طارق، وهو على ساحل الخليج مما يلي الأندلس، فعبر المجاز إليه، وبنى عليه مدينة حصينة، وأقام بها عدة شهور، وعاد إلى مراكش.
وفيها، في المحرم، ورد نيسابور جمع كثير من التركمان بلاد فارس ومعهم أغنام كثيرة للتجارة فباعوها وأخذوا الثمن وساروا ونزلوا على مرحلتين من طابس كنكلي، وناموا هناك، فنزل إليهم الإسماعيلية وكبسوهم ليلاً، ووضعوا السيف فيهم، فقتلوا وأكثروا، ولم ينجو منهم إلا الشريد، وغنم الإسماعيلية جميع ما معهم من مال وعروض، وعادوا إلى قلاعهم.
وفيها كثرت الأمطار في أكثر البلاد، ولا سيما خراسان، فإن الأمطار توالت فيها من العشرين من المحرم إلى منتصف صفر لم تنقطع، ولا رأى الناس فيها شمساً.
وفيها كان بين الكرج وبين الملك صلتق بن علي، صاحب أرزن الروم، قتال وحرب انهزم فيه صلتق وعسكره، وأسر هو، وكانت أخته شاه بانوار قد تزوجها شاه أرمن سكمان بن ابراهيم بن سكمان صاحب خلاط، فأرسلت إلى ملك الكرج هدية جليلة المقدار، وطلبت منه أن يفاديها بأخيها، فأطلقه، فعاد إلى ملكه.
وفيها قصد صاحب صيدا من الفرنج نور الدين محمود، صاحب الشام، ملتجئاً إليه، فأمنه وسير معه عسكراً يمنعه من الفرنج أيضاً، فظهر عليهم في الطريق كميناً للفرنج، فقتلوا من المسلمين جماعة وانهزم الباقون.
وفيها ملك قرا أرسلان، صاحب حصن كيفا، قلعة شاتان، وكانت لطائفة من الأكراد يقال لهم الجونيه، فلما ملكها خربها وأضاف ولايتها إلى حصن طالب.
وفيها توفي الكمال حمزة بن علي بن طلحة صاحب المخزن، كان جليل القدر أيام المسترشد بالله، وولي المقتفي، وبنى مدرسة لأصحاب الشافعي بالقرب من داره، ثم حج وعاد وقد لبس الفوط وزي الصوفية وترك الأعمال، فقال بعض الشعراء به:
يا عضد الإسلام يا من سمت ... إلى العلا همته الفاخرة
كانت لك الدنيا، فلم ترضها ... ملكاً فأخلدت إلى الآخرة
وبقي منقطعاً في بيته عشرين سنة، ولم يزل محترماً يغشاه الناس كافة.
ثم دخلت سنة سبع وخمسين وخمسمائة
ذكر فتح المؤيد طوس وغيرها
في هذه السنة، في السابع والعشرين من صفر، نازل المؤيد أي أبه أبا بكر جاندار بقلعة وسكره خوي من طوس وكان قد تحصن بها، وهي حصينة منيعة لا ترام، فقاتله وأعانه أهل طوس على أبي بكر لسوء سيرته فيهم وظلمه، فلما رأى أبو بكر ملازمة المؤيد ومواصلة القتال عليه خضع وذل واستكان، ونزل من القلعة بالأمان في العشرين من ربيع الأول من السنة، فلما نزل منها حبسه المؤيد وأمر بتقييده.

ثم سار منها إلى كرستان، وصاحبها أبو بكر فاخر، فنزل من قلعته، وهي من أمنع الحصون على رأس جبل عال، وصار في طاعة المؤيد، ودان له ووافقه، وسير جيشاً في جمادى الآخرة منها إلى أسفرايين، فتحصن رئيسها عبد الرحمن بن محمد بن علي الحاج بالقلعة، وكان أبوه كريم خراسان على الإطلاق، ولكن كان عبد الرحمن هذا بئس الخلف، فلما تحصن أحاط به العسكر المؤيدي، واستنزلوه من الحصن، وحملوه مقيداً إلى شاذياخ وحبس فيها؛ وقيل في ربيع الآخر سنة ثمان وخمسين وخمسمائة.
وملك المؤيد أيضاً قهندز نيسابور، واستدارت مملكة المؤيد حول نيسابور وعادت إلى ما كانت عليه قبل، إلا أن أهلها انتقلوا إلى شاذياخ، وخربت المدينة العتيقة.
وسير المؤيد جيشاً إلى خواف، وبها عسكر مع بعض الأمراء اسمه أرغش، فكمن أرغش جمعاً في تلك المضايق والجبال، وتقدم إلى عسكر المؤيد فقاتلهم وطلع الكمين، فانهزم عسكر المؤيد وقتل منهم جمع، وعاد الباقون إلى المؤيد بنيسابور.
وسير جيشاً إلى بوشنج هراة، وهي في طاعة الملك محمد بن الحسين الغوري، فحصروها، واشتد الحصار عليها، ودام القتال والزحف، فسير الملك محمد الغوري جيشاً إليها ليمنع عنها، فلما قاربوا هراة فارقها العسكر الذي يحصرها، وعاودوا عنها وصفت تلك الولاية للغورية.
ذكر أخذ ابن مردنيش غرناطة من عبد المؤمن وعودها إليهفي هذه السنة أرسل أهل غرناطة من بلاد الأندلس، وهي لعبد المؤمن، إلى الأمير إبراهيم بن همشك صهر ابن مردنيشن فاستدعوه إليهم ليسلموا إليه البلد؛ وكان قد وحد، وصار من أصحاب عبد المؤمن، وفي طاعته، وممن يحرضه على قتل ابن مردنيش. ففارق طاعة عبد المؤمن وعاد إلى موافقة ابن مردنيش. فامتنعوا بحصنها، فبلغ الخبر أبا سعيد عثمان بن عبد المؤمن وهو بمدينة مالقة، فجمع الجيش الذي كان عنده وتوجه إلى غرناطة لنصرة من فيها من أصحابهم، فعلم بذلك إبراهيم بن همشك فاستنجد ابن مردنيش، ملك البلاد بشرق الأندلس، فأرسل إليه ألفي فارس من أنجاد أصحابه ومن الفرنج الذين جندهم معه، فاجتمعوا بضواحي غرناطة، فالتقوا هم ومن بغرناطة من عسكر عبد المؤمن قبل وصول أبي سعيد إليهم، فاشتد القتال بينهم فانهزم عسكر عبد المؤمن، وقدم أبو سعيد، واقتتلوا أيضاً، فانهزم كثير من أصحابه، وثبت معه طائفة من الأعيان والفرسان المشهورين، والرجالة الأجلاد، حتلا قتلوا عن آخرهم وانهزم حينئذ أبو سعيد ولحق بمالقة.
وسمع عبد المؤمن الخبر، وكان قد سار إلى مدينة سلا، فسير إليهم في الحال ابنه ابا يعقوب يوسف في عشرين ألف مقاتل، فيهم جماعة من شيوخ الموحدين، فجدوا المسير، فبلغ ذلك ابن مردنيش فسار بنفسه وجيشه إلى غرناطة ليعين ابن همشك، فاجتمع منهم بغرناطة جمع كثير، فنزل ابن مردنيش في الشريعة بظاهرها، ونزل العسكر الذي كان أمد به ابن همشك أولاًن وهم ألفا فارس، بظاهر القلعة الحمراء، ونزل ابن همشك بباطن القلعة الحمراء بمن معه، ووصل عسكر عبد المؤمن إلى جبل قريب من غرناطة، فأقاموا في سفحه أياماً ثم سيروا سرية أربعة ألاف فارس، فبينوا العسكر الذي بظاهر القلعة الحمراء، وقاتلوهم من جهاتهم، فما لحقوا يركبون، فقتلوهم عن آخرهم.
وأقبل عسكر عبد المؤمن بجملته، فنزلوا بضواحي غرناطة، فعلم ابن مردنيش وابن همشك أنهم لا طاقة لهم بهم، ففروا في الليلة الثانية، ولحقوا ببلادهم، واستولى الموحدون على غرناطة في باقي السنة المذكورة، وعاد عبد المؤمن من مدينة سلا إلى مراكش.
ذكر حصر نور الدين حارمفي هذه السنة جمع نور الدين بن محمود بن آقسنقر، صاحب الشام، العساكر بحلب، وسار إلى قلعة حارم، وهي للفرنج غربي حلب، ، فحصرها وجد في قتالها، فامتنعت عليه بحصانتها، وكثرة من بها من فرسان الفرنج ورجالتهم وشجعانهم، فلما علم الفرنج ذلك جمعوا فارسهم وراجلهم من سائر البلاد، وحشدوا، واستعدوا، وساروا نحوها ليرحلوه عنها، فلما قاربوه طلب منهم المصاف، فلم يجيبوه إليه، وراسلوه، وتلطفوا الحال معه، فلما رأى أنه لا يمكنه أخذ الحصن، ولا يجيبونه إلى المصاف، عاد إلى بلاده

وممن كان معه في هذه الغزوة مؤيد الدولة أسامة بن مرشد بن منقذ الكناني، وكان من الشجاعة في الغاية، فلما عاد إلى حلب دخل إلى مسجد شيزر، وكان قد دخله في العام الماضي سائراً إلى الحج، فلما دخله الآن كتب على حائطه:
لك الحمد يا مولاي كم لك منة ... علي وفضلاً لا يحيط به شكري
نزلت بهذا المسجد العام قافلاً ... من الغزو موفور النصيب من الأجر
ومنه رحلت العيس في عامي الذي ... مضى نحو بيت الله والركن والحجر
فأديت مفروضي وأسقطت ثقل ما ... تحملت من وزر الشبيبة عن ظهري
ذكر ملك الخليفة قلعة الماهكيفي هذه السنة، في رجب، ملك الخليفة المستنجد بالله قلعة الماهكي، وسبب ذلك أن سنقر الهمذاني، صاحبها، سلمها إلى أحد مماليكه ومضى إلى همذان، فضعف هذا المملوك عن مقاومة ما حولها من التركمان والأكراد، فأشير عليه ببيعها من الخليفة، فراسل في ذلك، فاستقرت على خمسة عشر ألف دينار وسلاح وغير ذلك من الأمتعة، وعدة من القرى، فسلمها واستلم ما استقر له، وأقام ببغداد. وهذه القلعة لم تزل من أيام المقتدر بالله بأيدي التركمان والأكراد وإلى الآن.
ذكر الحرب بين المسلمين والكرجفي هذه السنة، في شعبان، اجتمعت الكرج في خلق كثير يبلغون ثلاثين ألف مقاتل، ودخلوا بلاد الإسلام، وقصدوا مدينة دوين من أذربيجان، فملكوها ونهبوها، وقتلوا من أهلها وسوادها نحو عشرة آلاف قتيل، وأخذوا النساء سبايا، وأسروا كثيراً، وأعروا النساء وقادوهم حفاة عراة، وأحرقوا الجوامع والمساجد؛ فلما وصلوا إلى بلادهم أنكر نساء الكرج مافعلوا بنساء المسلمين، وقلن لهم: قد أحوجتم المسلمين أن يفعلوا بنا مثل ما فعلتم بنسائهم؛ وكسونهن.ولما بلغ الخبر إلى شمس الدين إيلدكز، صاحب أذربيجان والجبل وأصفهان، جمع عساكره وحشدها، وانضاف إليه شاه أرمن بن سكمان القطبي، صاحب خلاط، وابن آقسنقر، صاحب مراغة وغيرها، فاجتمعوا في عسكر كثير يزيدون على خمسين ألف مقاتل، وساروا إلى بلاد الكرج في صفر سنة ثمان وخمسين ونهبوها، وسبوا النساء والصبيان، وأسروا الرجال، ولقيهم الكرج، واقتتلوا أشد قتال صبر فيه الفريقان، ودامت الحرب بينهم أكثر من شهر، وكان الظفر للمسلمين، فانهزم الكرج وقتل منهم كثير وأسر كذلك.
وكان سبب الهزيمة ان بعض الكرج حضر عند إيلدكز، فأسلم على يديه، وقال له: تعطيني عسكراً حتى أسير بهم في طريق أعرفها وأجيء إلى الكرج من ورائهم وهم لا يشعرون! فاستوثق منه، وسير معه عسكراً وواعده يوماً يصل فيه إلى الكرج، فلما كان ذلك اليوم قاتل المسلمون الكرج، فبينما هم في القتال وصل ذلك الكرجي الذي أسلم ومعه العسكر، وكبروا وحملوا على الكرج من ورائهم، فانهزموا، وكثر القتل فيهم والسر، وغنم المسلمون من أموالهم ما لا يدخل تحت الإحصاء لكثرته، فإنهم كانوا متيقنين النصر لكثرتهم، فخيب الله ظنهم، وتبعهم المسلمون يقتلون ويأسرون ثلاثة أيام بلياليها، وعاد المسلمون منصورين قاهرين.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة، وصل الحجاج إلى منى، ولم يتم الحج لأكثر الناس لصدهم عن دخول مكة والطواف والسعي، فمن دخل يوم النحر مكة وطاف وسعى كمل حجه، ومن تأخر عن ذلك منع دخول مكة لفتنة جرت بين أمير الحاج وأمير مكة. كان سببها أن جماعة من عبيد مكة أفسدوا في الحاج بمنى، فنفر عليهم بعض أصحاب أمير الحاج فقتلوا منهم جماعة، ورجع من سلم إلى مكة، وجمعوا جمعاً وأغاروا على جمال الحاج، واخذوا منها قريباً من ألف جمل، فنادى أمير الحاج في جنده، فركبوا بسلاحهم، ووقع القتال بينهم، فقتل جماعة، ونهب جماعة من الحاج وأهل مكة، فرجع أمير الحاج ولم يدخل مكة، ولم يقم بالزاهر غير يوم واحد، وعاد كثير من الناس رجالة لقلة الجمال، ولقوا شدة.
وممن حج في هذه السنة جدتنا أم أبينا، ففاتها الطواف والسعي، فاستفتي لها الإمام الشيخ أبو القاسم بن البرري، فقال: تدوم على ما بقي عليها من إحرامها إلى قابل، وتعود إلى مكة، فتطوف وتسعى، فكمل الحجة الأولى، ثم تحرم إحراماً ثانياً، وتعود إلى عرفات، فتقف وترمي الجمار، وتطوف وتسعى، فتصير لها حجة ثانية؛ فبقيت على إحرامها إلى قابل، وحجت وفعلت كما قال، فتم حجها الأول والثاني.

وفيها نزل بخراسان برد كثير عظيم المقدار، أواخر نيسان، وكان أكثره بجوين ونيسابور وما والاهما، فأهلك الغلات، ثم جاء بعده مطر كثير دام عشرة أيام.
وفيها في جمادى الآخرة، وقع الحريق ببغداد، احترق سوق الطيوريين والدور التي تليه مقابله إلى سوق الصفر الجديد، والخان الذي في الرحبة، ودكاكين البزورين وغيرها.
وفيها توفي الكيا الصباحي، صاحب الموت، مقدم الإسماعيلية، وقام ابنه مقامه، فأظهر التوبة، وأعاد هو ومن معه الصلوات وصيام شهر رمضان، وأرسلوا إلى قزوين يطلبون من يصلي بهم، ويعلمهم حدود الإسلام، فأرسلوا إليهم.
وفيها في رجب، درس شرف الدين يوسف الدمشقي في المدرسة النظامية ببغداد؛ وفيها توفي شجاع الفقيه الحنفي ببغداد، وكان مدرساً بمدرسة أبي حنيفة، وكان موته في ذي القعدة.
وفيها توفي صدقة بن وزير الواعظ.
وفيها، في المحرم، توفي الشيخ عدي بن مسافر الزاهد المقيم ببلد الهكارية من أعمال الموصل، وهو من الشام، من بلد بعلبك، فانتقل إلى الموصل، وتبعه أهل السواد والجبال بتلك النواحي وأطاعوه، وحسنوا الظن فيه، وهو مشهور جداً.
؟
ثم دخلت سنة ثمان وخمسين وخمسمائة
؟؟
ذكر وزارة شاور للعاضد بمصر
ثم وزارة الضرغام بعده
في هذه السنة، في صفر، وزر شاور للعاضد لدين الله العلوي صاحب مصر، وكان ابتداء أمره ووزارته أنه كان يخدم الصالح بن رزيك ولزمه، فأقبل عليه الصالح وولاه الصعيد، وهو أكبر الأعمال بعد الوزارة، فلما ولي الصعيد ظهرت منه كفاية عظيمة وتقدم زائد، واستمال الرعية والمقدمين من العرب وغيرهم، فعسر أمره على الصالح، ولم يمكنه عزله، فاستدام استعماله لئلا يخرج عن طاعته. فلما جرح الصالح كان من جملة وصيته لولده العادل: إنك لا تغير على شاور، فإنني أنا أقوى منك وقد ندمت على استعماله، ولم يمكنّي عزله، فلا تغيروا ما به فيكون لكم منه ما تكرهون.
فلما توفي الصالح من جراحته وولي ابنه العادل الوزارة حسن له أهله عزل شاور واستعمال بعضهم مكانه، وخوفوه منه إن أقروه على عمله، فأرسل إليه بالعزل، فجمع جموعاً كثيرة وسار إلى القاهرة بهم، فهرب منه العادل ابن الصالح بن زريك فأخذ وقتل، فكانت مدة وزارته ووزارة أبيه قبله تسع سنين وشهراً وأياماً، وصار شاور وزيراً، وتلقب بأمير الجيوش، وأخذ أموال بني رزيك وودائعهم وذخائرهم، وأخذ منه أيضاً طي والكامل ابنا شاور والمصريين إلى الأتراك.
ثم إن الضرغام جمع جموعاً كثيرة، ونازع شاور بالوزارة في شهر رمضان، وظهر أمره، وانهزم شاور منه إلى الشام، على ما نذكره سنة تسع وخمسين وخمسمائة، وصار ضرغام وزيراً.
وكان هذه السنة ثلاثة وزراء: العادل بن زريك، وشاور ، وضرغام، فلما تمكن ضرغام من الوزارة قتل كثيراً من الوزراء المصريين لتخلو له البلاد من منازع، فضعفت الدولة بهذا السبب حتى خرجت البلاد عن أيديهم.
ذكر وفاة عبد المؤمن وابنه يوسففي هذه السنة، في العشرين من جمادى الآخرة، توفي عبد المؤمن بن علي، صاحب بلاد المغرب، وإفريقية، والأندلس، وكان قد سار من مراكش إلى سلا، فمرض بها ومات.
ولما حضره الموت جمع شيوخ الموحدين من أصحابه، وقال لهم: قد جربت ابني محمداً، فام أره يصلح لهذا الأمر، وإنما يصلح له ابني يوسف، وهو أولى بها، فقدموه لها، ووصاهم بها، وبايعوه ودعي بأمير المؤمنين، وكتما موت عبد المؤمن، وحمل فمن سلا في محفة بصورة أنه مريض إلى أن وصل إلى مراكش.
وكان ابنه أبو حفص في تلك المدة حاجباً لأبيه، فبقي مع أخيه على مثل حاله مع أبيه يخرج فيقول للناس: أمير المؤمنين أمر بكذا، ويوسف لم يقعد مقعد أبيه إلى أن كملت المبايعة له في جميع البلاد، واستقرت قواعد الأمور له، ثم أظهر موت أبيه عبد المؤمن، فكانت ولايته ثلاثاً وثلاثين سنة وشهوراً، وكان عاقلاً، حازماً، سديد الرأي، حسن السياسة للأمور، كثير البذل للأموال، إلا أنه كان كثير السفك لدماء المسلمين على الذنب الصغير.
وكان يعظم أمر الدين ويقويه، ويلزم الناس في سائر بلاده بالصلاة، ومن رؤي وقت الصلاة غير تصل قتل وجمع الناس على مذهب مالك في الفروع، وعلى مذهب أبي الحسن الأشعري في الأصول، وكان الغالب على مجلسه أهل العلم والدين، المرجع إليهم، والكلام معهم ولهم.

ذكر ملك المؤيد أعمال قومس
والخطبة للسلطان أرسلان بخراسان
في هذه السنة، سار المؤيد أي أبه، صاحب نيسابور إلى بلاد قومس، فملك بسطام ودامغان، واسنناب بقومس مملوكه تنكز، فأقام تنكز بمدينة بسطام، فجرى بين تنكز وبين شام مازندران اختلاف أدى إلى الحرب، فجمع كل منهما عسكره، والتقوا أوائل ذي الحجة في هذه السنة، واقتتلوا، فانهزم عسكر مازندران، وأخذت أسلابهم، وقتل منه طائفة كبيرة.
ولما ملك المؤيد بلاد قومس أرسل إليه السلطان أرسلان بن طغرل بن محمد بن ملكشاه خلعاً نفيسة، وألوية معقودة، وهدية جليلة، وأمره أن يهتم باستيعاب بلاد خراسان ويتولى ذلك أجمع، وأن يخطب له، فلبس المؤيد الخلع، فخطب له في البلاد التي هي بيده.
وكان السبب في هذا أتابك شمس الدين إيلدكز، فانه كان هو الذي يحكم في مملكة أرسلان، وليس لأرسلان غير الاسم؛ وكان بين إيلدكز وبين المؤيد مودة عظيمة ذكرناها عند قتل المؤيد، فلما أطاع المؤيد السلطان أرسلان خطب له ببلاده، مهي بلاد قومس ونيسابور وطوس وأعمال نيسابور جميعها، ومن نسا إلى طبس كنكلي، وكان يخطب لنفسه بعد أرسلان، وكانت الخطبة في جرجان ودهستان لخوارزم شاه أيل أرسلان بن أتسز، وبعده للأمير إيثاق؛ وكانت الخطبة في مرو وبلخ وهراة وسرخس، وهذه البلاد بيد الغز، إلا هراة فكانت بيد الأمير ايتكين، وهو مسالم للغز، فكانوا يخطبون للسلطان سنجر فيقولون: اللهم اغفر للسلطان السعيد المبارك على المسلمين سنجر، وبعده للأمير الذي هو حاكم على تلك البلاد.
ذكر قتل الغز ملك الغورفي هذه السنة، في رجب، قتل سيف الدين محمد بن الحسين الغور، ملك الغور، قتله الغز.
وسبب ذلك أنه جمع عساكره وحشد فأكثر، وسار في بلاد الغور يريد الغز وهم ببلخ، واجتمعوا، وتقدموا إليه، فاتفق أن ملك الغور خرج من معسكره في جماعة من خاصته، جريدة، فسمع به أمراء الغز، فساروا يطلبونه مجدين قبل أن يعود إلى معسكره، فأوقعوا به، فقاتلهم أشد قتال رآه الناس، فقتل ومعه نفر ممن كانوا معه، واسر طائفة، وهربت طائفة، فلحقوا بمعسكرهم وعادوا إلى بلادهم منهزمين لا يقف الأب على ابنه ولا الولد على أخيه، وتركوا كل ما معهم بحاله ونجوا بنفوسهم.
فكان عمر ملك الغور لما قتل عشرين سنة، وكان عادلاً حسن السيرة، فمن عدله وخوفه عاقبة الظلم انه حاصر أهل هراة، فلما ملكها أراد عسكره أن ينهبوها، فنزل على درب المدينة، وأحضر الأموال والثياب، فأعطى جميع عسكره منها، وقال: هذا خير لكم من أن تنهبوا أموال المسلمين وتسخطوا الله تعالى، فإن الملك يبقى على الكفر ولا يبقى على الظلم؛ ولما قتل عاد الغز إلى بلخ ومرو وقد غنموا من العسكر الغوري الشيء الكثير لأن أهله تركوه ونجوا.
ذكر انهزام نور الدين محمود من الفرنجفي هذه السنة انهزم نور الدين محمود بن زنكي من الفرنج، تحت حصن الأكراد، وهي الوقعة المعروفة بالبقيعة، وسببها أن نور الدين جمع عساكره دخل بلاد الفرنج ونزل في البقيعة تحت حصن الأكراد، محاصراً له عازما على قصد طرابلس ومحاصرتها، فبينما الناس يوماً في خيامهم، وسط النهار، لم يرعهم إلا ظهور صلبان الفرنج من وراء الجبل الذي عليه حصن الأكراد، وذلك أن الفرنج اجتمعوا واتفق رأيهم على كبسة المسلمين نهاراً، فإنهم يكونوا آمنين، فركبوا من وقتهم، ولم يتوقفوا حتى يجمعوا عساكرهم، وساروا مجدين، فلم يشعر بذلك المسلمين إلا وقد قربوا منهم، فأرادوا منعهم، فلم يطيقوا ذلك، فأرسلوا إلى نور الدين يعرفونه الحال، فرهقهم الفرنج بالحملة، فلم يثبت المسلمون، وعادوا يطلبون معسكر المسلمين، والفرنج في ظهورهم، فوصلوا معاً إلى العسكر النوري، فلم يتمكن المسلمون من ركوب الخيل، وأخذ السلاح، إلا وقد خالطوهم، فأكثروا القتل والأسر.
وكان أشدهم على المسلمين الدوقس الرومي، فإنه كان قد خرج من بلاده إلى الساحل في جمع كثير من الروم، فقاتلوا محتسبين في زعمهم، فلم يبقوا على أحد، وقصدوا خيمة نور الدين وقد ركب فيها فرسه ونجا بنفسه، ولسرعته ركب الفرس والشبحة في رجله، فنزل إنسان كردي قطعها، فنجا نور الدين، وقتل الكردي، فأحسن نور الدين إلى مخلفيه، ووقف عليهم الوقوف.

ونزل نور الدين على بحيرة قدس بالقرب من حمص، وبينه وبين المعركة أربعة فراسخ، وتلاحق به من سلم من العسكر، وقال له بعضهم ليس من الرأي أن تقيم هاهنا، فإن الفرنج ربما حملهم الطمع على المجيء إلينا، فنؤخذ ونحن على هذه الحال؛ فوبخه وأسكته، وقال: إذا كان معي ألف فارس لقيتهم ولا أبالي بهم، ووالله لا أستظل بسقف حتى آخذ بثأري وثأر الإسلام؛ ثم أرسل إلى حلب ودمشق، وأحضر الأموال والثياب والخيام والسلاح والخيل، فأعطى اللباس عوض ما أخذ منهم جميعه بقولهم، فعاد العسكر كأن لم تصبه هزيمة، وكل من قتل أعطى أقطاعه لأولاده.
وأما الفرنج فإنهم كانوا عازمين على قصد حمص بعد الهزيمة لأنها أقرب البلاد إليهم، فلما بلغهم نزول نور الدين بينها وبينهم قالوا: لم يفعل هذا إلا وعنده قوة يمنعنا بها.
ولما رأى أصحاب نور الدين كثرة خرجه قال له بعضهم: إن لك في بلادك إدرارات وصدقات كثيرة على الفقهاء والفقراء والصوفية والقراء وغيرهم، فلو استعنت بها في هذا الوقت لكان أصلح؛ فغضب من ذلك وقال: والله إني لا أرجو النصر إلا بأولئك فإنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم؛ كيف أقطع صلات قوم يدافعون عني، وأنا نائم على فراشي، بسهام لا تخطئ، وأصرفها إلى من لا يقاتل عني إلا إذا رآني بسهام قد تصيب وقد تخطئ، وهؤلاء القوم لهم نصيب في بيت المال كيف يحل لي أن أعطيه غيرهم؟ ثم إن الفرنج راسلوا نور الدين يطلبون منه الصلح، فلم يجبهم، وتركوا عند حصن الأكراد من يحميه وعادوا إلى بلادهم.
ذكر إجلاء بني أسد من العراقفي هذه السنة أمر الخليفة المستنجد بالله بإهلاك بني أسد أهل الحلة المزيدية، لما ظهر من فسادهم، ولما كان في نفس الخليفة منهم من مساعدتهم السلطان محمداً لما حصر بغداد، فأمر يزدن بن قماج بقتالهم وإجلائهم عن البلاد، وكانوا منبسطين في البطائح، فلا يقدر عليهم، فتوجه يزدن إليهم، وجمع عساكر كثيرة من راجل وفارس، وأرسل إلى ابن معروف مقدم المنتفق، وهو بأرض البصرة، فجاء في خلق كثير فحصرهم وسد عليهم الماء، وصابرهم مدة، فأرسل الخليفة إلى يزدن يعتب عليه ويعجزه وينسبه إلى موافقتهم في التشيع، وكان يزدن يتشيع، فجد هو وابن معروف في قتالهم والتضييق عليهم، وسد مسالكهم في الماء ، فاستسلموا حينئذ، فقتل منهم أربعة آلاف قتيل، ونادى فيمن بقي: من وجد بعد هذا في المزيدية فقد حل دمه؛ فتفرقوا في البلاد، ولم يبق منهم في العراق من يعرف، وسلمت بطائحهم وبلادهم إلى ابن معروف.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة وقع في بغداد حريق في باب درب فراشا إلى مشرعة الصباغين من الجانبين.
وفيها، في رجب، توفي سديد الدولة أبو عبد الله مجمد بن عبد الكريم بن إبراهيم بن عبد الكريم المعروف بابن الأنباري، كاتب الإنشاء بديوان الخليفة، وكان فاضلاً أديباً ذا تقدم كثير عند الخلفاء والسلاطين، وخدم من سنة ثلاثين وخمسمائة إلى الآن في ديوان الخلافة، وعاش حتى قارب تسعين سنة.
وتوفي في رمضان هبة الله بن الفضل بن عبد العزيز بن محمد أبو القاسم المتوثي، سمع الحديث؛ وهو من الشعراء المشهورين، إلا أنه كثير الهجو، ومن شعره:
يا من هجرت ولا تبالي ... هل ترجع دولة الوصال
هل أطمع يا عذاب قلبي ... أن ينعم في هواك بالي
الطرف كما عهدت بالي ... والجسم كما ترين بال
ما ضرك أن تعلليني ... في الوصل بموعد المحال
أهواك وأنت حظ غيري ... يا قاتلتي فما احتيالي
وهي أكثر من هذا.
ثم دخلت سنة تسع وخمسين وخمسمائة
ذكر مسير شيركوه وعساكر نور الدين إلى ديار مصر وعودهم عنها
في هذه السنة، في جمادى الأولى، سير نور الدين محمود بن زنكي عسكراً كثيراً إلى مصر، وجعل عليهم الأمير أسد الدين شيركوه بن شاذي، وهو مقدم عسكره، وأكبر أمراء دولته، وأشجعهم، وسنذكر سنة أربع وستين سبب اتصاله بنور الدين وعلو شأنه عنده إن شاء الله تعالى.

وكان سبب إرسال هذا الجيش أن شاور وزير العاضد لدين الله العلوي، صاحب مصر، نازعه في الوزارة ضرغام، وغلب عليها، فهرب شاور منه إلى الشام، ملتجئاً إلى نور الدين ومستجيراً به، فأكرم مثواه، وأحسن إليه، وأنعم عليه، وكان وصوله في ربيع الأول من السنة، وطلب منه إرسال العساكر معه إلى مصر ليعود إلى منصبه ويكون لنور الدين ثلث دخل البلاد بعد إقطاعات العسكر، ويكون شيركوه مقيماً بعساكره في مصر، ويتصرف هو بأمر نور الدين واختياره؛ فبقي نور الدين يقدم إلى هذا العرض رجلاً ويؤخر أخرى، فتارة يحمله رعاية لقصد شاور بابه، وطلب الزيادة من الملك والتقوي على الفرنج، وتارة يمنعه خطر الطريق، وأن الفرنج فيه؛ وتخوف أن شاور إن استقرت قاعدته ربما لا يفي.
ثم قوى عزمه على إرسال الجيوش، فتقدم بتجهيزها وإزالة عللها، وكان هوى أسد الدين في ذلك، وعنده من الشجاعة وقوة النفس ما لا يبالي بمخافة، فتجهز، وساروا جميعاً وشاور في صحبتهم، في جمادى الأولى من سنة تسع وخمسين، وتقدم نور الدين إلى شيركوه أن يعيد شاور إلى منصبه، وينتقم له ممن نازعه فيه.
وسار نور الدين إلى طرف بلاد الفرنج مما يلي دمشق بعساكره ليمنع الفرنج من التعرض لأسد الدين ومن معه، فكان قصارى الفرنج حفظ بلادهم من نور الدين، ووصل أسد الدين ومن معه من العساكر إلى مدينة بلبيس، فخرج إليهم ناصر الدين أخو ضرغام بعسكر المصريين ولقيهم، فانهزم وعاد إلى القاهرة مهزوماً.
ووصل أسد الدين فنزل على القاهرة أواخر جمادى الآخرة، فخرج ضرغام من القاهرة سلخ الشهر فقتل عند مشهد السيدة نفيسة، وبقي يومين، ثم حمل ودفن بالقرافة، وقتل أخوه فارس المسلمين، وخلع عن شاور مستهل رجب، وأعيد إلى الوزارة، وتمكن منها، وأقام أسد الدين بظاهر القاهرة، فغدر به شاور، وعاد كما كان قرره لنور الدين من البلاد المصرية، ولأسد الدين أيضاً، وأرسل إليه يأمره بالعود إلى الشام، فأعاد الجواب بالامتناع، وطلب ما كان قد استقر بينهم، فلم يجبه شاور إليه، فلما رأى ذلك أرسل نوابه فتسلموا مدينة بلبيس، وحكم على البلاد الشرقية، فأرسل شاور إلى الفرنج يستمدهم ويخوفهم من نور الدين إن ملك مصر.
وكان الفرنج قد أيقنوا بالهلاك إن تم ملكه لها، فلما أرسل شاور يطلب منهم أن يساعدوه على إخراج أسد الدين من البلاد جاءهم فرج لم يحتسبوه، وسارعوا إلى تلبية دعوته ونصرته وطمعوا في ملك الديار المصرية، وكان قد بذل لهم مالاً على المسير إليه، وتجهزوا وساروا، فلما بلغ نور الدين ذلك سار بعساكره إلى أطراف بلادهم ليمتنعوا عن المسير، فلم يمنعهم ذلك لعلمهم أن الخطر في مقامهم، إذا ملك أسد الدين مصر، أشد، فتركوا في بلادهم من يحفظها، وسار ملك القدس في الباقين إلى مصر.
وكان قد وصل إلى الساحل جمع كثير من الفرنج في البحر لزيارة البيت المقدس، فاستعان بهم الفرنج الساحلية، فأعانوهم، فسار بعضهم معهم، وأقام بعضهم في البلاد لحفظها، فلما قارب الفرنج مصر فارقها أسد الدين، وقصد مدينة بلبيس، فأقام بها هو وعسكره، وجعلها له ظهراً يتحصن به، فاجتمعت العساكر المصرية والفرنج، ونازلوا أسد الدين شيركوه بمدينة بلبيس، وحصروه بها ثلاثة أشهر، وهو ممتنع بها مع أن سورها قصير جداً، وليس لها خندق، ولا فصيل يحميها، وهو يغاديهم القتال ويراوحهم، فلم يبلغوا منه غرضاً، ولا نالوا منه شيئاً.
فبينما هم كذلك إذ أتاهم الخبر بهزيمة الفرنج على حارم وملك نور الدين حارم ومسيره إلى بانياس، على ما نذكره عن شاء الله تعالى،فحينئذ سقط في أيديهم ، وأرادوا العودة إلى بلادهم، ليحفظوها، فراسلوا أسد الدين في الصلح والعد إلى الشام، ومفارقة مصر، وتسليم ما بيده منها إلى المصريين، فأجابهم إلى ذلك لأنه لم يعلم ما فعله نور الدين بالشام بالفرنج، ولأن الأقوات والذخائر قلت عليهن وخرج من بلبيس في ذي الحجة.

فحدثني من رأى أسد الدين حين خرج من بلبيس قال: أخرج أصحابه بين يديه، وبقي في آخرهم وبيده لت من حديد يحمي ساقتهم، والمسلمون والفرنج ينظرون إليه. قال: فأتاه فرنجي من الغرباء الذين خرجوا من البحر، فقال له:أما تخاف أن يغدر بك هؤلاء المصريون والفرنج، وقد أحاطوا بك وبأصحابك، ولا يبقى لكم بقية؟ فقال شيركوه: يا ليتهم علوه حتى كنت ترى ما أفعله؛ كنت والله أضع السيف، فلا يقتل منا رجل حتى يقتل منهم رجالاً، وحينئذ يقصدهم الملك العادل نور الدين ، وقد ضعفوا وفني شجعانهم، فنملك بلادهم ويهلك من بقي منهم، والله لو أطاعني هؤلاء لخرجت إليكم من أول يوم، ولكنهم امتنعوا.
فصلب على وجهه، وقال: كنا نعجب من فرنج هذه البلاد ومبالغتهم في صفتك وخوفهم منك، والآن فقد عذرناهم؛ ثم رجع عنه.
وسار شيركوه إلى الشام، فوصل سالماً، وكان الفرنج قد وضعوا له على مضيق في الطريق رصداً ليأخذوه أو ينالوا منه ظفراً، فعلم بهم فعاد عن ذلك الطريق، ففيه يقول عمارة التميمي:
أخذتم على الإفرنج كل ثنية ... وقلتم لأيدي الخيل مري على مري
لئن نصبوا في البر جسراً فإنكم ... عبرتم ببحر من حديد على الجسر
ولفظة مري في أخر البيت الأول اسم ملك الفرنج.
ذكر هزيمة الفرنج وفتح حارمفي هذه السنة، في شهر رمضان، فتح نور الدين محمود زنكي قلعة حارم من الفرنج؛ وسبب ذلك أن نور الدين لما عاد منهزماً من البقيعة، تحت حصن الأكراد، كما ذكرناه من قبل، فرق الأموال والسلاح، وغير ذلك من الآلات على ما تقدم، فعاد العسكر كأنهم لم يصابوا وأخذوا في الاستعداد للجهاد والأخذ بثأره.
واتفق مسير بعض الفرنج مع ملكهم في مصر، كما ذكرناه، فأراد أن يقصد بلادهم ليعودوا عن مصر،فأرسل إلى أخيه قطب الدين مودود، صاحب الموصل وديار الجزيرة، وإلى فخر الدين قرا أرسلان، صاحب حصن كيفا، وإلى نجم الدين ألبي، صاحب ماردين، وغيرهم من أصحاب الأطراف يستنجدهم؛ فأما قطب الدين فإنه جمع عسكره وسار مجداً، وفي مقدمته زين الدين علي أمير جيشه؛ وأما فخر الدين، صاحب الحصن، فبلغني عنه أنه قال له ندماؤه وخواصه: على أي شيء عزمت؟ فقال: فقال: على القعود، فإن نور الدين قد تحشف من كثرة الصوم والصلاة، وهو يلقي نفسه والناس معه في المهالك، فكلهم وافقه على هذا الرأي، فلما كان الغد أمر بالتجهز للغزاة، فقال له أولئك: ما عدا مما بدا؟ فارقناك أمس على حالة، فنرى اليوم ضدها؟ فقال: إن نور الدين قد سلك معي طريقاً إن لم أنجده خرج أهل بلادي عن طاعتي، واخرجوا البلاد عن يدي، فإنه قد كاتب زهادها وعبادها والمنقطعين عن الدنيا، فلم يذكر لهم ما لقي المسلمون من الفرنج وما نالهم من القتل والأسر، ويستمد نهم الدعاء، ويطلب أن يحثوا المسلمين على الغزاة فقد قعد كل واحد من اولئك، ومعه أصحابه وأتباعه، وهم يقرؤون كتب نور الدين، ويبكون ويلعنونني، ويدعون علي، فلا بد من المسير إليه؛ ثم تجهز وسار بنفسه.
وأما نجم الدين فإنه سير عسكراً، فلما اجتمعت العساكر سار نحو حارم فحصرها ونصب عليها المجانيق وتابع الزحف إليها، فاجتمع من بقي بالساحل من الفرنج، فجاؤوا في حدهم وحديدهم، وملوكهم وفرسانهم، وقسيسهم ورهبانهم، وأقبلوا إليه من كل حدب ينسلون، وكان المقدم عليهم البرنس بيمند، صاحب أنطاكية، وقمص، صاحب طرابلس وأعمالها، وابن جوسلين، وهو من مشاهير الفرنج، والدوك، وهو مقدم كبير من الروم، وجمعوا الفارس والراجل، فلما قاربوه رحل عن حارم إلى أرتاح طمعاً أن يتبعوه فيتمكن منهم لبعدهم عن بلادهم إذا لقوه، فساروا، فنزلوا على غمر ثم علموا عجزهم عن لقائه، فعادوا إلى حارم، فلما عادوا تبعهم نور الدين في أبطال المسلمين على تعبئة الحرب.

فلما تقاربوا اصطفوا للقتال، فبدأ الفرنج بالحملة على ميمنة المسلمين، وفيها عسكر حلب وصاحب الحصن، فانهزم المسلمون فيها، وتبعهم الفرنج، فقيل كانت تلك الهزيمة من الميمنة على اتفاق ورأي دبروه، وهو أن يتبعهم الفرنج فيبعدوا عن راجلهم، فيميل عليهم من بقي من المسلمين بالسيوف فيقتلوهم، فإذا عاد فرسانهم لم يلقوا راجلاً يلجأون إليه، ولا وزراً يعتمدون عليه، ويعود المنهزمون في أثارهم، فيأخذهم المسلمون من بين أيديهم ومن خلفهم، وعن أيمانهم وعن شمائلهم، فكان الأمر على ما دبروه: فإن الفرنج لما تبعوا المنهزمين عطف زين الدين علي في عسكر الموصل على راجل الفرنج فأفناهم قتلاً وأسراً، وعاد خيالتهم، ولم يمعنوا في الطلب خوفاً على راجلهم، فعاد المنهزمون في آثارهم، فلما وصل الفرنج رأوا رجالهم قتلى وأسرى، فسقط في أيديهم، ورأوا أنهم قد هلكوا وبقوا في الوسط قد أحدق بهم المسلمون من كل جانب، فاشتدت الحرب، وقامت على ساق، وكثر القتل في الفرنج، وتمت عليهم الهزيمة، فعدل حينئذ المسلمون من القتل إلى الأسر، فأسروا ما لا يحد، وفي جملة الأسرى صاحب أنطاكية والقمص، صاحب طرابلس، وكان شيطان الفرنج، وأشدهم شكيمة على المسلمين، والدوك مقدم الروم، وابن جوسلين، وكانت عدة القتلى تزيد على عشرة آلاف قتيل.
وأشار المسلمون على نور الدين بالمسير إلى أنطاكية وتملكها لخلوها من حام يحميها ومقاتل يذب عنها، فلم يفعلن وقال: أما المدينة فأمرها سهل، وأما القلعة فمنيعة، وربما سلموها إلى ملك الروم لأن صاحبها ابن أخيه ومجاوره بيمند أحب إلي من مجاورة صاحب قسطنطينية؛ وبث السرايا في تلك الأعمال فنهبوها وأسروا أهلها وقتلوهم، ثم إنه فادى بيمند البرنس، صاحب أنطاكية، بمال جزيل وأسرى من المسلمين كثيرة أطلقهم.
ذكر ملك نور الدين قلعة بانياس من الفرنج أيضاً
في ذي الحجة من هذه السنة فتح نور الدين محمود قلعة بانياس، وهي بالقرب من دمشق، وكانت بيد الفرنج من سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة، ولما فتح حارم أذن لعسكر الموصل وديار بكر بالعود إلى بلادهم، وأظهر أنه يريد طبرية، فجعل من بقي من الفرنج همتهم حفظها وتقويتها، فسار محمود إلى بانياس لعلمه بقلة من فيها من الحماة الممانعين عنها، ونازلها، وضيق عليها وقاتلها، وكان في جملة عسكره أخوه نصرة الدين أمير أميران، فأصابه سهم فأذهب إحدى عينيه، فلما رآه نور الدين قال له: لو كشف لك عن الآجر الذي أعد لك لتمنيت ذهاب الأخرى، وجد في حصارها، فسمع الفرنج، فجمعوا، فلم تتكامل عدتهم، حتى فتحها؛ على أن الفرنج كانوا قد ضعفوا بقتل رجالهم بحارم وأسرهم فملك القلعة، وملأها ذخائر وعدة ورجالاً وشاطر الفرنج في أعمال طبرية، وقرروا له على الأعمال التي لم يشاطرهم عليها مالاً في كل سنة.
ووصل خبر ملك حارم وحصر بانياس إلى الفرنج بمصر، فصالحوا شيركوه، وعادوا ليدركوا بانياس، فلم يصلوا إلا وقد ملكها، ولما عاد منها إلى دمشق كان بيده خاتم بفص ياقوت من أحسن الجوهر، وكان يسمى الجبل لكبره وحسنه، فسقط من يده في شعاري بانياس، وهي كثيرة الأشجار ملتفة الأغصان، فلما أبعد عن المكان الذي ضاع فيه علم به، فأعاد بعض أصحابه في طلبه ودلهم على المكان الذي كان آخر عهده به فيه، وقال: أظن هناك سقط؛ فعادوا إليه فوجدوه، فقال بعض الشعراء الشاميين أظنه ابن منير يمدحه ويهنئه بهذه الغزاة ويذكر الجبل الياقوت:
إن يمتر الشكاك فيك بأنك ال ... مهدي مطفي جمرة الدجال
فلعودة الجبل الذي أضللته ... بالأمس بين غياطل وجبال
لم يعطها إلا سليمان وقد ... الربا بموشك الأعجال
رحرحى لسرير ملكك إنه ... كسريره على كل حد عال
فلو البحار السبعة استهوينه ... وأمرتهن قذفنه في الحال
ولما فتح الحصن كان معه ولد معين الدين أنز الذي سلم بانياس إلى الفرنج، فقال له: للمسلمين بهذا الفتح فرحة واحدة، ولك فرحتان؛ فقال : كيف ذاك؟ قال: لأن اليوم برد الله جلد والدك من نار جهنم.
ذكر أخذ الأتراك غزنة من ملكشاه وعوده إليها

في هذه السنة قصد بلاد غزنة الأتراك المعروفون بغز ونهبوها وخربوها، وقصدوا غزنة وبها صاحبها ملكشاه بن خسروشاه المحمودي، فعلم أنه لا طاقة له بهم، ففارقها وسار إلى مدينة لهاور، وملك الغز مدينة غزنة، وكان القيم بأمرهم أمير اسمه زنكي بن علي بن خليفة الشيباني؛ ثم إن صاحبها ملكشاه جمع وعاد إلى غزنة، ففارقها زنكي وعاد ملكها ملكشاه ودخلهافي جمادى الآخرة سنة تسع وخمسين وخمسمائة وتمكن من دار ملكه.
ذكر وفاة جمال الدين الوزير
وشيء من سيرته
في هذه السنة توفي جمال الدين أبو جعفر محمد بن علي بن أبي منصور الأصفهاني، وزير قطب الدين، صاحب الموصل، في شعبان مقبوضاً، وكان قد قبض عليه سنة ثمان وخمسين، فبقي في الحبس نحو سنة، حكى لي أنسان صوفي يقال له أبو القاسم كان مختصاً بخدمته في الحبس قال: لم يزل محبوساً في محبسه بأمر آخرته ،وكان يقول: كنت أخشى أن أنقل من الدست إلى القبر؛ فلما مرض قال لي في بعض الأيام: يا أبا القاسم! إذا جاء طائر أبيض إلى الدار فعرفني. قال: فقلت في نفسي قد اختلط عقله؛ فلما كان الغد أكثر السؤال عنه، وإذا طائر أبيض لم أرى مثله قد سقط، فقلت: جاء الطائر؛ فاستبشر ثم قال: جاء الحق؛ وأقبل على الشهادة وذكر الله تعالى، إلى أن توفي فلما توفي طار ذلك الطائر، فعلمت أنه رأى شيئاً في معناه.
ودفن بالموصل عند فتح الكرامي، رحمة الله عليهما، نحو سنة، ثم نقل إلى المدينة فدفن بالقرب من حرم النبي صلى الله عليه وسلم، في رباط بناه لنفسه هناك، وقال لأبي القاسم: بيني وبين أسد الدين شيركوه عهد، من مات منا قبل صاحبه حمله إلى المدينة النبوية فدفنه بها في التربة التي عملها، فإذا أنا مت فامض إليه وذكره؛ فلما توفي سار أبا القاسم إلى شيركوه في المعنى، فقال له:شيركوه: كم تريد؟ فقال: أريد أجرة جمل يحمله وجمل يحملني وزادي؛ فانتهره وقال: مثل جمال الدين يحمل هكذا إلى مكة! وأعطاه مالاً صالحاً ليحمل معه جماعة يحجون عن جمال الدين، وجماعة يقرأون عليه بين يدي تابوته إذا حمل، وإذا نزل عن الجمل؛ وإذا وصل مدينة يدخل أولئك القراء ينادون للصلاة عليه، فيصلى عليه من كل بلدة يجتاز بها، وأعطاه أيضاً مالاً للصدقة عنه، فصلي عليه في تكريت وبغداد والحلة، وفيد مكة والمدينة، وكان يجتمع له في كل بلد من الخلق ما لا يحصى، ولما أرادوا الصلاة عليه بالجلة صعد شاب على موضع مرتفع وأنشد بأعلى صوته:
سرى نعشه فوق الرقاب وطالما ... سرى جوده فوق الركاب ونائله
يمر على الوادي فتثني رماله ... عليه وبالنادي فتثني أرامله
فلم نر باكياً أكثر من ذلك اليوم، ثم وصلوا به إلى مكة فطافوا به حول الكعبة، وصلوا عليه بالحرم الشريف؛ وبين قبره وقبر النبي، صلى الله عليه وسلم، نحو خمسة عشر ذراعاً.
وأما سيرته فكان رحمه الله، أسخى الناس، وأكثرهم بذلاً للمال، رحيماً بالخلق، متعطفاً عليهم، عادلاً فيهم؛ فمن أعماله الحسنة أنه جدد بناء مسجد الخيف بمنى، وغرم عليه أموالاً جسيمة، وبنى الحجر بجانب الكعبة، وزخرف الكعبة وذهبها، وعملها بالرخام؛ ولما أراد ذلك أرسل إلى المقتفي لأمر الله هدية جليلة، وطلب منه ذلك، وأرسل إلى الأمير عيسى أمير مكة هدية كثيرة، وخلعاً سنية، منها عمامة مشتراها ثلاثمائة دينار، حتى مكنه من ذلك.وعمر أيضاً المسجد الذي على جبل عرفات والدرج التي يصعد فيها إليه، وكان الناس يلقون شدة في صعودهم، وعمل بعرفات أيضاً مصانع للماء، وأجرى الماء إليها من نعمان في طرق معمولة تحت الأرض، فخرج عليها مال كثير. وكان يجري الماء في المانع كل سنة أيام عرفات؛ وبنى سوراً على مدينة النبي ، صلى الله عليه وسلم، وعلى فيد، وبنى لها أيضاً فصيلاً.
وكان يخرج من باب داره، كل يوم، للصعاليك والفقراء مائة دينار أميري، هذا سوى الإدارات والتعهدات للأئمة والصالحين وأرباب البيوتات.

ومن أبنيته العجيبة التي لم ير الناس مثلها الجسر الذي بناه على دجلة عند جزيرة ابن عمر بالحجر المنحوت والحديد والرصاص والكلس، فقبض قبل أن يفرغ؛ وبنى عندها أيضاً جسراً كذلك على النهر المعروف بالارباد، وبنى الربط، وقصده الناس من أقطار الأرض، ويكفيه أن ابن الخجندي رئيس أصحاب الشافعي بأصفهان، قصده وابن الكافي قاضي قضاة همذان، فاخرج عليهما مالاً عظيماً، وكانت صدقاته وصلاته من أقاصي خراسان إلى حدود اليمن.
وكان يشتري الأسرى كل سنة بعشرة آلاف دينار، هذا من الشام حسب، سوى ما يشتري من الكرج.
حكى لي وادي عنه قال: كثيراً ما كنت أرى جمال الدين، إذا قدم إليه الطعام، يأخذ منه ومن الحلوى ويتركه في خبز بين يديه، فكنت أنا ومن يراه يظن أنه يحمله إلى أم ولده علي، فاتفق أنه في بعض السنين جاء إلى الجزيرة مع قطب الدين، وكنت أتولى ديوانها، وحمل جاريته أم ولده إلى داري لتدخل الحمام، فبقيت في الدار أياماً، فبينما أنا عنده في الخيام وقد أكل الطعام، فعل كما كان يفعل ثم تفرق الناس، فقمت، فقال: اقعد. فقعدت، فلما خلا المكان قال لي: قد آثرتك اليوم على نفسي، فإنني في الخيام ما يمكنني أن أفعل ما كنت أفعله؛ خذ هذا الخبز واحمله أنت في كمك في هذا المنديل، واترك الحماقة من رأسك، وعد إلى بيتك، فإذا رأيت في طريقك فقيراً يقع في نفسك أنه مستحق فاقعد أنت بنفسك وأطعمه هذا الطعام. قال: ففعلت ذلك. وكان معي جمع كثير، ففرقتهم في الطريق لئلا يروني أفعل ذلك، وبقيت في غلماني، فرأيت في موضع إنساناً أعمى، وعنده أولاده وزوجته، وهم من الفقر في حال شديد، فنزلت عن دابتي إليهم، وأخرجت الطعام وأطعمتهم إياه، وقلت للرجل: تجيء غداً بكرة إلى دار فلان، أعني داري، ولم أعرفه نفسي، فإنني أخذ لك من صدقة جمال الدين شيئاً؛ ثم ركبت إليه العصر، فلما رآني قال: ما الذي فعلت في الذي قلت لك ؟ فأخذت أذكر له شيئاً يتعلق بدولتهم؛ فقال: ليس عن هذا أسألك إنما أسألك عن الطعام الذي سلمته إليك؛ فذكرت له الحال، ففرح ثم قال: بقي أنك لو قلت للرجل يجيء إليك هو وأهله فتكسوهم وتعطيهم دنانير،وتجري لهم كل شهر ديناراً. قال: فقلت له: قد قلت للرجل حتى بجيء إلي؛ فازداد فرحاً، وفعلت بالرجل ما قال، ولم يزل يصل إليه رسمه حتى قبض. وله من هذا كثير، فمن ذلك أنه تصدق بثيابه من على بدنه في بعض السنين التي تعذرت الأقوات فيها.
ذكر إجلاء القارغلية من وراء النهركان خان خانان الصيني ملك الخطا قد فوض ولاية سمرقند وبخارى إلى الخان جغري خان ابن حين تكين، واستعمله عليها، وهو من بيت الملك، قديم الأبوة، فبقي فيها مدبر لأمورها، فلما كان الآن أرسل إليه ملك الخطا بإجلاء الأتراك القارغلية من أعمال بخارى وسمرقند إلى كاشغر، وأن يتركوا حمل السلاح ويشتغلوا بالزراعة وغيرها من الأعمال، فتقدم جغري خان إليهم بذلك، فامتنعوا، فالزمهم وألح عليهم بالانتقال ، فاجتمعوا وصارت كلمتهم واحدة، فكثروا وساروا إلى بخارى، فأرسل الفقيه محمد بن عمر بن برهان الدين عبد العزيز بن مازة، رئيس بخارى، إلى جغري خان يعلمه ذلك ويحثه على الوصول إليهم بعساكره قبل أن يعظم شرهم، وينهبوا البلاد.
وأرسل إليهم ابن مازة يقول لهم: إن الكفار بالأمس لما طرقوا هذه البلاد امتنعوا عن النهب والقتل، وأنتم مسلمون، غزاة، يقبح منكم مد الأيدي إلى الأموال والدماء، وأنا أبذل لكم من الأموال ما ترضون به لتكفوا عن النهب والغارة؛ فترددت الرسل بينهم في تقرير القاعدة، وابن مازة يطاول بهم ويمادي الأيام إلى أن وصل جغري خان، فلم يشعر الأتراك القارغلية إلا وقد دهمهم جغري خان في جيوشه وجموعه بغتة ووضع السيف فيهم، فانهزموا وتفرقوا، وكثر القتل فيهم والنهب، واختفى طائفة منهم في الغياض والآجام ثم ظفر بهم أصحاب جغري خان فقطعوا دابرهم، ودفعوا عن بخارى وضواحيها ضررهم، وخلت تلك الأرض منهم.
ذكر استيلاء سنقر على الطالقان وغرشستانفي هذه السنة استولى الأمير صلاح الدين سنقر، وهو من مماليك السنجرية، وعلى بلاد الطالقان، وأغار على حدود غرشستان، وتابع الغارات عليها حتى ملكها، فصارت الولايتان له وبحكمه، وله فيها حصون منيعة، وقلاع حصينة، وصالح الأمراء الغزية وحمل لهم الإتاوة كل سنة.
ذكر قتل صاحب هراة
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://arabelalekat.yoo7.com
الشيخ عودة
الشيخ عودة
الشيخ عودة



عدد المساهمات : 1748
تاريخ التسجيل : 28/09/2008
العمر : 74

كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير - صفحة 7 Empty
مُساهمةموضوع: رد: كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير   كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير - صفحة 7 Emptyالخميس فبراير 27, 2014 6:32 am

كان صاحب هراة الأمير إيتكين بينه وبين الغز مهادنة، فلما توفي ملك الغور محمد طمع في بلادهم، فغزاهم غير مرة، ونهب وأغار، فلما كان في شهر رمضان من هذه السنة، جمع إيتكين جموعه وسار إلى بلاد الغور، وساروا إلى باميان وإلى ولاية بست والرخج فسلمهما إلى بعض أولاد ملك الغور؛ وأما إيتكين فإنه توغل في بلاد الغور، فأتاه أهلها وقاتلوه وصدوه، وصدقوه القتال، فانهزم عسكره، وقتل هو في المعركة.
ذكر ملك شاه مازندران قومس وبسطامقد ذكرنا استيلاء المؤيد صاحب نيسابور على قومس وبسطام وتلك البلاد، وأنه استناب بها مملوكه تنكز، فلما كان هذه السنة جهز شاه مازندران جيشاً واستعمل عليهم أميراً له يعرف بسابق الدين القزويني، فسار إلى دامغان فملكها، فجمع تنكز من عنده من العساكر وسار إليه إلى دامغان، فخرج إليه القزويني، فوصل إلى تنكز على غرة منه، فلم يشعر ه وعسكره إلا وقد كبسهم القزويني ووضع السيف فيهم، فتفرقوا وولوا منهزمين، واستولى عسكر شاه مازندران على تلك البلاد، وعاد تنكز إلى المؤيد صاحب نيسابور، واشتغل بالغرة على بسطام وبلاد قومس.
ذكر عصيان غمارة بالمغربلما تحقق الناس موت عبد المؤمن سنة تسع وخمسين، ثارت قبائل غمارة مع مفتاح بن عمرو، وكان مقدماً كبيراً فيهم، وتبعوه بأجمعهم، وامتنعوا في جبالهم، وهي معاقل مانعة، وهم أمم جمة، فتجهز إليهم أبو يعقوب يوسف بن عبد المؤمن، ومعه أخواه عمرو وعثمان، في جيش كبير من الموحدين والعرب، وتقدموا إليهم، فاقتتلوا سنة إحدى وستين وخمسمائة، فانهزمت غمارة، وقتل منهم كثير، وفيمن قتل مفتاح بن عمرو مقدمهم، وجماعة من أعيانهم ومقدميهم، وملكوا بلادهم عنوة.
وكان هناك قبائل كثيرة يريدون الفتنة، فانتظروا ما يكون من غمارة، فلما قتلوا ذلت تلك القبائل وانقادوا للطاعة، ولم يبق متحرك لفتنة ومعصية فسكنت الدهماء في جميع المغرب.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة أغار الأمير محمد بن أنز على بلد الإسماعيلية بخراسان وأهلها غافلون، فقتل منهم وغنم وسبى وأكثر وملأ أصحابه أيديهم من ذلك.
وفيها توفي أبو الفضل نصر بن خلف ملك سجستان، وعمره أكثر من مائة سنة، ومدة ملكه ثمانون سنة، وملك بعده ابنه شمس الدين أبو الفتح احمد بن نصر؛ وكان أبو الفضل ملكاً عادلاً عفيفاً عن رعيته، وله آثار حسنة في نصرة السلطان سنجر في غير موقف.
وفيها خرج ملك الروم من القسطنطينية في عساكر لا تحصى وقصد بلاد الإسلام التي بيد قلج أرسلان وابن دانشمند، فاجتمع التركمان في تلك البلاد في جمع كبير، فكانوا يغيرون على أطراف عسكره ليلاً، فإذا أصبح لا يرى أحداً.
وكثر القتل في الروم حتى بلغت عدة القتلى عشرات ألوف، فعاد إلى القسطنطينية، ولما عاد ملك المسلمون منه عدة حصون.
وفيها توفي الإمام عمر الخوارزمي خطيب بلخ ومفتيها بها؛ والقاضي أبو بكر المحمودي صاحب التصانيف والأشعار، وله مقامات بالفارسية على نمط مقامات الحريري بالعربية.
ثم دخلت سنة ستين وخمسمائة
ذكر وفاة شاه مازندران وملك ابنه بعده
في هذه السنة، ثامن ربيع الأول، توفي شاه مازندران رستم بن علي ابن شهريار بن قارن، ولما توفي كتم ابنه الحسن بن علاء الدين موته أياماً، حتى استولى على سائر الحصون والبلاد ثم أظهره، فلما ظهر خبر وفاته أظهر إيثاق صاحب جرجان ودهستان المنازعة لولده في الملك، ولم يرع حق أبيه عليه، فإنه لم يزل يذب عنه ويحميه إذا التجأ إليه، ولكن الملك عقيم، ولم يحصل من منازعته على شيء غير سوء السمعة وقبح الأحدوثة.
ذكر حصر عسكر المؤيد نسا ورحيلهم عنهاكان المؤيد قد سير جيشاً إلى مدينة نسا، فحصرها إلى جمادى الأولى في هذه السنة، فسير خوارزم شاه ايل أرسلان بن أتسز جيشاً إلى نسا، فلما قربوها رحل عنها عسكر المؤيد وعادوا إلى نيسابور أواخر جمادى الأولى.
وسار عسكر المؤيد إلى عسكر خوارزم، لأنهم توجهوا إلى نيسابور، فتقدم العسكر المؤيدي ليردهم عنها، فلما سمع العسكر الخوارزم بهم رجع عنهم، وصار صاحب نسا في طاعة خوارزمشاه والخطبة له فيها.

وسار عسكر خوارزم إلى دهستان، فالتجأ صاحبها الأمير إيثاق إلى المؤيد، صاحب نيسابور، بعد تمكن الوحشة بينهما، فقبله المؤيد وسير إليه جيشاً كثيفاً، فأقاموا عنده حتى دفع الضرر عن نفسه وبلده من جهة طبرستان، وأما دهستان فإن عسكر خوارزم غلبوا عليها وصار لهم فيها شحنة.
ذكر استيلاء المؤيد على هراةقد ذكرنا قتل صاحب هراة سنة تسع وخمسين، فلما قتل تجهز الأمراء الغزية وساروا إلى هراة وحصروها، وقد تولى أمرها إنسان يلقب أثير الدين، وكان له ميل إلى الغز، وهو يحاربهم ظاهراً، ويراسلهم باطناً، فهلك لهذا السبب خلق كثير من اهل هراة، فاجتمع أهلها فقتلوه، وقام مقامه أبو الفتوح علي بن فضل الله الطغرائي، فأرسل أهلها إلى المؤيد أي أبه، صاحب نيسابور، بالطاعة والانقياد إليه، فسير إليهم مملوكه سيف الدين تنكز في جيش، وسير جيشاً آخر أغاروا على سرخس، ، ومرو، فاخذوا دواب الغز وعادوا سالمين. فلما سمع الغز بذلك رحلوا عن هراة إلى مرو.
ذكر الحرب بين قلج ارسلان وبين ابن دانشمندفي هذه السنة كانت الفتنة بين الملك قلج أرسلان بن مسعود بن قلج أرسلان، صاحب قونية وما يجاورها من بلد الروم، وبين ياغي أرسلان بن دانشمند، صاحب ملطية وما يجاورها من بلد الروم، وجرى بينهما حرب شديدة.
وسببها ان قلج أرسلان تزوج ابنة الملك صليق بن علي بن أبي القاسم، فسيرت الزوجة إلى قلج أرسلان مع جهاز كثير لا يعلم قدره، وأغار ياغي أرسلان صاحب ملطية عليه، وأخذ العروس وما معها وأراد أن يزوجها بابن أخيه ذي النون بن محمد بن دانشمند، فامرها بالردة عن الإسلام ففعلت لينفسخ النكاح من قج أرسلان ثم عادت إلى اللإسلام، فزوجها من ابن أخيه، فجمع قلج ارسسلان عسكره وسار إلى ابن دانشمند، فالتقيا واقتتلا، فانهزم قلج أرسلان، والتجأ إلى ملك الروم، واستنصره، فأرسل إليه جيشاً كثيراً، فمات ياغي أرسلان بن دانشمند في تلك الأيام، وملك قلج أرسلان بعض بلاده، واصطلح هو والملك إبراهيم بن محمد بن دانشمند، لأنه ملك البلاد بعد عمه أرسلان، واستولى ذو النون بن محمد بن دانشمند على مدينة قيسارية، وملك شاهان شاه بن مسعود أخو قلج أرسلان على مدينة أنكورية واستقرت القاعدة بينهم واتفقوا.
ذكر الفتنة بين نور الدين وقلج أرسلانفي هذه السنة كانت وحشة متأكدة بين نور الدين محمود بن زنكي، صاحب الشام، وبين قلج ارسلان بن مسعود بن قلج أرسلان، صاحب الروم، أدت إلى الحرب والتضاغن، فلما بلغ خبرها إلى مصر كتب الصالح بن رزيك، وزير صاحب مصر، إلى قلج أرسلان ينهاه عن ذلك ويأمره بموافقته، وكتب فيه شعراً:
نقول ولكن أين من يتفهم ... ويعلم وجه الرأي والرأي مبهم
وما كل من قاس الأمور وساسها ... يوفق للأمر الذي هو أحزم
وما أحد في الملك يبقى مخلداً ... وما أحد مما قضى الله يسلم
أمن بعد ما ذاق العدى طعم حربكم ... بفيهم وكانت وهي صاب وعلقم
رجعتم إلى حكم التنافس بينكم ... وفيكم من الشحناء نار تضرم
أما عندكم من يتقي الله وحده ... أما في رعاياكم من الناس مسل
تعالوا لعل الله ينصر دينه ... إذا ما نصرنا الدين نحن وأنتم
وننهض نحو الكافرين بعزمة ... بأمثالها تحوى البلاد وتقسم
وهي أطول من هذا. هكذا ذكر بعض العلماء هذه الحادثة وأن الصالح أرسل بهذا الشعر، فإن كان الشعر للصالح فينبغي ان تكون قبل هذا التاريخ، لأن الصالح قتل سنة ست وخمسين في رمضان، وإن لم يكن الشعر له فالحادثة في هذا التاريخ، ويحتمل أن يكون هذا التنافس كان أيام الصالح فكتب الأبيات ثم امتد إلى الآن.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة، في صفر، وقع بأصفهان فتنة عظيمة بين صدر الدين عبد اللطيف بن الخجندي وبين القاضي وغيره من أصحاب المذاهب، بسبب التعصب للمذاهب، فدام القتال بين الطائفتين ثمانية أيام متتابعة قتل فيها خلق كثير، واحترق وهدم كثير من الدور والأسواق، ثم افترقوا على أقبح صورة.

وفيها بنى الإسماعيلية قلعة بالقرب من قزوين فقيل لشمس الدين إيلدكز عنها، فلم يكن له إنكار لهذه الحال خوفاً من شرهم وغائلتهم، فتقدموا بعد ذلك إلى قزوين فحصروها، وقاتلهم أهلها أشد قتال رآه الناس.
وحكى لي بعض أصدقائنا بل مشايخنا من الأئمة الفضلاء قال: كنت بقزوين أشتغل بالعلم، وكان بها إنسان يقود جمعاً كبيراً، وكان موصوفاً بالشجاعة، وله عصابة حمراء، إذا قاتل عصب بها رأسه، قال: كنت أحبه وأشتهي الجلوس معه؛ فبينما أنا عنده يوماً إذا هو يقول: كأني بالملاحدة وقد قصدوا البلد غداً، فخرجنا إليهم وقاتلناهم، فكنت أول الناس وأنا متعصب بهذه العصابة، فقاتلناهم فلم يقتل غيري، ثم ترجع الملاحدة، ويرجع أهل البلد.
قال: فوالله لما كان الغد إذ وقع الصوت بوصول الملاحدة، فخرج الناس؛ قال: فذكرت قول الرجل، فخرجت والله ليس لي همة إلا أن أنظر هل يصح ما قال أم لا. قال: فلم يكن إلا قليل حتى عاد الناس وهو محمول على أيديهم قتيلاً بعصابته الحمراء، وذكروا أنه لم يقتل بينهم غيره، فبقيت متعجباً من قوله كيف صح، ولم يتغير منه شيء، ومن أين له هذا اليقين؟ ولما حكى لي هذه الحكاية لم أسأله عن تاريخها، وإنما كان في هذه المدة في تلك البلاد، فلهذا أثبتها هذه السنة على الظن والتخمين.
وفيها قبض المؤيد أي أبه، صاحب نيسابور، على وزيره ضياء الملك بن أبي طالب سعد بن أبي القاسم محمود الرازي وحبسه، واستوزر بعده نصير الدين أبا بكر محمد بن أبي نصر محمد المستوفي، وكان أيام السلطان سنجر يتولى إشراف ديوانه، وهو من أعيان الدولة السنجرية.
وفي هذه السنة وردت الأخبار أن الناس حجوا سنة تسع وخمسين، ولقوا شدة، وانقطع منهم خلق كثير في فيد والثعلبية وواقصة وغيرها، وهلك كثير، ولم يمض الحاج إلى مدينة النبي، صلى الله عليه وسلم، لهذه الأسباب، ولشدة الغلاء فيها، وعدم ما يقتات، ووقع الوباء في البادية وهلك منهم عالم لا يحصون، وهلكت مواشيهم، وكانت الأسعار بمكة غالية.
وفيها، في صفر، قبض المستنجد بالله على الأمير توبة بن العقيلي، وكان قد هرب منه قرباً عظيماً بحيث يخلو معه، وأحبه المستنجد محبة كثيرة، فحسده الوزير ابن هبيرة، فوضع كتباً من العجم مع قوم وأمرهم أن يتعرضوا ليؤخذوا، ففعلوا ذلك وأخذوا وأحضروا عند الخليفة، فأظهروا الكتب بعد الامتناع الشديد، فلما وقف الخليفة عليها خرج إلى نهر الملك يتصيد، وكانت حلل توبة على الفرات، فحضر عنده، فأمر بالقبض عليه، فقبض وأدخل بغداد ليلاً وحبس، فكان آخر العهد به، فلم يمتع الوزير بعده بالحياة بل مات بعد ثلاثة أشهر. وكان توبة من أكمل العرب مروءة وعقلاً وسخاء وإجازة، واجتمع فيه من خلال الكمال ما تفرق في الناس.
وفيها، في ربيع الأول، توفي الشهاب محمود بن عبد العزيز الحامدي الهروي وزير السلطان أرسلان، ووزير أتابكه شمس الدين إيلدكز.
وفيها توفي عون الدين الوزير ابن هبيرة، واسمه يحيى بن محمد أبو المظفر، ، ووزير الخليفة، وكان موته في جمادى الأولى ومولده سنة تسعين وأربعمائة، ودفن بالمدرسة التي بناها للحنابلة بباب البصرة، وكان حنبلي المذهب، ديناً، خيراً، عالماً، يسمع حديث النبي، صلى الله عليه وسلم، وله فيه التصانيف الحسنة؛ وكان ذا رأي سديد، ونافق على المقتفي نفاقاً عظيماً، حتى إن المقتفي كان يقول: لم يزر لبني العباس مثله؛ ولما مات قبض على أولاده وأهله.
وتوفي بهذه السنة محمد بن سعد البغدادي بالموصل، وله شعر حسن، فمن قوله:
أفدي الذي وكلني حبه ... بطول إعلال وإمراض
ولست أدري بعد ذا كله ... أساخط مولاي أم راض
وفيها توفي الشيخ الإمام أبو القاسم عمر بن عكرمة بن البرزي الشافعي، تفقه على الفقيه الكيا الهراسي، وكان واحد عصره في الفقه تأتيه الفتاوى من العراق وخراسان وسائر البلاد، وهو من جزيرة ابن عمر.
ثم دخلت سنة إحدى وستين وخمسمائة
ذكر فتح المنيطرة من بلد الفرنج

في هذه السنة فتح نور الدين محمود بن زنكي حصن المنيطرة من الشام، وكان بيد الفرنج، ولم يحشد له، ولا جمع عساكره، وإنما سار إليه جريدة على غرة منهم، وعلم أنه إن جمع العساكر حذروا وجمعوا، وانتهز الفرصة وسار إلى المنيطرة وحصره، وجد في قتاله، فأخذه عنوة وقهراً، وقتل من بها وسبى، وغنم غنيمة كثيرة، فإن الذين به كانوا أمنين، فأخذتهم خيا الله بغتة وهم لا يشعرون، ولم يجتمع للفرنج لدفعه إلا وقد ملكه، ولو علوا أنه جريدةفي قلة من العساكر لأسرعوا إليه، وإنما ظنوه أنه في جمع كثير، فلما ملكه تفرقوا وأيسوا من رده.
ذكر قتل خطلبرس مقطع واسطفي هذه السنة قتل خطلبرس مقطع واسط، قتله ابن أخي شملة صاحب خوزستان.
وسبب ذلك أن ابن سنكا، وهو ابن أخي شملة، كان قد صاهر منكوبرس مقطع البصرة، فاتفق أن المستنجد بالله قتل منكوبرس سنة تسع وخمسين وخمسمائة، فلما قتل قصد ابن سنكا البصرة ونهب قراها، فأرسل من بغداد إلى كمشتكين، صاحب البصرة، بمحاربة ابن سنكا، فقال: أنا عامل لست بصاحب جيش؛ يعني أنه ضامن لا يقدر على إقامة عسكر، فطمع ابن سنكا، وأصعد إلى واسط، ونهب سوادها، فجمع خطلبرس مقطعها جمعاً وخرج إلى قتاله.
وكاتب ابن سنكا الأمراء الذين مع خطلبرس، فاستمالهم ثم قاتلهم فانهزم عسكره فقتله، وأخذ ابن سنكا علم خطلبرس فنصبه، فلما رآه أصحابه ظنوه باقياً، فجعلوا يعودون إليه، وكل من رجع أخذه ابن سنكا فقتله وأسره.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة خرج الكرج في جمع كثير، وأغاروا على البلدان حتى بلغوا كنجة، فقتلوا واسروا وسبوا ونهبوا ما لا يحصى.
وفيها توفي الحسن بن العباس بن رستم أبو عبد الله الأصفهاني الرستمي، الشيخ الصالح، وهو مشهور ويروي عن أحمد بن خلف وغيره.
وفيها، في ربيع الآخر، توفي الشيخ عبد القادر بن أبي صالح أبو محمد الجيلي، المقيم ببغداد، ومولده سنة سبعين وأربعمائة، وكان من الصلاح على حالة كبيرة، وهو حنبلي المذهب، ومدرسته ورباطه مشهوران ببغداد.
ثم دخلت سنة اثنتين وستين وخمسمائة
ذكر عود أسد الدين شيركوه إلى مصر
قد ذكرناه سنة تسع وخمسين مسير أسد الدين شيركوه إلى مصر، وما كان منه، وقفوله إلى الشام، فلما وصل إلى الشام أقام على حاله في خدمة نور الدين إلى الآن.
وكان بعد عوده منها لا يزال يتحدث بها وبقصدها، وكان عنده من الحرص على ذلك كثير، فلما كان هذه السنة تجهز وسار في ربيع الآخر في جيش قوي، وسير معه نور الدين جماعة من الأمراء، فبلغت عدتهم ألفي فارس، وكان كارهاً لذلك، ولكن لما رأى جد أسد الدين في المسير لم يمكنه إلا أن يسير معه جمعاً خوفاً من حادث يتجدد عليهم فيضعف الإسلام، فلما اجتمع معه عسكره سار إلى مصر على البر، وترك بلاد الفرنج على يمينه، فوصل الديار المصرية، فقصد اطفيح، وعبر النيل عندها إلى الجانب الغربي، ونزل بالجيزة مقابل مصر، وتصرف في البلاد الغربية، وحكم عليها، وأقام نيفاً وخمسين يوماً.
وكان شاور لما بلغه مجيء أسد الدين إليهم قد أرسل إلى الفرنج يستنجدهم، فأتوه على الصعب والذلول، طمعاً في ملكها وخوفاً أن يملكها أسد الدين فلا يبقى لهم في بلادهم مقام معه ومع نور الدين، فالرجاء يقودهم، والخوف يسوقهم؛ فلما وصلوا إلى مصر عبروا إلى الجانب الغربي، وكان أسد الدين وعساكره قد ساروا إلى الصعيد، فبلغ مكاناً يعرف بالبابين، وسارت العساكر المصرية والفرنج وراءه، فأدركوه بها في الخامس والعشرين من جمادى الآخرة وكان أرسل إلى المصريين والفرنج جواسيس، فعادوا إليه وأخبروه بكثرة عددهم وعددهم، وجدهم في طلبه، فعزم على قتالهم، إلا أنه خاف من أصحابه أن تضعف نفوسهم عن الثبات في هذا المقام الخطر الذي عطبهم فيه أقرب من سلامتهم، لقلة أعدادهم وبعدهم عن أوطانهم وبلادهم، وخطر الطريق، فاستشارهم، فكلهم أشاروا عليه بعبور النيل إلى الجانب الشرقي والعود إلى الشام، وقالوا له: إن نحن انهزمنا، وهو الذي يغلب على الظن، فإلى أين نلتجئ، وبمن نحتمي، وكل من في هذه الديار من جندي وعامي وفلاح عدو لنا؟

فقام أميرمن مماليك نور الدين يقال له شرف الدين بزغش، صاحب شقيف، وكان شجاعاً، وقال: من يخاف القتل والأسر فلا يخدم الملوك بل يكون في بيته مع امرأته، والله لئن عدنا إلى نور الدين من غير غلبة ولا بلاء نعذر فيه ليأخذن مالنا من أقطاع وجامكية، وليعودن علينا بجميع ما أخذناه منذ خدمناه إلى يومنا هذا ويقول: تأخذون أموال المسلمين وتفرون عن عدوهم، وتسلمون مثل مصر إلى الكفار! والحق بيده.
فقال أسد الدين: هذا الرأي، وبه أعمل؛ وقال ابن أخيه صلاح الدين مثله، وكثر الموافقون لهم، واجتمعت الكلمة على القتال، فأقام بمكانه حتى أدركه المصريون والفرنج وهو على تعبئة، وجعل الأثقال في القلب يتكثر بها، ولأنه لم يمكنه أن يتركها بمكان آخر فينهبها أهل البلاد، وجعل صلاح الدين في القلب، وقال له ولمن معه: إن المصريين والفرنج يجعلون حملتهم على القلب ظناً منهم أني فيه، فإذا حملوا عليكم فلا تصدقوهم القتال، ولا تهلكوا نفوسكم، واندفعوا بين أيديهم فإذا عادوا عنكم فارجعوا في أعقابهم.
واختار هو من شجعان عسكره جمعاً يثق بهم ويعرف صبرهم في الحرب، ووقف بهم في الميمنة، فلما تقاتل الطائفتان فعل الفرنج ما ذكره، وحملوا على القلب، فقاتلهم من به قتالاً يسيراً، وانهزموا بين أيديهم غير متفرقين وتبعهم الفرنج، فحمل حينئذ أسد الدين فيمن معه على من تخلف عن الذين حملوا من المسلمين والفرنج الفارس والراجل، فهزمهم، ووضع السيف فيهم، فأثخن وأكثر القتل والأسر، فلما عاد الفرنج من المنهزمين رأوا عسكرهم مهزوماً، والأرض منهم قفراً، فانهزموا أيضاً، وكان هذا من أعجب ما يؤرخ أن ألفي فارس تهزم عساكر مصر وفرنج الساحل.
ذكر ملك أسد الدين الإسكندرية
وعوده إلى الشام
لما انهزم الفرنج والمصريون من أسد الدين بالبابين سار إلى ثغر الإسكندرية وجبى ما في القرى على طريقه من الأموال، ووصل إلى الإسكندرية، فتسلمها بمساعدة من ألها سلموها إليه، فاستناب بها صلاح الدين ابن أخيه وعاد إلى الصعيد فملكه وجبى أمواله وأقام به حتى صام رمضان.
وأما المصريون والفرنج فإنهم عادوا واجتمعوا على القاهرة، وأصلحوا حال عساكرهم، وجمعوا وساروا إلى الإسكندرية، فحصروا صلاح الدين بها، واشتد الحصار، وقل الطعام على من بها، فصبر أهلها على ذلك، وسار أسد الدين من الصعيد إليهم، وكان شاور قد افسد من معه من التركمان، فوصل رسل الفرنج والمصريين يطلبون الصلح، وبذلوا له خمسين ألف دينار سوى ما أخذه من البلاد، فأجابوا إلى ذلك وشرط على الفرنج أن لا يقيموا بالبلاد ولا يتملكوا منها قرية واحدة، فأجابوا إلى ذلك، واصطلحوا وعاد إلى الشام، ونسلم المصريون الإسكندرية في نصف شوال، ووصل شيركوه إلى دمشق ثامن عشر ذي القعدة.
وأما الفرنج فإنهم استقر بينهم وبين المصريين أن يكون لهم بالقاهرة شحنة، وتكون أبوابها بيد فرسانهم ليمتنع نور الدين من إنفاذ عسكر إليهم، ويكون لهم من دخل مصر كل سنة مائة ألف دينار. هذا كله استقر مع شاور، فإن العاضد لم يكن له معه حكم لأنه قد حجر عليه وحجبه عن الأمور كلها، وعاد الفرنج إلى بلادهم بالساحل الشامي، وتركوا بمصر جماعة من مشاهير فرسانهم، وكان الكامل شجاع بن شاور قد أرسل إلى نور الدين مع بعض الأمراء ينهي محبته وولاءه، ويسأله الدخول في طاعته، وضمن على نفسه إن يفعل هذا ويجمع الكلمة بمصر على طاعته، وبذل مالاً يحمله كل سنة، فأجابه إلى ذلك، وحمل إليه مالاً جزيلاً، فبقي الأمر على ذلك إلى أن قصد الفرنج مصر سنة أربع وستين وخمسمائة، فكان ما نذكره هناك إن شاء الله تعالى.
ذكر ملك نور الدين صافيثا وعريمةفي هذه السنة جمع نور الدين العساكر، فسار إليه أخوه قطب الدين من الموصل وغيره، فاجتمعوا على حمص، فدخل نور الدين بالعساكر بلاد الفرنج، فاجتازوا حصن الأكراد، فأغاروا ونهبوا وقصدوا عرقة فنازلوها وحصروها وقصدوا حلبة وأخذوها وخربوها، وسارت عساكر المسلمين في بلادهم يميناً وشمالاً تغير وتخرب البلاد، وفتحوا العريمة وصافيثا، وعادوا إلى حمص فصاموا بها رمضان.

ثم ساروا إلى بانياس، وقصدوا حصن هونين، وهو للفرنج أيضاً، من أمنع حصونهم ومعاقلهم، فانهزم الفرنج عنه وأحرقوه، فوصل نور الدين من الغد فهدم سوره جميعه، وأراد الدخول إلى بيروت، فتجدد في العسكر خلف أوجب التفرق، فعاد قطب الدين إلى الموصل، وأعطاه نور الدين مدينة الرقة على الفرات، وكانت له، فأخذها في طريقه وعاد إلى الموصل.
؟
ذكرقصد ابن سنكا البصرة
في هذه السنة عاد ابن سنكا فقصد البصرة، ونهب بلدها وخربه من الجهة الشرقية، وسار إلى مطارا، فخرج إليه كمشتكين، صاحب البصرة، وواقعه واقتتلوا قتالاً صبر فيه الفريقان ثم انهزم كمشتكين إلى واسط فاجتمع بشرف الدين أبي جعفر بن البلدي الناظر فيها، ومعهما مقطعهما أرغش، واتصلت الأخبار بأن ابن سنكا واصل إلى واسط، فخاف الناس منه خوفاً شديداً، فلم يصل إليها.
ذكر قصد شملة العراقفي هذه السنة وصل شملة صاحب خوزستان إلى قلعة الماهكي، من أعمال بغداد، وأرسل إلى الخليفة المستنجد بالله يطلب شيئاً من البلاد، ويشتط بالطلب، فسير الخليفة إليه أكثر عساكره ليمنعوه، وأرسل إليه يوسف الدمشقي يلومه ويحذره عاقبة فعله، فاعتذر بأن إيلدكز والسلطان أرسلان شاه أقطعا الملك الذي عنده، وهو ولد ملكشاه، البصرة وواسط والحلة وعرض التوقيع بذلك، وقال: أنا أقنع بثلث ذلك؛ فعاد الدمشقي بذلك، فأمر الخليفة بلعنه، وأنه من الخوارج، وجمعت العساكر وسيرت إلى أرغش المسترشدي، وكان بالنعمانية هو وشرف الدين أبو جعفر بن البلدي، ناظر واسط، مقابل شملة.
ثم إن شملة أرسل قلج ابن أخيه في طائفة من العسكر لقتال طائفة من الأكراد، فركب أرغش في بعض العسكر الذي عنده وسار إلى قلج فحاربه، فأسر قلج وبعض أصحابه وسيرهم إلى بغداد، وبلغ شملة وطلب الصلح، فلم تقع الإجابة إليه، ثم إن ارغش سقط عن فرسه بعد الوقعة فمات وبقي شملة مقيماً مقابل عسكر الخليفة، فلما علم انه لا قدرة له عليهم رحل وعاد إلى بلاده، وكانت مدة سفره أربعة أشهر.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة عصى غازي بن حسان المنبجي على نور الدين محمود بن زنكي صاحب الشام، وكان نور الدين قد اقطعه مدينة منبج، فامتنع عليه فيها، فسير إليهم عسكراً فحصروه وأخذوها منه، وأقطعها نور الدين أخاه قطب الدين ينال بن حسان، وكان عادلاً، خيراً، محسناً إلى الرعية، جميل السيرة، فبقي فيها إلى أن أخذها منه صلاح الدين يوسف بن أيوب سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة.
وفيها توفي فخر الدين قرا أرسلان بن داود بن سقمان بن أرتق صاحب حصن كيفا واكثر ديار بكر، ولما اشتد مرضه أرسل إلى نور الدين محمود، صاحب الشام، يقول له: بيننا صحبة في جهاد الكفار أريد أن ترعى بها ولدي؛ ثم توفي، وملك بعده ولده نور الدين محمد، فقام نور الدين الشامي بنصرته والذب عنه، بحيث أن أخاه قطب الدين مودوداً، صاحب الموصل أراد قصد بلاده، فأرسل إليه أخوه نور الدين يمنعه، ويقول له: إن قصدته او تعرضت إلى بلاده منعتك قهراً؛ فامتنع من قصده.
وفيها توفي أبو المعالي محمد بن الحسين بن حمدون الكاتب ببغداد، وكان على ديوان الزمام، فقبض عليه فمات محبوساً.
وفيها توفي قماج المسترشدي ولد الأمير يزدن، وهو من أكابر الأمراء ببغداد.
ثم دخلت سنة ثلاث وستين وخمسمائة
ذكر فراق زين الدين الموصل
وتحكم قطب الدين في البلاد
في هذه السنة فارق زين الدين علي بن بكتكين، النائب عن قطب الدين مودود بن زنكي، صاحب الموصل، خدمة صاحبه الموصل، وسار إلى إربل، وكان هو الحاكم بالدولة، وأكثر البلاد بيده، منها إربل، وفيها بيته واولاده وخزائنه، ومنها شهرزور وجميع القلاع التي معها، وجميع بلد الهكارية وقلاعه، ومنها العمادية وغيرها، وبلد الحميديه، وتكريت وسنجار وحران، وقلعة الموصل هو بها، وكان قد أصابه طرش وعمى ايضاً، فلما عزم على مفارقة الموصل إلى بيته بإربل سلم جميع ما كان بيده من البلاد إلى قطب الدين مودود، وبقي معه إربل حسب.
وكان شجاعاً، عادلاً، حسن السيرة، سليم القلب، ميمون النقيبة، لم ينهزم في حرب قط، وكان

كريماً كثير العطاء للجند وغيرهم، مدحه الحيص بيص بقصيدة، فلما أراد أن ينشده قال: أنا لا أعرف ما يقول، ولكني أعلم أنه يريد شيئاً؛ فأمر له بخمسمائة دينار وفرس وخلعة وثياب مجموع ذلك ألف دينار، ولم يزل بإربل إلى أن مات بها بهذه السنة.ولما فارق زين الدين قلعة الموصل سلمها قطب الدين إلى فخر الدين عبد المسيح، وحكمه في البلاد، فعمر القلعة، وكانت خراباً لأن زين الدين كان قليل الالتفات إلى العمارة، وسار عبد المسيح سيرة سديدة وسياسة عظيمة، وهو خصي أبيض من مماليك زنكي أتابك عماد الدين.
ذكر الحرب بين البهلوان وصاحب مراغةفي هذه السنة أرسل آقسنقر الأحمديلي، صاحب مراغة، إلى بغداد يسأل أن يخطب للملك الذي هو عنده، وهو ولد السلطان محمد شاه، ويبذل أنه لا يطأ أرض العراق، ولا يطلب شيئاً غير ذلك، وبذل مالاً يحمله إذا أجيب إلى ما التمسه، فأجيب بتطييب قلبه.
وبلغ الخبر إيلدكز صاحب البلاد، فساءه ذلك، وجهز عسكراً كثيفاً، وجعل المقدم عليهم ابنه البهلوان، وسيرهم إلى آقسنقر، فوقعت بينهم حرب أجلت عن هزيمة آقسنقر وتحصنه بمراغة.
ونازله البهلوان بها وحصره وضيق عليه. ثم ترددت الرسل بينهم، فاصطلحوا، وعاد البهلوان إلى أبيه بهمذان.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة استوزر الخليفة المستنجد بالله شرف الدين أبا جعفر أحمد بن محمد بن سعيد المعروف بابن البلدي، وكان ناظراً بواسط أبان في ولايتها عن كفاية عظيمة، فأحضره الخليفة واستوزره، وكان عضد الدين أبو الفرج ابن رئيس الرؤساء قد تحكم تحكماً عظيماً، فتقدم الخليفة إلى ابن البلدي بكف يده وأيدي أهله وأصحابه، ففعل ذلك ووكل بتاج الدين أخي أستاذ الدار، وطالبه بحساب نهر الملك، لأنه كان يتولاه من أيام المقتفي، وكذلك فعل بغيره، فحصل بذلك أموالاً جمة، وخافه أستاذ الدار على نفسه، فحمل مالاً كثيراً.
وفي هذه السنة توفي عبد الكريم بن محمد بن منصور أبو سعيد بن أبو بكر ابن أبي المظفر السمعاني المروزي، الفقيه الشافعي وكان مكثراً من سماع الحديث سافر في طلبه وسمع منه ما لم يسمعه غيره، ورحل إلى ما وراء النهر وخراسان دفعات، ودخل إلى بلاد البل وأصفهان والعراق والموصل والجزيرة والشام وغير ذلك من البلاد، وله التصانيف المشهورة منها: ذيل تاريخ بغداد وتاريخ مدينة مرو، وكتاب النسب، وغير ذلك، أحسن فيها ما شاء، وقد جمع مشيخته فزادت عدتهم على أربعة آلاف شيخ، وقد ذكره أبو الفرج بن الجوزي فقطعه.
فمن جملة قوله فيه أنه كان يأخذ الشيخ ببغداد ويعبر به إلى فوق نهر عيسى فيقول: حدثني فلان بما وراء النهر، وهذا بارد جداً فإن الرجل سافر إلى ما وراء النهر حقاً، وسمع في عامة بلاده من عامة شيوخه، فأي حاجة به إلى هذا التلبيس البارد؟ وإنما ذنبه عند ابن الجوزي انه شافعي، وله أسوة بغيره، فإن ابن الجوزي لم يبق على أحد إلا مكسري الحنابلة.
وفيها توفي قاضي القضاة أبو البركات جعفر بن عبد الواحد الثقفي في جمادى الآخرة.
وفيها توفي يوسف الدمشقي مدرس النظامية بخوزستان، وكان قد سار رسولاً إلى شملة.
وفيها توفي الشيخ أبو النجيب الشهرزوري الصوفي الفقيه، وكان من الصالحين المشهورين، ودفن في بغداد.
ثم دخلت سنة أربع وستين وخمسمائة
ذكر ملك نور الدين قلعة جعبر
في هذه السنة ملك نور الدين محمود بن زنكي قلعة جعبر، أخذها من صاحبها شهاب الدين مللك بن علي بن مالك العقيلي، وكانت بيده ويد آبائه من قبله من أيام السلطان ملك شاه، وقد تقدم ذكر ذلك، وهي من أمنع القلاع وأحصنها مطلة على الفرات من الجانب الشرقي.

وأما سبب ملكها فإن صاحبها نزل منها يتصيد، فأخذوه بنو كلاب وحملوه إلى نور الدين في رجب سنة ثلاث وستين، فاعتقله وأحسن إليه، ورغبه في المال والإقطاع ليسلم إليه القلعة، فلم يفعل، فعدل إلى الشدة والعنف، وتهدده، فلم يفعل، فسير إليها نور الدين عسكراً مقدمه الأمير فخر الدين مسعود بن أبي علي الزعفراني، فحصرها مدة، فلم يظفر منها بشيء، فأمدهم بعسكر آخر، وجعل على الجميع الأمير مجد الدين أبا بكر المعروف بابن الداية، وهو رضيع نور الدين ، وأكبر أمرائه، فحصرها أيضاً فلم ير له فيها مطمعاً، فسلك مع صاحبها طريق اللين، وأشار عليه أن يأخذ من نور الدين العوض ولا يخاطر في حفظها بنفسه، فقبل قوله وسلمها، فاخذ عوضاً عنها سروج وأعمالها والملاحة التي بين حلب وباب بزاعة، وعشرين ألف دينار معجلة، وهذا إقطاع عظيم جداً، إلا أنه لا حصن فيه.
وهذا آخر أمر بني مالك بالقلعة ولكل أمر أمد ولكل ولاية نهاية. بلغني أنه قيل لصاحبها: أيما أحب إليك وأحسن مقاماً، سروج الشام أم القلعة؟ هذه أكثر مالاً وأما العز ففارقناه بالقلعة.
ذكر ملك أسد الدين مصر وقتل شاورفي هذه السنة، في ربيع الأول، سار أسد الدين شيركوه بن شاذي إلى ديار مصر، فملكها ومعه العساكر النورية.
وسبب ذلك من مكن الفرنج من البلاد المصرية، وأنهم جعلوا لهم في القاهرة شحنة وتسلموا أبوابها، وجعلوا لهم فيها جماعة من شجعانهم واعيان فرسانهم، وحكموا المسلمين حكماً جائراً، وركبوهم بالأذى العظيم، فلما رأوا ذلك، وأن البلاد ليس فيها من يردهم، أرسلوا إلى ملك الفرنج ، بالشام، وهو مري ولم يكن للفرنج مذ ظهر مثله شجاعة ومكراً ودهاء، يستدعونه ليملكها، وأعلموه خلوها من ممانع، وهونوا أمرها عليه، فلم يجبهم إلى ذلك، فاجتمع إليه فرسان الفرنج وذوو الرأي منهم، وأشاروا عليه بقصدها وتملكها، فقال لهم: الرأي عندي أننا لا نقصدها، فإنها طعمة لنا، وأموالها تساق إلينا، نتقوى بها على نور الدين، وإن نحن قصدناها لنتملكها فإن صاحبها وعساكره، وعامة بلاده وفلاحيها، لا يسلمونها إلينا، ويقاتلوننا دونها، ويحملهم الخوف منا إلى تسليمها إلى نور الدين، ولئن أخذها وصار له فيها مثل أسد الدين، فهو هلاك الفرنج وإجلائهم من أرض الشام؛ فلم يقبلوا قوله، وقالوا له: لا مانع فيها ولا حامي، وغلى أن يتجهز عسكر نور الدين، ويسير إليها، نكون نحن قد ملكناها، وفرغنا من أمرها، وحينئذ يتمنى نور الدين منا السلامة.
فسار معهم على كره وشرعوا يتجهزون ويظهرون أنهم يريدون قصد مدينة حمص، فلما سمع نور الدين شرع أيضاً يجمع عساكره، وأمرهم بالقدوم عليه، وجد الفرنج في السير إلى مصر، فقدموها ، ونازلوا مدينة بلبيس، وملكوها قهراً مستهل صفر، ونهبوها وقتلوا فيها وأسروا وسبوا.
وكان جماعة من أعيان المصريين قد كاتبوا الفرنج، ووعدوهم النصرة عداوة منهم لشاور، منهم ابن الخياط، وابن فرجلة، فقوي جنان الفرنج، وساروا من بلبيس إلى مصر ، فنزلوا على القاهرة عاشر صفر وحصروها، فخاف الناس منهم أن يفعلوا بهم كما فعلوا بأهل بلبيس، فحملهم الخوف منهم على الامتناع، فحفظوا البلد، وقاتلوا دونه وبذلوا جهدهم في حفظه، فلو أن الفرنج أحسنوا السيرة في بلبيس لملكوا مصر والقاهرة، ولكن الله تعالى حسن لهم ما فعلوا ليقضي الله أمراً كان مفعولاً.
وأمر شاور بإحراق مدينة مصر تاسع صفر، وأمر أهلها بالانتقال منها إلى القاهرة، وأن ينهب البلد، فانتقلوا، وبقوا على الطرق، ونهبت المدينة وافتقر أهلها، وذهبت أموالهم ونعمتهم قبل نزول الفرنج عليهم بيوم، خوفاً أن يملكها الفرنج، فبقيت النار تحرقها أربعة وخمسين يوماً.
وأرسل الخليفة العاضد إلى نور الدين يستغيث به، ويعرفه ضعف المسلمين عن دفع الفرنج، وأرسل في الكتب شعور النساء وقال: هذه شعور نسائي من قصري يستغثن بك لتنقذهن من الفرنج؛ فشرع في تسيير الجيوش.

وأما الفرنج فإنهم اشتدوا في حصار القاهرة وضيقوا على أهلها، وشاور هو المتولي للأمر والعساكر والقتال، فضاق به الأمر، وضعف عن ردهم فأخلد إلى أعمال الحيلة، فأرسل إلى ملك الفرنج يذكر له مودته ومحبته القديمة له، وان هواه معه لخوفه من نور الدين والعاضد، وإنما المسلمون لا يوافقونه على التسليم إليه، ويشير بالصلح، وأخذ مال لئلا يتسلم نور الدين، فأجابه إلى ذلك على أن يعطوه ألف ألف دينار مصرية، يعجل البعض، ويمهل البعض فاستقرت القاعدة على ذلك.
ورأى الفرنج أن البلاد قد امتنعت عليهم وربما سلمت إلى نور الدين، فأجابوا كارهين، وقالوا: نأخذ المال فنتقوى به، ونعاود البلاد بقوة لا نبالي معها بنور الدين (ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين) آل عمران) فعجل لهم شاور مائة ألف ألف دينار، وسألهم الرحيل عنه ليجمع لهم المال، فرحلوا قريباً، وجعل شاور يجمع لهم المال من أهل القاهرة ومصر، فلم يتحصل له إلا قدر لا يبلغ خمسة آلاف دينار، وسببه أن أهل مصر كانوا قد احترقت دورهم وما، وما سلم نهب، وهم لا يقدرون على الأقوات فضلاً عن الأقساط.
وأما القاهرة فالأغلب على أهلها الجند وغلمانهم، فلهذا تعذرت عليهم الأموال، وهم في خلال هذا يراسلون نور الدين بما الناس فيه، وبذلوا له ثلث بلاد مصر، وأن يكون أسد الدين مقيماً عندهم في عسكر، وأقطاعهم في الديار المصرية أيضاً خارجاً عن الثلث الذي لهم.
وكان نور الدين لما وصله كتب العاضد بحلب أرسل إلى أسد الدين يستدعيه إليه، فخرج القاصد في طلبه، فلقيه على باب حلب، وقد قدمها من حمص وكان إقطاعه، وكان سبب وصوله ان كتب المصريين وصلته أيضاً في المعنى، فسار أيضاً إلى نور الدين، واجتمع به، وعجب نور الدين من حضوره في الحال، وسره ذلك، وتفاءل به، وأمر بالتجهيز إلى مصر، وأعطاه مائتي ألف دينار سوى الثياب والدواب والأسلحة وغير ذلك، وحكمه في العسكر والخزائن، واختار من العسكر ألفي فارس، وأخذ المال، وجمع ستة آلاف فارس، وسار هو ونور الدين إلى دمشق، فوصلها سلخ صفر، ورحل إلى رأس الماء، وأعطى نور الدين كل فارس ممن مع أسد الدين عشرين ديناراً معونة غير محسوبة من جامكيته، وأضاف إلى أسد الدين جماعة أخرى من الأمراء منهم: مملوكه عز الدين جورديك، وعز الدين قلج، وشرف الدين بزغش، وعين الدولة الياروقي، وقطب الدين ينال بن حسان المنبجي، وصلاح الدين يوسف بن أيوب، أخي شيركوه، على كره منه، (عسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم ((البقرة) أحب نور الدين مسير صلاح الدين، وفيه ذهاب بيته؛ وكره صلاح الدين المسير، وفيه سعادته وملكه، وسيد ذلك عند موت شيركوه، إن شاء الله تعالى.
وسار أسد الدين شيركوه من رأس الماء مجداً منتصف ربيع الأول، فلما قارب مصر رحل الفرنج عنها عائدين إلى بلادهم بخفي حنين خائبين مما أملوا، وسمع نور الدين بعودهم، فسره ذلك، وأمر بضرب البشائر في البلاد، وبث رسله في الآفاق مبشرين بذلك، فإنه كان فتحاً جديداً لمصر وحفظاً لسائر بلاد الشام وغيرها.
فأما أسد الدين فإنه وصل إلى القاهرة سابع جمادى الآخرة، ودخل إليها، واجتمع بالعاضد لدين الله، وخلع عليه وعاد إلى خيامه بالعاضدية، وفرح به أهل مصر، وأجريت عليه وعلى عسكره الجرايات الكثيرة، والإقامات الوافرة، ولم يمكن شاور المنع عن ذلك لأنه رأى العساكر كثيرة مع شيركوه وهوى العاضد معهم، فلم يتجاسر على إظهار ما في نفسه، وشرع يماطل أسد الدين في تقرير ما كان بذل لنور الدين من المال، وإقطاع الجند، وإفراد ثلث البلاد لنور الدين، وهو يركب كل يوم إلى أسد الدين ويسير معه ويعده ويمنيه (وما يعدهم الشيطان إلا غروراً ) ثم إنه عزم على أن يعمل دعوة يدعو إليها أسد الدين والأمراء الذين معه ويقبض عليهم، ويستخدم من معهم من الجند فيمنع بهم البلاد من الفرنج، فنهاه ابنه الكامل، وقال له: والله لئن عزمت على هذا لأعرفن شيركوه. فقال له أبوه: والله لئن لم نفعل هذا لنقتلن جميعاً. فقال: صدقت ولئن نقتل ونحن مسلمون والبلاد إسلامية، خير من أن نقتل وقد ملكها الفرنج، فإنه ليس بينك وبين عود الفرنج إلا أن يسمعوا بالقبض على شيركوه، وحينئذ لو مشى العاضد إلى نور الدين لم يرسل معه فارساً واحداً ويملكون البلاد؛ فترك ما كان عزم عليه.

ولما رأى العسكر النوري مطل شاور خافوا شره، فاتفق صلاح الدين يوسف بن أيوب وعز الدين جورديك وغيرهما على قتل شاور، فاعلموا أسد الدين فنهاهم عنه، فسكتوا وهم على ذلك العزم من قتله، فاتفق أن شاور قصد عسكر أسد الدين على عادته، فلم يجده في الخيام، وكان قد مضى يزور قبر الإمام الشافعي رضي الله عنه، فلقيه صلاح الدين يوسف وجورديك في جمع من العسكر، وخدموه، واعلموه بأن شيركوه في زيارة قبر الإمام الشافعي، فقال: نمضي إليه، فساروا جميعاً، فسايره صلاح الدين وجورديك وألقياه عن فرسه إلى الأرض، فهرب أصحابه عنه، فاخذ أسيراً، فلم يمكنهم قتله بغير أسد الدين، فتوكلوا بحفظه، وسيروا فأعلوا أسد الدين الحال، فحضر، ولم يمكنه إلا إتمام ما عملوه، وسمع الخليفة العاضد صاحب مصر الخبر، فأرسل إلى أسد الدين يطلب منه إنفاذ رأس شاور، وتابع الرسل بذلك، فقتل وأرسل رأسه إلى العاضد في السابع عشر من ربيع الآخر.
ودخل أسد الدين القاهرة، فرأى من اجتماع الخلق فخافهم على نفسه، فقال لهم: أمير المؤمنين، يعني العاضد، يأمركم بنهب دار شاور؛ فتفرق الناس عنه إليها فنهبوها، وقصد هو قصر العاضد، فخلع عليه خلع الوزارة، ولقب املك المنصور أمير الجيوش، وسار بالخلع إلى دار الوزارة، وهي التي كان فيها شاور، فلم ير فيها ما يقعد عليه، واستقر في الأمر، وغلب عليه، ولم يبق له مانع ولا منازع، واستعمل على الأعمال من يثق به من أصحابه واقطع البلاد لعساكره.
وأما الكامل بن شاور فإنه لما قتل أبوه دخل القصر هو وأخوته معتصمين به، فكان آخر العهد بهم، فكان شيركوه يتأسف عليه كيف عدم لأنه بلغه ما كان منه مع أبيه في منعه من قتل شيركوه، وكان يقول: وددت أنه بقي لأحسن إليه جزاء الصنيعة.
ذكر وفاة أسد الدين شيركوهلما ثبت قدم أسد الدين، وظن أنه لم يبق له منازع، أتاه أجله (حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة (، فتوفي يوم السبت الثاني والعشرين من جمادى الآخرة سنة أربع وستين وخمسمائة، وكانت ولايته شهرين وخمسة أيام.
وأما ابتداء أمره واتصاله بنور الدين، فإنه كان هو وأخوه نجم الدين أيوب ابنا الشاذي من بلد دوين، وأصلهما من الأكراد الروادية، وهذا النسل هم أشرف الأكراد، فقدما العراق، وخدما مجاهد الدين بهروز شحنة بغداد، فرأى من نجم الدين عقلاً ورأياً وافراً وحسن سيرة، وكان أكبر من شيركوه، فجعله مستحفظاً لقلعة تكريت، وهي له، فسار إإليها ومعه أخوه شيركوه، فلما انهزم أتابك الشهيد زنكي بن آقسنقر بالعراق من قراجة الساقي على ما ذكرناه سنة ست وعشرين وخمسمائة، وصل منهزماً إلى تكريت، فخدمه نجم الدين، وأقام له السفن فعبر دجلة هناك، وتبعه أصحابه، فأحسن أيوب صحبتهم وسيرهم.ثم إن شيركوه قتل إنساناً بتكريت لملاحة جرت بينهما، فأخرجهما بهروز من القلعة، فسارا إلى الشهيد زنكي، فأحسن إليهما، وعرف لهما خدمتهما، وأقطعهما إقطاعاً حسناً، فلما ملك قلعة بعلبك جعل أيوب مستحفظاً عليها؛ فلما قتل الشهيد حصر عسكر دمشق بعلبك وهو بها، فضاق عليه المر، وكان سيف الدين غازي بن زنكي مشغولاً عنه بإصلاح البلاد، فاضطر إلى تسليمها إليهم، فسلمها على إقطاع ذكره، فأجيب إلى ذلك، وصار من اكبر الأمراء بدمشق.
واتصل أخوه أسد الدين شيركوه بنور الدين محمود بعد قتل زنكي، وكان يخمه في أيام والدهن فقربه وقدمه، ورأى منه شجاعة يعجز عنها غيره، فزاده حتى صار له حمص والرحبة وغيرهما، وجعله مقدم عسكره، فلما أراد نور الدين ملك دمشق أمره فراسل أخاه أيوب وهو بها، وطاب منه المساعدة على فتحها، فأجاب إلى ما يراد منه على إقطاع ذكره له ولأخيه، وقرى يتملكانها، فأعطاهما ما طلبا، وفتح دمشق على ما ذكرناه، ووفى لهما، وصارا أعظم أمراء دولته. فلما أراد أن يرسل العساكر إلى مصر، لم ير لهذا الأمر العظيم والمقام الخطير غيره، فأرسله، ففعل ما ذكرناه.
ذكر ملك صلاح الدين مصرلما توفي أسد الدين شيركوه كان معه صلاح الدين ابن أخيه أيوب ابن شاذي قد سار معه على كره منه للمسير.

حكى لي عنه بعض أصدقائنا ممن كان قريباً إليه خصيصاً به قال: لما وردت كتب العاضد على نور الدين يستغيث به من الفرنج، ويطلب إرسال العساكر، أحضرني وأعلمني الحال، وقال: تمضي إلى عمك أسد الدين بحمص مع رسولي إليه ليحضر، وتحثه أنت على الإسراع، فما يحتمل الأمر التأخير؛ ففعلت وخرجنا من حلب، فما كنا على ميل من حلب حتى لقيناه قادماً في هذا المعنى، فأمره نور الدين بالمسير، فلما قال له نور الدين ذلك التفت عمي إلي فقال لي: تجهز يا يوسف! فقلت: والله لو أعطيت ملك مصر ما سرت إليها، فلقد قاسيت بالإسكندرية ما لا أنساه أبداً. فقال لنور الدين: لا بد من مسيره معي فتأمر به، فأمرني نور الدين، وأنا أستقيل، وانقضى المجلس. وتجهز أسد الدين، ولم يبق غير المسير؛ قال لي نور الدين: لا بد من مسيرك مع عمك؛ فشكوت إليه الضائقة وعدم البرك، فأعطاني ما تجهزت به فكأنما أساق إلى الموت، فسرت معه وملكها، ثم توفي فملكني الله ما لم اكن أطمع في بعضه.
وأما كيفية ولايته، فإن جماعة من الأمراء النورية الذين كانوا بمصر طلبوا التقدم على العساكر، وولاية الوزارة العاضدية بعده، منهم عين الدولة الياروقي، وقطب الدين، وسيف الدين المشطوب الهكاري، وشهاب الدين محمود الحارمي، وهو خال صلاح الدين، وكل واحد من هؤلاء يخطبها، وقد جمع أصحابه ليغال عليها، فأرسل العاضد إلى صلاح الدين فأحضره عنده، وخلع عليه، وولاه الوزارة بعد عمه.
وكان الذي حمله على ذلك أن أصحابه قالوا: ليس في الجماعة أضعف ولا أصغر سناً من يوسف، والرأي أن يولى، فإنه لا يخرج من تحت حكمنا، ثم نضع على العساكر من يستميلهم إلينا، فيصير عندنا من الجنود من نمنع بهم البلاد، ثم نأخذ يوسف أو نخرجه.
فلما خلع عليه لقب الناصر لم يطعه أحد من أولئك الأمراء الذين يريدون الأمر لأنفسهم، ولا خدموه. وكان الفقيه عيسى الهكاري معه، فسعى مع المشطوب حتى أماله إليه، وقال له: إن هذا الأمرلا يصل إليك مع عين الدولة والحارمي وغيرهما؛ ثم قصد الحارمي وقال: هذا صلاح الدين هو ابن أختك وعزه وملكه لك، وقد استقام له الأمر فلا تكن أول من يسعى في إخراجه عنه ولا يصل إليك؛ فمال إليه أيضاً، ثم فعل مثل هذا بالباقين، وكلهم أطاع غير عين الدولة الياروقي فإنه قال: أنا لا أخدم يوسف؛ وعاد إلى نور الدين بالشام ومعه غيره من الأمراء، وثبت قدم صلاح الدين، ومع هذا فهو نائب عن نور الدين.
وكان نور الدين يكاتبه بالأمير الأسفهسلار، ويكتب علامته على رأس الكتاب تعظيماً عن أن يكتب اسمه، وكان لا يفرده بكتاب بل يكتب الأمير الأسفهسلار صلاح الدين وجميع الأمراء بالديار والمصرية يفعلون كذا.
واستمال صلاح الدين قلوب الناس، وبذل الأموال، فمالوا إليه وأحبوه وضعف أمر العاضد، ثم أرسل صلاح الدين يطلب من نور الدين أن يرسل إليه أخوته وأهله، فأرسلهم إليه، وشرع عليهم طاعته والقيام بأمره ومساعدته، وكلهم فعل ذلك، وأخذت إقطاعات الأمراء المصريين فأعطاها أهله والأمراء الذين معه، وزادهم، فازدادوا له حباً وطاعة.
قد اعتبرت التواريخ، فرأيت كثيراً من التواريخ الإسلامية التي يمكن ضبطها، ورأيت كثيرأ ممن يبتدئ الملك تنتقل الدولة عن صلبه إلى بعض أهله وأقاربه، منهم أول الإسلام: معاوية بن أبي سفيان، أول من ملك من أهل بيته، فنقل الملك عن أعقابه إلى بني مروان من بني عمه؛ ثم السامانية أول من استبد منهم نصر بن أحمد، فانتقل الملك عنه إلى أخيه إسماعيل بن أحمد وأعقابه؛ ثم يعقوب الصفار، وهو أول من ملك من أهل بيته، فانتقل الملك إلى أخيه عمرو وأعقابه؛ ثم عماد الدولة بنبويه أول من ملك من أهله انتقل الملك عنه إلى أخويه ركن الدولة وعز الدولة؛ ثم خلص في أعقاب ركن الدولة، ومعز الدولة؛ ثم خلص في أعقاب ركن الدولة؛ ثم الدولة السلجوقية أول من ملك منهم طغرل بك انتقل الملك إلى أولاد أخيه، داود؛ ثم شيركوه هذا كما ذكرناه انتقل الملك إلى أعقاب أخيه أيوب؛ ثم إن صلاح الدين لما أنشأ الدولة وعظمها، وصار كأنه أول لها، نقل الملك إلى أعقاب أخيه العادل ولم يبق بيد أعقابه غير حلب.

وهذه اعظم الدول الإسلامية، ولولا خوف التطويل لذكرنا أكثر من هذا، والذي أظنه السبب في ذلك أن الذي يكون أول دولة يكثر ويأخذ الملك وقلوب من كان فيه متعلقة به فلهذا يحرمه الله أعقابه ومن يفعل ذلك من أجلهم عقوبة له.
ذكر وقعة السودان بمصرفي هذه السنة في أوائل ذي القعدة قتل مؤتمن الخلافة، وهو خصي كان بقصر العاضد، إليه الحكم فيه، والتقدم على جميع من يحويه، فاتفق هو وجماعة من المصريين على مكاتبة الفرنج واستدعائهم إلى البلاد، والتقوي بهم على صلاح الدين ومن معه، وسيروا الكتب مع إنسان يثقون به، وأقاموا ينتظرون جوابه، وسار ذلك القاصد إلى البئر البيضاء، فلقيه إنسان تركماني، فرأى معه نعلين جديدين، فأخذهما منه وقال في نفسه: لو كانا مما يلبسه هذا الرجل لكانا خلقين، فإنه رث الهيئة، وارتاب به وبهما، فأتي بهما صلاح الدين ففتقهما، فرأى الكتاب فيهما، فقرأه وسكت عليه.
وك
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://arabelalekat.yoo7.com
الشيخ عودة
الشيخ عودة
الشيخ عودة



عدد المساهمات : 1748
تاريخ التسجيل : 28/09/2008
العمر : 74

كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير - صفحة 7 Empty
مُساهمةموضوع: رد: كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير   كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير - صفحة 7 Emptyالخميس فبراير 27, 2014 6:33 am

ذكر حصر الفرنج دمياط
في هذه السنة، في صفر، نزل الفرنج على مدينة دمياط من الديار المصرية وحصروها، وكان الفرنج بالشام ، لما ملك أسد الدين شيركوه مصر، قد خافوه ، وأيقنوا بالهلاك، وكاتبوا الفرنج الذين بصقلية والأندلس وغيرهما يستمدونهم ويعرفونهم ما تجدد من ملك الأتراك مصر، وأنهم خائفون على البيت المقدس منهم، فأدخلوا جماعة من القسوس والرهبان يحرضونهم على الحركة، فأمدوهم بالأموال والرجال والسلاح، واتعدوا للنزول على دمياط ظناً منهم أنهم يملكونها، ويتخذونها ظهراً يملكون به الديار المصرية (ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيراً (فإلى أن دخلوا كان أسد الدين قد مات وملك صلاح الدين، فاجتمعوا عليها وحصروها، وضيقوا على من بها .
فأرسل إليها صلاح الدين العساكر في النيل وحشر فيها كل من عنده، وأمدهم بالأموال والسلاح والذخائر، وأرسل إلى نور الدين يشكو ما هم فيه من المخافة، ويقول: إني إن تأخرت عن دمياط ملكها الفرنج، وإن سرت إليها خلفني المصريون في أهلها وأموالها بالشر، وخرجوا عن طاعتي، وساروا في أثري، والفرنج من أمامي، فلا يبقى لنا باقية.

فسير نور الدين العساكر إليه أرسالاً يتلو بعضها بعضاً، ثم سار هو بنفسه إلى بلاد الفرنج الشامية، ونهبها ، وأغار عليها واستباحها، فوصلت الغارات إلى ما لم تكن تبلغه قبل، لخل البلاد من مانع.
فلما رأى الفرنج تتابع العساكر إلى مصر، ودخول نور الدين إلى بلادهم ونهبها وتخريبها، رجعوا خائبين لم يظفروا بشيء، ووجدوا بلادهم خراباً، وأهلها بين قتيل وأسير، فكانوا موضع المثل : (خرجت النعامة تطلب قرنين فرجعت بلا أذنين (. وكانت مدة مقامهم على دمياط خمسين يوماً أخرج فيها صلاح الدين أموالاً لا تحصى. حكي لي أنه قال: ما رأيت أكرم من العاضد أرسل إلي مدة لمقام الفرنج على دمياط ألف ألف دينار مصرية سوى الثياب وغيرها.
ذكر حصر نور الدين الكركفي هذه السنة، في جمادى الآخرة سار نورالدين إلى بلاد الفرنج، فحصر الكرك، وهو امنع المعاقل على طرف البر.
وكان سبب ذلك أن صلاح الدين أرسل إلى نور الدين يطلب أن يرسل إليه والده نجم الدين أيوب، فجهزه نور الدين وسيره، وسير معه عسكراً، واجتمع معه من التجار خلق كثير، وانضاف إليهم من كان له مع صلاح الدين أنس وصحبة، فخاف نور الدين عليهم من الفرنج، فسار في عساكره إلى الكرك، فحصره وضيق عليه ونصب عليه المجانيق، فأتاه الخبر أن الفرنج قد جمعوا له، وساروا إليه، وقد جعلوا في مقدمتهم إليه ابن هنفري وقريب بن الرقيق، وهما فارسا الفرنج في وقتهما، فرحل نور الدين نحو هذين المقدمين ليلقاهما ومن معهما قبل أن يلتحق بهما باقي الفرنج، فلما قاربهما رجعا القهقري واجتمعا بباقي الفرنج.
وسلك نور الدين وسط بلادهم ينهب ويحرق ما على طريقه من القرى إلى أن وصل إلى بلاد الإسلام، فنزل على عشترا، وأقام ينتظر حركة الفرنج ليلقاهم، فلم يبرحوا من مكانهم، فأقام هو حتى أتاه خبر الزلزلة الحادثة فرحل.
وأما نجم الدين أيوب فإنه وصل إلى مصر سالماً هو ومن معه وخرج العاضد الخليفة فالتقاه إكراماً له.
ذكر غزوة لسرية نوريةكان شهاب الدين إلياس بن إيلغازي بن أرتك، صاحب قلعة البيرة، قد سار في عسكره، وهو في مائتي فارس، إلى نور الدين وهو بعشترا، فلما وصل إلى قرية اللبوة، وهي من عمل بعلبك، ركب متصيداً، فصادف ثلاثمائة فارس من الفرنج قد ساروا للإغارة على بلاد الإسلام سابع عشر شوال، فوقع بعضهم على بعض ، واقتتلوا واشتد القتال، وصبر الفريقان لاسيما المسلمون، فإن ألف فارس لا يصبرون لحملة ثلاثمائة فارس إفرنجية، وكثر القتلى بين الطائفتين، فانهزم الفرنج، وعمهم القتل والأسر، فلم يفلت منهم إلا من لا يعتد به.
وسار شهاب الدين برؤوس القتلى والأسرى إلى نور الدين، فركب نور الدين والعسكر، فلقوهم، فرأى نور الدين في الرؤوس رأس مقدم الإسبتار، صاحب حصن الأكراد، وكان من الشجاعة بمحل كبير، وكان شجاً في حلوق المسلمين.
ذكر الزلزلة وما فعلته بالشامفي هذه السنة أيضاً، ثاني عشر شوال، كانت زلازل عظيمة متتابعة هائلة لم ير الناس مثلها، وعمت اكثر البلاد من الشام والجزيرة والموصل والعراق وغيرها من البلاد، وأشدها كان بالشام، فخربت كثيراً من دمشق وبعلبك وحمص وحماة وشيزر وبعرين وحلب وغيرها، وتهدمت أسوارها وقلاعها، وسقطت الدور على أهلها، وهلك منهم ما يخرج عن الحد.
فلما أتاه الخبر سار إلى بعلبك ليعمر ما انهدم من سورها وقلعتها ، فلما وصلها أتاه خبر باقي البلاد وخراب أسوارها وقلاعها، وخلوها من أهلها، فجعل ببعلبك من يعمرها ويحميها ويحفظها، وسار إلى حمص ففعل مثل ذلك، ثم إلى حماة ثم إلى بعرين، وكان شديد الحذر على سائر البلاد من الفرنج، ثم أتى مدينة حلب، فرأى فيها من آثار الزلزلة ما ليس بغيرها من البلاد، فإنها كانت قد أتت عليها وبلغ الرعب ممن نجا كل مبلغ، وكانوا لا يقدرون أن يأووا إلى مساكنهم خوفاً من الزلزلة ، فأقام بظاهرها، وباشر عمارتها بنفسه، فلم يزل كذلك حتى أحكم أسوار البلاد وجوامعها.
وأما بلاد الفرنج فان الزلازل أيضاً عملت بها كذلك فاشتغلوا بعمارة بلادهم خوفاً من نور الدين عليها، فاشتغل كل منهم بعمارة بلاده خوفاً من الآخر.
ذكر وفاة قطب الدين مودود بن زنكي
وملك ابنه سيف الدين غازي

في هذه السنة،في ذي الحجة، مات قطب الدين مودود بن زنكي، ابن آقسنقر،صاحب الموصل بالموصل، وكان مرضه حمى حادة، ولما اشتد مرضه أوصى بالملك بعده لأبنه الأكبر عماد الدين زنكي، ثم عدل عنه إلى ابنه الأكبر سيف الدين غازي، وإنما صرف الملك عن ابنه الأكبر عماد الدين زنكي بن مودود لأن القيم بأمور دولته، والمقدم فيها، كان خادماً له يقال له فخر الدين عبد المسيح، وكان يكره عماد الدين لأنه كان طوع عمه نور الدين، لكثرة مقامه عنده، ولأنه زوج ابنته، وكان نور الدين يبغض عبد المسيح، فاتفق فخر الدين وخاتون ابنة حسام الدين تمرتاش بن إيلغازي، وهي والدة سيف الدين، على صرف الملك عن عماد الدين إلى سيف الدين، فرحل عماد الدين إلى عمه نور الدين مستنصراً به ليعينه على أخذ الملك لنفسه.
وتوفي قطب الدين وعمره نحو أربعين سنة، وكان ملكه إحدى وعشرين سنة وخمسة اشهر ونصفاً، وكان فخر الدين هو المدبر للأمور والحاكم في الدولة، وكان قطب الدين من أحسن الملوك سيرة وأعفهم عن أموال رعيته، محسناً إليهم ، كثير الإنعام عليهم، محبوباً إلى كبيرهم وصغيرهم، عطوفاً على شريفهم ووضيعهم، كريم الأخلاق، حسن الصحبة معهم، فكأن القائل أراد بقوله:
خلق كماء المزن طيب مذاقه ... والروضة الغناء طيب نسيم
كالسيف لكن فيه حلم واسع ... عمن جنى والسيف غير حليم
كالغيث إلا أن وابل جوده ... أبداً وجود الغيث غير مقيم
كالدهر إلا أنه ذو رحمة ... والدهر قاسي القلب غير رحيم
وكان سريع الانفعال للخير، بطيئاً عن الشر، جم المناقب، قليل المعايب، رحمه الله ورضي عنه وعن جميع المسلمين بمنه وكرمه، إنه جواد كريم .
ذكر حالة ينبغي للملوك أن يحترزوا من مثلهاحدثني والدي، رحمه الله، قال: كنت أتولى جزيرة ابن عمر، لقطب الدين، كما علمتم، فلما كان قبل موته بيسير أتانا كتاب من الديوان بالموصل يأمرون بمساحة جميع بساتين العقيمة، وهذه العقيمة هي قرية تحاذي الجزيرة بينهما دجلة، ولها بساتين كثيرة بعضها يمسح فيؤخذ منه على كل جريب شيء معلوم، وبعضها عليه خراج، وبعضها مطلق من الجميع.
قال: وكان لي فيها ملك كثير، فكنت أقول: إن المصلحة أن لا يغير على الناس شيئاً، وما أقول هذا لأجل ملكي، فإنني أنا أمسح ملكي، وإنما أريد أن يدوم الدعاء من الناس للدولة، فجاءني كتاب النائب يقول: لا بد من المساحة. قال: فأظهرت الأمر، وكان بها قوم صالحون، لي بهم أنس، وبيننا مودة، فجاءني الناس كلهم، وأولئك معهم، يطلبون المراجعة، فأعلمتهم أنني رجعت وما أجبت إلى ذلك، فجاءني منهم رجلان أعرف صلاحهما، وطلبا مني المعاودة والمخاطبة ثانية، ففعلت، فأصروا على المسح فعرفتهما الحال.
قال: فما مضى إلا عدة أيام، وإذ قد جاءني الرجلان، فلما رايتهما ظننت أنهما جاءا يطلبان المعاودة، فعجبت منهما، وأخذت أعتذر إليهما، فقالا: ما جئنا إليك في هذا، وإنما جئنا نعرفك إن حاجتنا قضيت. قال: فظننت أنهما قد أرسلا إلى الموصل إلى من يشفع لهما. فقلت: من الذي خاطب في هذا بالموصل؟ فقالا: إن حاجتنا قد قضيت من السماء، ولكافة أهل العقيمة.
قال: فظننت أن هذا مما حدثا به نفوسهما، ثم قاما عني، فلم يمض غير عشرة أيام وإذ قد جاءنا كتاب من الموصل يأمرون بإطلاق المساحة والمحبسين والمكوس، ويأمرون بالصدقة، ويقال: إن السلطان، يعني قطب الدين، مريض، يعني على حالة شديدة ، ثم بعد يومين أو ثلاثة جاءنا الكتاب بوفاته، فعجبت من قولهما، واعتقدته كرامة لهما، فصار والدي بعد ذلك يكثر إكرامهما واحترامهما ويزورهما.
ذكر الحرب بين عساكر عبد المؤمن وابن مردنيشكان محمد بن سعيد بن مردنيش، ملك شرق الأندلس، قد اتفق هو والفرنج، وامتنع على عبد المؤمن وابنه بعده، فاستفحل أمره، لا سيما بعد وفاة عبد المؤمن، فلما كان هذه السنة جهز إليه يوسف بن عبد المؤمن العساكر الكثيرة مع أخيه عمر بن عبد المؤمن، فجاسوا بلاده وخربوها، وأخذوا مدينتين من بلاده، وأخافوا عساكر جنوده، وأقاموا ببلاده مدة يتنقلون فيها ويجبون الأموال.
ذكر وفاة صاحب كرمان
والخلف بين أولاده

في هذه السنة توفي الملك طغرل بن قاورت صاحب كرمان، واختلف أولاده بهرام شاه وأرسلان شاه، وهو الأكبر، وجرى بينهما قتال انهزم فيه بهرامشاه ومعه أخ له اسمه تركان شاه، فملك البلاد أرسلان شاه ومضى بهرام شاه إلى خراسان، فدخل على المؤيد صاحب نيسابور واستنجده، فأنجده بعساكر سار بها إلى كرمان، فجرى بين الأخوين حرب ظفر بها بهرام شاه، وهرب أرسلان شاه، فقصد أصفهان مستجيراً بإيلدكز، فأنفذ معه عسكراً، واستنقذوا البلاد من بهرامشاه وسلموها إلى أخيه أرسلان شاه فعاد بهرام شاه إلى نيسابور مستجيراً بالمؤيد صاحبها، فأقام عنده، فاتفق أن أخاه ارسلان شاه مات، فسار إلى كرمان فملكها، وأقام بها بغير منازع.
ذكرعدة حوادثفي هذه السنة، كثرت الأذية من عبد الملك بن محمد بن عطاء، وتطرق بلاد حلوان، ونهب وأفسد، وتطرق الحجاج، فأنفذ إليه من بغداد عسكر فنازلوه في قلاعه وضايقوه، ونهبوا أمواله، وأموال أهله، حتى أذعن بالطاعة، ولا يعاود أذى الحجاجولا غيرهم، فعاد العسكر عنه.
وفيها توفي مجد الدين أبو بكر بن الداية، وهو رضيع نور الدين، وكان أعظم الأمراء منزلة عنده، وله أقطاعة حلب وحارم وقلعة جعبر، فلما توفي رد نور الدين ما كان له إلى أخيه شمس الدين علي بن الداية.
وفيها ، في شعبان، توفي أحمد ابن صالح بن شافع أبو الفضل الجيلي ببغداد، وهو من مشهوري المحدثين.
ثم دخلت سنة ست وستين وخمسمائة
ذكر وفاة المستنجد بالله
في هذه السنة ، تاسع ربيع الآخر، توفي المستنجد بالله أبو المظفر يوسف ابن المقتفي لأمر الله أبي عبد الله محمد بن المستظهر بالله، وقد تقدم باقي النسب في غير موضع، وأمه أم ولد، اسمها طاووس، وقيل نرجس، رومية، ومولده مستهل ربيع الآخر سنة عشر وخمسمائة، وكانت خلافته إحدى عشرة سنة وشهراً وستة أيام، وكان أسمر، تام القامة، طويل اللحية.
وكان سبب موته أنه مرض واشتد مرضه، وكان قد خافه أستاذ الدار عضد الدين أبو الفرج بن رئيس الرؤساء، وقطب الدين قايماز المقتفوي، وهو حينئذ أكبر أمير ببغداد، فلما اشتد مرض الخليفة اتفقا، ووضعا الطبيب على أن يصف له ما يؤذيه، فوصف له دخول الحمام، فامتنع لضعفه، ثم إنه دخل وأغلق الباب عليه فمات.
وهكذا سمعته من غير واحد ممن يعلم الحال، وقيل إن الخليفة كتب إلى وزيره مع طبيبه ابن صفية يأمره بالقبض على أستاذ الدار وقطب الدين وصلبهما، فاجتمع ابن صفية بأستاذ الدار، وأعطاه خط الخليفة، فقال له: تعود وتقول إنني أوصلت الخط إلى الوزير؛ ففعل ذلك، وأحضر أستاذ الدار قطب الدين ويزدن وأخاه تنامش، وعرض الخط عليهم، فاتفقوا على قتل الخليفة، فدخل إليه يزدن وقايماز الحميدي، فحملاه إلى الحمام وهو يستغيث وألقياه، وأغلقا الباب عليه وهو يصيح إلى أن مات، رحمه الله.
وكان وزيره حينئذ أبا جعفر البلدي، وبينه وبين أستاذ الدار عضد الدين عداوة مستحكمة، لأن المستنجد بالله كان يأمره بأشياء تتعلق بهما فيفعلها، فكانا يظنان أنه هو الذي يسعى بهما، فلما مرض المستنجد، وأرجف بموته، ركب الوزير ومعه الأمراء والأجناد وغيرهم بالعدة، فلم يتحقق عنده خبر موته، فأرسل إليه عضد الدين يقول: إن أمير المؤمنين قد خف مابه من مرض، وأقبلت العافية، فخاف الوزير أن يدخل دار الخلافة بالجند، فربما أنكر عليه ذلك، فعاد إلى داره وتفرق الناس عنه، وكان عضد الدين وقطب الدين قد استعدا للهرب لما ركب الوزير خوفاً منه إن دخل الدار أن يأخذهما، فلما عاد أغلق أستاذ الدار أبواب الدار، وأظهروا وفاة المستنجد، وأحضر هو وقطب الدين ابنه أبا محمد الحسن، وبايعاه بالخلافة، ولقباه المستضيئ بأمر الله، وشرطا عليه شروطاً أن يكون عضد الدين وزيراً، وابنه كمال الدين أستاذ الدار، وقطب الدين أمير العسكر، فأجابهم إلى ذلك.
ولم يتولى الخلافة من اسمه الحسن إلا الحسن بن علي بن أبي طالب والمستضيئبأمر الله، واتفقا في الكنية والكرم، فبايعه أهل بيته البيعة الخاصة يوم توفي أبوه، وبايعه الناس في الغد في التاج بيعة عامة، وأظهر من العدل أضعاف ما عمل أبوه، وفرق أموالاً جليلة المقدار.

وعلم الوزير ابن البلدي فسقط في يده وقرع سنه ندماً على ما فرط في عوده حيث لا ينفعه، واتاه من يستدعيه للجلوس للعزاء والبيعة للمستضيئ، فمضى إلى دار الخلافة، فلما دخلها صرف إلى موضع وقتل وقطع قطعاً، وألقي في دجلة، رحمه الله، وأخذ جميع ما في داره، فرأيا فيها خطوط المستنجد بالله يأمره فيها بالقبض عليهما، وخط الوزير قد راجعه في ذلك، وصرفه عنه، فلما وقفا عليهما عرفا براءته مما كانا يظنان فيه، فندما حيث فرطا في قتله.
وكان المستنجد بالله من أحسن الخلفاء سيرة مع الرعية، عادلاً فيهم، كثير الرفق بهم، وأطلق كثيراً من المكوس، ولم يترك بالعراق منها شيئاً، وكان شديداً على أهل العيث والفساد والسعاية بالناس.
بلغني أنه قبض على إنسان كان يسعى بالناس، فأطال حبسه، فشفع فيه بعض أصحابه المختصين بخدمته، وبذل عنه عشرة آلاف دينار، فقال: أنا أعطيك عشرة آلاف دينار وتحضر لي إنساناً آخر مثله لأكف شره عن الناس؛ ولم يطلقه. ورد كثيراً من الأموال على أصحابها، وقبض على القاضي ابن المرخم، وأخذ منه مالاً كثيراً، فأعاده على أصحابه أيضاً، وكان ابن المرخم ظالماً جائراً في أحكامه.
ذكر ملك نور الدين الموصل
وإقرار سيف الدين عليها
لما بلغ نور الدين محموداً وفاة أخيه قطب الدين مودود، صاحب الموصل، وملك ولده سيف الدين غازي الموصل والبلاد التي كانت لأبيه، بعد وفاته، وقيام فخر الدين عبد المسيح بالأمر معه، وتحكمه عليه، أنف لذلك وكبر لديه وعظم عليه، وكان يبغض فخر الدين لما يبلغه عنه من خشونة سياسته، فقال: أنا أولى بتدبير أولاد أخي وملكهم؛ وسار عند انقضاء العزاء جريدة في قلة من العسكر، وعبرت الفرات، عند قلعة جعبر، مستهل المحرم من هذه السنة، وقصد الرقة فحصرها وأخذها.
ثم سار إلى الخابور فملكه جميعه، وملك نصيبين وأقام فيها يجمع العساكر، فاتاه بها نور الدين محمد بن قرا ارسلان بن داود، صاحب حصن كيفا، وكثر جمعه، وكان قد ترك أكثر عساكره في الشام لحفظ ثغوره، فلما اجتمعت العساكر سار إلى سنجار فحصرها، ونصب عليها المجانيق وملكها، وسلمها إلى عماد الدين ابن أخيه قطب الدين.
وكان قد جاءته كتب الأمراء الذين بالموصل سراً، يبذلون له الطاعة، ويحثونه على الوصول إليهم، فسار إلى الموصل فأتى مدينة بلد، وعبر دجلة عندها مخاضة إلى الجانب الشرقي، وسار فنزل شرق الموصل على حصن نينوى، ودجلة بينه وبين الموصل. ومن العجب أن يوم نزوله سقط من سور الموصل بدنة كبيرة.
وكان سيف الدين غازي وفخر الدين قد سيرا عز الدين مسعود بن قطب الدين إلى أتابك شمس الدين إيلدكز، صاحب همذان وبلد الجبل، وأذربيجان، وأصفهان، والري وتلك البلاد يستنجده على عمه نور الدين، فأرسل إيلدكز رسولاً إلى نور الدين ينهاه عن التعرض للموصل، ويقول له: إن هذه البلاد للسلطان، فلا تقصدها؛ فلم يلتفت إليه، وقال للرسول: قل لصاحبك أنا أصلح لأولاد أخي منك، فلم تدخل نفسك بيننا؟ وعند الفراغ من إصلاح بلادهم يكون الحديث معك على باب همذان، فإنك قد ملكت هذه المملكة العظيمة، وأهملت الثغور حتى غلب الكرج عليها، وقد بليت أنا، ولي مثل ربع بلادك، بالفرنج، وهم أشجع العالم، فأخذت معظم بلادهم، وأسرت ملوكهم، ولا يحل لي السكوت عنك، فإنه يجب علينا القيام بحفظ ما أهملت وإزالة الظلم عن المسلمين.فأقام نور الدين على الموصل، فعزم من بها من الأمراء على مجاهرة فخر الدين عبد المسيح بالعصيان، وتسليم البلد إلى نور الدين فعلم ذلك، فأرسل إلى نور الدين بتسليم البلد إليه على أن يقره بيد سيف الدين، ويطلب لنفسه الأمان ولماله، فأجابه إلى ذلك، وشرط أن فخر الدين يأخذه معه إلى الشام، ويعطيه عنده إقطاعاً يرضيه، فتسلم البلد ثالث عشر جمادى الأولى من هذه السنة، ودخل القلعة من باب السر لأنه لما بلغه عصيان عبد المسيح عليه حلف أن لا يدخلها إلا من أحصن موضع فيها، ولما ملكها أطلق ما بها من المكوس وغيرها من أبواب المظالم، وكذلك فعل بنصيبين وسنجار والخابور، وهكذا كان جميع بلاده من الشام ومصر.

ووصله ، وهو على الموصل يحاصرها، خلعة من الخليفة المستضيئ بأمر الله، فلبسها، ولما ملك الموصل خلعها على سيف الدين ابن أخيه، وأمره وهو بالموصل بعمارة الجامع النوري، وركب هو بنفسه إلى موضعه فرآه، وصعد منارة مسجد أبي حاضر فأشرف منها على موضع الجامع، فأمر أن يضاف إلى الأرض التي شاهدها ما يجاورها من الدور والحوانيت، وأن لا يؤخذ منها شيء بغير اختيار أصحابه. وولى الشيخ عمر الملا عمارته، وكان من الصالحين الأخيار، فاشترى الأملاك من أصحابها بأوفر الأثمان، وعمره، فخرج عليه أموال كثيرة، وفرغ من عمارته سنة ثمان وستين وخمسمائة.
وعاد إلى الشام واستناب في قلعة الموصل خصياً له اسمه كمشتكين، ولقبه سعد الدين، وأمر سيف الدين أن لا ينفرد عنه بقليل من الأمور ولا بكثير، وحكمه في البلاد واقطع مدينة سنجار لعماد الدين ابن أخيه قطب الدين، فلما فعل ذلك قال كمال الدين بن الشهرزوري: هذا طريق إلى أذىً يحصل لبيت أتابك لأن عماد الدين كبير لا يرى طاعة سيف الدين، وسيف الدين هو الملك لا يرى الإغضاء لعماد الدين فيحصل الخلف، ويطمع الأعداء، فكان كذلك على ما نذكره سنة سبعين وخمسمائة، وكان مقام نور الدين بالموصل أربعة وعشرين يوماًن واستصحب معه فخر الدين عبد المسيح، وغير اسمه فسماه عبد الله، وأقطعه إقطاعاً كبيراً.
ذكر غزو صلاح الدين بلاد الفرنج
وفتح إيلة
وفي هذه السنة سار صلاح الدين أيضاً عن مصر إلى بلاد الفرنج، فأغار على أعمال عسقلان والرملة، وهجم على ربض غزة فنهبه، واتاه ملك الفرنج في قلة من العسكر مسرعين لرده عن البلاد، فقاتلهم وهزمهم، وأفلت ملك الفرنج بعد ان اشرف أن يؤخذ أسيراً، وعاد إلى مصر، وعمل مراكب مفصلة، وحملها قطعاً على الجبال في البر، وقصد إيلة، فجمع قطع المراكب وألقاها في البحر، وحصر إيلة براً وبحراً، وفتحها في العشر الأول من ربيع الآخر، واستباح أهلها وما فيها وعاد إلى مصر.
ذكر ما اعتمده صلاح الدين بمصركان بمصر داراً للشحنة تسمى دار المعونة يحبس فيها من يريد حبسه فهدمها صلاح الدين، وبناها مدرسة للشافعية، وأزال ما كان بها من الظلم، وبنى دار العدل مدرسة للشافعية أيضاً، وعزل القضاة المصريين، وكانوا شيعة، وأقام قاضياً شافعياً في مصر، فاستناب القضاة الشافعية في جميع البلاد، في العشرين من جمادى الآخرة.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة اشترى تقي الدين عمر ابن أخي صلاح الدين منازل العز بمصر، وبناها مدرسة للشافعية.
وفيها أغار شمس الدولة توارنشاه أخو صلاح الدين أيضاً على الأعراب الذين بالصعيد، وكانوا قد أفسدوا في البلاد، ومدوا أيديهم، فكفوا عما كانوا يفعلونه.
وفيها مات القاضي ابن الخلال من اعيان الكتاب المصريين وفضلائهم، وكان صاحب ديوان الإنشاء بها.
وفيها وقع حريق ببغداد في درب المطبخ، وفي خرابة ابن جردة.
وفيها توفي الأمير نصر بن المستظهر بالله، عم المستنجد بالله وحموه، وهو أخر من مات من أولاد المستظهر بالله، وكان موته في ذي القعدة، ودفن في الترب بالرصافة.
وفيها جعل ظهير الدين أبو بكر نصر بن العطار صاحب المخزن ببغداد، ولقب ظهير الدين. وفيها حج بالناس الأمير طاشتكين المستنجدي، وكان نعم الأمير، رحمه الله.
ثم دخلت سنة سبع وستين وخمسمائة
ذكر إقامة الخطبة العباسية بمصر
وانقراض الدولة العلوية
في هذه السنة، في ثاني جمعة من المحرم، قطعت خطبة العاضد لدين الله أبي محمد الإمام عبد الله بن يوسف بن الحافظ لدين الله أبي الميمون عبد المجيد ابن أبي القاسم محمد بن المستنصر بالله أبي تميم معد بن الظاهر لإعزاز دين الله أبي الحسن علي بن الحاكم بأمر الله أبي علي المنصور بن العزيز بالله أبي منصور ابن نزار بن المعز لدين الله أبي تميم معد بن المنصور بالله أبي الظاهر إسماعيل ابن القائم بأمر الله أبي القاسم محمد بن المهدي بالله أبي محمد عبيد الله، وهو أول العلويين من هذا البيت الذين خطب لهم بالخلافة، وخوطبوا بإمرة المؤمنين.

وكان سبب الخطبة العباسية بمصر أن صلاح الدين بن أيوب لما ثبت قدمه بمصر وزال المخالفون له، وضعف أمر الخليفة العاضد بها، وصار قصره يحكم فيه صلاح الدين ونائبه قراقوش، وهو خصي، كان من أعيان الأمراء الأسدية، كلهم يرجعون إليه، فكتب إليه نور الدين محمود بن زنكي يأمره بقطع الخطبة العاضدية وإقامة الخطبة المستضيئية، فامتنع صلاح الدين، واعتذر بالخوف من أهل الديار المصرية عليه لميلهم إلى العلويين.
وكان صلاح الدين يكره قطع الخطبة لهم، ويريد بقاءهم خوفاً من نور الدين، فإنه كان يخافه أن يدخل الديار المصرية ويأخذها منه، فكان يريد ان يكون العاضد معه، حتى إذا قصده نور الدين امتنع به وبأهل مصر عليه؛ فلما اعتذر إلى نور الدين بذلك لم يقبل عذره، وألح عليه بقطع خطبته، والزمه إلزاماً لا فسحة له في مخالفته، وكان على الحقيقة نائب نور الدين، واتفق أن العاضد مرض هذا الوقت مرضاً شديداً، فلما عزم صلاح الدين على قطع خطبته استشار أمراءه، فمنهم من أشار به ولم يفكر بالمصريين، ومنهم من خافهم إلا أنه ما يمكنه إلا امتثال أمر نور الدين.
وكان قد دخل إلى مصر إنسان أعجمي يعرف بالأمير العالم، رأيته أنا بالموصل، فلما رأى ما هم فيه من الإحجام، وأن أحداً لا يتجاسر أن يخطب للعباسيين قال: أنا أبتدئ بالخطبة لهم؛ فلما كان أول جمعة من المحرم صعد المنبر قبل الخطيب ودعا للمستضيئ بأمر الله فلم ينكر أحد ذلك، فلما كان الجمعة الثانية أمر صلاح الدين الخطباء بمصر والقاهرة أن يقطعوا خطبة العاضد ويخطبوا للمستضيئ، ففعلوا ذلك فلم ينتتطح فيها عنزان، وكتب بذلك إلى سائر بلاد مصر، ففعل. وكان العاضد قد اشتد مرضه فلم يعلمه أحد من أهله وأصحابه بقطع الخطبة، وقالوا: إن عوفي فهو يعلم، وإن توفي فلا ينبغي أن نفجعه بمثل هذه الحادثة قبل موته، فتوفي يوم عاشوراء ولم يعلم بقطع الخطبة.
ولما توفي جلس صلاح الدين للعزاء، واستولى على قصر الخلافة، وعلى جميع ما فيه، فحفظه بهاء الدين قراقوش الذي كان قد رتبه قبل موت العاضد، فحمل الجميع إلى صلاح الدين، وكان من كثرته يخرج عن الإحصاء، وفيه من الأعلاق النفيسة والأشياء الغريبة ما تخلو الدنيا بمثله، ومن الجواهر التي لم توجد عند أحد غيرهم، فمنه الجبل الياقوت، وزنه سبعة عشر درهماً، أو سبعة عشر مثقالاً، أنا لا أشك، لأنني رأيته ووزنته؛ واللؤلؤ الذي لم يوجد مثله، ومنه النصاب الزمرد الذي طوله أربع أصابع في عرض عقد كبير؛ ووجد فيه طبل كان بالقرب من موضع العاضد، وقد احتاطوا عليه بالحفظ، فلما رأوه ظنوه عمل لأجل اللعب به فسخروا من العاضد، فاخذه إنسان فضرب به فضرط فتضاحكوا منه، ثم آخر كذلك، وكان كل من ضرب به ضرط، فألقاه أحدهم فكسره فإذا الطبل لأجل قولنج فندموا على كسره لما قيل لهم ذلك.
وكان فيه من الكتب النفيسة المعدومة المثل ما لا يعد، فباع جميع ما فيه، ونقل أهل العاضد إلى موضع من القصر، ووكل بهم من يحفظهم، وأخرج جميع من فيه من أمة وعبدن فباع البعض، وأعتق البعض، ووهب البعض، وخلى القصر من سكانه كأن لم يغن بالأمس، فسبحان الحي الدائم الذي لا يزول ملكه، ولا تغيره الدهور ولا يقرب النقص حماه.
ولما اشتد مرض العاضد أرسل إلى صلاح الدين يستدعيه، فظن ذلك خديعة، فلم يمض إليه، فلما توفي علم صدقه، فندم على تخلفه عنه، وكان يصفه كثيراً بالكرم، ولين الجانب، وغلبة الخير على طبعه، وانقياده؛ وكان في نسبه تسعة خطب لهم بالخلافة وهم: الحافظ والمستنصر والظاهر والحاكم والعزيز والمعز والمنصور والقائم والمهدي؛ ومنهم من لم يخطب له بالخلافة: أبوه يوسف بن الحافظ، وجد أبيه، وهو الأمير أبو القاسم محمد بن المستنصر، وبقي من خطب له بالخلافة وليس من آبائه: المستعلي ، والآمر، والظافر، والفائز، وجميع من خطب له منهم بالخلافة أربعة عشر خليفة منهم بإفريقية: المهدي، والقائم، والمنصور ، والمعز، إلى أن سار إلى مصر ، ومنهم بمصر: المعز المذكور، وهو أول من خرج إليها من إفريقية، والعزيز، والحاكم، والظاهر، والمستنصر، والمستعلي، والأمر، والحافظ، والظافر، والفائز، والعاضد، وجميع مدة ملكهم من حين ظهر المهدي بسجلماسة في ذي الحجة من سنة تسع وتسعين ومائتين إلى أن توفي العاضد مائتان واثنتان وسبعون سنة وشهر تقريباً.

وهذا دأب الدنيا لم تعط إلا واستردت، ولم تحلو إلا وتمرمرت، ولم تصف إلا وتكدرت، بل صفوها لا يخلو من الكدر وكدرها قد يخلو من الصفو. نسأل الله تعالى أن يقبل بقلوبنا إليه ويرينا الدنيا حقيقة، ويزهدنا فيها، ويرغبنا في الآخرة، إنه سميع الدعاء قريب من الإجابة.
ولما وصلت البشارة إلى بغداد بذلك ضربت البشائر بها عدة أيام، وزينت بغداد وظهر من الفرح والجذل ما لا حد عليه. وسيرت الخلع مع عماد الدين صندل، وهو من خواص الخدم المقتفوية والمقدمين في الدولة لنور الدين وصلاح الدين، فسار صندل إلى نور الدين وألبسه الخلعة، وسير الخلعة التي لصلاح الدين وللخطباء بالديار المصرية، والأعلام السود، ثم إن صندلاً هذا صار أستاذ الدار للخليفة المستضيئ بأمر الله في بغداد، وكان يدري الفقه على المذهب الشافعي، وسمع الحديث ورواه، ويعرف أشياء حسنة، وفيه دين، وله معروف كثير، وهو من محاسن بغداد.
ذكر الوحشة بين نور الدين وصلاح الدينفي هذه السنة جرت أمور أوجبت أن تأثر نور الدين من صلاح الدين، ولم يظهر ذلك. وكان سببه أن صلاح الدين يوسف بن أيوب سار عن مصر في صفر من هذه السنة إلى بلاد الفرنج غازياً ونازل حصن الشوبك، وبينه وبين الكرك يوم، وحصره، وضيق على من به من الفرنج، وأدام القتال، وطلبوا الأمان واستمهلوه عشرة أيام، فأجابهم إلى ذلك.
فلما سمع نور الدين بما فعله صلاح الدين سار عن دمشق قاصداً بلاد الفرنج ليدخل إليها من جهة أخرى، فقيل لصلاح الدين : إن دخل نور الدين بلاد الفرنج وهم على هذه الحال: أنت من جانب ونور الدين من جانب، ملكها، ومتى زال الفرنج عن الطريق وأخذ ملكهم لم يبق بديار مصر مقام مع نور الدين، وإن جاء نور الدين إليك وأنت هاهنا، فلا بد لك من الاجتماع به، وحينئذ يكون هو المتحكم فيك بما شاء، إن شاء تركك وغن شاء عزلك، فقد لا تقدر على الامتناع عليه؛ والمصلحة الرجوع إلى مصر.
فرحل عن الشوبك عائدأً إلى مصر، ولم يأخذه من الفرنج، وكتب إلى نور الدين يعتذر باختلال الديار المصرية لأمور بلغته عن بعض شيعته العلويين، وأنهم عازمون على الوثوب بها، فإنه يخاف عليها من البعد عنها أن يقوه أهلها على من تخلف بها وان يخرجوهم وتعود ممتنعة، وأطال الاعتذار، فلم يقبلها نور الدين منه، وتغير عليه وعزم على الدخول إلى مصر وإخراجه عنها.
وظهر ذلك فسمع صلاح الدين الخبر، فجمع أهله، وفيهم أبوه نجم الدين أيوب، وخاله شهاب الدين الحارمي، ومعهم سائر الأمراء، وأعلمهم ما بلغه من عزم نور الدين وحركته إليه ، واستشارهم فلم يجبه أحد بكلمة واحدة، فقام تقي الدين عمر ابن أخي صلاح الدين فقال: إذا جاءنا قاتلناه، ومنعناه عن البلاد؛ ووافقه غيره من أهلهم، فشتم نجم الدين أيوب، وأنكر ذلك، واستعظمه، وشتم تقي الدين وأقعده، وقال لصلاح الدين: أنا أبوك وهذا خالك شهاب الدين، ونحن أكثر محبة لك من جميع ما ترى، ووالله لو رأيت أنا وخالك هذا نور الدين، لم يمكننا إلا أن نقبل الأرض بين يديه، ولو أمرنا أن نضرب عنفك بالسيف لفعلنا، فإذا كنا نحن هكذا، فما ظنك بغيرنا؟ وكل من تراه عندك من الأمراء لو رأوا نور الدين وحده لم يتجاسروا على الثبات على سروجهم، وهذه البلاد له، ونحن مماليكه ونوابه بها، فإن أراد عزلك سمعنا وأطعنا؛ والرأي أن تكتب كتاباً من نجاب تقول فيه: بلغني بأنك تريد الحركة لأجل البلاد، فأي حاجة إلى هذا؟ يرسل المولى نجاباً يضع في رقبتي منديلاً ويأخذني إليك، وما هاهنا من يمنع عليك.
وأقام الأمراء وغيرهم وتفرقوا على هذا، فلما خلا به أيوب قال له: بأي عقل فعلت هذا؟ أما تعلم أن نور الدين إذا سمع عزمنا على منعه ومحاربته جعلنا أهم الوجوه إليه، وحينئذ لا تقوى به، وأما الآن، إذا بلغه ما جرى وطاعتنا له تركنا واشتغل بغيرنا؛ والأقدار تعمل عملها. ووالله لو أراد نور الدين قصبة من قصب السكر لقاتلته أنا عليها حتى أمنعه أو أقتل.
ففعل صلاح الدين ما أشار به، فترك نور الدين قصده واشتغل بغيره، فكان الأمر كما ظنه أيوب، فتوفي نور الدين ولم يقصده، وملك صلاح الدين البلاد، وكان هذا من أحسن الآراء وأجودها.
ذكر غزوة إلى الفرنج بالشام

في هذه السنة خرج مركبان من مصر إلى الشام فأرسيا بمدينة لاذقية، فأخذهما الفرنج، وهما مملوءان من الأمتعة والتجار، وكان بينهم وبين نور الدين هدنة، فنكثوا وغدروا، فأرسل نور الدين إليهم في المعنى وإعادة ما أخذوه من أموال التجار، فغالطوه، واحتجوا بأمور منها أن المركبين كانا قد انكسرا ودخلهما الماء.
وكان الشرط أن كل مركب ينكسر ويدخله الماء يأخذونه، فلم يقبل مغالطتهم، وجمع العساكر، وبث السرايا في بلادهم بعضها نحو أنطاكية، وبعضها نحو طرابلس، وحصر هو حصن عرقة، وخرب ربضه، وأرسل طائفة من العسكر إلى حصن صافيثا وعريمة، فأخذهما عنوة، ونهب وخرب، وغنم المسلمون غنائم كثيرة، وعادوا إليه وهو بعرقة، فسار في العساكر جميعها إلى أن قارب طرابلس ينهب ويخرب ويحرق ويقتل.
وأما الذين ساروا إلى أنطاكية ففعلوا في ولايتها مثل ما فعل نور الدين في ولاية طرابلس، فراسله الفرنج، وبذلوا إعادة ما أخذوه من المركبين، وتجديد الهدنة معهم، فأجابهم إلى ذلك، وأعادوا ما أخذوا وهم صاغرون، وقد خربت بلادهم وغنمت أموالهم.
ذكر وفاة ابن مردنيش
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://arabelalekat.yoo7.com
 
كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 7 من اصل 8انتقل الى الصفحة : الصفحة السابقة  1, 2, 3, 4, 5, 6, 7, 8  الصفحة التالية
 مواضيع مماثلة
-
» مسلم بن عقيل في الكامل في التاريخ
» كتاب : تاريخ الرسل والملوك المؤلف : الطبري
» كتاب:بغية المرتاد في الرد على المتفلسفة والقرامطة والباطنية المؤلف : شيخ الإسلام ابن تيمية
» معركة كربلاء - من كتاب معارك فاصلة في التاريخ الاسلامي
» 168 - النويري المكي، تاج الدين أبو الفضل محمد بن محمد

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
aloqili.com :: منتدي الكتب التاريخية-
انتقل الى: